أسهل المدارك «شرح إرشاد السالك في مذهب إمام الأئمة مالك»

الكشناوي، أبو بكر

خطبة الكتاب

خطبة الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله وصحبه وأمته الغر المحجلين، ومن تبعهم بإحسان يوم الدين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة توصلنا إلى طريق الرشد والرشاد، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله القائل: " من يرد الله به خيرا بفقهه في الدين " رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن معاوية. وقال عليه الصلاة والسلام: " إنما الأعمال بالنيات إنما لكل امرئ ما نوى " الحديث رواه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب. فخير العلوم وأعظمها قدرا، وأقربها عند الله منزلة علم الدين والشرائع، لما اشتملت عليه الأحكام الإلهية من الأسرار والبدائع، إذ به يعلم حال العبادة من صحتها وفسادها، وبه يتميز حل الأشياء وحرمتها. وبعد: فيقول الفقير أسير ذنوبه، الراجي لرحمة مولاه المنيب إليه، المعترف بالعجز والتقصير أبو بكر بن حسن الكشناوي، المهاجر إلى بلد الله الحرام بلغه الله ما هو من الخير ناوي، وجعله مع الأبرار ثاوي: هذا ما كثر في حاجته الراغبون، وسألني عنه السائلون، ولكن الله سبحانه جعل لكل شئ قدرا، وأجلا مسمى الذي إذا جاء لا يؤخر عنه ساعة ولا يستقدم. هذا وقد أشار إلى جم غفير وجماعة كثيرة من الفضلاء والصلحاء الأصدقاء الأخيار، والعلماء الأفاضل الذين لا أستطيع مخالفتهم عن سؤالهم فيما ينتفع به المسلمون من العلوم من أمر الدين، بعد سؤالهم عن ذلك سؤالا جازما إلزاما بأن أضع شرحا لطيفا

لائقا - يحل الألفاظ ويقرب المعنى من غير تفريط ولا إفراط - على الكتاب المسمى: " بإرشاد السالك إلى أشرف المسالك " في فقه الإمام أبي عبد الله مالك، الذي ألفه وحرره وهذبه العلامة فريد عصره شهاب الدين الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن عسكر المالكي البغدادي، فأحببت في ذلك سؤالهم، راجيا من الله تعالى الثواب، بعدما استخرت الله تعالى بصلاة ركعتين لله تعالى قاصدا أن يبين لي كيفية وضع هذا الشرح، وأن يسهله لي بأحسن الطريق وأصوبه في الإرشاد، وأصوبه في الإرشاد، مع علمي واعترافي على نفسي بعجزي وضعفي وقلة * * * البضاعة في هذا الشأن، والتذلل والانكسار في جميع الحالات، وكثرة الشغل والعوائق، واشتغال البال بأمور شتى، كإلقاء الدروس، والتعاليق العديدة الكثيرة، والطعن في السن، واشتعال الرأس شيبا، ومع ذلك كله توكلت على الحي الدائم الذي لا يموت، وعزمت على أن أشرح هذا الكتاب، وسميته: " بأسهل المدارك، شرح إرشاد السالك في مذهب الإمام مالك ". سائلا من الله تعالى العون وهو خير مستعان، وأن يكون خالصا لوجهه الكريم. وأن يوقفنا إلى تتميمه وتبييضه على أحسن حال، وأن ينفع به الأمة كما نفع بأصله، ويجعله في حيز القبول مع الفوز بالغفران والرضوان، وسببا لدخول الجنة مع والدينا ووالديهم، وجميع من سعى في هذا الكتاب بأي سعي من كتابة أو قراءة، أو دعا للمصنف والشارح، أو نظر فيه بعين الرضا والتسليم، إنه سميع الدعاء، ولا يخيب من رجاه وهو قريب مجيب، وبالإجابة جدير، نعم المولى ونعم النصير. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فقلت: مبتدئا ومستعينا بالله تعالى، ومصليا ومسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ترجمة المصنف

ترجمة المصنف قال العلامة المحقق قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن علي بن محمد بن فرحون اليعمري المدني المالكي رحمه الله تعالى في كتابه: " الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب " في من اسمه عبد الرحمن: عبد الرحمن بن محمد بن عسكر شهاب الدين البغدادي المالكي، مدرس المدرسة المستنصرية، كان فقيهًا عالمًا زاهدا سالكا طريق الزهد والصلاح والعبادة، وله في ذلك تأليف حسن، وله التصانيف الحسنة المفيدة، منها كتاب " المعتمد " في الفقه، غزير العلم، وذكر فيه مشهور الأقوال غالبا، وكتاب " العمدة " في الفقه، وكتاب: "الإرشاد " في الفقه - يعني هذا المتن - أبدع فيه كل الإبداع، جعله مختصرا، وحشاه بمسائل وفروع لم تحوها المطولات، مع إيجاز بليغ. وله في الحديث وغيره تآليف مشهورة. كان مشاركا في علوم جمة، وكتبه تدل على فضيلته. وقال في موضع آخر: هذا الكتاب - أي الإرشاد - له شرح للعلامة الشيخ أحمد زروق. وفي كتاب: " نيل الابتهاج، بتطريز الديباج " للشيخ أحمد بن بابا التنبكتي نقلا عن البدر القرافي: وقد شرح كتاب الإرشاد الشيخ سليمان بن شعيب بن خضر البحيري القاهري، واعتمد فيه على ابن عبد السلام وخليل وبهرام اهـ. قلت: وحتى الآن ما وقفت على واحد من هذين الشرحين لعلهما ليسا بمطبوعين. والله أعلم. ثم قال ابن فرحون: وتوفى عبد الرحمن بن محمد البغدادي رحمه الله تعالى سنة 732 اثنتين وثلاثين وسبعمائة. وقوله المالكي: أخبر أن المصنف العلامة الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن عسكر

البغدادي كان مالكي المذهب، أي مقتديا به في الأحكام الدينية والشرعية. والمراد بالمذهب: القواعد التي بنى عليها الأحكام وذهب عليها أصحابه، وكيف لا وهو إمام الأئمة ومصباح السنة، ومن خير القرون وخير الأمة التي أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر. وكان أبوه وجده تابعين. وأما والد جده فصحابي. والإمام من تابع التابعين. وهو إمام الأئمة أبو عبد الله مالك بن أنس، بن مالك، بن أبي عامر الأصبحي. مولود بالمدينة المنورة، وقيل ولد بذي المروة موضع من مساجد تبوك سنة 93 ثلاث وتسعين من الهجرة. وهو إمام الأئمة في التحقيق، وناصر السنة بالتدقيق. ومما يدل على عظمة الإمام مالك ومزيد فضله أن ابن هرمز من شيوخه، وقال فيه: مالك أعلم الناس. وقال فيه ابن عيينة: مالك سيد المسلمين. وكان الأوزاعي يقول فيه: مالك عالم العلماء، وعالم أهل المدينة، ومفتي الحرمين. وقال الشافعي: مالك أستاذي وعنه أخذت العلم، ومالك معلمي وما أحد أمن علي من مالك، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله. ويكفيك شهادة هؤلاء الأئمة في بيان فضله. وقد ذكر العلماء في مناقب مالك ما يطول لنا ذكره هنا من غزارة علمه وديانته وأمانته، وثقته وانتقاده الرجال في أخذ الحديث، واتباعه للسنة وورعه وتعظيمه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأدبه مع الله، وخشيته حلمه ووقاره، وعبادته وجودة عقله، وحفظه للحديث، وإدراكه وصفته، وذكر نسبه وبنيه وابتداء طلبه العلم وصبره عليه، وعدد مشايخه وتلاميذه، وأدبه معهم ومع مشايخه، وظهور هيبته مع الناس، وعدد تآليفه، واقتداء الأكابر به في حياته وبعد مماته، وشهادة أهل العلم والصلاح له بالأمانة والصدق والثبات في الأمور، وغير ذلك من سيرته مما لا يحمله هذا الشرح. ولا نطيل بذكره لشهرة ذلك في كتب الأئمة والتواريخ، فراجعها إن شئت.

وقال العلامة محمد الطالب بن حمدون في حاشيته على ميارة: فائدة: الأدلة (¬1) التي بنى عليها مالك مذهبه سبعة عشر: نص الكتاب، وظاهره، أعني العموم، ودليله، أعني مفهوم المخالفة، ومفهومه، أعني المفهوم بالأولى، وشبهه، أعني التنبيه على العلة، مثل قوله تعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا} [الأنعام: 145] ومن السنة أيضا مثل هذه الخمسة، والحادي عشر الإجماع، والثاني عشر القياس، والثالث عشر عمل أهل المدينة، والرابع عشر قول الصحابي، والخامس عشر الاستحسان، والسادس عشر الحكم بالذرائع أي بسدها، والسابع عشر الاستصحاب. وأما مراعاة الخلاف فتارة وتارة اهـ. وكانت وفاة مالك رحمه الله يوم الأحد في ربيع الأول سنة 179 تسع وسبعين ومائة هجرية، ودفن بالبقيع، وقبره هناك معروف، رضي الله تعالى عنه ونفعنا بعلومه في الدارين آمين. وقد ثبت أن مصنف هذا الكتاب مالكي مذهبا، أشعري عقيدة، بغدادي بلدا، نسبة لبغداد، وهي مدينة عظيمة مشهورة، فهي عاصمة العراق، بناها المنصور العباسي أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس المولود سنة 95 خمس وتسعين هجرية، وتولى الخلافة في أول سنة 137، وبنى بغداد في سنة 146 ستٍ وأربعين ¬

(¬1) تنبيه منقول من الفائدة عن حاشية ابن حمدون على ميارة: (فائدة): الأدلة التي بني عليها إلخ. . هذا الكلام يحتاج إلى التحرير لأن تفسير النص والظاهر عند الأصوليين هو ما بينه سيدي عبد الله في مراقي السعود بقوله في تعريف المنطوق: معني له في القصد قل تأصيل ... وهو الذي اللفظ به يستعمل نص إذا أفاد ما لا يحتمل ... غيرا وظاهران الغير احتمل والكل من دين له تجلى ... ويطلق النص على ما دلا وفي كلام الوحي والمنطوق هل ... ما ليس بالصريح فيه قد دخل فهذه الجمل المتتابعة التي يفسر بعضها بعضا بأعني أعني لا يتفق مع كلام الأصوليين لا لفظا ولا معنى ولعل المطبعة حرفتها عن أصل وضعها فليتأمل اهـ. محمد المصطفى الشنقيطي العلوي.

ومائة، وصرف في بنائها أربعة ملايين وثمانمائة ألف درهم. وكانت وفاته في سنة 158 ثمان وخمسين ومائة هجرية رحمه الله تعالى. نسأل الله أن يغفر لنا ولإخواننا المسلمين مغفرة عزما، ولمن سبقنا من العلماء والأئمة الراشدين المجتهدين، الذين أخرجوا لنا الدرر من أحكام الشريعة السمحاء وميزوا لنا بين الحلال والحرام، وبذلوا في ذلك الأموال والأرواح، ودلونا بسبيل الفقه والإرشاد لما ينفعنا في الدنيا وينجينا في الآخرة فجزاهم الله عنا خير الجزاء آمين. وهذا أوان الشروع في المقصود، نسأل الله تعالى أن يتممه بأحسن تتميم، وأن يحفظنا من الخطإ والتصحيف، إنه ولي التوفيق. لله الأمر من قبل ومن بعد، وإليه ترجع الأمور، وحسبنا الله ونعم الوكيل. قال المصنف رحمه الله تعالى: " بسم الله الرحمن الرحيم ": ابتدأ المصنف كتابه بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز، وعملا بقوله عليه الصلاة والسلام: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر " وفي رواية: " فهو أقطع " وفي أخرى: " فهو أجذم " ومعناه: ناقص قليل البركة. وذي بال: أي شرف وقدر وعظمة، أو ذي حال يهتم به. وقد بدأ المصنف بالبسملة لأن التصنيف من الأمور المهمة التي ينبغي تقديمها عليه، ولقول عكرمة: إنها أول ما كتب القلم في اللوح، فجعلها الله تعالى أمانا للخلق ما داموا عليها. والابتداء ببسم الله الرحمن الرحيم ابتداء حقيقي، وأما الابتداء بالحمد لله بعد البسملة فهو ابتداء إضافي، إذ المقصود بالحمد الثناء على الله تعالى، والبسملة من أبلغه، ولدا قال بعض المحققين: ينبغي الجمع بين حديث البسملة وحديث التحميد بحمل حديث البسملة على الابتداء الحقيقي، وهو أن يتقدم ما ابتدأ به أمام المقصود ولم يسبه شيء، وحمل حديث التحميد على الابتداء الإضافي، وهو أن يتقدم ما ابتدأ به أمام المقصود وإن سبقه

شيء اهـ. قال القرطبي في التفسير: روي عن عثمان بن عفان، رضي الله عنه، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير بسم الله الرحمن الرحيم فقال: أما الباء فبلاء الله وروحه ونضرته وبهاؤه، وأما السين فسناء الله، وأما الميم فملك الله، وأما الله فلا إله غيره وأما الرحمن فالعاطف على البر والفاجر من خلقه، وأما الرحيم فالرفيق بالمؤمنين خاصة اهـ. وعن كعب الأحبار أنه قال الباء: بهاؤه، والسين سناؤه فلا شيء أعلى منه، والميم ملكه، وهو على كل شيء قدير فلا شيء يعازه اهـ. وروي عن علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، أنه قال في قوله بسم الله: إنه شفاء من كل داء، وعون على كل داء. وأما الرحمن فهو عون لكل من آمن به، وهو اسم لم يسم به غيره، وأما الرحيم فهو لمن تاب وآمن وعمل صالحا اهـ. واختلف في وصل ميم الرحيم بالحمد لله، أي في كيفية ذلك، فروي عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم: الرحيم الحمد يسكن الميم ويقف عليها ويبتدأ بألف مقطوعة وقرأ به قوم من الكوفيين. وقرأ جمهور الناس الرحيم الحمد، تعرب الرحيم بالخفض، وتوصل الألف من الحمد اهـ. وورد في فضل البسملة أحاديث كثيرة، منها هو مسلسل بالحلف في وصل ميم الرحيم بالحمد في نفس واحد من غير قطع، ومنها ما روي - كما في فيض القدير - أنها لما نزلت اهتزت الجبال لنزولها، وقالت الزبانية: من قرأها لم يدخل النار، وهي تسعة عشر حرفا على عدد الملائكة الموكلين بالنار، ومن أكثر ذكرها رزق الهيبة عند العالم السفلي والعلوي اهـ. ومنها ما روى ابن ماجه والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول باسم الله. ثم اعلم أنه ينبغي لكل شارع في فن أن يتكلم على البسملة بما يناسبها من الفن

المشروع فيه، ونحن الآن في فن الفقه فأقول: إن الأحكام الشرعية خمسة: الندب، والوجوب والكراهة، والحرمة، والإباحة، وكلها تعتري البسملة (تارة) تكون مندوبة بالمعنى الأعم الشامل للسنة والمستحب كما في الوضوء والغسل والتيمم، وتسن في الأكل والشراب (وتارة) تكون واجبة كما إذا قلت نذر علي أن أبسمل في هذا الكتاب، وإلا فلا يتعلق بها الوجوب عند المالكية أصالة، بل واجبة عند الشافعية القائلين بأنها جزء من الفاتحة، أو على قول ابن نافع من أئمتنا القائل بوجوبها في الصلاة. هذا، وقد تجب عند الذبح بشرط الذكر والقدرة، لكن وجوبها عند الذبح ليس وجوبا ذاتيا، بل الواجب في الذبح مطلق ذكر الله لا خصوص البسملة كما في شراح المختصر: (وتارة) يعتريها الكراهة كالإتيان بها في الأمور المكروهة، كعند شرب الدخان، لأنه مكروه على الأظهر في المذهب. وقيل (¬1) حرام وعليه المحققون والصوفية، وكالإتيان بها في الوطء المكروه، كأن يطأ الجنب ثانيا قبل غسل فرجه، وكذا يكره الإتيان بها عند المالكية في صلاة الفريضة على المشهور كما سيأتي تفصيله في باب الصلاة إن شاء الله تعالى: (وتارة) يعتريها التحريم، أي وتحرم أيضا في ابتداء المحرمات كالزنا واللواط وشرب الخمر والسرقة والغصب وأكل الحرام وغيرها مما هو ممنوع شرعا، ¬

(¬1) هذا الذي حكاه بقيل، هو الصحيح في المذهب، بل في المذاهب، والقول بالكراهة وهو الضعيف جدا لأنه انفرد به الأجهوري، وقد علم ضعف ما خالف فيه غيره، وقد قالوا أيضا إنه رجع عنه، وكذلك القول بكراهة البسملة في الفريضة عند المالكية، فقد تساهل المتأخرون بنسبة الكراهة لمالك، وأما الأقدمون المحققون إنما ينسبون لمالك أنها ليست بمطلوبة، لا أنها مكروهة ولا يخفى الفرق بين المكروه وغير المطلوب، ولذا قال ابن عاشر (وكراهة بسملة تعوذا) فقد برأ ابن عاشر نفسه من القول بالكراهة فصحيح المذهب أنها ليست بمطلوبة، لا أنها مكروهة، وإنما القول بالكراهة تساهل من المتأخرين في التعبير. وكذلك القول بأن العود لوطء الزوجة قبل غسل الذكر عند إرادة العود للزوجة إنما الأولى فقط لأنه أنشط للنفس ويزيد قوة الذكر، فلا تطره عنده البسملة، وأما الكراهة فإنما هي إذا أراد أن يطأ زوجته الثانية قبل غسل فرجه من وطء الأولى، وإذا كانت الأخيرة تتأذى بذلك يكون حراما فليحرر في المدارك المعتمدة اهـ. محمد مصطفى الشنقيطي العلوي.

إلا أن العلامة الشيخ علي العدوي رجح في حاشيته على الخرشي أنها في الحرام مكروهة، وقال يوسف بن سعيد الصفتي في حاشيته على الجواهر الزكية. وكلامه له وجه، أي القول بكرامتها عند المحرمات، لأنها عبادة، ومصاحبتها للمعصية لا تخرجها عن أصلها إلى المعصية، بل الحسنات يذهبن السيئات، لا العكس. انتهى والله أعلم، (تارة) يعتريها الإباحة كالإتيان بها في صلاة النفل أو قصد الخروج من الخلاف في الفرض، وغير ذلك مما هو مذكور في المذهب. قال أبو الضياء سيدي خليل في المختصر في سياق كلامه: " وتسميته، وتشرع في غسل، وتيمم، وأكل، وشرب، وذكاة، وركوب دابة وسفينة، ودخول وضده، لمنزل ومسجد ولبس، وغلق باب وإطفاء مصباح، وصعود خطيب منبرا، وتغميض ميت ولحده " اهـ والكلام على البسملة كثير جدا، وفي هذا القدر كفاية فتأمل. والله هو الهادي إلى الصراط المستقيم. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: " الحمد لله " قوله الحمد لله، ابتدأ المصنف كتابه بالحمد لله بعد البسملة عملا بالحديثين: حديث الابتداء بالبسملة وقد تقدم، وحديث الابتداء بالحمدلة وهو قواه عليه الصلاة والسلام: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم " وأيضا واقتداء بالكتاب العزيز، ولكن الابتداء بالحمدلة بعد الابتداء بالبسملة ابتداء إضافي بعد الابتداء الحقيقي كما تقدم الكلام عليه في البسملة. والحمد لغة الثناء على الجميل الاختياري مع التبجيل والتعظيم، سواء كان في مقابلة نعمة، ومثال الثاني ما إذا وجدت زيدا يصلي صلاة تامة فقلت زيد رجل صالح، فإنه ليس في مقابلة نعمة. ولا يحصل الحمد إلا بخمس دعائم: حامد ومحمود، وهما معلومان، ومحمود به كثبوت العلم والصلاح مثلا، ومحمود عليه وهو الإكرام. وأما الحمد اصطلاحا فهو فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعما على الحامد

أو غيره، كولده وزوجته، سواء كان باللسان أو محبة بالجنان، أو عملا وخدمة بالأركان التي هي الاعضاء. واعلم أن الحمد بجميع أقسامه يعود إلى الله تعالى؛ لأنه ينقسم على أربعة أقسام: الأول: حمد قديم لقديم وهو حمد مولانا عز وجل نفسه لنفسه، كقوله تعالى: {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال: 40]. والثاني: حمد قديم لحادث، كقوله سبحانه في حق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وقوله لإبراهيم عليه السلام: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] والثالث: حمد حادث لقديم، كقول سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116] وكحمدنا له سبحانه وتعالى. والرابع: حمد حادث لحادث، كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق سيدنا أبي بكر الصديق، رضي الله عنه: " ما طلعت الشمس ولا غربت من بعدي على رجل أفضل من أبي بكر ". وقال بعضهم: الحمد يعتريه أحكام أربعة: الأول: الوجوب، كالحمد في العمر مرة عند المالكية، كالحج، وكلمتي الشهادة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي خطبة الجمعة عند الشافعية. والثاني: الندب في خطبة النكاح، وفي ابتداء الدعاء، وبعد الأكل والشرب. والثالث: الكراهة، كالحمد في المواضع القذرة، كالمجزرة والمزبلة. والرابع: الحرمة كالحمد عند الفرح بوقوع المعصية اهـ الصفتي. وقال الإمام الطبري في تفسير الفاتحة: الحمد لله ثناء أثنى به تعالى على نفسه، وفي ضمنه أمر عبيده أن يثنوا به عليه، فكأنه قال قولوا الحمد لله اهـ. وقال الفاكهاني في شرح الرسالة: ويستحب الابتداء بها لكل مصنف ومدرس، وخطيب وخاطب، ومزوج، وبين يدي سائر الأمور المهمة، وكذا الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ باختصار. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى لفظ الحمد لله في كتابه العزيز عشر مرات: خمسا في أوائل السور، وخمسا ختم بها بعض السور. واستأثر الله سبحانه بعلم ما أودعه في ذلك

من الحكمة والأسرار: الأولى: قوله تعالى في الفاتحة: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] والثانية: سورة الأنعام، وهي قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1]. والثالثة: سورة الكهف، وهى قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1]. والرابعة: قوله سبحانه أول سورة سبأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: 1]. والخامسة: سورة فاطر، وهى قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} [فاطر: 1]. وأما السور التي ختمت بها بلفظ الحمد لله: الأولى: سورة الإسراء، وهي قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الإسراء: 111]. والثانية: سورة النمل، وهى قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [النمل: 93]. والثالثة: سورة الصافات، وهي كقوله تعالى: {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 181، 182]. والرابعة سورة الزمر، وهي قوله تعالى: {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75]. والخامسة: سورة الجاثية، وهي قوله تعالى: {فَلِلَهِ الحمدُ رَبِّ السموات وَرَبِّ الأرضِ رَبِّ العلمينَ} [الزمر: 36]. وإن بقيت آية واحدة فالعبرة ختمها بالحمد لله لا غير اهـ والله أعلم ما أدع من الأسرار والحكمة في هذا الاتفاق الغريب. نسأل الله صالح الأعمال وحسن الختام بمنه وكرمه آمين. وقال بعضهم: والحمد لله ثمانية أحرف. وأبواب الجنة ثمانية، فمن قالها عن صفاء قلب يدخله الله من أي باب شاء، أي يخيره في ذلك إكراما له، وإنما يدخل من الباب الذي علم الله أنه يدخل منه اهـ. نسأل الله أن يدخلنا الجنة مع عباده الصالحين آمين. هذا والكلام في البسملة والحمد لله كثير جدا، وفيما قدمناه كفاية، وبه حصلت البركة إن شاء الله تعالى. قال المصنف رحمه الله: " الهادي " اسم من أسمائه تعالى، وهو صفة من اسم الجلال بمعنى المرشد " إلى سبيل الرشاد " أي إلى طريق الهدى،

وهو دين الإسلام الذي لا اعوجاج فيه. قال تعالى في حق نبيه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] اللهم اهدنا صراطك المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبين والصديقين والشهداء والصالحين. قال المصنف رحمه الله: " العالم بما بطن وظهر من أحوال العباد " العالم صفة من صفات الله تعالى، وهو العالم بعلمه القديم بجميع المعلومات، الجزئيات والكليات، الظاهريات والباطنيات، من الأمور الدنيوية والأخروية، وهو عالم بما كان، كما هو عالم بما سيكون في السموات والأرضين، وما تحت الثرى، ويستمر علمه بدوام ملكه إلى أن يدخل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، وهو سبحانه عالم باحوال عباده إنسا وجنا وملائكة، وطيرا وحيتانا وغير ذلك من عالم الملكوت والجبروت العلوية والسفلية، وهو عالم بعدد ما تنفست به الأرواح كما هو عليم بعدد قطرات المطر، والحصى والنبات والحبوب، والأوراق والثمار والأشجار. وقد أحاط علمه تعالى بجميع مخلوقاته: جليلها وحقيرها، موجودها ومعدومها، قديمها وحديثها، صحيحها وسقيمها، طائعها وعاصيها، سعيدها وشقيها، قويها وضعيفها، مالكها ومملوكها. وهو عالم بأحوال الإنسان في ظاهره وباطنه، سره وعلانيته، سكونه وحركاته، نطقه وسكوته، خاطره وهاجسه، خيره وشره " ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " الله سبحانه وتعالى عالم بأحوال العباد جملة وتفصيلا {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن: 28] سبحان من لا يخرج شيء عن علمه {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى " جاعل العلماء واسطة في بيان الأحكام " يعني أن الله عز وجل هو جاعل العلماء الراشدين واسطة في بيان أحكام الشريعة الإسلامية، هم الذين يوضحون ويميزون فيما هو واجب على المكلفين، وما هو سنة أو محرم أو مباح أو مكروه، وغير ذلك من العقيدة وغيرها، كما جعل الأنبياء الأمناء

واسطة في تبليغ الرسالة إلى الأمم، وكذلك العلماء واسطة في بيان الأحكام والإرشاد، وراثة من الأنبياء لم يورثوا من الأنبياء. قال عليه الصلاة والسلام: " العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر " رواه أبو داود والترمذي. وقال عليه الصلاة والسلام: " نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع " رواه الترمذي. وقال صلى الله عليه وسلم: " من دل على خير فله مثل أجر فاعله " ولا شك أن من حفظ شيئا من أمر الدين وبلغه على أخيه المسلم فقد فاز بحظ وافر وأجر عظيم ونضارة؛ لدخوله في دعائه عليه السلام. وقد قام العلماء والفقهاء من أهل السنة بتلك الوظيفة الفائقة بالتبيان والتبليغ والهداية والإرشاد على من دونهم من العوام والجهال، وعلموا وتعلموا حتى صار الجاهل العامي عالما لاقتباسه العلم من علماء السنة، فهكذا إلى أن عم الآفاق نور العلم والإسلام بواسطة العلماء الراشدين المرشدين المهديين. هذا معنى قول المصنف جاعل العلماء واسطة في بيان الأحكام، والله أعلم. ثم قال رحمه الله: " فارقين بما علمهم بين الحلال والحرام " أي حال كونهم فارقين مميزين بين الحلال والحرام وغيرهما من الشبهات. وقال بعضهم: والعلم النافع هو علم الشريعة والحقيقة المأثور الذي نقله كابر عن كابر وخلف عن سلف، وهو الخبر المرسوم في الكتب، المستودع في الصحف، الذي يسمعه من غبر عمن قدم. فهذا علم الأحكام والفتيا، وعلم الإسلام والإيمان والقضايا طريقة السمع، ومفتاحه الاستدلال، وخزانته العقل، وهو مدون في الكتب ومحبر في الورق، يتلقاه الصغير عن الكبير بالألسنة، وهو باق ببقاء الإسلام، وموجود بوجود المسلمين؛ لأنه حجة الله تعالى على عباده، ومحجة العموم من خلقه، فضمن إظهاره، فلم يكن ليظهره إلا بحملة تظهره، ونقله تحمله فهذا هو العلم الذي يميز به بين الحلال والحرام، فمن ناله

وعمل به نال خيري الدنيا والآخرة ودخل في مدح الله تعالى للعلماء بقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر: 28]. وقال: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] وعن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أكرموا العلماء فإنهم ورثة الأنبياء، فمن أكرمهم فقد أكرم الله ورسوله " رواه الخطيب. وقال عليه الصلاة والسلام: " العلم حياة الإسلام وعماد الإيمان، ومن علم علما أتم الله أجره، ومن تعلم فعمل علمه الله ما لم يعلم " رواه ابن حبان عن ابن عباس. وقد بان لك ياأخي أن العلماء العاملين هم الذين أمرنا الله تعالى بطاعتهم ولذا قال المصنف رحمه الله: " فالرابح من فاز بمتابعتهم والخاسر من حاد عن مصاحبتهم " يعني الفائز السعيد من رافقهم وامتثل أوامرهم واقتدى بهم، واقتفى آثارهم في أقوالهم وأفعالهم، والشقي من حاد عنهم، وأعرض لشقوته وخيبته، وقد أمر الله سبحانه بطاعة أولي الأمر منكم، والمراد بهم ولاة الأمور القائمون بالحق وعلى حقوق العباد؛ لأنهم خلفاء الله في أرضه على إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام ونصرة دينه، قال تعالى {أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59] وفي الرسالة: والطاعة لأئمة المسلمين من ولاة أمورهم وعلمائهم، واتباع السلف الصالح، واقتفاء آثارهم والاستغفار لهم اهـ. والمعنى الانقياد واجب لأئمة المسلمين من ولاة الأمور الذين نصبوا أنفسهم لمصالح المسلمين، فإذا أمروا بمعروف وجب الامتثال، وإذا نهوا عن منكر الانكفاف عنه. وتجب أيضا الطاعة والانقياد للعلماء العاملين بعلمهم، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والحافظين لحدود الله. وفي الأخضري: ولا يحل له أن يفعل فعلا حتى يعلم حكم الله فيه، ويسأل العلماء ويقتدي بالمتبعين لسنة محمد صللا الله عليه وسلم الذين يدلون على طاعة الله ويحذرون من اتباع الشيطان. والمعنى وعليك يا أخي بالكتاب والسنة وبطاعة علماء السنة المطهرة، وهم الذين تدرعوا باليقين وغاضت أقدامهم في بحار الشريعة فاستخرجوا لنا نفائس الأحكام ومكارم الأخلاق، وتزينوا

بالعلم والعمل والتقوى، ووسعتهم السنة فلم يعدلوا عنها إلى البدعة والإضلال، ويحذرون من اتباع علماء السوء المفسدين في الأرض الذين ضل سعيهم، وضلوا وأضلوا، وألئك هم الخاسرون. ثم اعلم أن جيش الزندقة والإلحاد والفساد والإضلال قد عم وانتشر، وأم بلاد الإسلام يغزو بخيله ورجله، ولا معصوم اليوم إلا من عصمه الله بحمايته، نسأل الله أن يحفظنا ويجعلنا من الناجين المخلصين ببركة سيد المرسلين آمين. ولما أنهى الكلام على الخطبة انتقل المصنف مصليا ومسلما على النبي بقوله: " وصلواته وسلامه على عبده ورسوله محمد " وقد أتى بالصلاة والتسليم امتثالا لأمر الله سبحانه في قوله: {إِنَّ اللهَ وَمَلئكَتَهُ يصلُّونَ عَلَى النَّبَىِّ يأيُّهَا الذَّينَءَامَنُوا صَلُّواْ عليهِ وّسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [الأحزاب: 65] وصلاة الله تعالى على نبيه الطاهر هي رحمته المقرونة بالتعظيم، وتحيته اللائقة به صلى الله عليه وسلم. وأما صلاتنا وصلاة الملائكة فهي الدعاء له بما يليق به. قال الصاوي في حاشيته على الجلالين: وحكمة صلاة الملائكة والمؤمنين على النبي تشريفهم بذلك، حيث اقتدوا بالله في مطلق الصلاة وإظهار تعظيمه صلى الله عليه وسلم، ومكافأة لبعض حقوقه على الخلق؛ لأنه الواسطة العظمى في كل نعمة وصلت لهم، وحقَّ على من وصلت له نعمة من شخص أن يكافئه، فصلاة جميع الخلق عليه مكافأة لبعض ما يجب عليهم من حقوقه اهـ. وقال صلى الله عليه وسلم: " من صلى على في كتاب لم تزل الملائكة تصلي عليه " وفي نسخة: " تستغفر له ما دام اسمي في ذلك الكتاب " وقال صلى الله عليه وسلم: " من صلى علي صلت عليه الملائكة ما دام يصلي علي، فليقلل عند ذلك أو يكثر " اللهم صل وسلم على سيدنا محمد عدد معلوماتك، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وحكم الصلاة على النبي عند الإمام مالك الوجوب عينا في العمر مرة، كغيرها من الأذكار، إلا أنه يستحب تكرارها في كل وقت بلا حد، بل بقدر الطاقة والإمكان لأنها عبادة. وقول المصنف: " على عبده ورسوله " أي صلوات الله وسلامه دائمتان بدوام ملك الله على عبده ورسوله الذي قد قام بحق العبودية وتبليغ الرسالة وأداء الأمانة سيدنا " محمد " بن عبد الله، بن عبد المطلب، بن هاشم، بن عبد مناف، بن قصي، بن حكيم، العربي القرشي المكي. وأما أمه فهي سيدتنا آمنة بنت وهب بن عبد مناف، بن زهرة، بن حكيم المذكور في نسبه من جهة أبيه. ولد صلى الله عليه وسلم بمكة المكرمة حين طلوع فجر يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول عام الفيل، ونشأ صلى الله عليه وسلم معصوما محفوظا بين الأعداء ليقضي الله أمرا كان مفعولا. ولما بلغ من العمر أربعين سنة بعثة الله رحمة للعالمين، ونزل علىه الروح الأمين بغار حراء بقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] الآية، ومكث بمكة يدعو الناس إلى الإسلام بعد الوحي سرا، حتى نزل عليه " فاصدع بما تؤمر " فكان يدعو الناس سرا وعلانية، وقام فيهم بالدعوة إلى الله فدعا قومه إلى عبادة الله وحده وترك الأوثان، فمنهم من هدى الله، ومنهم من حقت عليه الضلالة، ولاقى صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه أذى كثيرا، ومكث بمكة ثلاث عشرة سنة على تلك الحالة، فأمر أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، فهاجر بعضهم، ثم أمرهم مرة أخرى فهاجر بعضهم في الثانية، ثم أذن الله له بالهجرة الكبرى إلى المدينة المنورة فهاجر إليها ومكث هناك، وفتح الله له منها البلدان، وصارت المدينة مركزا للإسلام. ومن المدينة المنورة انتشر الإسلام إلى أقطار الأرض، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وأكمل الله الدين بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ

دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3] هذه الآية نزلت بعرفة في حجة الوداع والنبي واقف تحت جبل الرحمة بعد عصر يوم الجمعة، ثم بعد تمام نسكه ورجوعه إلى المدينة توفي صلى الله عليه وسلم ضحى يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، ودفن في بيت عائشة يوم الثلاثاء وقيل ليلة الأربعاء، وله من العمر ثلاث وستون سنة، وهو صاحب التاريخ النبوي الهجري صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين. قال المصنف رحمه الله تعالى: " الداعي إلى دار السلام " أي المنادي إلى الإيمان بالله المؤدي إلى دار السلام وهي الجنة. والسلام: اسم من أسمائه تعالى، والمراد به هنا الجنة، وأضيفت الدار للسلام لأنها سالمة من الآفات والكدرات، والمعنى انه عليه الصلاة والسلام هو الداعي للمكلفين كافة من الإنس والجن وغيرهم ممن أمر بتبليغ الرسالة إليهم ليؤمنوا بالله ورسله وبجميع ما يجب علينا الإيمان به من المغيبات؛ لأنه طريق مؤد إلى دار الجنة. قال العلامة الصاوى في حاشيتة على الجلالين، عند قوله تعالى في سورة يونس: {وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ} [1/يونس: 25] أي السلامة وهي الجنة، أشار بذلك إلى أن المراد بهذا الاسم ما يشمل جميع الجنات لا خصوص المسماة بهذا الاسم، من باب تسمية الكل باسم البعض، وكذا يقال في باقي دورها، كدار الجلال، وجنة النعيم، وجنة الخلد، وجنة المأوى، والفردوس، وجنة عدن، فهذه الأسماء كما على مسمياتها يطلق كل اسم منها على جميع دورها لصدق الاسم على المسمى في كل اهـ. وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] الدعاء إلى الله: تبليغ التوحيد والرسالة إلى المكلفين، ورد الكفرة عما هم عليه. والرسول قد بلغ الدعوة كما أمر غاية التبليغ، حتى أتاه اليقين صلى الله عليه وسلم.

قال المصنف رحمه الله تعالى: " المبشر بما فيها من التفضل والإكرام " وفي نسخة من التفضيل بوزن التفعيل، والأولى بوزن التفعل وهي أولى من الثانية لدى أهل هذا الفن. والمعنى أن النبي عليه الصلاة والسلام مبشر في الجنة من النعيم الأبدي، كما أنه بشير، أي مخبر عن الله بما يسر المؤمنين والطائعين من فضله وإحسانه بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. والبشارة - بكسر الباء - هي إذا أطلقت لا تكون إلا بالخير، وإذا قيدت جازت أن تكون بالشر، كقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] والمعنى كما تقدم آنفا أنه صلى الله عليه وسلم مخبر عن الله بما في الجنة من النعيم والفضل والإكرام تفضيلا منه تعالى، وأيضا انه مخبر ومبلغ إلى الأمة بجميع ذلك، فهو بشير مبشر. وفي الرسالة " ثم ختم الرسالة والنذارة والنبوة بمحمد نبيه صلى الله عليه وسلم، فجعله آخر المرسلين بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ". قال المصنف رحمه الله تعالى: " وعلى آله وأصحابه " قال الله سبحانه في حق أهل البيت: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] وقال أيضا في حق الصحابة عموما: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} [الفتح: 92]. وقال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] اهـ، وكل ذلك ثناء من الله تعالى على الآل والأصحاب. والآل في مقام منع الزكاة هم بنو هاشم فقط على المعتمد عند المالكية وكذا عند الإمام أحمد، وقال الشافعي: هم بنو هاشم والمطلب، ووافقه أشهب من أصحابنا. وقال أبو حنيفة

هم فرق خمس: آل علي، وآل العباس، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل الحارث، أي ابن عبد المطلب. وأما في مقام الدعاء فكل مؤمن موحد ولو عاصيا. وهذا اللائق هنا؛ لأن المقام مقام دعاء يطلب فيه التعميم اهـ، وقوله وأصحابه، جمع صحابي من المهاجرين والأنصار وغيرهم، وهو من اجتمع به صلى الله عليه وسلم من جنس العقلاء ولو جنيا أو ملكا، أو غير مميز اجتماعيا متعارفا على وجه الأرض، ولو لحظة مؤمنا به في حال حياته، ولم يرتد حتى مات على الإسلام، وفي حال يقظة ولو أعمى ليدخل ابن أم مكتوم ونحوه من العميان، فعيسى والخضر وإلياس صحابة على المعتمد، لأنهم اجتمعوا به في الأرض. وعيسى آخر الصحابة موتا من البشر، وهو الان حي، وسئل جلال الدين السيوطي رحمه الله عن حياة عيسى، عليه السلام، ومقره وطعامه وشرابه فقال: هو في السماء الثانية لا يأكل ولا يشرب، بل هو ملازما للتسبيح كالملائكة اهـ. وهو أفضل من جميع الصحابة. وقد قال التاج السبكي في ذلك ملغزا: من باتفاق الناس أفضل من ... خير الصحاب أبي بكر ومن عمر ومن علي ومن عثمان وهو فتى ... من أمة المصطفى المختار من مضر وفي الحديث عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ليس بيني وبين عيسى، عليه السلام، نبي، وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، بين ممصرتين، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، فيقاتل الناس على الإسلام، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية - أي لا يأخذها - ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك المسيح الدجال، ثم تقع الأمنة على الأرض حتى يرتع الأسد مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، وتلعب

الصبيان بالحيات، فيمكث عيسى في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون " رواه أبو داود والحاكم والإمام أحمد اهـ. ثم قال المصنف رحمه الله: " البررة الكرام " هذا من بعض أوصافهم، أي بررة أتقياء مطيعين لله ورسوله، والكرام أي مكرمين معظمين عند الله وعند الناس. وهؤلاء الصحابة استحقوا المجد الأبدي لأن الله تعالى اصطفاهم انصرة نبيه وإقامة دينه، ورفع ذكرهم في كتابه العزيز، وأحبهم وأمر بحبهم؛ لأنهم السابقون الأولون. قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] وقال سبحانه: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 177]. هذا وقد فازوا بالحظ الأوفر في دار الدنيا والآخرة. وقد أشاد الله بذكرهم في مواضع عديدة في كتابه العزيز، وفضل بعض الصحابة على بعض درجات، كمن اجتمعت له الصحبة والقرابة كعلي بن أبي طالب وأمثاله، والخلفاء الأربعة لأنهم فازوا بنيل السبقية إليه، وبالإجابة والهجرة والنصرة في أول الأمر، فواجب على كل أحد من المسلمين تعظيمهم وتوقيرهم واحترامهم رضي الله عنهم أجمعين. قال المصنف رحمه الله: " صلاة توجب لهم مزيد الفضل والإكرام " وفي نسخة والإنعام. والمعنى اصلي صلاة على الآل والأصحاب بعد الصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، صلاة يستحقون بها زيادة الفضل والإكرام والإنعام عند الله الكريم لأن الكرماء يقبلون زيادة الإكرام والإنعام.

ولما انتهى المصنف من تقديم ما يجب تقديمه من البسملة والحمدلة والصلاة والسلام على النبي والآل والأصحاب، وعن جميع ذلك شرع الآن في بيان سبب تصنيف هذا الكتاب فقال رحمه الله " وبعد " بإسقاط أما. قال العلامة الشيخ أحمد رزوق الفاسي في شرح الرسالة عند قول مصنفها أما بعد: يعني أما بعد ما تقدم من حمد الله والثناء عليه وذكر ما به على الإنسان من المبرة والإكرام، فإن السؤال ورد علي بكذا، فهي إذا كلمة فضل تضمنت معنى الشرط. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعملها في خطبه ومكاتباته، وجرى السلف في ذلك على سنته. وقيل إنها فصل الخطاب الذي أوتيه داود عليه السلام. قال النووي: والتحقيق أن فصل الخطاب بين الحق والباطل في الحكم. وفي الكشف هي من فضل الخطاب. وفي الترمذي ما يدل على أن أول من تكلم بها يعقوب عليه السلام لبنيه فقال: أما بعد فأنا أهل بيت أهل أهل بلاء، الحديث. وقيل: أول من تكلم بها داود عليه السلام. وقيل قس بن ساعدة. وقيل يعرب بن قحطان. وقيل كعب بن لؤي. وقيل سحبان بن وائل. وقال ابن ناجي في شرح الرسالة: وتسمى كلمة إقبال وفصل وتفصيل، وفيها معنى الشرط. والتحقيق أن الفصل والشرط إنما هو في اما خاصة دون بعد، فقيل إن أما حرف تفصيل نابت عن حرف الشرط وفعله. وبعد بضم الدال، وأجاز الفراء أما بعدا بالنصب والتنوين. وأجازه ابن هشام بفتح الدال دون التنوين، وأنكره النحاس. وفي على ضم بعد للنحويين بضعة عشر قولا. وهي كلمة توضع في صدور الرسائل عند إرادة المقصد. قال ثعلب: معناها خروج عما نحن فيه إلى غيره، وفيها معنى التنبيه اهـ. قال بعض أهل المذهب: يستحب الإتيان بها في أوائل الكتب والخطب اقتداء

به صلى الله عليه وسلم، ففي حديث البخاري في كتاب هرقل: " أما بعد أسلم تسلم " الحديث. وقد عقد لها البخاري بابا في كتاب الجمعة وذكر فيه أحاديث كثيرة فراجعها إن شئت، انظر الخطاب اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " فإن الولد السعيد وفقه الله تعالى لما راهق سن الرشاد، وناهز أن ينتظم في سلك أهل السداد " يعني أخبر المصنف بسبب إنشاء تصنيفه هذا الكتاب المبارك، وذلك أن الولد البيب السعيد الذي وفقه الله تعالى ونور قلبه بنور الإلهام من الله ساقته العناية والسعادة الأبدية إلى السؤال، لما راهق وناهز، ومعناهما أي حين قارب أن يدخل في سن الهداية والرشاد باقترابه للبلوغ والاحتلام، وقارب أن ينتظم في سلك الرجال بالخروج من حال الصبا إلى حال الرجولية التي هي التكليف، ويتميز بها الاحوال والحقوق، أي يميز بها بين الحق والباطل، وبين الحلال والحرام، والخبيث والطيب، وبين الخطأ والصواب وغير ذلك من الأحكام الدينية والمعاملة، وبذلك يسلك الإنسان سبيل أهل الحق والرشاد والتوفيق والسداد، فلما كان ذلك لا يمكن ولا يتحصل عليه إلا بواسطة التعلم من العالم المرشد الناصح انتدب هذا الولد السعيد اللبيب، وبادر بالسؤال فيما يوصله لذلك وينفعه في الدنيا والآخرة، وطلب من المصنف أن يضع له كتابا مختصرا، فأجاب الشيخ عن سؤاله. وهذا الولد السعيد هل هو ولد للمصنف، وهو المتبادر في الذهن أو من تلاميذه، وهما احتمالان والله أعلم. وعلى كل حال فإنه ولد عاقل لبيب أديب مبارك، قد انتفع به المسلمون عموما، نفعنا الله بسؤاله نفعا عميقا، ونسأل الله تعالى أن يكثر لنا من أمثاله، إنه ولي التوفيق. قال المصنف رحمه الله تعالى فإن الولد السعيد: " سألني أن أضع له كتابا يكون مع كثرة معانيه وجيز اللفظ سهل التناول والحفظ " يعني أن ذلك الولد السعيد السائل

المذكور طلب من المصنف أن يضع له ولأمثاله كتابا يتفقه فيه ويتفهم منه أمر دينه ودنياه، وأن يكون وجيزا مختصرا قليل الألفاظ كثير المعنى، وأن يكون لطيفا في حجمه، سهل التناول في حمله، ومتى كان كذلك كان جديرا بسهولة الحفظ، وكل ذلك مع مراعاة الاستيفاء والاستيعاب لجميع ما يحتاج إليه في المسائل الدينية مما يجب على المكلف الذي لا غنى عنه من الحقوق البدنية والعبادات والاعتقادات والمعاملات المالية والمناكحات وغيرها من الحقوق اللازمة، مع ملاحظة كون ذلك في مذهب إمام الأئمة مالك بن أنس، رضي الله عنه، آمين، فأجابه المصنف إلى جميع ما شرط في ذلك لما يرجوه من الله من ثواب من علم دين الله أو دعا إليه. والحديث عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث عليا إلى خيبر قال: " والله لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من حمر النعم " رواه البخاري ومسلم وأبو داود اهـ. ولقيامه أيضا بواجب العلم وحذرا من وعيد كتمه لما في الترمذي وأبي داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة " نسأل الله أن يرزقنا الصواب في السؤال والجواب، إنه ولي التوفيق. ثم إن المصنف لما أراد أن يقوم بالواجب في حق السائل وغيره من طلاب العلم قال رحمه الله: " فاستخرت الله تعالى " قوله فاستخرت الله تعالى: الاستخارة هي طلب الإذن في فعل أحد الأمرين المتساويين في الإباحة، بأن يصلي ركعتين فأكثر بقصد أن يختار الله له أنفع طريق من الأمرين أيهما يسلك فيه، وهي مستحبة عند كل أمر مهم من الجائزات، كالسفر، والنكاح، والتجارة، أي في كيفية الشروع فيها كوضع الأبواب أو الفصول في مثل التأليف والتصنيف كما هنا.

وأما الأمر الواجب والمندوب فلا استخارة فيهما، لأنك منهي عنهما. والاستخارة لا تكون إلا في المباح وهو الجائز. قال النفراوي في الفواكه على الرسالة، عند قول مصنفها: " وإياه نستخير ": أي نطلب منه أن يقدر لنا ارتكاب ما هو خير في كيفية الإتيان بألفاظ تلك الجملة، وعلى أي وجه نأتي بها هل هي على غاية من المبالغة في الاختصار، أو بين بين. وليست الاستخارة في أصل الكتابة وعدمها لأنها خير يقدم فعله على تركه، وأيضا الاستخارة في الشروع تقدمت قبل الشروع، وإنما الاستخارة المطلوبة الآن في صفة الإتيان، فسقط ما قد يقال: الإنسان إنما يستخير قبل شروعه والمصنف شرع فكيف يستخير الآن. وحكم الاستخارة الندب في كل أمر تجهل عاقبته، فإن فيها تسليم الأمر إلى الله سبحانه وتعالى ليختار له تعالى ما هو خير له. وتكون الاستخارة بالحمد لله والصلاة على نبيه عليه الصلاة والسلام في جميع الأمور، ثم يمضي لما انشرح له صدره. ففي الصحيح عن جابر: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول إذا هم أحدكم بأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم يقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي يسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به " قال ويسمي حاجته اهـ. وروى ابن السني عن أنس قال: قال رسول

الله صلى الله عليه وسلم: " يا أنس إذا هممت بأمر فاستخر ربك سبع مرات ثم انظر إلى الذي سبق إلى قلبك فإن الخير فيه " قال النووي: ويقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة سورة الكافرون، وفي الثانية بعد الفاتحة قل هو الله أحد. وقال بعضهم: ينبغي أن يقرأ في الأولى بعد الكافرون: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص 68، 69] وفي الثانية بعد الإخلاص: {يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب: 36] ثم بعد تمامه يعمل بما ينشرح به صدره، وإلا كرر الصلاة والدعاء سبعا لحديث ابن السني المتقدم. وينبغي أن يكون وقتها وبعد إتمامها تاركا لجميع أشغاله بالكلية منتظرا لما يختاره الله له، فإن الخير بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وإذا تعذرت الاستخارة بالصلاة استخار بالدعاء كالحائض، وتجوز الاستخارة للغير لأنها إعانة على الخير كالاستشارة، قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] وقال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]. ولما أتم المصنف الاستخارة وظهر وجه الخيرة عزم على أن يجعل هذا الكتاب مختصرا ففعل، وقال رحمه الله تعالى: " وجعلت له هذا المختصر " الضمير في له راجع إلى السائل وهو الولد السعيد المتقدم ذكره، والمعنى لما عزمت وتوكلت على الله تعالى كتبت للسائل هذا الكتاب المختصر الذي سميته " بإرشاد السالك إلى أشرف المسالك " بأن جعلته وجيز الأحرف، أي قليل الألفاظ، كثير المعنى، سهل التناول والحفظ، كما هو مطلوب السائل. وقد جاء كما سأل، فلله الحمد والشكر، وأودع فيه المصنف جميع المطلوب والمرغوب كما صرح بقوله: " وأودعته جزيلا من الجواهر

والدرر " يعني أنه ما آلى وما قصر في البيان في هذا الكتاب، بل اجتهد غاية الاجتهاد في استنباط المآرب، وغاص في بحار العلوم والشريعة، ونظر فيها بعين الحقيقة بالدقة والتحقيق والتدقيق، حتى استخرج منها الغوامض والفوائد والنفائس، والجزيلات من اللآلئ والجواهر واليواقيت والدرر الفاخرة الغالية، والديباج والحلل النفسية الثمينة. والمعنى أنها عبارة عن المسائل الدينية والأركان الإسلامية والأحكام الشرعية، حيث إنه أودع في كتابه هذا جميع ما يحتاج إليه في الدين من المأمورات والمحظورات، وكيفية أداء العبادة، وبيان أحكام الصلاة من الفرائض والسنن والمرغوبات، وأحكام الطهارة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، والأيمان، والنكاح، والبيوع، والقضايا في الدماء والحدود، والشهادات، وأحكام الميراث والعتق والولاء، والوصايا، وغير ذلك مما يتعلق بأحكام الشريعة الإسلامية مما لا غنى عنه. وقد بين المصنف جميع ذلك تفصيلا وإجمالا بدون تفريط ولا إفراط، أودع جميع ذلك لنفع الأمة فجزاه الله عنا وعن المسلمين خير جزاء. ثم قال رحمه الله تعالى: " وسميته إرشاد السالك -إلى أشرف المسالك " والمقصود بتسمية هذا الكتاب بالإرشاد تفاؤلا بهداية السائل ورشاده والله أعلم. ومن المعقول طبعا وشرعا أن من سئل شيئا من أمر الدين يريد الهداية والإرشاد والفهم فيه. ومعنى السالك أي الداخل في طريق النجاة، ومن أوضحه وأشرفه وأعلاه منزلة فن الفقه؛ لأنه به يفقه أمر دينه ودنياه، ويميز به بين الحق والباطل والحرام من الحلال. قال تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] الآية. وفي الحديث الصحيح عن معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " الحديث، وقال بعضهم: إذا اعتز ذو علم بعلم ... فعلم الفقه أولى باعتزاز

فكم طيب يفوح ولا كمسك ... وكم طير يطير ولا كبازي ولا شك أنه كذلك. نسأل الله سبحانه أن يفقهنا في الدين آمين. وقد نسب المصنف كتابه هذا إلى مذهب إمامنا بقوله: " على مذهب الإمام أبي عبد الله مالك " أخبر المصنف أنه وضع أساس بناء هذا الكتاب على قواعد مذهب إمام الأئمة، ومصباح السنة، إمام دار الهجرة أبي عبد الله مالك بن أنس المتقدم ذكره في أول الخطبة. وقوله الإمام الأعظم هذا من حسن الوضع وحسن الثناء، ولم أر أحدا من أهل المذهب ولا غيره كنى الإمام بالأعظم سوى مصنفنا العلامة شهاب الدين عبد الرحمن بن محمد بن عسكر البغدادي رحمه الله آمين. والمعروف بالإمام الأعظم أبو حنيفة بن ثابت التابعي صاحب المذهب، رضي الله عنه. وقوله على مذهب الإمام، يعني على ما ذهب إليه وأفتى به نفسه في حياته، وعمل به أصحابه بعد مماته كما تقدم في أول الخطبة. وحاصل ما في المقام أن الإمام رحمه الله تعالى نشأ بين العلماء غلاما مهذبا عاقلا حافظا ضابطا، متقنا للسنة المطهرة برا تقيا، فتعلم منهم وجمع علومهم، وحفظ آراءهم، ونقل آثارهم، وعرف مذاهبهم وماركهم، وأحكم قواعدهم، وجمع بين الفقه والحديث حتى صار إماما في السنة، وسيد فقهاء الحجاز، وهو الذي قيل فيه تعظيما: " لا يفتي أحد ومالك في المدينة وأصبحت مثلا. وكان رحمه الله فقيرا أول أمره، فحسنت حاله. وقد أخذ العلم عن نحو مائة شيخ انتقاهم وارتضاهم، فما لبث فيهم إلا وقد تبين فضله واشتهر علمه ومجده، ونبل قدره وعظمت منزلته، وعرفت مكانته، وظهرت سيادته، فأقروا بفضله وأذعنوا لعلمه، فساد جميع أقرانه وفاق أهل زمانه حتى سمي " عالم المدينة وإمام دار الهجرة " واشتهر خبره في الأمصار، وانتشر ذكره وعلمه

في سائر الأقطار، وضربت له أكباد الإبل، وارتحل إليه الناس أفواجا من كل مصر وأتوه من كل قطر ومن كل فج عميق. فجلس لتدريس العلوم وهو ابن سبع عشرة سنة وأشياخه متوافرون، فمتع الله المسلمين بطول حياته فعاش قريبا من تسعين سنة وهو يدرس ويفتي، وشهد له التابعون بالفقه والحديث وجودة الفهم، واحتاج إليه معلموه ومشايخه وجلسوا في دروسه وسألوه عن أمر دينهم، وألف كتابه الموطأ وغيره من تآليفه، واستقبله الناس بالقبول والتسليم، وانتفع الناس بأفعاله وأقواله، وانتشرت علومه ومذهبه شرقا وغربا، فصار قدوة في الدين وإماما في السنة اهـ. وقال العلامة الشيخ أحمد تيمور رحمه الله في رسالته: أما المذهب المالكي فهو منسوب إلى إمام دار الهجرة مالك بن أنس الأصبحي، رضي الله عنه، المولود سنة 93 هجرية، والمتوفى بالمدينة سنة 179. وهو ثاني الأربعة في القدم. ويقال لأصحابه أهل الحديث. وقد نشأ المذهب بالمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام. ثم انتشر في الحجاز، وغلب عليه وعلى البصرة ومصر وما والاها من بلاد إفريقية والأندلس وصقلية والمغرب الأقصى إلى بلاد السودان وظهر ببغداد ظهورا كثيرا، ثم ضعف فيها بعد القرن الرابع اهـ. وقال الإمام أحمد بن حنبل: إذا رأيت الرجل ينقص مالكا فاعلم انه مبتدع قال أبو داود: وأخشى عليه من البدعة. وقال ابن مهدي: إذا رأيت الحجازي يحب مالكا فاعلم أنه صاحب سنة، وإذا رأيت أحدا يتناوله فاعلم أنه على خلاف ذلك اهـ. وقال الحطاب: ومن طالع مناقب الأئمة الأربعة عرف علو مرتبتهم، ووجوب تقديمهم على غيرهم، ولزوم الاقتداء بهم، وترجح عنده أحدهم على ما يتعرف من مراتبهم، ويرى مع ذلك أن مالكا أعلاهم وأسناهم، ألا ترى أن الشافعي تلميذه، وأحمد

تلميذ الشافعي. وكفى الشافعي شرفا أن مالكا شيخه. وأما أبو حنيفة فذكر غير واحد أنه لقى مالكا وأخذ شيئا من الحديث، فهو شيخ الكل، وإمام الأئمة، وكلهم على هدى وتقى، وعلم وورع وزهد اهـ. وأما أصحاب المذاهب غير الأربعة وليس لمذاهبهم ذكر اليوم، وأدخلت في الأربعة المشهورة، ذلك كمذهب سفيان الثوري، والحسن البصري، وعبد الله بن المبارك، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، والنخعي، وداود بن علي إمام الظاهرية، والليث بن سعد، وسعيد بن المسيب، والأوزاعي وهؤلاء كلهم اندرست مذاهبهم. رحمهم الله تعالى أجمعين. وأما مذهب الإمام فإنه انتشر وشاع في الأقطار كشمس الضحى، وهو الذي اختاره أهل المغرب قاطبة من أهل الأندلس وفاس وبعض أهل مصر وسائر الأمصار في المغرب الأقصى إلى بلاد السودان وبعض أهل العراق ومنهم المصنف؛ لأنهم كانوا يقتدون بإمام دار الهجرة توفيقا من الله تعالى وتصديقا لقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم لأهل المغرب: " لا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة ". ثم دعا المصنف للإمام بقوله: " قدس الله روحه ونور ضريحه " قوله: قدس أي نزه وطهر، وقوله ضريحه أي قبره: والمعنى أنه دعا وسأل الله تعالى بلسان التضرع والابتهال أن يطهر وينزه روح الإمام في حياته البرزخية لأن الإنسان إذا انتقل من الدنيا محتاج للدعاء ولو كان في النعيم، خصوصا بتقديس روحه وتنوير قبره الذي

هو أول منزل من منازل الآخرة. وفي الرسالة " وأرواح أهل السعادة باقية ناعمة إلى يوم يبعثون " أي منعمة برؤية مقعدها في الجنة. وفي الحديث: " المؤمن في قبره في روضة خضراء، ويوسع له قبره سبعين ذراعا، ويضيء حتى يكون كالقمر ليلة البدر " اهـ، ومن نعيم القبر توسيعه، وجعل قنديل فيه، وفتح طاقة فيه من الجنة وملؤه خضرا أي نعيما، روضة من رياض الجنة اهـ النفراوي. واختلف العلماء في مقر الروح من الشخص حال الحياة، والصواب عدم العلم بحلها من البدن، لقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] أي مما انفرد بعلمه. وأما مقرها بعد الموت وقبل القيامة، قال النفراوي: فمختلف فيه، فمقر أرواح الأنبياء الجنة، ومقر أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش. ومقر أرواح غيرهما البرزخ، والمراد به هنا الحاجز بين الدنيا والآخرة، وله زمان وحال ومكان، فزمانه من حين الموت إلى يوم القيامة، وحاله الأرواح، ومكانه من القبر إلى عليين لأرواح أهل السعادة. وأما أرواح أهل الشقاوة فلا تفتح لهم أبواب السماء، بل هي في سجين معذبة تحت الأرض السابعة. والدليل على جميع ذلك ما في الصحيح من أنه صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات أحكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال هذا مقعدك إلى أن يبعثك الله ". ومما يجب اعتقاده والإيمان به أن للمؤمنين والأولياء نورا ساطعا في قبورهم ونشورهم إلى دخولهم الجنة، نسأل الله أن يجمعنا من أهل النور يوم القيامة مع أئمتنا

وإخواننا الذين سبقونا بالإيمان من المؤمنين يسعى نورهم بين أيديهم يوم القيامة. قال الله تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد: 12] وقال تعالى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8] وفي الأثر: قال قتادة: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من المؤمنين من يضيء نوره إلى عدن وصنعاء ودون ذلك، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدمه " اهـ. اللهم اجعلنا في عبادك الصالحين يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وعلى الله المعتمد في بلوغ التكميل وهو حسبي ونعم الوكيل " هذا وقد اعتمد المصنف على الله وعليه التكلان في بلوغ المقصود والمراد به هنا القدرة على إكمال الكتاب على وجه الصواب، كما أنه يطلب لكل شارع في فن من الفنون أن يعتمد ويتوكل على الله ويثق به في جميع أموره ومهماته، ويتوكل عليه قبل شروعه؛ لأن من يتوكل عليه فهو كافيه وشافيه. قال عز وجل: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] والمعنى أنه من فوض أمره إليه كفاه ما أهمه من أمر دينه ودنياه، نسال الله حسن التوكل والاعتماد عليه، فهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ولما أنهى الكلام على الخطبة وما اشتملت عليه من البدائع والرونق أراد المصنف الشروع في المقاصد، فقال رحمه الله:

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة الطهارة: مصدر طهر بضم الهاء أو فتحها، وهي لغة النظافة والنزاهة من الأدناس، وشرعا صفة حكمية توجب للموصوف بها جواز استباحة الصلاة به أو فيه أو له، فالأولان يرجعان للثوب والمكان، والأخير للشخص. والطهارة قسمان: طهارة حدث، وطهارة خبث. والحدث هو المنع القائم بالأعضاء لموجب من بول ونحوه، أو جنابة، أو حيض أو نفاس، وإن كان الممنوع منه بالنسبة لمن يريد الدخول في الصلاة ثوبا أو مكانا فهي طهارة خبث، أي طهارة منه. قال المصنف رحمه الله تعالى: " لا يرفع الحدث والخبث إلا الماء المطلق " يعني أن الحدث والخبث لا يرفعان إلا بالماء المطلق، والحدث ينقسم إلى قسمين: الأكبر والأصغر، أما الأكبر فهو الجنابة والحيض والنفاس، والأصغر وهو البول، والغائط، والريح، والمذي، والودي، وخروج المني بغير لذة معتادة، والهادي: وهو الماء الذي يخرج من فرج المرأة عند ولادتها. وأما الخبث فهو عبارة عن النجاسة القائمة بالشخص أو الثوب أو المكان، وهذه الأشياء هي المعبر عنها بالأحداث والأخباث، ولا يصح التطهير منها إلا بالماء الطاهر، وهو المطلق الذي أشار إليه المصنف بقوله: " وهو ما كان على خلقته أو تغير بما لا ينفك عنه غالبا كقراره والمتولد منه " وقال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا} [الفرقان: 48] الماء الطهور: ما كان طاهرا في نفسه مطهرا لغيره، كماء المطر والبحر والبئر إذا لم يتغير شيء من أوصافه الثلاثة وهي اللون والطعم والريح بما ينفك عنه غالبا كاللبن والعسل والصابون والسمن والعجين، وكله طاهر غير

مطهر، وإذا تغير الماء بكالخمر والعذرة والبول ونحوه فهو نجس، فإن تغير شيء من أوصافه الثلاثة بما ذكر ونحوه فلا يصح منه ولا الغسل ولا الاستنجاء. والمتغير بالطاهر كاللبن طاهر في نفسه غير طهور، يستعمل في العادات كالطبخ والشرب، ولا يستعمل في العبادات كالوضوء والغسل. والمتغير بالنجس كالعذرة ونحوها نجس لا يستعمل في شيء من العادات ولا في شيء من العبادات، لكن يسقى به الزرع أو البهائم، وقول المصنف رحمه الله: أو تغير بما لا ينفك عنه إلخ هو ظاهر في أنه يجوز استعمال الماء المتغير بالمكان الذي عليه الماء كالتراب والحمأة والسبخة وجميع المواضع التي يتغير لون الماء بها كالزرنيخ والكبريت والكحل والنورة ونحوها، أو تغير بطول المكث فإنه لا يضر، أي فطاهر يستعمل في العادات والعبادات. وقال العلامة الشيخ محمد البشار في منظومته المشهورة الميمونة المسماة " بأسهل المسالك " في باب أقسام المياه وما يرفع الحدث، مشيرا لما قدمناه: وكل ماء نازل من السما ... أو نابع من أرض أو جار نما باق على أوصافه أو غيرا ... من أرضه أو ما عليه قد جرى أو مكثه فمطلق طهور ... يصح منه الشرب والتطهير وإن يكن مغيرا بطاهر ... ينفك عنه غالبا كالسكر فطاهر مستعمل في العادة ... من طبخ أو عجن خلا العبادة وإن أشيب لونه أو طعمه ... أو ريحه بالنجس نجس حكمه وكره ما استعمل في رفع الحدث ... كما قليل لم يغيره الخبث وقوله وكره إلخ أنه ذكر أن الماء المستعمل في رفع الحدث يكره استعماله في رفع الحدث به مرة ثانية، لكن مع وجود غيره فإذا لم يوجد غيره وتعين فلا كراهة، ومثله جميع المياه

المكروهة تنفي الكراهة إذا فقد غيره، وإليه أشار المصنف رحمه الله بقوله: " ويكره الوضوء بالمستعمل، ويسير حلته نجاسة لم تغيره، وسؤر ما لا يتوقى النجاسة " اعلم أن الماء الذي يكره التطهير به مع وجود غيره كثير، منه ما ذكره المصنف وهو الماء المستعمل في رفع الحدث كما تقدم، ومنه الماء اليسير وهو ما كان قدر آنية الغسل للمغتسل أو آنية الوضوء للمتوضئ إذا حلت فيه نجاسة ولم تغيره فإنه يكره التطهير به مع وجود غيره. وما في رسالة القيرواني من قوله رحمه الله: وقليل الماء ينجسه قليل النجاسة وإن لم تغيره ضعيف. ولا غرابة في ضعفه وإن كان هو قول ابن القاسم اهـ. الدردير، مع طرف من حاشية الصاوي عليه، ومنه - أي الماء المكروه - سؤر ما لا يتوقى النجاسة كجلالة إذا كان الماء قليلا دون الكثير، ومن الماء المكروه الذي ولغ فيه كلب أو كلاب، وندب إراقته وغسل الإناء سبعا بدون تتريب، ومن المكروه أيضا الماء المشمس الساخن من حرارة الشمس، خصوصا في القطر الحار، وذلك إذا كان في أواني النحاس وإلا فلا كراهة فيه، ويكره الاغتسال في الماء الراكد إن لم يكن له مادة، أو كان كالبحر فلا يكره حينئذ، ومن المكروه ماء بئر أو صهريج مات فيه حيوان بري له دم سائل، لا كعقرب، ولا بحري كسمك، ولا كراهة في مثل هاتين. وكل هذا ما لم يتغير الماء تغيرا فاحشا، فإن تغير طعمه أو لونه أو ريحه بذلك تغيرا فاحشا فلا يجوز استعماله في شيء من العبادات ولا في شيء من العادات. قال المصنف رحمه الله: " لا ما أفضلته البهائم " البهائم جمع بهيمة وهي الدابة، وإن كانت البهيمة تخصص بالخيل والحمير والبغال، كما أن الأنعام تخصص بالإبل والبقر والغنم، وإلا أن هنا المراد العموم. يعني أنه لا يكره استعمال الماء الذي شربته البهائم وبقي منه شيء سواه في الإناء أو في البحر أو غيرهما، بل الباقي بعد شربها طاهر طهور، يجوز

استعماله في الغسل والوضوء ورفع حكم الخبث، ويستعمل في العادات، ما لم يتغير من نجاستها وإلا صار نجسا. وفي الحديث عن جابر قال: " سئل النبي صلى الله عليه وسلم أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: نعم، وبما أفضلت السباع كلها " رواه الشافعي والبيهقي اهـ. وفي القوانين لابن جوزي: " المسألة الخامسة " سؤر الدواب والسباع طاهر عند الإمامين. وقال أبو حنيفة: " الأسآر تابعة للحوم " اهـ. وفي خطط السداد والرشد شرح مقدمة ابن رشد للعلامة التتائي عند قول الناظم رحمهما الله. " والماء من فم الدواب القاطر ... وسؤرها فذاك ماء طاهر " يعني أن الماء السائل من فم الدواب عند شربها منه طاهر، وكذلك التي تركب. وفي القاموس: ما دب من الحيوان، وغلب على ما يركب. ويشمل سؤر الحائض والجنب وهو كذلك، وإن كان الآدمي لا يطلق عليه دابة في العرف غالبا. وسمع ابن وهب: سؤر البرذون والبغل والفرس طاهر وغيره أحب إلي، ولا بأس به ما كان على فيه نجاسة فيكون حكم سؤرة حكم حلته نجاسة أجره على حكمه اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " أو تطهرت منه امرأة خلت به " يعني أنه اتفق أهل المذهب على جواز استعمال الماء الذي خلت به المرأة بلا كراهة، وما نقلوه خارج المذهب من عن عدم الجواز من أحد قولي ابن حنبل. هو مردود باتفاق مالك مع أصحابه

بالجواز فيه. قال خليل - عاطفا على المطلق: أو كان سؤر بهيمة أو حائض أو جنب أو فضلة طهارتهما. قال المواق وغيره فيهما: لا بأس بسؤر الحائض والجنب، وما فضل عنهما من ضوء أو غسل لا بأس بشربه وبالوضوء منه والاغتسال به اهـ. وقال الحطاب: قول مالك وجميع أصحابه أنه يجوز وضوء الرجل بفضل وضوء المرأة وعكسه لا خلاف بينهم في ذلك، وردوا على ابن حنبل لأنه لا تأثير لخلوتها به اهـ. وفي القوانين الفقهية لابن جزي: ويجوز أن يتطهر الرجل بفضل المرأة لا خلافا لابن حنبل، وقد علمت أن قولته مردودة باتفاق مالك مع أصحابه بالجواز اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وما تغير بمخالطة أجنبي كالخل والبول سلبة الطهورية وأكسبه حكمه " يعني أنه إذا تغير الماء بمخالطة شيء أجنبي تارة يكون الشيء المخالط طاهرا غير مطهر فقد تقدم أنه ماء طاهر في نفسه غير طهور، يستعمل في العادات كالطبخ والشرب ولا يستعمل في العبادات كالوضوء والغسل. والمتغير بمخالطة النجاسة كالبول ونحوه نجس لا يستعمل في شيء من العادات ولا من العبادات؛ لأن مغيره سلبه الطهورية وأكسبه حكمه. وقد تقدم جميع ذلك عند قول المصنف " أو تغير بما لا ينفك عنه ". ثم قال رحمه الله: " ويكره من آنية عظام الميتة وجلدها " يعني أن المشهور في المذهب كراهة استعمال آنية عظام المتة وجلدها بغير تحريم. وفي المدونة: وكره الادهان في أنياب الفيل والمشط بها والتجارة فيها، ولا ينتفع بشيء من عظام الميتة، ولا يوقد بها الطعام ولا الشراب اهـ.

قال ابن يونس: فإن فعل لم يفسد الشراب والطعام إلا أن يشوي عليها خبز أولحم؛ لأن ودك العظام ينجسه. ووجه قول مالك: إن الله حرم الميتة فكان الواجب أن يحرم منها كل شيء، إلا أن السنة خصت الانتفاع بالجلد وبقي ما سواه على أصل التحريم، خلا أن مالكا كرهه ولم يحرمه للخلاف اهـ. وقال ابن المواز: كره مالك الادهان في أنياب الفيل وعظام الميتة والمشط بها وبيعها وشراؤها، ولم يحرمه لأن ربية وعروة وابن شهاب أجازوا ذلك اهـ. وقال ابن سيرين وإبراهيم: لا بأس بتجارة العاج اهـ. المواق على خليل. ثم على القول المشهور من نجاسة الجلد المدبوغ يجوز استعماله في غير المائعات كالحبوب والدقيق والخبز غير المبلول، وكذا يستعمل في الماء المطلق بأن يوضع فيه الماء سفرا وحضرا لأن الماء طهور لا يضره إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه اهـ. الدردير على أقرب المسالك. وقال النفراوي في الفواكه: ووقع الخلاف بين الشيوخ في نجاسة الزيت الموضوع في إناء العاج، والذي تحرر من كلام أهل المذهب أنه إن كان لا يتحلل منه شيء يقينا فإنه باق على طهارته كعظم الحمار البالي فإنه لا ينجس ما وقع فيه. وإن كان يمكن أن يتحلل منه شيء فلا شك في نجاسته، وقس على ذلك سائر أعيان النجاسة الجافة اهـ كذا في العدوي على أبي حسن. وقال في المختصر: وفيها كراهة العاج. قال الخرشي: وفي المدونة كراهة عظم الفيل المذكي، وما تقدم من قوله: " وما أبين من عظم وقرن وعاج " في فيل لم يذك. وقال العدوي في حاشيته على الخرشي: وجه الكراهة تعارض مقتضى التنجيس، وهو جزئية الميتة، ومقتضى الطهارة وهو عدم الاستقذار لأنه مما يتنافس في اتخاذه. ونقل محشى

التتائي: أن المدونة وشراحها وشراح ابن الحاجب وغير واحد على أن الكراهة على التنزيه وعدم التحريم، والمراد عاج غير المذكي. ثم قال: فائدة: في البرزلي عن أبي زيد فيمن توضأ على شاطئ بحر وفيه عظم ميتة غطاه الماء والطين، أي ثم ظهر فغسل رجله وجعلها على العظم ثم نقلها إلى ثيابه إن ثوبه لا يتنجس. قال البرزلي: إن كان العظم يابسا فواضح، وإن كان فيه دسم ولحم فالثواب أن النجاسة تتعلق برجله إلا أن يوقن أن رطوبتها قد ذهبت جملة ولم يبق إلا رطوبة الماء فيكون كالعظم البالي اهـ. وقد علمت فيما تقدم مما أتينا به من تلك النصوص، وفهمت أن أواني العظام وجلد الميتة المدبوغ إذا وضع فيها الماء المطلق يجوز منها الوضوء والغسل وإزالة النجاسة، وغاية الأمر فيها الكراهة للخلاف، والكراهة لا تنافي الجواز. والله أعلم. ثم قال: " ويحرم من النقدين ويجزئ " يعني اتفق الأئمة على أن استعمال أواني الذهب والفضة حرام، لما في الصحيحين عن حذيفة عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: " لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة " اهـ. وعن أم سلمة أن البخاري ومسلم اهـ. قال الشعراني في الميزان: ومن ذلك قول الأئمة الأربعة أن استعمال أواني الذهب والفضة حتى في غير الأكل والشرب حرام على الرجالة والنساء، إلا في قول للشافعي مع قول داود إنما يحرم الأكل والشرب خاصة اهـ. وفي شرح الرسالة لابن ناجي عند قول مصنفها: وعن الشرب في آنية الذهب والفضة، وذكر - أي ابن ناجي - حديث حذيفة وحديث أم سلمة في منع استعمالها، ثم قال: واعلم أن أهل المذهب ألحقوا سائر الاستعمالات بالأكل والشرب في التحريم، وذهب بعض الظاهرية

إلى قصر المنع على الشرب خاصة اهـ. قال ابن جزي في القوانين: المسألة الثالثة في أواني الذهب والفضة: واستعمالها حرام على الرجال والنساء، واختلف في جواز اتخاذها من غير استعمال إلخ، انظره إن شئت اهـ. قال خليل في المختصر عاطفا على ما حرم استماله: " وإناء نقد " قال العدوي على الخرشي: فلا يجوز فيه أكل ولا شرب ولا طهارة وإن صحت الصلاة اهـ. وفي الإكليل " وحرم استعمال إناء نقد ذهب أو فضة لأكل أو شرب أو غسل " اهـ. وفي أقرب المسالك " وعلى المكلف مطلقا اتخاذ إناء منهما ولو للقنية " يعني أنه يحرم على المكلف ذكرا كان أو أنثى اتخاذ إناء من ذهب أو فضة ولو لم يستعمله بالفعل؛ لأنه ذريعة للاستعمال، ومن المعلوم أن سد الذرائع واجب عند الإمام، فلا يجوز اتخاذه للادخار، أو لعاقبة الدهر، ولا التزين به على رف ونحوه، بخلاف الحلي يتخذها الرجل لعاقبة الدهر فجائز، وهو ظاهر، غذ الحلي يجوز استعمالها للنساء، والإناء لا يجوز استعماله لرجال ولا نساء اهـ. قال في العمدة " ويحرم استعمال آنية الذهب والفضة، ومن تطهر منهما أثم وصح " اهـ وقال الدسوقي: " فلا يجوز فيه أكل ولا شرب ولا طبخ ولا طهارة وإن صحت الصلاة " اهـ قال النفراوي في الفواكه: واختلف في إعادة من توضأ منهما، فقيل أبدا، وقيل في الوقت، وقيل لا إعادة. والقول بالأبدية ضعيف؛ لأن الصلاة تصح بالحرام. وقال خليل: " وعصى وصحت إن لبس حريرا أو ذهبا، أو سرق، أو نظر محرما، ومن حضرته صلاة وآلة إخراج الماء من النقد فإنه لا يخرج الماء بها، بل يتركها ويتيمم، لحرمة الوضوء منها من غير نزاع " اهـ، وقد بان لك وجه قول المصنف في تحريم استعمال النقدين مع صحة العمل إذا وقع ونزل. والله الموفق الصواب. ثم قال رحمه الله تعالى: " ويجب التحري في اشتباه الطاهر والنجس، فيتوضأ بما يغلب على ظنه طهارته. وقيل يتوضأ من أحدهما ويصلي ويغسل أعضاءه من

الثاني ثم يتوضأ به ويصلي، فإن كثرت زاد على عدد النجاسة واحدة " يعني أنه إذا اشتبهت الأواني الطاهرة والنجسة بكالبول وجب على مريد التطهير التحري في ذلك ويستعمل الآنية التي يغلب على ظنه طهارتها، وإن لم يغلب على ظنه طهارة شيء منها تركها وانتقل إلى التيمم. وهذا هو الصحيح إن شاء الله. وقيل يتوضأ من أحدهما إلى آخر ما قال المصنف. وهي المسألة المشهورة ذات الخلاف. قال خليل في المختصر: " وإذا اشتبه طهور بمتنجس أو نجس صلى بعدد النجس وزيادة إناء " قال الشارح الدسوقي: " وحاصل المسألة أنه إذا كان عنده ثلاثة أوان نجسة أو متنجسة واثنان طهوران، واشتبهت هذه بهذه فإنه يتوضا ثلاثة وضوءات من ثلاثة أوان عدد الأواني النجسة، ويتوضأ وضوءا رابعا من إناء رابع، ويصلي بكل وضوء صلاة، وحينئذ تبرأ ذمته " اهـ، وقال أبو البركات أحمد الدردير عليه: ويبني على الأكثر إن شك فيه، وهذا إن اتسع الوقت، وإلا تركه وتيمم إن لم يجد طهورا محققا غير هذه الأواني، وإلا تركها وتوضأ. وأما لو اشتبه طهور بطاهر فإنه يتوضأ بعدد الطاهر وزيادة إناء، ويصلي صلاة واحدة ويبني على الأكثر إن شك اهـ. وقال النظيفي في الإفادة الأحمدية: لا يصح قول من قال يصلي بعدد النجس أو المتنجس وزيادة إناء، ويبنى على الأكثر إن شك فيه، فإذا كان عدد الطهور اثنين مثلا والنجس أو المتنجس اثنين برئت ذمته بثلاث صلوات، بثلاثة وضوءات، أو ثلاث فبأربعة، أو أربع فبخمسة، وهكذا. ثم قال - أي الخرشي -: وكلام المؤلف فيما إذا اتسع الوقت، وإلا تيمم، وهكذا وقع في مجلس المذاكرة، ثم ظهر أن هذا يجري فيه الخلاف في قوله: وهل إن خاف فواته باستعماله؟ خلاف، إذ هذا من أفراده، ويأتي أن المعتمد من الخلاف القول

بالتيمم، وأنه يعتبر خوف فوات الوقت الذي هو فيه. قاله بعض اهـ الخرشي. وقال يوسف بن سعيد الصفتي: فلو اشتبه الماء المطلق بغيره فيتوضأ بعدد غير المطلق ويزيد إناء بأن كان عنده خمسة أوان من الماء المطلق، وخمسة فيها ماء غير مطلق واشتبه المطلق بغيره، فيتوضأ بخمسة أوان ويزيد إناء ويصلي ست صلوات، ويفرد كل وضوء بصلاة، ويجزم النية عند كل وضوء وصلاة، هذا إذا كان غير المطلق نجسا، فإن كان طاهرا كما ورد فيجمع الوضوءات ويصلي صلاة واحدة. وقال ابن جزي في القوانين: المسألة الرابعة في اختلاط الأواني، وإذا اشتبه إناء طاهر بنجس ولم يميز الطاهر منهما ولم يكن له غيرهما، فقيل يتيمم ويتركهما وفاقا لابن حنبل. وقيل يتوضأ بالواحد ويصلي، ثم يتوضأ بآخر ويصلي. وزاد محمد بن مسلمة: ويغسل أعضاءه بالثاني قبل أن يتوضأ به اهـ. انظر الحطاب عند قول خليل: " وإذا اشتبه طهور بمتنجس أو نجس " إلخ تجد فيه ما يشفي الغليل في المسألة. والله تعالى أعلم. قال المصنف رحمه الله: " وإذا مات بري ذو نفس سائلة في بئر فإن تغير " أي الماء طعما أو لونا أو ريحا " وجب نزحه حتي يزول التغير " ويعود كهيئته أولا طاهرا مطهرا. قال مالك في المدونة: من توضأ بماء وقعت فيه ميتة تغير لونه أو طعمه وصلى أعاد وإن ذهب الوقت، وغن لم يتغير لون الماء ولا طعمه أعاد ما دام في الوقت اهـ. ثم قال: " فإن زال بنفسه فالظاهر عوده إلى أصله " يعني صار الماء طهورا خلافا لابن القاسم. وقال البناني: الأرجح أنه يطهر، وهو قول ابن وهب عن مالك، واعتمد عليه المصنف والأجهوري. وقال عبد الباقي: إنه

لا يطهر، ورجح ابن رشد ما لابن وهب. وقال الصاوي على الدردير: فيه نظر اهـ. قال المصنف رحمه الله: " وإن لم يتغير استحب النزح بحسب الماء والميتة " يعني إذا مات حيوان بري، أي منسوب للبر ضد البحر لخلقه وحياته فيه، وكان له نفس أي دم سائل في الجسد وتغير الماء فغنه يجب نزح ماء البئر التي مات الحيوان المذكور فيها جميعه؛ لأنه صار نجسا في شيء من العبادة ولا شيء من العادات، وإن لم يتغير ندب النزح بقدر الماء قلة وكثرة، والحيوان صغرا وكبرا. وأما إن وقع حيا أو طرح ميتا وأخرج فلا نزح ولا كراهة. قال ابن جزي في القوانين: " المسألة التاسعة إذا وقعت دابة نجسة في بئر وغيرت الماء وجب نزح جميعه، فإن لم تغيره استحب أن ينزح منه بقدر الدابة والماء " اهـ. وفي المختصر: " وإذا مات بري ذو نفس سائلة براكد ولم يتغير ندب نزح بقدرهما " قال الشارح المواق: " انظر قوله براكد. ونص التلقين: البري ذو النفس السائلة ينجس بالموت، وينجس ما مات فيه من مائع غيره أو لم يتغيره، ولا ينجس الماء إلا أن يغيره، إلا أنه نزح اليسير بقدر الدابة وقدر ماء البئر، وذلك توق واستحب، وإن تغير نزح حتى يزول التغير. وفي المدونة: " إن مات بري ذو نفس سائلة بماء لا مادة له كالجب لا يشرب منها ولا يتوضأ، وينزح الماء كله بخلاف ما له مادة " ابن عرفة: تطهير ذي المادة نزع ما يطيبها أصبغ: بقدر مائه والدابة ومكثها. وفي العتبية قال مالك في ثياب أصابها ماء بئر وقعت فيه فأرة فماتت وتسلخت: يغسل الثوب وتعاد الصلاة في الوقت، ابن رشد: هذا إن كان الماء لم يتغير، وغسل الثوب إنما هو استحباب فيما لا يفسده الغسل. التلقين، فيستحب

نزح البئر التي يموت بها ذو نفس سائلة ولم يتغير بحسب كبر الدابة وصغرها. المأزري: إنما كان النزح استحبابا لأن الماء لا تؤثر فيه النجاسة إلا إذا غيرته، ولأجل قول بعضهم: إن الحي إذا مات خرجت منه بلة على وجه الماء فينزح من الماء قدر ما يقع في النفس أنها تذهب بذهابه. الباجي: البرك الكبار جدا لا تفسد بما يموت فيها ما لم تتغير. وفي التمهيد في الحديث الخامس عشر لإسحاق بن أبي طلحة: لا عبرة بما حل بالماء إذا لم يتغير، بدليل بئر بضاعة يطرح فيها لحوم الكلاب والعذرة وأوساخ الناس اهـ المواق. وقال الدردير على أقرب المسالك: وإذا مات الحيوان البري في الماء القليل أو الكثير له مادة أو لا كالصهاريج وكان له نفس سائلة أي دم يجري منه إذا جرح فغنه يندب النزح منه بقدر الحيوان من كبر أو صغر، وبقدر الماء من قلة وكثرة إلى ظن زوال الفضلات التي خرجت من فيه حال خروج روحه في الماء، وينقص النازح الدلو لئلا تطفو الدهنية فتعود للماء ثانيا، والمدار على ظن زوال الفضلات، فلو أخرج الحيوان من الماء قبل موته، أو وقع فيه ميتا، أو كان الماء جاريا، أو مستبحرا كغدير عظيم جدا، أو كان الحيوان بحريا كحوت، أو بريا ليس له نفس سائلة كعقرب وذباب لم يندب النزح، فلا يكره استعماله، كما لا يكره بعد النزح. هذا لم يتغير الماء بالحيوان المذكور، فإن تغير لونا أو طعما أو ريحا تنجس، لأن ميتته نجسة اهـ. ولما أنهى الكلام على ما يرفع الحدث وحكم الخبث وغيرهما بالماء المطلق انتقل المصنف إلى ذكر بيان النجاسة والطهارة، وما وقع فيه الخلاف بين أهل المذهب، فقال رحمه الله تعالى:

فصل في أحكام الميتات وأجزائها والمسكرات وغيرها

فَصْلٌ في أحكام الميتات وأجزائها والمسكرات وغيرها الفصل لغة هو الحاجز بين الشيئين، واصطلاحا اسم لجملة من الألفاظ اشتملت على مسائل غالبا. واعلم أن المصنف قد أراد الشروع في بيان ذكر النجسة والطاهرة ليكون الطالب على بصيرة في عبادته، فقال رحمه الله: " الميتات والمسكرات كلها نجسة " وفي نسخة بتقديم المسكرات على الميتات. وقوله الميتات جمع ميتة، وهي أبينت حياتها من غير ذكاة شرعية كما عرفها بعضهم، وبعبارة أخرى الميتات جمع ميتة، وهي كل ما حرم الشارع أكلها من الحيوان البري التي لها نفس سائلة كالأنعام؛ لعله الموت؛ ولعدم استعمال الذكاة في بعضها كالخيل على المشهور، والبغال والحمير إجماعا، فهي ميتة نجسة. ودخل فيها ما ذبحه المجوسي مطلقا وصيد المحرم، وما أهل به لغير الله؛ لأنه لا يجوز أكله إلا للمضطر الذي لم يكن باغيا ولا عاديا ولم يجد غيره فله الأكل والتزود به على أن يستغنى عنه، وذلك لقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 173] وقوله: والمسكرات معطوف على الميتات في هذه النسخة، وفي الأخرى بالعكس، جمع مسكر وهو كل ما يستر العقل من المشروبات وغيرها كالخمر. وفي الرسالة: " وحرم الله سبحانه شرب الخمر قليلها وكثيرها، وشراب العرب يومئذ فضيخ التمر ". وبين الرسول، عليه السلام، أن كل ما أسكر كثيره من الأشربة فقليله حرام، وكل ما خامر العقل فأسكره من كل شراب فهو خمر. وقال عليه السلام: " إن الذي حرم شربها حرم بيعها " اهـ النفراوي. هذا حكم الخمر إذا استمرت على حالها. وأما لو تحجرت أو تخللت

فإنها تطهر، ويجوز بيعها وشربها، ويطهر إناؤها تبعا لها ولو فخارا بغواص، ولو ثوبا، ويصلي به من غير غسل إلى آخر ما قال، فراجعه إن شئت اهـ. وقول المصنف: وكلها نجسة، يعني أن الميتات والمسكرات المذكورات يحرم تعاطيها أكلا وشربا وادهانا، ووقع الخلاف في التداوي بالنجاسة كالخمر، والمعتمد في المذهب الحرمة، لقوله عليه الصلاة والسلام: " إن الله عز وجل أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تداووا بحرام " رواه أبو داود. وفي رواية " إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها " اهـ. وقد ذكر ابن جزي في القوانين الفقهية ما أجمع أهل المذهب على نجاسته والمختلف فيه، وعقد في بيان ذلك ثلاثة فصول على التفصيل، ثم ذكر تلخيص ما أجمع على نجاسته بقوله: " النجاسات المجمع عليها في المذهب ثمانية عشر: بول ابن آدم الكبير، ورجيعه، والمذي، والودي، ولحم الميتة، والخنزير، وعظمهما، وجلد الخنزير مطلقا، وجلد الميتة إن لم يدبغ، وما قطع من الحي في حال حياته إلا الشعر وما في معناه، ولبن الخنزير، والمسكر، وبول الحيوان المحرم الأكل، ورجيعه، والمني، والدم الكثير، والقيح الكثير " اهـ. والمختلف فيها في المذهب ثمانية عشر: بول الصبي الذي لا يأكل الطعام، وبول الحيوان المكروه الأكل، وجلد الميتة إذا دبغ، وجلد المذكى المحرم الأكل، ولحمه، وعظمه، ورماد الميتة، وناب الفيل، ودم الحوت، والذباب، والقليل من دم الحيض، والقليل من الصديد، ولعاب الكلب، ولبن ما لا يؤكل لحمه غير الخنزير، ولبن مستعمل النجاسة، وعرق مستعمل النجاسة، وشعر الخنزير، والخمر إذا خللت اهـ. قلت: وهذه الأشياء المختلف فيها منها ما هو نجس على المشهور كبول الحيوان المكروه

الأكل، ومنها ما هو طاهر على المشهور كرماد الميتة، ومنها ما هو مكروه على المشهور كأنياب الفيل. انظر بقية الكلام في الفصل الثاني والثالث من القوانين في الباب السادس في النجاسات. ولما ذكر المصنف جملة الميتات والمسكرات بقوله كلها نجسة استثنى منها بعض الأشياء فقال: " إلا دواب الماء وما ليس له نفس سائلة " يعني أنه قد استثنى دواب الماء وما ليس له نفس سائلة فميتته طاهرة لما في الحديث أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن البحر فقال: " هو الطهور ماؤه الحل منيته " رواه أصحاب السنن عن أبي هريرة، وفي المختصر عاطفا على المباح " والبحري ولو طالت حياته ببر " اهـ، وقال الخرشي: والمعنى أن ميتة الحيوان البحري طاهرة لقوله عليه السلام: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " ولقوله: " أحلت لنا ميتتان السمك والجراد " وسواء مات حتف أنفه ووجد طافيا أو بسبب شيء فعل به من اصطياد مسلم أو مجوسي، أو ألقي في النار، أو دس في طين فمات، أو وجد في بطن حوت أو طير ميتا، ولا فرق بين أن يكون مما لا تطول حياته ببر كحوت أو تطول حياته كالضفدع البحري والسلحفاة البحرية، وهي ترس الماء والسرطان اهـ. وفي اقرب المسالك في باب المباح: " والبحري وإن ميتا أو كلبا أة خنزيرا " الصاوي في حاشيته عليه. واعلم أم ميتة البحر طاهرة ولو تغير بنتونة، إلا أن يتحقق ضررها فيحرم أكلها لذلك لا لنجاستها، إلى أن قال سواء وجد ذلك الميت راسبا في الماء، أو طافيا، أو في بطن حوت أو طير، سواء ابيلعه ميتا أو حيا ومات في بطنه، ويغسل ويؤكل، وسواء صاده مسلم أو مجوسي. قلت: أو المحرم لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96] وما ذكره الخرشي وصاحب المختصر من كون ميتة البحري الذي تطول حياته ببر طاهر هو قول مالك، وهو المشهور كما في الحطاب. وأما قول ابن نافع وابن دينار القائلان إن ميتته نجسة إذا كان يعيش ببر فقد ردهما صاحب المختصر بقوله

ولو طالت حياته ببر. قال الشارح الدردير: كتمساح وضفدع وسلحفاة بحرية، ونقل ابن عرفة القول بالفرق بين أن يموت في الماء فيكون طاهرا أو في البر فيكون نجسا، وذلك كالضفدع والسلحفاة والسرطان. وقيل هي ترس الماء اهـ. وفي المواق عن ابن عرفة: رابع الأقوال قول مالك إن البحري ولو طالت حياته ببر كالضفدغ والسلحفاة وترس الماء طاهر، وفي العتبية: إنما يذبح ترس الماء استعجالا لموته، وعن عبد الحق: وأما ميتة الضفادع البرية فنجسة اهـ. لكن المعول عليه من الأقوال في ميتة ما يطول حياته ببر من الحيوان البحر كالتمساح الطهارة، وعليه مالك وأكثر أصحابه من أهل المدن والأمصار إلا من شذ. والله تعالى أعلم. هذا ما يتعلق بميتة البحري وأما ما يتعلق بخشاش الأرض وهو المقصود بما ليس له نفس سائلة، وتسمى بالهوام وهي من المستثنى بقول المصنف: " إلا دواب الماء وما ليس له نفس سائلة " فميتته طاهرة ولو جعلا، دويبة تدفع النجاسة بأنفها وتستعمل النجاسة. وثبت في إناء فيه ماء أو في قدر فيه طعام فإنه يتوضأ بذلك الماء، ويؤكل ما في القدر، وخشاش الأرض الزنبور والعقرب الصرصار والخنفساء، وبنات وردان، وما أشبه هذا من الأشياء، وقال مالك في بنات وردان، والعقرب، والخنفساء، وخشاش الأرض، ودواب الماء مثل السرطان والضفدع: ما مات من هذا في طعام أو شراب فإنه لا يفسد الطعام ولا الشراب اهـ. قال خليل في المختصر: فصل " الطاهر ميتة ما لا دم له " وقال الشارح: يعني أن الطاهر أنواع: منها ميتة الحيوان البري الذي لا دم فيه، وهو الذي يقال فيه ليس له نفس سائلة كما تقدم بيان ذلك، ولو كانت فيه رطوبة كالعنكبوت، والجداجد،

والعقرب، والزنبور، والصرصار، والخنافس، وبنات وردان، والجراد والنحل والدود والسوس. وفي ميتة ما لا نفس له سائلة طريقتان في المذهب الأولي أنها طاهرة باتفاق، وهذه طريفة ابن بشير. قال في العتبية: وأما البري مما لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت بلا خلاف، والطريقة الثانية أن فيها قولين، المشهور أنها طاهرة. قال في التوضيح: نقل سند عن سحنون أنها نجسة لكنها لا تنجس غيرها اهـ، الحطاب. ونقل المواق عن التلقين أنه قال: ما لا نفس له سائله كالزنبور، والعقرب، والخنفساء والصرصار، وبنات وردان، وشبه ذلك حكمه حكم دواب البحر، لا ينجس في نفسه ولا ينجس ما مات فيه من مائع أو ماء، وكذلك ذباب العسل والباقلاء ودود الخل. عياض: في قول التلقين نظر، والصواب أنه لا يؤكل ما لا نفس له سائله إذا كان مختلطا بالطعام وغالبا عليه، وإن تميز الطعام منه أكل الطعام دونه، إذ لا يؤكل الخشاش على الصحيح من المذهب إلا بذكاة، الباجي: ما لا دم فيه ولا دم له كالخنفساء، لا ينجس بالموت، إلا أن من احتاجه لدواء أو غيره ذكاه بما يذكي به الجراد، ويجب أن يبين إذا باع طافي الحوت، وإلا فللمشتري الرد اهـ. وفي أقرب المسالك وجراد، وخشاش أرض، كعقرب، وخنفساء، وجندب، وبنات وردان، ونمل، ودود، فإن مات بطعام وميز عنه أخرج لعدم ذكاته، وإن لم يمت جاز أكله بنيتها، وإن لم يميز طرح إلا إذا كان أقل. وأكل دود كالفاكهة معها مطلقا، وقال الصاوي في الحاشية: قوله وجاز أكله أي خشاش الأرض إن قبلته طبيعته، وإلا فلا يجوز حيث ترتب عليه ضرر، لأنه قد يعرض للطاهر المباح ما يمنع أكله كالمريض إذا كان يضر به نوع من الطعام لا يجوز له أكله اهـ. قلت فمن هذه الحيثية ينبغي ألا يؤكل الجعل المذكور في أول هذه المسألة وإن كان من الخشاش لاستقذاره وكراهية النفوس له،

ورب شيء طاهر لا يجوز أكله إلا لدواء اهـ. وفي حاشية الخرشي: أي إن الحيوان الذي لا دم له كالعقرب والذباب والخنافس، وبنات وردان، والجراد، والدود، والنمل، وما في معناها - وهو مراد أهل المذهب بما لا نفس له سائله - طاهر وإن مات حتف أنفه، ومعنى حتف أنفه خروج روحه من أنفه بنفسه، وإنما كان ما ذكر طاهرا لعدم الدم منه الذي هو علة الاستقذار إلى أن قال: ثم إنه لا يلزم من الحكم بطهارة ما لا دم له أن يؤكل بغير ذكاة، لقول صاحب المختصر: وافتقر نحو الجراد لها بما يموت به، فإذا مات ما لا نفس له سائله في طعام واختلط به وغلب على الطعام لم يؤكل، وإن تميز الطعام منه أكل الطعام دونه، إذ لا يؤكل الخشاش على الصحيح إلا بذكاة كما أشار به القاضي عياض، وقد تقدم لنا ذلك في هذا الكتاب. ثم قال: وظاهره أن الطعام إذا كان هو الغالب أنه يؤكل، والمراد بغلبته كونه كثيرا والخشاش قليلا، وأما لو كان الطعام على النصف من الخشاش فلا يؤكل بمنزلة الغالب، كما هو عند ابن يونس، خلافا لصاحب التلقين، والمعول عليه كلام ابن يونس اهـ. وفي هذا كفاية لمن استغنى ومن يريد أكثر من ذلك فعليه بالمطولات. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: " وأجزاء الميتة نجسة إلا الشعور ومشبهها من الريش " يعني أنه قد تقدم عند ذكر الميتات على الجملة بقوله " الميتات والمسكرات نجسة " وهنا يذكر الأجزاء ليرتب عليها ما استثنى من الشعور والريش وما أشبه ذلك فيها من المعنى المعتبر. ثم اعلم أن أجزاء ميتة حيوان البر غير الخشاش نجسة، وإن كان في بعضها اختلاف خارج المذهب. قال العلامة أحمد بن جزي في القوانين الفقهية: وأما أجزاء الحيوان فإن قطعت منه في حال حياته فهي نجسة إجماعا إلا الشعر والصوف والوبر، وإن قطعت بعد موته، فإن حكمنا بالطهارة فأجزاؤه كلها طاهرة، وإن حكمنا بالنجاسة فلحمه نجس. وأما العظم وما في معناه كالقرن والسن والظلف فهي نجسة من

الميتة خلافا لأبي حنيفة، وأما الصوف والوبر والشعر فهي طاهرة من الميتة خلافا للشافعي اهـ. وفي المختصر: الطاهر ميت ما لا دم له، إلى أن قال: وصوف، ووبر، وزغب ريش، وشعر ولو من خنزير إن جزت. قال الخرشي: يريد طاهر من سائر الحيوانات ولو أخذت بعد الموت، لأنه مما لا تحله الحياة، وما لا تحله الحياة لا ينجس بالموت، وأيضا فإنه طاهر قبل الموت فبعده كذلك عملا بالاستصحاب. والمراد بزغب الريش ما يشبه الشعر من الأطراف، ولا فرق في المذهب بين الصوف المحرم وشعره ووبره، وبين صوف غيره وشعره ووبره، ولكن الطهارة في ذلك مشروطة بجزه ولو بعد النتف. ويستحب غسلها إن جزت من ميتة كما في المدونة والرسالة اهـ. وفي أقرب المسالك " والنجس ميت غير ما ذكر، وما خرج منه، وما انفصل منه، أو من حي مما تحله الحياة كقرن، وعظم، وظفر، وظلف، وسن، وقصب ريش، وجلد ولو دبغ، وجاز استعماله بعد الدبغ في يابس وماء " اهـ. وفي الرسالة وينتفع بصوف الميتة وشعرها وما ينزع منها في الحياة، وأحب إلينا أن يغسل، ولا ينتفع بريشها، ولا بقرنها وأظلافها وأنيابها، وكره الانتفاع بأنياب الفيل. وكل شيء من الخنزير حرام، وقد أرخص في الانتفاع بشعره اهـ. نقل الحطاب عن ابن فرحون: الشعر بفتح العين وسكونها يطلق على شعر الإنسان وغيره من الدواب والسباع فهو عام، والصوف للشاة أي الغنم والمعز، فهو أخص منه، والوبر بفتح الموحدة: صوف الإبل والأرانب ونحوهما، وما ذكره موافق لما في الصحاح. وفي القاموس الشعر ما ليس بصوف ولا وبر، والريش للطائر، والزغب ما اكتنف القصبة اهـ. وأما أجزاء الآدمي ففيه خلاف وتفصيل كما سيأتي عند قول المصنف: وهل ينجس بالموت؟ قولان: قال رحمه الله: " وفي طرف القرن والظلف والعاج خلاف " الحطاب والقرن والعظم معروفان، والظلف بالظاء للبقرة والشاة والظبي. والظفر أيضا بالظاء، للبعير والأوز

والدجاج والنعامة. والعاج عظم الفيل، واحده عاجة. قاله في الصحاح اهـ. أما العاج فقد تقدم فيه عند قول المصنف " ويكره من آنية عظام الميتة وجلدها " فراجعه إن شئت، وأما قوله وفي طرف القرن إلخ كأنه لما تكلم في أجزاء الميتة وكان من جملتها طرف قرن وما عطف عليه أراد أن يذكر ما فيها من الخلاف في المذهب، كأنه سأله سائل: هل حكم الأطراف كحكم أصلها، أو هي طاهرة كسائر الطاهرات؟ فأجاب: في ذلك خلاف. وقال ابن ناجي في شرح الرسالة بقوله: وتقدم أن في القرن والظلف والسن ثلاثة أقوال، ثالثها الفرق بين طرفها وأصلها، وكذلك في العظم، حكاها غير واحد. وحكى الباجي فيه الفرق بين أن يصلق أو لا كأحد الأربعة في أنياب الفيل اهـ. وفي الرسالة: ولا ينتفع بريشها ولا بقرنها وأظلافها وأنيابها. وقال أبو الحسن في كفاية الطالب: قوله ولا ينتفع بريشها أي الميتة، ظاهره مطلقا، وفيه تفصيل؛ لأن أصله الرطب لا يجوز الانتفاع به مطلقا من غير خلاف، وأعلاه يجوز الانتفاع به من غير خلاف، وفيما بينهما قولان بالجواز والمنع وهو المشهور. وكذا أي لا يجوز الانتفاع بقرنها أي الميتة، وأظلافها وأنيابها، ظاهره على جهة التحريم؛ لأن الحياة تحله اهـ. وقد رجح العدوي في حاشيته على كفاية الطالب نجاسة كل من ريش وقرن وظلف وأنياب وعظم الميتة، ولم يستثن منها شيئا من ذلك بقوله المعتمد أن رؤوس الريش من الميتة نجس، ومثله رؤوس القرن وقال أيضا: الراجح أن أعلاه كأسفله في النجاسة وعدم الانتفاع فأحرى الوسط اهـ. قلت: هذا وقد رجع إلى الأصل في نجاسة طرف القرن، وطرف قصبة ريش وما ذكر معهما. وقال خليل في سياق كلامه على النجس: " وما أبين من حي وميت من قرن وعظم وظلف وظفر وعاج " قال الحطاب: يعني أن ما أبين من حي أو ميت من هذه الأشياء فإنه نجس. وفي قوله " وقصب ريش " قال الخرشي: أي النجس قصبة ريش، وهي

التي يكتنفها الريش، وسواء أصلها على المشهور، هذا في القصبة، وأما الزغب فقد تقدم أنه طاهر إن جز اهـ. " قلت " فالحاصل أن ما أبين من حي وميت من قرن، وعظم، وظلف، وعاج، وظفر، وقصبة ريش، وجلد ولو دبغ كلها نجسة. وأما ما لا تحله الحياة من الأطراف في جميع ما ذكر فإنها طاهرة مع الكراهة لما فيها من القال. والله أعلم اهـ. ثم قال المصنف رحمه الله: " وما أبين من حي فهو ميتة " هذا تقدم الكلام عليه في المسائل السابقة بان ما أبين من الحي والميت من قرن وما عطف عليه نجس فلا حاجة لنا إلى تكراره. قال المصنف رحمه الله: " وفي طهارة جلدها بالدباغ خلاف " وهذا أيضا تقدم لنا الكلام فيها عند قول المصنف: ويكره من آنية عظام الميتة وجلدها، إلا أن هناك تكلمنا في حكم الجواز باستعماله، ومراد المصنف هنا في حكمه بعد الدباغ، وذكر أن فيه خلافا، فالمشهور عند المحققين من أهل المذهب أن طهوريته لغوية لا حقيقية، فهو نجس حقيقة ولو بعد الدبغ، هذا هو المعتمد. ثم على القول المشهور من نجاسة جلد الميتة المدبوغ يجوز استعماله في اليابسات كالحبوب والدقيق والخبز غير المبلول، وكذا يستعمل في الماء المطلق بأن يوضع فيه الماء سفرا وحضرا لأن الماء طهور لا يضره إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه. وأما المائعات كالسمن والعسل والزيت وسائر الأدهان والماء غير المطلق كماء الورد، ومن ذلك الخبز قبل جفافه والجبن فإنه لا يجوز وضعه فيه، ويتنجس بوضعه فيه. قال الدردير: وهذا معنى قوله وجاز استعماله بعد الدبغ في يابس وماء، تبع في ذلك قول خليل: ورخص فيه مطلقا إلا من خنزير بعد دبغه في يابس وماء اهـ.

تنبيه

وقال أبو محمد في الرسالة: " ولا بأس بالانتفاع بجلدها إذا دبغ ولا يصلي عليه ولا يباع " وقال أبو الحسن عليه: ومفهوم الشرط أنه لا ينتفع به قبل الدبغ، وهو كذلك باتفاق. وقوله: ولا يصلي عليه ولا يباع، ظاهر يدل على أن جلد الميتة ليس بطاهر. قال العدوي: تنبيه: لا يطهر الجلد عندنا بالدبغ، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " أيما إهاب " أي جلد " دبغ فقد طهر " فالمراد الطهارة اللغوية، بمعنى النظافة لا الشرعية اهـ. وفي الخرشي: يعني أن جلد الميتة والمأخوذ من الحي نجس ولو دبغ على المشهور المعلوم من قول مالك، ولا يجوز بيعه ولا يصلى عليه. قال ابن رشد: ولا يؤثر دبغه طهارة في ظاهره ولا باطنه. وفي المدونة: " ومن صلى ومعه لحم ميتة أو عظمها أو جلدها أعاد في الوقت " وأيضا قال مالك: لا يعجبني أن يصلي على جلدها وإن دبغ اهـ. وقد ظهر لك أن جلد الميتة نجس، ولا يطهر بالدباغ إنما رخص في استعماله في اليابسات والماء المطلق كما تقدم، والرخصة لا تجاوز موردها. وأما الكيمخت، وهو جلد الحمار أو الفرس أو البغل المدبوغ توقف الإمام فيه عن الجواب في حكمه أربعين يوما لما سئل عنه، وروي في المدونة أنه قال: لا أدري. وفي العتبية أنه قال: وتركه أحب إلي. ومنشأ الخلاف استعمال الصحابة الكيمخت. قال الخرشي: واختلفوا إذا صلى به هل يعيد في الوقت أو لا؟ والخلاف المذكور مبني هل هو نجس معفو عنه أو طاهر أو مستثنى من جلد الميتة المدبوغ، ورجح في الشامل أنه نجس. وقال التتائي وأبو الحسن: إنه طاهر معفو عنه ومستثنى من جلد الميتة المدبوغ اهـ، مع زيادة إيضاح. ونقل الصاوي عن الدسوقي: واختلف في توقف الإمام هل يعد قولا أو لا؟ والراجح الثاني. وقال واعلم أن استعماله ثلاثة أقوال: الجواز

مطلقا في السيوف وغيرها، وهو لمالك في العتبية. والجواز في السيوف فقط، وهو لابن المواز وابن حبيب. والكراهة مطلقا، قيل هذا هو الراجح الذي رجع إليه مالك، ولكن ذكر بعضهم أن الحق أنه طاهر، وأن استعماله جائز، أما مطلقا أو في السيوف لا مكروه. قال في الأصل وجه التوقف أن القياس يقتضي نجاسته ولا سيما من جلد حمار ميت، وعمل السلف في صلاتهم بسيوفهم وجفيرها منه يقتضي طهارته، والمعتمد كما قالوا إنه طاهر للعمل لا نجس معفو عنه، مستثنى من قولهم جلد الميتة نجس ولو دبغ. وانظر ما علة طهارته؟ فإن قالوا الدبغ، قلنا يلزم طهارة كل مدبوغ، وإن قالوا الضرورة، قلنا إن سلم فهي لا تقضي الطهارة بل العفو. وحمل الطهارة في كلام الشارع على اللغوية في غير الكيمخت وعلى الحقيقة في الكيمخت تحكم، وعمل الصحابة عليهم الرضا في جزئي يحقق العمل في الباقي اهـ الصاوي. كذا في الدسوقي، انظر الحطاب والله هو الهادي إلى الصواب قال المصنف رحمه الله تعالى: " وسؤر الحيوان وعرقه طاهر " وقد تقدم لنا هذه المسألة عند قول المصنف: " ما أفضلته البهائم " وقد شرحناه هناك فراجعه إن شئت. وأما قوله وعرقه، أي ولا خلاف في طهارة العرق ولو من كافر أو شارب الخمر، لأن كل حي طاهر سواء آدميا أو غيره، وكذلك عرقه ولعابه ومخاطه ودمعه، وبيضه غير المذر المنتن فهو نجس. قال رحمه الله: " إلا يتناول النجاسة فيكره " يعني أن سؤر الحيوان الذي تناول النجاسة كالجلالة مكروه، كما تقدم ذكره عند ول المصنف: " وسؤر ما لا يتوقى النجاسة " فراجعه إن شئت. وأما عرق من يتناول النجاسة - ويسمى بالجلالة - فإن كان متلطخا فعرقه نجس، وإن جسده غير ملطخ بها فعرقه طاهر.

قال المصنف رحمه الله: " إلا ما كان فيه نجاسة ظاهرة فيكون حكم سؤره حكم ما حلته نجاسة " يعني أنه إذا ريئت النجاسة في فم الدابة أو غيرها ظاهرة فحكمه حكم الماء الذي حلت فيه النجاسة، إلا أنه يكره مع وجود غيره كما تقدم عند قول المصنف: " ويسير حلته نجاسة لم تغيره ". وقال خليل: " وإن ريئت على فيه وقت استعماله عمل عليها " قال الحطاب: والمعنى أن شارب الخمر والحيوان الذي لا يتوقى استعمال النجاسات إذا ريئت النجاسة على فيه وقت استعماله الماء أو الطعام عمل عليها، فإن غيرت الماء ضرت باتفاق، وإن لم تغيره فيكره استعماله مع وجود غيره، لأن الكلام في الماء القليل. وأما الطعام فإنه يطرح كله إن كان مائعا، وإن كان جامدا طرح منه ما أمكن السريان فيه اهـ. وقال الخرشي: وإن علمت على فم الحيوان السابق أو عضو من أعضائه في جميع الصور، وقت استعماله الماء أو الطعام، أو قبل الاستعمال دون غيبة يمكن زوال أثرها عمل عليها، فيفرق بين قليل الماء وكثره، وتغيره وعدمه، وبين مائع الطعام وجامده، وطول المكث وعدمه اهـ. وكذا في الدردير. قال المصنف رحمه الله: " ويجب غسل الإناء من ولوغ الكلب في الماء سبعا " قال: " إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات " اهـ، وقول المصنف: ويجب غسل الإناء إلخ المشهور في المذهب أن ذلك مندوب. قال في أقرب المسالك: " وندب إراقة ماء وغسل إنائه سبعا بلا نية ولا تتريب عند استعماله بولوغ كلب أو أكثر، لا طعام وحوض " اهـ. يعني أنه إذا ولغ كلب أو أكثر في إناء

ماء أو أكثر ندب إراقة ذلك الماء، وندب غسل الإناء سبع مرات تعبدا، إذ الكلب طاهر، ولعابه طاهر، ولا يفتقر غسله لنية لأنه تعبد في الغير، كغسل الميت، ولا يندب التتريب بأن يجعل في أولاهن أو الأخيرة أو غيرها تراب؛ لأن طرق التتريب مضطربة ضعيفة لم يعول عليها الإمام، مع كون عمل أهل المدينة على خلافه ومحل ندب غسله سبعا عند إرادة استعماله لا قبلها، والباء في قوله بولوغ سببية، والولوغ: إدخال لسانه في الماء وتحريكه أي لعقه، وأما مجرد إدخاله بلا حرمة أو سقوط لعابه أو لحسه الإناء فارغا فلا يسبغ، كما لو ولغ في حوض أو طعام ولو لبنا فإنه لا بأس به، ولا يراق ولا يغسل سبعا. وأشار بقوله: كلب أو أكثر إلى أنه لا يتعدد الغسل سبعا بولوغ كلب مرات، أو كلاب متعددة اهـ الدردير. وقال ابن جزي في القوانين: " المسألة الثانية في سؤر الكلب، ويغسل الإناء سبع مرات من ولوغه في الماء عند الأربعة، وزاد الشافعي التعفير بالتراب. وفي وجوب هذا الغسل واستحبابه قولان. وفي إراقة ما ولغ فيه قولان. وفي نجاسة ما ولغ فيه قولان. وفي غسله سبعا ون الولوغ في الطعام قولان. وفي تكرار الغسل لجماعة الكلاب ولتكرار الكلب الواحد قولان. وفي غسله سبعا من ولوغ الكلب المأذون في اتخاذه قولان. انتهى كلام ابن جزي. وقد تقدم لك جواب تلك الأقوال فيما بيناه كما في الدردير، وهو المشهور الذي به الفتوى. أما الجواب في الكلب المأذون أنه كغيره في استحباب الغسل والإراقة مطلقا، قال الحطاب: يعني أن الغسل لا يختص بالمنهي عن اتخاذه، بل يغسل من ولوغ المأذون في اتخاذه والمنهي عن اتخاذه. وهذا هو المشهور كما صرح ابن الفاكهاني في شرح العمدة، واقتصر عليه صاحب الوافي. قاله السيد في تصحيح ابن الحاجب. وقال في الشامل هو الأصح. وقيل يختص بالمنهي عن اتخاذه، وهما روايتان، قاله ابن عرفة، والعمل بالقول الأول وهو المشهور فتأمل اهـ.

قال المصنف رحمه الله: " وفي إلحاق الخنزير به، وفي إناء غير الماء والانتفاع بما فيه خلاف " وفي نسخة بحذف الفاء في قوله وفي إناء إلخ؛ لأن التي قبلها نابت عنها ولا حاجة إلى إعادتها. ثم إنه لما ذكر حكم غسل الإناء وإراقة الماء الذي ولغ فيه الكلب أراد أن يبين ما في الخنزير والإناء غير الماء إذا ولغ فيه الكلب، وهل الخنزير يلحق بالكلب فيكون حكمه كحكم الكلب أم لا، وهل الطعام كالماء أم لا؟ خلاف، فالجواب أنه إذا ولغ الخنزير لا يجب ولا يندب بولوغه غسل الإناء سبعا، ولا إراقة الماء، ولا طرح الطعام. وقد سبق آنفا عن الدردير أنه إذا ولغ الكلب في الطعام، أو لحس الإناء فارغا فلا يسبع، كما لو ولغ في حوض أو طعام ولو لبنا فإنه لا بأس به، وكذلك لا غسل ولا إراقة بولوغ الخنزير على المشهور في المذهب. وفي الحطاب: يعني أن الغسل خاص بالكلب، فلا يغسل الإناء من غيره وهو الظاهر من المذهب. قال ابن رشد: وهو الصحيح. وقيل يلحق به الخنزير؛ وهما روايتان. قاله ابن الحاجب وابن عرفة بناء على أن الغسل للتعبد أو للقذارة اهـ. وفي الخرشي: وقوله بولوغ كلب لا خنزير أو سبع فلا يستحب الغسل اهـ. وقد ظهر أن غسل الإناء سبعا وإراقة الماء مختص بالكلب فقط لا غير على المشهور. والله أعلم. قال المصنف رحمه الله: " ولا خلاف في نجاسة الدم المسفوح " يعني أن الدم المسفوح هو الذي يسيل عند موجبه من ذبح أو جرح أو فصد نجس. قال الله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} [البقرة: 173]. وقال: {أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} [الأنعام: 145] وغيرهما من الآيات. واعلم أن الدم المسفوح لا خلاف في نجاسته، وهو حرام اتفاقا لا يجوز أكله كالميتة ولحم الخنزير، فإذا أصاب الثوب أو البدن أو مكان الصلاة وجب إزالته، فإن صلى به

وجبت الإعادة في الوقت على المشهور إن كان الدم كثيرا كالدرهم البغلي فأكبر، وإلا فلا شيء عليه. قال في الرسالة: ويغسل قليل الدم من الثوب، أي وجوبا، وقيل ندبا وهو الصواب ولا تعاد الصلاة إلا من كثيره. وقليل كل نجاسة غيره وكثيرها سواء. ودم البراغيث ليس عليه غسله إلا أن يتفاحش اهـ. قال خليل عاطفا على النجس: " ودم مسفوح ولو من سمك وذباب " المواق عن ابن عرفة: مسفوح الدم نجس. وقال عز الدين: ويجب غسل محل الذكاة بالماء. وقال بعض الشيوخ: يجب أن يرفع بأنف البهيمة ليخرج الدم المسفوح. قوله ولو من سمك وذباب، قال ابن يونس: الدم عند مالك كله سواء: دم حيض أو سمك أو ذباب أو غيره يغسل قليله وكثيره اهـ. قال الحطاب: اختلف الناس في السمك هل له دم أم لا؟ فقال بعضهم: لا دم له، والذي ينفصل عنه رطوبة تشبه الدم، ولذلك لا تسود إذا تركت في الشمس كسائر الدماء، بل تبيض، لكن هذا القائل اعترض عليه، انظره في الحطاب إن شئت اهـ. قال المصنف رحمه الله: " والأوراث والأبوال والمني توابع، إلا أن يتغذى المأكول بنجاسة فينجس روثة وبوله لا لحمه " قوله والأوراث والأبوال، جمع روث وبول وهي فضلة الحيوان التي تخرج من أحد السبيلين، آدميا أو غيره، فإن كانت مما يؤكل لحمه كالإبل والبقر والغنم فلحمها وأراثها وأبوالها طاهرة، ما لم تتغذ بنجس وإن كانت تتغذى بالنجس فلحمها طاهر، وبولها وروثها نجاسة كأوراث محرم الأكل: الخيل والبغال والحمير والخنزير، وجميع ما يكره أكله كالسباع ونحوها فأوراثها وأبوالها نجس. وأما الطيور إن كانت تستعمل النجاسة فذرقها نجس وإلا فطاهر، وهي محمولة على الطهارة حتى يتبين خلافها. قال بعضهم: الطير محمول على الطهارة ... إن لم تكن في فمه القذارة

وأما ما يكره أكله كالذئب ونحوه ولبنه مكروه، وروثه وبوله نجس ولو لم يأكل النجاسة، كمحرم الأكل من الخيل وما عطف عليه. وأما الدجاج إن كانت تأكل النجاسة، كمحرم الأكل من الخيل وما عطف عليه. وأما الدجاج إن كانت تأكل النجاسة فذرقها نجس واللحم طاهر كالطير. وقال ابن جزي في القوانين الفقهية: وأما فضلات الحيوان، فإن كانت مما ليس له مقر كالدمع، والعرق واللعاب فهي طاهرة من كل حيوان، إلا أنه اختلف في لعاب الكلب وعرق ما يستعمل النجاسات، كشارب الخمر والجلالة، وإن كانت مما له مقر. فأما الأبوال والرجيع فذلك من ابن آدم نجس إجماعا إلا أنه اختلف في بول الصبي الذي لا يأكل الطعام، وأبوال سائر الحيوانات تابعة للحومها في المذهب، فبول الحيوان المحرم الأكل نجس. وبول الحلال طاهر، وبول المكروه مكروه أي تحريما. وقال الشافعي: البول والرجيع نجس من كل حيوان اهـ. وقال الدردير: ومن النجس فضلة الآدمي من بول وعذرة، وفضلة غير مباح الأكل، وهو محرم الأكل كحمار، أو مكروهة كالهر والسبع. وفضلة مستعمل النجاسة من الطيور كالدجاج وغيره أكلا أو شربا، فإذا شربت البهائم من الماء المتنجس أو أكلت نجاسة ففضلتها من بول أو روث نجسة، وهذا إذا تحقق أو ظن، وأما لو شك في استعمالها، فإن كان شأنها استعمال النجاسة كالدجاج والفأرة والبقرة الجلالة حملت فضلتها على النجاسة، وإن كان شأنها عدم استعمالها كالحمام والغنم حملت على الطهارة اهـ. وأما قول المصنف: " والأرواث والأبوال والمني توابع " ليس على عمومه عند المالكية؛ لأن المني ليس بتابع للمأكول عندهم كما هو معلوم، بل إن المني والمذي والودي نجسة ولو من مباح الأكل، ولا يقاس على بول وعذرة من مباح الأكل، فإنهما طاهران ملحقان باللحم. قال في أقرب المسالك عاطفا على النجس: " والمني والمذي والودي ولو من مباح " قال الشارح: ومن النجس المني، وهو ما يخرج عند اللذة الكبرى عند الجماع ونحوه. والمذي وهو الماء الرقيق الخارج من الذكر أو فرج الأنثى

عند تذكر الجماع، والودي وهو ماء خاثر يخرج من الذكر بلال لذة، بل لنحو مرض أو يبس طبيعة، وغالبا يكون خروجه عقب البول، ولو كانت هذه الثلاثة من مباح الأكل، ولا تقاس على بول اهـ. وهذا وجه عدم متابعة المني للحم المأكول فتأمل. قال المصنف رحمه الله: " وفي لبنه وبيضه ورماد النجاسة والمستحجر من الخمر في أوانيها خلاف " قوله وفي لبنه، الضمير عائد إلى المأكول الذي يتغذى بنجاسة. يعني أن هذه الأشياء الأربعة اختلف العلماء في طهارتها ونجاستها والمشهور في المذهب الطهارة. أما اللبن من المأكول لحمه الذي يستعمل النجاسة قد تقدم أنه طاهر؛ لأن النجاسة لا تخالطه. والحاصل أن لبن المأكول لحمه كالأنعام والمكروه كالسباع طاهر ولو كان يستعمل النجاسة، لأن اللبن يخرج منها طاهرا خالصا من غير شةب ولا اختلاط بشيء من النجاسة ولا غيرها، وقد أباحه الله عز وجل في كتابه العزيز بقوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] صدق الله العظيم. وما قاله الخرشي عند قول صاحب المختصر: ولبن غيره تابع، وهو كذلك كالمصنف. ونص الخرشي على المختصر " يعني أن لبن غير الآدمي تابع للحمه، فإن كان محرم الأكل فلبنه نجس، وإن كان مكروه الأكل فلبنه مكروه شربه. وأما الصلاة به فجائزة كما قاله ابن دقيق العيد. ولبن الجن كلبن الآدمي لا كلبن البهائم، لجواز مناكحتهم، وجواز إمامتهم ونحو ذلك اهـ. الدردير على أقرب المسالك: " ومن الطاهر لبن الآدمي ولو كافرا، ولبن غير محرم الأكل ولو كان مكروها كالهر والسبع، بخلاف محرم الأكل كالخيل والحمير فلبنه نجس " اهـ. وأما بيض الجلالة فإنه طاهر. قال في المختصر: وبيضه ولو أكل نجسا إلا المذر والخارج بعد الموت، أي إلا بيض المذر وهو

ما تغير بعفونة أو زرقة أو صار دما فإنه نجس، أو خارج بعد الموت فإنه نجس أيضا. وقال الحطاب: وأما العرق والبيض وكذا اللبن فالخلاف فيها معروف بالطهارة والنجاسة والكراهة، حتى من اللآدمي وشارب الخمر. قال في التوضيح: والذي اختاره المحققون الطهارة اهـ. وقال ابن القاسم: لبن الجلالة طاهر. اللخمي: ومثله بيضها ولبن شاربة الخمر اهـ. وقال ابن جزي في القوانين: (فرع) في البيض إذا سلق فوجد فيه فرخ ميت لم يؤكل، وإذا أخرج بيضة من دجاجة ميتة لم تؤكل. وقال ابن نافع تؤكل إذا اشتدت، كما لو ألقيت في نجاسة اهـ. وأما رماد النجاسة فهو أيضا طاهر، ومثله المستحجر من الخمر في أوانيها كما تقدم عليه. انظر جواب النفراوي في أول الفصل عند قول المصنف الميتات والمسكرات إلخ. قال الدردير: وخمر خلل أو حجر، ورماد نجس ودخانه. قال الشارح: وكذا الخمر إذا خلل بفعل فاعل، أو تحجر أي صار كالحجر في اليبس بفعل فاعل يصير طاهرا، وأولى لو تخلل بنفسه أو تحجر بنفسه. ومن الطاهر رماد النجس كالزبل والروث النجسين، وأولى الوقود المتنجس فإنه يطهر بالنار، وكذا دخان النجس فإنه طاهر. ثم قال وما مشى عليه الشيخ ضعيف، والمراد بالشيخ صاحب المختصر خليل اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وفي الآدمي لا خلاف في نجاسة البول والعذرة والدم وشبهه، والقيء المتغير عن حال الطعام " يعني أنه قد تقدم أن البول والعذرة من الآدمي نجسان، والدم الكثير غير معفو عنه، ولا خلاف على ذلك عند المحققين. وقوله وشبهه أي كالقيح والصديد الكثيرين وكل ما لا يعفى عنه من النجاسة. وكذا من النجس القيء المتغير عن حال الطعام فهو نجس يجب غسله عن الثوب والجسد والمكان كما تقدم.

قال المصنف رحمه الله: " ولا خلاف في طهارة الدمع والبصاق والمخاط واللبن " وقد تقدم الكلام في هذه الأشياء المذكورة وكلها طاهرة لا خلاف في طهارتها. وفي المدونة: وعرق الدواب وما يخرج من أنوفها طاهر. العزية: كل حي فهو طاهر آدميا أو غيره، وكذلك عرقه ولعابه ومخاطه ودمعه، والبصاق كالمخاط كما نص بعضهم عليه اهـ. قال المصنف رحمه الله: " والمشهور نجاسة منية " أي مني الآدمي إنه نجس على المشهور، وهو كذلك كما تقدم الكلام عليه عند قول المصنف: والأرواث والأبوال والمني توابع، فراجعه إن شئت. قال رحمه الله: " وهل ينجس بالموت قولان " يعني هل الإنسان ينجس بالموت؟ فالجواب أنه لا ينجس بالموت، بل الآدمي طاهر حيا وميتا لإكرام الله له في قوله سبحانه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]. والخلاف الواقع في ميتة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. قال العلامة خليل في المختصر: " والنجس ما استثنى ولو قملة وآدميا والأظهر طهارته " قال الخرشي: يعني أن ميتة القملة نجسة لأن لها نفس سائلة، بخلاف البرغوث والبعوض والذباب ونحوها فإن ميتتها طاهرة لأن دمها منقول على المشهور. وأما ميتة الآدمي ولو كافرا فهي طاهرة على المعتمد. ومذهب ابن القاسم وابن شعبان وابن عبد الحكم نجاسته. وإلى الطهارة ذهب سحنون وابن القصار، واختاره القاضي عياض وابن رشد وغيرهما من الأشياخ. وإلى اختيار ابن رشد أشار المؤلف بقوله: والأظهر طهارته. قال عياض: لأن غسله وإكرامه يأبي تنجيسه، إذ لا معنى لغسل الميتة التي هي بمنزلة العذرة، ولصلاته، عليه السلام، على سهيل بن بيضاء في المسجد، ولما ثبت أنه، عليه السلام، قبل عثمان بن مظعون بعد الموت، ولو كان نجسا لما فعل، عليه السلام، ذلك، إلى غير ذلك. وقال الحطاب: ولم أر تشهير القول

المصدر به عند المؤلف، ولا من اقتصر عليه، بل أكثر أهل المذهب يحكيهما من غير ترجيح. ومنهم من رجح الطهارة، وإن أخذ اللخمي النجاسة من المدونة فقد أخذ عياض منها الطهارة وابن هارون، وهذا الخلاف لا يدخل عندي أجساد الأنبياء، بل يجب الاتفاق على طهارة أجسادهم، والخلاف في غير الأنبياء، وأما هم فأجسادهم بل جميع فضلاتهم طاهرة. والخلاف أيضا في طهارة ميتة الآدمي ونجاستها عام في المسلم والكافر اهـ. هذا، وقد جلبت لك بعض كلام الأشياخ من الاختلاف في طهارة ميتة الآدمي ونجاسته لتكون على بصيرة لتأخذ بالمشهور الذي اعتمد عليه المحققون، ولا يدخل شك ولا ريب في ذهنك. والمشهور الطهارة والله أعلم. قال المصنف رحمه الله: " والمسك طاهر " يعني أن المسك لا خلاف في طهارته وهو الدم المنعقد يوجد عند بعض الحيوان كالغزال، أي يشبه الغزال، قال ابن جزي في القوانين: والمسك طاهر إجماعا. قال المواق في شرح المختصر نقلا عن اللخمي: اتفقوا على طهارة المسك وإن كان خراج حيوان لاتصافه بنقيض علة النجاسة. قال إسماعيل: فأرة المسك ميتة طاهرة. الباجي: إجماعا لانتقالها عن الدم، كالخمر للخل اهـ. قال الشيخ خليل عاطفا في الطاهر: " ومسك فإرته " الخرشي: والمعنى أن من الطاهر المسك - بكسر فسكون - وهو دم منعقد استحال إلى صلاح، وكذا فأرته وهي وعاؤه الذي يكون فيه من الحيوان المخصوص؛ لأنه، عليه السلام، تطيب بذلك، ولو كان نجسا لما تطيب به، وبعبارة أخرى: المسك - بكسر فسكون - فارسي معرب، وتسميه العرب المشموم - خراج يتولد من حيوان كالغزال المعروف، ولا فرق بينهما إلا أن لهذه أنيابا نحو الشبر كأنياب الفيلة، ورجلاها أطول من يديها، توجد في الهند كما في الحطاب وبعد أن كان دما منعقدا يستحيل مسكا طيب الرائحة. وتوقف الشيخ زروق في

شرحه على هذا الكتاب في جواز أكل المسك بقوله: وانظر هل يجوز أكله كاستعماله؟ انظر ذلك فإني لم أقف فيه على شيء. قال الحطاب: لا ينبغي أن يتوقف في ذلك، وهو كالمعلوم من الدين بالضرورة، وكلام الفقهاء في باب الإحرام في أكل الطعام الممسك دليل على ذلك. والله أعلم. وأما فأفتى الشيخ سالم بطهارته بعد التوقف. انتهى الخرشي مع الاختصار. وطرف من الحطاب. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وإذا ماتت فأرة ونحوها في سمن جامد ونحوه طرحت وما حولها " وما ذكره المصنف في موت الفأرة في السمن الجامد وهو كذلك كما في الرسالة، إلا أن يطول مقامها فيه فإنه يطرح كله. قاله سحنون. وأما لو ماتت في المائع كالزيت فينجس كله، وإليه أشار المصنف بقوله: " وفي مائع ينجس ولا يطهر بغسله " وما ذكره مثل ما في الرسالة، ونصها: وما ماتت فيه فأرة من سمن أو زيت أو عسل ذائب طرح ولم يؤكل، ولا بأس أن يستصبح بالزيت وشبهه في غير المساجد، وليتحفظ منه، وإن كان جامدا طرحت وما حولها وأكل ما بقي. قال سحنون: إلا أن يطول مقامها فيه فإنه يطرح كله اهـ. قال النفراوي في الفواكه: قال خليل: وينجس كثير طعام مائع بنجس قل كجامد إن أمكن السريان، وإلا فبحسبه. والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا وقعت الفأرى في السمن فإن كان جامدا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعا فلا تقربوه " رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي. ومن ذلك مسألة ابن القاسم وهي: من فرغ عسر قلال سمن في زقاق، ثم وجد بقلة فأرة يابسة لا يدري في أي الزقاق فرغها، حرم أكل جميع الزقاق وبيعها، وهو كذلك على المشهور اهـ. قال المصنف رحمه الله: " وتطهر أواني الخمر بغسلها " وفي بعض النسخ: ولا تطهر، وهو خطأ، والصحيح ما قررناه في هذه النسخة وإن كان في ذلك قولان، قال

ابن جزي في القوانين: وفي طهارة الفخار من نجس غواص كالخمر قولان اهـ، وقد تقدم لنا الكلام في آنية الخمر أنها تطهر إذا تحجرت الخمر فيها أو خللت، كما نقلناه عن الشيخ أحمد النفراوي في شرح الرسالة عند قول مؤلفها: وحرم الله سبحانه شرب الخمر قليلها وكثيرها إلخ. قال الشارح المذكور: هذا حكم الخمر إذا استمرت على حالها، وأما لو تحجرت أو تخللت فإنها تطهر، ويجوز بيعها وشربها، ويطهر إناؤها تبعا لها ولو فخارا بغواص، ولو ثوبا، ويصلي به من غير غسل، بخلاف الثوب المصاب بالبول أو الدم فلا بد من غسله ولو ذهبت عين النجاسة. والفرق أن نجاسة الخمر عارضة بالشدة، ونجاسة نحو البول أصلية، ولا فرق في ذلك بين تخليلها بنفسها أو بفعل فاعل، وإن اختلف في الإقدام على تخليلها بالجواز والكراهة اهـ: انظر إن شئت بقية الكلام في الشرح المذكور. قال المصنف رحمه الله: " ويكفي في الصقيل كالسيف مبالغة المسح " قال خليل في المختصر عاطفا على عفي عنه: وكسيف صقيل لإفساده من دم مباح اهـ. قال الدردير: دخل بالكاف ما شابهه في الصقالة كمدية ومرآة وجوهر وسائر ما فيه صقالة وصلابة مما يفسده الغسل، يعني أن كل ما كان صلبا صقيلا وكان يخشى فساده بالغسل كالسيف ونحوه فإنه يعفى عما أصابه من الدم كفي الغزو ودم القصاص والذبح والنحر والعقر والصيد ونحوها مما هو مباح فيعفى عنه بالمسح دون الغسل. قال بعضهم: سواء أكان الدم كثيرا أم لا، مسحه أم لا على المعتمد. وفي التوضيح: قال مالك: ولا بأس بالسيف في الغزو وفيه دم أن لا يغسل. قال ويصلى به. قال عيسى في روايته عن ابن القاسم عن مالك: مسحه من الدم أو لم يمسحه. قال عيسى: يريد في الجهاد أو في الصيد الذي هو عيشه. انتهى كلام التوضيح.

فصل في بيان أحكام قضاء الحاجة وما يتعلق بذلك

ولما أنهى الكلام على أعيان النجاسات والطهارة أراد المصنف الانتقال إلى بيان آداب من يريد قضاء الحاجة، فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في بيان أحكام قضاء الحاجة وما يتعلق بذلك هذا الفصل معقود لآداب قضاء الحاجة مما يستحب على المكلف عند البول أو الغائط، وتسمى حاجة الإنسان. قال رحمه الله: " مريد البراز في الصحراء يطلب موضعا مطمئنا رخوا بعيدا عن الناس " وفي الحديث الصحيح عن المغيرة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب المذهب أبعد " وفي رواية لأبي داود: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد " اهـ. وقول المصنف رخوا والرخو: محل لين سهل كتراب ورمل. قال خليل: ندب لقاضي الحاجة جلوس، ومنع - أي كره - برخو نجس. قال الخرشي: والمعنى أنه يندب لمريد البول إذا كان المكان رخوا طاهرا الجلوس لأنه أقرب للستر، ويجوز له القيام إذا أمن الاطلاع، وإن كان رخوا نجسا منع الجلوس لئلا ينجس ثوبه، وتعين القيام حيث أراد البول في ذلك المحل، وأما لو أراد الغائط فإنه لا يجوز له القيام كما في التوضيح وغيره اهـ باختصار. قال المصنف رحمه الله تعالى: " لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها " وفي الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يوليها ظهره، شرقوا أو غربوا " اهـ. وفي العزية: وأن لا يستقبل القبلة ولا يستديرها إذا كان في الفضاء ولم يكن فيه ساتر، فإن كان فيه ساتر ففي منعه قولان، المختار منهما المنع. وأما فعله في المنزل فيجوز مطلقا، أعني سواء أكان هناك ساتر أم لا، أكان هناك مشقة أم لا اهـ.

ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: " ولا يكشف عورته حتى يدنو من الأرض " وفي الحديث الصحيح عن ابن عمر قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد حاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض " اهـ. قال الخليل في المختصر: وستر إلى محله. وقال في محل آخر: وبالفضاء تستر وبعد اهـ. قال الخرشي عليه: يعني أن من الآداب أن يديم الستر إلى محل خروج الأذى فيديمه إلى دنوه من الأرض إذا لم يخش على ثيابه وإلا رفع قبله ما لم يره أحد وإلا وجب الستر. قوله: وبالفضاء إلخ، أي وندب لمن أراد قضاء الحاجة في الفضاء أن يستتر عن أعين الناس بكشجرة، وأن يبعد لا يسمع له صوت ولا يرى له عورة اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويتقي الظل والشاطئ والراكد والجحر " يعني أنه يجب عليه أن يتجنب الملاعن. وفي الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اتقوا اللاعنين، قالوا وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم " اهـ. رواه مسلم وأبو داود. وعن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم: " اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل " رواه أبو داود. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبال في الجحرة لأنها مساكن الجن. رواه النسائي وأبو داود عن عبد الله بن سرجس اهـ. وفي المختصر: واتقاء جحر، وريح، ومورد، وطريق، وظل، وصلب اهـ. وفي العزية: وأن يجتنب الموضع الصلب والماء الدائم، وأن يغطي رأسه، وأن لا يتكلم إلا لمهم كخوف فوات نفس أو مال، وأن يتقي الريح والجحر والملاعن الثلاث، وهي مواضع جلوس الناس وطرقاتهم اهـ.

قال المصنف رحمه الله: " وفي الكنف يزيل عنه اسم الله تعالى " والكنف جمع كنيف، وهو المحل المعد لقضاء الحاجة في الدور، أو المواضع التي تعد لذلك ويسمى بالمرحاض، والحنفية، وبيت الماء؛ لأنه لا يخلو عن الماء غالبا. والمعنى أنه إذا أراد الدخول في الكنيف لا ينبغي أن يدخل فيه بشيء من أسماء الله تعالى، كالخاتم وقد روى أبو داود عن أنس قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء نزع خاتمه ". وقد نقل المواق عن الحاوي في شرح قول خليل: وبكنيف، نحى ذكر الله. وقال: قاضي الحاجة نحى اسم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقال الجزولي: من آداب الحدث أن لا يدخل الخلاء بما فيه اسم الله تعالى إكراما له، كالدرهم والخاتم وغير ذلك، كما كره مالك أن يعامل أهل الذمة بالدرهم عليه مكتوب اسم الله، لكن قال سند: جوز مالك أن يدخل الخلاء ومعه الدينار والدرهم عليه مكتوب اسم الله اهـ قلت: لعل هذا من باب الضرورات لأنها تبيح المحظورات. والله أعلم. قال المصنف رحمه الله: " يقدم رجله اليسرى قائلا باسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث ومن الرجس النجس ومن الشيطان الرجيم " وفي نسخة ومن النجس وهو خطأ، والصحيح ما قررناه. وفي الحديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال " اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث " رواه أنس في الصحيحين وروى فيهما زيادة " من الرجس النجس الشيطان الرجيم " وعن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول: باسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، قاله في غاية المأمول. وكذا في العزية. قال المصنف رحمه الله: " واليمنى في الخروج قائلا: الحمد لله الذي أذهب عني

الأذى وعافاني " وعن عائشة قالت: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: " غفرانك " اهـ، رواه أصحاب السنن. وفي المختصر: قال الدردير على أقرب المسالك: من الآداب أن يقدم حال دخوله الكنيف رجله اليسرى ويؤخرها حال خروجه منه، بأن يقدم في الخروج رجله اليمنى، ذلك عكس المسجد، فإنه يندب له تقديم اليمنى دخولا وتقديم اليسرى خروجا لشرفه، كما يندب في تنعله تقديم اليمنى وفي خلع النعال تقديم اليسرى. وأما المنزل فيقدم اليمنى دخولا وخروجا اهـ. قال المصنف رحمه الله: " ويجتهد في الاستبراء " يعني إذا قضى الإنسان حاجته وجب عليه الاستبراء بالسلت والنتر إن كانت بولا، أو بالاستنجاء أو الأحجار إن كانت غائطا لإزالة الأذى عن مخرجها، ولا يصلي بها وهي في جسده. قال خليل في المختصر: ووجب استبراء باستفراغ أخبثيه مع سلت ذكر ونتر خفا. كذا في أقرب المسالك. قال الدردير عليه: يجب على من قضى حاجته أن يستبرئ أي يخلص مجرى البول من ذكره بسلته بأن يجعل إصبعه السبابة من يده اليسرى تحت ذكره من أصله، والإبهام فوقه ثم يسحبه برفق حتى يخرج ما فيه من البول. والنتر بسكون التاء المثناه: جذبه. وندب أن يكون كل منهما برفق، وهو معنى قوله: أي الشيخ خليل خفا - بفتح الخاء - حتى يغلب على الظن خلوص المحل، ولا يتتبع الأوهام فإنه يورث الوسوسة وهي تضر بالدين اهـ. قال المصنف رحمه الله: " ويستجمر بثلاثة أحجار، وفي معناها كل جامد طاهر غير محترم، ويجزئ الواحد إن أنقى، ويزيد عليها إن احتاج، والماء أفضل كجمعهما " يعني فراغه من الاستبراء على الوصف المتقدم أنه يجب أن يستنجي ويستعمل الأحجار وترا. قال أبو محمد في الرسالة: وصفة الاستنجاء أن يبدأ بعد غسل

يده فيغسل مخرج البول، ثم يمسح ما في المخرج من الأذى بمدر أو غيره أو بيده، ثم يحكها بالأرض ويغسلها، ثم يستنجي بالماء ويواصل صبه، ويسترخي قليلا، ويجيد عرك ذلك بيده حتى يتنظف، وليس عليه غسل ما بطن من المخرجين، ولا يستنجي من ريح، ومن استجمر بثلاثة أحجار يخرج آخرهن نقيا أجزأه، والماء أطهر وأطيب وأحب إلى العلماء اهـ. وفي المختصر: وندب جمع ماء وحجر ثم ماء قال الخرشي عليه: يعني أنه يندب للمستنجي الجمع بين الماء ولو عذبا والحجر لإزالتهما العين والأثر، ولأن أهل قبا كانوا يجمعون بينهما فمدحهم الله تعالى بقوله: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] وقال تعالى: {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108] وإذا أراد أن يقتصر على أحدهما فالماء أفضل من الاقتصار على الحجر، فإن اقتصر على الحجر اجزأه مخالف الأفضل، لقوله عليه الصلاة والسلام: " فإنها تجزئ عنه " وقول ابن حبيب: لا تجزئ مع القدرة على الماء، مردود بما قبله ومثله تخصيص ما ورد وخصص ما ورد بالسفر وعدم ماء اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويتعين في المذي على المشهور، وهل يغسل منه جميع الذكر أو المخرج قولان " يعني أنه يتعين الماء بخروج المذي، وهو ماء أبيض رقيق يخرج عند اللذة بالإنعاظ عند الملاعبة أو التذكار كما تقدم. وفي الرسالة: الوضوء يجب لما يخرج من أحد المخرجين من بول أو غائط أو ريح أو لما يخرج من الذكر من مذي مع غسل الذكر كله منه، وهو ماء أبيض إلى آخر ما ذكرناه اهـ. قال أبو البركات الشيخ أحمد الدردير - عاطفا على ما يتعين عليه الماء -: ومذي بلذة مع غسل كل ذكره بنية، ولا تبطل الصلاة بتركها، وفي اقتصاره على البعض قولان. وحاصل المسألة أن خروج المذي من الرجل بلذة معتادة يوجب غسل جميع الذكر بنية على إحدى القولين كما تقدم اهـ.

قال أبو الضياء سيدي خليل عاطفا: وتعين في مني وحيض ونفاس وبول امرأة ومنتشر عن مخرج كثيرا ومذي بغسل ذكره كله ففي النية وبطلان صلاة تاركها أو تارك كله قولان اهـ. قال الخرشي: يعني اختلف هل تجب النية في غسل الذكر من المذي أو لا تجب فيه، وعلى القول بالوجوب لو تركها وغسله كله فهل تبطل الصلاة لترك واجب أم لا؟ قلت: قد أجاب الشيخ أحمد الدردير في أقرب المسالك بقوله: ولا تبطل الصلاة بتركها كما تقدم آنفا، وكذا لو ترك غسل ذكره كله بأن اقتصر على محل الأذى سواء غسله بنية أم لا، وعلى كلا الأمرين فالصلاة صحيحة، إلا أنه وجب عليه في الأمر الثاني أن يغسله كله بنية لما يستقبل، مراعاة للعراقيين القائلين بالاكتفاء بغسل محل الأذى، وعليه فيكمل غسل ذكره لما يستقبل من الصلوات. هذه خلاصة المسألة. والله أعلم بالصواب. انتهى مع زيادة الإيضاح. قال المصنف رحمه الله: " ويستجمر بشماله ويصب عليها الماء قبل ملاقاتها الأذى يبتدئ بقبله " وقوله: ويستجمر وفي نسخة ويستنجي بشماله. والاستجمار استعمال الحجارة لإزالة النجاسة أو المدر أو بكل طاهر يابس منق، والاستنجاء هو غسل مخرج الأذى بالماء المطلق، وكلتا النسختين صحيحة إلا أن الماء أفضل عند الاقتصار على أحدهما كما تقدم. وقوله: ويستنجي بشماله إلخ. قال الدردير في أقرب المسالك: واستنجاء، وندب بيسراه، وبلها قبل لقي الأذى كما في المختصر، ونصه: وبلها قبل لقي الأذى وغسلها بكتراب بعده اهـ. قال الخرشي: يعني أنه يندب بل باطن اليد اليسرى قبل ملاقاة النجاسة من بول أو غائط ليسهل إزالة ما تعلق بها من الرائحة، لأنها إذا لاقت النجاسة وهي جافة تعلقت الرائحة باليد وتتمكن منها.

ويندب أيضا غسل اليد بعد الاستنجاء بتراب أو رمل أو نحو ذلك مما يقلع الرائحة. وقول المصنف يبتدئ بقبله، وفي نسخة يبدأ بقبله. وقد تقدم الكلام أنه يبدأ بغسل مخرج البول قبل مخرج الأذى، ثم يمسح ما في المخرج من الأذى بمدر أو غيره أو بيده، ثم يحكها بالأرض ويغسلها، كما في الرسالة. فالحاصل أن الابتداء بالاستبراء وغسل قبله الدبر مندوب آخر لئلا ينجس يده من الذكر إذا مس مخرج الغائط قبل مخرج البول. النفراوي: ولذا لو كانت عادته قطر بوله عند مس دبره بالماء يؤخر غسل قبله؛ لأنه لا فائدة في التقديم حينئذ اهـ. قال المصنف رحمه الله: " فإن كان فيها خاتم فيه ذكر الله نقله إلى اليمنى " هذا لأنه قد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان " إذا دخل الخلاء ينزع خاتمه " رواه أبو داود عن أنس اهـ. وهو دليل على أنه يحرم دخول الخلاء وفي إصبعه خاتم إذا كان فيه شيء من أسماء الله أو شيء من أسماء الأنبياء. ولا يجوز الاستنجاء وهو في يده، بل الواجب نقله إلى اليمنى كما قال المصنف. نعم وقد نقل الشيخ عبد السميع الآبي في شرح العزية عن ابن العربي أنه قال في آداب الاستنجاء: لا يحل لمسلم أن يستنجي وفي يده خاتم فيه اسم الله، وقد كان لي خاتم منقوش فيه محمد العربي فتركت الاستنجاء به لحرمة اسم محمد، وإن لم يكن ذلك الكريم الشريف ولكن رأيت للاشتراك حرمة، ثم استدل بنص المصنف الذي هو قوله: فإن كان فيها خاتم فيه ذكر الله نقله إلى اليمنى. قال التتائي: وجوبا، ثم قال: فكل من النقلين يؤيد القول بالتحريم. وقد مر حرمة الاستنجاء بالمكتوب الذي فيه الحروف مطلقا، وهو أيضا يرجح القول بالحرمة اهـ. هذا، ونسأل الله التوفيق بمنه وكرمه آمين. ولما أنهى الكلام على آداب قضاء الحاجة أراد الانتقال والشروع في بيان فرائض الوضوء فقال رحمه الله تعالى:

فصل في بيان فرائض الوضوء

فَصْلٌ في بيان فرائض الوضوء اعلم أن هذا الفصل عقده المصنف في بيان فروض الوضوء. والفروض جمع فرض جمع القلة، وأما الفرائض جمع فريضة، وهي جمع الكثرة، بمعنى مفروضة. والفرض هو ما يثاب على فعله ويترتب العقاب على تركه، كالصلاة والصوم. والوضوء - بضم الواو - هو الفعل، وبالفتح اسم للماء. وهو - أي الوضوء - مشتق من الوضاءة، وهي لغة الحسن والنظافة، واصطلاحا هو طهارة مائية تتعلق بأعضاء مخصوصة على وجه مخصوص وهي الأعضاء الأربعة اهـ. ذكره الصاوي. اعلم أن الوضوء ليس من خصائص هذه الأمة على المعتمد، خلافا لمن قال: إنه من خصائصها، فهو ضعيف. قال الصفتي: والصحيح أن الوضوء فرض صبيحة ليلة الإسراء حين جاء جبريل فتوضأ وعلم النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء، ذكره جماعة من أهل الحديث، خلافا لبعض الشراح اهـ. ومن فضائل الوضوء تكفير الذنوب، ورفع الدرجات، قال عليه الصلاة والسلام: " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات. قالوا بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط " اهـ. رواه مسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة. وعن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما منكم من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يقول حين يفرغ من وضوئه: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء " رواه مسلم

وأصحاب السنن. وزاد الترمذي: " اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين " اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى في بيان فرائض الوضوء: " فروض الوضوء " سبع على المذهب، الأولى: " غسل الوجه " والدليل على فرضيته قوله تعالى في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} [المائدة: 6] يعني أنه يجب على المتوضئ أن يغسل جميع الوجه طولا وعرضا. وكأن السائل سأل ما طول الوجه وما عرضه؟ فأجاب رحمه الله بقوله: حده طولا: " من منابت شعر الرأس المعتاد إلى آخر الذقن أو اللحية " يعني قد أخبر أن حد الوجه طولا من منابت شعر الرأس المعتاد إلى آخر الذقن للأمرد أو إلى آخر اللحية لمن له شعر اللحية، فيجب على الأغم - وهو من استرخى شعره - غسل بعض شعر رأسه لأنه من الوجه. قال الدردير: فيجب عليه أن يدخل في غسله ما نزل عن المعتاد، ولا بد من إدخال جزء يسير من الرأس، لأنه مما لا يتم الواجب إلا به. ولا يجب على الأصلع - وهو من انحسر شعر رأسه إلى اليافوج - أن يغسل ما انحسر عنه الشعر؛ لأنه من الرأس لا من الوجه، ويجب عليه أن لا ينتهي في غسله إلى منابت شعره اهـ. وأجاب المصنف أيضا في حد عرض الوجه فقال: " و " حده عرضا " من الأذن إلى الأذن " قال الدردير: وحده عرضا من وتد الأذن على الوتد الآخر، فلا يدخل الوتدان في الوجه ولا البياض الذي فوقهما، ولا شعر الصدغين، ويدخل فيه البياض الذي تحتهما لأنه من الوجه.

والحاصل أن بعض الصدغ من الوجه، وهو العظم الناتئ فما دونه، وبعضه من الرأس وهو ما فوقه من الشعر، فما بين شعر الصدغين من الوجه قطعا، وشعر الصدغين من الرأس قطعا، وما فوق الوتدين من البياض من الرأس كذلك، وما تحت الوتدين من الوجه فيغسل. ودخل في الوجه الجبينان وهما المحيطان بالجبهة يمينا وشمالا اهـ. نقله الصاوي عن حاشية العدوي. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " الفريضة الثانية من فرائض الوضوء " غسل اليدين مع المرفقين " يعني أنه أخبر أن غسل اليدين إلى المرفقين من فرائض الوضوء والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} كما تقدم في الآية الشريفة. قال عبد السميع في شرح العزية: نبه بمع إشارة إلى أن الغاية في الآية داخلة. والمرفق بكسر أوله وفتح ثالثه: آخر الذراع المتصل بالعضد اهـ. وفي الرسالة: ثم يغسل يده اليمنى ثلاثا أو اثنتين، يفيض عليها الماء ويعركها بيده اليسرى، ويخلل أصابع يديه بعضها ببعض، ثم يغسل اليسرى كذلك ويبلغ فيهما بالغسل إلى المرفقين يدخلهما في غسله. وقد قيل إليهما حد الغسل، فليس بواجب إدخالهما فيه، وإدخالهما أحوط لزوال تكلف التحديد اهـ. قال المصنف رحمه الله: " و " الفريضة الثالثة من فرائض الوضوء: " مسح جميع الرأس مباشرة " يعني أن مسح جميع الرأس من فرائض الوضوء. والدليل على ذلك قوله تعالى {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ} قال الدردير على أقرب المسالك: الفريضة الثالثة مسح جميع الرأس، من منابت الشعر المعتاد من المقدم إلى نقرة القفا، مع مسح شعر صدغيه مما فوق العظم الناتئ في الوجه. وأما هو فلا يمسح بل يغسل في الوجه. ويدخل في الرأس البياض الذي فوق وتدي الأذنين كما مر، ومع مسح ما استرخى من الشعر ولو طال جدا، وليس على الماسح

من ذكر أو أنثى نقض مضفوره، ولو اشتد الضفر ما لم يكن بخيوط كثيرة، وإلا نقض لأنها حائل، واغتفر الخيطان. وأما الغسل فلا بد فيه من نقض ما اشتد ضفره ولو بنفسه بحيث لا يظن سريان الماء في خلاله، كالمضفور بخيوط كثيرة، وأدخل الماسح يده وجوبا تحت الشعر المستطيل في رد المسح، إذا كان لا يحصل التعميم إلا به. ومحل قولهم الرد سنة أي بعد التعميم، ذكره الأجهوري، ورد بأن جميع نصوص أهل المذهب على أن الرد بعد مسح ظاهر الشعر أولا سنة، ولا يجب رد أصلا اهـ. قال في الرسالة: ثم يأخذ الماء بيده اليمنى فيفرغه على باطن يده اليسرى، ثم يمسح بهما رأسه يبدأ من مقدمه من أول منابت شعر رأسه وقد قرن أطراف أصابع يديه بعضهما ببعض على رأسه وجعل إبهامه على صدغيه، ثم يذهب بيديه ماسحا إلى أطراف شعر رأسه مما يلي قفاه، ثم يردهما إلى حيث بدأ، ويأخذ بإبهاميه خلف أذنيه إلى صدغيه، وكيفما مسح أجزأه إذا أوعب رأسه. الحطاب: والمشهور من المذهب أن مسح جميعه واجب، فإن ترك بعضه لم يجزه. وقال ابن ناجي في شرح قول الرسالة: وكيفما مسح أجزأه إذا أوعب رأسه: ظاهر كلام الشيخ أنه إن ترك بعضه وإن قل لا يجزئه، وهو كذلك عند مالك اهـ. قال الشيخ يوسف الصفتي: تنبيه: الدليل لنا على وجوب مسح جميع الرأس التمسك بظاهر القرآن وفعله عليه الصلاة والسلام، ففي الموطأ والصحيحين: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه " فهذا صريح في أنه مسح جميعه. وأما القرآن فقوله تعالى: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ} لأن الباء للإلصاق، وأما كونها للتبعيض فلم يصححه أهل اللغة. وقال ابن جني: لا يعرفه أصحابنا البصريون. وقال بعضهم: لم أر أحدا نقله عن الكوفيين ولا عن غيرهم اهـ.

وعلى ما تقرر من أن الباء هي للإلصاق (¬1) أشار به المصنف في قوله: " مباشرة " أي بيديك ملاصقا بهما على رأسك، وإليه أشار صاحب الرسالة في صفة المسح بقوله: وقد قرن أطراف أصابع يديه بعضها ببعض على رأسه إلى آخر كلامه، فإن ترك مسح جميع الرأس بطل المسح على المشهور في المذهب. قال المصنف رحمه الله: " و " الفريضة الرابعة من فرائض الوضوء: " غسل الرجلين مع الكعبين " يعني أن غسل الرجلين مع الكعبين من فرائض الوضوء كما سبق في الآية الكريمة. وقال الخرشي: ووجوب غسل الرجلين ثابت بالكتاب والسنة والإجماع والقياس. قال الدردير على أقرب المسالك: الفريضة الرابعة غسل جميع الرجلين، أي القدمين مع إدخال الكعبين في الغسل، وهما العظمان النلتئان، أي البارزان أسفل الساق تحتهما مفصل الساق. والمفصل بفتح الميم وكسر الصاد المهملة واحد المفاصل، وبالعكس اللسان. ويجب تعهد ما تحتهما كالعرقوب والأخمص بالغسل وكذا سائر المغابن. أي وجميع ما لا يكاد يداخله الماء بسرعة فليبالغ بالعرك مع صب الماء كما في الرسالة اهـ. قال المصنف رحمه الله: " وفي تخليل الأصابع خلاف " قال في المختصر: وندب تخليل أصابعها: يعني أن تخليل أصابع الرجلين مندوب على المشهور في المذهب، ومقابله أنه يجب وهو ضعيف، وإن رجحه بعضهم. وفي الدردير: وندب تخليل أصابع الرجلين. يبدأ ندبا بخنصر اليمنى ويختم بإبهامها من أسفلها بسبابته، ثم يبدأ بإبهام اليسرى ويختم بخنصرها كذلك. والدلك باليد اليسرى اهـ. وقال في العزية: وندب تخليل أصابعهما: قال الشارح: وإنما كان التخليل مندوبا لا واجبا لأن شدة التصاق ¬

(¬1) وقيل ليس هومباشرة بل هو مقصد آخر في كتب النحو اهـ.

الأصابع صيرها كالعضو الواحد، وهذا حكمها في الوضوء، وأما في الغسل فالتخليل واجب على أقوى القولين اهـ. وفي الرسالة: وإن شاء خلل أصابعه في ذلك، وإن ترك فلا حرج، والتخليل أطيب للنفس فلا يبقى معه شك. وفي الأخضري: ويجب تخليل أصابع اليدين، ويستحب في أصابع الرجلين. فقد بان لك ان المشهور في تخليل أصابع الرجلين الندب، والله أعلم. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " الفريضة الخامسة من فرائض الوضوء: " الموالاة مع الذكر والقدرة " يعني أن الفريضة الخامسة من فرائض الوضوء الموالاة، بشرط الذكر والقدرة، وتسقط مع العجز والنسيان. وقد اختلف أهل المذهب في وجوب الموالاة وسنيتها كما في المختصر، والمشهور الوجوب. قال في أقرب المسالك: وموالاة إن ذكر وقدر. وقال الشارح: الفريضة السادسة الموالاة بين أعضاء الوضوء بأن لا يتراخى بينهما، والتعبير بالموالاة أولى من التعبير بالفور، لأنه يوهم العجلة حين غسل الأعضاء، وليس هو المراد. ومحل وجوب الموالاة إن كان ذاكرا قادرا عليها، فإذا فرق بين الأعضاء اختيارا مع القدرة عليها بطل ما فعله من الوضوء وأعاده بالنية، وإن فرق ناسيا أنه في حال الوضوء، أو عاجزا عنها ففيه تفصيل، وإليه أشار المصنف رحمه الله بقوله: " ففي النسيان يبني مطلقا، وفي العجز ما لم يطل الفصل " يعني إنما يبني الناسي مطلقا بنية الإتمام كالعاجز إن لم يفرط، وإلا بنى ما لم يطل بجفاف عضو وزمن اعتدالا، كالعامد. وقال الشارح: يعني أن من فرق بين الأعضاء ناسيا كونه في وضوئه فإنه يبنى على ما فعل، طال الزمن أو لم يطل، ولو أكثر من نصف النهار بنية إتمام الوضوء وهو معنى الإطلاق. وأما لو فرق عاجزا عن إكمال الوضوء، لم يكن مفرطا في أسباب العجز كما لو أعد ماء كافيا لوضوئه فأهريق منه، أو غصب، أو أكره على عدم الإتمام فإنه يبني كالناسي مطلقا طال أو لم يطل، وإن كان مفرطا كما لو أعد من

الماء ما لا يكفيه ولو ظنا ولم يكفه، فإنه يبني على ما فعل ما لم يطل الفصل، وصار حكمه حكم العامد المختار، كالذي يغسل بعض الأعضاء بمكان ثم ينتقل لتكميله بمكان آخر، أو استمر في مكانه تاركا لتكميل وضوئه قصدا بلا رفض، فإن طال ابتدأ وضوءه وجوبا لعدم موالاة، والطول يقدر بجفاف العضو الأخير لزمن العدل. أي الذي لا حرارة به ولا برودة فيه ولا شدة هواء، ويعتبر أيضا اعتدال العضو أي توسطه بين الحرارة والبرودة احترازا من عضو الشاب والشيخ الكبير السن. ولا بد من اعتبار اعتدال المكان أيضا بأن لا يكون القطر حارا ولا باردا انتهى. قاله الدردير على أقرب المسالك. انظر الصفتي عند قول عبد الباري: والفور، تجد هناك جل ما قررناه فيما نقله عن الخرشي والحاشية. ثم ذكر المصنف رحمه الله الفريضة السادسة وذكرها على خلاف أسلوبه فقال: " والنية شرط " أخبر رحمه الله أن النية شرط، لو قال والنية فرض، أو قال ونية رفع الحدث في ابتدائه أو استباحة ما منعه، أو أداء الفرض كما فعل غيره لكان أحسن؛ لأن التعبير بالشرط يوهم عدم الفريضة؛ لأن الشرط غير الفرض على المعروف، وهو خارج عن الماهية، والفرض داخل في الماهية. هذا هو المشهور (¬1). وقد قال بعضهم في تعليقة على هذا الكتاب: اعلم أن كتاب الإرشاد ألفه صاحبه على طريقة مالكية العراق، فهو يمثل أسلوبهم ويمشي على ما رجحوه من الروايات واستظهروه من الأقوال مما يخالف ما عرفه متأخرو المالكية الذين اقتصروا على مختصر الشيخ خليل وشروحه وحواشيه، فإذا رأى القارئ شيئا هنا يخالف ما في المختصر أو ¬

(¬1) وفي القاموس المحيط: (الشرط إلزام الشيء والتزامه)، وهو معنى الفرض. والشرط واللزوم والركن والفرض، وكل هذا يرجع إلى مقصد واحد. اهـ مصححه.

الرسالة، أو العزية فليحمل على تخالف طريقتي العراقيين وغيرهم. وهذه أهم فوائد هذا المتن مع وضوح عبارته وخلوها من الحشو والتعقيد اهـ. قال المصنف رحمه الله: " ففي طهارة الحدث ينوي به رفع الحدث أو استباحة ما يمنعه " وفي نسخة في طهارة بلا زيادة الفاء. وما قررناه أثبت، يعني أنه المترتب على الأعضاء أو أستباحة ما منعه الحدث، أو يقصد أداء فرض الوضوء. والأولى ترك التلفظ بذلك؛ لأن حقيقة النية بالقلب لا علاقة لها باللسان اهـ الدردير. ثم اعلم أن المقصود بالنية في جميع الأعمال تمييز العبادات عن العادات، وتمييز بعض العبادات عن بعضها، ولذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " رواه الشيخان. قال المصنف رحمه الله: إن المتوضئ ينوي ما ذكر من رفع الحدث ونحوه: " عند غسل الوجه، وقيل عند المضمضة " يعني أنه اختلف الأئمة في أي عضو ينوي عنده المتوضئ. قيل عند غسل الوجه وهو المشهور. وقيل عند المضمضة. وقيل عند غسل اليدين حين الشروع في الوضوء لئلا يخلو غسل اليدين عن النية. وقد علمت أن المشهور الذي عليه أهل المذهب أنه ينوي عند غسل الوجه. قال الشيخ صالح عبد السميع في هداية المتعبد: النية هي قصد الشيء مقرنا بفعله، فإن كان ذلك الشيء وضوءا فينوي عند غسل الوجه استباحة الصلاة أو رفع الحدث أو الفريضة، ومحلها القلب، وتكون عند أول مفعول كالوجه في الوضوء، وعند تكبيرة الإحرام في الصلاة اهـ. وقوله ففي طهارة الحدث إلخ أما طهارة الخبث فلا نية لها. إزالة نجاسة، إلا المذي ففي وجوب النية في غسل الذكر منه وعدمها قولان أرجحهما عدم الوجوب كما تقدم. قال المصنف رحمه الله تعالى: " واستدامتها شرط إلى آخره، ولا يضره

اختلاسها ما لم يقصد رفضها " يعني أنه قد أخبر أن الاستمرار في نية الوضوء وإجرائها في القلب من أوله إلى آخره شرط في الإجزاء، إلا أنه يغتفر ذهابها عن القلب بعد الإتيان بها، وإليه أشار صاحب المختصر: " وعزوبها بعده ورفضها مغتفر " قال الخرشي عليه: والمعنى أن الذهول عن النية بعد الإتيان بها في محلها عند غسل الوجه مغتفر لمشقة استصحابها، وإن كان هو الأصل: والمسألة الثانية رفض النية، وهو لغة الترك، والمراد به هنا تقدير ما وجد من العبادات والنية كالعدم، وذكر المؤلف أنه مغتفر أيضا بعد كمال الوضوء أو في أثنائه إذا رجع وكمله بنية رفع الحدث بالقرب على المشهور، لا إن لم يكمله، أو كمله بنية التبرد، أو بعد طول. والحج كالوضوء عكس الصلاة والصوم، فإن رفض النية فيهما غير مغتفر. انظر فيه بقية الكلام اهـ. قال العلامة الشيخ يوسف بن سعيد الصفتي: فرع: من ذهب إلى الميضأة ليتوضأ فلما وصل إليها توضأ ولم يستحضر النية أجزأه قصده الأول، وكذا من أمر زوجته أو خادمه أن يضع له الماء ليتوضأ ولم يستحضر النية عند أخذه ذلك، لأن طلبه الماء قرينة على قصد الطهارة، وهو عين النية كما في الشبرخيتي اهـ. وفي أقرب المسالك: ولا يضر عزوبها بخلاف الرفض في الأثناء لا بعده كالصلاة والصوم. يعني أن عزوب النية أي ذهابها بعد أن أتى بها في أوله بأن لم يستحضرها عند فعل غير الفرض الأول لا يضر في الوضوء، بخلاف الرفض، أي الإبطال في أثنائه بأن يبطل ما فعله منه، كأن يقول بقلبه أبطلت وضوئي فإنه يبطل على الراجح، ويجب عليه ابتداؤه إن أراد به صلاة ونحوها، بخلاف رفضه بعد إتمامه فلا يضر، وجاز له أن يصلي به، إذ ليس من نواقضه إبطاله بعد الفراغ منه. ومثل الوضوء الغسل. وأما الصلاة والصوم فيرتفضان في الأثناء قطعا، وعليه القضاء والكفارة في الصوم لا بعد تمامها على أظهر القولين المرجحين. وأما الحج والعمرة فلا يرتفضان مطلقا. ويرتفض التيمم مطلقا ما لم يصل به لضعفه اهـ.

وقد نظم ذلك الشيخ يوسف بن سعيد الصفتي رحمه الله بقوله: والغسل الوضوء في الأثناء ... ارتفضا فقط بلا خفاء كالصوم والصلاة في المشتهر ... ومثله اعتكافهم في الأظهر تيمم يرفض يا ذا مطلقا ... هذا هو القول الذي قد ارتقى والحج والعمرة مطلقا فلا ... يرتفضان فافهمن ما نقلا ثم قال المصنف رحمه الله: " و " الفريضة السابعة من فرائض الوضوء: " الدلك في المغسول كانت صغرى أو كبرى، والغسل مرة يسقط الفرض إن أوعب " يعني أخبر المصنف أن الفريضة السابعة من فرائض الوضوء الدلك، وهو إمرار اليد على العضو مع الماء، ولا يشترط مقارنته للصب، بل الدلك عقب صب الماء، وهو أصح الأقوال. قال الحطاب: فأما حقيقة الدلك في الوضوء والغسل فهي إمرار اليد على العضو. قال في المدونة: وإذا انغمس الجنب في نهر ينوي به الغسل لم يجزه حتى يمر بيديه على جميع جسده، وكذلك لا يجزيه الوضوء حتى يمر بيديه على مواضع الوضوء. وقال أبو البركات الشيخ أحمد الدردير: وذلك خفيف بيد، ثم قال: وهو إمرار اليد على العضو ولو بعد صب الماء كما قاله ابن أبي زيد، وهو المعتمد. والمراد باليد باطن الكف، ويندب أن يكون الدلك خفيفا مرة واحدة، ويكره التشديد والتكرار لما فيه من التعمق في الدين المؤدي للوسوسة. وقال الصفتي في الحاشية عند قول عبد الباري: والتدليك، أي في المغسول، ولا يسقط بالنسيان، وتجوز الاستنابة عليه لضرورة، وينوي المستنيب دون النائب، وتمنع الاستنابة عليه لغير ضرورة اتفاقا، فإن وقع ففي الإجزاء وعدمه قولان مشهوران. وأما الاستنابة على صب الماء فجائزة اتفاقا ولو لغير ضرورة، لما ورد " أن المغيرة بن شعبة صب على النبي صلى الله عليه وسلم الماء وهو يتوضأ " وقد تجب الاستنابة كالأقطع. ويكفي في الدلك غلبة الظن على المعتمد، ولا يشترط اليقين. أفاده

سنن الوضوء

العدوي في حاشيته على الخرشي. وقال الرماصي محشى التتائي: متى تعذر الدلك باليد سقط من أول وهلة، ولا تجب استنابة ولا غيرها، ويكفي وصول الماء، وهو سعة، ودين الله يسر، خصوصا والدلك مختلف فيه. قال العدوي: وكلام الرماصي هو المعتمد اهـ. نقله عن العدوي. والله أعلم. سنن الوضوء ولما أنهى الكلام على فرائض الوضوء شرع في الكلام على سننه فقال رحمه الله: " وسننه " أي سنن الوضوء، وهي ثمانية على المشهور: الأولى: " غسل اليدين " إلى الكوعين عند الشروع. وفي أقرب المسالك: وسننه غسل اليدين إلى الكوعين قبل إدخالهما في الإناء إن أمكن الإفراغ وإلا أدخلهما فيه، كالكثير والجاري. وندب تفريقهما. وفي العزية: سننه ثمان: الأولى: غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء، وينوي بغسلهما التعبد، ويغسل كل واحدة على حدتها ثلاثا اهـ. قال المصنف رحمه الله: " قبل إدخالهما في الإناء ما لم يكن بهما أذى فيجب " يعني أخبر أن من أراد الوضوء يندب له أن يغسل يديه ثلاثا قبل إدخالهما في الإناء إن أمكنه ذلك إلا إذا كان بهما أذى، أي نجاسة فيجب عليه غسلهما قبل إدخالهما في الإناء لئلا ينجس الماء بإدخالهما فيه قبل غسلهما، وإذا لم يكن بهما أذى فإنه ينوي عند غسلهما التعبد. وفي حاشية الصفتي: اعلم أن كل سنة تقدمت على محل الفرض كغسل اليدين للكوعين، والمضمضة، والاستنشاق، والاستنثار، فلا بد لها من نية، أي فالسنة تتوقف على النية. وأما ما تأخر منها عن الشروع في الفرض فنية الفرض تشمله كالفضائل اهـ.

قال المصنف رحمه الله: " و " السنة الثانية من سنن الوضوء: " المضمضة " يعني أخبر أن السنة الثانية من سنن الوضوء المضمضة، وهي إدخال الماء في الفم ثم يخضخضه ويمجه. وظاهر كلامهم أن سنيتها تحصل بمرة، وأن الثانية والثالثة كل منهما مستحب كما يأتي عن المصنف قوله: وتكرار المغسول مرتين بعد سقوط الفرض. وهنا نعبر بعد حصول السنة بمرة واحدة. وفي الرسالة: ويجزئه أقل من ثلاث في المضمضة والاستنشاق كما هو معلوم. قال المصنف رحمه الله: " و " السنة الثالثة من سنن الوضوء: " الاستنشاق " وهو جذب الماء بنفسه - بفتح الفاء - لداخل أنفه. قال بعضهم: ليخرج ما في الخيشوم من الأوساخ المانعة من إخراج الحروف على هيئتها قلت: المعتمد في المضمضة والاستنشاق أن يختبر حال الماء من طعمه أو ريحه أو نحو ذلك وفي الدردير: والثالثة: الاستنشاق، وهو إدخال الماء في الأنف وجذبه بنفسه إلى داخل أنفه. وندب فعل كل من هاتين السنتين بثلاث غرفات، بأن يتمضمض بثلاث، ثم يستنشق بثلاث، وهذا معنى قول الشيخ أي خليل: وفعلهما بست أفضل. أي أفضل من أن يفعلهما بثلاث غرفات يتمضمض ويستنشق بكل غرفة منها، أو بغرفتين، أو بغير ذلك، كما قال: وجاز أن إحداهما بغرفة. وندب للمفطر أن يبالغ في المضمضة والاستنشاق، وإيصال الماء إلى الحلق وإلى آخر الأنف. وكرهت المبالغة للصائم لئلا يفسد صومه، فإن بالغ ووصل الماء للحلق وجب عليه القضاء اهـ. " و " السنة الرابعة من سنن الوضوء الاستنثار، وهو دفع الماء من الأنف بنفسه، مع جعل السبابة والإبهام من يده اليسرى على أنفه. وإليه أشار المصنف بقوله: " يستنثر بشماله " يعني أن الاستنثار بيده اليسرى من تمام السنة. وقيل مستحب. وفي الرسالة:

ثم يستنشق بأنفه المائ ويستنثره ثلاثا، يجعل يده على أنفه كامتخاطه. ويجزئه أقل من ثلاث في المضمضة والاستنشاق، وله جمع ذلك في غرفة واحدة والنهاية أحسن اهـ. قال المصنف رحمه الله: " ويجزيان بغرفة " يعني أن المضمضة والاستنشاق يكفيان بغرفة واحة كما تقدم آنفا، لكن فعلهما بست غرفات أفضل كما في المختصر، ولذا قال المصنف: " وإفراد كل بغرفة أفضل " وقد تقدم لنا بيان جميع ذلك فراجعه إن شئت. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " السنة الخامسة من سنن الوضوء: " مسح الأذنين بماء جديد ظاهرا وباطنا " يعني أن مسح الأذنين ظاهرهما وباطنهما بماء جديد غير الماء الذي مسح سنة على حدة، وتجديد الماء لهما سنة على حدة. وصفة المسح المستحبة أن يمسح ما يلي الوجه بالسبابتين، وما يلي الرأس بالإبهامين، وذلك بماء غير الماء الذي مسح به الرأس كما تقدم. وقد ذكر المصنف هنا سنتين معا من سنن الوضوء وهما السنة الخامسة والسادسة، وهما مسح الأذنين وتجديد الماء لهما. وأما ما يأتي في قوله: والبدء بمقدم الرأس، فإنه ليس بسنة بل هو من فضائل الوضوء على المشهور. ثم ذكر السنة السابعة من سنن الوضوء فقال رحمه الله تعالى: " و " من السنة في المذهب: " الترتيب على المشهور " يعني أن السنة السابعة من سنن الوضوء الترتيب بين فرائضه: فيغسل الوجه قبل ذراعيه، وذراعيه قبل مسح الرأس، ومسح الرأس قبل الرجلين، هكذا. وما ذكره المصنف من أن الترتيب سنة هو المشهور. وقيل إنه مستحب. وروي عن مالك أنه واجب، وعليه فلو نكس بأن غسل يديه - أي

ذراعيه - قبل الوجه كان وضوؤه باطلا إن لم يأت بالمنكس ثانيا، لكن العمل بالمشهور كما قد علمت. وفي الدردير على أقرب المسالك: فإن نكس بأن قدم فرضا على موضعه المشروع له كأن غسل اليدين قبل الوجه أو مسح رأسه قبل اليدين أو قبل الوجه أعاد المنكس استنابا وحده مرة، ولا يعيد ما بعده إن طال ما بين انتهاء وضوئه وتذكره طولا مقدرا بجفاف العضو الأخير في زمان ومكان اعتدالا، فإن لم يبعد فعله مرة فقط مع تابعه شرعا، فلو بدأ بذراعيه ثم بوجهه فرأسه فرجليه، فإن تذكر بالقرب أعاد الذراعين مرة، ومسح الرأس وغسل رجليه مرة مرة، سواء نكس سهوا أو عمدا، وإن تذكر بعد طول أعاد الذراغين فقط مرة إن نكس سهوا، واستأنف وضوءه ندبا إن نكس عمدا ولو جاهلا، ولو بدأ برأسه ثم غسل يديه فوجهه أعاد اليدين والرأس مطلقا، ثم يغسل رجليه إن قرب وإلا فلا، ولو بدأ برجليه فرأسه فيديه فوجهه أعاد ما بعد الوجه على الترتيب الشرعي مطلقا قرب أو بعد؛ لأن كل فرض من الثلاثة منكس، ولا يعيد الوجه إلا إذا نكس عمدا وطال كما تقدم. ولو قدم الرجلين على الرأس أعاد الرجلين مطلقا إلا إذا تعمد وطال فيبتدئ وضوءه ندبا. فقوله - أي الشيخ خليل -: وإلا فمع تابعه، أي إن كان له تابع اهـ. قال العلامة المحقق الصاوي في حاشيته على الدردير: وحاصل ما قاله المصنف والشارح أن ترتيب الفرائض في أنفسها سنة، فإن خالف ونكس بأن قدم عضوا عن محله فلا يخلو إما أن يكون ذلك عمدا أو جهلا أو سهوا، وفي كل إما أن يطول الأمر أم لا، فإن كان الأمر قريبا بحيث لم يحصل جفاف أتى بالمنكس مرة إن غسله أولا ثلاثا أو مرتين، وإلا كمل تثليثه وأعاد ما بعده مرة مرة على ما تقدم، لا فرق بين كونه عامدا أو جاهلا أو ناسيا. وإن طال فإن كان عامدا أو جاهلا ابتدأ وضوءه ندبا، أو ناسيا فعله فقط مرة واحدة، لا فرق بين كون الطول عمدا أو عجزا أو سهوا، فصور الطول

تسع والقرب ثلاث فتأمل اهـ. وإلى جميع ذلك أشار المصنف بقوله: " فمن نكس أعاد ما نكسه " وقد تقدم بيانه. قال المصنف رحمه الله تعالى: " والبدء بمقدم الرأس " وتقدم الكلام في شرح مسح الأذنين بقولنا: وأما ما يأتي من قوله - أي المصنف -: والبدء بمقدم الرأس أنه ليس بسنة من سنن الوضوء، بل هو من فضائله على المشهور. وعده المصنف من سنن الوضوء، والصحيح أنه من المستحبات. وفي العزية: والتاسعة أي من فضائله أن يبدأ بمقدم الرأس. وقال ابن جزي في القوانين في الفصل الرابع في فضائل الوضوء: الخامسة الابتداء بمقدم الرأس. وفي الأخضري: والبدء بمقدم الرأس اهـ. ثم ذكر المصنف رحمه الله تعالى السنة الثامنة من سنن الوضوء بقوله: " و " السنة الثامنة من سنن الوضوء: " الرد إليه " أي إلى مقدم الرأس على المشهور. قال في المختصر: " ورد مسح رأسه " المواق: قال ابن عرفة: من سنن الوضوء رد اليدين من منتهى المسح لمبدئه. وفي الحطاب: يعني أن السنة السابعة - أي في سياق كلامه - رد اليدين في مسح الرأس إلى المحل الذي بدأ منه، فإن بدأ من مقدم رأسه كما هو المستحب في ذلك ردهما من المؤخر إلى المقدم، وإن بدأ في المسح من مؤخر رأسه وترك المستحب من ذلك فالسنة أن يردهما من المقدم إلى المؤخر كما صرح بذلك ابن قصار، ونقله اللخمي وعبد الحق. قال اللخمي: والفرض في مسح الرأس واحد وهو بلوغ اليدين إلى مؤخره، ولا خلاف أنه لو اقتصر على ذلك ولم يردهما لأجزأه. والسنة ردهما من القفا إلى مقدم الرأس. قال ابن القصار: وإن بدأ رجل من مؤخر رأسه إلى مقدمه لكان المسنون أن يرد من المقدم إلى المؤخر اهـ.

فضائل الوضوء

فضائل الوضوء ولما أنهى الكلام على سنن الوضوء انتقل المصنف يتكلم على فضائل الوضوء فقال رحمه الله: " وفضائله " جمع فضيلة، وهي ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر به أمرا غير مؤكد يثاب فاعله ولا يأثم تاركه. يعني أن فضائل الضوء إحدى عشرة فضيلة عد المصنف منها ثلاثا، وهي: التسمية، والسواك، وتكرار المغسول، وترك باقيها اختصارا منه. ونحن إن شاء الله: " التسمية " أي في ابتداء الوضوء بأن يقول: باسم الله، والمعتمد أنه يأتي بالبسملة كاملة، فإن اقتصر على باسم الله حصلت البركة إن شاء الله. وفي الحديث: " لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه " والمعنى لا وضوء كاملا؛ لأن التسمية عند الوضوء مستحبة. قال المصنف رحمه الله: " و " الفضيلة الثانية من فضائل الوضوء: " السواك " وفي الموطأ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك " وفي رواية: " مع كل صلاة ". والحاصل أن استعمال السواك عند الوضوء قبل أن يتمضمض مستحب، ثم يتمضمض بعده ليخرج ما تحلل منه. والسواك يكون بعود رطب أو يابس، والأخضر أفضل لغير الصائم، فإن لم يجد عودا فبإصبعه أو بشيء غير متنجس، ولا بعود الريحان، ولا الرمان لتحريكهما عرق الجذام. وينهى عن الاستياك بالجوزة التي تحمر الشفتين: حرمة للصائم وكراهة لغيره، وكذا لا يجوز الاستياك بالقصب لأنه يورث البرص وداء الأكلة. وإلى ما تقدم أشار المصنف رحمه الله بقوله: " وبالأراك الأخضر أفضل لغير الصائم وفي عدمه يستاك بأصبعه " يعني أن الأراك الأخضر أولى للمفطر كما تقدم. ولا ينبغي أن يزيد في طوله على شبر. وفضائله

كثيرة تزيد على بضع وثلاثين فضيلة. وقد نظمها الحافظ ابن حجر الشافعي فقال: إن السواك مرضى الرحمن ... وهكذا مبيض الأسنان ومظهر الشعر مذكي الفطنه ... يزيد في فصاحة وحسنه مشدد اللثة أيضا مذهب ... لبخر وللعدو مرهب كذا مصفي خلقه ويقطع ... رطوبة وللغداء ينفع ومبطئ للشيب والإهرام ... ومهضم النزع لدى الشهادة ومرغم الشيطان والعدو ... والعقل والجسم كذا يقوي ومورث لسعة مع الغنى ... ومذهب لألم حتى العنا وللصداع وعروق الراس ... مسكن ووجع الأضراس يزيد في مال وينمي الولدا ... مطهر للقلب جال للصدا مبيض الوجه وجال للبصر ... ومذهب لبلغم مع الحفر ميسر موسع للرزق ... مفرح للكاتبين الحق وفي السواك كلام طويل فراجعه في محله إن شئت. قال المصنف رحمه الله: " و " الفضيلة الثالثة من فضائل الوضوء: " تكرار المغسول مرتين بعد سقوط الفرض لا المسح " يعني قد أخبر المصنف بأن تكرار غسل الأعضاء المغسولات مرتين أو ثلاثا من فضائل الوضوء إذا أوعب بالأولى، بخلاف الممسوح، وهو الرأس والأذنان فإنه لا يستحب تكرار مسحهما. هذا آخر ما ذكر المصنف من فضائل الوضوء. وقد تقدم لنا أن فضائل الوضوء إحدى عشرة فضيلة ذكر المصنف منها ثلاثا، وأنا

أذكر الباقي فقلت: والفضيلة الرابعة، أي من فضائل الوضوء تقليل الماء الذي يرفعه للأعضاء حال الوضوء، ولا تحديد في التقليل لاختلاف الأعضاء. والناس منهم من يتقن غسل عضو بالقليل من الماء، ومنهم غير ذلك. وفي الرسالة: وقلة الماء مع إحكام الغسل سنة، أي خفيفة مستحبة، والسرف منه غلو وبدعة اهـ. والفضيلة الخامسة من فضائل الوضوء وضع الإناء على جهة اليمين إن كان مفتوحا كالقصعة؛ لأنه أمكن في تناول الماء منه، وأما إن كان الإناء غير مفتوح بأن كان ضيق الفم كالإبريق فالأفضل أن يكون على جهة اليسار، والفصيلة السادسة من فضائل الوضوء البداءة بمقدم الرأس عند غسل الوجه. وما ذكره المصنف من عده من سنن الوضوء قد تقدم لنا الكلام فيه من أنه ليس بسنة، بل من فضائل الوضوء على المشهور كما قد علمت، والفضيلة السابعة من فضائل الوضوء عدم الكلام في حال وضوئه إلا من ذكر الله أو الضرورة. والفضيلة الثامنة من فضائل الوضوء أن يرتب المسنون مع المسنون كالمضمضة والاستنشاق، وكذا ترتيب السنن مع الفرائض من فضائل الوضوء. وأما ترتيب الفرائض في أنفسها أي ترتيب فرض مع فرض مثلها فهو سنة من سنن الوضوء كما تقدم في السنن، والفضيلة التاسعة من فضائل الوضوء الموضع الطاهر، أي إيقاعه في محل طاهر الذي شأنه الطهارة، بخلاف الكنيف وما في معناه فيكره الوضوء فيه، والفضيلة العاشرة من فضائل الوضوء استقبال القبلة مع الإمكان بغير مشقة، وإلا جاز الانصراف بأي جهة، والفضيلة الحادية عشرة من فضائل الوضوء الدعاء بعد الفراغ منه، بأن يقول وهو رافع طرفه إلى السماء: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين. انتهت فضائل الوضوء. والله أعلم. قال المصنف رحمه الله: " ومن نسى فرضا أتى به وبالصلاة " يعني أن من نسى فرضا من فرائض الوضوء المتقدمة وجب عليه الإتيان به وإعادة الصلاة التي صلاها قبل

مكروهات الوضوء

تذكره، وما ذكره المصنف كالمختصر ونصه: " ومن ترك فرضا أتى به وبالصلاة، وسنة فعلها لما يستقبل " وفي الأخضري: ومن نسى فرضا من أعضائه فإن تذكره بالقرب فعله وما بعده، وإن طال فعله وحده وأعاد ما صلى قبله، وإن ترك سنة فعلها ولا يعيد الصلاة، ومن نسى لمعة غسلها وحدها بنية، وإن صلى قبل ذلك أعاد اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " أو سنة فعلها لما يستقبل " وفي نسخة بالجيم بدل الفاء جعلها، وهي خطأ والصحيح ما قررناه. والمعنى أن من نسي سنة من سنن الوضوء أنه يفعل تلك السنة حين تذكره لما يستقبل من الصلوات إن أراد أن يصلي بذلك الوضوء وإلا فلا يأتي بها، كما أنه لا يعيد ما صلى قبل ذلك اتفاقا اهـ: مكروهات الوضوء وقد ذكر أبو البركات الشيخ أحمد الدردير في أقرب المسالك بعض مكروهات الوضوء بقوله: وكره موضع نجس، وإكثار الماء، والكلام بغير ذكر الله، والزائد على الثلاث، وبدء بمؤخر الأعضاء، وكشف العورة، ومسح الرقبة، وكثرة الزيادة على محل الفرض، وترك سنة، وندب لزيارة صالح، وسلطان، وقراءة قرآن، وحديث، وعلم، وذكر، ونوم، ودخول سوق، وإدامته، وتجديده إن صلى به أو طاف. شروط صحة الوضوء ووجوبه وشرط صحته إسلام وعدم حائل، ومناف، وشرط وجوبه دخول وقت، وبلوغ، وقدرة عليه، وحصول ناقض، وشرطهما عقل، ونقاء من حيض ونفاس، ووجود ما يكفي

فصل في نواقض الوضوء

من المطلق، وعدم نوم وغفلة، كالغسل والتيمم، بإبدال المطلق بالصعيد إلا أن الوقت فيه شرط فيهما اهـ. وفي الرسالة: ويجب عليه أن يعمل عمل الوضوء احتسابا لله تعالى لما أمره به يرجو تقبله وثوابه وتطهيره من الذنوب به، ويشعر أن ذلك تأهب وتنظف لمناجاة ربه، والرقوف بين يديه لأداء فرائضه، والخضوع له بالركوع والسجود. فيعمل على يقين بذلك وتحفظ فيه، فإن إتمام كل عمل بحسن النية فيه اهـ. ولما أنهى الكلام على فضائل الوضوء ومكروهاته وما يتعلق بجميع ذلك انتقل يتكلم على نواقضه، فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في نواقض الوضوء هذا الفصل عقده المصنف في بيان نواقض الوضوء. والنواقض جمع ناقض، أي مبطل للوضوء وموجب لإعادته مرة أخرى. والناقض ثلاثة أنواع على الإجمال، وهي حدث، وسبب، وغيرهما، وأشار المصنف إلى الأول بقوله: " ينقضه الخارج المعتاد من السبيلين " أي الحدث الخارج من القبل أو الدبر " على وجه العادة " يعني الحدث الذي ينتقض به الوضوء هو الخارج من المخرج المعتاد على وجه الصحة والاعتياد. وأما الخارج غير المعتاد كخروج الدود أو الحصى من أحد السبيلين، أو غير الخارج كالقرقرة، أو كان خروجه على سبيل المرض كالسلس فلا ينتقض به الوضوء، وإليه أشار المصنف بقوله: " لا النادر والسلس " أي فلا يوجبان الوضوء بخروجهما، هذا إن لازم السلس كل الزمن أو جله، أما إن فارق كل الزمن أو جله فينتقض. والمراد بالخارج الناقض الذي

ينقض بنفسه، وهو البول والغائط والريح والمذي والودي والهادي في الأنثى. ثم ذكر المصنف السلس الذي ينشأ لأجل طول العزبة فحكمه حكم الخارج المعتاد في نقض الوضوء به. ولذا قال رحمه الله تعالى: " وسلس المذي لطول العزبة كالمعتاد " والسلس: ما يسيل بنفسه لتغير الطبيعة، سواء كان بولا أو ريحا أو غائطا أو منيا، يعني أن السلس لطول العزبة ناقض كالخارج المعتاد سواء، يجب منه ما يجب في خروج المذي، إن كان مذيا مع غسل الذكر كله بنية كما تقدم جميع ذلك على التفصيل، وفي نسخة هنا زيادة في المتن وهي: " والخارج من غيرهما " هذه الزيادة ليست من كلام المصنف وإن كانت موافقة، والأولى جعلها شرحا لا نصا فتأمل. ولما فرغ المصنف من الكلام على الحدث وتعريفه وأحكامه انتقل إلى النوع الثاني من أنواع الوضوء، وهي الأسباب التي لا تنقض الوضوء بنفسها بل بسبب حدث ولو لم يحصل، فبدأ رحمه الله بالمس واللمس لأن كل واحد منهما يؤدي إلى خروج المذي أحيانا: " و " من نواقض الوضوء " مس الذكر " أي المتصل " بباطن الكف والأصابع " يعني من النواقض للوضوء مس الذكر بباطن الكف أو بباطن الأصابع أو بجنبيهما ولو بأصبع زائد إن حس بأن كان يتحرك تحريكا معتبرا، فينتقض الوضوء بذلك سواء مسه من كمرة أو من قصبة، التذ أم لا، هذا إذا مسه من غير حائل، أما إن مسه من فوق حائل فلا نقض ولو كان الحائل خفيفا، إلا ما كان وجوده كالعدم. والحاصل أن النقض مشروط بشروط خمسة: أن يكون ذكر نفسه، وأن يكون متصلا، وأن يكون المس من غير حائل، وأن يكون بالغا، وأن يكون بباطن الكف أو ما شابهه اهـ الصفتي. قال المصنف رحمه الله تعالى: " لا " ينقض الوضوء بسبب مس " الدبر " يعني أن الوضوء لا ينتقض بمس الدبر عند المالكية، ولا بمس الأنثيين، ولا بمس فرج الصغيرة

التي لا تشتهي، وكذا لا ينتقض الوضوء بخروج قيء، ولا بأكل لحم جزور، ولا بحجامة، ولا بفصد، ولا بقهقهة في صلاة، ولا بمس امرأة فرجها على المعتمد. قال المصنف رحمه الله مشيرا لهذا الأخير " وفي مس المرأة فرجها خلاف " وقد علمت آنفا أن المعتمد الذي به الفتيا عدم النقض ولو ألطفت. وعليه مشى خليل. والإلطاف أن تدخل المرأة يدها بين شفري فرجها. ولا ينتقض الوضوء بلمس البهيمة، ولا بإنعاظ من غير مذي، ولا بالنظر أو التفكر ولو مع اللذة في القلب بغير خروج شيء ولو في الصلاة. ومما لا ينتقض به الوضوء على المعتمد القرقرة، وهي الريح المسموعة داخل الجوف؛ لأن الناقض هو الخارج المعتاد، وليست القرقرة من الخارج. وما ذكره صاحب العزية من أن القرقرة الشديدة توجب الوضوء ضعيف. قال المصنف رحمه الله: " و " من نواقض الوضوء: لمس النساء للذة " أي لقصد اللذة أو وجدانها، يعني أن قصد اللذة أو وجودها شرط في نقض الوضوء. والمراد باللمس ملاقاة جسم لآخر وهو من نواقض الوضوء، والدليل على ذلك قوله تعالى: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء} [المائدة: 6] وقال بعضهم: المراد باللمس الجماع، فأجاب الصفتي ليس كذلك لأن حكم الجنابة ذكر في قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ} [المائدة: 6] فلو كان المراد باللمس الجماع لكان تكرارا اهـ. وبهذا قد تقرر أن قصد اللذة أو وجودها ناقض، سواء ممن تحل له كالزوجة، والأمة، أو أجنبية. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ولو محرما " كأم وبنت وغيرهما؛ لأن وجود اللذة ناقض على المعتمد، ولا فرق في ذلك بين المحرم وغيره إلا في القصد وحده بدون وجدان، ففي الأجنبية ناقض وفي المحرم غير ناقض، سواء من فاسق وهو من يلتذ بمحرمه أم لا اهـ الصفتي، كما سيأتي تفصيل ذلك عن الدردير. قال المصنف رحمه الله: " أو " كان اللمس واقعا " من وراء حائل لا يمنع اللذة " فينتقض به الوضوء لأنه كالعدم. قال: " ولو " كان العضو الملموس " ظفرا أو سنا

أو شعرا " يعني أنه قد أتى المصنف بصفة المبالغة في انتقاض الوضوء بهذه الأشياء الثلاثة بشرط اللذة أو قصدها من اللامس، وأما الملموس فينقض وضوؤه بوجود اللذة فقط، ولنقض وضوئهما معا أشار المصنف بقوله: " اللامس والملموس سواء " قال العلامة الشيخ أحمد الدردير في أقرب المسالك: ولمس بالغ من يلتذ به عادة ولو لظفر أو شعر أو بحائل إن قصد اللذة أو وجدها، وإلا فلا اهـ: قال الشارح: يعني أن لمس المتوضئ البالغ لشخص يلتذ أو وجدها، وإلا فلا اهـ: قال الشارح: يعني أن لمس المتوضئ البالغ لشخص يلتذ بمثله عادة من ذكر أو أنثى ينقض الوضوء ولو كان الملموس غير بالغ أو كان اللمس لظفر، أو شعر، أو من فوق حائل كثوب، وظاهرها كان الحائل خفيفا يحس اللامس معه بطراوة البدن، أو كان كثيفا. قال وتأولها بعضهم بالخفيف قلت: قد تقدم لنا في مس الذكر أن مسه من فوق الحائل لا يوجب الوضوء فلا ينتقض ولو كان الحائل خفيفا، إلا ما كان وجوده كالعدم فينتقض، كما في حاشية الصفتي. فلنرجع إلى تمام كلام الدردير: قال: وأما اللمس من فوق حائل كثيف فلا ينقض، ومحل النقض إن قصد التلذذ بلمسه، وإن لم تحصل له لذة حال لمسه، أو وجدها حال اللمس وإن لم يكن قاصدا لها ابتداء، فإن لم يقصد ولو يحصل له لذة فلا نقض، ولو وجدها بعد اللمس. والملموس إن بلغ ووجد، أو قصد بأن مالت نفسه بأن يلمسه غيره فلمسه انتقض وضوؤه لأنه صار في الحقيقة لامسا وملموسا، فإن لم يكن بالغا فلا نقض ولو قصد ووجد اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " من الأسباب التي تنقض الوضوء " زوال العقل " أي استتاره " بجنون " وهو زوال الشعور من القلب مع بقاء القوة والحركة، وهو أنواع: " أو إغماء " وهو زوال الشعور من القلب مع استرخاء الأعضاء. قال مالك رحمه الله: ومن أغمي عليه فعليه الوضوء. تنبيه: إذا أفاق المجنون والمغمى عليه لا يجب

عليهما غسل على المعتمد، نقله الصفتي عن شرح الأصيلي اهـ قلت: هذا إن لم يتحقق خروج الإنزال منه وإلا وجب عليه الغسل اتفاقا. قال المصنف رحمه الله: " أو " كان زوال العقل بسبب " سكر " يعني أراد بذلك مطلق غيبوبة العقل، سواء أكان من مائعات حلال كلبن حامض، أم من حرام كخمر، أم من مضرات بالجسم والعقل كسم، أو من مخدرات كحشيشة. والمدار في الجميع على زوال العقل، فإذا زال العقل بشيء من تلك الأشياء نقض الوضوء مطلقا، لا فرق بين طول زمنه وقصره كما يفصل في النوم، وهو ظاهر المدونة والرسالة، فهو ناقض. قال ابن عبد السلام: وهوة الحق. وقال ابن بشير: والقليل في ذلك كالكثير خلافا لبعضهم اهـ. نقله الصاوي عن الدسوقي. قال المصنف رحمه الله: " أو " كان الزوال بسبب " نوم مستثقل ولو في الصلاة أو جالسا غير مستند " يعني أن النوم من الأسباب التي تنقض الوضوء أيضا. قصير خفيف لا ينقض الوضوء، طويل خفيف يستحب منه الوضوء. ولا عبرة عند المالكية بصفة النائم من كونه جالسا أو مستندا أو مضطجعا، بل العبرة عندنا بصفة النوم كما تقدم، فإذا ثقل النوم حتى لا يشعر صاحبه بمن يأتي ومن يذهب نقض وضوؤه على كل حال. ثم انتقل المصنف إلى ما ليس بحدث ولا سبب وهي الردة والشك، وقدم الردة لأنها أهم، فقال رحمه الله: " والمشهور " عندنا معشر المالكية " أن الردة مبطل " للوضوء، خلافا للشافعية. قال الدردير: وأما غيرهما - أي غير الحدث والسبب - وهو الردة والشك في الناقض بعد طهر علم وعكسه، أو في السابق منهما. قال الشارح: هذا هو النوع الثالث من الناقض للوضوء، إما حدث، وإما سبب، وإما غيرهما، وهو أمران: الردة، والشك، وكل منهما ليس بحدث ولا سبب. وبعضهم جعلهما من أقسام

السبب: أما الردة فهي محبطة للعمل ومنه الوضوء والغسل على الأرجح، إلى آخر كلامه رحمه الله: يعني أن الردة - وهي كفر مسلم والعياذ بالله - مبطلة لجميع أعمال البر من العبادات وغيرها، وهي تكون بالأشياء من الأفعال والأقوال، نحو أن يقول هو مشرك، أو هو نصراني، أو يهودي، أو يلقي مصحفا في القاذورات، أو يسب الله تعالى، أو يسب نبيا مجمعا على نبوته، أو ملكا كذلك، أو نحو ذلك مما يقتضي الكفر، فإذا حصل منه واحدة مما ذكرنا صار كافرا مرتدا. قال تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ} [المائدة: 5] وقال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] والوضوء من جملة العمل كالغسل فإن الردة تبطله على المعتمد. فإذا رجع المرتد إلى الإسلام وجب عليه إعادة وضوئه الذي فعل قبل ارتداده بنية رفع الحدث إن أراد الصلاة، وكذا وجب عليه الغسل إن أراد جميع ما يقتضي الطهر كالطواف ومس المصحف وغيرع مما هو شرطه الطهارة. فافهم ذلك. ثم قال المصنف رحمه الله: " و " من نواقض الوضوء " الشك في الحدث بعد تيقن الطهارة " قال مالك في المدونة فيمن توضأ فشك في الحدث فلا يدري أحدث بعد الوضوء أم لا: إنه يعيد الوضوء بمنزلة من شك في صلاته، فلا يدري أثلاثا صلى أم أربعا فإنه يلغي الشك اهـ. وكذلك من شك في السابق منهما بأن تيقن أيضا بالحدث وشك في السابق منهما فإنه يجب عليه الوضوء؛ لأنه لا تبرأ ذمته إلا باليقين. ولذا قال المصنف: والشك في الحدث إلخ " موجب " يعني من موجبات الوضوء، ما لم يكن مستنكحا. وإذا استنكحه شك فإنه لا يعيد الوضوء. وأما غير المستنكح فإن وضوءه يبطل بالشك باتفاق أهل المذهب. قال المصنف رحمه الله تعالى: " والحدث يمنع فعل كل ما يشترط له الطهارة " يعني أنه إذا قام بالمكلف الحدث منع أن يفعل ما يشترط فيه الطهارة كالصلاة

والطواف وحمل المصحف، إلا بقصد حمل أمتعة فيجوز. قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة: 77 - 80] صدق الله العظيم. ولهذا قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " يمنع الحدث " حمل " جملة " المصحف ولو بحائل أو علاقة " بغير طهر إلا لمتعلم فيه أو معلم، وإلا الجزء ونحوه لتعوذ أو دلالة فيجوز. قال المصنف رحمه الله: " لا " يمنع حمل المصحف " بين أمتعة قصد حملها " يعني أنه يجوز حمل القرآن الكامل في الأمتعة كالصندوق بنية حمل المتاع، لا بنية حمل القرآن. وفي المختصر: ومنع حدث صلاة وطوافا ومس مصحف وإن بقضيب، وحمله وإن بعلاقة أو وسادة إلا بأمتعة قصدت، وإن على كافر، لا درهم وتفسير ولوح لمعلم ومتعلم وإن حائضا، وجزء لمتعلم وإن بلغ، وحز بساتر وإن لحائض اهـ. قال الخرشي: يعني أن الطواف ولو نفلا، والصلاة كلها على اختلاف أحكامها من فرض وسنة ونفل وسجود القرآن لا يجوز إلا بالوضوء، وأن الحدث مانع من ذلك اهـ. وقد عقد الأخضري فصلا في هذه المسألة: فقال: لا يحل لغير المتوضئ صلاة ولا طواف، ولا مس نسخة القرآن العظيم، ولا جلدها، لا بيده ولا بعود ونحوه، إلا الجزء منها لمتعلم فيه، ولا مس لوح القرآن العظيم على غير الوضوء إلا لمتعلم فيه أو معلم يصححه. والصبي في مس القرآن كالكبير، والإثم على مناوله له. ومن صلى بغير وضوء عامدا فهو كافر والعياذ بالله اهـ. قال الشارح في هداية المتعبد السالك عند قول المؤلف " ومن صلى بغير وضوء عامدا فهو كافر " قد أمر الله سبحانه وتعالى كل من أراد القيام إلى الصلاة بالوضوء بقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية. والأمر من الله إيجاب وتكليف يحبب تصديقه، والإيمان به، والعمل على مقتضاه، فمن تهاون في ذلك واستخف به فهو من قبل الشارع، غير محترم، محكوم عليه بالكفر لتهاونه بأوامر الله وعدم الخضوع لها بالإذعان والقبول. وهو أيضا مطرود عن أهل القبلة والجماعة، نعوذ

فصل في موجبات الغسل

بالله من سوء العاقبة. قلت: ما ذكره المؤلف وتبعه الشارح من تكفير المصلي بغير وضوء عامدا محمول على ترك الوضوء جحدا أو استخفافا وتهاونا بالأوامر وعدم المبالاة، كما ذكره الشارح، وأما من فعل ذلك كسلا أو عجزا أو جهلا أو نسيانا أو بالضرورة مع اعتقاده وجوب الطهارة، وهو مسلم موحد مؤمن بالله ورسوله فإنه لم يكن كافرا، ولم يخرجه ذلك من الإسلام، كما هو اعتقاد كثير من المحققين. وغاية الأمر أنه عاص لله ورسوله وتجب عليه التوبة مع وجوب إعادة الصلاة أبدا لأنها باطلة هذا هو المفهوم من كلام بعض المحققين رحمهم الله تعالى. نسأل الله أن يرزقنا العمل بالكتاب والسنة إنه ولي التوفيق. ولما أنهى الكلام على النواقض أراد الشروع في ذكر موجبات الغسل فَصْلٌ في موجبات الغسل هذا الفصل عقده المصنف رحمه الله تعالى في بيان موجبات الغسل وأنواعه، وفرائضه، وسننه، ومستحباته، وجميع أحكامه. أما أنواع الغسل فإنه ينقسم إلى أربعة أقسام: واجب، وسنة، ومندوب، وجائز. أما الواجب فهو غسل الجنابة. والجنابة قسمان: أحدهما خروج المنى بلذة معتادة، في نوم أو يقظة، بجماع أو غيره كما يأتي عن المصنف. والمنى هو الماء الدافق، أي يتدفق عند خروجه دفعة بعد دفعة، وغالبا لونه أبيض خاثر رائحته كرائحة الطلع أو العجين، فإن خروج بلذة معتادة من الجماع فما دونه وجب الغسل إجماعا، وإن خرج بغير لذة، أو

بلذة غير معتادة لم يجب الغسل. والثاني مغيب الحشفة أو قدرها من مقطوعها في أي فرج كان. وأشار المصنف إلى القسم الأول من قسمي الجنابة فقال: " الغسل يوجبه خروج المني على العادة ولو في النوم " يعني أن خروج المني على وجه العادة والصحة من موجبات الغسل، سواء كان خروجه في حال اليقظة أو في النوم. قال الدردير في أقرب المسالك: يجب على الكلف غسل جميع الجسد بخروج مني بنوم مطلقا، أو يقظة إن كان بلذة معتادة من نظر أو فكر فأعلى، ولو بعدها ذهابها، وإلا وجب الوضوء فقط اهـ وقال الشارح: اعلم أن موجبات الغسل أربعة: خروج المني، ومغيب الحشفة، والحيض، والنفاس، والمراد بالمكلف البالغ العاقل ذكرا أو أنثى، فخروج المني من الذكر أو الأنثى في حالة النوم يوجب الغسل مطلقا بلذة معتادة أم لا، بل إذا انتبه من نومه فوجد المني ولم يشعر بخروجه، أو خرج بنفسه وجب عليه الغسل على ما استظهره الشيخ على الأجهوري. انظره في الصاوي اهـ. وأشار المصنف إلى الثاني من قسمي الجنابة وهو مغيب الحشفة أو قدرها من مقطوعها في الفرج مطلقا بقوله: " و " من موجبات الغسل على المكلف " إيلاج الحشفة أو قدرها في فرج " قال الخرشي: الموجب الثاني للغسل مغيب حشفة بالغ على الفاعل والمفعول. قال عياض: الحشفة بفتح الشين: الكمرة، وهي رأس الذكر، وكذلك يجب على المرأة الغسل بإدخال ذكر البهيمة اهـ. وقال الدردير: وبمغيب الحشفة أو قدرها في فرج مطيق وإن بهيمة أو ميتا. الشارح: الموجب الثاني للغسل تغييب المكلف جميع حشفته أي رأس ذكره، أو تغييب قدرها من مقطوعها في فرج شخص مطيق للجماع قبلا أو دبرا من ذكر أو أنثى ولو غير بالغ، أو كان المطيق بهيمة أو ميتا، وعلى ذي الفرج إن بلغ، أي يجب الغسل على صاحب الفرج المغيب فيه إن كان بالغا، وإلا فلا

يجب على غير المكلف، ولا بتغييب الحشفة في غير فرج كالأليتين والفخذين، ولا في فرج غير مطيق اهـ. وإليه أشار المصنف رحمه الله تعالى بقوله: " وإن كان غير بالغ لم يلزمها إلا أن تنزل أو يكون مراهقا " المراهق هو الذي قارب البلوغ، فلا يجب عليه الغسل إذا وطئ زوجته، لكن ينبغي لوليه أن يأمره بالغسل استحبابا وإليه أشار المصنف بقوله: " وهل يؤمر به تمرينا قولان " وقد علمت أن المشهور من القولين أنه يؤمر به ندبا. وفي أقرب المسالك: وندب لمأمور الصلاة كصغيرة وطئها بالغ وإلا فلا. هذا هو المعتمد. والحاصل أن الصور أربع: لأن الواطئ والموطوء إما بالغان، وإما بالغ وصغيرة، وإما صغير وبالغة، وإما صغيران: فالأولى يجب فيها الغسل عليهما اتفاقا، وفي الثانية يجب الغسل على الواطئ دون موطوءته ما لم تنزل، وكذا في الرابعة اهـ الصاوي. وبالغ المصنف في إيجاب الغسل على المرأة بقوله رحمه الله: " ولو عزل. أو وطئ بين الفخذين فسبق الماء إلى فرجها فأنزلت أو التذت لزمها " يعني أن الرجل لو عزل عن امرأته بأن جامعها ولم ينزل في فرجها بل خارج الفرج فلا غسلا عليها ما لم تنزل (¬1) وإن أنزلت وجب عليها الغسل. وكذا لو وطئ بين فخذيها وسبق الماء في فرجها فأنزلت لزمها الغسل. وأما لو سبق إليها والتذت من غير إنزال فلا غسل عليها خلافا لمفهوم ما للمصنف من قوله أو التذت؛ لأن معناه أو التذت بدون إنزال لزمها الغسل، مع أن التذاذها بلا إنزال لا يوجب الغسيل. لا بمني وصل للفرج ولو التذت. الخرشي يعني أنه لا يجب الغسل ولا الوضوء بمني وصل لفرج المرأة ولو التذت إلا أن تنزل فيجب عليها ¬

(¬1) فقه المسألة: أن الرجل إذا جامع زوجته وعزل عنها، أي أنزل خارج الفرج، فقد وجب عليها الغسل أنزلت أو لم تنزل، لأنها إذا لم تنزل فقد وجب عليها الغسل من التقاء الختانين وهذا يتفق مع المتن ويخالف ما ذكره الشارح. (الزاوي).

حينئذ الغسل. وإنما لم يوجب الوضوء لأنه ليس بحدث ولا سبب ولا غيرهما مما ينقضه اهـ. ثم انتقل المصنف إلى موجب آخر فقال رحمه الله تعالى: " و " من موجبات الغسل " انقطاع دم الحيض " والحيض شرعا هو الدم الخارج بنفسه من فرج المرأة الممكن حملها عادة غير زائد على خمسة عشر يوما، من غير مرض ولا ولادة. وقوله انقطاع دم الحيض، وانقطاعه يكون بالقصة البيضاء، أو الجفوف كما سيأتي عن المصنف في فصل الحيض والنفاس , فإذا انقطع دم الحيض وجب عليها الغسل بلا تأخير. قال المصنف رحمه الله: " و " من موجبات الغسل أيضا انقطاع دم " النفاس " والنفاس شرعا: هو الدم الخارج من القبل بسبب الولادة غير زائد على ستين يوما، فإذا على ستين يوما فليس بنفاس، فلا تستظهر، بل تغتسل وتصلي كما يأتي عن المصنف في محله. قال الدردير متنا وشرحا: وبحيض ونفاس ولو بلا دم، ولا باستحاضة، وندب لانقطاعه. يعني الموجب الثالث والرابع الحيض ولو دفعة، والنفاس ولو خرج الولد بلا دم أصلا، ولا يجب بخروج دم الاستحاضة لكن يندب لها الغسل إذا انقطع لأجل النظافة وتطييب النفس، كما يندب غسل المعفوات إذا تفاحشت لذلك، والاستحاضة من جملتها. قال المصنف رحمه الله تعالى " و " من موجبات الغسل على المشهور كما استحسنه ابن عبد السلام وخليل من روايتين عن مالك وهو الأقوى " خروج الولد وإن لم تر دما " خلافا للخمي القائل: فلو خرج الولد جافا لم يجب الغسل. والمعتمد ما مشى عليه المصنف كما في أقرب المسالك. وفي الخرشي: ووجوب الغسل في حال خروج الولد بلا دم أصلا بناء على إعطاء الصورة النادرة حكم غالبها؛ لأن الغالب خروج

الولد بدم، أي معه أو قبله أو بعده لأجله، وهو المعبر عنه بالنفاس كما تقدم اهـ بزيادة إيضاح. قال المصنف رحمه الله: " و " من موجبات الغسل على المشهور في المذهب " إسلام الكافر، ويجزيه عند اعتقاده قبل تلفظه به " يعني قد أخبر أن من موجبات الغسل إسلام الكافر، فإذا أسلم وجب عليه الغسل لأنه جنب. قال خليل: ويجب غسل كافر بعد الشهادة بما ذكر، أي بمني، أو مغيب حشفة بالغ، وبحيض ونفاس. وقول المصنف: ويجزئه أي الغسل عند اعتقاده قبل التلفظ به. والضمير في به عائد إلى الإسلام، وهو هنا بمعنى القصد والتصديق بالقلب. قال خليل: وصح أي غسله قبلها، أي الشهادة وقد أجمع على الإسلام، لا الإسلام، أي لا يصح الإسلام من الكافر الأصلي قبل نطقه بالشهادتين إلا لعجز يمنعه من النطق بها بنحو خرس. قال الخرشي: يعني أن الشخص الكافر ذكرا كان أو أنثى إذا أسلم وتلفظ بالشهادتين وجب عليه الغسل إذا تقدم له سبب يقتضي وجوب الغسل من جماع أو إنزال أو حيض أو نفاس للمرأة، فإن لم يتقدم له شيء منها. أي من ذلك بأن بلغ الكافر بالسن مثلا وأسلم، فلا يجب عليه الغسل على المشهور، بل يندب عند ابن القاسم. وقيل يجب غسله مطلقا تعبدا، وشهره الفاكهاني اهـ كذا في الحطاب. وقد ثبت بهذا أن موجبات الغسل ستة: الأول: خروج المني بلذة معتادة. والثاني: مغيب الحشفة في الفرج. والثالث: انقطاع دم الحيض. والرابع: انقطاع دم النفاس. والخامس: خروج الولد ولو جافا على المشهور. والسادس: إسلام الكافر على الخلاف، وإليه ذهب المصنف وصاحب المختصر وغيرهما من أئمة المذهب. وأطلق الدردير. وقيل إن غسل الكافر للجنابة لا للإسلام، وإليه بعض المحققين، ومنهم أبو محمد. قال في الرسالة في باب جمل: والغسل على من أسلم فريضة لأنه جنب. قلت: وإذا تحقق أنه جنب فيرجع إلى

معنى خروج المني أو مغيب الحشفة كما تقدم فتكون الموجبات للغسل خمسة. ومما يؤيد هذا ما ذكره الحطاب من قول خليل وابن بشير: أنه قال: ثم اختلف القائلون بالوجوب هل ذلك للإسلام أو لأن الكافر جنب؟ اهـ. قال الحطاب: قلت: بل القول بالوجوب للإسلام جعله الفاكهاني هو المشهور في المذهب. ونصه: الاغتسالات الواجبة خمسة: وهي الجنابة، والحيض، والنفاس، والتقاء الختانين، وإسلام الكافر على المشهور في هذا الأخير. انتهى هكذا قال في أول باب ما يجب منا الوضوء والغسل اهـ. قال المصنف رحمه الله: " ينوي رفع الجنابة " يعني ينوي الكافر عند إرادة غسله رفع الجنابة؛ لأنه جنب، هذا إذا تقدم له موجب مما تقدم من موجبات الغسل وهذا أيضا يدل على أن الغسل للجنابة لا للإسلام كما تقدم للمصنف، وحينئذ يرجع القول بأنه للجنابة، والكافر جنب كما هو ظاهر النصوص، ولذا أطلق الشيخ أحمد الدردير في شرح مختصر خليل بقوله: سواء نوى بغسله الجنابة أو الطهارة أو الإسلام؛ لأن نيته الطهر من كل ما كان فيه حال كفره وهو يستلزم رفع الحدث اهـ. انظر الدسوقي. قال المصنف رحمه الله تعالى: " فإن عدم الماء تيمم " يعني أن الكافر إذا أراد الدخول في الإسلام ولم يجد الماء للغسل فإنه يتيمم لعموم قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ}} إلى {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا} [المائدة: 6]. فهذا عام للجنب وغيره. ومن أراد من الكفار الدخول في الإسلام ولم يجد الماء فإنه يتيمم. قال ابن القاسم في المدونة: والنصراني عندي جنب، فإذا أسلم اغتسل، أو تيمم، فإن تيمم ثم أدرك الماء فعليه الغسل اهـ. وقال أيضا: وإذا تيمم النصراني للإسلام نوى بتيممه ذلك تيمم الجنابة اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " يبدأ بغسل يديه والأذى عن بدنه " هذا شروع

فرائض الغسل

من المصنف في صفة الغسل. واعلم أن الغسل من الجنابة وغيرها مشتمل على فرائض وسنن وفضائل. فأما فرائضه فخمس: الأولى نية رفع الحدث الأكبر، والثانية تعميم ظاهر الجسد بالماء، والثالثة الدلك، والرابعة تخليل الشعر، والخامسة الموالاة. وقد ابتدأ المصنف بغسل اليدين وهو من سنن الغسل، ثم ثنى بغسل الأذى عن البدن أي إزالة النجاسة التي على البدن كالمني، وهو أي غسلها من المندوبات. وفي العزية: وأما سننه فأربع: البدء بغسل اليدين قبل إدخالها في الإناء، ومسح صماخ الأذنين، والمضمضة، والاستنشاق. وأما فضائله فسبع. التسمية، والبدء بغسل ما على بدنه من الأذى، ثم الوضوء كاملا مرة مرة وينوي به رفع الجنابة عن تلك الأعضاء، ثم إفاضة الماء على رأسه ثلاثا، ثم إفاضة الماء على شقه الأيمن قبل الأيسر، ثم البدء بالأعالي قبل الأسافل، وقليل الماء مع إحكام الغسل - بكسر الهمزة - أي إتقانه اهـ. وإلى ما تقدم أشار المصنف بقوله رحمه الله: " ومسنونة المضمضة والاستنشاق " أي يريد مع الاستنثار، وتقدم أن البدء بغسل يديه أولا هي السنة الرابعة من سنن الغسل. وأما قول المصنف رحمه الله: " والوضوء ينوي به سنة الغسل " المشهور في المذهب أن الوضوء عند الشروع في الغسل مستحب، بخلاف ما ذهب إليه المصنف. قال خليل: وندب بدء بإزالة الأذى ثم أعضاء وضوئه كاملة مرة. فرائض الغسل ثم شرع المصنف يذكر فرائض الغسل فقال: " ويخلل أصول شعر رأسه حتى يرويها " يعني يصب عليه الماء ويضغثه، يفعل ذلك ثلاث مرات حتى يعم رأسه وفي أقرب المسالك: وتخليل أصول شعر رأسه، وتثليثه يعمه بكل غرفة. ثم قال المصنف رحمه الله: " ويعم سائر جسده، فإن بقيت لمعة لم يجزه " يعني أنه يجب على

المكلف أن يعم جميع جسده بالماء، وإن بقي منه شيء أي من جسده بأن ترك بعضه ولم يصل إليه الماء، أو ترك لمعة في أي عضو من أعضائه وجب المبادرة إلى غسله، وإن صلى قبل ذلك أعادها. قال الصفتي: فلو ترك لمعة عامدا وجف طهره بطل غسله وعليه إعادته، وإن كان ناسيا غسلها وحدها سواء جف طهره أو لا، وأعاد الصلاة إن كان صلى اهـ. وتقدم لنا أن تعميم ظاهر الجسد بالماء من فرائض الغسل كما هو معلوم. قال المصنف رحمه الله: " ولا يلزم المرأة نقض ضفائرها، بل تعركه حتى ترويه " وفي نسخة بل تحركه بدل تعركه، والمعنى أنها حل عقاصها بل تضغثه وتحركه ليدخل الماء على البشرة. قال خليل: وضغث مضفورة لا نقضه. وفي أقرب المسالك: لا نقض مضفورة إلا إذا اشتد، أو بخيوط كثيرة، أي لا يجب على المغتسل نقض مضفور شعره ما لم يشتد الضفر حتى يمنع وصول الماء إلى البشرة، أو يضفر بخيوط كثيرة تمنع وصول الماء إلى البشرة، أو إلى باطن الشعر اهـ. وقال الخرشي: يعني أنه يجب غسل ظاهر الجسد بسبب خروج مني مع تخليل شعر وضغثه حيث كان مضفورا، أو ضمه وجمعه وتحريكه. ولا يكلف مريد الغسل رجلا أو امرأة بنقض الشعر المضفور حيث كان مرخوا يدخل الماء وسطه وإلا فلا بد من حله اهـ وفي الحديث عن أم سلمة " قالت يارسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؛ فقال لها صلى الله عليه وسلم " يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضي عليه الماء فتطهري " رواه مسلم. لما بلغ عائشة أن ابن عمر يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن شعرهن قالت: أفلا تأمرهن أن يحلقن رؤوسهن! لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، وما أزيد أن أغرف على رأسي ثلاث غرفات اهـ. وقال الصفتي: وعدم النقض مقيد بما إذا لم يقو الشد، ولم يكن موصولا بخيوط

كثيرة، كما تقدم تفصيل ذلك فراجعه إن شئت. ثم قال: ولا يجب تحريك الخاتم إذا كان مأذونا فيه، ولو فرض أن الماء لم ينزل تحته لكن إن نزعه بعد يجب غسل موضعه اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويجزئ عن الحدث الأصغر وإن لم ينوه " قال الشيخ أحمد الدردير في أقرب المسالك: ويجزئ عن الوضوء، وإن تبين عدم جنابته، ما لم يحصل ناقض بعده وقبل تمام الغسل، وإلا أعاده مرة بنيته، أي إن الغسل يجزئ عن الوضوء ولو لم يستحضر نية رفع الحدث الأصغر؛ لأنه يلزم من رفع الأكبر رفع الأصغر، لا عكسه، ولذا قال: والوضوء عن محله ولو ناسيا لجنابته اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويجزئها للحيض والجنابة غسل واحد إذا نوتهما " قال خليل: وإن نوت الحيض والجنابة، أو أحدهما ناسية للآخر أو نوى الجنابة والجمعة، أو نيابة عن الجمعة حصلا. وإن نسي الجنابة، أو قصد نيابة عنها انتفيا. إنما قد أخبر المصنف رحمه الله تعالى بما هو معلوم شرعا ضروريا من أن الغسل الواجب يجزئ عن غيره مما هو دونه، كما يأتي عن المصنف كغسل الجنابة عن غسل الجمعة أو الإحرام إذا نواهما، أو نوى الجنابة ناسيا عن غيرها مما هو دونها من الحدث الأصغر؛ لأن الحدث الأكبر مشتمل عن الأصغر، ومجزئ عنه وإن لم ينوه اهـ. قال المصنف رحمه الله: " وصفة الواجب وغيره سواء " يعني أن الغسل الواجب كغسل الجنابة صفته كصفة غيره من الأغسال. وقد تقدم لنا أول هذا الفصل أنواع الغسل وهو ينقسم إلى أربعة أقسام: واجب كغسل الحائض والنفساء، وسنة كغسل الجمعة والإحرام، ومندوب كغسل دخول مكة والاستحاضة، وجائز كغسل التبرد والنظافة، وجميع تلك الأغسال المذكورة وغيرها يندب أن تكون على هيئة واحدة، كهيئة

غسل الجنابة من تقديم غسل بعض الأعضاء قبل بعضها. قال الدردير في شرح أقرب المسالك: وحاصل كيفية الغسل المندوبة أن يبدأ بغسل يديه إلى كوعيه ثلاثا كالوضوء بنية السنية، ثم يغسل ما بجسمه من أذى، وينوي فرض الغسل أو رفع الحدث الأكبر، فيبدأ بغسل فرجه وأنثييه ورفغيه ودبره وما بين أليتيه مرة فقط، ثم يتمضمض ويستنشق ويستنثر، ثم يغسل وجهه إلى تمام الوضوء مرة مرة، ثم يخلل أصول شعر رأسه لتنسد المسام خوفا من أذية الماء إذا صب على الرأس، ثم يغسل رأسه ثلاثا يعمم رأسه في كل مرة، ثم يغسل رقبته، ثم منكبيه إلى المرفق، ثم يفيض الماء على شقه الأيمن إلى الكعب ثم الأيسر كذلك، ثم إذا غسل شقه الأيمن يغسله باطنا وظاهرا، وكذلك إذا غسل شقه الأيسر، فإن شك في محل ولم يكن مستنكحا وجب غسله وإلا فلا. انتهى مع الاختصار. وهذه هي الطريقة التي اختارها الدردير والزرقاني والزروق وغيرهم من المحققين. وينبغي للمغتسل أن يتابع كل ما غار من جسده كعمق سرته، ورفغيه، والأليتين، وتحت إبطيه، وأسارير جبهته وعنقه وحلقه، وتحت قدميه، وطيات البطن والدبر، وطي المرفقين، وكعقبيه وعرقوبيه وشقوقه، وكل ذلك مما يجب أن يتعهدها المغتسل لأن تحت كل شعرة جنابة كما في الحديث. قال المصنف رحمه الله: " ويجزئ الواجب عن غيره، بخلاف عكسه " يعني أن الغسل الواجب كغسل الجنابة يجزئ عن غير الواجب، كما إذا اغتسل للجنابة والجمعة غسلا واحدا ونواهما حصلا، لا إن نسي الجمعة فلا يجزئ الو تجب عنها كما أنه لا يجزئ غير الواجب عن الواجب، كما قررناه سابقا عند قول المصنف: ويجزئها للحيض والجنابة غسل واحد إذا نوتهما. وكذا قول خليل: وإن نوت الحيض والجنابة إلى قوله: وإن نسي الجنابة أو قصد نيابة عنها انتفيا، فراجعه إن شئت، ولا حاجة إلى تكرار. ثم ذكر المصنف بعض المندوبات وهو تقليل الماء مع إحكام الغسل بلا حد عند

صب الماء وبلا إسراف فقال رحمه الله: " ولا حد لقدر الماء، بل بحسب حاله " يعني أنه يستحب التقليل في صب الماء عند الاستعمال بلا تحديد، بل بحسب حال المغتسل من نعومة جسده وخشونته، أما إحكام الغسل، أي إتقانه، فواجب، ويكفي في ذلك غلبة الظن كما في حاشية الخرشي، وكل هذا موافق لما قدمناه. ثم ذكر المصنف بعض ما يجوز للجنب قبل أن يغتسل فقال رحمه الله تعالى: " وللجنب الأكل، وتكرار الجماع، والنوم قبل غسله " يعني وبعد غسل يديه. قال مالك في المدونة: ولا بأس أن يأكل قبل أن يتوضاء، فكان الإمام يأمر الجنب بغسل يديه إذا كان قد أصابهما الأذى وأراد أن يأكل وإن لم يتوضأ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " لكن يستحب الوضوء للنوم " يعني أنه يستحب للجنب أن يتوضأ إذا أراد النوم ليلا أة نهارا لينام على طهارة وليحصل له نشاط. قال خليل في سياق كلامه على مندوبات الغسل: كغسل فرج جنب لعوده لجماع، ووضوئه لنوم، لا تيمم، ولا يبطل إلا بجماع. قال الخرشي: يغني أن الشخص إذا أراد أن يعود إلى وطء زوجته أو أمته فإنه يستحب له أن يغسل فرجه، وهو المراد بالوضوء في قوله عليه الصلاة والسلام: " إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد الجماع فليتوضأ ". وفي رواية - كما في المدونة - عن عائشة أنها قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ للنوم وضوءه للصلاة قبل أن ينام ". وفي المدونة أيضا: لا ينام الجنب في ليل أو نهار حتى يتوضأ جميع وضوئه، وليس ذلك على الحائض. وقول خليل: ووضوئه لنوم لا تيمم، أي لا يتيمم الجنب لعوده أو نومه عند عدم الماء. هذا على المشهور، خلافا لما نقله ابن فرحون. انظره في الحطاب. وكذا يستحب الوضوء للنوم لغير الجنب، لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: " من نام على طهارة سجدت روحه

تحت العرش ". وقال الخرشي: وفي الغسل فوائد: تقوية الأعضاء، وإتمام اللذة، وإزالة النجاسة اهـ. قال المصنف رحمه الله: " وله تلاوة الآيات " أي اليسيرة للتعوذ والرقى، أو الاستدلال، كأن يقرأ آية أو آيتين كآية الكرسي والمعوذتين، أو كالآيتين اللتين في آخر سورة البقرة وهي {آمَنَ الرَّسُولُ} إلخ. وكل ذلك يجوز للجنب قراءتها لما ذكر وفي العزية: وتمنع الجنابة موانع الحدث الأصغر مع زيادة تحريم قراءة القرآن، إلا الآية، ونحوها على وجه التعوذ والرقى والاستدلال، ودخول المسجد والمكث فيه اهـ. وفي الأخضري: لا يحل للجنب دخول المسجد ولا قراءة القرآن إلا الآية ونحوها للتعوذ ونحوه. وقوله ولا قراءة القرآن إلخ قال شارحه عبد السميع الآبي: الجنب ممنوع من قراءة القرآن، لأن القارئ يخاطب الرب سبحانه وتعالى، والجنب ليس أهلا لذلك. ومصدر ذلك الأحاديث الصحيحة، فقد ورد " أن القارئ يناجي ربه " وقد استثنى العلماء قراءة الشيء اليسير لأجل التعوذ، أو لأجل الاستدلال، كما لو سئل عن حكم من الأحكام فاستدل عليه بآية من القرآن، أو تعوذ من عين إنس، أو مس جن، أو قرأ شيئا من القرآن عند النزول بمنزل ليتحرز به مما يخاف، وكل ذلك جائز له اهـ. مع زيادة البيان. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويستحب الوضوء للنوم " يعني أنه إذا كان ذكر فيما سبق أن وضوء الجنب للنوم مستحب ذكر هنا أيضا أن غير الجنب ينبغي له أن يتوضأ لينام على طهارة، وتقدم لنا عن قريب قوله عليه الصلاة والسلام: " من نام على طهارة سجدت روحه تحت العرش " وقد تبين لك أن ما ذكره المصنف من قوله يستحب للنوم في موضعين ليس بتكرار؛ لأن الأول عني به للجنب، والثاني لغير الجنب وكلاهما مطالب بالوضوء على سبيل الندب.

ثم تكلم في بيان ما منعه الحدث الأكبر على سبيل الإجمال فقال رحمه الله: " ويمنع الحدث الأكبر ما يمنعه الأصغر ودخول المسجد، وتلاوة القرآن، إلا أن تخاف الحائض النسيان " يعني قد أخبر أن الحدث الأكبر يمنع ما منعه الحدث الأصغر، وزيادة منع الدخول في المسجد وكذا منع الحدث الأكبر قراءة القرآن إلا الآية ونحوها للتعوذ ونحوه، وإلا الحائض التي تخاف النسيان فيجوز لها أن تقرأ القرآن تلاوة. قال خليل: لا قراءة، أي فجائزة. قال بهرام: والمشهور أنها تقرأ القرآن في غير المصحف. وفي الحطاب: قال ابن عرفة: عياض وقراءتها في المصحف دون مسها إياه كقراءة حفظها. قال اللخمي: ولا تمنع الحائض السعي، ولا الوقوف بعرفة، ولا تمنع ذكر الله كالتسبيح والاستغفار وإن كثر، وهذا ظاهر اهـ. وأما قول المصنف: ودخول المسجد. قال الحطاب: عده ابن رشد في المتفق عليه، ولم يفصل بين المكث والمرور. وظاهره أن الجميع متفق على منعه. وأما الحائض والجنب فقد اختلف العلماء في دخولهما المسجد، وقد منعه مالك رحمه الله، وأجازه زيد بن أسلم للجنب العابر اهـ. انظره في الحطاب. وما ذكره المصنف هنا شبيها بما قاله سابقا في فصل نواقض الوضوء من قوله رحمه الله: " والحدث يمنع فعل كل ما يشترط له الطهارة " فراجعه إن شئت. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ومن رأى في ثوبه منيا ولم يذكر احتلاما اغتسل وأعاد ما صلى فيه ما بين نومه ورؤيته " وفي نسخة ما بين نومه ورؤيته فيه، ولفظ فيه زائد ليس من كالم المصنف. والمعنى أن من رأى في ثوبه منيا رطبا كان أو يابسا ولم يتذكر وقت خروجه وجب عليه الغسل، ووجب عليه إعادة الصلاة التي صلاها قبل رؤيته، وفي الأخضري: ومن رأى في منامه كأنه يجامع ولم يخرج منه شيء فلا شيء عليه.

تنبيهات

ومن وجد في ثوبه منيا يابسا لا يدري متى أصابه اغتسل وأعاد ما صلى من آخر نومة نامها فيه. قال الشارح: قوله ولم يخرج منه شيء إلخ لأن الغسل في غير الجماع منوط بخروج المني، وأما الجماع فليس الغسل فيه منوطا بالإنزال على مغيب الحشفة كما تقدم وإن لم ينزل. وقوله ومن وجد في ثوبه منيا إلخ، فالواجب الذي تبرأ به الذمة أن يعيد جميع ما صلى بعد آخر نومة نامها قبل أن يغتسل اهـ. تنبيهات: الأول قال ابن الحاجب: من انتبه من النوم فوجد بللا لا يدري أمني أم مذي، قال بعضهم المشهور وجوب الغسل، كمن أيقن بالوضوء وشك في الحدث. الثاني من انتبه من نومه فوجد في لحافه بللا فإن كان منيا اغتسل إن كان مذيا غسل فرجه. قال ابن نافع: فإن شك فيه فليغتسل. قال ابن يونس: يريد احتياطا. قال الإمام رحمه الله تعالى: وكذا من لاعب امرأته في اليقظة أو رأى في منامه أنه يجامع فإن أمنى اغتسل، وإن أمذى غسل فرجه، والمرأة في ذلك كالرجل فيما يراه في المنام أو اليقظة. قال الباجي: وسواء ذكر أنه يجامع في نومه أو التذ، أو لم يذكر شيئا إلا أنه رأى المني في ثوبه فإنه يغتسل؛ لأن الغالب خروجه على وجه اللذة. وأما إن استيقظ فذكر احتلاما ولم يجد بللا فلا حكم له. الثالث وفي حاشية الصفتي: وقولنا بلذة معتادة احتراز عن خروجه - أي المني - بلا لذة، كأن خرج بلغ عقرب في يقظة فلا يحب عليه الغسل. أما إن رأى في النوم أن عقربا لدغته وأن منيه خرج بذلك فاستيقظ فوجد المني خرج بالفعل والعقرب لم تلدغه فإنه يجب عليه الغسل على المعتمد. قال بخلاف من رأى أنها لدغته وأنه أمنى فانتبه فوجد المنى والعقرب لدغته بالفعل فلا غسل عليه كما في حاشية الخرشي. والرابع من خرج منه بقية المني بعد غسله فإنه يتوضأ فقط، ولا يعيد الغسل ولا الصلاة، قاله في النوادر. ونقله ابن عرفة. تتمة: ولم يتعرض المصنف لذكر مكروهات الغسل، وهي ستة: الأول: التنكيس

فصل في المسح على الجبيرة

على ما تقدم، والثاني: الإكثار من صب الماء، والثالث: تكرار المغسول بعد إسباغه بالماء ولو جف إلا الرأس فإنه يندب فيه التثليث كما تقدم، والرابع: الاغتسال في موضع النجس، والخامس: الكلام بعد الشروع فيه إلا من ذكر الله تعالى، والسادس: أن يغتسل وهو كاشف العورة أو حيث يراه الناس من غير قصد لذلك، فإن اغتسل عريانا فليضم، فإن الله سبحانه وتعالى أحق أن يستحيا منه. وفي الخبر: " إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند قضاء الحاجة والجماع " وفي الذخيرة: أوحى الله تعالى إلى سيدنا إبراهيم الخليل: إن استطعت أن لا تنظر إلى عورتك الأرض فافعل، فاتخذ السراويل، فهو أول من لبسها، على نبينا وعليه وعلى جميع الأنبياء أفضل الصلاة والسلام. ولما أنهى الكلام عن الغسل وأقسامه وما يتعلق بجميع ذلك انتقل يتكلم على بيان المسح على الجبيرة فقال رحمه الله: فَصْلٌ في المسح على الجبيرة هذا الفصل عقده المصنف هنا، والمناسب تأخره عن التيمم كما تأخر عن فصل الغسل لأنه فرع منها. قال الصاوي: لما كان المسح عليها - أي على الجبيرة - رخصة في الطهارة المائية والترابية ناسب تأخير هذا الفصل عنهما، وليكون إحالة على معلوم في قوله - أي قول الشيخ خليل - كالتيمم. وحكم المسح أي على الجبيرة الوجوب إن خاف هلاكا أو شدة أذى كما سيأتي اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " جريح أكثر جسده أو أعضاء وضوئه فرضه التيمم " يعني إذا كان الجرح على أكثر الجسد، أو في أعضاء الوضوء وكثر منه ذلك فإنه ينتقل إلى التيمم. وفي العزية: إذا كان في أعضاء الوضوء أو غيرها جرح، وخاف

من غسله بالماء فوات نفسه، أو فوات منفعة، أو زيادة مرض، أو تأخير برء، أو حدوث مرض، فإنه يمسح عليه، فإن لم يستطع المسح عليه مسح على الجبيرة، وهي الدواء الذي يجعل عليه، فإن لم يستطع المسح عليها مسح على العصابة ولو على الزائد غير المقابل للجرح، كفصد وعمامة خيف بنزعها اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " لا يجزيه غسل الصحيح والمسح " وما مشى عليه المصنف من عدم إجزاء غسل الصحيح غير الراجح، والراجح أنه يجزيه غسل الصحيح إذا لم يتضرر بغسله ويمسح على الجريح. وفي العزية: ويشترط في المسح المذكور أن يكون جل جسده صحيحا، أو جريحا ولا يتضرر إذا غسل الصحيح، فإن كان يتضرر بغسل الصحيح، أو كان الصحيح قليلا جدا، كأن لم يبق إلا يد أو رجل فإنه لا يغسل الصحيح ولا يمسح على الجريح، بل ينتقل إلى التيمم. وإذا تعذر مسح الجريح بحيث لا يمكن وضع شيء عليه ولا ملاقاته بالماء، فإن كان في موضع التيمم كالوجه ولا يمكن مسحه أيضا بالتراب تركه بلا مسح ولا غسل وغسل ما سواه، وإن لم يكن في أعضاء التيمم كما إذا كان الجرح على الجسد فإنه يغسل الصحيح. ويمسح على الجرح على أحد الأقوال الأربعة اهـ. قال المصنف رحمه الله: " بخلاف الجرح اليسير فإنه يمسح على الجبائر والعصائب المضطر إليهما " يعني أن الجرح إذا كان يسيرا فإنه يمسح عليه أو على الجبيرة أو العصابة إذا اضطر إليها بالشرط المتقدم من خوف زيادة مرض أو تأخر برء، أو حدوث مرض فيمسح عليه وجوبا إن خاف هلاكا، وندبا إن خاف شدة الألم، سواء شدها على الطهارة أم لا، وإليه أشار المصنف بقوله: " وإن شدهما محدثا " لأنه لا يشترط لبسهما على الطهارة، وضمير التثنية في شدهما وفي إليهما عائد على الجبائر والعصائب فتأمل اهـ.

قال المصنف رحمه الله: " أو تجاوزت المجروح " وفي العزية فإن لم يستطع المسح عليها - أي على الجبيرة - مسح على العصابة ولو على الزائد غير المقابل للجرح. والعصابة هي الخرقة أو اللزقة التي تشد على الجرح، ولا يشترط لبسها على طهارة كما تقدم. قال المصنف رحمه الله: " فإن نزعها للتداوي بادر إلى مسحهما بعد شدهما، ولغنائه غسل موضعهما " يعني إذا نزع الجبيرة أو العصابة لأجل الدواء أو غيره بادر إلى مسحهما مرة ثانية بعد ربطهما، فإن تأخر بطل المسح. وإن استغنى عنهما بأن الجرح بادر إلى غسل موضعهما بدون تأخير. وفي العزية: وإذا مسح على الجبيرة ثم نزعها لدواء أو غيره بأن نزعها اختيارا، أو سقطت بنفسها بطل المسح عليها، وإذا ردها فلا بد من المسح ثانيا اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وإن سقطت في الصلاة قطع وفعل ما لزمه وابتدأ " يعني أن الجبيرة لو سقطت وهو في الصلاة فإنه يقطع الصلاة لبطلانها ووجب عليه إعادة الجبيرة في محلها وإعادة المسح عليها إن لم يطل ثم ابتدأ صلاته فإن طال نسيانا بنى بنية وإلا ابتدأ طهارته اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وفي حكم الجبيرة عصابة الفصاد يخاف انفجاره، وقرطاس الصدغ، وكسوة الظفر، ودواء أو غشاوة " يعني أن حكم العصابة وما عطف عليها كحكم الجبيرة سواء بشرط خوف زيادة مرض أو تأخر برء كما تقدم. قال خليل: كفصد ومرارة وقرطاس صدغ، وعمامة خيف بنزعها. قال الخرشي: والمراد محل الفصد مصدر وهو لا يمسح. وقوله ومرارة إلخ معطوف على جبيرة، أي ويمسح على المرارة التي تجعل على الظفر، وظاهره ولو من غير مباح لأنه محل ضرورة، وكذلك يمسح على القرطاس يلصق على الصدغ لصاع، وكذلك يمسح على عمامته إذا

خاف بنزعها ضررا، ويدخل في عصابته الأرمد يمسح على عينيه، فإن لم يقدر فعلى القطنة، أو على العصابة، ولا يتيمم، فلو أمكنه بعض رأسه فعل. ولا يستحب المسح على العمامة. ونقل بعض الاستحباب، وقول المصنف ودواء إلخ أي كذلك يمسح على الدواء الذي يجعل على الجرح لعلاجه وهو المراد بالجبيرة. وأما الغشاوة وهي أيضا ما يجعل على العينين لعلاجهما لأنها تغشاهما وتسترهما اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وما تعذر ملاقاته بغسل أو مسح أو تيمم سقط فرضه " هذا دليل على أن دين الله يسر سمح، قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وإلى جميع ما تقدم أشار بعضهم بقوله: إن خفت غسل الجرح كالتيمم ... فامسحه أو ما يتقى للألم مثل الجبيرات أو القرطاس ... أو العصابات وشد الرأس وإن بغسل أو بلا طهر كإن ... انتشرت أو صح معظم البدن أو قل ما صح وغسل السالم ... لم يؤذ للجرح ولم يؤالم فإن يكن جرح بأعضاء البدل ... يتركه وللوضوء ينتقل أو كان ذا الجرح بأعضاء الوضو ... فجمع ماء مع صعيد قد رضوا وقول الناظم رحمه الله تعالى فإن يكن جرح إلخ، يعني فإن كان الجرح بأعضاء التيمم ولا يستطيع أن يمسح عليه لشدة الألم فإنه يتركه بلا غسل ولا مسح، بل ينتقل إلى الوضوء، بأن يغسل ما يمكن غسله ويمسح مابقي من أعضاء الوضوء، وإن كان بأعضاء الوضوء غسل الصحيح وتيمم على الجريح. تنبيه: المراد بمعظم البدن في قول الناظم ما يشمل أكثر الجسم أو نصفه في الغسل، وكذا يقال في أعضاء الوضوء، كما في مصباح السالك اهـ.

فصل في المسح على الخفين

ولما أنهى الكلام على الجبيرة وجميع ما يتعلق بذلك انتقل المصنف إلى بيان المسح على الخفين فقال: فَصْلٌ في المسح على الخفين يعني أنه رحمه الله قد عقد هذا الفصل في بيان حكم المسح على الخفين عقب حكم المسح على الجبيرة للمناسبة. والمسح على الخفين رخصة في الحضر والسفر. يجوز المسح في أي حال كان سفرا أو حضرا، ليلا أو نهارا، ولا يقيد بزمن إذا حصل مانع للمسح كالجنابة كما سيأتي بيان ذلك. وبدأ المصنف بحكم المسح فقال رحمه الله تعالى: " مسح الخف جائز سفرا أو حضرا " قد أخبر المصنف أن حكم المسح على الخفين الجواز، أي الرخصة، بدلا عن غسل الرجلين في الوضوء إذا اجتمعت الشروط، وهي أحد عشر أشار المصنف إلى الشرط الأول بقوله: " بشر ط إمكان متابعة المشي به " يعني أن الخف الواسع الذي لا يمكن أن يتابع المشي فيه لا يصح المسح عليه. وأشار إلى الشرط الثاني بقوله: " وستر محل الفرض " يعني أن الشرط الثاني من شروط المسح على الخف أن يكون ساترا لمحل الفرض، فالقصير الناقص عن الكعبين لا يمسح عليه؛ لأنه دون محل الفرض، وكذا لا يمسح عليه إن كان فيه خرق كبير قدر ثلث القدم، أما يسير فلا يمنع المسح عليه كما سيأتي عن المصنف. ثم أشار إلى الشرط الثالث من شروط المسح بقوله: " ولبسه بعد كمال الطهارة بالماء " يعني أن الشرط الثالث والرابع والخامس من شروط صحة المسح على الخف أن يلبسه على طهارة كاملة، فلا يمسح عليه إذا لبسه وهو محدث، وكذا لا يمسح عليه إذا لبسه بطهارة غير كاملة، فلو غسل

إحدى رجليه وأدخلها في الخف قبل غسل الأخرى لا يمسح عليه. وقوله بالماء، فلو تيمم ثم لبسه لم يمسح عليه. ثم قال رحمه الله تعالى: " من غير تقييد على المشهور " وما ذكره المصنف من عدم تقييد المسح بمدة هو المشهور في المذهب، وبه الفتوى. قال في الرسالة: وله أن يمسح على الخفين في الحضر والسفر ما لم ينزعهما، وذلك إذا أدخل فيهما رجليه بعد أن غسلهما في وضوء تحل به الصلاة، فهذا الذي إذا أحدث وتوضأ مسح عليهما وإلا فلا اهـ، وما ذكر في كتاب السر من التقييد بثلاثة أيام للمسافر وليلة للمقيم غير معول عليه، وإن اختاره ابن عبد السلام. وأصل هذا الأثر ما في صحيح مسلم والنسائي عن علي بن أبي طالب بن ثابت أخذ به الجمهور. وقال المالكية: لأنها للمسح عليهما، فلا يجب نزعهما إلا بالجنابة، ولكن يندب نزعهما في كل يوم كما هو مروي عن ابن نافع، قال: للمقيم لمثلها. فأطلقه الأكثر، وحمله ابن يونس على الندب لغسل الجمعة كما للمصنف. وفي العزية: تنبيه إذا اجتمعت هذه الشروط جاز المسح، ولا يتوقت بوقت ولا يلزمه نزعه إلا أن تحصل له جنابة، أو يحصل فيه خرق كبير، أو ينزع قدمه أو أكثرها إلى ساق خفه اهـ. هذا ظاهر. على أن المشهور عند المالكية عدم التقييد بمدة معينة والله أعلم. قال المصنف رحمه الله تعالى: " لكن يستحب كل جمعة نزعه للغسل " هذا هو المعروف في المذهب. ثم ذكر المصنف بيان ما تقدم من اشتراط كمال الطهارة في صحة المسح بقوله: " وإخال إحدى الرجلين قبل غسل الأخرى يمنعه حتى ينزعهما ويلبسهما بعد غسل الأخرى " وقد تقدم الكلام في اشتراط كمال الطهارة عند قول المصنف: ولبسه بعد كمال الطهارة بالماء، فراجعه إن شئت. وقال رحمه الله: " والخرق اليسير لا يمنعه بخلاف الكثير، وهو ما يظهر منه أكثر القدم " وفي نسخة وهي بالتأنيث والصواب ما ذكرناه. يعني أن الخرق اليسير لا يمنع المسح على الخف،

بخلاف الخرق الكثير فلا يصح المسح معه كما تقدم لنا ذلك عند قول المصنف وستر محل الفرض فراجعه إن شئت. قال رحمه الله تعالى: " ولا يجوز على غير الخف " يعني أن المسح المذكور الذي هو رخصة لا يجوز على شيء غير الخف كالخرق الملفوفة والملزوق بعضه على بعض، والمربوط ولو بالزرار، أو الملصق برسراس أو صمغ أو عجين حتى صار كهيئة الخف، فإنه لا يمسح عليه، وأما الجورب وهو ما كان على شكل الخف من الكتان أو القطن ونحوهما فيجوز عليه المسح بشرط أن يكون من فوقه ومن تحته جلد مخروز، لكن المصنف حكى فيه وفي الخف الأعلى قولين بقوله: " وفي مسح الجورب والخف الأعلى قولان " أي في جواز المسح وعدمه، والمشهور الجواز فيهما. قال خليل رحمه الله: رخص لرجل وامرأة وإن مستحاضة بحضر أو سفر مسح جورب جلد ظاهره وباطنه، وخف ولو على خف اهـ. قال المصنف رحمه الله: " فإن نزعه بعد مسحه بادر إلى مسح الأسفل فإن نزعه بادر إلى غسل رجليه " قال العلامة الدردير على أقرب المسالك: أي إذا نزع المتوضئ خفيه بعد المسح عليهما، أو نزع الأعليين أو أحد المنفردين، فإنه يجب عليه أن يبادر إلى الأسفل في كل من المسائل الأربع، فيبادر لغسل الرجلين في الأولى، ولمسح الأسفلين في الثانية، ولمسح الأسفل في الثالثة، ولنزع الآخر وغسل الرجلين في الرابعة. وإنما وجب نزع الثاني لأنه لا يجمع بين غسل ومسح. والمبادرة هنا كالمبادرة التي تقدمت في الموالاة، فإن طال الزمن عمدا بطل وضوؤه واستأنفه، وبنى بنية إن نسي مطلقا، ويعتبر الطول بجفاف الأعضاء بزمن اعتدلا اهـ. وما تقدم من أن شروط صحة المسح أحد عشر هو

كذلك، وقد ذكرها المصنف إجمالا والآن نذكرها تفصيلا إن شاء الله تعالى كما في الدردير على أقرب المسالك حيث قال: ولجوازه شروط أحد عشر: ستة في الممسوح، وخمسة في الماسح ذكرها بقوله: " بشرط جلد طاهر خرز وستر محل الفرض وأمكن المشي فيه عادة بلا حائل " قال أي أن الشرط الأول في الممسوح كونه جلدا فلا يصح المسح على غيره. الثاني أن يكون طاهرا احترازا من جلد الميتة ولو مدبوغا، الثالث أن يكون مخروزا لا إن لزق بنحو الرسراس. الرابع أن يكون له ساق ساتر لمحل الفرض بأن يستر الكعبين، احترازا من غير الساتر لهما. الخامس أن يمكن المشي فيه عادة، احترازا من الواسع الذي ينسلت من الرجل عند المشي فيه، وهو الذي لا يمكن تتابع المشي فيه. السادس أن لا يكون عليه حائل من شمع أو خرقة أو نحو ذلك " ولبس بطهارة ماء كملت بلا ترفه ولا عصيان بلبسه " قال هذا إشارة لشروط الماسح الخمسة: الأول أن يلبسه على طهارة، احترازا من أن يلبسه محدثا فلا يصح المسح عليه، الثاني أن تكون الطهارة مائية لا ترابية. الثالث أن تكون تلك الطهارة كاملة بأن يلبسه بعد تمام الوضوء أو الغسل الذي لم ينتقض فيه وضوؤه، فلو غسل رجليه قبل مسح رأسه ولبس خفه ثم مسح رأسه لم يجز له المسح عليه، وكذا لو غسل إحدى الرجلين ولبس فيها الخف ثم غسل الثانية ولبس فيها الأخرى لم يجز له مسح حتى ينزع الأولى ثم يلبسها وهو متطهر. والرابع أن لا يكون مترفها بلبسه كمن لبسه لخوف على حناء برجليه، أو لمجرد النوم به، أو لكونه حاكما، أو لقصد مجرد المسح، أو لخوف برغوث فلا يجوز له المسح عليه، بخلاف من لبسه لحر أو برد أو وعر أو خوف عقرب ونحو ذلك فإنه يمسح. الخامس أن لا يكون عاصيا بلبسه كمحرم بحج أو عمرة لم يضطر للبسه فلا يجوز له المسح، بخلاف المضطر والمرأة فيجوز اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " فإن أخرج إحداهما أو أكثر قدمه إلى ساق

فصل في التيمم

الخف نزعهما وغسل " وقد تقدم في هذا عند قول المصنف ولبسه بعد كمال الطهارة بالماء، وكذا عند قوله والخرق اليسير لا يمنعه بخلاف الكثير إلخ فراجع شرح ذلك إن شئت. ثم قال رحمه الله: " والأفضل مسح أعلى القدم وأسفله فإن اقتصر على أعلاه أجزأه بخلاف عكسه " يعني أشار بما يستحب للماسح أن يبدأ به من صفة المسح وكيفيته. وفي الرسالة: وصفة المسح أن يجعل يده اليمنى من فوق الخف من طرف الأصابع، ويده اليسرى من تحت ذلك، ثم يذهب بيده إلى حد الكعبين، وكذلك يفعل باليسرى ويجعل يده اليسرى من فوقها واليمنى من أسفلها، ولا يمسح على طين في أسفل خفه أو روث دابة حتى يزيله بمسح أو غسل اهـ. وقال العلامة الدردير في مندوبات المسح: ووضع يمناه على أطراف أصابع رجله ويسراه تحتها ويمرهما لكعبيه، ومسح أعلاه مع أسفله. وبطلت بترك الأعلى، لا الأسفل فيعيد بوقت. قال والضمير في وبطلت عائد على الصلاة المعلومة من المقام. وترك البعض من الأعلى والأسفل كترك الكل فيعيد لترك بعض الأعلى أبدا، ولبعض الأسفل في الوقت اهـ. ولما فرغ المصنف من الكلام على الخف وما يتعلق بذلك شرع في بيان التيمم المبدل عن الوضوء فقال: فَصْلٌ في التيمم عقد المصنف هذا الفصل في بيان حكم التيمم. والتيمم لغة القصد، وشرعا طهارة ترابية تشتمل على مسح الوجه واليدين بنية نيابة عن الطهارة الصغرى والكبرى، عند

عدم الماء، أو عدم القدرة. والمراد بالتراب جنس الأرض، فيشمل جميع أجزائها إلا ما استثنى كما سيأتي تفصيله. وهو من خصائص هذه الأمة على الإجماع. قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} [المائدة: 6] الآية. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها طهورا إذا لم نجد الماء " اهـ رواه مسلم , قال مالك في الموطأ: من قام إلى الصلاة فلم يجد ماء فعمل بما أمره الله به من التيمم فقد أطاع الله، وليس الذي وجد الماء بأطهر منه ولا أتم صلاة لأنهما أمرا جميعا، فكل عمل بما أمره الله به. وإنما العمل بما أمر الله به من الوضوء لمن وجد الماء، والتيمم لمن لم يجد الماء قبل أن يدخل في الصلاة اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ينتقل إلى التيمم سفرا أو حضرا لعدم الماء أو تعذر استعماله لمرض " يعني أنه إذا لم يجد المصلي الماء للوضوء أو الغسل، أو لم يقدر على استعماله لعذر كمرض، له أن ينتقل إلى التيمم سفرا أو حضرا. ثم عطف المصنف بقية أسباب التيمم على لعدم الماء بقوله: " أو خوف زيادة " أي زيادة مرض " أو تأخر برئه، أو حدوثه، أو سقوط عضو لشدة البرد، أو عدم مناول، أو آلة أو خوف خوف عطش متوقع ولو على غيره " فتلك سبعة معطوفة على لعدم الماء، وكلها موجبة للتيمم. قال العلامة الدردير على أقرب المسالك: اعلم أن التيمم لا يجوز ولا يصلح إلا لأحد أشخاص سبعة: الأول فاقد الماء الكافي للوضوء أو الغسل، بأن لم يجد ماء أصلا، أو وجد ماء لا يكفيه. الثاني فاقد القدرة على استعماله، أي من لا قدرة له عليه، وهو شامل للمكره والمربوط بقرب الماء والخائف على نفسه من سبع أو لص، فيتيمم كل كل منهما في الحضر والسفر ولو سفر معصية خلافا لما مشى عليه الشيخ خليل من تقييده

بالمباح اهـ، وقول المصنف أو خوف زيادة هذا هو الثالث، وهو الواجد للماء وخاف من استعماله زيادة مرضه فإنه يتيمم. وقوله أو تأخر برئه هذا هو الرابع، وهو الواجد للماء القادر على استعماله ولكن إذا خاف تأخر برئه باستعماله فإنه يتيمم. وقوله أو حدوثه هذا هو الخامس، وهو أيضا القادر على استعماله، ولكن إذا خاف باستعماله حدوث مرض من نزلة أو حمى أو نحو ذلك فإنه يتيمم. وقوله أو سقوط عضو لشدة البرد، وهو أيضا واجد للماء، ولكن خاف باستعماله سقوط عضوه، وهذا راجع إلى قوله أو زيادة مرض؛ لأن سقوط العضو يكون غالبا بزيادة المرض وهو السبب السادس من أسباب التيمم. وقوله أو عدم المناول أو آلة. هذا هو السابع. قال الدردير: أي إن من كان له قدرة على استعمال الماء ولكن لم يجد من يناوله إياه، أو لم يجد آلة من حبل أو دلو فإنه يتيمم. ولك أن تدخل هذا القسم في فاقد القدرة على استعماله بإرادة فقد القدرة حقيقة أو حكما، بل إذا تحققت تجد الأقسام ترجع إلى قسمين: الأول فاقد الماء حقيقة أو حكما فيدخل فيه خوف عطش المحترم وتلف المال وخروج الوقت بالطلب أو الاستعمال. الثاني فاقد القدرة كذلك فيشمل الباقي. وفاقد القدرة مقيس على فاقد الماء المنصوص في الآية اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ولو وجده بوقت لو تشاغل باستعماله لخرج الوقت الضروري فمذهب المغاربة لزومه، ومذهب العراقيين يتيمم، وحكاه الأبهري رواية " أخبر المصنف هنا بما اختلف فيه الأئمة في المذهب. قال خليل في المختصر: وهل إن خاف فواته باستعماله؟ خلاف. قال الخرشي: لأي وهل يتيمم المحدث ولو أكبر الواجد للماء بين يديه القادر على استعماله إذا خاف فوات الوقت الذي هو فيه باستعماله وإن تيمم أدركه، وهو الذي رواه الأبهري، واختاره التونسي، وصوبه ابن يونس، وشهره ابن الحاجب، وأقامه اللخمي وعياض من المدونة، أو يتوضأ ولو فاته

الوقت. وحكى عبد الحق عن بعض الشيوخ الاتفاق عليه، فلا أقل من أن يكون مشهورا فلذا قال خلاف. كذا في الصاوي. ولكن المعول عليه الأول. وعبارة الحطاب: والقول بالتيمم إذا خاف الوقت رواه الأبهري عن مالك على ما نقله المأزري وغيره. وهو مذهب ابن القصار وعبد الوهاب وغيرهما من العراقيين. واختاره التونسي وابن يونس وصوبه، وقال أي الحطاب في موضع آخر: وإذا كان الحكم كذلك فيمن يخاف خروج الوقت إذا تشاغل بالطلب فأحرى بمن يخاف خروجه باستعماله الماء أو بنزعه من البئر أو بطلب آلة ينزع بها اهـ. وفي أقرب المسالك: أو خروج وقت باستعماله، قال هذا هو النوع السادس، وهو الخائف باستعمال الماء خروج وقت الصلاة، وأولى بطلبه فإنه يتيمم ولا يطلبه ولا يستعمله إن كان موجودا محافظة على أداء الصلاة في وقتها ولو الاختياري، فإن ظن أنه يدرك منها ركعة في وقتها إن توضأ أو اغتسل فلا يتيمم اهـ. قلت: هذا هو الحق الذي به الفتوى، وهو الذي رواه الأبهري واعتمده الحطاب، ورجحه العدوي في حاشيته على الخرشي، وهو المعول عليه، فلذا اقتصر عليه الدردير كما في حاشية الصاوي عليه، وأما اعتبار التيمم بالوقت الضروري فقد خالفه بعض العلماء. قال الحطاب: وما قاله ابن عسكر من اعتبار الضروري هنا غير معروف، نقله عن ابن غازي. وقال يعني أنه إذا ذكر أن المعتبر في جواز التيمم هو الوقت الضروري فلا يباح التيمم إلا خاف خروجه، وإنه لا يتيمم إذا خاف خروج الوقت المختار فهذا هو غير المعروف. وقد قال اللخمي: الأوقات التي تؤدي فيها الصلاة بالتيمم أوقات الاختيار لا أوقات الضرورات، فكل وقت تؤدي فيه الصلاة بالوضوء ولا يجوز تأخيرها عنه مع الاختيار هو الوقت الذي تؤدي فيه بالتيمم ولا تؤخر عنه اهـ. والحاصل أن خوف خروج الوقت باستعمال الماء مبيح للتيمم سواء كان الوقت ضروريا أو اختياريا كما في حاشية العدوي على الخرشي، وهو الراجح اهـ.

قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويتيمم بجميع أنواع وجه الأرض حتى الصلد والمعادن ما لم تتغير عن أصلها " الدليل في ذلك قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا} قال ابن جزي في القوانين الفقهية في فصل فرائض التيمم: والصعيد هو التراب، ويجوز التيمم بما صعد على الأرض من أنواعها كالحجارة والحصى والرمل والجص، خلافا للشافعي اهـ. وفي أقرب المسالك: وصعيد طاهر كتراب وهو أفضل، ورمل وحجر وجص لم يطبخ، ومعدن غير نقد وجوهر ومنقول كشب وملح وحديد ورخام كثلج، لا خشب وحشيش اهـ. يعني أن أفضل أنواع الصعيد التراب، والمراد بالصعيد كل ما صعد على وجه الأرض من أجزائها من تراب ورمل وحجر ومعدن في محله - غير نقد وجوهر - كذهب وفضة وياقوت ولو بمحلها. وكذا لا يجوز التيمم على كشب وملح وكحل وحديد ورصاص وقزدير إن نقلت عن محلها وصارت أموالا في أيدي الناس، وأما ما دامت في موضعها فيجوز، كجص قبل الحرق. وقول الدردير وجص لم يطبخ، أي يجوز التيمم على جص إن لم تغيره صنعة آدمي. والجص نوع من الحجر يحرق بالنار ويسحق وتبنى به القناطر والمساجد والبيوت العظيمة، فإذا أحرق وهو المراد بالطبخ لم يجز التيمم عليه لأنه خرج بالصنعة عن كونه صعيدا. وقول المصنف حتى الصلد. والصلد هو المكان الشديد الصلابة الذي لا ينبت فيه شيء لشدة صلابته، قال الله تعالى {فَتَرَكَهُ صَلْدًا} [البقرة: 264] أي صلبا أملس لا شيء عليه. وفي الحطاب - بعد كلام ابن عرفة - يعني أنه اختلف في التيمم على صلب الأرض مع وجود التراب على ثلاثة أقوال: الأول: يتيمم به وهو المشهور، الثاني: لا يتيمم به وهو قول ابن شعبان والثالث: يتيمم به في الوقت وهو قول ابن حبيب اهـ. والأول أصح، ولذا ذهب إليه المصنف. ثم قال رحمه الله تعالى: " ويلزم العادم الطلب ما لم يتيقن العدم، أو يكن

على مسافة تشق على مثله، أو يخاف تلف نفس أو مال " قال الدردير: وطلبه، أي ويلزم عادم الماء طلبه لكل صلاة طلبا لا يشق عليه دون الميلين، إلا إذا ظن عدمه. يعني أن من لم يظن عدم الماء في مكان بأن كان مترددا في وجوده أو ظانا لوجوده فإنه يلزمه طلبه والتفتيش عليه لكل صلاة لا يشق على مثله فيما دون الميلين، فإن كان يعلم أو يظن أنه لا يجده إلا بعد مسافة ميلين فلا يلزمه طلبه ولو كان لا يشق عليه، لأن الشأن في مثل ذلك المشقة، كما لا يلزمه الطلب فيما دون الميلين إذا شق عليه أو خاف فوات رفقة، وكذا إذا ظن عدمه، وأولى اليائس منه. قال الصاوي: حاصل ما أفاده المتن والشرح أن صور المسألة عشرون؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون الماء محقق الوجود، أو مظنونه، أو مشكوكا فيه. أو محقق العدم، أو مظنونه، فهذه خمس. وفي كل إما أن يكون على ميلين، أو أقل، فهذه عشر، وفي كل إما أن يشق عليه الطلب أو لا. أما إذا كان محقق العدم أو مظنونه فلا يلزمه الطلب مطلقا. وأما إذا كان محقق أو مظنونه أو مشكوكه فيلزمه الطلب فيما دون الميلين إن لم يشق، وإلا فلا اهـ. وقول المصنف أو يخاف تلف مال له بال بطلب الماء فإنه يجب ترك الطلب، ووجب عليه أن ينتقل إلى التيمم. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويطلبه المسافر من رفقته " يعني لزم المسافر طلب الماء للوضوء أو الغسل من رفقائه الذين معه في السفر إن ظن الإعطاء. قال خليل: كرفقة قليلة، أو حوله من كثيرة إن جهل بخلهم به. الدسوقي: كما يلزمه طلب الماء على دون الميلين يلزمه طلبه من رفقة قلت كالأربعة كانت حوله أم لا، أو ممن حوله من رفقة كثيرة إن جهل بخلهم به بأن اعتقد الإعطاء، أو ظنه، أو شك، أو توهم، فإن لم يطلبه وتيمم وصلى أعاد أبدا إن اعتقد أو ظن الإعطاء، وفي الوقت إن

شك، ولم يعد إن توهم، وهذا كله إن تبين وجود الماء أو لم يتبين شيء، فإن تبين عدمه فلا إعادة مطلقا. ومفهوم جهل بخلهم به أنه لو تحقق بخلهم لم يلزمه الطلب. انتهى. وكذا في الصاوي. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويلزم شراؤه بما لا يجحف بماله وقبوله، لا قبول ثمنه " وفي أقرب المسالك: ولزم شراء الماء بثمن اعتيد وإن بذمته إن لم يحتج له، وقبول هبته، واقتراضه، وكذا في المختصر. أي يجب على المكلف الذي لم يجد ماء لطهارته أن يشتريه بثمن إلى أجل معلوم إن كان غنيا ببلده، أو يرجو الوفاء ببيع شيء أو اقتضاء دين أو نحو ذلك. ومحل وجوب شرائه إذا لم يحتج لذلك الثمن في مصارفه، وإلا جاز له التيمم، كما لو زاد الثمن على المعتاد ولو غنيا، وكذلك يجب عليه قبول هبته إذا وهب له لأجل التطهر به. ومثل الهبة الصدقة والقرض في وجوب القبول لعدم المنة في ذلك اهـ. قال مالك في المدونة: إذا لم يجد الجنب الماء إلا بالثمن، فإن كان قليل الدراهم تيمم، وإن كان يقدر فليشره ما لم يرفعوا عليه في الثمن، فإن رفعوا تيمم حينئذ. قلت هذا مراد المصنف بما لا يجحف بماله والله أعلم. وقوله لا قبول ثمنه، أي لا يلزمه قبول هبة الثمن ليشتري به الماء. قال بعضهم: ولو وهب له ثمن الماء وهو لا يجد الثمن لم يلزمه قبوله؛ لأن هذا مال تدركه فيه المنة اهـ. ذكره المواق. ثم انتقل يذكر صفة التيمم المستحبة فقال رحمه الله تعالى: " وأكمله بضربتين تعم وجهه ويراعي الوترة، وحجاج العينين، وموضع العنقة، إن لم يكن عليه شعر " يعني أخبر أن أكمل صفة التيمم يكون بضربتين، الأولى فرض من فرائض التيمم، والثانية سنة. والمراد بالضرب هنا وضع اليدين على الصعيج بنية التيمم. بأن ينوي

استباحة الصلاة من الحدث الأكبر إن كان محدثا حدثا أكبر، أو الأصغر، وتكون النية عند الضربة الأولى، يقول باسم الله، ويستعمل الصعيد، يضرب عليه بيديه جميعا ضربة واحدة، فإن تعلق بهما شيء نفضهما نفضا خفيفا، ويمسح بهما وجهه كله يبدأ من أعلاه إلى أن يعم جميع الوجه، ثم يضرب بيديه الأرض، فيمسح ظاهر يده اليمنى بيده اليسرى، بأن يجعل أصابع يده اليسرى على أطراف أصابع يده اليمنى، ويمر بها على ظاهر يده وذراعه. وقد حنى عليه أصابعه حتى ينتهي إلى المرفق، ثم يجعل كفه على باطن ذراعه من طي مرفقه قابضا عليه حتى يبلغ الكوع من يده اليمنى، ويجري باطن إبهامه اليسرى على ظاهر إبهام يده اليمنى، ثم يمسح ظاهر اليسرى باليمنى إلى المرفق ثم يمسح باطنها إلى حد الكوع، ثم يمسح كفه اليمنى بكفه اليسرى إلى آخر أطرافه، ويخلل أصابعه. ويجب عليه نزع الخاتم، فإن لم ينزعه لم يجزه. ويجب عليه تعميم وجهه كله بالمسح كما تقدم. وهذا الترتيب مستحب. ولو مسح اليمنى باليسرى واليسرى باليمنى كيف شاء وتيسر عليه وأوعب المسح لأجزأه، وقد تقدم أن الضربة الثانية سنة، وكذا المسح إلى المرفقين، فلو اقتصر على ضربة واحدة للوجه واليدين أجزأه، ولو اقتصر في مسح يديه على الكوعين وصلى أعاد في الوقت. وقوله ويراعي الوترة بفتح الواو وهي الحاجز الذي بين طاقتي الأنف، وتسمى بالمارن. وقوله وحجاج العين، وفي المصباح: وحجاج العين بالكسر، والفتح لغة: العظم المستدير حولها، وهو مذكر وجمعه أحجة. وكذلك ينبغي للمتيمم أن يراعي موضع العنفقة وهي المحل الذي ينبت فيه الشعر تحت الشفة السفلى إذا لم يكن فيه شعر أن يعمه بالمسح، وإن كان يكره عليه تتبع الغضون لأن هذا من تعميم الوجه بالمسح، وهو واجب. وقد تقدم أن أكمل صفة التيمم يكون بضربتين: ضربة للوجه وضربة لليدين. وإليه أشار المصنف رحمه الله بقوله: " ويديه إلى المرفقين " وتقدم أن الضربة الأولى فريضة والثانية سنة. ومن اقتصر

على ضربة واحدة في مسح الوجه واليدين أجزأه. والدليل على ذلك حديث عمار بن ياسر الذي اتفق أصحاب الحديث على صحته، ونصه " جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال إني أجنبت فلم أصب الماء فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر إذ كنا في سفر أنا وأنت، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت وصليت، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنما كان يكفيك هكذا، فضرب بكفيه على الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه " اهـ. قال الشارح: هذا صريح في أن التيمم بضربة واحدة للوجه والكفين فقط، وعليه بعض الصحب والتابعين وجمهور المحدثين، وقال به من الفقهاء الأوزاعي ومالك وأحمد وإسحاق، لكن الأكمل عندهم تتميم المسح إلى المرفقين. وقد أجاب مالك بالصفة الأكملية لما سئل عن كيفية التيمم وأين يبلغ به فقال: يضرب ضربة للوجه وضربة لليدين ويمسحهما إلى المرفقين. قال الزرقاني في شرحه على الموطأ: أجاب بالأكمل ليجمع بين الفرض والسنة، فلو اقتصر على ضربة واحدة لهما كفاه ولا إعادة على المذهب. وقال عند قوله يمسحهما إلى المرفقين تحصيلا للسنة، ولو مسحهما إلى الكوع صح، ويستحب الإعادة في الوقت. فأجاب رحمه الله بالصفة الكاملة وإن كان الواجب عنده ضربة لهما. وإلى الكوعين، لما في الصحيحين من حديث عمار بن ياسر المتقدم اهـ باختصار. وما ذكره من مسح اليدين إلى المرفقين هو المشهور في المذهب. وإليه أشار المصنف رحمه الله تعالى بقوله: " على المنصوص " المراد بالمنصوص - والله أعلم - ما نصه المتقدمون من الصحابة والتابعين كحديث عمار بن ياسر، وفعل ابن عمر وغيره من الأئمة رضي الله عنهم أجمعين. كما أفتى به الإمام. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ينزع خاتمه ويخلل أصابعه " قد سبق لنا شرح هذا في صفة التيمم فراجعه.

قال المصنف رحمه الله تعالى: " وأجاز ابن القاسم إلى الكوعين " ابن القاسم هو عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة المصري من أئمة المالكية صحب مالكا عشرين سنة يتفقه منه، وعنده أن المسح إلى الكوعين فرض، وإلى المرفقين سنة كما فهم من حديث عمار، وهو ظاهر قول الله تعالى: {فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} ولم يذكر فيها إلى المرافق كما ذكره في آية الوضوء، وقياسا على القطع في السرقة. وأما نصوص أهل المذهب في ذلك فهي ظاهرة كشمس الضحى. قال خليل في المختصر: وسن ترتيبه، وإلى المرفقين، وتجديد ضربة اهـ. انظر شراحه. وفي المقدمات بعد كلام طويل: وإن التيمم عنده - أعني عند مالك - من الجنابة والحدث الذي ينقض الوضوء سواء، وإن فرض التيمم فيها ضربة واحدة للوجه واليدين إلى الكوعين، إلا أنه يستحب ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، فإن تيمم إلى الكوعين أعاد في الوقت، وإن تيمم بضربة واحدة لوجهه ويديه إلى المرفقين لم يعد اهـ. فدل ذلك على أن الفرض إلى الكوعين وما زاد عليهما سنة فتأمل والله أعلم بالصواب. قال المصنف رحمه الله: " ينوي به استباحة الصلاة " أو فرض التيمم، ولا ينوي به رفع الحدث لما فيه من الخلاف، ولذا قال المصنف رحمه الله: " لا رفع الحدث " لأن التيمم لا يرفع الحدث على المشهور. قال رحمه الله: " الأصغر والأكبر سواء " يعني أن التيمم لا يرفع الحدث الأصغر ولا الأكبر، أشار المصنف بما في المقدمات لابن رشد، وأنه عقد لهذه المسألة فصلا فقال: التيمم لا يرفع الحدث الأكبر ولا الأصغر عند مالك رحمه الله وجميع أصحابه وجمهور أهل العلم، خلافا لسعيد بن المسيب وابن شهاب في قولهما: أنه يرفع الحدث الأصغر دون الأكبر، وخلافا لقول أبي سلمة بن عبد الرحمن في أنه يرفع الحدثين جميعا، حدث الجنابة

والحدث الذي ينقض الوضوء. انظر المقدمات. وما ذكره الدردير من ملاحظة الحدث الأكبر ليس باعتراض في المسألة وهو قوله: ووجب عليه ملاحظة الحدث الأكبر إن كان عليه أكبر بأن ينوي استباحة الصلاة من الحدث الأكبر، فإن لم يلاحظه بأن نسيه أو لم يعتقد أنه عليه لم يجزه، وأعاد أبدا اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ولا يجزئ قبل دخول وقت الصلاة " وفي بعض النسخ بإسقاطه لفظ " وقت " وهو خطأ. يعني من شروط صحة التيمم دخول الوقت، ومن تيمم قبل دخول الوقت فلا يجزئه تيممه ووجب عليه الإعادة. قال خليل: وفعله في الوقت. أي لزم فعل التيمم في الوقت لا قبله ولو اتصل ولو نفلا كركعتي الفجر. والمعنى أنه يجب فعل التيمم في وقت الصلاة، وذلك لأنه إنما جاز للضرورة، والضرورة لا تتحقق إلا بعد دخول الوقت، فلو فرض أنه تيمم قبل دخول الوقت وبعد فراغه بسرعة دخل الوقت فهو باطل. والوقت في صلاة الجنازة بعد غسل الميت وإدراجه في الكفن، وإذا تيمم قبل ذلك لم يصح تيممه. ومن تيمم للوتر بعد طلوع الفجر جاز له أن يصلي به الفجر. هذا إذا تيمم بعد الفجر، وأما من تيمم للوتر قبل الفجر فلا يصلي به الفجر اهـ الصفتي مع زيادة إيضاح كما قال المصنف رحمه الله تعالى: " يتيمم اليائس أوله والراجي آخره والمتردد وسطه " وقد تقدم بعض أحكام عادم الماء عند قول المصنف: ويلزم العادم الطلب ما لم يتيقن العدم. وما ذكره من قوله ما لم يتيقن العدم، فإذا تيقن عدم الماء صار يائسا، وهو الذي يئس من وجود الماء أو لحوقه في الوقت المختار فإنه يتيمم أول الوقت، إذ لا فائدة في تأخيره، وأما الراجي فهو الذي غلب على ظنه وجود الماء في الوقت فإنه يتيمم في آخر الوقت المختار. والمتردد في لحوق الماء أو وجوده

أو زوال المانع فإنه يتيمم وسط الوقت المختار. قال ابن عاشر رحمه الله تعالى في المرشد المعين: آخره للراج آيس فقط ... أوله والمتردد الوسط وفي الرسالة: وإذا أيقن المسافر بوجود الماء في الوقت أخر إلى آخره، وإن يئس منه تيمم في أوله وإن لم يكن عنده منه علم تيمم وسطه. وكذلك إن خاف ألا يدرك الماء في الوقت ورجا أن يدركه فيه اهـ. ثم انتقل يذكر ما يبطل به التيمم بقوله رحمه الله تعالى: " ووجود الماء قبل الشروع يبطله " يعني أن وجود الماء قبل الدخول في الصلاة بأن لم يكبر مبطل للتيمم، ووجب عليه الوضوء إن كان عليه الحدث الأصغر، أو الغسل إن وجب. وفي العزية: ويبطل التيمم بما يبطل به الوضوء، وبوجود الماء قبل الصلاة إلا أن يخشى فوات الوقت باستعماله. وإذا رأى الماء وهو في الصلاة لم تبطل صلاته اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وفي أثنائها أو بعد الفراغ منها لا يلزمه إعادة إلا من نسيه في رحله " وفي شرح العزية عند قول مصنفها: وإذا رأى الماء وهو في الصلاة لم تبطل صلاته. يعني لو اتسع الوقت، ويحرم عليه قطعها إلا أن يكون ناسيا له فتبطل إن اتسع الوقت، وإلا فلا. وترك حكم ما إذا رآه بعد الفراغ منها، وحكمه أنه إذا كان ناسيا للماء تندب له الإعادة في الوقت لتقصيره، وإن لم يكن ناسيا له فلا تندب له الإعادة. هذا بعد الطلب ولم يجده اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ولا يجمع فريضتين بتيمم واحد، بخلاف النوافل في فور أو تابعة للفرض " وفي نسخة " ولا يجمع بين فرضين " وكلها صحيحة.

وما ذكره المصنف هو المشهور. وفي المختصر: لا فرض آخر وإن قصدا، وبطل الثاني ولو مشتركة. الشارح: يعني لا يجوز فرضان بتيمم واحد وإن قصدا معا عند التيمم، وإذا وقع بطل الثاني ولو لمريض لا يقدر على مس الماء، أو إحداهما منذورة، أو فائتة، أو مشتركة مع الأخرى في الوقت كظهرين وعشاءين، وأعادها أبدا على المشهور. وما رواه أصبغ من إعادة الثانية من المشتركتين في الوقت وغيرها أبدا مردود بالمبالغة من قول خليل: ولو مشتركة كما نقله الصاوي عن الدسوقي، انظر الخرشي، وقرره الدردير، وقوله بخلاف النوافل في فور أو تابعة للفرض، قال في أقرب المسالك مبينا لذلك: وجاز نفل، ومس مصحف وقراءة، وطواف، وركعتاه بتيمم فرض أو نفل وإن تقدمت، وصح الفرض إن تأخرت. قال يعني أن من تيمم لفرض سواء كان حاضرا صحيحا أم لا، ولنفل استقلالا بأن كان مريضا أو مسافرا فإنه يجوز له أن يصلي بذلك التيمم نفلا وجنازة، وأن يمس به المصحف ويقرأ القرآن إن كان جنبا، وأن يطوف ويصلي ركعتين، وسواء قدم هذه الأشياء على الفرض أو النفل الذي قصده بالتيمم فظاهر، وإن قدمها على ما قصده به فإن كان المقصود به نفلا كان تيمم مريض أو مسافر لصلاة الضحى مثلا جاز له أن يصلي به ذلك النفل المقصود بعدها، وإن كان المقصود به فرضا لا يصح أن يصليه بعد أن فعل شيئا منها، فقوله وصح الفرض إن تأخرت، أي صح الفرض الذي قصد له التيمم من حاضر صحيح أو مسافر أو مريض إن قدمه عليها، لا إن قدمها أو شيئا منها عليه. وحاصل المسألة أن من تيمم لشيء من هذه الأشياء يجوز أن يفعل به غير ما نوى منها متقدما أو متأخرا إلا الفرض إذا نوى له التيمم فإنه لا يجوز إلا إذا تقدم اهـ. وفي المرشد المعين: وصل فرضا واحدا وإن تصل ... جازة وسنة به يحل وجاز للنفل ابتدا ويستبيح ... الفرض لا الجمعة حاضر صحيح

يعني من تيمم للفرض لا يجوز له أن يصلي بذلك التيمم إلا فرضا واحدا، ولا يجوز له أن يصلي بالتيمم فرضين ولو قصدهما به فإن الفرض الثاني باطل ولو مشتركتي الوقت كالظهر والعصر مثلا، وجاز أن يصلي بذلك التيمم الجنازة والوتر لمن تيمم للعشاء، والطواف إذا كان متصلا بالفرض الذي تيمم له. وقول الناظم: وجاز للنفل إلخ، يعني أنه يجوز التيمم للنافلة ابتداء أي استقلالا، وغنما يصليها بالتبع للفرض. ولا يجوز له أن يصلي الجمعة بالتيمم، فإن فعل لم يجزئه اهـ الحبل المتين. وفي الأخضري: ولا تصلى فريضتان بتيمم واحد، ومن تيمم لفريضة جاز له النوافل بعدها ومس المصحف والطواف والتلاوة إن نوى ذلك واتصلت بالصلاة ولم يخرج الوقت. وجاز بتيمم النافلة كل ما ذكر إلا الفريضة. ومن صلى العشاء بتيمم قام للشفع والوتر بعدها من غير تأخير. ومن تيمم من جنابة فلا من نيتها اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وفي الفوائت قولان " قال أبو الحسن: والقول الأول لابن شعبان، والثاني لابن القاسم وهو المشهور. وفي الرسالة: وقد روي عن مالك فيمن ذكر صلوات أن يصليها بتيمم واحد، قال النفراوي: وهذا ضعيف والمعتمد من المذهب أن كل فرض لا بد له من تيمم، وهو المحكي قبل هذا بقليل، وعلى المشهور لو خالف بأن صلى الفوائت بتيمم واحد فإنه يعيد ما بعد الأولى أبدا عنه ابن القاسم، ولو كانت مشتركتين في الوقت على ما شهره في المختصر. قال العدوي فيمن صلى الفريضتين بتيمم واحد أنه يعيد الثانية أبدا ولو كانتا فائتتين، ولو كانت إحداهما منذورة، قاله تت على الشامل اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ومن عدم الماء والصعيد حتى خرج الوقت الضروري فالمنصوص سقوطها. وعن ابن القاسم يصلي ويقضي. وقال أشهب

لا يقضي. وقال أصبغ لا يصلي حتى يجد أحداهما " يعني أخبر المصنف رحمه الله بما اشتهر في المذهب من سقوط الصلاة وقضائها لعدم الماء والصعيد، وهو قول الإمام. ووجهه والله أعلم أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها. وفي المختصر: وتسقط صلاة وقضاؤها بعدم ماء وصعيد، وعبارة الدردير على أقرب المسالك: وتسقط الصلاة بفقد الطهورين أو القدرة على استعمالهما، قال: والمذهب أن فاقد الطهورين وهما الماء والتراب، أو فاقد القدرة على استعمالهما كالمكره والمصلوب تسقط عنه الصلاة أداء وقضاء، كالحائض. وقيل يؤديها بلا طهارة ولا يقضي كالعريان. وقيل يقضي ولا يؤدي وقيل ويقضي عكس الأول. الخرشي يعني أن من عدم الماء والصعيد كراكب سفينة أو مصلوب لا يصل إلى الماء، أو فوق شجرة تحتها مانع من الماء، أو مريض لا يجد منا ولا، فإن الصلاة تسقط عنه في الوقت، ويسقط عنه قضاؤها بعده عند مالك، وكذا بعدم القدرة على استعمالهما، وظاهره أمكنه الإيماء إلى الأرض أم لا، لأن الطهارة شرط أداء وقد عدم. وشرط القضاء تعلق الأداء بالقاضي اهـ. قال العلامة المحقق الشيخ محمد عليش في تقريراته على الدسوقي: قول الإمام بسقوط الأداء والقضاء مبني على أن القدرة على الطهور شرط وجوب وصحة. وقول أشهب بوجوب الأداء فقط مبني على أن الطهارة بالفعل شرط صحة على القادر. وقول أصبغ بوجوب القضاء فقط مبني على أنها شرط صحة على القادر والعاجز. وقول ابن القاسم بوجوبهما مبني على الاحتياط. واتفق غير الإمام على أن القدرة على ذلك ليست شرطا في الوجوب. ثم قال: هذا ما وجه به الأقوال الأربعة في ضوء الشموع. وقوله في ضوء الشموع وهو شرح على المجموع لمؤلفه العلامة الشيخ محمد الأمير مفتي المالكية بالحجاز سابقا، وهو كتاب معتبر في المذهب: واعلم أن في المسألة أربعة أقوال: الأول: لمالك وابن نافع من أن فاقد الطهورين لا يصلي ولا يقضي.

الثاني: قول ابن القاسم يصلي ويقضي. الثالث: يصلي ويقضي، قاله أشهب. الرابع: لا يصلي ولكن يقضي إذا وجد أحد الطهورين وهو قول أصبغ. وقد نظم بعضهم هذه الأقوال: ومن لم يجد ماء ولا متيمما ... فأربعة الأقوال يحكين مذهبا يصلي ويقضي عكس ما قال مالك ... وأصبغ يقضي والأداء لأشهبا قال التتائي: وللقابسي ذو الربط يومي لأرضه ... بوجه وأيد للتيمم مطلبا اهـ. وفي المواق روى معن والمدنيون عن مالك فيمن لم يجد ماء ولا ما يتيمم به، كمن تحت هدم أو مريض ولا يجد من يناوله ماء ولا ترابا أنه لا يصلي ولا يقضي. قال ابن القصار: وهو المذهب. قال ابن خويز منداد: وهو الصحيح من مذهب مالك. قال أبو عمر: لا أدري كيف أقدر على أن أجعل هذا الصحيح من مذهب مالك مع خلافه جمهور السلف وعامة الفقهاء وجماعة المالكيين. روى ابن سحنون عن أبيه أنه يصلي ولا إعادة عليه وكذا قال أشهب اهـ. قال ابن عبد السلام: والأكثرون على اختيار ما لأشهب معتمدين على ظواهر أشهرها صلاة الصحابة قبل نزول آية التيمم لما عدموا الماء، لأن عدم الماء قبل شرع التيمم كعدم الماء والتيمم بعد شرعه اهـ قلت: وإلى هذا القول ذهب العلامة الشيخ عبد الرحمن الجزيري في كتابه المسمى بالفقه على المذاهب الأربعة في مبحث من عجز عن الوضوء والتيمم، قال: من عجز عن الوضوء والتيمم لمرض شديد أو حبس في مكان ليس به ما يصح التيمم عليه فإنه يجب عليه أن يصلي في الوقت بدون وضوء وبدون تيمم، على أن المريض الذي لا يقدر على القيام للصلاة فإنه يصلي قاعدا فإن عجز يصلي

فصل في أحكام الحيض

بالإشارة كما سيأتي في مبحث الصلاة بالإيماء. والغرض من هذا إنما هو إظهار الخشوع والخضوع لله عز وجل في جميع الأحوال. فما دام الإنسان قادرا على إظهار هذا الخشوع بأي كيفية من الكيفيات فعليه أن يفعلها وله على ذلك أجر العاملين الأقوياء بلا فرق، بل ربما كان أوفر أجرا لأن الذي يخضع قلبه لمولاه وتظهر آثار هذا الخضوع على جوارحه وهو مريض تعب أقرب إلى رضوان الله تعالى ورحمته إن شاء الله. أما كيفية طهارة فاقد الماء وفاقد ما يصح التيمم عليه وصلاتهما فإن فيهما تفصيل المذاهب اهـ. انظر المذاهب تجدها راجعة إلى الأربعة الأقوال المتقدمة. والله هو الهادي إلى الصواب. ولما أنهى الكلام على التيمم وجميع أحكامه انتقل رحمه الله تعالى يتكلم على الحيض وأحكامه فقال: فَصْلٌ في أحكام الحيض اعلم أن المصنف رحمه الله عقد هذا الفصل في بيان أحكام الحيض وما يتعلق به من علامات الطهر للحائض وغيرها. وفي بعض التقريرات الحيض من علامات البلوغ للفتاة كالحمل وهو كما في المختصر: دم كصفرة أو كدرة خرج بنفسه من قبل من تحمل عادة. وقال الآخر: الحيض لغة السيلان، وعرفا دم يرخيه رحم المرأة بعد بلوغها في أوقات معتادة. وأقل سن تحيض فيها الفتاة تسع سنين، وما خرج منها قبلها فليس بحيض، وكذا ما يخرج بعد سبعين سنة اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " لا حد لأقل الحيض كالنفاس " يعني لا حد لأقل

دم الحيض، كما لا حد لأقل دم النفاس. قال في أقرب المسالك: وأقله في العبادة دفعة فيجب عليها الغسل بالدفعة، ويبطل به صومها، وتقضي ذلك اليوم. وأما في العدة والاستبراء فلا يعد حيضا إلا ما استمر يوما أو بعض يوم له بال. قال المصنف رحمه الله: " وأكثره خمسة عشر يوما كمشهور أقل الطهر " العزية: وأما أكثر الحيض فيختلف باختلاف الحيض، فإن كانت مبتدأة فأكثره في حقها إذا تمادت بها الحيضة خمسة عشر يوما، وإن كانت معتادة فإما أن تختلف عادتها أم لا، فإن لم تختلف استظهرت على عادتها بثلاثة أيام ما لم تجاوز خمسة عشر يوما، وإن اختلفت استظهرت على أكثر عادتها كذلك وهي في أيام الاستظهار حائض، فإن تمادى بها إلى خمسة عشر يوما فحكمها حكم الطاهر في توجيه الصلاة والصوم وعدم القضاء وإتيان الزوج اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وتعتبر المبتدأة بأترابها " وهي التي لم يتقدم لها حيض قبل ذلك، فإن تمادى بها الدم فالمشهور أنها تمكث خمسة عشر يوما اهـ. الخرشي. وفي المدونة: ما رأت المرأة من الدم أول بلوغها فهو حيض، فإن تمادى بها قعدت عن الصلاة خمسة عشر يوما، ثم هي مستحاضة وتغتسل وتصوم وتصلي وتوطأ اهـ. قال المصنف رحمه الله: " فإن تجاوزتهن فرواية ابن القاسم في المدونة تتمادى أكثره " أي تتمادى إلى تمام خمسة عشر يوما، ثم هي مستحاضة تغتسل وتصلي وتصوم وتوطأ كما تقدم. وقيل تستظهر وإليه أشار المصنف رحمه الله: " وروى ابن وهب تستظهر بثلاثة أيام ما لم تجاوز أكثره " إذا تمادى بها الدم إلى أكثر الحيض وهو خمسة عشر يوما تغتسل ولا تستظهر. رواه عبد الله بن سعيد.

قال المصنف رحمه الله تعالى: " وروي عن ابن زياد تقتصر على عوائدهن " الضمير في عوائدهن عائد إلى أترابها، يعني أقرانها في السن، فتستعمل بعوائدهن في الحيض من قلة الدم وكثرته على ما رواه ابن زياد عن مالك. يقال إنها تقيم قدر أيام لداتها، ثم هي مستحاضة بعد ذلك تصلي وتصوم ويأتيها زوجها أبدا إلا أن ترى دما تستكثره لا تشك فيه أنه دم حيضة. وقد قيل إنها تقعد أيام لداتها عن مالك؛ لأن أقصى ما تحبس النساء للدم خمس عشرة ليلة اهـ، قال ابن جزي في القوانين: فالمبتدأة تعتبر أيام لداتها فإن تمادى بها الدم اغتسلت وكانت مستحاضة وقيل تستظهر على ذلك بثلاثة أيام وقيل تكمل خمسة عشر يوما. والمشهور لا استظهار لها كما تقدم اهـ، اعلم أن أربعا من من النساء لا تستظهر واحدة منهن: المبتدأة والحامل والمستحاضة والنفساء، قاله الصاوي في آخر باب النفاس اهـ، ثم ذكر المصنف المعتادة أي غير المبتدأة بقوله رحمه الله: " وفي تجاوز المعتادة عادتها روايات ثم هي مستحاضة وهي مستمرة الطهارة " يعني أن المعتادة إذا تجاوزت عادتها واختلف فيها العلماء اختلافا كثيرا ذكر ابن رشد بعض ذلك في المقدمات فقال: فصل تمادى بالمرأة الدم المحكوم له بأنه دم حيض ففي ذلك ستة أقوال أحدها أنها تبقى أيامها المعتادة وتستظهر بثلاثة أيام ثم تكون مستحاضة تغتسل وتصلي وتصوم وتطوف إن كانت حاجة ويأتيها زوجها ما لم تر دما تنكره بعد مضي أقل مدة الطهر من يوم حكم باستحاضتها، وهو ظاهر رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة لأنه قال في الحج أن الكرى لا يحبس عليها إلا أيامها المعتادة والاستظهار، فظاهر قوله أنها تطوف بعد الاستظهار وقبل تمام الخمسة عشر يوما كالمستحاضة وعلى هذه الرواية تغتسل عند تمام الخمسة عشر يوما استحبابا ولا إيجابا، والقول الثاني أنها تقعد أيامها المعتادة والاستظهار ثم تغتسل استحبابا وتصلي احتياطا وتصوم وتقضي الصيام ولا يطؤها زوجها ولا تطوف طواف الإفاضة إن كانت حاجة إلى تمام الخمسة عشر يوما، فإذا بلغت الخمسة عشر يوما

اغتسلت إيجابا وكانت مستحاضة، وهذا دليل رواية ابن وهب عن مالك في كتاب الوضوء من المدونة، والقول الثالث أنها تقعد إلى تمام الخمسة عشر يوما ثم تغتسل وتصلي وتكون مستحاضة، والقول الرابع أنها تقعد أيامها المعتادة ثم تغتسل وتكون مستحاضة من غير استظهار وهو قول محمد بن مسلمة، والقول الخامس أنها تقعد أيامها المعتادة ثم تغتسل وتصلي وتصوم ولا يأتيها زوجها، فإن انقطع عنها الدم ما بينها وبين خمسة عشر يوما علم أنها حيضة انتقلت ولم يضرها ما صامت وصلت، يريد وتغتسل عند انقطاعه. وإن تمادى بها الدم على خمسة عشر يوما علم أنها كانت مستحاضة وأن ما مضى من الصيام والصلاة في موضعه ولم يضره امتناعه من الوطء اهـ انظر في المقدمات. قال المصنف رحمه الله تعالى: " إلا أن تكون مميزة فتعمل على ما تقدم عند تغير الدم وبعده طهر فاصل " يعني أن المميزة تعمل بتمييزها من رؤية أوصاف الدم وأحواله من التقطع والزيادة واللون ككدورته وصفرته واسوداده ونحو ذلك من أوصافه، فتتميز به مما هو حيض وما هو استحاضة. وقد قال عليه الصلاة والسلام لفاطمة بنت أبي حبيش: " إن دم الحيض دم أسود يعرف فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي " اهـ رواه أبو داود والنسائي عن عائشة. وفي المختصر: والمميز بعد طهر تم حيض. قال الشارح: المستحاضة إن لم تميز بين الدمين فلا إشكال أنها على حكم الطاهر ولو أقامت طول عمرها وتعتد عدة المرتابة، وإن كانت تميزه فالمميز من الدم إما أن يكون قبل طهر تام ولا حكم له، وإما بعد طهر تام من يوم حكم لها بالاستحاضة، فالمميز حيض في العبادة اتفاقا، والعدة على المشهور اهـ الخرشي. وعبارة الدردير على أقرب المسالك أنه قال: فإن ميزت بعد طهر تم فحيض، فإن دام بصفة التميز استظهرت، وإلا فلا. يعني أن المستحاضة - وهي من استمر بها الدم بعد تمام حيضها بتلفيق أو بغير تلفيق - إذا ميزت الدم بتغير رائحة أو لون أو رقة أو ثخن أو نحو

ذلك بعد تمام طهر أي نصف شهر، فذلك الدم المميز حيض لا استحاضة. فإن استمر بصفة التميز استظهرت بثلاثة أيام ما لم تجاوز نصف شهر، ثم هي مستحاضة، وإلا بأن لم يدم بصفة التميز بأن رجع لأصله مكثت عادتها فقط ولا استظهار اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ومن تقطع دمها فإن كان الثاني بعد طهر فحيض مؤتنف، وإلا فهما حيضة فتلفق حتى تبلغ أكثره، فإن زاد فمستحاضة وتغتسل وتصلي وتصوم أيام انقطاعه وتوطأ " وفي المختصر: وإن تقطع طهر لفقت أيام الدم فقط على تفصيلها. قال الشارح: يعني أن المرأة إذا أتاها الحيض في وقته وانقطع بعد يوم أو يومين أو ساعة وأتاها بعد ذلك قبل طهر تام فإنها تلفق أيام الدم بعضها إلى بعض على تفصيلها السابق، فإن كانت معتادة فتلفق عادتها واستظهارها، وإن كانت مبتدأة لفقت نصف شهر، وإن كانت حاملا في ثلاثة أشهر فأكثر لفقت نصف شهر ونحوه، وبعد ستة أشهر لفقت عشرين يوما ونحوها، وفي الشهر الأول والثاني لفقت ما يلزمها على الخلاف المتقدم وألغت في الجميع أيام الطهر إن نقصت عن أيام الدم اتفاقا، إذ لا يكون الطهر أقل من أيام الحيض أصلا، وكذا إن ساوت أو زادت على المشهور اهـ. وفي المدونة قال مالك رحمه الله: إذا رأت المرأة الدم يوما ثم انقطع عنها يومين ثم رأته يوما بعد اليومين، ثم انقطع عنها يوما أو يومين، ثم رأته بعد ذلك يوما أو يومين، قال إذا اختلط هكذا حسبت أيام الدم وألغت ما بين ذلك من الأيام التي لم تر فيها دما، فإذا استكملت من أيام الدم قدر أيامها التي كانت تحيضها استظهرت بثلاثة أيام، فإن اختلط عليها أيضا أيام الاستظهار حسبت أيام الدم وألغت أيام الطهر التي فيها بين الدمين حتى تستكمل ثلاثة أيام من أيام الدم، فإذا استكملت ثلاثة أيام من أيام الدم بعد أيام حيضتها اغتسلت وصلت وكانت مستحاضة بعد ذلك، والأيام التي استظهرت بها هي فيها حائض، وهي مضافة إلى دم الحيض إن رأت الدم فيها بعد ذلك، وإن لم تره والأيام التي

كانت تلغيها فيما بين الدم الذي كانت لا ترى فيها دما تصلي فيها ويأتيها زوجها وتصومها، وهي فيها طاهرة، وليست تلك الأيام بطهر تعتد به في عدة من طلاق لأن الذي قبل تلك الأيام من الدم والتي بعد تلك الأيام قد أضيف بعضها إلى بعض وتجعل حيضة واحدة، وكان ما بين ذلك من الطهر ملغى، ثم تغتسل بعد الاستظهار وتصلي وتتوضأ لكل صلاة إن رأت الدم في تلك الأيام وتغتسل كل يوم إذا انقطع عنها الدم من أيام الطهر. وإنما أمرت أن تغتسل لأنها لا تدري لعل الدم لا يرجع إليها ولا تكف عن الصلاة بعد ذلك، وإن تطاول بها الدم الأشهر، إلا أن ترى في ذلك دما لا تشك وتستيقن أنه دم حيضة فلتكف عن الصلاة، ويكون لها ذلك عدة من طلاق، وإن لم تستيقن لم تكف عن الصلاة ولم يكن لها ذلك عدة، وكانت عدتها عدة المستحاضة ويأتيها زوجها في ذلك وتصلي وتصوم اهـ. ثم انتقل المصنف إلى بيان علامة الطهر في دم الحيض والنفاس فقال رحمه الله تعالى: " وعلامة الطهر الجفوف أو القصة البيضاء " يعني أخبر المصنف أن للطهر علامتين: الأولى الجفوف وهي وهي أن تدخل المرأة خرقة في فرجها فتخرج جافة ليس عليها شيء من الدم. والثانية القصة البيضاء وهي ماء أبيض كالمني أو الجير المبلول وهو المسمى بالقصة، أي هي ماء رقيق يأتي في آخر الحيض كماء القصة وهي أبلغ للمعتادة من الجفوف، فإذا رأت الجفوف أولا انتظرت القصة لآخر الوقت المختار بحيث يسع الطهر مع إدراك الصلاة. هذا حكم معتادة القصة وكذا معتادتهما معا. وأما المبتدأة فحكمها أنها لا تنتظر القصة إذا رأت الجفوف أولا، بل تغتسل وتصلي وتصوم ويأتيها زوجها. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويمنع وطؤها قبل غسلها، فإن فعل أثم ولا كفارة عليه " والمعنى أن وطء الحائض والنفساء ممنوع بعد انقطاع الدم وقبل غسلها بالماء لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ

أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] وقوله تعالى: {حَتَّىَ يَطْهُرْنَ} أي يغتسلن بالماء بعد انقطاع الدم فإذا تطهرن أي بالماء فأتوهن الآية. ومن اقتحم الممنوع أثم، ويجب عليه الاستغفار ولا كفارة عليه. قال ابن جزي في القوانين: ومنع الجماع بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال خلافا لأبي حنيفة، فإن وطئ في الحيض فليستغفر ولا كفارة عليه. وقال ابن حنبل: يتصدق بدينار أو نصف دينار اهـ. واستدل القائل بالصدقة بالذي أتى امرأته وهي حائض قال له عليه الصلاة والسلام: " يتصدق بدينار أو بنصف دينار " رواه ابن عباس، ولكن رجح المحققون وقفه، والصحيح ما روي عن مالك في الموطأ، أنه قال: إن سالم بن عبد الله وسليمان بن يسار سئلا عن الحائض هل يصيبها زوجها إذا رأت الطهر قبل أن تغتسل؟ فقالا لا حتى تغتسل اهـ. هذا هو المشهور في المذهب. وفي الرسالة: ولا يطأ الرجل امرأته التي انقطع عنها دم حيض أو نفاس بالتطهر بالتيمم حتى يجد من الماء ما تتطهر به المرأة، ثم ما يتطهران به جميعا اهـ. وفي الأخضري: ولا يحل للحائض صلاة ولا صوم، ولا طواف، ولا مس مصحف، ولا دخول مسجد، وعليها قضاء الصوم دون الصلاة. وقراءتها جائزة. ولا يحل لزوجها فرجها، ولا ما بين سرتها وركبتيها حتى تغتسل. وفي المختصر: ووطء فرج، أي وكذا يمنع الحيض الوطء إجماعا وتجب منه التوبة لمسلمة أو كتابية أو مجنونة، ويجبرهن الزوج على الغسل لحلية الوطء، ويحل وطؤهن بذلك الغسل ولو لم تنوه لأنه لحلية الوطء من باب خطاب الوضع، وللصلاة من باب خطاب التكليف اهـ. الخرشي. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ولا بأس بالاستمتاع بأعاليها شادة عليها إزارها " لما في الصحيحين والموطأ " عن مالك عن زيد بن أسلم أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

تنبيه

" لتشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها " اهـ، وفي المختصر: أو تحت إزار ولو بعد نقاء. قال الخرشي: أي ومنع الاستمتاع بما تحت إزار وهو ما بين السرة والركبة، وهما خارجان، ويجوز بما فوقه لقوله عليه الصلاة والسلام: " الحائض تشد إزارها وشأنه بأعلاها " قال ابن القاسم: شأنه بأعلاها أي يجامعها في أعكانها وبطنها أو ما شاء مما هو أعلاها اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وتجبر الكتابية على الغسل لزوجها المسلم " قال الحطاب عند قول خليل وطء فرج " أي فلا يجوز وطء الحائض حتى تطهر وتغتسل كما سيأتي، وسواء كانت مسلمة أو كتابية. قال في المدونة في باب غسل الجنابة: ويجبر الرجل المسلم امرأته النصرانية على الطهر من الحيضة، إذ ليس له وطؤها كذلك حتى تطهر، ولا يجبرها في الجنابة لجواز وطئها كذلك اهـ قلت: ونص المدونة: وقال ابن القاسم عن مالك في النصرانية تكون تحت المسلم فتحيض فتطهر: إنها تجبر على الغسل من الحيضة ليطأها زوجها من قبل أن المسلم لا يطأ امرأته الحائض حتى تطهر من الحيض، وأما الجنابة فلا بأس أن يطأها وهي جنب اهـ. تنبيه: ذكر النفراوي على الرسالة في آخر باب التيمم: تنبيهين، قال الأول: من علم من زوجته أنه إن وطئ ليلا لا تغتسل زوجته إلا نهارا والحال أنه لا يمكنه الوطء إلا ليلا فإنه يجوز له الوطء ويأمرها أن تغتسل ليلا فإن خالفت فقد أدى ما عليه، ومن علم من زوجته أنها لا تغتسل إن جامعها فهل يجوز له وطؤها أو يجب طلاقها، فالمشهور أنه يجوز له وطؤها ويأمرها بالغسل ولو بالضرب مع ظن الإفادة، فإن لم تفعل عصت، ولا يجب طلاقها خلافا لبعضهم، وإنما يستحب فراقها فقط كاستحباب فراق الزانية ومن كانت على بدعة محرمة. والثاني أي من التنبيهين فاقد الطهورين وقد تقدم ذكره في آخر باب التيمم في هذا الكتاب فراجعه إن شئت.

قال المصنف رحمه الله تعالى: " والحامل تحيض، فإن تجاوزت عادتها فالمشهور عن ابن القاسم إن كان بعد ثلاثة أشهر تمادت إلى خمسة عشر يوما وبعد ستة أشهر عشرين يوما " وفي نسخة بإسقاط أشهر بعد ستة وكلاهما صحيح. وفي القوانين لابن جزي: وأما الحامل إذا رأت الدم فهو حيض عند الإمامين خلافا لأبي حنيفة. ثم إنها إذا لم تتغير عادتها فهي كغير الحامل، وإن تغيرت عادتها ففيها الأقوال الثلاثة التي في المعتادة. وقال ابن القاسم: تمكث بعد ثلاثة أشهر خمسة عشر يوما، وبعد ستة أشهر عشرين يوما، وآخر الحمل ثلاثين يوما ونحو ذلك. وقيل تمكث ضعف أيام عادتها اهـ، وفي الأخضري: وللحامل بعد ثلاثة أشهر خمسة عشر يوما ونحوها، وبعد ستة أشهر عشرين يوما ونحوها، فإن تقطع الدم لفقت أيامه حتى تكتمل عادتها. يعني أن الحامل إذا مضى عليها ثلاثة أشهر بعد أن علقت بالحمل ونزل بها الحيض وتمادى بها زيادة على عادتها فإنها تمكث خمسة عشر يوما ونحوها كالعشرين، وبعد هذا يعتبر استحاضة، وإذا مضى لها ستة أشهر بعد أن علقت بالحمل ونزل بها الحيض واستمر زيادة على عادتها فإنها تمكث عشرين يوما ونحوها كالخمسة والعشرين ثم هي بعد ذلك مستحاضة، هذا إذا استمر عليها الدم ولم ينقطع فإنها تمكث ما سبق تقريره من الخمسة عشر ونحوها فإذا انقطع الدم أيامه بعضها إلى بعض حتى تكمل عادتها المعلومة على ما تقدم من التفصيل ثم تصير بعد ذلك مستحاضة اهـ هداية المتعبد. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وأجراها المغيرة وأشهب مجرى الحائل " يعني أن الحامل إذا حاضت وتجاوزت حيضتها عن عادتها فحكمها حكم غير الحامل عند المغيرة وأشهب على التفصيل السابق. والله الموفق للصواب. انظر المطولات.

فصل في أحكام النفاس

أحكام النفاس ولما أنهى الكلام على الحيض وما يتعلق بأحكامه انتقل يتكلم على مسائل النفاس وما يتعلق به فقال رحمه الله. فَصْلٌ في أحكام النفاس يعني أن هذا الفصل قد عقده في بيان أحكام دم النفاس عقب فراغه من أحكام دم الحيض لمناسبة ما بينهما في غالب الأحكام، ولذا أتى بفصل، وفي نسخة بإسقاط لفظ فصل. والمناسب عدم إسقاطه قال رحمه الله تعالى: " والصحيح أن أكثر النفاس معتبر بالعوائد ما لم يتجاوز ستين يوما " والنفاس شرعا: هو الدم الخارج من القبل بسبب الولادة، غير زائد على ستين يوما، فإن زاد على ستين يوما فليس بنفاس، فلا تستظهر، بل تغتسل وتصلي وتوطأ لأنها مستحاضة. وفي أقرب المسالك: والنفاس ما خرج للولادة معها أو بعدها ولو بين توأمين، وأكثره ستون يوما، والطهر منه، وتقطعه، ومنعه كالحيض اهـ. وأما قول المصنف إن أكثر النفاس معتبر بالعوائد ما لم يتجاوز ستين، يعني العوائد تعتبر فيما دون الستين، فإن زادت على الستين فالحكم فيها حكم الطهر فلا عبرة بالعوائد. وفي الأخضري: والنفاس كالحيض في منعه، وأكثره ستون يوما، فإذا عاودها الدم فإن كان بينهما خمسة عشر يوما فأكثر كان الثاني حيضا، وإلا ضم إلى الأول وكان من تمام النفاس اهـ. والحاصل أن دم النفاس لا حد لأقله ولو دفعة، كالحيض ولا يزيد على ستين يوما، وإن زاد على ستين تعتبر مستحاضة فلا تستظهر بل تغتسل وتصلي وتصوم.

قال المصنف رحمه الله تعالى: " والظاهر أن المتخلل بين الوضعين حيض وقيل نفاس فتضم إليه ما بعده " قال في المختصر: والنفاس دم خرج للولادة ولو بين توأمين، وأكثره ستون يوما، فإن تخللها فنفاسان اهـ. التوأمان هما الولدان في بطن واحد، إذا كان بينهما أقل من ستة أشهر، يقال لكل واحد توأم، وللأنثى توأمة. قال الخرشي: والمعنى أن الدم الذي بين التوأمين نفاس. وقيل حيض. والقولان في المدونة. وعلى الأول فتجلس أقصى أمد للنفاس. وعلى الثاني فتجلس كما تجلس الحامل في آخر حملها عشرين يوما ونحوها على ما مر، ويصير الجميع نفاسا واحدا، وإليه ذهب أبو محمد البرادعي. وقال الصاوي: وهو المعتمد قال العدوي على الزرقاني: وما تقدم من أنها تبني بعد وضع الثاني على ما مضى ومن الأول ظاهر حيث لم يحصل لها النقاء خمسة عشر يوما، فإن حصل النقاء خمسة عشر يوما ثم أتت بولد - أي الثاني - فإنها تستأنف له نفاسا لانقطاع حكم النفاس بمضي المدة المذكورة اهـ. وكذلك إذا كان بين التؤامين ستون يوما فأكثر فنفاسان. أما إن كان بينهما أقل من ستين يوما فنفاس واحد وتبني على الأول إن دام الدم، بل وإن تخلل أقل الطهر. قال الدردير على خليل: فإن تخلل التوأمين أقل من أكثره فنفاس واحد وتبني على الأول. قال الدسوقي: قوله أقل من أكثره بأن تخللها خمسة وخمسون أو تسعة وخمسون يوما سواء كانت كلها أيام دم أوكان فيها أيام نقاء، لكن أقل من خمسة عشر يوما أي فتضم إلى الأول وكان نفاسا واحدا على المعتمد، إلا أنه قال العدوي على الزرقاني نقلا عن تقرير الخرشي أنه ينبغي أن يكون حكم الوضع قبل تمام الستين من ولادة الأول بأربعة أيام فأقل كحكم ولادتها بعد تمام الستين، فتستأنف للثاني نفاسا اهـ. قلت فهذا القول خلاف قول الدسوقي المتقدم آنفا، والحاصل أن المسألة ذات خلاف. والله أعلم بالصواب. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وتقضي الحائض الصوم لا الصلاة، والنفساء مثلها

فيما يجب ويمتنع ويجوز. والله أعلم " هذا واضح قد تقدم الكلام فيه. نسأل الله حسن التوفيق. ولما أنهى الكلام على الطهارة الكبرى والصغرى وما يتعلق بها، وجميع ما ينوب عنها من التيمم والمسح على الخفين والجبائر وغير ذلك أراد المصنف الشروع في المقصود بهذه الوسائل فقال رحمه الله تعالى:

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة الصلاة لغة الدعاء، قال الله تعالى: {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} [التوبة: 99] أي دعواته. وقال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] أي ادع لهم {إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة: 103] أي دعواتك طمأنينة لهم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه الناس بصدقاتهم - أي بهديتهم - يدعو لهم. فهذا معناها لغة. وأما شرعا فهي الأقوال والأفعال المخصوصة المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم. فهي فرض عين على كل مسلم مكلف، أي بالغ عاقل، ذكر أو أنثى، حر أو عبد، بلغته الدعوة، خال من الموانع كالحيض والنفاس. فرضت بمكة ليلة الإسراء بعد عشر سنين وثلاثة أشهر من البعثة. وقيل قبل الهجرة بسنة. فالصلاة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع. اتفق الأئمة على أن تاركها جحدا وإنكارا كافر يقتل كفرا. وأما تاركها كسلا وتهاونا فذهب الإمام إلى أنه يقتل كفرا أيضا. وقال الشافعي ومالك: يقتل حدا لا كفرا. وقال أبو حنيفة ولكنه يسجن حتى يصلي أو يموت في سجنه فهي من العبادات التي لا تقبل النيابة، بل هي بدنية محضة. وهي ثلاثة أقسام: فرائض وسنن ونوافل. وقد أجمع المسلمون على أن الصلاة المفروضة المعينة خمس صلوات في اليوم والليلة، وهي صلاة الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصبح وكل واحدة منها لها وقتان اختياري وضروري. قال المصنف رحمه الله تعالى: " يدخل وقت الظهر " أي المختار " بالزوال " أي يدخل أول المختار للظهر بزوال الشمس عن كبد السماء " وهي زيادة الظل بعد غاية نقصه " قال في الرسالة: ووقت الظهر إذا زالت الشمس عن كبد السماء وأخذ الظل في

الزيادة، ويستحب أن تؤخر في الصيف إلى أن يزيد ظل كل شيء ربعه بعد الظل الذي زالت عليه الشمس. وقيل إنما يستحب ذلك في المساجد ليدرك الناس الصلاة، وأما الرجل في خاصة نفسه فأول الوقت أفضل له. وقيل أما في شدة الحر فالأفضل له أن يبرد بها وإن كان وحده لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم " وآخر الوقت أن يصير ظل كل شيء مثله بعد ظل نصف النهار اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وآخر الاختياري إذا صار ظل الشخص مثله بعد ظل الزوال، وهو أول وقت العصر وآخره مثليه " يعني قد أخبر أن آخر الوقت المختار للظهر هو أول المختار للعصر. وقال في الرسالة في باب أوقات الصلاة: وأول وقت العصر آخر وقت الظهر. وآخره أن يصير ظل كل شيء مثليه بعد ظل نصف النهار اهـ. والمذهب أن إقامة العصر أول وقتها أفضل. قال مالك في المدونة: إن عمر بن الخطاب كتب إلى عماله " إن أهم أموركم عندي الصلاة فمن حفظهما وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع " ثم كتب " أن صلوا الظهر إذا كان الفيء ذراعا إلى أن يكون ظل أحدكم مثله، والعصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية قدر ما يسير الراكب فرسخين أو ثلاثة قبل غروب الشمس " اهـ وكذا في الموطأ بزيادة لفظة قبل غروب الشمس. قال المصنف رحمه الله تعالى: " والمغرب بالغروب مقدر بفعلها بعد تحصيل شروطها " يعني أن المختار للمغرب يدخل بغروب قرص الشمس وهو وقت مضيق غير ممتد، يقدر بفعلها بعد تحصيل شروطها وهو طهارتا الخبث والحدث، كبرى وصغرى، مائية وترابية، وستر عورة، واستقبال قبلة، وأذان، وإقامة. قال الخرشي: ويجوز لمحصل الشروط التأخير بقدر تحصيلها أن لو كان غير محصل لها؛ بأن يتأخر قليلا قدر الأذان والإقامة اهـ. وكذا في الدردير. قال المصنف رحمه الله تعالى: " والعشاء بغروب الحمرة إلى منتهى الثلث " يعني

أن مختار العشاء الأخيرة يدخل بمغيب الحمرة الذي بالمغرب وهو الشفق، ثم يمتد إلى منتهى ثلث الليل الأول. قال في الرسالة: فإذا لم يبق في المغرب صفرة ولا حمرة فقد وجب الوقت، ولا ينظر إلى بياض في المغرب، فذلك لها وقت إلى ثلث الليل ممن يريد تأخيرها لشغل أو عذر، والمبادرة بها أولى. ولا بأس أن يؤخرها أهل المساجد قليلا لاجتماع الناس. ويكره النوم قبلها والحديث لغير شغل بعدها اهـ. قال المصنف رحمع الله تعالى: " والصبح بالفجر الصادق إلى الإسفار الأعلى " قال العلامة الدردير في أقرب المسالك: وللصبح من طلوع الفجر الصادق للإسفار البين، أي أول المختار لصلاة الصبح من طلوع الصادق وهو ما ينتشر ضياؤه حتى يعم الأفق، احترازا من الكاذب وهو الذي لا ينتشر، بل يخرج مستطيلا يطلب وسط السماء دقيقا يشبه ذنب السرحان، أي الذئب، ثم يذهب، ثم يخرج الفجر الصادق، وينتهي مختاره إلى الإسفار البين، أي الذي تظهر فيه الوجوه ظهورا بينا وتختفي النجوم. وقيل بل إلى طلوع الشمس ولا ضروري لها. والصحيح أن لها ضروريا من الأسفار الأعلى إلى بلوغ الشمس. قال المصنف رحمه الله تعالى: " والأفضل التغليس بها " الضمير عائد إلى الصبح والغلس اختلاط ظلمة الليل بضياء النهار وهو معنى المبادرة بها. يعني أن الأفضل للمصلي أن يصلي الصبح من أول وقتها بالغلس، لما في الحديث: " أفضل الأعمال الصلاة أول وقتها " هذا صريح في الصبح. وأما لمصلي المغرب سواء كان فذا أو جماعة التعجيل. قال المصنف رحمه الله: " وتعجيل المغرب " أي بعد تحقق الغروب لأن وقتها ضيق بقدر بعد تحصيل شروطها المتقدمة. وأما غيرها وغير الصبح فالأفضل للمصلين جماعة التأخير.

قال المصنف: " وتأخير البواقي بمساجد الجماعة قدرا لا يضر بهم " يعني أنه يندب للنصلين جماعة تأخير غير الصبح والمغرب، وهي الظهر والعصر والعشاء، وقد تقدم أن إقامة العصر أول وقتها أفضل وهو المذهب. قال الدردير: وأفضل الوقت أوله مطلقا إلا الظهر لجماعة فلربع القامة، ويزاد لشدة الحر لنصفها اهـ. هذا ولو لمنفرد. وقد قال صاحب الرسالة: أما في شدة الحر فالأفضل له أن يبرد بها وإن كان وحده كما تقدم. وفي المختصر: والأفضل لفذ تقديمها مطلقا، وعلى جماعة آخره، وللجماعة تقديم غير الظهر وتأخيرها لربع القامة، ويزاد لشدة الحر. وفيها ندب تأخير العشاء قليلا اهـ. قال الخرشي: يعني أن تقديم الصلوات صبحا أو ظهرا أو غيرهما، وفي صيف أو شتاء في أول الوقت بعد تحقيق دخوله، وتمكينه أفضل في حق المنفرد ومن ألحق به من الجماعة التي لا تنتظر غيرها كأهل الربط من غير مبادرة جدا لقوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] ومن المحافظة عليها الإتيان بها أول وقتها اهـ. فهذا في غير الظهر كما تقدم، وأما الظهر فالأفضل للجماعة تأخيرها لربع القامة، وللإبراد ولو فذا في شدة الحر فتنبيه. قال الدردير: فتحصل أنه يندب المبادرة في أول المختار مطلقا إلا لجماعة تنتظر غيرها فيندب تأخيرها، وتحته قسمان: تأخيرها لانتظار الجماعة فقط، وتأخيرها للإبراد لأن شدة الشمس من فيح جهنم كما في الحديث اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " والإبراد بالظهر في الحر " والمراد بالإبراد التأخير بها حتى يذهب الشمس. وقد سبق لنا أن الأفضل للجماعة تأخير الظهر لربع القامة، وللإبراد ولو فذا في شدة الحر. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وفي إبراد المنفرد قولان " المتعمد من القولين أن المنفرد يقدم فيصليها في أول وقتها إلا في شدة الحر فإن الإبراد بها أفضل له، لما في الرسالة من قوله: أما الرجل في خاصة نفسه فأول الوقت أفضل له، وقيل أما في شدة

الحر فالأفضل له أن يبرد وإن كان وحده؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم ". قال المصنف رحمه الله تعالى: " ومن شك في دخول الوقت لم يصل، وليجتهد، ويؤخر حتى يتحقق أو يغلب على ظنه دخوله، فإن تبين الوقوع قبله أعاد " يعني أن من شك وتردد في دخول الوقت وعدمه فلا يصلي بل عليه بالاجتهاد. قال العلامة الدردير: ومن خفي عليه الوقت اجتهد بنحو ورد، وأما من لم يخف عليه الوقت بأن كانت السماء مصحية فلا بد له من تحقق دخول الوقت، ولا يكفيه غلبة الظن، فإن تبين عدم دخول الوقت بعد الصلاة وجب عليه الإعادة اهـ. وقال الصاوي: حاصله أنه إذا تردد هل دخل وقت الصلاة أم لا، أو ظن ظنا غير قوي الدخول، أو ظن عدمه، وسواء حصل ما ذكر قبل الدخول في الصلاة أو فيها فإنها لا تجزيه لتردد نيته، سواء تبين أنها وقعت قبله أو فيه أولم يتبين وقوعها فيه أو لم يتبين شيء، وإن تبين وقوعها قبله لا تجزئ اهـ مع حذف اهـ مع حذف. قال الحطاب نقلا عن الزروق في شرح الإرشاد بعد إيراد المتن المذكور: يعني أن دخول الوقت شرط في جواز إيقاع الصلاة، كوجوبها، فلا يصح إيقاعها إلا تحققه بحيث لا يتردد فيه بعلم أو ظن يتنزل منزلة العلم. وقد قال مالك: سنة الصلاة في الغيم أن تؤخر الظهر وتقدم العصر، وتؤخر المغرب حتى لا يشك في الليل، ويقدم العشاء ويؤخر الصبح حتى لا يشك في الفجر. وما ذكره أي صاحب الإرشاد من العمل على غلبة الظن لم نقف عليه لغيره، لكن مسائلهم تدل على اعتبار الظن الذي في معنى القطع. وفي الجواهر ما يدل عليه، ثم مع التحقيق أو ما في معناه، فإن كشف الغيب عن خلافه بطلت، كما إذا صلى شاكا ولو صادف. انتهى كلام الزروق. وقال الحطاب مذيلا عليه: وما ذكره في سنة الصلاة في الغيم ذكره غير واحد من أهل المذهب،

ومرادهم بقولهم وتعجيل العصر، أي بعد أن يغلب على ظنه دخول وقتها، وكذلك العشاء يصليها إذا غلب على ظنه مغيب الشفق، كما قال في الرواية ويتحرى ذهاب الحمرة. ذكره صاحب الشامل وغيره. والمقصود أن الصلاة التي تشارك ما قبلها لا يؤخرها كثيرا بل إذا غلب على ظنه دخول الوقت صلاها، بخلاف الصلوات التي لا تشارك ما قبلها كالظهر والمغرب والصبح فلا يصليها حتى يتحقق دخول الوقت اهـ. ولما أنهى الكلام على المختار كان مما ينبغي أن يأتي بذكر الأوقات الضروريات عقب المختار ليفوز الطالب بعلم ذلك، فقد اكتفى المصنف بذكر المختار فقط عن الوقت الضروري، وفي ذكره فائدة عظيمة كما فعل غيره. وأنا إن شاء الله تعالى لتتم الفائدة للطالب مثلي. قلت: أما وقت الضروري للظهر فمن أول القامة الثانية إلى الاصفرار وهو منتهى مختار العصر، ثم يشتركان في الضرورية إلى الغروب. والضروري للمغرب من مقدار ما يسعها وشروطها إلى مضي ثلث الليل الأول، وهو منتهى مختار العشاء، ثم يشتركان في الضرورية إلى طلوع الفجر الصادق. والحاصل أن ضروري المغرب وضروري العشاء يشتركان ويمتدان إلى طلوع الفجر الصادق، كما أن ضروري الظهر والعصر يشتركان ويمتدان إلى الغروب. وتقدم أن للصبح ضروريا على الصحيح. وهو من الإسفار الأعلى إلى طلوع الشمس، والكل أداء والقضاء ما بعد الضروري في الجميع. وقال خليل في المختصر: والضروري بعد المختار للطلوع في الصبح، وللغروب في الظهرين، وللفجر في العشاءين اهـ. قال الحطاب: تقدم أن الوقت ينقسم إلى اختياري وضروري. ولما فرغ من بيان الوقت الاختياري شرع في بيان الوقت الضروري. ومعنى كونه ضروريا أنه لا يجوز لغير أصحاب الضرورات تأخير الصلاة إليه، ومن أخر إليه من غير عذر من الأعذار الآتية فهو آثم، اعلم أن هذا هو الذي يأتي على ما مشى عليه المصنف أي

الشيخ خليل. وقيل إن معنى كونه ضروريا أن الأداء فيه يختص بأصحاب الضروريات، فمن صلى فيه من غير أهل الضروريات لا يكون مؤديا، وهذا القول نقله ابن الحاجب، وسيأتي بيان ذلك. وذكر المصنف أي الشيخ خليل أن الضروري يدخل بعد خروج الوقت المختار المتقدم بيانه في جميع الصلوات. فعلم من هذا أول الوقت الضروري، وذكر أن آخره يختلف بحسب الصلوات، ففي الصبح بطلوع الشمس، وفي الظهرين لغروب الشمس، وفي العشاءين لطلوع الفجر، فعلى هذا يكون الوقت الضروري للصبح من الإسفار الأعلى إلى طلوع الشمس، وللظهر من أول القامة الثانية أو بعد مضي أربع ركعات منها إلى الغروب، وللعصر من الاصفرار إلى الغروب، فما بعد الاصفرار ضروري للظهر والعصر، وللمغرب من بعد مضي ما يسعها بعد تحصيل شروطها إلى طلوع الفجر، وللعشاء من بعد ثلث الليل الأول إلى طلوع الفجر، فما بعد الثلث الأول ضروري للمغرب والعشاء اهـ. ثم ذكر المصنف أحوال أصحاب الأعذار من حيث إدراكهم الصلاة في آخر وقت الضروري، كما أنهم يدركون المختار في آخره لبقاء الركعة منه بسجدتيها فقال رحمه الله: " ويدرك المعذورون " أي يدركون الظهرين تامتين لبقاء خمس ركعات من النهار، كما أنهم يدركون العشاءين تامتين لبقاء أربع ركعات قبل الفجر، وإن كان الباقي من النهار قدر أربع ركعات أو دون ذلك وجبت الثانية وفاتت الأولى وكذا إن كان الباقي من الليل ثلاث ركعات فأقل يصلون العشاء وفاتت المغرب، وأما الصبح فهي تدرك لبقاء ركعة منها قبل طلوع الشمس. والمراد بالمعذورين في قول المصنف: ويدرك المعذورون، أي أهل الأعذار الذين قام بهم العذر، وهم ثمانية أشخاص الحائض وذات النفاس، والكافر، والصبي، والمجنون، والمغمى عليه، والنائم، والناسي، وهؤلاء المعذورون. وكل واحد منهم

يدرك الوقت ببقاء ركعة من الضروري بعد تحصيل الطهارة والستر، إلا الكافر إذا أسلم في الضروري فلا يقدر له الطهر. ثم شرع المصنف يذكرهم فقال: " الحائض تطهرت " ومثلها النفساء التي انقطع عنها الدم لبقاء خمس ركعات فإنها تدرك الظهرين بعد تحصيل الطهارة والستر. قال المصنف رحمه الله تعالى: " والمجنون والمغمى عليه يفيقان " فإنهما يدركان الظهرين في آخر الضروري لبقاء خمس ركعات من النهار بعد تحصيل الطهارة والستر، وفي الرسالة: والمغمى عليه لا يقضي ما خرج وقته في إغمائه، ويقضي ما أفاق في وقته مما يدرك منه ركعة فأكثر من الصلوات " وحكم من أغمي عليه حكم المجنون والسكران بحلال كلبن سواء " قال: وكذلك الحائض تطهر فإذا بقي من النهار بعد طهرها بغير توان خمس ركعات صلت الظهر والعصر، وإن كان الباقي من الليل أربع ركعات صلت المغرب والعشاء وإن كان الباقي من النهار أو من الليل أقل من ذلك صلت الصلاة الأخيرة، وإن حاضت لهذا التقدير لم تقض ما حاضت في وقته، وإن حاضت لأربع ركعات من النهار فأقل إلى ركعة، أو لثلاث ركعات من الليل، فقيل إنها حاضت في وقتيها فلا تقضيهما اهـ. قال المصنف رحمه الله: " الصبي يحتلم والكافر يسلم " يعني أن الصبي إذا احتلم، والكافر إذا أسلم في آخر الضروري لبقاء خمس ركعات من النهار فإنهما يدركان الظهرين بعد تحصيل الطهارة للصبي فقط والستر لهما لأن الكافر إذا أسلم لا يقدر له الطهارة على المشهور عند ابن القاسم. وكذا إنهما يدركان إنهما يدركان العشاءين لبقاء أربع ركعات فأكثر من قبل الفجر. قال مالك في المدونة في المجنون والمغمى عليه وإن أغمي أياما ثم يفيق، والحائض تطهر، والذمي يسلم إن كان ذلك في النهار قضوا صلاة ذلك اليوم، وإن كان في الليل قضوا صلاة تلك الليلة، وإن كان في ذلك ما يقضي صلاة واحدة قضوا

منهما اهـ. ومعنى قضوا الآخرة أي إذا ضاق الوقت ولم يسع إلا أربع ركعات في الظهرين أو ثلاثا فأقل في العشاءين فإنه يصلي الأخيرة فقط وسقطت الأولى. قال المصنف رحمه الله: " الظهرين " مفعول يدرك المتقدم. ومعنى الظهرين صلاة الظهر والعصر أي إنهم أدركوا وقتيهما معا أداء. وقال خليل والكل أداء. قال المصنف رحمه الله تعالى: " لبقاء خمس ركعات بعد الطهارة والستر " يعني بغير توان، لأن الطهارة والستر شرطان من شروط صحة الصلاة، فلا بد منهما أي من تقديرهما، وجميع ما تقدم إنما هو في الصلاة الحضرية، وأما السفرية فأشار إليها المصنف بقوله: " ولثلاث في السفر " يعني أن المسافر الذي حقه أن يقصر الصلاة الرباعية إذا ضاق عليه الوقت وكان من أصحاب الأعذار فإنه يدرك الظهرين لبقاء مقار ثلاث ركعات قبل غروب غروب الشمس بعد زوال العذر. وتحصيل الطهارة والستر. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ولدونهن إلى ركعة الثانية فقط " يعني أن المسافر إذا ضاق عليه الوقت ولم يبق بعد زوال عذره إلا مقدار ما يسع ركعتين أو ركعة واحدة بعد تحصيل الطهارة لمضي وقتها زمن العذر، هذا إذا كان عذره بما تقدم من الحيض والنفاس أو الكفر أو الصبا أو الجنون أو الإغماء، وأما الناسي والنائم ونحوهما فالحكم فيه كما ذكر صاحب الرسالة بقوله: ومن خرج ولم يصل الظهر والعصر وقد بقي من النهار قدر ثلاث ركعات صلاهما سفريتين، فإن بقي قدر ما يصلي فيه ركعتين أو ركعة صلى الظهر والعصر سفرية، ولو دخل لخمس ركعات ناسيا لهما صلاهما حضريتين، فإن كان بقدر أربع ركعات فأقل إلى ركعة صلى الظهر سفرية والعصر حضرية، وإن قدم في ليل وقد بقي للفجر ركعة فأكثر ولم يكن صلى المغرب والعشاء صلى ثلاثا والعشاء حضرية ولو خرج وقد بقي من الليل ركعة فأكثر صلى المغرب ثم صلى العشاء سفرية اهـ.

وقد ذكر ابن جزي مثله في القوانين الفقهية مع زيادة البيان: قال: ومثال ذلك لو نسي الظهر والعصر في الحضر ثم سافر فذكرهما في السفر قبل الغروب لثلاث ركعات قصرهما، وإن بقي مقدار ركعتين أو ركعة أتم الظهر وقصر العصر. وإن ذكرهما بعد الغروب أتمهما، فلو نسيهما في السفر ثم ذكر في الحضر قبل الغروب بخمس ركعات أتمهما، ولدون ذلك إلى ركعة قصر العصر، وإن ذكر بعد الغروب قصرهما. ولو نسي المغرب والعشاء في الحضر ثم ذكرهما في السفر قبل الفجر بأربع ركعات قصر العشاء، ولدون ذلك إلى ركعة فاختلف هل يقصرها أو يتمها، وإن ذكر بعد الفجر أتمهما، ولو نسيهما في السفر ثم ذكر في الحضر قبل الفجر بأربع أتم العشاء، ولدون ذلك إلى ركعة فاختلف هل يتمها أو يقصرها، وإن ذكر بعد الفجر قصرها اهـ. وإلى ما تقدم أشار المصنف رحمه الله تعالى بقوله: " ولأربع قبل الفجر العشاءين " يعني أن المسافر إذا ضاق عليه الوقت الضروري ولم يبق بعد زوال عذره من الليل إلا مقدار ما يسع أربع ركعات قبل الفجر فإنه أدرك العشاءين فيصلي المغرب ثلاث ركعات ويدرك العشاء بركعة كما تقدم البيان في ذلك. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ولدونهن الأخيرة " يعني وإدراك أقل مما تقدم سواء حضرا أو سفرا فإنه يصلي الصلاة الأخيرة. فحاصل ما تقرر من أحوال أصحاب الأعذار في جميع الحالات أنهم يدركون العشاءين في الحضر والسفر بأربع ركعات بقيت قبل طلوع الفجر، وإن كان الباقي دون ذلك فإنهم يصلون الصلاة الأخيرة وهي العشاء وسقطت الأولى وهي المغرب، سواء كان ذلك في الحضر أو في السفر، وإن كان أقل من خمس ركعات حضرا أو أقل من ثلاث ركعات سفرا سقطت الأولى وهي الظهر فيصلون الأخيرة زهي العصر. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وتسقط الأوليان " وهما الظهر في إدراك أقل من

خمس ركعات حضرية، أو أقل من ثلاث ركعات سفرية، أو المغرب في إدراك أقل من أربع ركعات قبل الفجر سواء كان في الحضر أو في السفر، وعلى أي حال تسقط الأوليان لأن وقتيهما قد فاتا في زمن العذر فلا قضاء فيهما. قال المصنف رحمه الله تعالى: " والصبح لبقاء ركعة قبل الطلوع " وفي المختصر: وترك فيه الصبح بركعة. يعني أنها تدرك بفضل ركعة قبل طلوع الشمس. قال الدسوقي: حاصله أنه إذا زال العذر كالنوم والإغماء والجنون على ما يأتي وكان الباقي من ضروري الصبح ما يسع ركعة بسجدتيها فإنها تكون مدركة من حيث الأداء، ويتعلق به وجوب فعلها. وإنما خص الصبح بالذكر مع أن الوقت الضروري يدرك بركعة مطلقا كان للصبح أو لغيرها؛ لأن غيرها يؤخذ من قوله بفضل ركعة عن الأولى إن كانت متعددة، وإلا فبركعة اهـ. وفي الحطاب: يعني أن الصبح تدرك في الوقت الضروري بمقدار ركعة تامة، فإذا أدرك منها ركعة، وهذا المشهور وهو قول ابن القاسم. وقال أشهب: لا يشترط إدراك السجود بل يكفي إدراك الركوع قال في التوضيح: والخلاف مبني على فهم قوله صلى الله عليه وسلم: " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " قال الحطاب: يعني هل المراد بالركعة الركعة بتمامها، أو المراد بالركعة الركوع؟ قال في التوضيح: وقول ابن القاسم أولى لحمل اللفظ على الحقيقة. وصرح ابن بشير بمشهوريته اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وطرو العذر لمثل ذلك مسقط " يعني أن طرو عذر من الأعذار المتقدمة في تقدير الأوقات المذكورة مسقط للصلاة على ما تقدم بيانه في ذلك. قال العلامة الدردير في أقرب المسالك: وطرو غير النوم والنسيان فيه لما ذكر

مسقط لها، ولا يقدر طهر. يعني فإذا طرأ العذر والباقي من الضروري قدر ما يسع ركعة لا أقل سقطت الصبح إذا لم يكن صلاها، وإن عمدا، وأخيرة المشتركين وهي العصر أو العشاء الأخيرة لحصول العذر في وقتها، وتخلدت في ذمته الظهر أو المغرب لعدم حصوله في وقتها، لما علمت أن الوقت إذا ضاق اختص بالأخيرة، وقدر ما يسع خمسا بالحضر أو ثلاثا بالسفر سقط الظهران معا، وقدر ما يسع أربعا قبل الفجر سقط العشاءان معا ولو بدون تقدير طهر في جانب السقوط على المعتمد اهـ. وفي المختصر: وأسقط عذر حصل غير نوم ونسيان المدرك. الخرشي: يعني أن العذر المسقط إذا طرأ في الوقت المدرك لمن زال عذره أسقطه، فكما تدرك الحائض مثلا الظهرين والعشاءين بطهرها لخمس، والثانية فقط لطهرها لدون ذلك كذلك يسقطان إذا حصل الحيض لخمس قبل الغروب، أو تسقط الثانية وتتخلف الأولى عليها إن حاضت لدون ذلك، ولو أخرت الصلاة عامدة كما يقصر الصلاة المسافر، ولو أخرها عامدا، ونحوه لابن عرفة عن ابن بشير. ومثل الحيض الإغماء والجنون. وأما الصبا فلا يتأتى لأنه لا يطرأ. وأخرج النائم والناسي فلا يسقطان المدرك، لكن يسقطان الإثم كما مر اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " إلا النوم والنسيان. والبلوغ في الوقت يوجب الإعادة فرضا " وأما النوم والنسيان فلا يسقطان الصلاة أي ولو استغرق النوم أو النسيان جميع الوقت. قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] وفي الصحيحين عن أنس مرفوعا: " من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك " اهـ. وفي المدونة قال مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من نسي صلاة فليصليها حين يذكرها " قال: ومن ذكر صلاة نسيها فليصلها إذا ذكرها في أي ساعة كانت من ليل أو نهار، عند مغيب الشمس أو عند طلوعها، قال وإن بدا حاجب الشمس فليصلها. قال وإن غاب بعض الشمس فليصلها

إذا ذكرها ولا ينتظر، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها " قال مالك: فوقتها حين ذكرها فلا يؤخرها عن ذلك. اهـ. وأما الصبي إذا بلغ في الوقت ولو الضروري وجبت عليه الصلاة ولو صلاها قبل ذلك لأنه لا ينوب تطوع عن واجب. وقيل يكتفي بما مر منه، انظر ابن عرفة. فإن بلغ أثناء صلاته إما بإنبات أو نتن إبط أو غلظ حنجرة كملها نافلة إن اتسع الوقت ثم صلاها فرضا، ولا تجزيه صلاته الأولى وإن نوى الفريضة، خلافا لعبد الكافي الأبوتيجي، فإن ضاق الوقت قطع وابتدأ الفريضة ولا يعيد الوضوء قطعا: لأن البلوغ ليس من نواقض الوضوء. قاله عبد الباقي الزرقاني على العزية اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وقبل فوات الجمعة يوجب إتيانها " يعني أن من زال عذره وتحقق إدراك ركعة من صلاة الجمعة وجبت عليه. قال الخرشي عند قول خليل في الجمعة أو بلغ: يعني أن من صلى الظهر ثم بلغ قبل تمام فعل الجمعة بحيث يدرك منها ركعة مع الإمام فإنها تلزمه ولا ينبغي أن يتخلف عنها كما في توضيحه، لأن ما أوقعه نفل، وبالبلوغ خوطب بها اهـ. وسيأتي قول المصنف في الجمعة: وقدوم المسافر والعتق والبلوغ والإقامة لوقت يدركها يوجب إتيانها. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ومن تطهر وأدرك الوقت فأحدث لزمه ما كان أدرك وقته " وفي المواق عن ابن القاسم: لو أحدثت الحائض بعد غسلها أو المغمى عليه بعد وضوئه فتوضأ فغربت الشمس فليقضيا ما لزمهما قبل الحدث لأنها صلاة قد وجبت عليهما، وليس نقض الوضوء بالذي يسقطها، ولو كان اغتسلا أو توضأ بماء غير طاهر وصليا، ثم علما بعد غروب الشمس، فلا إعادة عليهما، وإن علما قبل أن يصليا أعادا الوضوء والغسل وعملا على ما بقي لهما بعد فراغهما ولم ينظرا إلى الوقت الأول، وهذه مسألة مخالفة للتي قبلها. وقال ابن القاسم في الحائض تطهرت، والمغمى عليه يفيق لقدر أربع ركعات

فصل في أحكام الأذان

من النهار، ثم ذكر صلاة نسيها يبدأ بالفائتة ثم يصلي العصر، كما لو ذكرت صلاة نسيتها لقدر أربع ركعات ولم تكن صلت العصر فإنها تبدأ بالفائتة، ثم تصلي العصر. وكما لو حاضت حينئذ لسقطت العصر، فكذلك إذا طهرت حينئذ تجب عليها؛ لأن ما يسقط بالحيض يجب بالطهر اهـ باختصار. وفي جواهر الإكليل: وإن تطهر من زال عذره في آخر الضروري وظن إدراكه بركعة فأحدث عمدا أو غلبة أو نسيانا قبل كمال الصلاة فتطهر فخرج الوقت فالقضاء واجب عليه لما أدركه عملا بالتقدير الأول عند ابن القاسم اهـ. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: " وكذلك من ذكر صلاة منسية وإن خرج الوقت " تقدم لنا بيان هذه المسألة في شرح المسألة قبلها فراجع قول ابن القاسم في الحائض تطهرت، والمغمى عليه يفيق في آخر الوقت، ثم ذكر كل منهما صلاة منسية فإنه يبدأ بالفائتة إلخ. ولما أنهى الكلام على أوقات الصلاة الاختياري والضروري وما يتعلق بأحكامهما انتقل يتكلم في بيان حكم الأذان. فَصْلٌ في أحكام الأذان والأذان لغة هو مطلق الإعلام، وشرعا الإعلام بدخول وقت الصلاة المفروضة بالألفاظ المشروعة. وهو سنة مؤكدة على المشهور بكل مسجد ولو تقاربت المساجد والجماعة طلبت غيرها للاجتماع في الصلاة فقال المصنف رحمه الله تعالى: " الأذان سنة مؤكدة للمصلين الفرض في وقته جماعة " وفي الرسالة: والأذان واجب، أي وجوب السنن في المساجد والجماعات الراتبة. فأما الرجل

في خاصة نفسه فإن أذن فحسن، ولا بد من الإقامة. وأما المرأة فإن أقامت فحسن وإلا فلا حرج اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ولا يؤذن ولا يقيم إلا مسلم ذكر مكلف عارف بالأوقات " يعني أن الأذان والإقامة لهما شروط لا يصح كل منهما إلا بها. قال في العزية: ويشترط في المؤذن شروط صحة وشروط الكمال، فشروط الصحة أن يكون مسلما ذكرا بالغا عاقلا، وشروط الكمال أن يكون عدلا، عارفا بالأوقات، صيتا، متطهرا، قائما، مستقبل القبلة إلا لإسماع، وأن لا يكون قد صلى تلك الصلاة التي أذن لها اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " يشفع كلماته إلا الأخيرة " يعني أن المؤذن يأتي بألفاظ الأذان مثنى مثنى، بأن يكرر كل لفظ مرتين إلا الجملة الأخيرة، وهي قوله " لا إله إلا الله " فمرة واحدة. وفي الرسالة: والأذان، أي ألفاظه الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، ثم ترجع بأرفع من صوتك أول مرة فتكرر التشهد فتقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، فإن كنت في نداء الصبح زدت ها هنا: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم. ولا تقل ذلك في غير نداء الصبح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، مرة واحدة اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويرجع في الشهادتين " يعني أن المؤذن يرجع أي يكرر الشهادتين كما ذكره صاحب الرسالة موضحا. قال خليل: يرجع الشهادتين

بأرفع من صوته أولا. قال الخرشي: يعني أنه يسن للمؤذن أن يرجع الشهادتين بأعلى من صوته بالشهادتين أولا ويكون صوته في الترجيع مساويا لصوته في التكبير هذا هو المعتمد اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويزيد التثويب في الصبح " يعني أن المؤذن يكرر التثويب وهو قوله: الصلاة خير من النوم، مرتين في نداء الصبح فقط كما تقدم. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ولا يجوز قبل الوقت إلا لها " يعني أنه لا يجوز للمؤذن أن يؤذن قبل دخول وقت الصلاة حتى الجمعة إلا الصبح فقط. قال في الرسالة: ولا يؤذن لصلاة قبل وقتها إلا الصبح فلا بأس أن يؤذن لها في السدس الأخير من الليل اهـ. قال مالك في المدونة: لا ينادي لشيء من الصلوات قبل وقتها إلا الصبح وحدها. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن بلالا ينادي بليل فكلوا واشربوا، حتى ينادي ابن مكتوم " قال وكان ابن مكتوم رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت. قال مالك: ولم يبلغنا أن صلاة أذن لها قبل وقتها إلا الصبح. ولا ينادي لغيرها قبل دخول وقتها، ولا الجمعة اهـ. ثم اعلم أنه ما أخر المصنف الكلام على الإقامة إلى أن يتم الكلام على الأذان كما فعل غيره من المصنفين كما ينبغي، لكنه أتى بهذا الطريق، أي بالإقامة في أثناء الكلام على الأذان لغرض أراده، فقال رحمه الله تعالى: " والإقامة آكد " يعني أن الإقامة أوكد من الأذان لاتصالها بالصلاة. وحكمها أنها سنة الكفاية في حق الجماعة، وسنة العين في البالغ المنفرد، أو كان مع النساء، وأما المرأة فالإقامة في حقها مستحبة سرا، وإن لم تقم فلا إثم عليها. وأما الرجل فلا بد له من الإقامة وإن قاضيا، وإليه أشار المصنف رحمه الله تعالى: " فيقيم القاضي والمنفرد " يعني أن القاضي الذي يقضي ما فاته من الصلاة،

والمنفرد الذي يصلي وحده فعلى كل واحد منهما أن يقيم إذا أراد أن يصلي، وإن لم يقم بأن تركها عمدا فقال ابن كنانة من تركها عمدا بطلت صلاته. والمشهور في المذهب صحتها، فالاحتياط أن يحافظ على الإتيان بها ولا يتساهل في ذلك. ويشترط أن يكون المقيم متوضئا لاتصالها بالصلاة، بخلاف الأذان فإن الوضوء فيه مندوب، لقول مالك في المدونة: لا بأس بأن يؤذن غير متوضئ، ولا يقيم ويشترط أن يكون المقيم متوضئا لاتصالها بالصلاة، بخلاف الأذان فإن الوضوء فيه مندوب، لقول مالك في المدونة: لا بأس بأن يؤذن غير متوضئ، ولا يقيم ويشترط أن يكون المقيم متوضئا لاتصالها بالصلاة، بخلاف الأذان فإن الوضوء فيه مندوب، لقول مالك في المدونة: لا بأس بأن يؤذن غير متوضئ، ولا يقيم إلا متوضئا اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويوتر كلماتها إلا التكبير " وفي نسخة ويوتر كلماته بالتذكير، والصواب بالتأنيث كما قررناه؛ لأن الإقامة مؤنثة. يعني أن ألفاظ الإقامة وتر، لا يثنى ولا يكرر شيء منها إلا التكبير فقط. وفي الرسالة: والإقامة وتر: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. وما ذكرناه من إفراد الإقامة ما عدا التكبير فإنه مثنى هو المشهور، فإن شفع غير التكبير لا تجزئه الإقامة، قاله أبو الحسن علي الشاذلي في العزية اهـ. وفي أقرب المسالك: وهي مفردة، أي الإقامة حتى قد قامت الصلاة، إلا التكبير منها أولا فمثنى. قوله مفردة قال الصاوي في الحاشية: فلو شفعها كلها، أو جلها، أو نصفها بطلت، كإفراد الأذان كله أو جله، أو نصفه، لا الأقل فيهما اهـ. ثم رجع المصنف إلى الكلام على المؤذن وبعض أوصافه المتقدمة بقوله رحمه الله تعالى: " صيتا متطهرا على علو مستقبلا " هذا قد تقدم لنا أنه من شروط كمال المؤذن أن يكون عدلا عارفا بالأوقات، وأن يكون صيتا متطهرا، وأن يكون قائما على شيء مرتفع وأن يكون مستقبل القبلة إلا لإسماع، وأن لا يكون قد صلى تلك الصلاة التي أذن لها.

قال خليل: وندب متطهر، صيت، مرتفع، قائم إلا لعذر، مستقبل إلا لإسماع اهـ. انظر الحطاب. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ولا بأس بتصفحه يمينا وشمالا " يعني أن المؤذن يجوز له في حال أذانه أن يميل بوجهه يمينا وشمالا لإسماع الناس. قال ابن حبيب: وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم " أمر بلالا أن يلتفت بوجهه يمينا وشمالا وبدنه إلى القبلة، ونهاه أن يدور كما يدور الحمار " اهـ. ذكره الحطاب. ويجوز للمؤذن جعل إصبعيه على أذنيه حين الأذان والإقامة. قال ابن الحاجب: ولا يكره الالتفات عن القبلة للإسماع، ولا يفصل بين كلمات الأذان بابتداء سلام ولا رده ولا غيرهما، فإن بذلك أو غيره فاحشا استأنف. ولا يرد السلام إلا بالإشارة على المشهور اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ولا يشتغل بالأكل والكلام " فإن وقع واحد منهما في أثناء الأذان، فإن كان ذلك يسيرا فلا شيء عليه فليمض في أذانه، وإن كان كثيرا بطل الأذان. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويبني ليسيره " يعني أن المؤذن إن اشتغل غير الأذان فإن طال ابتدأ الأذان لإخلاله بنظام الأذان وتخليطه على السامع لاعتقاده أنه غير أذان، وقال الحطاب: يعني فإن فصل بين كلمات الأذان بكلام أو سلام أو بشيء غير ذلك، فإن كان الفصل يسيرا كرد سلام أو كلام يسير فإنه يبني، وإن كان كثيرا فإنه يستأنف الأذان من أوله. قال في النوادر: قال في المجموعة: ولا يتكلم في أذانه، فإن فعل بنى، إلا أن يخاف على صبي أو أعمى أو دابة أن يقع في بئر وشبهه فليتكلم ويبني. قال ابن حبيب: وإن عرضت له حاجة مهمة فليتكلم ويبني اهـ.

وفي تبصرة اللخمي: ولا يتكلم في أذانه، فإن فعل وعاد بالقرب بنى على ما مضى، وإن بعد ما بين ذلك استأنفه من أوله. ومثله إن عرض له رعاف أو غير ذلك مما يقطع أذانه، أو خاف تلف شيء من ماله أو مال غيره، أو خاف تلف أحد أعمى أو صبي أن يقع في حفرة فإنه يقطع ثم يعود إلى أذانه فيني في جميع ذلك إن قرب، ويبتدئ إن بعد اهـ مع إيضاح. قال المصنف رحمه الله تعالى: " والأعمى يقلد عارفا بالوقت " يعني لا بد للمؤذن الضرير أن يعتمد على البصير في دخول الوقت لئلا يخطئ فيه ويلتبس على الناس. قال خليل: وجاز أعمى. قال الخرشي: والمعنى أنه يجوز أذان الرجل الأعمى كما تجوز إمامته إذا كان ثقة مأمونا، ويكون تابعا لغيره، أو لمعرفة ثقة. وفضله أشهب في الأذان والإمامة على العبد ، ثم العبد الرضي على الأعرابي. ثم هو على ولد الزنا اهـ. قال في المدونة: وجائز أذان الأعمى وإمامته. ولفظ الأم: كان مالك لا يكره أن يكون الأعمى مؤذنا وإماما، وقال ابن ناجي في شرح المدونة. والمراد بأذان الأعمى إذا كان تبعا لأذان غيره أو معرفة من يثق به إن حضر الوقت. قال صاحب الطراز: قال مالك: وكان مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم أعمى. يريد ابن أم مكتوم. ولا يختلف في حل أذانه إذا كان من أهل الثقة والأمانة، إلا أنه لا يرجع في الوقت ما يقع في نفسه دون أن يستخبر من يثق به ويثبت في أمره، وقال في مختصر الواضحة: لا بأس أن يؤذن ويؤم الأعمى والأقطع والأعرج وذو العيب في جسده إذا لم يكن العيب في دينه اهـ الحطاب، وقال الصاوي في حاشيته - بلغة السالك لأقرب المسالك -: تنبيه يجوز أذان الأعمى والراكب، وتعدده بمسجد واحد إذا كان المؤذن غير الثاني، وإلا كره. واستظهر الحطاب الجواز حيث انتقل لركن آخر منه. قلت: هذا في غير أذان الصبح، وإلا فلا بأس أن يؤذن لها في السدس الأخير من الليل، ثم يؤذن هو عند دخول الوقت. ثم قال: والأفضل ترتبهم

إن لم يضيعوا فضيلة الوقت. وجاز جمعهم إن لم يؤد لتقطيع، فإن أدى إلى تقطيع اسم الله حرم، وفوات الكلمات لبعضهم مكروه، ويجوز حكاية المؤذن قبله، والأفضل الاتباع ولا يكفي ما نقل عن معاوية أنه سمع المؤذن يتشهد فقال: وأنا كذلك، أي أتشهد، بل لا بد من اللفظ بمماثله حملا للحديث على ظاهره. وجاز أخذ الأجرة عليه وعلى الإقامة أو مع الصلاة، وكره على الإمامة وحدها من المصلين، وأما من الوقف أو من بيت المال فجعلوه إعانة، وأما عادة الأكابر بمصر ونحوها إجازة الإمام في بيوتهم فالظاهر أنه لا بأس به لأنه في نظير التزام الذهاب للبيت. ويكره للمؤذن ومثله الملبي رد السلام في الأثناء، ويرده بعد الفراغ، ولا بد من إسماع المسلم إن حضر اهـ. نقله الصاوي من المجموع. قال المصنف رحمه الله: " ولا يؤذن للقضاء " يعني أن القاضي لا يشتغل بالأذان لأنه يزيدها تفويتا، والمطلوب المبادرة لبراءة الذمة، ولأن الأذان إنما شرع لفرض وقتي لا للفوائت، فإن الأذان فيها مكروه كما تقدم. قال المصنف رحمه الله تعالى: " لا المنفرد " والمعنى أن الشخص المنفرد إذا كان في الحضر فيكره له أن يؤذن، ومثله الجماعة التي لم تطلب غيرها كأهل الزوايا، لقول مالك رحمه الله: لا أحب الأذان للفذ الحاضر والجماعة المنفردة هذا إذا كانوا بالحضرة، أما إذا كانوا مسافرين فيندب لهم الأذان، كالمنفرد، ولو كان السفر دون مسافة القصر. قال خليل في المختصر - يذكر المندوبات - وأذان فذ إن سافر. قال الشارح: والمعنى أنه يندب الأذان للفذ - إن سافر - للحاضرة، أي إن كان بفلاة من الأرض، فليس المراد بالسفر السفر الشرعي، بل اللغوي، إلى أن قال: لا مفهوم للفذ، وكذا الجماعة التي لم تطلب غيرها، فيندب لهم الأذان في السفر، وأما إن طلبت غيرها فيسن في حقهم الأذان اهـ الخرشي، وفي الحديث عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري أنه قال له: " إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا

كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة " قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري والموطأ. وفي الموطأ أيضا عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: من صلى بأرض فلاة صلى عن يمينه ملك وعن شماله ملك، فإذا أذن وأقام صلى وراءه من الملائكة أمثال الجبال. وأخرج النسائي عنه صلى الله عليه وسلم: " إذا كان الرجل في أرض فأقام الصلاة صلى خلفه ملكان، فإذا أذن وأقام صلى وراءه من الملائكة ما يراه طرفاه، يركعون بركوعه، ويسجدون بسجوده، ويؤمنون على دعائه " اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " والنساء يقمن لا، فسهن " وفي نسخة ويقمن والواو، والمعنى أن الإقامة في حق كل واحدة منهن مستحبة، بأن تقيم لنفسها وتصلي فرضها منفردة إذا لم يكن معها ذكر بالغ، أو كان ولم يمكنها الاقتداء به لمانع من موانع الشرع وليس المعنى في قوله يقمن لأنفسهن بأن تقيم إحداهن وتؤم أخرى، لا، فإن ذلك غير مطلوب منهن. قال مالك في المدونة: لا أذان على المرأة ولا إقامة، وإن أقامت فحسن وفي المختصر: وإن أقامت المرأة سرا فحسن. قال الحطاب: يعني أن المرأة إن صلت وحدها فإن الإقامة في حقها حسنة، يعني مستحبة، وليست سنة كما في حق الرجل، وأما إذا صلت مع الجماعة فتكتفي بإقامتهم، ولا يجوز أن تكون هي المقيمة للجماعة لأن صوتها عورة، ولا تحصل السنة بإقامتها، كما لا تحصل سنة الأذان بأذانها. وفي شرح المدونة. أنها تقيم لنفسها، لا أنها تقيم في المساجد للجماعة. وإذا أقامت لنفسها فإنها تقيم سرا، كما أن المنفرد من الرجال يسر الإقامة. ثم قال: وما ذكره المصنف من كون الإقامة في حق المرأة حسنة أي مستحبة هو المشهور، وهو مذهب المدونة. قال فيها: وليس على المرأة أذان ولا إقامة، وإن أقامت فحسن. قال ابن ناجي في شرح المدونة: المعروف من المذهب أن إقامتها حسنة كما قال اهـ.

قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويندب لسامعه حكايته " أي يستحب لمن سمع المؤذن أن يحكيه، أي يندب للسامع أن يحكيه ولو قبل تمام الأذان، بأن سمع أوله فيحكيه، ثم يسبقه في ذكر باقيه. ومعنى الجواز خلاف الأولى، إذ المستحب متابعة الحاكي المؤذن قال خليل - عاطفا في الجائزات -: وحكايته قبله، وأجرة عليه أو مع صلاة، وكره عليها. قوله وأجرة عليه، قال الخرشي: أي يجوز أخذ الأجرة على الأذان وحده، أو على الإقامة وحدها، أو على أحدهما مع الصلاة فريضة أو نافلة، وسواء أكانت الأجرة من بيت المال كما فعل عمر، أو من آحاد الناس على المشهور. ومنعها ابن حبيب من آحاد الناس على الأذان. وقوله وكره عليها، يعني أنه يكره أخذ الأجرة على الصلاة أي إمامتها مفردة فرضا ونفلا على مذهب المدونة. قال ابن القاسم: وهو في المكتوبة عندي أشد كراهية، وإن وقعت صحت وحكم بها، كالإجارة على الحج، وأجازها ابن عبد الحكم، ومنها ابن حبيب كالأذان. وتجوز الصلاة خلف من يأخذ الأجرة من غير كراهة، قاله في سماع أشهب، ومحل الكراهة إذا كانت الأجرة تؤخذ من المصلين، وأما إذا أخذت من بيت المال أو من وقف المسجد فلا كراهة، لأنه من باب الإعانة لا من باب الإجازة، كما قاله ابن عرفة اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويبدل الحوقلة من الحيعلة " أي يقول لا حول ولا قوة إلا بالله بدل: حي على الصلاة حي على الفلاح. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وفي النافلة يحكي إلى منتهى الشهادتين " يعني يستحب لمن سمعه ما زاد على الشهادتين صحت إن أبدل الحيعلتين بحولقتين، وإلا بطلت إن قالهما عمدا أو جهلا لا سهوا وحكاية لفظ: الصلاة خير من النوم يبطل حتى النفل، لأنه كلام أجنبي من الصلاة. وتكره حكاية الأذان في الفريضة أصلية كمنذورة، ويحكيه بعد فراغه. قاله العلامة صالح

بن عبد السميع على العزية اهـ. وفي أقرب المسالك: وندب حكايته لسامعه لمنتهى الشهادتين على المشهور، ولو كان السامع بنفل فلا يحكي الحيعلتين، وظاهره أنه لا يحكي ما بعدهما من تكبير وتهليل أيضا وهو المشهور. قال الصاوي عليه: فلو حكاه في النفل كله على القول الثاني ولم يبدل الحيعلتين بالحولقتين بطلت صلاته. وأما حكايته في الفرض فمكروهة مع الصحة إن اقتصر على منتهى الشهادتين، أو أبدل الحيعلتين بالحولقتين، وإلا فتبطل كما تقدم في النفل اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويقول اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت سيدنا محمد الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد، اللهم اسقنا من حوضه بكأسه مشربا هنيئا سائغا رويا غير خزايا ولا ناكثين برحمتك يا أرحم الراحمين " يعني ينبغي أن يدعو بهذا الدعاء بعد الأذان لما فيه من عظيم النفع وعميم الفضل وجسيم الأجر. قال النفراوي: ويستحب لكل من سمع الأذان أن يحكيه لمنتهى الشهادتين من غير ترجيع، كما يستحب للمؤذن والسامع أيضا أن يصلي ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فراغه ثم يقول عقب الصلاة والسلام: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت سيدنا محمدا الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد. والدعوة التامة هي دعوة الأذان، والصلاة القائمة هي التي ستقام، والوسيلة هي درجة في الجنة، والمقام المحمود هو الشفاعة العظمى في فصل القضاء يوم القيامة، وسائغا: سهلا، وقوله ولا ناكثين أي ناقضين عهد الإيمان اهـ مع إيضاح. وعن سعد بن أبي وقاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من سمع المؤذن فقال مثل ما يقول، ثم يقول: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا غفر الله له " رواه مسلم بغير هذا اللفظ. وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال

تنبيه

حين يسمع الأذان اللهم رب هذه الدعوة النافعة والصلاة القائمة صل على محمد عبدك ورسولك وأعطه الوسيلة والفضيلة والشفاعة حلت له شفاعتي يوم القيامة ". وعن عائشة، رضي الله عنها، أنها كانت إذا سمعت المؤذن قالت: " شهدت، وأمنت، وأيقنت، وصدقت، وأجبت داعي الله، وكفرت بمن أبى أن يجيبه " اهـ قاله الحطاب. وينبغي أن يكون الأذان موقوفا بقليل السكت في جمله، بخلاف الإقامة فإنها معربة. تنبيه: ينبغي للمؤذن أن تحفظ عن الغلط في ألفاظ الأذان كالإقامة، لأن السلامة من اللحن في الأذان مستحب كما في الخرشي. وقد نقل العلامة الشيخ محمد بن محمد المراكشي مؤلف سبيل السعادة عن التوضيح فقال: فائدة: يغلظ بعض المؤذنين في مواضع منها أن يمد الباء من أكبر فيصير أكبار، والأكبار جمع كبر وهو الطبل، فيخرج إلى معنى الكفر. ومنها أنهم يمدون الهمزة في أول أشهد، فيخرج إلى حيز الاستفهام، وكذلك يصنعون في أول الجلالة. ومنها الوقوف على لا إله وهو خطأ، ومنها أن بعضهم لا يدغم تنوين محمد في الراء بعدها، وهو لحن خفي عند القراء، ومنها أن بعضهم لا ينطق بالهاء في حي على الصلاة وبالحاء في حي على الفلاح، فيخرج في الأول إلى صلا النار، وفي الثاني إلى غير المقصود اهـ. قلت: ومنها أن بعضهم يشبع الراء من أكبر بزيادة الواو بعدها، ومنها أن بعضهم يضم الكاف من أكبر، ومنها أن بعضهم يغلظ في لفظ حي على الصلاة حي على الفلاح بكسر اللام في على، وذلك في الأذان والإقامة، وهو خارج عن معنى المقصود اهـ.

فصل في شروط الصلاة

شروط الصلاة ولما أنهى الكلام على الأذان والإقامة وما يتعلق بهما انتقل يتكلم على شروط الصلاة فقال رحمه الله: فَصْلٌ في شروط الصلاة أي في بيان شروط الصلاة، وهي أربعة على الجملة: الأول استقبال القبلة، والثاني طهارة الحدث وطهارة الخبث، والثالث ستر العورة، والرابع البلوغ. وسيأتي زيادة بيان على التفصيل بعد تعريف الشرط. والشروط جمع شرط، وتجمع على شرائط وأشراط. قال العلامة الدردير على أقرب المسالك: وهي ثلاثة أقسام: شروط وجوب فقط، وشروط صحة فقط، وشروط وجوب وصحة معا. والمراد بشروط الوجوب ما يتوقف عليه الوجوب، وبشروط الصحة ما تتوقف عليه الصحة، وبشرطهما ما يتوقفان عليه. وشرط ما يلزم من عدمه عدم المشروط، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم. فإن كان شرط وجوب فقط كالبلوغ قلت هو ما يلزم من عدمه عدم وجوب الشيء - كالصلاة مثلا - ولا يلزم من وجوده وجود الوجوب لاحتمال وجود مانع كالحيض، ولا عدم الوجوب، بل قد يحصل الوجوب وذلك عند انتفاء الموانع وتوافر الأسباب كدخول الوقت. وإن كان شرط صحة فقط كالإسلام قلت: هو ما يلزم من عدمه عدم الصحة، ولا يلزم من وجوده وجود الصحة لجواز انتفاء شرط آخر كالطهارة، أو وجود مانع كالحيض، ولا عدمها، بل قد توجد إذا انتفت الموانع وتوافرت الأسباب. وإن كان شرطا في الوجوب والصحة معا كالعقل بالنسبة للصلاة قلت هو ما يلزم من عدمه عدمهما ولا يلزم من وجوده وجودهما

ولا عدمهما. وأما كونه لا يلزم من وجوده وجودهما فلجواز حصول مانع منهما كالحيض، وأما كونه لا يلزم من وجوده عدمهما فلجواز توافر الأسباب وانتفاء الموانع وهي إذا توافرت مع انتفاء الموانع حصل الوجوب والصحة. وأما شروط وجوبها فقط فاثنان البلوغ وعدم الإكراه على تركها. فوجوبها يتوقف عليهما، لكن عدم الإكراه ليس بشروط وجوبها على التحقيق. وأما شروط الصحة فقط فخمسة: طهارة الحدث، وطهارة الخبث على أشهر القولين، وقيل إن طهارة الخبث سنة. والإسلام، وستر العورة، والاستقبال. وأما شروطهما معا فستة: بلوغ الدعوة، والعقل، ودخول الوقت، والقدرة على استعمال الطهور، وعدم النوم والغفلة، والخلو من حيض ونفاس وهو خاص بالنساء اهـ. قال المصنف مبتدئا بالشرط الأول وهو من شروط الصحة بقوله: " استقبال القبلة شرط في الصلاة " يعني أن استقبال القبلة شرط من شروط صحة الصلاة. وسميت القبلة قبلة لأن المصلي يقابلها وتقابله، وهي على سبعة أقسام: الأولى قبلة تحقيق وهي قبلة الوحي كقبلته عليه الصلاة والسلام: بمعنى قبلة عيان وإن لم تعاين، وهي الكعبة. الثانية قبلة إجماع وهي قبلة جامع عمرو بن العاص بمصر؛ لإجماع الصحابة عليها. الثالثة قبلة استتار وهي قبلة من غاب عن البيت من أهل مكة أو عن مسجده عليه الصلاة والسلام. الرابعة قبلة اجتهاد، وهي قبلة من لم يكن في الحرمين. الخامسة قبلة بدل وهي جهة السفر للراكب على الدابة في النوافل حيثما في سفر قصر لقول الله تعالى: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} [البقرة: 115] أي قبلته. السادسة قبلة تخيير، وهي قبلة من لم يجد مجتهدا يقلده، أو تحير، أو نسي المجتهد، أو خفيت عليه الأدلة لسجن أو ظلمة أو حجاب أو غير ذلك. وسيأتي عن المصنف. فإن تحير تخير جهة. السابعة قبلة عيان وهي استقبال عين القبلة لمن بمكة، أي مسامته بناء الكعبة بجميع البدن تيقنا من الأمن والقدرة، لأن القدرة

على اليقين تمنع الاجتهاد، فإن عجز فالجهة قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] وروى البيهقي عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض " اهـ وهذا الحديث وإن ضعف الترمذي بعض رجاله فمعناه صحيح لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية. وفي الحديث عن البراء بن عازب: قال " قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم وجه إلى الكعبة، فمر رجل قد كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم على قوم من الأنصار، فقال: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجه إلى الكعبة فانحرفوا إلى الكعبة " رواه الخمسة. وهنا قال المصنف رحمه الله تعالى: " إلا في شدة الخوف " يعني أن الخوف الشديد مبيح للخائف إيقاع الصلاة على غير القبلة. قال خليل: أو خوف من كسبع. وفي المواق: قال مالك في المدونة: من خاف إن نزل من سباع أو غيرها صلى على دابته إيماء أينما توجهت به، فإن أمن في الوقت فأحب إلي أن يعيد بخلاف العدو. قال ابن يونس: ووقته وقت الصلاة المفروضة قال اللخمي: ويسقط استقبال القبلة عن المكتوف، والمربوط، وصاحب الهدم، والمسايف للعدو، والخائف من اللصوص والسباع يخشى متى وقف أدركه العدو أو اللصوص أو السباع. قال المصنف رحمه الله تعالى عاطفا على شدة الخوف: " والنافلة في سفر القصر على الدابة " يعني أن التنفل يجوز له أن يصلي حيث ما توجهت به الدابة قال ابن جزي في القوانين: الاستقبال شرط في الفرائض إلا في صلاة المسايفة، والراكب في السفر

يخاف إن نزل لصا أو سبعا فتجوز الصلاة حينئذ إلى القبلة وغيرها، وهو أيضا شرط في النوافل إلا في السفر فيصلي حيث ما توجهت به راحلته، ويومئ بالركوع والسجود، ويجعل السجود أخفض من الركوع، ولا يتكلم ولا يلتفت، وذلك بشرط أن يكون السفر طويلا ويكون راكبا. ويصلي من في السفينة إلى القبلة، فإن دارت استدار: وروى ابن حبيب أنه يتنفل حيث سارت به كالدابة اهـ. وفي المختصر: وصوب سفر قصر لراكب دابة فقط، وإن بمحمل بدل في نفل وإن وترا. قال الشارح: يعني أن جهة السفر للمسافر عوض له عن توجهه إلى الكعبة في النوافل، وإن وترا، لفعله عليه الصلاة والسلام ذلك، ويجري ركعتي الفجر وسجود التلاوة بشرط أن يكون سفره سفر قصر، وأن يكون لراكب دابة فلا يرخص في ذلك في حضر ولا فيما دون مسافة القصر، أو سفر غير مباح ولوالي القبلة، ولا لماش ولا لراكب سفينة. والمحمل كالدابة وهو ما يركب فيه من شقدف وغيره. وإذا استوفى هذه الشروط له أن يبتدئ تنفله إلى جهة سفره، ولا يجب عليه أن يبدئه إلى جهة القبلة اهـ. ثم رجع إلى بيان وجوب استقبال الكعبة وجهتها لمن تأهل، فقال رحمه الله: " فيلزم معانيها إصابتها، وغيره جهتها " هذا في غير ما استثنى من الخائف والمتنفل في سفر قصر على الدابة، ومن كان في حالة الالتحام في قتال جائز فهؤلاء يجوز لهم الصلاة إلى القبلة وغيرها، ولا غيرهم، وأما أهل مكة فيلزمهم معاينة الكعبة من الأمن والقدرة كما تقدم. وأما غيرهم ممن كان خارجا عنها فيلزمه التوجه إلى جهتها لقوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] * * * وفي المختصر: ومع الأمن استقبال عين الكعبة لمن بمكة، فإن شق ففي الاجتهاد نظر وإلا فالأظهر جهتها اجتهادا، كأن نقضت والعياذ بالله تعالى. انظر حاشية الصاوي على أقرب المسالك عند قول مصنفه وهي عين الكعبة لمن بمكة إلخ.

قال المصنف رحمه الله تعالى: " فإن أشكلت تحرى " يعني أن المصلي إذا أشكلت عليه القبلة ولم يهتد بجهتها، ولم يجد من يقله فإنه يجتهد ويتحرى جهة ويصلي عليها، وإن تبين خطؤه في الصلاة قطع، وبعدها أعاد في الوقت، ووقته في الظهرين اصفرار الشمس، وفي العشاءين طلوع الفجر، وفي الصبح طلوع الشمس. قال المصنف رحمه الله: " فإن تحير تخير جهة. وقيل يصلي أربعا إلى أربع جهات " وفي المختصر: فإن لم يجد، أو تحير مجتهد تخير ولو صلى أربعا لحسن، وهو المختار عند اللخمي. قال الدردير: والمعتمد الأول: فإن لم يجد غير المجتهد مجتهدا يقلده ولا محرابا تخير جهة من الجهات الأربع وصلى إليها صلاة واحدة وسقط عنه الطلب لعجزه. وقال الدسوقي: وأما لو وجد ذلك المقلد من يقلده من مجتهد أو محراب وترك تقليد ما ذكر، واختار جهة تركن لها نفسه وصلى لها كانت صلاته صحيحة إن لم يتبين خطؤه، فإن تبين الخطأ فيها قطع حيث كان كثيرا، وإن تبين بعدها فقولان بالإعادة أبدا، أو في الوقت اهـ. وإليه أشار المصنف رحمه الله تعالى بقوله: " فإن تبين الخطأ في أثنائها استدار وبعدها لا إعادة " يعني أنه قد تقدم البيان في ذلك، لكن نذكر هنا نص المدونة لزيادة الإيضاح. قال مالك فيمن استدبر القبلة أو شرق أو غرب فصلى وهو يظن أن تلك القبلة، ثم تبين له أنه على غير القبلة فقال: يقطع ما هو فيه ويبتدئ الصلاة، فإن فرغ من صلاته ثم علم في الوقت فعليه الإعادة. قال: وإن مضى الوقت فلا إعادة عليه. وقال أيضا: لو أن رجلا صلى فانحرف عن القبلة ولم يشرق ولم يغرب فعلم بذلك قبل أن يقضي صلاته فإنه يميل إلى القبلة ويبني على صلاته اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وغير المجتهد يقلد عارفا جهتها كالأعمى " يعني أن غير المتأهل للاجتهاد سواء كان بصيرا أو أعمى يقلد عارفا بطريق القبلة بشرط أن يكون

مكلفا عدلا، أو يقلد محرابا وإن لم يكن من محاريب الأمصار. انتهى بمعناه. قال ابن جزي: المصلون ثلاثة: متيقن للقبلة، ومجتهد، ومقلد، وهي مرتبة فلا يجوز الانتقال عن واحد إلى ما بعده إلا بعد العجز عنه. فالقطع لمن صلى في مكة، ومحراب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة بمنزلة الكعبة. والاجتهاد لمن صلى في سائر الأقطار إن قدر عليه، والتقليد لمن عجز عن الاجتهاد فيسأل مسلما عاقلا عارفا بالقبلة ويقلده، فإن عدم من يقلد فقيل يصلي إلى حيث شاء، وقيل يصلي أربع صلوات إلى أربع جهات اهـ. وقد تقدم أن المعتمد من القولين الأول. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وداخل القرية المسلمة يعمل على محرابها " يعني أنه قد تقدم أن غير المجتهد إذا لم يجد مجتهدا يدله على القبلة يقلد المحراب وإن لم يكن من محاريب الأمصار، هذا إذا كان بلدا عظيما حضر نصب محرابه إلى جهة الكعبة جمع من العلماء العارفين، وذلك كبغداد ومصر والإسكندرية وإلا فلمجتهد أن يعتمد على اجتهاده. قال في المختصر: ولا يقلد مجتهد غيره ولا محرابا إلا لمصر. وفي المواق: قال ابن القصار: يجوز تقليد محاريب البلاد التي تكررت صلواتها ونصبتها الأئمة، القباب: وهذا إذا لم تكن مختلفة ولا مطعونا عليها انظر المواق اهـ. قال الخرشي: وقوله ولا يقلد محرابا، يريد إن كان البلد الذي هو فيه خرابا، أما لو كان البلد عامرا: تتكرر فيه الصلاة ويعلم أن إمام المسلمين قد نصب محرابه، أو اجتمع أهل البلد على نصبه فإنه يجب أن يقلده، وهو معنى قوله إلا لمصر، ولا يجوز له الاجتهاد حينئذ اهـ. ولما أنهى الكلام على الشرط الأول انتقل يتكلم على الشرط الثاني وهو الستر، ولما كان ستر العورة شرطا من شروط صحة الصلاة على القادر عليه أفرده المصنف بالفصل استقلالا واعتناء بشأن ذلك في الصلاة وخارجها، فقال رحمه الله:

فصل في ستر العورة في الصلاة وخارجها

فَصْلٌ في ستر العورة في الصلاة وخارجها أي في ستر العورة. والمعنى أن المصنف رحمه الله عقد هذا الفصل في بيان وجوب ستر العورة بقوله: " ستر العورة شرط " أي في صحة الصلاة. قال الخرشي: والعورة في الأصل الخلل في الثغر وغيره وما يتوقع منه ضرر وفساد، ومنه عورة المكان أي توقع الضرر والفساد منه. وقوله تعالى: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَة} [الأحزاب: 13] أي خالية يتوقع فيها الفساد. والمرأة عورة لتوقع الفساد من رؤيتها أو سماع كلامها، لا من العور بمعنى القبح لعدم تحققه في الجميلة من النساء لميل النفوس إليها. وقد يقال المراد بالقبح ما يستقبح شرعا وإن ميل إليه طبعا. وعبارة بعضهم: والعورة وهو القبح، لقبح كشفها لا نفسها، حتى قال محيي الدين بن عربي: الأمر بستر العورة لتشريفها وتكريمها لا لخستها، فإنهما - يعني القبلين - منشأ النوع الإنسان المكرم المفضل اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وهي من الرجل ما بين السرة إلى الركبة " يعني أن عورة الرجل التي يحرم النظر إليها مابين السرة والركبة، فيجب على كل رجل مكلف سترها في جميع الأحوال، في الصلاة وخارجها، إلا في الخلوة فمستحبة، وكل ذلك إن قدر ووجد ما يستتر به بأي ساتر كان. وعبارة المصنف شاملة للعورة المغلظة والمخففة، لأن العورة المغلظة هي السوءتان، وهما القبل والدبر وما والاهما من الأليتين والعانة والأنثيين، وما عدا ذلك من الفخذ عورة مخففة في حق الرجل، وفي الرسالة: والفخذ عورة وليس كالعورة نفسها. قال شارحها: فغاية ما يقال إنه يكره كشفه مع غير الخاصة، والحرمة بعيدة لأنه عليه الصلاة والسلام كشف فخذه مع أبي بكر وعمر، ففي مسلم " عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعا في بيته كاشفا فخذيه وساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحالة فتحدث، ثم استأذن

عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه فدخل وتحدث معه، فلما خرج قالت عائشة دخل أبو بكر فلم تباله، ودخل عمر فلم تباله - أي لم تهتم لدخولهما وتستر فخذيك - ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك، فقال: " ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة " والاستحياء منه مزية وهي لا تقتضي الأفضلية اهـ. قال النفراوي: والحاصل أن الفخذ عورة مخففة يجوز كشفه مع الخواص، ولا يجوز مع غيرهم، فقد كشف النبي صلى الله عليه وسلم فخذه مع أبي بكر وعمر، وستره حين أقبل عثمان، ثم ذكر الحديث المتقدم إلى آخره، وقال: ولذا لا يعيد الرجل الصلاة لكشفه ولو عمدا، وإلا أعادت الأمة في الوقت، والحرة أبدا لأنه من الأنثى عورة حقيقة مطلقا اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " فإن لم يجد إلا إزارا اتزر به، أو ثوبا واسعا التحف به وخالف طرفيه وعقدهما على عاتقه " يعني أن المصلي إذا لم يجد إلا إزارا واحدا فإنه يشده على وسطه ويصلي فيه ولا يعيد، وأما إن وجد ثوبا واسعا فإنه يلتحف به ويخالف طرفيه ويعقده على اعتقه، والعاتق هو ما بين المنكب والعنق. والأصل في هذا حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " إذا كان الثوب واسعا فالتحف به " يعني في الصلاة. ولمسلم " فخالف بين طرفيه، وإن كان ضيقا فاتزر به " رواه البخاري ومسلم. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وتكره السراويل بانفرادها " وفي نسخة السراولة بمفردها. والسراويل تذكر وتؤنث. وفي المصباح: والجمهور أن السراويل أعجمية. وقيل عربية، جمع سراولة تقديرا، والجمع سراويلات اهـ. يعني أن الصلاة في السراويل مكوهة إلا إذا كان معها شيء. وفي الأخضري: وتكره الصلاة في السراويل إلا إذا كان فوقها شيء وفي الرسالة: ويكره أن يصلي بثوب ليس على أكتافه منه شيء، فإن فعل

لم يعد اهـ. وما ذكر من كراهة الصلاة في السراويل محله إذا لم يكن شفافا، وإذا كان فوقهما شيء كثيف يحجب الوصف انتفت الحرمة والكراهية اهـ. قال المصنف رحمه الله: " والمحدد لرقته " يعني أنه يكره لبس الثوب المحدد لأجل رقته، وهذا ليس مخصوصا بالسراويل، بل لجميع الثوب الرقيق الذي يصف الجسد أو العورة لرقته ولو بغير صلاة لإخلاله بالمروءة ومخالفته لزي السلف الصالح. وفي المواق: قال ابن الحاجب ما يصف لرقته أو لتحديده يكره كالسراويل. ومن المدونة: كره مالك الصلاة في السراويل. ابن يونس لأنه يصف. والمئزر أفضل منه. قال خليل: لا بريح، وفي المواق: الذي لابن يونس من صلى في ثوب رقيق يصف أعاد، إلا أن يكون رقيقا لا يصف إلا عند ريح فلا يعيد اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " والأمة كالرجل " يعني أن عورة الأمة كعورة الرجل. وقد تقدم أن عورة الرجل ما بين السرة والركبة. قال في المختصر: وهي من رجل وأمة وإن بشائبة، وحرة مع امرأة ما بين سرة وركبة. قال الخرشي: يعني أن عورة الرجل مع مثله، أو مع أمة ولو بشائبة من أمومة، فما دونها مع رجل أو امرأة بالنسبة للرؤية وللصلاة ما بين السرة والركبة، عورة الحرة مع حرة، أو أمة ولو كافرة بالنسبة للرؤية ما بين السرة والركبة وهما خارجان اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويستحب ستر بدنها لا رأسها " يعني أنه يندب للأمة القن أن تستر جميع بدنها إلا الرأس فلا تستره للتمييز بينها وبين الحرة، كما يستحب لأم الولد والمبعضة تغطية العنق. وأما فلا يستحب لها ذلك. قال في المختصر: ولا تطلب أمة بتغطية رأس. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " يستحب " تغطية المستولدة والمبعضة

العنق " قال العلامة العدوي في حاشيته على الخرشي: وحاصل ما في المقام أن أم الولد وغيرها اشتركتا في وجوب ستر ما بين السرة والركبة وفي ندب ما زاد على ذلك إلا الرأس، واختلفتا في الرأس، فأم الولد يندب لها أي ستر الرأس، وغيرها أقوال ثلاثة بالجواز، وندب التغطية، وندب عدمها. قال أفاده علي الأجهوري رحمه الله. ثم قال: والحاصل أن المعتمد ما قلنا كما أفاده شيخنا. قال عياض الصواب ندب تغطيتها في الصلاة لأنها أولى من الرجال، ولا ينبغي اليوم الكشف مطلقا لعموم الفساد في أكثر الناس، فلو خرجت جارية مكشوفة الرأس في الأسواق والأزقة لوجب على الإمام أن يمنعها من ذلك، ويلزم الإماء بهيئة تميزهن من الحرائر. وبعض الشراح جعل كلام المصنف عاما، ولا تطلب أمة لا وجوبا ولا ندبا، بل يندب عدم التغطية كما صرح به ابن ناجي. وقد كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يضرب من تغطي رأسها من الإماء لئلا يشتبهن بالحرائر. . وصوب سند الجواز كما نقله أبو سعيد؛ لأن غايتها أن تكون كالرجل، فإذا لم يستحب له كشف رأسه بل يجوز ففي الأمة أولى اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " والمرأة كلها عورة إلا وجهها وكفيها " يعني أن المرأة الحرة البالغة يجب عليها ستر جميع بدنها لأنها كلها عورة إلا وجهها وكفيها لقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] الآية. أي لا يكشفن أبدانهن إلا عند أزواجهن أو أقربائهن ومن ذكر معهم في الآية الكريمة. قال ابن جزي في القوانين الفقهية: وأما الحرة فكلها عورة إلا الوجه والكفين. وزاد أبو حنيفة القدمين، ولم يستثن ابن حنبل. ثم قال حكم المرأة في النظر إلى المرأة كحكم الرجل في النظر إلى الرجل، فيمنع النظر إلى العورة، ويجوز ما عدا ذلك. وحكم المرأة في النظر إلى ذوي محارمها كحكم الرجل في النظر إلى الرجل. وحكمها في النظر إلى الأجنبي كحكم الرجل مع ذوات محارمه وهو النظر إلى الوجه والكفين فقط على الأصح. وقيل كنظر الرجل

إلى المرأة الأجنبية اهـ. وفي العزية: وعورة المرأة الحرة مع أجنبي جميع بدنها إلا الوجه والكفين اهـ. وفي الأخضري: والمرأة كلها عورة ما عدا الوجه والكفين اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " والساتر الحصيف لا الشفاف " يعني يشترط في الساتر الذي يستر عورته به أن يكون كثيفا. قال ابن جزي: وأما الساتر فيجب أن يكون صفيقا كثيفا، فإن ظهر ما تحته فهو كالعدم، وإن وصف فهو مكروه اهـ. وفي الرسالة: وأقل ما يجزئ المرأة من اللباس في الصلاة الدرع الخصيفة (¬1) السابغة التي تستر ظهور قدميها، وهي القميص والخمار الخصيف. قال الشارح: القميص هو الذي يسلك في العنق، وشرطه كونه كثيفا لا يصف ولا يشف. وقوله: والخمار تتقنع به أي تغطي به رأسها وشعرها وعنقها، ولا يجوز لها أن تجعل الوقاية فقط فوق رأسها وتترك ذقنها وعنقها مكشوفين، ويشترط في الخمار من الكثافة ما يشترط في الدرع. قاله النفراوي. وفي الثمر الداني: الخمار بكسر الخاء المعجمة وهو ثوب تجعله المرأة على رأسها فشرطه شرط القميص من كونه كثيفا لا يشف، فإن صلت بالخفيف النسج الذي يشف، فإن كان مما تبدو منه العورة بدون تأمل فإنها تعيد أبدا، وإن كان يصف العورة فقط أي يحددها فيكره وتعيد في الوقت. والرجل كالمرأة في ذلك: فيجب على المرأة أن تستر ظهور قدميها وبطونهما وعنقهما ودلاليها، ويجوز أن تظهر وجهها وكفيها في الصلاة خاصة. والأصل فيما ذكر قوله صلى الله عليه وسلم " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار " يعني بالغة. وفي رواية " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) قال في الثمر الداني: الحصيفة - بالحاء المهملة - على الرواية الصحيحة. وروي بالخاء المعجمة. ومعنى الأولى: الكثيف الذي لا يصف ولا يشف. ومعنى الثانية: الساتر السابغ. . . ويراد به أيضا الذي لا يصف ولا يشف.

أتصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار؟ قال: " إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها " اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ومن لم يجد إلا حريرا أو نجسا صلى به " يعني أن المصلي إذا لم يجد ما يستر به العورة إلا ثوب حرير أو نجس فإنه يصلي به للضرورة، وصحت صلاته، وإن تركه وصلى عريانا فإنه يعيد صلاته أبدا. قال الدردير على أقرب المسالك: فإذا علم من يعيره ما يستر به عورته فلم يستعره وصلى عريانا بطلت. وكذا من صلى عريانا مع وجود حرير أو نجس اهـ بمعناه. قال خليل - مشبها بالإعادة في الوقت -: كمصل بحرير وإن انفرد أو بنجس بغير. وقال بعد ذلك بقليل: وعصى وصحت إن لبس حريرا أو ذهبا أو سرق أو نظر محرما فيها. قال الشارح: قوله كمصل بحرير تشبيه في الإعادة في الوقت، يعني أن من صلى بحرير أو بذهب لابسا لكل فإنه يعيد في الوقت، وإن انفرد باللبس مع وجود غيره خلافا لابن حبيب القائل بإعادته أبدا. ويحتمل وإن انفرد في الوجود، أي لم يجد غيره حتى صلى به، خلافا لأصبغ القائل بعدم الإعادة. وأما من صلى حاملا له في كمه أو في جيبه أو في فمه فلا إعادة عليه ولا إثم عليه. وقوله أو نجس، أي وكذلك يعيد إلى الاصفرار إذا صلى بثوب نجس ذاتا أو عارضا لابسا له أو حاملا، ويعيد في شيء طاهر غير حرير، إذ لا فائدة في الإعادة بشيء نجس أو حرير. وكذلك لا يعيد في الآخر إذا صلى بأحدهما اهـ الخرشي. وأما قول خليل: وعصى وصحت إن لبس حريرا إلخ، قال المواق: أما إن صلى به مختارا فقد نص ابن الحاجب على أنه عاص، فإن كان معه ساتر غيره فقال ابن القاسم وسحنون يعيد في الوقت، وقال ابن وهب وابن الماجشون لا إعادة عليه. قال ابن عرفة ونقل ابن الحاجب عدم صحة الصلاة لا أعرفه. فانظر قول خليل وصحت، هل يريد ويعيد في الوقت لأن الإعادة في الوقت فرع الصحة، أو يكون بنى على قول ابن وهب وابن الماجشون؟

وأما إن صلى بثوب حرير بلا ساتر معه فقال ابن وهب وابن الماجشون أيضا لا إعادة عليه. وقال أشهب: يعيد في الوقت. وقال ابن حبيب يعيد أبدا. ثم قال: وعبارة ابن يونس من صلى بخاتم ذهب أو ثوب حرير وعليه ما يواريه غيره فليعد في الوقت. وقال أشهب: لا إعادة عليه إلا أن يكون عليه غيره فليعد في الوقت. وقال ابن حبيب إذا كان عليه غيره أجزأه وقد أثم، وإذا لم يكن عليه غيره أعاد أبدا. قال ابن يونس: فصار فيمن صلى بثوب حرير عامدا ثلاثة أقوال: ابن وهب: لا إعادة عليه، أشهب يعيد في الوقت. ابن حبيب: يعيد أبدا. قال المأزري: يلزم ابن حبيب أن يعيد أبدا من صلى في دار مغصوبة أو ثوب مغصوب، والمعروف خلافه فانظر هذا كله مع لفظ خليل ومع ما تقدم عند قوله كمصل بحرير إلى أن قال: وكذا المعدوم شرعا هو كالمعدوم حسا، فالمصلي بثوب الحرير كأنه ليس ذلك الثوب عليه، فإن كان عليه غيره صحت الصلاة، وإلا فهو كعريان اهـ مع حذف شيء. انظر الحطاب فإنه قد أتى بما يغني الطالب. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وفي اجتماعهما يقدم النجس، وقيل الحرير " يعني أنه إذا اجتمع عند مريد الصلاة ثوبان! حرير ونجس ولم يجد غيرهما، فإنه يقدم النجس على الحرير، وهو قول أصبغ. قال العدوي على الخرشي ضعيف. قال الخرشي: وإذا اجتمع الحرير مع النجس، أو المتنجس قدم الحرير على المشهور، وهو قول ابن القاسم. وفي الدردير على أقرب المسالك: وهو أي الحرير مقدم على النجس عند اجتماعهما وجوبا، لأنه لا ينافي الصلاة بخلاف النجس. وقال الصاوي عليه: قوله مقدم على النجس وكذا على المتنجس، وهذا قول ابن القاسم. وقال أصبغ: يقدم النجس، لأن الحرير يمنع لبسه مطلقا، والنجس إنما يمنع لبسه في حال الصلاة، والممنوع في حالة أولى من الممنوع مطلقا، والمعتمد ما قاله ابن القاسم اهـ.

قلت: والمسألة ذات خلاف، ولذا قال ابن جزي في القوانين: وإن لم يجد إلا ثوبي حرير ونجس فاختلف بأيهما يصلي اهـ ونقل عن المواق عن المدونة ونصها: من لم يكن معه غير ثوب نجس وثوب حرير فليصل بالحرير ويعيد في الوقت. قال ابن يونس: لأن النجس غير مباح لأحد الصلاة به، والحرير مباح للنساء لبسه والصلاة به وللرجل في الجهاد فهو أخف، وقال أشهب: الأخص مقدم على الأعم، فيقدم النجس في الاجتناب لأنه أخص، كالمحرم يقدم الصيد على الميتة في الاجتناب اهـ. بالاختصار. وفي حاشية العدوي على الخرشي: اعلم أن حاصل ما قيل أن الثوب النجس يصلي به اتفاقا، وفي الحرير الخلاف، وذلك لأن الثوب النجس جائز لبسه في جميع الأوقات إلا في حالة الصلاة، بخلاف الحرير، إلا أنه إذا اجنمعا يقدم الحرير، ومقتضى ما ذكر العكس. والجواب أنه إذا صلى بالنجس مع وجود غيره تبطل، وأما الحرير فلا بطلان اهـ. قلت: وغاية الأمر أنه يعيد في الوقت لأن الإعادة في الوقت فرع الصحة كما تقدم. وقد علمت فيما مر أن المشهور الذي اعتمد عليه المحققون قول ابن القاسم. والله موفق للصواب. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ومن عدم الساتر صلى عريانا بموضع ساتر قائما راكعا ساجدا " يعني أن من لم يجد الساتر بأن عجز عن كل ما يجب الاستتار به، فإنه يجب عليه أن يصلي عريانا بموضع لا يراه أحد، وليصلها كما هي قائما بالركوع والسجود. ولا تسقط عنه لعدم الساتر ما دام يقدر على أدائها. قال خليل: ومن عجز صلى عريانا، قال الدردير: أي وجوبا، وأعاد بوقت على المذهب. وفي جواهر الإكليل: ومن عجز عن ستر عورته المغلظة صلى عريانا لأن اشتراط الستر في صحة الصلاة مقيد وهو عاجز عنه اهـ. قال ابن جزي في القوانين: ومن لم يجد ثوبا صلى وحده عريانا قائما يركع ويسجد. وقال أبو حنيفة: يصلي جالسا، فإن جاء الثوب وهو في الصلاة فاختلف

هل يستر ويتمادى أو يقطع ويبتدئ اهـ. وفي الأخضري: ومن لم يجد ما يستر به عورته صلى عريانا، قال عبد السميع الأزهري الآبي: يعني أن المكلف إذا ضاق عليه الأمر ولم يجد ما يستر به عورته من ثوب نجس أو حرير أو حشيش أو ورق أو طين يتمعك فيه وتعذر عليه جميع ذلك فيجب عليه أن يصلي عريانا ولا يؤخر الصلاة حتى يجد ما يستر به عورته اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وفي جماعة العراة في الظلمة يتقدم إمامهم ويصلون كذلك. وفي نهار أو ليل مقمر قيل ينفرد كل بموضع. وقيل جماعة غاضين " يعني أن العراة الذين لا يقدرون على الثياب: إنهم يصلون أفذاذا يتباعد بعضهم عن بعض، ويصلون قياما. وإن كانوا في ليل مظلم لا يتبين بعضهم بعضا صلوا جماعة، وتقدمهم إمامهم اهـ. قال ابن جزي: وإن اجتمع عراة في الظلام صلوا كالمستورين، وإن كانوا في الضوء تباعدوا وصلوا أفذاذا، وإلا صلوا جلوسا. وقيل قياما ويغضون أبصارهم اهـ. وفي المختصر: فإن اجتمعوا بظلام فكالمستورين، وإلا تفرقوا، فإن لم يمكن صلوا قياما غاضين، إمامهم وسطهم. قال الشارح: يعني أن العراة إذا اجتمعوا في ظلام الليل، أو لظلمة مكان فإنهم يصلون على هيئتها من قيام وركوع وسجود، ويتقدم إمامهم، فإن كان الاجتماع في ضوء كنهار أو ليل مقمر فإنهم يتفرقون إن أمكن ويصلون أفذاذا، فإن لم يمكن تفرقهم لخوف على مال أو نفس من عدو أو سبع أو لضيق مكان صلوا قياما غاضين أبصارهم، وركعوا وسجدوا وإمامهم وسطهم، فإن كان معهم في هذه الحالة نساء ينبغي أن يصلي الرجال ثم النساء، أي فرادى قائمات راكعات ساجدات، وتصرف كل طائفة وجهها عن الأخرى، ولو تركوا التفرق مع القدرة عليه فالظاهر أنه بمنزلة من صلى عريانا مع القدرة على الستر فيعيد أبدا. وقيل في الوقت. ومثله

لو تركوا غض البصر. ولا يقال هذا بمنزلة من نظر عورة إمامه أو غيره فيجري فيه ما تقدم؛ لأن ذلك مع الستر وهذا مع فقده كما في شرح الأجهوري اهـ الخرشي مع إسضاح. ولنذكر بقية الأمثلة التي ذكرها الشيخ خليل هنا إتماما للفائدة وهي قوله: وإن علمت في صلاة بعتق مكشوفة رأس، أو وجد عريان ثوبا استترا إن قرب، وإلا أعادا بوقت، وإن كان لعراة ثوب صلوا أفذاذا، ولأحدهم ندب إعارتهم اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويمنع التلثم في الصلاة " التلثم عو تغطية الفم وما تحت الشفة السفلى بثوب. وليس بحرام إلا لقصد الكبر، وإن قصد به الكبر فحرام، وإلا فمكروه على المشهور ولو في غير الصلاة. وقد نقل الحطاب عن الزروق. ونصه: قال الشيخ زروق في شرح الإرشاد عند قول صاحب الإرشاد ويمنع التلثم في الصلاة: أما التلثم فيمنع إذا كان لكبر ونحوه، ويكره لغير ذلك، إلا أن يكون ذلك شأنه، كأهل لمتونة، أو كان في شغل عمله من أجله فيستمر عليه. وتنقب المرأة للصلاة مكروه؛ لأنه غلو في الدين، ثم لا شيء عليهالأنه زيادة في الستر اهـ. وفي المواق عند قول خليل: وانتقاب امرأة - من المدونة - قال مالك: إن صلت الحرة منتقبة لم تعد. ابن القاسم وكذا المتلثمة. اللخمي: يكرهان. وتستدل على وجهها إن خشيت رؤية رجل اهـ. وفي الدسوقي: والحق أن اللثام يكره في الصلاة وخارجها سواء فعل لأجلها أو لا لأنه أولى بالكراهة من النقاب، وحينئذ فلا اعتراض على المصنف اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويكره كف الكم والشعر وشد الوسط لها " يعني أن كل هذه الأفعال مكروهة في الصلاة. قال خليل: وانتقاب امرأة، ككشف كم وشعر لصلاة وتلثم. وفي الرسالة: ولا يغطي أنفه أو وجهه في الصلاة، أو يضم ثيابه، أو يكفت شعره. قال شارحها أبو الحسن في كفاية الطالب: والنهي عن هذه الأمور

كلها نهي كراهة إذا كان في الصلاة، وأما خارجها فلا كراهة لما في الحديث " أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء " الحديث. أما تغطية الأنف بالنسبة إلى المرأة فلأنه من التعمق في الدين، وأما بالنسبة إلى الرجل فللكبر إلا من كانت عادته ذلك كأهل مسوفة - بلد المغرب - فيباح له في الصلاة وغيرها، ويستحب له تركه في الصلاة. وأما تغطية الوجه لهما - أي للرجل والمرأة - فللتعمق في الدين. وأما ضم الثياب فإنما يكره إذا فعل ذلك لأجل الصلاة أو صونا لثيابه لئلا تتلوث ترابا لأن في ذلك ضربا من ترك الخشوع المطلوب في الصلاة. وأما إذا كان في صنعة أو عمل فحضرته الصلاة وهو كذلك فيجوز له أن يصلي على ما هو عليه من غير كراهة. وأما كفت الشعر فإنما يكره إذا قصد بذلك خوف تلوثه، أما إذا كانت عادته ذلك لشغل فلا كراهة. والأفضل أن يحل ذلك كله اهـ. وروي " إذا سجد الإنسان فسجد معه شعره كتب له بكل شعرة حسنة " وفي الحديث " أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء، ولا أكفت شعرا ولا ثوبا " فأخبر أن النهي إنما هو إذا قصد به الصلاة. قال النفراوي والحاصل أن كلا من الانتقاب والتلثم والاحتزام والتشمير وضم الأكمام والشعر إنما يكره إذا فعل في الصلاة، ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة، ولا يكره شيء من ذلك لغير الصلاة إلا الانتقاب لمن لم يكن عادته ذلك. ويفهم من ذلك أنه لو أحضرته الصلاة وهو محتزم أو شامر لثوبه لا تكره صلاته على تلك الحالة، وإن كان الأولى حل ذلك اهـ. ثم ذكر المصنف شرطا ثالثا من شروط الصلاة بقوله رحمه الله تعالى: " وإزالة النجاسة شرط. وقيل مع الذكر والقدرة " يعني أن إزالة النجاسة عن محمول المصلي شرط في صحة الصلاة. وقيل فرض مع الذكر والقدرة. والقول الثالث أنها سنة مؤكدة. والقول بالسنية هو المشهور في المذهب؛ لأنه قول ابن القاسم عن مالك في المدونة. واعتمد ابن رشد وابن يونس وعبد الحق. وحكى بعض المحققين الاتفاق

عليه كما في الخرشي. ولفظ المدونة عن مالك: رفع النجاسات من الثياب والأبدان سنة لا فريضة. قال ابن رشد: وعليه فمن صلى بثوب نجس أعاد في الوقت - ولو عمدا - الظهرين للاصفرار، والعشاءين للفجر، والصبح للطلوع، والجمعة كالظهرين اهـ. وفي الرسالة: وطهارة البقعة للصلاة واجبة، وكذلك طهارة الثوب، فقيل إن ذلك فيهما واجب وجوب الفرائض. وقيل وجوب السنن المؤكدة اهـ. قال شارحها أبو الحسن في كفاية الطالب: وقد شهر كل من القولين. وعلى الأول لو صلى بالنجاسة متعمدا قادرا على إزالتها أعاد أبدا، وإن صلى بها ناسيا أو عاجزا أعاد في الوقت، وعلى الثاني يعيد في الوقت مطلقا. ثم قال: والوقت في الظهرين إلى الاصفرار، وفي العشاءين الليل كله، وفي الصبح إلى الإسفار اهـ. قال الزروق في شرحه على الرسالة: وذكر في البيان أن المشهور في المذهب قول ابن القاسم عن مالك أن رفع النجاسة من الثياب والأبدان سنة لا فريضة. فمن صلى بثوب نجس على مذهبه ناسيا أو جاهلا مضطرا إلى الصلاة فيه أعاد في الوقت اهـ. قال النفراوي: وهذا القول أي بسنية إزالة النجاسة عن ثوب المصلي وبدنه شهره ابن رشد لأنه قول ابن القاسم رواه عن مالك كما تقدم اهـ. انظره في المطولات. والله أعلم بالصواب. ولما أنهى الكلام على الشروط وما يتعلق بجميع ذلك مما هو خارج الماهية انتقل يتكلم على الماهية المعبر عنها بالركن والفرض والواجب واللازم والحتم، فقال رحمه الله تعالى:

فصل في أركان الصلاة

فَصْلٌ في أركان الصلاة أي في الأركان. واعلم أن المصنف عقد هذا الفصل في بيان أركان الصلاة والأركان جمع ركن. وركن الشيء جزء ماهيته: أي حقيقته كما في المصباح. والمراد بالصلاة مطلق الصلاة ولو نفلا. وابتدأ بالركن الذي تركه المصلي تبطل صلاته فقال رحمه الله تعالى: " أركانها النية مقترنة بالتكبير " يعني أنه أخبر أن النية هي أول ركن من أركان الصلاة. وقد أورد المصنف هنا اثنى عشر ركنا كما سيأتي. والنية هي أصل كل العمل وأساسه. وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " الحديث. وشروطها في أول كل عمل، فيشترط هنا أي في الصلاة أن تكون مقرونة بتكبيرة الإحرام بأن يكون قصده مقارنا للفظ التكبير. قال المصنف رحمه الله تعالى: " فإن قدمها بالكثير لم يجزه إلا يستصحبها ذكرا " بضم الذال ضد النسيان. يعني أن تقديم النية على تكبيرة الإحرام أو تقديم تكبيرة الإحرام عليها قد تصح به الصلاة وقد تبطل أخرى. قال خليل: وبطلت بسبقها إن كثر، وإلا فخلاف. قال الشارح: يعني أن النية إذا سبقت أي تقدمت على تكبيرة الإحرام فإن الصلاة تبطل إن بعد السبق اتفاقا، وكذا إن تأخرت النية عن تكبيرة الإحرام مطلقا، فإن لم يبعد سبق النية لتكبيرة الإحرام بل تقدمت عنها بيسير فخلاف، البطلان لابن الحاجب وتلميذه عبد الوهاب فيشترط المقارنة، وعدمه لابن رشد حيث قال: تقدم النية قبل الإحرام بيسير جائز كالوضوء والغسل عندنا، والصوم عند الجميع اهـ. وفي حاشية العدوي على الخرشي: وأما المقارنة فهي حال الصحة والكمال

اتفاقا. قال في توضيحه أي خليل: والذي يظهر لي أن أقوال المتأخرين في اشتراط المقارنة معناها أنه لا يجوز الفصل بين النية والتكبير، لا أنه يشترط أن تكون مصاحبة له اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ومحلها القلب بغير تلفظ، فإن تلفظ بها فواسع " قال الدردير في أقرب المسالك: وجاز التلفظ بها، لكن الأولى تركه في صلاة أو غيرها. قال الصاوي: ويستثنى الموسوس فيستحب له التلفظ ليذهب عنه اللبس كما في المواق اهـ. قال ابن جزي: محل النية القلب، ولا يلزم النطق بها، وتركه أولى خلافا للشافعي اهـ. فالحاصل أن النطق بالنية مكروه وبدعة إلا من كثر عليه الوسواس فيجوز له ذلك لدفع ما عليه من الوسواس. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ولو اختلف العقد واللفظ فالمعتبر العقد، والأحوط الإعادة " يعني لو تلفظ بالنية وخالف لفظه ما نواه في قلبه، كأن نوى صلاة الظهر مثلا وتلفظ بالعصر فالعبرة بما نواه لا بما تلفظ به. وينبغي له الإعادة احتياطا، فإن لم يعد فلا شيء عليه. وفي حاشية الصاوي على الدردير: تنبيه: إن خالف لفظه نيته فالعبرة بالنية إن وقع ذلك سهوا. وأما عمدا فمتلاعب تبطل صلاته اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " يقصد أداء فرض الوقت " أي ينوي أداء الصلاة المعينة التي حضر وقتها كالظهر مثلا حال كونه " قائما مستقبلا " أي إلى القبلة إلا في ما استثني من شدة خوف أو متنفل على الدابة في سفر قصر كما تقدم. قال المصنف رحمه الله تعالى: " غير مقنع رأسه ولا مطأطئ له " يعني أن يكون عند تكبيرة الإحرام قائما مستقبلا معتدلا رافع رأسه ولا مطأطئه ويحضر بقلبه جلال الله عز وجل، ويشعر نفسه أنه واقف بين يديه يناجيه لأداء ما فرض عليه، ثم يكبر. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " الركن الثاني من أركان الصلاة " تكبيرة

الإحرام يتعين " لفظ " الله أكبر " يعني أن المصلي يتعين إذا أراد الدخول في الصلاة أن يقول الله أكبر، سواء كان إماما أو فذا أو مأموما، كانت الصلاة فرضا أو نفلا، ذات ركوع وسجود أو غيرها. وفي الرسالة: والإحرام في الصلاة أن تقول الله أكبر، لا يجزئ غير هذه الكلمة اهـ. نعم اتفق أهل المذهب على أن غير الله أكبر لا يجزئ. ذكره ابن ناجي في شرح الرسالة. وفي الحديث " مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم " رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وكلهم عن علي بن أبي طالب. وخرجه الترمذي أيضا عن أبي سعيد الخدري تنبيه: قال المحقق عبد الرؤف المناوي في فيض القدير شرح الجامع الصغير: قد جعل الله لكل مطلوب مفتاحا يفتح به، فجعل مفتاح الصلاة الطهور، ومفتاح الحج الإحرام، ومفتاح البر الصدقة، ومفتاح الجنة التوحيد، ومفتاح العلم حسن السؤال والإصغاء، ومفتاح الصبر، ومفتاح المزيد الشكر، ومفتاح الولاية والمحبة الذكر. ومفتاح الفلاح والتقوى، ومفتاح التوفيق الرغبة والرهبة، ومفتاح الإجابة الدعاء، ومفتاح الرغبة في الآخرة الزهد في الدنيا، ومفتاح الإيمان التفكر في مصنوعات الله، ومفتاح الدخول على الله استسلام القلب والإخلاص له في الحب والبغض، ومفتاح حياة القلوب تدبر القرآن بالأسحار وترك الذنوب، ومفتاح حصول الرحمة الإحسان في عبادة الحق والسعي في نفع الخلق، ومفتاح الرزق السعي مع الاستغفار، ومفتاح العز الطاعة، ومفتاح الاستعداد للآخرة قصر الأمل، ومفتاح كل خير الرغبة في الآخرة، ومفتاح كل شر حب الدنيا وطول الأمل. وهذا باب واسع من أنفع أبواب العلم، وهو معرفة مفاتيح الخير والشر، ولا يقف عليه إلا الموفقون اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " الركن الثالث من أركان الصلاة " القيام لها " أي لتكبيرة الإحرام للقادر عليه في الفرض ولو كفائيا، فلو كبر القادر جالسا في الفرض

ثم قام فصلاته باطلة، وكذا لو كبر راكعا، إلا أن ينوي بها الإحرام على أحد القولين في المسبوق. وأما العاجز والمتنفل فيجوز لهما الجلوس عند تكبيرة الإحرام. قاله ابن تركي في " الجواهر الزكية " مع طرف من الصفتي. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " الركن الرابع من أركان الصلاة " الفاتحة، يفتتحها بالحمد لله رب العالمين " أي فاتحة الكتاب، وهي الحمد لله رب العالمين إلخ وقوله: يفتتحها بالحمد يقرأ بضم الدال تأدبا بالقرآن، يعني أن الركن الرابع من اركان الصلاة قراءة الفاتحة، فهي فرض لكل مصل إلا من كان خلف الإمام فيستحب له قراءتها في السرية دون الجهرية، وفي الموطأ: أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل هل يقرأ أحد خلف الإمام قال: إذا صلى أحدكم خلف الإمام فحسبه قراءة الإمام، وإذا صلى وحده فليقرأ. قال: وكان عبد الله بن عمر لا يقرأ خلف الإمام. قال يحيى سمعت مالكا يقول: الأمر عندنا لأن يقرأ الرجل وراء الإمام فيما لا يجهر فيه الإمام بالقراءة، ويترك القراءة فيما يجهر فيه الإمام بالقراءة اهـ ثم اعلم أنه يجب لمن لم يحسن الفاتحة أن يتعلمها إن اتسع الوقت لذلك، وكان يقبل التعليم، ووجد من يعلمه ولو بأجرة وجدها، وإلا وجب عليه أن يأتم بمن يحسنها إن وجده، ووجد من يعلمه ولو بأجرة وجدها، وإلا وجب عليه أن يأتم بمن يحسنها إن وجده، فإن وجده ولم يأتم به بطلت صلاته. وأما قوله: يفتتحها بالحمد لله رب العالمين إشارة إلى ما في الصحيحين من حديث أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: " إن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين " رواه البخاري ومسلم، وزاد مسلم " لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها " وفي رواية لأحمد والنسائي " لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم " وفي الموطأ " عن أنس بن مالك أنه قال: قمت وراء أبي بكر وعمر وعثمان فكلهم كان لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إذا افتتح الصلاة " وإليه ذهب أبو محمد في الرسالة، فإنه قال في باب صفة العمل: ثم تقرأ، فإن كنت في الصبح قرأت جهرا بأم القرآن لا تستفتح

ببسم الله الرحمن الرحيم في أم القرآن ولا في السورة التي بعدها اهـ. قال النفراوي: أي لا تقرؤها لا سرا ولا جهرا، وإماما كنت أو فذا أو مأموما لأنها عند الإمام أحمد وأبي حنيفة ليست آية من الفاتحة ولا من أول كل سورة فينهى المصلي عن قراءتها في الفريضة نهي كراهة، هذا هو المشهور في المذهب، ولابن نافع قول بوجوبها كمذهب الشافعي. وعند الإمام مالك في المبسوط إباحتها، وعزى لابن مسلمة ندبها، ودليل المشهور حديث عبد الله بن مغفل، والعمل. قلت: وكذا حديث أنس المتقدم وحديث عائشة، انظر (رسالة الإنصاف فيما بين العلماء من الاختلاف) للعلامة المحقق ابن عبد البر النمري القرطبي المتوفى سنة 463 هجرية، فقد أتى بما لا يستغنى عنه من هذا الشأن، وعليك بها والله يتولى التوفيق، وكان المأزري يأتي بها سرا فكلم في ذلك فقال: مذهب مالك على صحة صلاة من يبسمل، ومذهب الشافعي على قول واحد ببطلان صلاة تاركها والمتفق عليه خير من المختلف فيه. وقد ذكر القرافي وابن رشد والغزالي وجماعة أن من الورع الخروج من الخلاف بقراء البسملة في الصلاة، ومثل ذلك قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة بعد إحدى التكبيرات، لكن مع بعض دعاء لتصير الصلاة صحصحة باتفاق، لأن الدعاء عندنا ركن. . ومحل كراهة البسملة في الفريضة إذا أتى بها على وجه أنها فرض من غير تقليد لمن يقول بوجوبها، وأما إذا أتى بها مقلدا له، أو بقصد الخروج من الخلاف من غير تعرض لفريضة ولا نفيلة فلا كراهة، بل واجبة إذا قلد القائل بالوجوب، ومستحبة في غيره، وأما البسملة والتعوذ في النافلة فالجواز من غير كراهة اهـ النفراوي. قال المصنف رحمه الله تعالى: " والمشهور وجوبها في أكثرها. وقال القاضي أبو محمد بل في كل ركعة " يعني أنه اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في تارك قراءة الفاتحة في الصلاة على ثلاثة أقوال، والترك إما عمدا أو سهوا، أما العمد فلا

إشكال في بطلان صلاة تاركها، وأما السهو فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يترك القراءة في الصلاة كلها، أو في ركعتين منها، أو في ركعة من الصبح أو الجمعة أو غيرهما. وانظر أقوال العلماء في جميع ذلك في المطولات، لكن المعتمد أن قراءة الفاتحة فرض واجب على المصلي في كل ركعة كالركوع والسجود، ويؤيد ذلك ما قرره الشيخ صالح عبد السميع في شرحه على الرسالة المسمى بالثمر الداني من قوله: وما ذكره من عدم الجبر في ترك القراءة - يعني قراءة أم القرآن في الصلاة كلها - هو قول الأكثر، وهو الراجح، ومقابله ما رواه الواقدي عن مالك أنه إذا ترك القراءة في الصلاة كلها أن صلاته تجزئه، وما ذكره من عدم الجبر في ترك القراءة في الركعتين قال ابن ناجي هو مؤثر في البطلان اهـ. فهذا ظاهر في وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة فتأمل. قال القاضي أبو محمد في الرسالة: ولا يجزئ سجود السهو لنقص ركعة ولا سجدة، ولا لترك القراءة في الصلاة كلها أو في ركعتين منها، وكذلك في ترك القراءة في ركعة من الصبح، واختلف في السهو عن القراءة في ركعة من غيرها، فقيل يجزئ فيه سجود السهو قبل السلام، وقيل يلغيها ويأتي بركعة، وقيل يسجد قبل السلام ولا يأتي بركعة ويعيد الصلاة احتياطا وهذا أحسن ذلك إن شاء الله تعالى اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " الركن الخامس من أركان الصلاة " الركوع " وفي العزية الخامسة أي من فرائض الصلاة الركوع، وأكمله أن ينحني بحيث يستوي ظهره وعنقه، وينصب ركبتيه، ويضع كفيه عليهما، ويجافي الرجل مرفقيه عن جنبيه، ولا ينكس رأسه بل يكون ظهره مستويا اهـ. قلت إنه قد اتفق الأئمة على ركنيه الركوع والسجود، ولا خلاف بين الأمة في ذلك كما هو معلوم. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وأكمله تمكين راحتيه من ركبتيه معتدلا

رأسه وظهره ولا يبزخ " المعنى أن أكمل الركوع أن ينحني ويمكن كفيه على ركبتيه حال كونه معتدلا بأن يسوس رأسه وظهره، ولا يطأطئه. وقوله: ولا يبزخ، البزاخ خروج الصدر ودخول الظهر. وقيل ولا يبزخ أي ولا يرفع. وفي نسخة ولا ينزح بالنون والحاء المهملة وهي خطأ، وصوابه بالباء الموحدة التحتانية والخاء المعجمة اهـ. وفي الرسالة: فإذا تمت السورة كبرت في انحطاطك للركوع فتمكن يديك من ركبتيك، وتسوي ظهرك مستويا، ولا ترفع رأسك ولا تطأطئه، وتجافي بضبعيك عن جنبيك، وتعتقد الخضوع بذلك في ركوعك وسجودك اهـ وفي جواهر الإكليل: وأكمل الركوع أن يسوي فيه ظهره ورأسه فلا ينكسه ولا يرفعه، والذي فهمه أبو الحسن والإمام سند من المدونة أن وضع اليدين على الفخذين في الركوع مستحب، وفهم اللخمي والباجي منها وجوبه. وأما نصب الركبتين فمندوب اتفاقا اهـ مع إيضاح. تنبيه: قال الأقفهسي في شرح الرسالة: ولو كان بيديه ما يمنع وضعهما على ركبتيه أو قصرتا كثيرا لم يزد في الانحناء على تسوية ظهره، فإن كانت إحداهما مقطوعة وضع الباقية على ركبتها اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " الركن السادس من أركان الصلاة " الرفع منه " أي الرفع من الركوع من فرائض الصلاة، فتبطل الصلاة بتعمد تركه. قال الدسوقي: وأما إن تركه سهوا فيرجع محدودبا حتى يصل لحالة الركوع ثم يرفع ويسجد بعد السلام، إلا المأموم فلا يسجد لحمل الإمام لسهوه، فإن لم يرجع محدودبا ورجع قائما لم تبطل صلاته مراعاة لقول ابن حبيب إن تارك الرفع من الركوع سهوا يرجع قائما لا محدودبا ويسجد من غير إعادة الركوع، أي لا يكون كتارك الركوع في إعادته اهـ بتصرف. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " الركن السابع من أركان الصلاة " السجود على جبهته " قال الدردير على خليل: وهي مستدير ما بين الحاجبين إلى الناصية، أي على

أيسر جزء منها، وندب إلصاقها بالأرض وما اتصل بها كسرير على أبلغ ما يمكنه. وكره شده بأرض بحيث يظهر أثره في جبهته كما يفعله الجهلة. وأما قوله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] معناه خضوعهم وخشوعهم في وجوههم من أثر عبادتهم كما ذكره الأمير في ضوء الشموع. ويشترط استقرارها على ما يسجد عليه، فلا يصح على تبن أو قطن إلا إذا اندك لارتفاع العجيزة عن الرأس، أي لا يشترط ذلك بل يندب اهـ مع إيضاح. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وفي " وجوب السجود على " الأنف " وسنيته أو استحبابه " خلاف " يعني أنه اختلف العلماء في السجود على الأنف، قيل إنه سنة، وقيل مستحب. قال في المختصر: وأعاد لترك أنفه بوقت. قال الدردير ولو في سجدة واحدة سهوا مراعاة للقول بوجوبه وإلا فهو مستحب على الراجح ولا إعادة لمستحب اهـ. وقد عد صاحب الأخضري السجود على الأنف من سنن الصلاة، وفي الجواهر الزكية: السجود على الجبهة والأنف، فإن ترك الأنف أعاد في الوقت، وإن سجد على أنفه دون جبهته أعاد أبدا على المشهور. قلت هذا كما في المدونة. قال مالك فيها: والسجود على الجبهة والأنف جميعا. قال ابن القاسم: فإن سجد على الأنف دون الجبهة أعاد أبدا، وإن سجد على الجبهة دون الأنف أجزأه. وقال عبد الوهاب: ويعيد في الوقت استحبابا، قال المواق اهـ. وفي شرح العزية للشيخ صالح بن عبد السميع الأزهري قال: قال الحطاب: والسجود على الأنف مستحب على الراجح، وإنما الإعادة لترك السجود عليه بالوقت الاختياري، مراعاة لمن يقول بوجوبه، وإلا فالمستحب لا يترتب عليه سجود بتركه. وقيل سنة، فالمسألة ذات أقوال ثلاثة المعتمد منها الاستحباب اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " الركن الثامن من أركان الصلاة " الرفع منه

للفصل " يعني أن الركن الثامن من أركان الصلاة الرفع من السجود لأجل الفصل بين السجدتين، والضمير في منه عائد إلى السجود المتقدم ذكره. قال الدسوقي نقلا عن المأزري: أما الفصل بين السجدتين فواجب اتفاقا؛ لأن السجدة وإن طالت لا تتصور أن تكون سجدتين، فلا بد من الفصل بين السجدتين حتى تكونا اثنتين، ونحوه في التوضيح اهـ ومثله في الخرشي. قال الدردير على شرح خليل: والمعتمد صحة صلاة من لم يرفع يديه عن الأرض حال الجلوس بين السجدتين حيث اعتدل اهـ قلت: ولم يذكر المصنف ركنيه الاعتدال بين السجدتين، ولعله رأى أن الجلوس بينهما في رفع من السجود هو عين الاعتدال واستغنى عن ذكره في الأركان، أو كان عدم ذكره للاختلاف في ركنيته، مع أنه من أركان الصلاة كما ذكروه في غالب مؤلفاتهم، وسيأتي زيادة البيان فيه إن شاء الله في الركن الحادي عشر عند قول المصنف والطمأنينة، فترقب. قال المصنف رحمه الله تعالى: " يجلس واضعا يديه على فخذيه مبسوطتين " هذه صفة الجلوس بين السجدتين وكذا بين التشهدين. قال أبو محمد عبد الله بن أبي زيد في الرسالة: ثم تسجد وتكبر في انحطاطك للسجود فتمكن جبهتك وأنفك من الأرض، وتباشر بكفيك الأرض باسطا يديك مستويتين إلى القبلة تجعلهما حذو أذنيك أو دون ذلك، وكل ذلك واسع، غير أنك لا تفترش ذراعيك في الأرض، ولا تضم عضديك إلى جنبيك ولكن تجنح بهما تجنيحا وسطا، وتكون رجلاك في سجودك قائمتين وبطون إبهاميهما إلى الأرض، وتقول إن شئت في سجودك: سبحانك ربي ظلمت نفسي وعملت سوءا فاغفر لي، أو غير ذلك إن شئت، وتدعو في سجودك إن شئت، وليس لطول ذلك وقت، وأقله أن تطمئن مفاصلك متمكنا، ثم ترفع رأسك بالتكبير فتجلس فتثني رجلك اليسرى في جلوسك بين السجدتين، وتنصب اليمنى وبطون أصابعها

إلى الأرض، وترفع يديك عن الأرض على ركبتيك، ثم تسجد الثانية كما فعلت أولا اهـ وفيه كفاية عن جلب النصوص في هذا المقام وبالله التوفيق. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " الركن التاسع من أركان الصلاة الجلوس " قدر السلام من الجلسة الأخيرة " يعني أخبر المصنف أن من أركان الصلاة الجلوس بقدر إيقاع السلام من الجلسة الأخيرة، وأما الجلوس للتشهد فهو سنة، كما أن التشهد سنة من سنن الصلاة كما سيأتي عن المصنف. وفي المختصر والجلوس بقدر السلام، قال الشارح يعني أن الجلوس لأجل إيقاع السلام في الجزء الأخير من الجلوس الذي يوقع فيه السلام فرض، وما قبله سنة، فلا يلزم إيقاع فرض في سنة بل في فرض، فلو رفع رأسه من السجود واعتدل جالسا وسلم كان ذلك الجلوس هو الواجب وفاتته السنة. ولو جلس ثم تشهد كان آتيا بالفرض والسنة اهـ الخرشي. قال المصنف رحمه الله تعالى: (و) الركن العاشر من أركان الصلاة " السلام " يعني أن السلام من أركان الصلاة. ومن أراد الخروج من الصلاة فلا بد له أن يقول: السلام عليكم، بالألف واللام، ولا يكفيه سلام عليكم، ولا سلامي عليكم، ولا سلام الله عليكم. ولا بد أيضا من تقديم السلام على عليكم، ولا يجزئ عليكم السلام، وكذلك لا بد من لفظ عليكم بميم الجمع، ولا يكفي السلام عليك. وفي الجواهر الزكية على متن العشماوية: والسلام المعرف بالألف واللام، فلا يجزئ ما عرف بالإضافة كسلامي عليكم، ولا يجزئ لفظ السلام دون عليكم، ولا عليكم السلام بلفظ الرد على المشهور في ذلك كله. وأما تسليمه الرد فيجزئ ذلك كله فيها اهـ. قال الدردير في أقرب المسالك: وسلام وإنما يجزئ السلام عليكم بالعربية وتعريفه بأل وتقديمه على عليكم بلا فصل وإلا لم يصح، فإن تركه أو أتى بمناف قبله بطلت اهـ. وقال الخرشي: ولا بد من قول السلام عليكم، ولا تكفي النية للقادر، ولا يقوم مقامه

شيء من الأضداد، وسواء كان المصلي إماما أو مأموما أو فذا، إذ لا يخلو من مصحوب أقلهم الحفظة، ولا يضر زيادة ورحمة الله وبركاته لأنها خارجة من الصلاة. وظاهر كلام أهل المذهب أنها ليست بسنة وإن ثبت بها الحديث لأنه لم يصحبها عأهل المدينة، كالتسليمة الثانية للإمام والفذ. ولا بد في السلام أن يكون بالعربية، فإن قدر على الإتيان به بغير العربية فلا يأتي به، وإن قدر على الإتيان ببعضه وكان له معنى ليس بأجنبي من الصلاة أتى به على نحو ما تقدم في تكبيرة الإحرام اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وهو " أي السلام عليكم " كتعين " فلا يجزئ غيره من الألفاظ " معرف " أي بالألف واللام مع تشديد السين، وفي نسخة معرفا بالنصب صحيح كل منهما. قال خليل: وسلام عرف بأل. قال المواق نقلا عن التلقين: الواجب من التسليم مرة، ولفظه متعين وهو أن يقول السلام عليكم ولا يجزئ غيره اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وهل ينوي به الخروج قولان " يعني أن المصلي إذا أراد الخروج من الصلاة هل يشترط عليه نية الخروج عنها كما دخل بنية، أم لا يشترط عليه ذلك، فيه قولان مشهوران، فأجاب صاحب العزية بقوله: ولا يشترط أن ينوي بسلامه الخروج من الصلاة على أحد القولين المشهورين، وقد فهمنا منه أن المشهور هو الأول بدليل قوله: ومقابله لا بد من ذلك، ولذا قال وعليه يقصد الإمام بسلامه الخروج من الصلاة والسلام على الملائكة اهـ. وقال الصاوي في بلغة السالك: تنبيه وقع خلاف هل يشترط أن يجدد نية للخروج من الصلاة بالسلام لأجل أن يتميز عن جنسه كافتقار تكبيرة الإحرام إليها لتمييزها عن غيرها، فلو سلم من غير تجديد نية لم يجزه. قال سند وهو ظاهر المذهب، أو لا يشترط ذلك، وإنما تندب فقط لانسحاب النية الأولى؟ قال ابن الفاكهاني وهو المشهور. وكلام ابن عرفة يفيد أنه المعتمد، فلذلك سكت المصنف عن الاشتراط. والمراد بالمصنف أي الدردير اهـ. والمفهوم من كلامهم أن المشهور من

القولين الأول، بمعنى لا يشترط نية الخروج من الصلاة كما اعتمد عليه المحققون. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " الركن الحادي عشر من أركان الصلاة " الطمأنينة ويجزئ منها أدنى اللبث " يعني أخبر المصنف أن الطمأنينة من فرائض الصلاة. وحقيقتها استقرار الأعضاء في حال الركوع والسجود، ولا حد لأقله على المشهور في المذهب، وأكمله مقدار ثلاث تسبيحات أو أكثر وهو راكع أو ساجد. وكذا يطلب منه أن تستقر أعضاؤه في الاعتدال بعد الرفع من الركوع والسجود، لحديث أبي داود بذلك، ومن لم يطمئن في ركوعه أو سجوده فصلاته باطلة. والدليل على ركنيه الطمأنينة والاعتدال جريان العمل به، كما أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كله: قال خليل: وطمأنينة. وفي المواق قال أبو عمر: الاعتدال فرض لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا ينظر الله إلى من لا يقيم صلبه في ركوعه وسجوده " ولا خلاف في هذا، وإنما اختلفوا في الطمأنينة بعد الاعتدال. وقال في الكافية: لا يجزئ ركوع ولا وقوف بعد الركوع، ولا سجود ولا جلوس بين السجدتسن، حتى يعتدل راكعا وواقفا وساجدا وجالسا. وهذا هو الصحيح في الأثر، وعليه جمهور العلماء. وقال عياض: فرائض الصلاة الطمأنينة في أركانها، ومن سننها الاعتدال في الفصل بين الأركان اهـ. وفي العزية: الحادية عشرة الاعتدال في الفصل بين الأركان. الثانية عشرة الطمأنينة في أركان الصلاة كلها قيامها وركوعها وسجودها والرفع منها وبين السجدتين. والفرق بينهما وبين الاعتدال أن الاعتدال في القيام مثلا انتصاب القامة، والطمأنينة استقرار الأعضاء اهـ قلت: والصحيح

أن الطمأنينة والاعتدال فرضان من فرائض الصلاة، فلا ينبغي أن يختلف في فرضيتها على المذهب كما اعتمد عليه عليه المحققون الذين اعتنوا بتحرير كل مسألة من مسائل دين الإلاسم. قال العلامة عبد الوهاب الشعراني في كشف الغمة: وكان رسول صلى الله عليه وسلم يأمر بالطمأنينة في السجود، وينهى عن نقرة الغراب فيه اهـ. فثبت أن الطمأنينة مأمور به. ونقر الغراب منهي عنه، فحينئذ ومن لم يكمئن ولم يعتدل في صلاته بأن نقر فيها كنقر الديكة للحب بطلت صلاته؛ لأن العلماء قد مثلوه برجل له جارية حسناء مرغوبة عند الناس فماتت، فجعلها والدها هدية للسلطان عظيم الملك، فهل الواهب يستحق المكافأة بالإكرام من الموهوب له أم لا؟ فأجاب العارف بالله الشيخ الحاج عمر بن سعيد الفوتي في " تذكر المسترشدين وفلاح الطالبين " له بقوله رحمه الله تعالى، ونفعنا الله بعلومه آمين: ينقر في الصلاة نقر الديك ... ما نال غير لعنة المليك نصوا بأنه كإنسان ملك ... جارية ماتت وأهداها الملك وقال غيره: إياك إياك ونقر الديك لا ... تفعل لكونه الصلاة مبطلا ومعنى نقر الديك كناية عن الإسراع المفرط في الصلاة المفضي إلى ترك الطمأنينة الواجبة في الصلاة جميعا. قاله العارف بالله محمد العربي في البغية. وقال أيضا: ومن تكميل هيئتها وإقامة أركانها إتمام الطمأنينة في الركوع والسجود، وإتمام الاعتدال كذلك في القيام بين يدي الملك المعبود، فلا ينقرها نقر الديكة للحب، فإن ذلك مبطل لها ومبعد لفاعله عن حضرة القرب اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " الركن الثاني عشر من أركان الصلاة " ترتيب الأداء " يعني أن ترتيب أداء الصلاة من أركانها، بأن يقدم النية على تكبيرة الإحرام،

سنن الصلاة

وهي على الفاتحة، ويقدمها على الركوع، وهو مع الرفع منه على السجود، وهو على السلام. قال الدردير. قال خليل: وترتيب أداء. والمراد به ترتيب الفرائض في أنفسها. الدليل على وجوب الترتيب ما أخرجه البخاري عن مالك بن الحويرث، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " صلوا كما رأيتموني أصلي " ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام رتب صلاته كما ثبت في صفة صلاته صلى الله عليه وسلم وقد تقدم ذلك في الكلام على الطمأنينة فراجعه إن شئت. وفي المواق نقلا عن عياض قال: من فرائض الصلاة الترتيب في أدائها، وقال في القباب: لو عكس أحد صلاته فبدأ بالجلوس قبل القيام، أو بالسجود قبل الركوع وما أشبه ذلك لم تجزه صلاته بإجماع اهـ. وقد تمت أركان الصلاة الاثنى عشر كما وعدنا بإتيانها في أول هذا الفصل. وعدها بعضهم ثلاثة عشر. وقد عدها صاحب المختصر خمس عشرة فريضة. وقال بعض الأئمة: جملة فرائض الصلاة سبع عشرة، النية، وتكبيرة الإحرام، والقيام لها، وقراءة الفاتحة، والقيام لها، والركوع، والرفع منه، والقيام له، والسجود، والرفع منه، والجلوس بين السجدتين، والجلوس للسلام، والسلام المعرف بأل، والطمأنينة، والاعتدال، وترتيب الأداء، ونية الاقتداء في حق المأموم اهـ، قاله الصفتي في حاشيته على الجواهر الزكية. سنن الصلاة ولما أنهى الكلام على أركان الصلاة شرع يتكلم في بيان سننها فقال رحمه الله تعالى: " وسننها " والسنن جمع سنة، وهي ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأظهره في جماعة وواظب عليه ولم يدل دليل على وجوبه. وسنن الصلاة قد عدها بعضهم اثنتي عشرة

وبعضهم أربع عشرة. وعدها صاحب العزية ثماني عشرة وغير ذلك، وكل ذلك بحسب إخراج بعض المندوب وإدخاله، والأمر سهل. قال المصنف رحمه الله تعالى أولها: " قراءة ما تيسر بعد الفاتحة " يعني أنه من سنن الصلاة المفروضة قراءة شيء يسير من القرآن بعد الفاتحة ولو آية، أو بعض آية له بال، كآية الكرسي، أو قصيرة كوالفجر والعصر، ومدهامتان. وأما إكمال السورة فمندوب كما يأتي عن المصنف في الفضائل. قال الخرشي: والمعنى أن قراءة شيء ما ولو آية بعد أم القرآن في كل ركعة من الأولى والثانية في صلاة الفرض الوقتي المتسع وقته سنة، وإكمال السورة مستحب، بدليل أنه لا سجود عليه إذا قرأ ولو آية. وخرج بالفرض ما عداه فإن قراءة ما زاد على أم القرآن مستحب، وبالوقتي ما لا وقت له كالجنازة فلا فاتحة فيها فضلا عن السورة، وبالمتسع وقته ما لا يتسع وقته فلا سورة فيه خشية خروج الوقت اهـ. وعبارة صاحب العزية أنه قال: فصل وسنن الصلاة ثماني عشرة: الأولى قراءة سورة أو ما يقوم مقامها بعد الفاتحة في الصبح والجمعة والأوليين من غيرهما من فرائض الأعيان إلخ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " إلا في آخرتي الرباعية وثالثة المغرب " يعني أن قراءة السورة أو ما يقوم مقامها مما تيسر من القرآن في صلاة الفريضة سنة إلا في الركعتين الأخرتين من الظهر والعصر والعشاء، وثالثة المغرب فإنه يقرأ في جميع ذلك بالفاتحة فقط. وقد أسقط المصنف هنا القيام لقراءة سورة أو ما يقوم مقامها بعد الفاتحة، فإن القيام لذلك سنة من سنن الصلاة، فتنبه. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " السنة الثانية من سنن الصلاة " الجهر في الصبح والجمعة وأوليي المغرب والعشاء " وفي نسخة بإسقاط لفظ الجهر وهو خطأ، والصواب

إثباته. يعني أن الجهر فيما يجهر فيه سنة، وهو في صلاة الصبح والجمعة وأوليي المغرب والعشاء. وأما السنن من الصلوات كالوتر والعيدين ونوافل الليل فالجهر فيها بالقراءة مستحب، كما يستحب الإسرار في نوافل النهار، وإن جهر فيها نهارا وأسر ليلا فخلاف الأولى. وأقل الجهر أن يسمع نفسه ومن يليه، وأعلاه لا حد له، إلا أنه يكره رفع الصوت جدا حتى يتفاحش، أو يضر عقيرته بذلك، هذا في حق الرجل، وأما الأنثى فهي دون الرجل في الجهر بأن تسمع نفسها فقط؛ خشية الفتنة برفع صوتها. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " السنة الثالثة من سنن الصلاة " السر " أي فيما يسر فيه، وبينه بقوله: " في الظهر والعصر وثالثة المغرب وآخرتي العشاء " يعني أن محل السر يكون في الظهر والعصر وأخيرة المغرب وأخيرتي العشاء. وأقله حركة لسان يتكلم بالقرآن، وأعلاه أن يسمع نفسه فقط. قال الخرشي: واعلم أن أدنى السر أن يحرك لسانه بالقراءة، فإن لم يحرك لسانه لم يجزه لأنه لا يعد قراءة، بدليل جوازها للجنب، وأعلاه أن يسمع نفسه كجهر المرأة لأن صوتها عورة على المشهور، وربما كان فتنة إذا كان معها الرجال، ولذلك لا تؤذن. وينبغي للمنفرد أن لا يرفع صوته بالقراءة إذا كان بقربه مصل آخر مخافة أن يشوش عليه، هذا في حق غير الإمام، وأما هو فله رفع صوته بقدر ما يسمع من خلفه اهـ مع تصرف. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " السنة الرابعة من سنن الصلاة " الجلوس للتشهد " يعني أن الجلوس الأول بعد الركعتين لأجل التشهد سنة على المشهور، وأما الجلوس الثاني بقدر إيقاع السلام قد تقدم أنه ركن، وما زاد عليه للتشهد فسنة على المشهور. وأما الجلوس الذي يقع فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وجلوس الدعاء فإنه مستحب. وقيل إن جلوس الصلاة على النبي سنة وهو المعتمد. قال في التوضيح:

إن حكم الظرف حكم المظروف، وهو يفيد أن الجلوس للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مختلف فيه بالسنة والفضيلة، والجلوس للدعاء قبل سلام الإمام مستحب، وله بعده مكروه، وللرد على الإمام وعلى من على يساره سنة. إعطاء للظرف حكم المظروف اهـ. قاله العدوي في حاشيته على الخرشي. وأما لفظ التشهد الوارد فسيأتي عن المصنف الكلام فيه هل هو سنة أو فضيلة، وأما أصل التشهد بأي لفظ كان فلا خلاف في أنه سنة. ولذا قال المصنف رحمه الله تعالى: " ولفظه " أي الوارد عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ لأنه تشهد بهذا اللفظ الذي أورده المصنف وهو على المنبر بحضرة جمع من الصحابة ما بين المهاجرين والأنصار معلما به الناس من غير نكير عليه فكان إجماعا سكوتيا، وهو الذي أخذ به مالك، رضي الله تعالى عنه. وجزم بعض المالكية أن هذا اللفظ الوارد عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سنة في نفسه، ولم يعتبر أنه من تمام سنية التشهد. والصحيح أن خصوص هذا اللفظ الوارد عن عمر رضي الله عنه، فضيلة، ومعنى قول المصنف ولفظه، أي " و " السنة الخامسة من سنن الصلاة " لفظه " الضمير عائد إلى التشهد. والمعنى ولفظ التشهد الوارد عن أمير المؤمنين من سنة الصلاة، وأما لو أتى بغيره من الألفاظ في التشهد لصح، إلا أنه ما أتى بسنية اللفظ الذي أخذ به الإمام لأنه اختار هذا اللفظ في مذهبه كما هو المشهور. وأما أبو حنيفة وأحمد، رضي الله عنهما، فقد أخذا بتشهد ابن مسعود. وأما الشافعي فإنه أخذ بتشهد ابن عباس، وهي ألفاظ متقاربة، نسأل الله التوفيق وحسن الأدب معهم. واللفظ الوارد الذي أخذ به المالكية هو ما أتى به المصنف رحمه الله: " التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا ولى عباد الله الصالحين، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا

عبده ورسوله " قال في الرسالة: فإن سلمت بعد هذا أجزأك. ومما تزيده إن شئت: وأشهد أن الذي جاء به محمد حق، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وارحم محمدا وآل محمد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت ورحمت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. اللهم صل على ملائكتك والمقربين، وعلى أنبيائك والمرسلين، وعلى أهل طاعتك أجمعين. اللهم اغفر لي ولوالدي ولأئمتنا ولمن سبقنا بالإيمان مغفرة عزما. اللهم إني أسألك من كل خير سألك منه محمد نبيك، وأعوذ بك من كل شر استعاذك منه محمد نبيك. اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أنت أعلم به منا " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، ومن فتنة القبر، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن عذاب النار وسوء المصير، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين اهـ. هذا. وما تقدم من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أثبته المصنف، وذكره في سنن الصلاة كما هو المشهور في المذهب. قال رحمه الله تعالى: " و " السنة السادسة من سنن الصلاة " الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الذي " أي بعد التشهد الذي " يسلم منه " أي يقع فيه السلام. قال الدردير على أقرب المسالك في سنن الصلاة: والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد الأخير، أي بأي لفظ كان. وقيل بل هي مندوبة كالدعاء بعدها بما أحب كما يأتي. ثم قال: وأفضلها اللهم صل على محمد إلخ. أي إلى آخرها بصيغة الصلاة الإبراهيمية. الصاوي لكونها أصح ما ورد، والاقتصار على الوارد أفضل، حتى إن الأفضل فيها ترك السيادة لورودها كذلك اهـ وفي العزية: العاشرة - أي من السنن - الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير، وهي اللهم صل على محمد وعلى

آل محمد كما صليت على إبراهيم إلخ كما تقدم. وفي الأخضري: والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي يسن بعد أن يفرغ من التشهد أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله الشارح في الهداية اهـ. وقد ظهر لك أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير سنة من سنن الصلاة على مذهب السادة المالكية على المعتمد. وأما مذهب السادة الشافعية والحنابلة فالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير ركن من أركان الصلاة. قاله الجزيري في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " السنة السابعة من سنن الصلاة " التكبير سوى تكبيرة الإحرام " يعني أن التكبير عند الشروع في أفعال الصلاة غير تكبيرة الإحرام سنة من سنن الصلاة، أما تكبيرة الإحرام فقد تقدم أنها ركن من أركان الصلاة ولا خلاف في ذلك. قال العلامة المحقق المدقق عبد الوهاب الشعراني في كشف الغمة عن جميع الأمة: وكان صلى الله عليه وسلم يكبر في الرباعية اثنتين وعشرين تكبيرة وكان يكبر للركوع، وللهوي للسجود الأول، وللرفع منه، وللهوي للسجود الثاني، وللرفع منه، فهذه خمس تكبيرات في كل ركعة من الأربع، ما عدا تكبيرة الإحرام وتكبيرة القيام عن التشهد الأول اهـ. قال خليل في سنن الصلاة: وكل تكبيرة إلا الإحرام. يعني كل تكبيرة سنة مستقلة إلا تكبيرة الإحرام فإنها فرض كما تقدم. هذا مذهب ابن القاسم وهو المعتمد. وقال أشهب والأبهري: إن مجموع التكبيرات سوى تكبيرة الإحرام سنة واحدة. وفي جواهر الإكليل: وينبني على الأول السجود لترك تكبيرتين سهوا، وبطلان الصلاة بترك السجود للسهو عن ثلاث تكبيرات، دون الثاني. قال الصفتي: وقد علمت ضعفه وأن كلام ابن قاسم هو المعتمد اهـ. قال الخرشي: يعني أن كل تكبيرة من تكبيرات الصلاة سنة سوى تكبيرة الإحرام فإنها

فرض كما مر. ثم يحتمل أن المراد الكل الجميعي، أي كل فرد من أفراد التكبير، فيكون ماشيا على قول ابن القاسم، ويحتمل أن المراد الكل المجموعي فيكون ماشيا على قول الأبهري واختاره الشارح، إلا أنه يرد على الكل المجموعي قوله إلا الإحرام لأن الاستثناء إنما يكون من الجميع لا من المجموع، فحمله على قول ابن القاسم متعين اهـ. وفي الحطاب قوله وكل تكبيرة إلخ ظاهره أن كل تكبيرة سنة، وهذا هو الذي يؤخذ من كلام المصنف يعني خليل في فصل السهو حيث جعله يسجد لتكبيرتين. وصرح البرزلي بأنه المشهور. ونصه: مسألة، من نسي التكبير في صلاته شهرا أعادها كلها. قلت هذا على القول المشهور أنها سنن، ومن يقول كلها سنة لا يعيد اهـ الحطاب. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " اختلف في المذهب " هل كل تكبيرة " سنة مستقلة من سنن الصلاة وهو المشهور وبه الفتوى " أة الجميع " وفي نسخة أو الجمع. يعني هل كل تكبيرة سنة في نفسها أو جميع التكبيرات جملتها سنة واحدة؟ " قولان " والقولان بين ابن القاسم وأشهب، وقد علمت فيما تقرر سابقا أن المشهور قول ابن القاسم من أن كل تكبيرة بانفرادها سنة كما هو ظاهر فيما تقدم. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " اختلف أيضا " في سمع الله لمن حمده " يعني أن قول سمع الله لمن حمده هل كل واحدة منها سنة مستقلة، أو جميعها سنة واحدة؟ في ذلك خلاف. قال بعض المدققين: إن قول سمع الله لمن حمده في حق الإمام والفذ يجري فيها ما جرى في كل تكبيرة من الخلاف من أن جميع سمع الله لمن حمده هل سنة واحدة، أو كل واحدة سنة مستقلة؟ قاله ابن ناجي، فمن نسيها في صلاته ونسي أن

يسجد لها وطال بطلت إن كان غير صبح وإلا فلا. وقال ابن ناجي في شرح الرسالة: وحكم سمع الله لمن حمده السنة اتفاقا، وهل مجموعه في الصلاة سنة واحدة، أو كل تسميعه سنة؟ يجري عندي على الخلاف في التكبير بحسبما حكاه ابن رشد. وحكم ربنا ولك الحمد الفضيلة باتفاق. وما ذكره الشيخ من أن الفذ يجمع بينهما هو كذلك باتفاق. وكذلك حكم الإمام في قول، والمشهور أن يقول سمع الله لمن حمده فقط، وما ذكر من أن المأموم يقول ربنا ولك الحمد فقط هو المشهور. وقال عيسى إنه يجمع بينهما كالفذ، ومثله لابن نافع، حكاه الباجي عنهما. ومثله نقل المأزري، وغلطهما عياض في الإكمال فانظره. وروى ابن القاسم: ولك الحمد بإثبات الواو، كما قال الشيخ. وروى ابن وهب لك بإسقاط الواو، وما ذكر من إثبات اللهم هو نص المدونة وغيرها. وقيل بإسقاط. قاله ابن حارث. ومثله في المعلم والإكمال وغيرهما اهـ ابن ناجي. وقال الصفتي: الحاصل أن الإمام يخاطب بسنة وهي سمع الله لمن حمده، والمأموم يخاطب بمندوب وهو ربنا ولك الحمد، والفذ يجمع بينهما، والترتيب بينهما مندوب. والأصل في مشروعية سمع الله لمن حمده أن الصديق، رضي الله عنه، كان لم تفته صلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم قط، فجاء يوما وقت صلاة العصر، فظن أنها فاتته معه عليه الصلاة والسلام، فاغتم لذلك وهرول ودخل المسجد فوجده صلى الله عليه وسلم مكبرا في الركوع فقال: الحمد لله وكبر خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم في الركوع فقال: يا محمد سمع الله لمن حمده، فقل سمع الله لمن حمده، فقالها عند الرفع من الركوع، فقال الصديق: ربنا ولك الحمد. وكان قبل ذلك يركع بالتكبير ويرفع به، فصار منذ ذلك الوقت ببركة أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، اهـ كذا في الخرشي.

واعلم أنه اختلف أهل المذهب في قول ربنا ولك الحمد، قال المصنف رحمه الله تعالى: " وربنا ولك الحمد " يعني هل هي سنة من سنن الصلاة أو مندوب؟ والمشهور أنها مندوب. أفاده الصفتي. وكذلك اختلفوا في لفظ التشهد، قال المصنف رحمه الله تعالى: " ولفظ التشهد " يعني اختلفوا فيه أيضا هل هو سنة من سنن الصلاة أو مندوب قال: " فقيل سنن وقيل فضائل " وفي نسخة وقيل سنة أي لفظ الوارد عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنها مختلف فيها والمعتمد الندب. وأما التشهد بأي صيغة فهو سنة قال الدردير في أقرب المسالك في سنن الصلاة: وكل تكبيرة، أي سنة، وسمع الله لمن حمده لإمام وفذ حال رفعه، وتشهد، وجلوس له، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأخير اهـ وقال العلامة الصاوي في حاشيته: والحاصل أنهم اختلفوا في خصوص اللفظ الوارد عن عمر، قيل سنة، وقيل مندوب، وأما التشهد بأي لفظ كان من جميع الروايات الواردة فهو سنة قطعا كما قال البساطي والحطاب والشيخ سالم. وقيل إن الخلاف في أصله، وأما اللفظ الوارد عن عمر فمندوب قطعا، وقواه الرماصي حيث قال: وهو الصواب الموافق للنقل، وتعقبه البناني. وبالجملة فأصل التشهد سنة قطعا أو على الراجح، وخصوص اللفظ مندوب قطعا أو على الراجح. وبهذا يعلم أن ما اشتهر من بطلان الصلاة بترك سجود السهو عنه ليس متفقا عليه، إذ هو ليس عن نقص ثلاث سنن باتفاق اهـ الصاوي. وتقدم نص تشهد عمر الذي اختاره مالك. وأما تشهد ابن عباس الذي اختاره الشافعي فهو: " التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله " وزاد " وبركاته " بعد ورحمة الله. وقال " وأن محمدا رسول الله " واختار أبو حنيفة تشهد ابن مسعود كما تقدم وهو " التحيات لله والصلوات والطيبات " وزاد " بركاته " وبقيته سواء. قاله ابن جزي في القوانين اهـ.

فصل في فضائل الصلاة

فضائل الصلاة ولما أنهى الكلام على سنن الصلاة انتقل يتكلم في بيان فضائلها فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في فضائل الصلاة أي في فضائل الصلاة. والفضائل جمع فضيلة، وهي ما يثاب فاعلها ولا يأثم تاركها ويعبر عنها بالمستحبات. والتعبير بالمندوبات أعم وأشمل. وفضائل الصلاة كثيرة. قال صاحب العزية: ومستحبات الصلاة تزيد على ثلاثين فضيلة، وأنهاها بعضهم إلى نحو الخمسين فضيلة كما في حاشية الصاوي على الدردير. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وفضائلها " أي فضائل الصلاة، وعدها المصنف ثلاث عشرة فضيلة، الأولى " رفع اليدين مع الإحرام حذو منكبيه " يعني أخبر المصنف أن من فضائل الصلاة رفع اليدين عند الشروع في تكبيرة الإحرام فقط حتى تقابل الأذنين أو المنكبين، ويستحب كونهما مكشوفتين حال الرفع وسترهما بالثياب مذموم. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " اختلف " هل على صفة الراهب " أي الذي يجعل ظهورهما للسماء وبطونهما للأرض وهو الراجح عند الفاكهاني " أو " على صفة " النابذ " وهو الذي يجعل بطونهما للسماء وظهورهما للأرض، وتسمى هذه الصفة صفة الراغب وقد فسر قوله تعالى بهاتين الصفتين، أي صفة الراهب وصفة الراغب " يدعوننا رغبا ورهبا " ومن صفة النابذ أن يجعل أصابعهما قائمتين ثم ينبذ بهما برفق،

كنابذ الدنيا وراء ظهره. وحكى المصنف أي صفة منها أفضل؟ في ذلك " قولان " المشهور منهما على صفة النابذ كما في الخرشي، ونصه بعد قول خليل في المندوبات كرفع يديه إلخ: والمعنى أنه يندب للمصلي رفع يديه عند إحرامه حين يشرع في التكبير، يحاذي بهما منكبيه قائمة رؤوس أصابعهما مما يلي السماء على صورة النابذ للشيء، لا على صورة الراهب، بأن يجعل ظهورهما مما يلي السماء وبطونهما مما يلي الأرض، ولا الراغب بأن تكون اليدان قائمتين يحاذي كفاه منكبيه وأصابعه أذنيه. وجعل الأجهوري في شرحه كون الرفع على صورة الراهب هو المذهب، وكذا عند الفاكهاني. انظر بقية الكلام في الخرشي اهـ. قال النفراوي على الرسالة: ويستحب كشفهما عند الإحرام، كما يستحب إرسالهما بعد التكبير لكراهة القبض في المفروضة، ويكون إرسالهما برفق، ولا يرفعهما إلى قدام. وحكمة استحباب رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام إما لمخالفة المنافقين في ضم أذرعهم إلى أجنابهم حرصا على بقاء أصنامهم تحت آباطهم، فأمرنا بالرفع لمخالفتهم، وإما للإشارة إلى أن المصلي قد رفض الدنيا وأقبل على ربه اهـ النفراوي. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وهل الأفضل عقدهما تحت صدره " وهو الراجح عند الجمهور خارج المذهب " أو إرسالهما " وهو المشهور في المذهب في الفرض عند السادة المالكية. قال المصنف: في ذلك " قولان " ولم يطلع المصنف على أرجحية أحدهما. والمحل يحتاج إلى بيان الوافر. وإني إن شاء الله سأؤلف رسالة في هذين الأمرين يستغني بها الطالب المنصف، ويشفي بها العليل المستقم، ويروي بها الغليل المتأسف، ويستريح بها المتعصب؛ لأن هذا الشرح لا يحمل ما أردنا إيراده. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتمم لنا المراد في الدنيا وفي المعاد إنه ولي التوفيق.

قال المصنف رحمه الله تعالى: " وهل يرفعهما عند الركوع والرفع منه خلاف " يعني أن المصلي هل يرفع يديه عند الركوع وعند رفعه منه أم لا؟ فالجواب أنه لا يرفع يديه في شيء من ذلك إلا عند تكبيرة الإحرام فقط، قال مالك في المدونة لا أعرف رفع اليدين في شيء من تكبير الصلاة لا في خفض ولا في رفع إلا في افتتاح الصلاة يرفع يديه شيئا خفيفا، والمرأة في ذلك بمنزلة الرجل اهـ. قال كرفع يديه مع إحرامه فقط، أي لا مع هوية للركوع، ولا مع رفعه منه، ولا إثر قيامه من اثنتين اهـ. قاله في جواهر الإكليل. وكذا في الدردير. وقال أبو الحسن في كفاية الطالب: وظاهر كلام الشيخ أن الرفع مختص بتكبيرة الإحرام، وهو كذلك على المشهور، فلا يرفع عند الركوع، ولا عند الرفع منه، ولا في القيام من اثنتين اهـ. قال الدسوقي قوله: لا مع ركوعه ولا مع رفعه أي ولا مع رفعه منه، وهذا هو أشهر الروايات عن مالك في المواق عن الإكمال، وهو الذي عليه عمل أكثر الأصحاب. قال وفي التوضيح: الظاهر أنه يرفع يديه عند الإحرام والركوع والرفع منه والقيام من اثنتين؛ لورود الأحاديث الصحيحة بذلك اهـ. لكن العمل بالمشهور كما تقدم. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " الفضيلة الثانية من فضائل الصلاة " كمال السورة " يعني أنه قد تقدم في أول السنن أن قراءة ما تيسر بعد الفاتحة هو سنة من سنن الصلاة، وأما إكمال السورة كلها فمندوب، قال العلامة الدردير في أقرب المسالك: وإكمال سورة بعد الفاتحة. الصاوي في حاشيته عليه. قوله وإكمال سورة أي فالسورة ولو قصيرة أفضل من بعض سورة ولو كثر. والمعنى أنه يندب للمصلي أن يكمل قراءة سورة ولا يقتصر على بعضها ولو كان بعضها طويلا، وإن كان الاقتصار جائزا فالأفضل إكمال السورة: قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " الفضيلة الثامنة من فضائل الصلاة " تطويل القراءة في الصبح والظهر قدرا غير شاق " يعني أن تطويل القراءة في الصبح والظهر مستحب، وذلك قدر ما لا يشق على نفسه إن كان فذا، أو على المأموم إن كان إماما لقوله

تعالى: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] لأن الدين يسر. وفي الحديث: " إن هذا الدين يسر، ولن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه " وأما التطويل فمندوب إذا كان منفردا فيما لا يشق عليه، أو كان إماما وطلب المأموم التطويل بلسان المقال أو الحال، وإلا فالتقصير في حقه أفضل؛ لأن في الناس الكبير والضعيف والمريض وذا الحاجة كما في الحديث. قال خليل: وتطويل قراءة صبح، والظهر تليها. الشارح يعني أنه يستحب للفذ أن يقرأ في صلاة الصبح بسورة من طوال المفصل، والظهر تليها في الطول عند مالك، وعند أشهب مثلها، ومثل الفذ في استحباب التطويل الإمام إذا طلب منه الجماعة التطويل، أو فهم منهم ذلك وإلا فالمطلوب منه التقصير. والمفصل من الحجرات، وقيل من شورى إلى عبس، وسمي بالمفصل لكثرة فصل سورة بالبسملة اهـ. الخرشي مع التقديم: وفي الحطاب قال الشيخ زروق في العصر والمغرب يشتركان في قصر القراءة إلا أن العصر أطول. وقيل لا، وهو المشهور. وما ورد في الصحيح من قراءة سورة الأعراف، وسورة الطور، والمرسلات في صلاة المغرب إنما ذلك ورد لبيان الجواز. وقد قرأ صلى الله عليه وسلم في الصبح بالمعوذتين لبيان الجواز، رواه النسائي اهـ. مع حذف. قال مالك في المدونة: أطول الصلوات قراءة الصبح والظهر. وقال غيره ويخففها في العصر والمغرب، ويوسطها في العشاء، انظر المواق. وفي الرسالة: ثم تقرأ سورة من طوال المفصل، وإن كانت أطول من ذلك فحسن بقدر التغليس اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " الفضيلة الرابعة من فضائل الصلاة " تقصيرها " أي تقصير القراءة " في المغرب " يعني أنه يندب تقصير القراءة في صلاة المغرب بأن يقرأ فيها بالقصار من السور، أولها من والضحى إلى الناس، والمشهور أن القراءة في صلاة العصر كالمغرب بالقصار خلافا للمصنف. قال: " و " الفضيلة الخامسة والسادسة من فضائل الصلاة " توسطها " أي توسط القراءة " في العصر والعشاء " وتقدم آنفا أن المشهور في

العصر كالمغرب يقرأ فيهما بالقصار. قال الدردير في أقرب المسالك في المندوبات: وتقصيرها بمغرب وعصر، وتوسط بعشاء. العزية وتقصيرها في العصر والمغرب وتوسطها في العشاء وفي المختصر: " وتقصيرها بمغرب وعصر كتوسط بعشاء " قال الشارح: وكذلك يستحب تقصير القراءة في المغرب والعصر بالقصار، وأولها من الضحى إلى الآخر، كما يستحب أن يقرأ العشاء بما بين الطول والقصر، وأوله من عبس إلى الضحى، وهذا مع الاختيار، وأما مع الضرورة كسفر أو إضرار فالتخفيف على حسب الإمكان اهـ الخرشي، قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " الفضيلة السابعة من فضائل الصلاة " تأمين المؤتم والمنفرد سرا " يعني أن المأموم يؤمن عند قول إمامه ولا الضالين، وكذا المنفرد إذا أتم الفاتحة فإنه يقول آمين في السرية والجهرية على الاستحباب، والإسرار بها مستحب آخر وفي الرسالة: فإذا قلت ولا الضالين فقل آمين إن كنت وحدك أو خلف إمام، وتخفيها، ولا يقولها الإمام فيما جهر فيه، ويقولها فيما أسر فيه وفي قوله إياها في الجهر اختلاف اهـ. قال في المختصر: وتأمين فذ مطلقا، وإمام بسر، ومأموم بسر أو جهر إن سمعه على الأظهر، وإسرارهم به. قال الخرشي: أي إنه يندب على المذهب تأمين الفذ، أي قوله آمين عقب ولا الضالين في قراءته، سواء كانت قراءة الصلاة سرا أو جهرا، كما يندب للإمام التأمين على قراءته في السرية وكذا مأمومه، وأما في الجهرية فلا يندب للمأموم إن سمع قراءة الإمام لأنه مؤمن حينئذ على دعائه، فإن لم يسمعه فلا، على الأظهر عند ابن رشد؛ لأنه ليس معه دعاء يؤمن عليه، لا لنفسه لأنه لا يقرأ، ولا لإمامه لعدم سماعه، والتأمين إجابة وهي فرع السماع، فلو تحرى كما قاله ابن عبدوس لربما أوقعه في غير موضعه، وربما صادف آية عذاب، وكل من طلب منه التأمين إماما كان أو غيره يستحب له الإسرار به لأنه دعاء والأصل فيه الإخفاء اهـ في العزية: والتأمين سرا، وهو قول آمين بعد

الفراغ من الفاتحة بالمد مع التخفيف اسم الله تعالى (¬1)، ونونه مضمومة على النداء، والتقدير يا آمين استجب (¬2) دعاءنا. ولا يؤمن المأموم خلف الإمام في الجهرية إلا إذا سمع قراءته اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " والإمام يؤمن في السرية " وهو كذلك لا خلاف فيه " ويقول " أي الإمام على السنية " إذا رفع رأسه " أي حال رفعه " من ركوعه: سمع الله لمن حمده " يجهر به ولو كانت الصلاة سرية، وتقدم الكلام عليه في السنن فراجعه إن شئت. قال المصنف رحمه الله تعالى " و " الفضيلة الثامنة من فضائل الصلاة أن يقول " المأموم ربنا ولك الحمد " أي بعد قول الإمام سمع الله لمن حمده، وتقدم عن الصفتي أن الإمام يخاطب بسنة وهي سمع الله لمن حمده، والمأموم يخاطب بمندوب، وهو ربنا ولك الحمد، والفذ يجمع بينهما، والترتيب بينمها مندوب كما مر، وإليه أشار المصنف بقوله: " والمنفرد يجمعهما " كما تقدم. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " الفضيلة التاسعة من فضائل الصلاة " التسبيح في الركوع والسجود " يعني أن التسبيح في حال الركوع والسجود من هيئات الصلاة، أي من فضائلها. قال خليل: وتسبيح بركوع وسجود. وقال غيره: والتسبيح في الركوع والسجود، الشارح لقوله صلى الله عليه وسلم: " أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فادعوا فيه بما شئتم فقمن - أي حقيق - أن يستجاب لكم " وفي الرواية " وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فإنه قمن أن يستجاب لكم " اهـ وبهاتين الروايتين تعلم أن الدعاء في السجود مطلوب، ولأن السجود من مواضع الإجابة للدعاء. وفي الحديث قال عليه الصلاة ¬

(¬1) قال في الجواهر المضيئة: لم يصح نقله على أنه اسم من أسمائه تعالى. بل هو اسم فعل لطلب الإجابة. (¬2) هذا على أنه اسم من أسمائه تعالى، وقد علمت أنه لم يصح نقله. وعلى أنه اسم فعل فنونه مفتوحة.

والسلام: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فاجتهدوا في الدعاء " هذا. والحديث يدل على أن الركوع لا يدعو فيه ولا يقرأ، وأما السجود فله أن يقرأ ويدعو فيه بما شاء من خيري الدنيا والآخرة. وفي الدسوقي: وأما السجود فيه بين التسبيح والدعاء بما شاء اهـ. وينبغي تقديم التسبيح على الدعاء، والاقتصار على أحدهما يفرت المستحب الآخر. والتسبيح يحصل بأي لفظ كان. قال الصفتي: والأفضل أن يقول في السجود سبحان ربي الأعلى، وفي الركوع سبحان ربي العظيم، لما رواه عقبة بن عامر لما نزل قوله تعالى: فسبح باسم ربك العظيم قال عليه الصلاة والسلام: " اجعلوها في ركوعكم " فلما نزل سبح اسم ربك الأعلى قال عليه الصلاة والسلام " اجعلوها في سجودكم " اهـ قال ابن شعبان: قال الله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] فحق على كل قائم إلى الصلاة أن يقول سبحان ربي العظيم وبحمده اهـ الحطاب. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " الفضيلة العاشرة من فضائل الصلاة " القنوت في ثانية الصبح سرا " يعني أن القنوت من فضائل الصلاة، وله معان كثيرة، انظر الزرقاني على الموطأ. والمراد به هنا الدعاء بخير، ولا يكون عند مالك إلا في ثانية الصبح فقط، والإسرار به مندوب. العزية: والقنوت في الصبح فقط بعد الفراغ من القراءة في الركعة الثانية قبل الركوع سرا. وإن نسي وتذكر بعد الركوع أتى به بعد رفعه منه ثم يهوي إلى السجود قال في أقرب المسالك: وندب القنوت بأي لفظ بصبح، وإسراره، وقبل الركوع. هذا هو المشهور. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وقبل الركوع أفضل " وندب لفظه الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم أي الذي اختاره الإمام مالك رحمه الله هو " اللهم إنا نستعينك، ونستغفرك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك، ونخنع لك، ونخلع ونترك من يكفرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد،

وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخاف عذابك الجد، إن عذابك بالكافرين ملحق " قال الشيخ الزروق في شرحه على الرسالة: وليس في صحيح الرواية ونتوكل عليك، وثبت في بعض النسخ اهـ. قال الصاوي في حاشيته على أقرب المسالك: ولم يثبت في رواية الإمام " ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك " وإنما ثبت في رواية غيره. قال النفراوي: والصواب عدم زيادتها. وقال العلامة الشيخ صالح عبد السميع في الثمر الداني: قيل الصحيح أن قوله ونتوكل عليك زيد في الرسالة، وليس منها. وفي رواية ونثني عليك الخير وما يجري على ألسنة العامة من لفظ كله بعد قوله الخير غير مثبت في الرواية، مع أن العبد لا يطيق كل الثناء عليه، فتركه خير، ومثله في شرحه على العزية اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " الفضيلة الحادية عشرة من فضائل الصلاة أنه لا " يكبر " في حال انتقاله إلى الثالثة حتى يستوي " قائما " معتدلا بعد قيامه " من " ركعتين " اثنتين " و " إذا استوى قائما " أي معتدلا يكبر ويقرأ. وفي الدردير: والتكبير حالة الخفض والرفع، إلا في القيام من التشهد فللاستقلال. قال الصاوي عليه: قوله فللاستقلال، أي لأنه كمفتتح صلاة، ويؤخر المأموم قيامه حتى يستقل إمامه، وكل من الفذ والإمام والمأموم لا يكبر إلا بعد استقلاله اهـ، وما ذكره الدردير كذا في المختصر ونصه: وتكبيره في الشروع إلا في قيامه من اثنتين فلاستقلاله. وفي الرسالة: ثم يقوم فلا يكبر حتى يستوي قائما. هكذا يفعل الإمام والرجل وحده. وأما المأموم فبعد أن يكبر الإمام يقوم المأموم أيضا فإذا استوى قائما كبر اهـ. والمعنى في الجميع والله أعلم أن المصلي سواء كان إماما أو غيره يستحب له أن لا يكبر في حال قيامه من الجلوس الأول الذي بعد ركعتين حتى يستقل قائما لعمل أهل المدينة بذلك، أو لكونه كمفتتح صلاة، لما قيل من أن الصلاة فرضت ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة

السفر وزيد في صلاة الحضر اهـ رواه الإمام في الموطأ بإسناده عن عائشة، رضي الله تعالى عنها. ومما ينبغي للإنسان في الصلاة وخارجها أن يكثر الخشوع والدعاء، لأن الدعاء مخ العبادة كما في الحديث. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ولا بأس بالدعاء " بمعنى يندب الدعاء في الصلاة نافلة أو مكتوبة " في جميع هيئات الصلاة إلا في الركوع " يعني يندب للمصلي أن يتضرع إلى الله تعالى في جميع الحالات إلا في حال الركوع فإن المطلوب فيه تعظيم الرب سبحانه، والدعاء فيه مكروه. وسئل مالك في الموطأ عن الدعاء في الصلاة المكتوبة فقال لا بأس بالدعاء فيها " قلت " وأما الدعاء قبل الدخول في الصلاة وبعد الإقامة فجائز بل مندوب، وعن مالك، رضي الله عنه: ندب قوله قبلها سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، وجهت وجهي الآية (¬1) اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، ونفتي من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، واغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد. قال ابن حبيب: يقوله بعد الإقامة وقبل الإحرام. قال في البيان: وذلك حسن اهـ جواهر الإكليل. وأما الدعاء قبل الركوع وفي حال الرفع من الركوع فلا يكره، بل هو جائز. والدعاء بين السجدتين مستحب. وكان صلى الله عليه وسلم يقول بينهما " اللهم اغفر لي واسترني واجيرني وارزقني واعف عني وعافني " ويستحب الدعاء في السجود وبعد التشهد الأخير، وفي المختصر: ودعاء بتشهد ثان. المواق: قال ابن عرفة يستحب الدعاء عقب التشهد الأخير. وندب الدعاء في القنوت. قال الزروق في شرح الرسالة: والمشهور لا يتقيد للقنوت دعاء أي مخصوص، ودعا بما أحب وإن لدينا، ولو قال: يا فلان فعل الله بك كذا، لم تبطل على ¬

(¬1) {وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين}.

الأصح كما في المختصر، وفي الجلاب: إنما يدعو في القيام بعد القراءة، وفي الجلوس بعد التشهد. والحاصل أنه ينبغي أن يعتني الإنسان بالدعاء في حال الصلاة وخارجها في غير أوقات النهي؛ لأن الدعاء مخ العبادة، وأن من رزقه الله بالدعاء لم يحرمه الإجابة كما في الحديث. انظر تفسير قوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح: 7] إلخ في " الدر المنثور في التفسير بالمأثور " (¬1) للعلامة الحافظ السيوطي تجد فيه الأحاديث بالأسانيد المتصلة إلى عباس وإلى ابن مسعود وغيرهما، وتجد أن أكثر المفسرين في الآية فهموا أنها أمر من الله تعالى إلى المصلي بالدعاء والاجتهاد في السؤال. والله أعلم بالصواب. فائدتان: الأولى: نقل سيدي عبد الوهاب الشعراني عن الخضر أنه قال: سألت أربعة وعشرين ألف نبي عن استعمال شيء يأمن به العبد من سلب الإيمان فلم يجبني منهم أحد، حتى اجتمعت بمحمد صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فأخبرني عن جبريل عن الله " أن من واظب على قراءة آية الكرسي، وآمن الرسول إلى آخر السورة، وشهد الله إلى قوله الإسلام، وقل اللهم مالك الملك إلى قوله بغير حساب، ولقد جاءكم رسول من أنفسكم إلى آخر السورة، وسورة الإخلاص، والمعوذتين، والفاتحة عقب كل صلاة أمن من سلب الإيمان " اهـ. الثانية: الدعاء بلا واسطة من خصوصيات هذه الأمة بخلاف الأمم السابقة فكانوا إذا نزل عليهم كرب ذهبوا إلى أنبيائهم يسألون لهم اهـ أفادهما الصفتي نقلا عن بعضهم. واعلم أن المصنف رحمه الله اكتفى بذكر بعض الفضائل عن البعض اختصارا، ونحن إن شاء الله نأتي ببقيتها إتماما وتبركا فقلت: منها أي من الفضائل تقديم يديه حين يهوي بهما للسجود على ركبتيه، وتقديم ركبتيه على يديه عند القيام. ومنها عقد الخنصر ¬

(¬1) رد أحد الفضلاء على هذه المسألة فراجعه في آخر هذا الجزء.

والبنصر والوسطى من اليد اليمنى مادا السبابة والإبهام منها في التشهدين، ويحرك السبابة ويعتقد بالإشارة بها أنها مطردة للشيطان، ويبسط اليسرى. ومنها وضع اليدين على الركبتين في الركوع مع تفرقة أصابعهما. ومنها وضعهما حذو أذنيه أو قربهما في السجود مع ضمهما واستقبالهما للقبلة. ومنها مجافاة الرجل دون المرأة بأن يبعد بعدا وسطا في السجود بين ركبتيه، وبين مرفقيه وجنبيه، وبين فخذيه. ومنها تقصير الركعة الثانية عن الأولى، وتقصير الجلوس الأول عن الثاني ومنها كون التشهد الثاني أطول من الأول. ومنها النظر إلى موضع السجود في القيام، وهل النظر إلى موضع السجود أفضل للمصلي مطلقا، أو النظر إلى الكعبة لمن في المسجد الحرام؟ فيه نظر. ومنها التيامن عند السلام في الفرض بحيث ترى صفحة الوجه. ومنها اعتدال الصفوف لأنه من كمال الصلاة كما في الحديث. ومنها ترك التسمية في الفريضة على المشهور في المذهب، وتقدم الكلام عليه في الركن الرابع من أركان الصلاة فراجعه إن شئت. ومنها نية الأداد في الوقتية والقضاء في الفائتة خروجا من الخلاف. ومنها نية عدد الركعات كذلك. قال الدردير في أقرب المسالك: وندب نية الأداء وضده، وعدد الركعات، وخشوع، واستحضار عظمة الله تعالى وامتثال أمره اهـ. وفضائل الصلاة كثيرة جدا. واقتصر المصنف على اثنتي عشرة أو أقل، وزدت عليه بعض ما أمكنني إحضاره بدون تكلف، فلله الحمد. فعليك بالمطولات أيها الطالب الراغب إن شئت. وأيضا سكت المصنف عن ذكر مكروهات الصلاة اكتفاء بذكر الفضائل، اعتمادا على أن لها أضدادا، فكل فضيلة يضادها مكروه فتأمل.

أحكام السترة ولما أنهى الكلام على الفضائل انتقل المصنف يتكلم في بيان المار الذي يمر بين يدي المصلي رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في أحكام السترة والأصل في هذا الفصل ما في الموطأ عن أبي جهيم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه " وعن كعب الأحبار أنه قال: " لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يخسف به خيرا له من أن يمر بين يديه " وغير ذلك مما ورد. والمعنى أن المرور بين يدي المصلي ممنوع شرعا باعتبار تأثيم المار تارة، أو مكروه باعتبار عدم تأثيمه تارة أخرى. فقال رحمه الله تعالى: " من لا يأمن المرور بين يديه يصلي إلى السترة " يعني أن من يأمن المرور بين يديه، ولم يخش أن يمر بين يديه أحد فله أن يصلي بغير سترة، سواء كان في الحضر أو في السفر. قال مالك في المدونة: ويصلي في الموضع الذي يأمن فيه من مرور شيء بين يديه إلى غير سترة اهـ. قال العلامة الشيخ أحمد الدردير في أقرب المسالك في مندوبات الصلاة: وسترة لإمام وفذ خشيا مرورا بمحل سجودهما. أي يندب للإمام والفذ أن يجعل كل واحد منهما سترة بين يديه لمنع المار بين يدي كل منهما إن خشي المرور، ولا تبطل الصلاة بالمرور أصلا. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ولا تبطل بمرور شيء بين يديه " لقول مالك في المدونة: لا يقطع الصلاة شيء من الأشياء مما يمر بين يدي المصلي اهـ. وقال خليل

في المختصر: وأثم مار له مندوحة، ومصل تعرض اهـ. قال الخرشي يعني أن المار إذا كان له سعة في ترك المرور بين يدي المصلي ومر فإنه يأثم، كان بين يدي المصلي سترة أم لا، تعرض المصلي أم لا، فإن كان لا مندوحة له والمصلي هو الذي تعرض للمرور، بأن صلى لغير سترة بنمحل يخشى به المرور وهو قادر عليها أو على الانحياز إلى شيء فلا إثم على المار ويأثم المصلي فقط؛ حيث حصل المرور له في المحل المذكور، كما لا إثم على واحد منهما بمرور من لا مندوحه له ولا تعرض، فالصور أربع. يأثمان، وعكسه، يأثم المار لا يصلي، وعكسه. هذا في غير مصل وطائف، وأما هما فقد قال الدردير: وأثم مار غير طائف، ومصل له مندوحة، ومصل تعرض. قال الصاوي في حاشيته عليه أي فلا يمنع مرور الطائف بين يدي المصلي بل يكره فقط إن كان للطائف مندوحة وإلا جاز، ومثل الطائف المار بالحرم المكي لكثرة زواره إن لم يكن بين يديه سترة وإلا منع إن كان له مندوحة اهـ. قال الخرشي: الحاصل أنه يجوز المرور بين يدي المصلي لسترة ولغيرها إن كان المار مصليا ولو كان له مندوحة، ويكره إن كان المار طائفا وله مندوحة، وأما إن كان المار غير مصل ولا طائف فيحرم مروره بين يدي المصلي إن كان له مندوحة. هذا بغير المسجد الحرام مطلقا، وبه إن صلى لسترة، فإن صلى لغير سترة لم يحرم المرور بين يديه، وإن كان للمار مندوحة فقول المؤلف وأثم مار إلخ أي مار غير مصل ولا طائف، هذا ما لم يكن المرور بين يدي المصلي في المسجد الحرام من غير سترة فإنه لا يحرم المرور بين يديه ولو كان للمار مندوحة اهـ مع إيضاح. قال العلامة الزرقاني في شرحه على الموطأ: وقد قسم المالكية أحوال المار والمصلي في الإثم وعدمه أربعة أقسام: يأثم المار دون المصلي، وعكسه. ويأثمان جميعا، وعكسه. فالأول إذا صلى إلى سترة وللمار مندوحة فيأثم دون المصلي. الثاني إذا صلى في مشرع مسلوك بلا سترة أو متباعدا عنها ولا يجد المار مندوحة فيأثم المصلي لا المار. الثالث مثل الثاني لكن

يجد المار مندوحة فيأثمان جميعا. الرابع مثل الأول لكن لا يجد المار مندوحة فلا يأثمان اهـ. ثم وصف المصنف أقل ما يجزئ المصلي من السترة فقال رحمه الله تعالى: " وأقلها ذراع " هذا هو المشهور في المذهب، وفي الصحيح " عن عائشة أنها قالت: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن سترة المصلي فقال: " مثل مؤخرة الرحل " أخرجه مسلم. قال المصنف رحمه الله تعالى: " في غلظ الرمح " قال مالك في المدونة: السترة قدر مؤخرة الرحل في جلة الرمح اهـ. قال العدوي في حاشيته على الخرشي: قوله في غلظ رمح أي إن أقل ما تكون أن تكون في غلظ رمح إلخ. وأولى إذا كان أغلظ، فإن كان أدنى من غلظ رمح فلا يحصل به المطلوب. وقوله وطول ذراع، وأولى أطول من ذلك، فإن كان أدنى من ذلك فلا يحصل الندب اهـ. وعدها عبد الرحمن الأخضري سنة من سنن الصلاة بقوله والسترة لغير المأموم، وأقلها غلظ رمح وطول ذراع، طاهر ثابت غير مشوش اهـ. وفي كون السترة سنة، أو مستحبة، أو واجبة أقوال في المذهب. . . انظره في الحطاب. ثم ذكر المصنف الأشياء التي لا تصح أن يستتر بها فقال رحمه الله تعالى: " لا بخط أو أجنبية، ولا صغير لا يثبت، ولا دابة ولا نائم، وحلق المتكلمين " يعني أن هذه الأشياء كلها لا ينبغي أن تكون سترة للمصلي لما فيها من العلل. قال خليل: لا دابة، وحجر واحد، وخط، وأجنبية، وفي المحرم قولان. وقول المصنف لا بخط أي لا يستتر بخط يخطه في الأرض من المشرق للمغرب أو من جهة القبلة إلى الجهة التي تقابلها، ومثل الخط الحفرة والماء والنار. وقوله أو أجنبية، فالأجنبية لا يصح سترة بين يدي المصلي لأنها مشتغلة، ولما يغلب الظن من الافتنان

بها. وقوله ولا صغير لما فيه من اللعب، فالصغير الذي لا يثبت لا يصح أن يكون سترة لأنه مشغل. قال الخرشي: وأما الكبير لا بأس بالاستتار به. ونصه: لا بأس بالاستتار بظهر الرجل إذا رضي أن يثبت له، والصبي الذي يثبت مثله، وإن كان لا يتحفظ من الوضوء اهـ. وقوله ولا دابة، والعلة فيها إما لنجاسة فضلتها كالبغال، وإما لخوف زوالها، وإما لهما، فهو محترز طاهر، أو ثابت، أو هما معا، فإن كانت طاهرة الفضلة وثبتت بربط ونحوه جاز اهـ. قاله الدردير. قوله ولا نائم، فالنائم مشغل باعتبار ما يعرض له من خروج شيء منه يشوش على المصلي، أو كشف عورته، أو تقدير انتباهه وذهابه. وقوله وحلق المتكلمين، قال الصفتي نقلا عن الخرشي وحاشيته: ومن المشغل النائم، والمأبون الذي يفعل به في دبره، وحلق المحدثين والمتكلمين في الفقه وغيره فلا يستتر بهم. وأما لو كانوا ساكتين فيستتر بهم إذا لم يكن وجوه بعضهم إليه وإلا فهو مشغل، وكذا يكره الاستتار بالكافر لأن شأنه النجاسة اهـ. وأما قول سيدي خليل: وحجر واحد، أي أنه يكره استتار به مع وجود غيره لشبهه بعبادة الصنم، فإن لم يجد غيره جاز الاستتار به مائلا عنه يمينا أو شمالا، ومفهوم واحد جوازه بأكثر من واحد، فهو كذلك، وأما الأحجار فجائز اهـ قاله الأبي في الإكليل مع طرف من الخرشي. قال المصنف رحمه الله تعالى: " بخلاف الطائفين " يعني أن الطائف بحول الكعبة المشرفة يجوز له المرور بين يدي المصلي بحسبما تقدم عن قريب عند قول المصنف ولا تبطل بمرور شيء بين يديه فراجعه إن شئت. قال المصنف رحمه الله تعالى: " يدنو منها ولا ينصبها قبالة وجهه " يعني أن المصلي يندب له أن يدنو، أي أن يقرب من سترته بحيث يكون بينه وبينها قدر ممر الشاة.

فصل في أحكام العاجز عن القيام في الصلاة

وقيل شبرا. وقيل ذراعا. ولا ينصبها صمدا أي قبالته، بل يجعلها من جهة يمينه أو شماله. وأما قدر حريم المصلي فيستحق محل ركوعه وسجوده فقط كما في الحطاب. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويدرأ المار برفق " يعني أن المصلي يندب له أن يدفع المار بين يديه بلطف. قال الحطاب: فرع: وأما حكم مدافعة المار فالمذهب أنه يدفعه دفعا خفيفا لم يشغله عن الصلاة. قال ابن عرفة: ودرأ المار جهده اهـ. ولما أنهى الكلام على سترة المصلي انتقل المصنف يتكلم على بيان أحكام العاجز عن القيام في الصلاة فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في أحكام العاجز عن القيام في الصلاة في بيان حكم من لم يقدر على القيام في الفرض، وترتيب أحواله من القيام استقلالا واستنادا وما يتعلق بحكم العاجز عن كل شيء، وبيان جميع ذلك على التفصيل. والأصل في صلاة المريض على الصفة الآتية الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وقوله عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وأما السنة فما في صحيح البخاري " عن عمران بن حصين قال كانت بي بواسير فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال: " صل قائما، فإن لم تستطع فجالسا، فإن لم تستطع فعلى جنبك " زاد ابن صخر " فإن لم تستطع فمستلقيا ". قال المصنف رحمه الله تعالى: " العاجز عن القيام " أي استقلالا في صلاة الفريضة بأن عجز عنه جملة أو تلحقه بالقيام مشقة شديدة ولا يقدر أن يصلي قائما ولو " معتمدا " على

شيء قال المصنف فإنه " يصلي جالسا " أي استقلالا " مستقبلا " إلى القبلة، قال المصنف رحمه الله تعالى: " فإن لم يستطع استند إلى طاهر " يعني كما قال في الرسالة: وصلاة المريض إن لم يقدر على القيام صلى جالسا إن قدر على التربع وإلا فبقدر طاقته. قال النفراوي: قوله صلى جالسا، أي مستقلا، ويستحب أن يتربع إن قدر على التربع اقتداء به صلى الله عليه وسلم، لأنه الألبق بالأدب. قال العلامة خليل: وتربع كالمتنفل، وغير جلسته بين سجدتيه، قال شراحه وكذا في حال سجوده ثم قال: واعلم أن الذي يصلي الفرض جالسا هو من لا يستطيع القيام جملة، أو يخاف بالقيام لمرض أو زيادته كالتيمم، إلى أن قال: والقادر على الاستناد يجب عليه الاستناد لغير جنب وحائض، ولهما أعاد بوقت حيث استند لهما مع وجود غيرهما إلى أن قال: والحاصل أن الصور أربع: القيام استقلالا، والقيام مع الاستناد، والجلوس استقلالا، والجلوس مع الاستناد. ولما فرغ المصنف من الكلام على العاجز عن القيام والجلوس بحالتيهما شرع يتكلم على أحوال المضطجع فقال رحمه الله تعالى: " فإن عجز فعلى يمينه؛ المرتبة صلى على ظهره على المشهور. وقيل الظهر مقدم على الجنب الأيمن، نقله ابن محرز عن أشهب وابن مسلمة وابن القاسم. قال ابن ناجي في شرح الرسالة: وهذا الخلاف على طريق الاستحباب لأنها حالة واحدة وهي الاضطجاع اهـ. قال العلامة ابن جزي في القوانين الفقهية: الفصل الثاني في صلاة المريض، وفيه أحوال: أن يصلي قائما غير مستند، فإن لم يقدر أو قدر بمشقة فادحة صلى قائما مستندا، ثم جالسا مستقلا، ثم جالسا مستندا ثم مضطجعا على جنبه الأيمن مستقبل القبلة بوجهه، ثم مستلقيا على ظهره مستقبل القبلة برجليه. وقيل يقدم الاستلقاء

على الأيمن، ثم مضطجعا على جنبه الأيسر، ويومئ بالركوع والسجود في الاضطجاع والاستلقاء، فإن لم يقدر على شيء نوى الصلاة بقلبه وفاقا للشافعي. وقيل تسقط عنه وفاقا لأبي حنيفة اهـ. وفي الرسالة: وإن لم يقدر على السجود فليومئ بالركوع والسجود، ويكون سجوده أخفض من ركوعه، وإن لم يقدر صلى على جنبه الأيمن إيماء، وإن لم يقدر إلا على ظهره فعل ذلك، ولا يؤخر لصلاة إذا كان في عقله، وليصلها بقدر ما يطيق اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " يأتي بما يمكنه ويومئ بما يعجز عنه ويخفض للسجود عن الركوع " يعني أن المريض إذا عجز عن الأركان في صلاته يأتي بمقدوره ويكون سجوده أخفض من ركوعه كما في الرسالة. قال الدردير ثم إن لم يقدر على الجلوس بحالتيه صلى على شق أيمن بالإيماء، فأيسر، إذا لم يقدر على الشق الأيمن، فعلى ظهر ورجلاه للقبلة، فإن لم يقدر فعلى بطنه ورأسه للقبلة، فإن قدمها على الظهر بطلت. والمعنى إن قدم هذه الصفة بأن جعل رجليه ابتداء للقبلة ورأسه لدبرها بطلت صلاته إذا كان قادرا على التحول وإلا فلا بطلان، كما لو قدم الظهر على الشق بحالتيه، أو قدم الأيسر على الأيمن فلا تبطل؛ لأن الترتيب بينهما مستحب. وبطلت أيضا إن قدم الاضطجاع مطلقا على الجلوس بحالتيه، أو استند جالسا مع القدرة عليه استقلالا، بخلاف ما لو جلس مستقلا مع القدرة على القيام مستندا كما تقدم اهـ قلت: انظر قوله بخلاف ما لو جلس إلخ مع ما في كتاب الأخضري لأنه قال: فالتي على الوجوب أولها القيام بغير استناد، ثم القيام باستناد، ثم الجلوس بغير استناد، ثم الجلوس بغير استناد. فالترتيب بين هذه الأربعة على الوجوب، إذا قدر على حالة منها وصلى بحالة دونها بطلت صلاته. فعلى هذا فالصلاة تبطل بترك الترتيب بين القيام باستناد والجلوس بغير استناد مع القدرة عليه. وأشكل ذلك على الطالب وسأل عن معناه، فأجاب العلامة الصاوي في الحاشية عن الدردير فقال: قوله كما تقدم، أي من ندب الترتيب بينهما على قول ابن ناجي وزروق، وأما على قول

ابن شاس فالبطلان لوجوب الترتيب. والحاصل أن المراتب خمس: القيام بحالتيه، والجلوس كذلك، والاضطجاع، فتأخذ كل واحدة مع ما بعدها يحصل عشر مراتب كلها واجبة إلا واحدة وهي ما بين القيام مستندا والجلوس مستقلا ففيها القولان بالوجوب والندب قلت: وبهذا يظهر لك عدم البطلان على ما قاله الدردير بترك الترتيب في ذلك. ثم قال أي العلامة الصاوي: والمرتبة الأخيرة تحتها ثلاث صور، وهي تقديم الأيمن على الأيسر، والأيسر على الظهر، وهاتان مستحبتان، وأما تقديم الظهر على البطن فواجب اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ولا تسقط وهو يعقل، فإن عجز عن جميع الحركات فقيل يقصد بقلبه، وقيل تسقط عنه " يعني أن المريض لا تسقط عنه الصلاة ما دام معه شيء من عقله، لأن الصلاة خشوع وتضرع لله تعالى وهو مطلوب من العبد ما بقي منه شيء من عقله مع القدرة. وقد تقدم ما صرح به أبو محمد في الرسالة بقوله: ولا يؤخر الصلاة إذا كان في عقله، وليصلها بقدر ما يطيق. قال شارحها: ولو بنية أفعالها. قال في الجلاب: ولا تسقط عنه الصلاة ومعه شيء من عقله. وصفة الإتيان بها أن يقصد أركانها بقلبه بأن ينوي الإحرام والقراءة والركوع والرفع والسجود وهكذا إلى السلام إن كان لا يقدر إلا على الإيماء بطرفه أو غيره، وإلا أومأ بما قدر على الإيماء به ولو بحاجب كما قال المأزري. وإذا لم يستطع المريض أن يومئ إلا بطرفه وحاجبه فليومئ بهما ويكون مصليا بهذا مع النية، وهذا مقتضى المذهب اهـ النفراوي. وكذا في الثمر الداني. ثم اعلم لو كان المريض يستطيع الإتيان بالصلاة على حالة من الحالات لكنه نسي بعض أقوالها وأفعالها ولكن يقدر عليها بالتلقين فهل يجب عليه اتخاذ من يلقنه أم لا؟ قال الأجهوري نقلا عن ابن المنير من علماء المالكية إنه يجب عليه اتخاذ من يلقنه نحو القراءة والتكبير ولو بأجرة، ولو زادت على ما يجب عليه بذله في ثمن الماء، فيقول له عند

الإحرام للصلاة قل الله أكبر، وهكذا إلى السلام، وقول له بعد الفاتحة والسورة افعل هكذا إشارة إلى الركوع أو السجود عند نسيانها اهـ. ذكره النفراوي في التنبيهات. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وفي حوفه الغلبة على عقله يجمع بين الصلاتين " يعني أن المريض الذي يخاف أن يغلب على عقله بتأخيره إلى وقت الصلاة الثانية يجوز له أن يجمع بين الصلاتين المشتركتين في الوقت كظهرين بأن يقدم الثانية في وقت الأولى. قال الدردير في أقرب المسالك: ومن خاف إغماء أو نافضا أو ميدا عند دخول وقت الثانية قدمها، فإن سلم أعاد الثانية بوقت. قوله من خاف إغماء: الإغماء مرض معروف من نواقض الوضوء كما تقدم في نواقض الوضوء، وقوله أو نافضا أي أو خاف حمى نافضة بالفاء أي يرتعش ويتحرك جسد المريض به من شدة الحمى، وقوله أو ميدا بفتح الميم أي دوخة. قال أبو الضياء سيدي خليل: وقدم خائف الإغماء والنافض والميد إلخ. وفي التوضيح: إذا جمع أول الوقت للخوف على عقله ثم لم يذهب عقله فقال عيسى بن دينار يعيد الأخيرة، وقال سند يريد في الوقت اهـ. وقال مالك في المدونة: إذا خاف المريض أن يغلب على عقله جمع بين الظهر والعصر إذا زالت الشمس لا قبل ذلك، وبين العشاءين عند الغروب اهـ. قال الخرشي: يعني أن الشخص إذا خاف الإغماء أو الحمى الناقضة، أي المرعدة أو الدوخة عند العصر أو العشاء فإنه يستحب له أن يقدم العصر أول وقت الظهر، والعشاء عند أول وقت المغرب على المشهور اهـ. وفي الرسالة: وللمريض أن يجمع إذا خاف أن يغلب على عقله عند الزوال وعند الغروب وإن كان الجمع أرفق به لبطن به ونحوه جمع وسط وقت الظهر، وعند غيبوبة الشفق اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وفي طلب الرفقة يؤخر الأولى إلى آخر وقتها الاختياري ويصليها " يعني أن الشخص إذا كان منفردا وهو يرجو الرفقة في الوقت أي

فصل في بيان أحكام الجمع بين المغرب والعشاء ليلة المطر

يرجو المجاعة فيستحب له الانتظار بأن يؤخر صلاة كالظهر مثلا إلى آخر وقتها الاختياري لتحصيل فضل الجماعة. وقال الدردير في أقرب المسالك: والأفضل لفذ انتظار جماعة يرجوها. يعني أن المنفرد يندب له أن يؤخر الصلاة لجماعة يرجوها في الوقت لتحصيل فضل الجماعة. وقيل يقدم. ثم إذا وجدها أعاد إن كانت مما تعاد، وأما المغرب فيقدمها جزما لضيق وقتها. وعلم من هذا أن قولهم الأفضل للفذ تقديمها أول الوقت محله ما لم يرج جماعة اهـ. وقد تقدم الكلام في المنفرد عند قول المصنف: وفي إبراد المنفرد قولان فراجعه إن شئت. ولما أنهى الكلام على أحكام العاجز عن القيام في الفرض وجميع ما يتعلق بذلك شرع المصنف يتكلم على ما يتعلق بالجمع بين المغرب والعشاء ليلة المطر فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في بيان أحكام الجمع بين المغرب والعشاء ليلة المطر أو الوحل أي الطين مع الظلمة، لا بأحدهما. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويجمع بين العشاءين للمطر أو الوحل مع الظلمة في مساجد الجماعات " يعني أنه يرخص للجماعة الجمع بين المغرب والعشاء للمطر النازل أو المترقب في نزوله. قال في الرسالة: ورخص في الجمع بين المغرب والعشاء ليلة المطر، وكذلك في طين وظلمة، يؤذن للمغرب أول الوقت خارج المسجد، ثم يؤخر قليلا في قول مالك، ثم يقيم في داخل المسجد ويصليها، ثم يؤذن للعشاء في داخل المسجد ويقيم، ثم يصليها، ثم ينصرف وعليهم إسفار قبل مغيب الشفق اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " لا المنفرد في بيته أو مسجده " يعني أنه لا يرخص لجار المسجد أن يجمع بين الصلاتين تبعا لأهل المسجد وهو في بيته أو في مسجده، ولو كان مريضا

أو امراءة، بل إما أن يذهب للمسجد فيجمع معهم، أو يصلي كل صلاة بوقتها، وأما المقيم بالمسجد للعبادة بنحو الاعتكاف أو المجاورة فيه جاز له أن يجمع تبعا للجماعة لا استقلالا. قال في أقرب المسالك: جاز لمنفرد بالمغرب يجدهم بالعشاء، ولمقيم بمسجد تبعا لا استقلالا، ولا لجار مسجد ولو مريضا أو امراءة اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " يؤخر الأولى ويقدم الأخيرة ويصليان في وسط الوقت يؤذن للأولى خارج المسجد " يعني أنه شرع في كيفية الجمع بين العشاءين كما وصفها صاحب الرسالة، إلا أن مصنفا أتى بقولين في محل إعادة أذان الثاني بقوله: " وهل للأخرى داخله أو خارجه قولان " المشهور منهما الأول كما في الرسالة. قال خليل: ثم صليا ولاء إلا قدر أذان منخفض بمسجد وإقامة. قوله: بمسجد أي فيه، لا على النار لئلا يشك من صلى المغرب أو أفطر بسماع الأذان الأول. قال الدردير: ولئلا يلبس على الناس، أي فيظنون أن وقت العشاء دخل، وهذه العلة تشعر بحرمته على المنار اهـ. قال صاحب العزية: وصفة الجمع لذلك أن يؤذن للمغرب على المنار أول وقتها ويؤخر صلاتها قليلا، ثم يؤذن للعشاء في صحن المسجد أذانا منخفضا ثم يصلونها قبل مغيب الشفق، ثم ينصرفون ولا يصلون الوتر إلا بعد مغيب الشفق اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويقين لهما " أي لكل واحدة منهما. قال: " ولا يتنفل " أحد " بينهما " أي بين الصلاتين المجموعتين في المسجد على المعتمد، والنهي للكراهة، أي يكره التنفل بينهما. وقيل يحرم. قال النفراوي في شرح الرسالة: فهم من طلب انصرافهم بعد العشاء أنهم لا يشتغلون بنفل ولا غيره. قال خليل: ولا تنفل بينهما ولا بعدهما، وإذا وقع ونزل بينهما لا يمنع الجمع إلا أن تكثر النوافل بحيث يدخل وقت الظلمة الشديدة فيفوت الجمع.

والظاهر أن حكم التنفل الكراهة ولا وجه لحرمته لأنه وإن كثر لا يترتب عليه فوات واجب، إذ الجمع مندوب أو مسنون، والمفوت لأحدهما لا يحرم فعله، فتأمله اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " فإن انقطع في أثنائهما تمادى " يعني إذا انقطع سبب الجمع ليلة المطر بعد الشروع فلا يقطعون. قال الدردير في شرح قول خليل: كأن انقطع المطر بعد الشروع، أي ولو في الأولى فيجوز الجمع، وظاهره ولو لم يعقد ركعة لا قبل الشروع فلا يجوز اهـ. وقال الخرشي أي إن الجماعة إذا شرعوا في صلاة المغرب لوجود سبب الجمع وهو المطر فلما صلوها أو بعضها ارتفع السبب فإنه يجوز لهم التمادي على الجمع، إذ لا تؤمن عودته، وظاهره ولو ظهر عدم عودته، أما لو انقطع قبل الشروع فلا جمع إلا بسبب غيره. فالمراد بالشروع في الأولى اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ومن أدرك الثانية معهم وقد صلى الأولى " يعني من أدرك الجماعة في المسجد يصلون الجمع وأدركهم في العشاء والحال أنه قد صلى المغرب في بيته منفردا أو في جماعة أخرى، قال المصنف: " هل يجمع معهم " تبعا لهم، أو لا يجوز له ذلك؟ فيه " قولان " المشهور منهما الجواز، أي يجوز له الدخول معهم في الجمع ويحصل له فضل الجماعة على المعتمد. قال في أقرب المسالك " وجاز لمنفرد بالمغرب يجدهم بالعشاء، ولمقيم بمسجد تبعا لا استقلالا اهـ. وحاصل فقه المسألة أن المعتكف في المسجد لا يجمع ليلة المطر مع الجماعة ولو كان إماما إلا تبعا لهم لا استقلالا، ولذا وجب على الإمام إذا كان في الاعتكاف أن يستخلف من يجمع للجماعة ويصلي هو وراء خليفته مأموما، وأما من كان خارجا عن المسجد أي ساكنا في منزله، ثم جاء وأدرك الثانية فإنه لا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يكون قد

صلى المغرب منفردا في بيته أو في جماعة ثم أتى مسجد الجمع، أو لم يصلها أصلا، أما الذي صلى المغرب في بيته منفردا أو في الجماعة فيجوز له أن يجمع مع الجماعة تبعا لهم لطلب فضل الجماعة، فإن وجدهم قد فرغوا لا يجمع وحده إلا إذا كان بأحد المساجد الثلاثة، والمراد بها المسجد الحرام، والمسجد النبوي، ومسجد إيلياء وهو المسجد الأقصى، فيجوز له الجمع إذا دخلها، سواء كان راتبا أو غيره. وأما إن لم يدخل وعلم أن إمامها قد جمع فلا يطالب بالدخول ويبقى العشاء للشفق إلا إذا كان لم يصل المغرب والعشاء معا لعظم فضلها على الجماعة في غيرها اهـ. لخصناه من كتب معتبرة فراجعها إن شئت. قال العلامة الصاوي في حاشيته على الدردير نقلا عن الدسوقي. تنبيه: حيث كان إمام المسجد معتكفا لا يجوز له الجمع إلا تبعا، فلذلك يلزمه استخلاف من يصلي بهم ويصلي هم مأموما، ولا تصح إمامته، ولا يصح الجمع بمسجد لشخص منفرد غير راتب إلا بالمساجد الثلاثة، إذا دخلها فوجد إمامها قد جمع صلى المغرب مع العشاء جمعا، وأما إذا لم يدخل وعلم أن إمامها قد جمع فلا يطالب بدخولها ويبقي العشاء للشفق، هذا هو الموافق لما مر كما جزم به بعضهم اهـ فرع: يلزم المصلي نية الجمع عند الأولى، فلو تركها لم تبطل بخلاف نية الإمامة فتبطل الثانية بتركها. قال النفراوي في شرح الرسالة في التنبيه الخامس: لم يبين المصنف حكم نية الجمع ولا محلها، وحلها على الراجح عند الصلاة الأولى، وتطلب من الإمام والمأموم، وأما نية الإمامة فقيل عند الثانية لأنها التي يظهر أثر الجمع فيها، وقيل فيهما، والمشهور الثاني، فلو ترك الإمام نية الإمامة بطلت الثانية على الأول وبطلت على الثاني حيث تركها فيهما، وأما لو تركها في الثانية وأتى بها في الأولى فالظاهر صحتها وتبطل الثانية ولا يصليها إلا عند مغيب الشفق. وأما لو تركها عند الأولى ونيته الجمع فإنها تبطل لأن صحتها مشروطة بنية الإمامة علة هذا القول كترك الإمام نية الإمامة في صلاة الجمع اهـ. فتأمل.

فصل في حكم الجماعة

ولما أنهى الكلام على الجمع ليلة المطر وما يتعلق بجميع ذلك يتكلم على بيان حكم الصلاة في الجماعة مطلقا أي في الصلوات الخمس، فقال رحمه الله تعالى. فَصْلٌ في حكم الجماعة في بيان أحكام الجماعة، ومن أولى بالإمامة، وحكم الإمام والمأموم، ومن يقف وحده خلف الصف، وما يلزم المؤتم من المتابعة للإمام، وغير ذلك مما يتعلق بالجماعة. وبدأ المصنف بحكم الصلاة في الجماعة فقال رحمه الله تعالى: " الجماعة سنة مؤكدة " يعني أن الصلاة المكتوبة غير الجمعة إيقاعها في الجماعة سنة مؤكدة يحصل به ثوابا جزيلا وفضلا عظيما. وفي الحديث عن ابن عمر، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة " وفي رواية عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءا " رواهما الإمام في الموطأ اهـ. وفي الرسالة: والصلاة في الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة كما في الحديث. العزية: صلاة الجماعة سنة مؤكدة ولا يحصل فضلها إلا بإدراك ركعة بسجدتيها، فمن أدركها ليس له أن يعيدها في جماعة أخرى. والجماعة اثنان فصاعدا، ومن صلى وحده، أو لم يدرك مع الإمام ركعة كاملة فإن له أن يعيدها في جماعة مأموما ناويا بذلك التفويض إن كانت تلك الصلاة غير المغرب، وكذا العشاء بعد وتر صحيح وأما قوله: أو مع واحد ضعيف كما في شراح المختصر، إلا إذا كانت الإعادة مع الراتب الذي إذا صلى وحده في مسجد قام مقام الجماعة فله أي للفذ أن يعيد معه للفضل المذكور. قال خليل: الجماعة بفرض غير جمعة سنة، ولا تتفاضل، وإنما يحصل فضلها بركعة، وندب لمن لم يحصله

- كمصل بصبي لا امراءة - أن يعيد مفوضا مأموما ولو مع واحد غير مغرب، كعشاء بعد وتر، فإن أعاد ولم يعقد قطع، ولا شفع، وإن أتم، ولو سلم أتى برابعة إن قرب اهـ. قال الخرشي: يعني أن اجتماع الجماعة في الفرض العيني الحاضر أو الغائب سنة مؤكدة، وليست واجبة إلا في الجمعة. وظاهر المؤلف كغيره أنها سنة في الجملة، وفي كل مسجد وفي حق كل مصل حتى في حق المنفرد فيسن في حقه طلب الجماعة بدليل أنه يستحب لمن صلى وحده طلب الجماعة، خلاف ما جمع به ابن رشد بين الأقوال من كونها فرضا في الجماعة، سنة في كل مسجد، فضيلة للرجل في خاصيته. وظاهر كلام ابن عرفة أن طريقة ابن رشد هذه خلاف طريقة الأكثر، وعلى طريقة ابن رشد يحمل كلام المؤلف على إقامتها بكل مسجد، لا على إقامتها بالبلد، ولا على إيقاع الرجل صلاته في الجماعة اهـ، قال العلامة الصاوي في حاشيته على أقرب المسالك: وظاهر المذهب أنها سنة في البلد، وفي كل مسجد، وفي حق كل مصل، وهذه طريقة الأكثر. وقتال أهل البلد على تركها لتهاونهم بالسنة. وقال ابن رشد وابن بشير: إنها فرض كفاية بالبلد، فلذلك يقاتلون عليها إذا تركوها، وسنة في كل مسجد، ومندوبة للرجل في خاصة نفسه. قال الأبي: وهذا أقرب إلى التحقيق اهـ. قال أبو البركات الشيخ أحمد الدردير: وأما غير الفرض منه ما يندب فيه الجماعة وهو العيد، والكسوف، والاستسقاء، والتراويح، والأوجه في غير التراويح السنية، ومنه ما تكره فيه كجمع كثير مطلقا، أو قليل بمكان مشتهر في غير ما ذكر، وإلا جازت كما تقدم. وأما الجمعة فالجماعة فيها شرط صحة كما سيأتي اهـ. أحكام الإمامة ولما أنهى الكلام علة تحقيق معنى الجماعة وبيان أحكامها وإثبات فضلها لمن أدركها انتقل يتكلم على بيان أحكام الإمام والإمامة، وصفة الإمام ومن أولى بالتقديم. قال رحمه

الله تعالى: " ولا يؤم " أي لا يتقدم على الناس في أداء الصلاة أو قضائها " إلا مسلم " أي رجل من المسلمين. وقولنا رجل احتراز من المرأة. وقوله مسلم: أي بأن الإمام مسلما لإذ الكافر لا تصح صلاته وأحرى إمامته. قال المصنف رحمه الله تعالى: " عدل ذكر " يعني أن من شروط الإمام أن يكون عدلا، فالفاسق تكره إمامته مع صحة الصلاة على المعتمد لأن الكراهة لا تنافي الصحة كما لا تنافي الجواز ولكن لا ينبغي الاقتداء به إلا عند الضرورة كما هو معلوم. وقله ذكر أي محقق الذكورية، إذ لا تصح إمامة المرأة ولا خنثى مشكل في الفريضة ولا النافلة، لا رجالا ولا نساء، لا حضرا ولا سفرا. قال المصنف رحمه الله تعالى: " عالم بما لا تصح الصلاة إلا به " يعني أنه لا يتقدم إلا من كملت له الأوصاف المتقدمة بأن يكون غير جاهل بما لا تصح الصلاة إلا به من قراءة وفقه مع القدرة على اإتيان بالأركان، فالعاجز عن جميع ذلك أو بعضه لا تصح إمامته إلا لمثله، إلا امرأة تؤم أحدا مطلقا كما تقدم. قال المصنف رحمه الله تعالى: " بالغ في الفريضة " يعني أن غير البالغ ولو مميزا لا يؤم أحدا في الفرض لا رجالا ولا نساء. وأما في النوافل أو مع مثله فشرطه التمييز فقط كما قال المصنف: " مميز في النافلة " يعني أن الصبي المميز تصح إمامته في صلاة النافلة وإن لم تجز ابتداء كما في المختصر وكذا في الصاوي سواء كان مأمومه رجالا أو نساء أو رجالا ونساء، لكن إن أم البالغين تصح مع الكراهة الشديدة على المعتمد في المذهب لأنه ربما صلى بلا وضوء لكونه لا حرج عليه في تركه الوضوء لأن الوضوء في حقه مستحب، وأما إن كان مع مثله فلا كراهة. اهـ الصفتي مع إيضاح. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وكره كون العبد وولد الزنا راتبا " يعني أنه لما ذكر المصنف من يستحب منه الإمامة شرع الآن في ذكر من تكره إمامته بقوله: وكره إلخ. والمعنى أنه يكره ترتب العبد وولد الزنا بأن يكون كل منهما إماما راتبا في المسجد للعار القائم بهما في ذلك، ولو بلغا إلى أعلى الدرجة عند الناس، قال الخرشي عند قول خليل: وولد

زنا أي يكره ترتب ولد زنا خوفا من أن يعرض نفسه للقول فيه لأن الإمامة موضع رفعة. وقال عند قوله: وعبد في فرض، أي وكذا يكره أن يتخذ العبد إماما راتبا في الفرض، أي غير الجمعة وأما هي فلا تصح ويعيد هو ومن خلفه أبدا كما يأتي في باب الجمعة من أن شرط وجوبها الحرية اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويستحب كونه أكملهم زيا وخلقا " يعني أنه يستحب للإمام أن يكون أكمل الناس صفة بأن يكون حسن الهيئة، جميل الصورة، صبيح الوجه، سالم الأعضاء، معتدل القامة، نظيف الثياب، معروف النسب، مشهورا بالأخلاق المرضية. قال بعضهم في نظمه: ومن شروطه على الكمال ... منزه في القول والأفعال ذو حسب يرى ومعروف النسب ... ذو خلق وذو مقام في الحسب يعرف بالسيما إذا تراه ... نظافة الثوب وما حواه وحسن الوجه وحسن الصوت ... مراعيا بدينه في الوقت مكمل الأعضاء خال من شلل ... ومن عروجة ومن كل الخلل ويتقي فيه جميع العاهه ... لأنه الموصوف بالشفاعة قال المصنف رحمه الله تعالى: " فيكره الأغلف، والأقطع، والأشل، والأعمى، والمتيمم للمتوضئين، وذو سلس، والجرح السائل للأصحاء، وبدوي للحاضرين ومسافر للمقيمين " يعني أخبر المصنف أن إمامة هؤلاء مكروهة وهم تسعة، لكن إمامة بعض منهم لا كراهة فيها كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى الأول: إمامة الأغلف، هو رجل مكلف لمنه غير مختتن. قال الصاوي: فتكره إمامته مطلقا راتبا أو لا، خلافا لما مشى عليه خليل من تخصيصه بالراتب اهـ. وفي شرحه العشماوية لابن تركي، والأغلف وهو من ترك الختان اغير ضرورة. قال الصفتي: بل ولو تركه لضرورة على المعتمد كما نقله التتائي

عن ابن هارون أنه سواء تركه لعذر أم لا على المعتمد اهـ، الثاني والثالث: الأقطع والأشل. قال الصفتي: هذا ضعيف والمعتمد أنها لا تكره إمامة الأقطع ولا الأشل كما في الحاشية. ومثله في حاشية الخرشي. قلت قد عد الدردير في أقرب المسالك أن الأقطع والأشل ممن تجوز إمامتهم بلا كراهة على الراجح. قال خليل: وكره أقطع وأشل، قال عبد السميع في الإكليل: والمعتمد عدم كراهة إمامتها مطلقا كما في الجواهر، ونصه: المأزري والباجي وجمهور أصحابنا على رواية ابن نافع عن مالك، رضي الله تعالى عنه، أنه لا بأس بإمامة الأقطع والأشل لمثلهما ولغير مثلهما، ولو في الجمعة والأعياد، وسواء كانا يضعان العضو على الأرض أم لا اهـ. الرابع: إمامة الأعمى وتلك جائزة فلا كراهة فيها على الراجح كما في الدردير. وفي المختصر: وجاز اقتداء بأعمى ومخالف في الفروع، قال مالك في المدونة: لا بأس أن يتخذ الأعمى إماما راتبا، وقد أم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أعمى وهو ابن أم مكتوم. وقال الخرشي: يعني أن إمامة الأعمى جائزة من غير كراهة لاستنابته عليه الصلاة والسلام ابن أم مكتوم على المدينة في غزواته بضع عشرة مرة يؤم الناس، والمراد بالجواز ما يشمل خلاف الأولى لأن إمامة البصير أفضل على الراجح. قال العدوي في الحاشية: والمعنى الذي يشمل خلاف الأولى شيء ليس بمكروه اهـ. فظهر لك أن إمامة الأقطع والأشل والأعمى جائزة لا كراهة فيها على الراجح كما في الدردير الخامس: أي ممن تكره إمامته مما ذكره المصنف إمامة المتيمم، يعني أخبر إنما تكره إمامة المتيمم للمتوضئين فقط. وسئل مالك في المدونة في المتيمم يؤم المتوضئين قال يؤمهم المتوضئ أحب إلي. وإن أمهم المتيمم رأيت صلاتهم مجزئة عنهم اهـ. قال الصفتي نقلا عن العدوي والخرشي: فائدة: تكره إمامة المتيمم للمتوضئ وإمامة ماسح الجبيرة لغيره، أي إذا كان متوضئا وضوءا كاملا، واقتداء ماسح الخف بماسح الجبيرة، واقتداء الماسح بالمتيمم، وأما اقتداء ماسح الجبيرة بماسح الخف فلا كراهة، ومثله في عدم الكراهة اقتداء المتوضئ بماسح الخف اهـ، السادس

والسابع: أي ممن تكره إمامتهم ذو سلس وذو جرح سائل. يعني أن إمامة ذا سلس من بول أو غيره وذا قروح لمن هو سليم عنها مكروهة. قال خليل: وذو سلس وقروح لصحيح. وفي جواهر اإكليل: وكره ذو سلس أي بول ونحوه يخرج بغير اختيار فلا يستطيع حسبه، وذو قروح يسيل منها دم ونحوه، أي إمامتهما لصحيح أي سليم من السلس والقروح، وكذا سائر أصحاب المعفوات، فمن تلبس بشيء منها فإمامته للسليم منها مكروهة اهـ الثامن: أي ممن تكره إمامته البدوي وهو ساكن البادية، ويعبر عنه بالأعرابي. قال خليل: وأعرابي. قال الخرشي يعني أنه تكره إمامة الأعرابي للحضري ولو في سفر وإن كان أقرأهم خوف الطعن بأنه ليس فيهم من يصلح للإمامة، أو لترك الجمعة والجماعة لا لجهله بالسنة كما قيل، وإلا منعت إمامته اهـ وعبارة صاحب جواهر الإكليل أنه قال: وكره أعرابي منسوب للأعراب أي سكان البادية سواء كانت لغتهم عربية أو أعجمية لغيره، أي تكره إمامته لحضري سواء بحاضرة أو ببادية، ولو كانا بمنزل الأعرابي وإن كان الأعرابي أقرأ أي أحكم قراءة من الحضري لجفائه وغلظته، فلا يصلح للشفاعة اللازمة للإمامة اهـ التاسع: أي ممن تكره إمامته المسافر، فإمامته للمقيمين مكروهة وإن كان كل على سنته، لكن الكراهة باقية. قال خليل: وإن اقتدى مقيم به فكل على سنته وكره، كعكسه، وتأكد وتبعه ولم يعد. الراجح الإعادة. قال الخرشي: يعني المقيم إذا اقتدى بالمسافر لا ينتقل عن فرضه ويصير كل منهما على سنته فيصلي المسافر فرضه فإذا سلم أتم المقيم ما بقي عليه من صلاته فذا، وكره لمخالفته نية إمامه. وقوله كعكسه، أي ككراهة اقتداء المسافر بالمقيم ولو في المساجد الثلاثة، أو مع الإمام الأكبر، إلا أن يكون المقيم ذا سن أو فضل أو رب منزل، لكن الكراهة هنا أشد من الأولى لمخالفة سنة القصر، ولزوم الانتقال إلى الإتمام له مع الإمام إن أدرك ركعة مع الإمام وإلا قصر وبنى على إحرامه صلاة سفر اهـ. انظر الخرشي. وفي جواهر الإكليل: قوله: وإن اقتدى مقيم به إلخ وكره، أي اقتداء المقيم بالمسافر لمخالفة المأموم إمامه نية

وفعلا، إلا إذا كان المسافر فاضلا أو مسنا في الإسلام كما في سماع ابن القاسم وأشهب. وذكر ابن رشد أنه المذهب، ونقله الحطاب على وجه يقتضي اعتماده. وقوله: كعكسه وهو اقتداء المسافر بالمقيم، وتأكد، أي اشتد الكره للزوم مخالفة المسافر سنة القصر التي هي أوكد من الجماعة عند ابن رشد، ولا كراهة على قول اللخمي القائل الجماعة أوكد من القصر. وإذا اقتدى المسافر بالمقيم وجب عليه اتباعه أي يلزم المسافر الإتمام إن أدرك معه ركعة ولو نوى القصر، ثم يعيدها في الوقت مقصورة على الراجح خلاف ما مشى عليه الشيخ خليل من قوله ولم يعد، وهو ضعيف كما في الإكليل وغيره، وأما إن لم يدرك المسافر مع إمامه المقيم ركعة فإن كان نوى الإتمام أتم وأعادها بوقت، وإن كان نوى القصر قصرها اهـ. وفي العزية فائدة: اقتداء المسافر بالمقيم والعكس صحيح لكن يكره، وتتأكد الكراهة في اقتداء المسافر بالمقيم، فإن اقتدى به لزمه اتباعه ولا إعادة، هذا تبع فيه خليل وتقدم أنه يعيد في الوقت على الراجح انظره في جواهر الإكليل. وإن اقتدى المقيم به أي المسافر فكل على سنته، وهذا لا ينافي الكراهة المذكورة لمخالفة نية إمامه إلا أن هذا لا إعادة عليه بخلاف اقتداء المسافر فرضه فإذا سلم من ركعتين أتى المقيم بما بقي من صلاته اهـ مع زيادة إيضاح. ثم ذكر المصنف من أولى بالتقدم على وجه الاستحقاق فقال رحمه الله تعالى: " ولا يقدم على الحاكم ورب المنزل إلا بإذنهما " وقوله: ولا يقدم بالياء التحتانية وفي نسخة بالتاء الفوقانية، يعني فالأولى بالتقدم في الصلاة الحاكم؛ لأن الإمامة في الأصل تولي أمور الناس عموما من شأن دينهم ودنياهم، ولأن إمام الصلاة نائب عن الإمام الأعظم ولا ينبغي لأحد من الرعية أن يتقدم على الحاكم إلا بإذنه أو لمانع شرعي، وإلا أي إن لم يكن المانع فلا بد من الإذن بأن يكون نائبا عن الإمام الأعظم في الصلاة وغيرها من أمور الديانات. وكذا لا ينبغي لأحد أن يتقدم على رب المنزل إلا لمانع شرعي. قال

العلامة عبد الباري العشماوي في مقدمته: ويستحب تقديم السلطان في الإمامة، ثم رب المنزل، ثم المستأجر يقدم على المالك، ثم الزائد في الفقه، ثم الزائد في الحديث، ثم الزائد في القراءة، ثم الزائد في العبادة، ثم المسن في الإسلام، ثم ذو النسب، ثم جميل الخلق، ثم حسن الخلق، ثم حسن اللباس، ومن كان له حق في التقديم في الإمامة ونقص عن درجتها كرب الدار إذا كان عبدا أو امرأة أو غير عالم مثلا فإنه يستحب له أن يستنيب من هو أعلم منه اهـ. وقوله: أو امرأة، قلت: فالاستنابة منها واجبة لأنها لا تتقدم على أحد في الصلاة وإن في بيتها إذ لا حق لها في التقدم؛ لأن الذكورية شرط في صحة الإمامة كما تقدم. وكذا الجاهل لا يتقدم على أهل الفضل، ومثله العبد لا يتقدم على كسيده. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وفي اجتماع الأهل يقدم الأفقه " يعني كما في الرسالة ويؤم الناس أفضلهم وأفقههم، ولا تؤم المرأة في فريضة ولا نافلة لا رجالا ولا نساء. قال رحمه الله تعالى: " فإن استووا فأفضل بالسن والشرف والصباحة وحسن الخلق، فإن استووا فبالقرعة " يعني أن المستحقين للإمامة إذا استووا في الدرجات بحيث لم يزد أحد منهم بمزية زائدة على غيره فحينئذ تضرب لهم القرعة بأن يكتب في ورقة (إمامة) وفي أخرى (ضدها) بعددهم ويلف ذلك في كشمع ويلقى بين أيديهم، ويأخذ كل واحد منهم واحدة ومن أخذ سهم الإمامة فهو الإمام والباقي يسلمون إليه الأمر، فهذا إذا كان التنافس ليس للدنيا بأن كان للدين، وأما إذا كان ذلك للدنيا فإنه يقدم الأتقى قولا واحدا. ثم ذكر المصنف بعض ما يستحب للإمام فقال رحمه الله تعالى: " يحرم " أي الإمام " بعد استواء الصفوف " يعني أن استواء الصفوف من المندوبات في الصلاة، ولا يحرم الإمام إلا بعد استوائها. قال مالك في الموطأ: إن عمر بن الخطاب كان يأمر بتسوية الصفوف، فإذا جاؤوه فأخبروه أن قد استوت كبر. وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم

قال: " سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من إقام الصلاة " رواه البخاري وغيره. وقد ذكر التتائي فائدة في شرحه على منظومة ابن رشد، وذكر فيها عشر مسائل تطلب للإمام، منها أن لا يكبر حتى يسوي الصفوف أو يوكل من يسويها، أو يأمرهم بذلك، فراجع باقي المسائل إن شئت. وتقدم لنا في فضائل الصلاة أن اعتدال الصفوف من كمال الصلاة. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ولا يلزمه نية الإمامة " يعني أن الإمام لا يلزمه نية الإمامة إلا في أربع مسائل على المشهور. قال العشماوي: ولا يشترط في حق الإمام أن ينوي الإمامة في أربع: في صلاة الجمعة، وصلاة الجمع، وصلاة الخوف، وصلاة الاستخلاف، وزاد بعضهم فضل الجماعة على الخلاف في ذلك اهـ. قال الصاوي: تنبيه لا يتوقف فضل الجماعة للإمام على نية الإمامة في غير هذه المسائل، كما اختاره اللخمي وإن كان خلاف قول الأكثر اهـ. قال خليل: وشرط الاقتداء نيته بخلاف الإمام، ولو بجنازة إلا الجمعة، وجمعا، وخوفا، ومستخلفا، كفضل الجماعة، واختار في الأخير خلاف الأكثر اهـ. يعني أن نية الإمامة في صلاة الجماعة شرط في حصول فضلها عند أكثر العلماء، وخالفهم في ذلك اللخمي، وقال إن نية الإمامة ليست شرطا في ذلك، بل إنه يحصل فضل الجماعة ولو لم ينوها. قال العدوي وهو المعتمد كما في جواهر الإكليل. وقال الصاوي على أقرب المسالك وكل صلاة كانت الجماعة شرطا في صحتها كانت نية الإمامة فيها شرطا اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويرجو لمن خلفه ويشركهم في دعائه " يعني ينبغي للإمام أن يشارك مأمومه وغيرهم في الدعاء ولا يخص نفسه بما يرجوه من الله سبحانه لما ورد في الحديث عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يؤم عبد قوما فيخص نفسه بدعوة، فإن فعل فقد خانهم " قال بعض أهل العلم: هذا الحديث عندي في الدعاء الذي

يدعو به الإمام لنفسه وللمأمومين ويشتركون فيه كدعاء القنوت ونحوه. وهذا الحديث رواه أحمد وأصحاب السنن كما في زاد المعاد. قال خليل في المختصر: ودعاء خاص. قال الشارح الحطاب: يحتمل أن يريد بقوله: خاص أن الدعاء خاص بنفسه لم يشرك المسلمين فيه، وهذا خلاف المستحب ويتأكد في حق الإمام، وقد ورد في الحديث أنه خانهم ذكره صاحب المدخل وغيره، ويحتمل أن يريد أن المصلي يكره له أن يجعل دعاء مخصوصا لركوعه ودعاء مخصوصا لسجوده، وهذا الذي ذكره في التوضيح، ويحتمل أن يريدهما والله أعلم اهـ، قال العلامة الدردير في أقرب المسالك في مندوبات الصلاة " وتعميمه " ومنه " اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولأئمتنا، ولمن سبقنا بالإيمان مغفرة عزما. اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا ومل أعلنا وما أنت أعلم به منا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ولا ينتظر إدراك الداخل " يعني أن الإمام إذا كان راكعا وسمع حس الداخل فلا ينبغي له أن يطيل الركوع لإدراك المأموم الداخل تلك الركعة، فإن فعل كره له ذلك. قال خليل: ولا يطال ركوع لداخل. وفي أقرب المسالك: وكره للإمام إطالة ركوع الداخل اهـ، أي لأجل داخل معه في الصلاة إدراك الركعة إلا لضرورة، قال الصاوي قوله: إلا لضرورة، أي بأن يخاف الضرر من الداخل على نفسه، أو اعتداه بما فاته فيفسد صلاته كبعض العوام. قال الدردير في تقريره: ما لم تكن تلك الركعة هي الأخيرة. فتحصل أن المنفرد يطيل الركوع للداخل والإمام إذا خشي ضررا من الداخل، أو فساد صلاته، أو تفويت الجماعة عليه بأن كانت تلك الركعة هي الأخيرة فلا كراهية فيه. والخوف هنا بما يحصل به الإكراه على الطلاق اهـ. انظر الحطاب والمواق. وعبارة صاحب الإكليل عند قول الشيخ خليل ولا يطال ركوع لداخل: أي يكره فعل ذلك للإمام إذا لم يخش إضراره ولا اعتداه بما لا يعتد به إن

لم يطل له الركوع، وهذا خاص بالإمام. وأما المصلي وحده إذا أحس بدخول شخص معه فله أن يطيل له الركوع، وهو مقتضى تقرير التتائي وتعليل اللخمي والقرافي وتبعه تلامذته وأقرهم الماص والعدوي اهـ. ثم ذكر المصنف موقف المأموم مع الإمام سواء كان واحدا أو متعددا، ذكرا كان أو أنثى. فقال رحمه الله تعالى: " وموقف " الرجل " الواحد " أي مع الإمام راتبا أو غيره " عن يمينه " أي عن يمين الإمام استحبابا، وندب تأخره عنه قليلا للتمييز بينه وبين الإمام. وأما الأنثى الواحدة أو النساء المتعددات فإنهن يقفن خلف الإمام. قال المصنف رحمه الله تعالى: " والواحدة خلفه " يعني أن المرأة الواحدة تقف خلف الإمام سواء كانت زوجته أو غيرها. قال في الرسالة: والرجل الواحد مع الإمام يقوم عن يمينه، ويقوم الرجلان فأكثر خلفه، فإن كانت امرأة معهما قامت خلفهما، وإن كان معهما رجل صلى عن يمين الإمام والمرأة خلفهما، ومن صلى بزوجته قامت خلفه، والصبي إن صلى مع رجل واحد خلف الإمام قاما خلفه إن كان الصبي يعقل لا يذهب ويدع من يقف نعه اهـ. قوله: ومن صلى بزوجته قامت خلفه كأن سائلا سأل بأن قال: فما الحكم فيمن قامت المرأة عن يمينه كما يقوم الرجل هل تبطل الصلاة بمحاذاة المرأة أم لا، فأجاب المصنف رحمه الله تعالى بقوله: " ولا تبطل بقيامها إلى جنبه " يعني أن وقوف المرأة إلى جنب الإمام لا يبطل الصلاة، بل صلاة كل منهما صحيحة. قال في الثمر الداني: ولا تقف عن يمينه، أي يكره لها ذلك، وينبغي أن يشير إليها بالتأخر. ولا تبطل صلاة واحدة منهما بالمحاذاة إلا أن يحصل ما يبطل الطهارة اهـ. وفي العزية: الأفضل أن يقف الرجل الواحد عن يمين الإمام والاثنان فصاعدا خلفه اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويقف الاثنان خلفه والنساء خلفهم " هذا ظاهر مفهوم لا يحتاج إلى زيادة إيضاح. ثم ذكر المصنف حكم من أحرم ودخل مع

الإمام لكنه وقف خلف الصف. قال رحمه الله: " ويجوز وقوف " الرجل " الواحد وراء الصف ولا يجذب إليه أحدا " يعني أنه لا ينبغي للمصلي خلف الصف أن يجذب أحدا ولا أن يجذبه أحد وفعل ذلك خطأ، وفي العزية: وتجوز الصلاة منفردا خلف الصف. قال الشيخ العلامة عبد الباقي الزرقاني في شرحه على العزية: قوله خلف الصف أي إن عسر عليه وقوفه به، وتحصل له فضيلته لنيته الدخول فيه لولا التعسر، وإلا كرهت وتفوته فضيلته حينئذ، وفضيلة الجماعة حاصلة في قسمي التعسر وعدمه. وكما تجوز الصلاة خلفه لعذر وتكره لغيره يجوز - كما لابن القاسم - لمن ضاق به الصف في التشهد أن يخرج أمامه أو خلفه، ويكره فعله لغير عذر، والمصلي خلف الصف يكره له جذب أحد من الصف أو ممن يريد الدخول فيه ليقف معه خلفه، ويكره للمجذوب مطاوعته وهو خطأ منهما اهـ. قال العدوي في حاشيته على الخرشي: قال تت: ولم يذكروا عين الحكم أي في الجذب أهل الكراهة أو المنع، قال والظاهر الكراهة كما قيد عن بعض الشيوخ انتهى كلامه. قال خليل في الجائزات: وصلاة منفرد خلف صف، ولا يجذب أحدا، وهو خطأ منهما، يعني أنه يجوز للمنفرد أن يصلي خلف الصف ولا يجذب إليه أحدا من المأمومين، فإن فعل وأطاعه الآخر فهو خطأ منهما أي من الجاذب لفعله والمجذوب لإطاعته. ويقال حبذ وجذب لغتان قاله في القاموس. وليست مقلوبة، ووهم الجوهري. وفي قوله ولا يجذب إلخ دليل على أنه لم يجد موضعا في الصف وإلا كره (¬1) وقوله: وصلاة منفرد إلخ مع حصول فضل الجماعة وفوات فضيلة الصف حيث كره فعله وإلا حصلت له فضيلة الصف أيضا لأنه كان ناويا الدخول فيه اهـ الخرشي. وفي المواق: قال مالك في المدونة: من صلى خلف الصف وحده أجزأه، ولا بأس أن يصلي كذلك وهو الشأن، ولا يجذب إليه أحدا، فإن جذبه أحد ليقيمه معه فلا يتبعه، وهذا خطأ من ¬

(¬1) أي كره له أن يقف وحده خلف الصف مع وجود مكان فيه.

الذي يفعله ومن الذي جبذه. قال ابن رشد: من صلى وحده وترك فرجة بالصف أساء، قال مالك في رواية ابن وهب: ويعيد أبدا والمشهور أنه أساء ولا إعادة عليه اهـ. وقال الحطاب عند قول خليل وصلاة منفرد خلف صف: يريد مع كرهة ذلك من غير ضرورة كما يفهم من قوله: وركع من خشي فوات ركعة دون الصف اهـ باختصار. وقال الدردير في أقرب المسالك: وأحرم من خشي فوات ركعة دون الصف إن ظن إدراكه قبل الرفع وإلا تمادى إليه إلا أن تكون الأخيرة، ودب كالصفين لآخر فرجة راكعا أو قائما في ثانيته لا جالسا أو ساجدا، وإن شك في الإدراك ألغاها وقضاها بعد سلامه، كأن أدركه في الركوع وكبر للإحرام في انحطاطه اهـ. وإلى ذلك أشار المصنف بقوله " و " يجوز وقوف الرجل الواحد وراء الصف " لإدراك الركوع " أي لأجل إدراكه الركوع مع الإمام، هذا إن لم يجد مدخلا، قال بل " وإن وجد مدخلا إن قرب " يعني يجوز للمسبوق أن يركع دون الصف لإدراك الركعة قبل أن يرفع الإمام رأسه ولو كانت بين يديه فرجة حيث يخشى بالذهاب إليها فوت الركعة، فله أن يركع دون الصف ليدرك الركوع مع الإمام، ثم يدب ويصل إلى الصف إن قرب بكصفين. قال العلامة الدردير على أقرب المسالك: يعني إن وجد الإمام راكعا وخاف أنه إن استمر للصف رفع الإمام رأسه من الركوع فتفوته الركعة فإنه يحرم ويركع دون الصف ثم يدب في ركوعه إلى الصف ويرفع برفع الإمام. قال الصاوي إنما أمر بذلك لأن المحافظة على الركعة والصف معا خير من المحافظة على أحدهما فقط اهـ. ثم ذكر المصنف ما يلزم المأموم من النية والمتابعة والمساواة في نفس الصلاة وسائر هيئاتها وغير ذلك مما يتعلق بالاقتداء فقال رحمه الله تعالى: " ويلزم المأموم نية الاقتداء " يعني أن للاقتداء شروطا أي التي لا يصح الاقتداء إلا بها قد عدها بعضهم ثلاثة، وبعضهم خمسة. قال صاحب العزية: فصل شروط صحة صلاة المأموم خمسة:

الأول الاقتداء، وهو أن ينوي أنه مأموم بالإمام، وأن صلاته تابعة لصلاته، فإن تابعه من غير نية بطلت صلاته اهـ. قال العلامة الشيخ عبد الباقي الزرقاني في شرحه على العزية: فإن تابعه من غير نية اقتداء مع عدم إخلال بشيء مما يطلب فيها فتصح، ويقع ذلك غالبا ممن يعلم في الإمام شيئا يقدح في صلاته وخشي بصلاته منفردا عنه الضرر، أو من أهل البدع الذين يرون عدم صحتها خلف غير معصوم. قال العدوي أي ولا يخلو الزمان عن معصوم عندهم. قال وعندنا لا معصوم إلا الأنبياء والملائكة اهـ، قلت وقول الزرقاني: فإن تابعه من غير نية إلخ هذا في غير الجمعة، وأما هي فتبطل عليه قولا واحدا لعدم صحتها للفذ فتنبه. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ومساواته في عين الصلاة " يعني أن الشرط الثاني من شروط صحة الاقتداء المساواة في عين الصلاة في ظهرية أو غيرها من الصلوات الخمس، فلا يصلي ظهرا خلف عصر، ولا العكس، ولا يصلي قضاء خلف من يصلي أداء، ولا العكس، ولا يأتم مفترض بمتنفل بخلاف العكس فيجوز مع الكراهة. ولا بد من اتحاد عين الصلاة وزمنها. قال في أقرب المسالك: فلا يصح صبح بعد شمس بمن أدرك ركعة قبلها، أي قبل الشمس فاقتدى به في الركعة الثانية لأنها للإمام أداء وللمأموم قضاء. قال الصاوي: فالبطلان جاء من هذه الحيثية، ومن حيث اختلافهما في النية اهـ. وإلى هذا أشار المصنف بقوله رحمه الله تعالى: " فلا يأتم قاض بمؤد ولا بعكسه، ولا مفترض بمتنفل بخلاف عكسه " يعني أنه قد تقدم في المسألة قبل هذا أنه يشترط المساواة في عين الصلاة قضاء وأداء. وفي العزية: أي من شروط صحة الاقتداء أن لا يأتم مفترض بمتنفل، وأن يتحدا في الأداء والقضاء، فلا يصلي ظهرا قضاء خلف من يصليه أداء، ولا العكس اهـ كما تقدم. وفيها أيضا الخامس أي من شروط صحة الاقتداء المتابعة في الإحرام والسلام، فلو أحرم أو سلم قبل الإمام، أو ساواه فيهما بطلت صلاته. وأما

غيرهما فالسبق فيه غير مبطل لكنه حرام والمساواة فيه مكروه اهـ. ويجمع ما تقدم ما أشار به العلامة الدردير في أقرب المسالك بقوله: ومساواة في ذات الصلاة وصفتها وزمنها، إلا نفلا خلف فرض، فلا يصح صبح بعد شمس بمن أدرك ركعة قبلها، ومتابعة في إحرام وسلام، فالمساواة مبطلة، وحرم سبقه في غيرهما، وكره مساواته، وأمر بعوده له إن علم إدراكه اهـ. هذا كما في الرسالة. ونصها: ولا يرفع أحد رأسه قبل الإمام، ولا يفعل إلا بعد فعله، ويفتح بعده، ويقوم من اثنتين بعد قيامه، ويسلم بعد سلامه، وما سوى ذلك فواسع أن يفعله معه وبعده أحسن اهـ. ثم ذكر المصنف حكم المسمع وما قيل فيه، قال رحمه الله تعالى: " والصحيح " أي من الأقوال: " صحة صلاة المسمع " في نفسه " و " صحة " الصلاة به " أي الاقتداء بالإمام بسبب سماع صوته، كما يجوز اتخاذه ونصبه ليسمع المأمومين برفع صوته بالتكبير فيعلمون فعل الإمام؛ لأن المسمع علم على صلاة الإمام. قال العلامة خليل في الجائزات: ومسمع واقتداء به. أي وجاز اتخاذه ونصبه ليسمع المأمومين فيعلمون فعل الإمام ليقتدوا به بسبب سماع صوت المسمع، والأفضل رفع الإمام صوته حتى يسمع المأمومين ويستغنى عن المسمع قاله في جواهر الإكليل. قال الخرشي: وفي قوله واقتداء به مسامحة لأن الاقتداء إنما هو بالإمام، أي وجاز للمقتدي أن يعتمد في انتقالات الإمام على صوت المسمع اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ولو قام بين يدي الإمام وأمكنه الاقتداء جاز " يعني أن المأموم ولو مسمعا لو وقف بين يدي الإمام أو بحذائه بحيث يمكنه ضبط أحوال إمامه من أقواله وأفعاله جاز له ذلك، وصح اقتداؤه إذا كان معذورا في ذلك، وإن لم يكن له عذر كره له ذلك مع صحة الصلاة. قال في العزية: تصح صلاة المأموم إذا تقدم على الإمام، لكنه يكره إذا كان لغير ضرورة اهـ. قال الصفتي فائدة: تصح

فصل في من يلحق بأحكام الجماعة

صلاة المأموم إذا تقدم على الإمام ولا إعادة عليه، ولو تقدم عليه جميع المأمومين متعمدين لذلك لا إعادة عليهم على المعتمد، كما في حاشية الخرشي، لكن إن كان التقدم عليه لضرورة فلا كراهة، وإن كان لغير ضرورة فيكره اهـ. ولما أنهى الكلام على ما يتعلق بأحكام الجماعة والإمامة وما يلزم المأمومين انتقل يتكلم في أحكام وأمور شتى وذلك على التفصيل، فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في من يلحق بأحكام الجماعة هذا الفصل ملحق بأحكام الصلاة في الجماعة، عقده المصنف في أمور متفرقة فبدأ بحكم من صلى وحده في بيته، أو لم يدرك مع لإمام ما يحصل به فضل الجماعة، فقال رحمه الله تعالى: " المنفرد بصلاة يندب إلى الإعادة في جماعة إلا المغرب " يعني أن من صلى وحده يستحب له الإعادة في الجماعة ليحصل فضلها إلا المغرب فلا يعيدها. وقد تقدم لنا الكلام في ذلك في فصل قبل هذا عند قول المصنف الجماعة سنة مؤكدة فراجعه إن شئت. قال المصنف رحمه الله تعالى: " يعيد بنية الفرض " قد تقدم أيضا أنه يعيد مأموما مفوضا أي ناويا بذلك التفويض فراجعه إن شئت. ثم ذكر المصنف شيئا مما يكره فقال رحمه الله تعالى: " ويكره لغير " الإمام " الراتب إقامة الجماعة بعده " يعني أنه يكره إعادة الصلاة جماعة مرة ثانية بعد أن صلى الإمام الراتب في المسجد الذي يرتب فيه الصلوات الخمس أو بعضها، بل لو صلى الراتب منفردا يكره للجماعة ذلك بعده. قال في الرسالة ويكره في كل مسجد له إمام راتب أن تجمع فيه الصلاة مرتين، والإمام الراتب إن صلى وحده قام مقام الجماعة،

أي في حصول فضيلة الجماعة المتقدمة وفي الحكم، فلا يعيد في جماعة أخرى، ولا تجمع الصلاة في ذلك المسجد مرة أخرى. ومن صلى وحده يعيد معه ويجمع وحدة ليلة المطر كما تقدم لأن المشقة حاصلة في حقه. ويقول سمع الله لمن حمده ولا يزيد ربنا ولك الحمد اهـ. أبو الحسن. قال المصنف رحمه الله تعالى: " لا بالعكس " يعني أنه لا يكره للإمام الراتب إن صلى الجماعة في مسجده قبله أي له أن يصلي بجماعة أخرى ولا كراهة عليه ما لم يؤخر كثيرا وإلا كره. قال العدوي في حاشيته على أبي الحسن: فإذا لم يؤخر كثيرا فيجوز له الجمع بعد جمع غيره حيث كان بغير إذنه وإلا كره اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " كذلك " لا " يكره " تكرارها " أي تعدد الصلاة جماعة بعد أخرى " بمسجد لا راتب له " والمعنى أنه يجوز تكرار الجماعة بلا كراهة في المسجد الذي لا راتب له. قال العدوي: والكراهة إنما هي في الذي هو راتب فيه وأما ما لا راتب له فلا يكره تعدد الجماعة فيه اهـ. قال خليل في المكروهات: وإعادة جماعة بعد الراتب وإن أذن، وله الجمع غيره قبله إن لم يؤخر كثيرا وخرجوا إلا بالمساجد الثلاثة فيصلون بها أفذاذا إن دخلوها اهـ. قال الخرشي قوله: وإعادة جماعة إلخ، يعني أنه يكره للجماعة أن يجمعوا في مسجد وما تنول منزلته من كل مكان جرت العادة بالجمع فيه كسفينة أو دار، له إمام راتب بعد صلاة إمامه ولو أذن في ذلك؛ لأن للشرع غرضا في تكثير الجماعات ليصلي الشخص مع مغفور له فلذلك أمر بالجماعات وحض عليها، فإذا علموا بأنها لا تجمع في المسجد مرتين تأهبوا أول مرة خوفا من فوات فضيلة الجماعة. ومن فضله شرع الجمعة لأنه قد لا يكون في الجماعة مغفور له، ثم شرع العيد لاجتماع أهل البلدان المتقاربة، ثم شرع الوقف الأعظم إذ يجتمع

فيه أهل الأقطار، وفيه اعتناء بالعيد. واحترز بالجماعة من الواحد فإنه لا يكره له أن يصلي قبل الإمام أو بعده ما لم يعلم تعمده مخالفة الإمام بتقديم أو تأخير فيمنع. وبقوله إمام راتب: احترز من غيره فإنه لا يكره أن تجمع فيه الصلاة مرتين فأكثر. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ومن أدرك بعض الصلاة لم يقم إلا بعد سلام إمامه، فإن قام قبله لم يعتد بما فعل، وعاد ليقوم بعده ليقضي ما فاته على صفته " يعني أن المسبوق إذا أدرك شيئا من صلاة الإمام مما يدرك به فضل الجماعة، كأن يدرك معه ركعة كاملة فأكثر، فإنه لا يقوم لقضاء ما فاته إلا بعد سلام الإمام، فإن قام قبل سلام إمامه يؤمر بالرجوع ليقوم بعد سلامه، ولا يعتد بما فعل قبل ذلك. قال في الرسالة: ومن أدرك ركعة فأكثر فقد أدرك الجماعة فليقض بعد سلام الإمام ما فاته على نحو ما فعل الإمام في القراءة، وأما في القيام والجلوس ففعله كفعل الباني المصلي وحده اهـ. قال العلامة الزروق في شرحه على الرسالة عند قول مصنفها فليقض بعد سلام الإمام ما فاته: يعني أنه لا يقضي إلا بعد سلام الإمام، فلو ظنه سلم فقال ثم بان له أنه لم يسلم رجع إليه ولو لم يعرف ذلك إلا بسلامه أو بعده. ومعنى القضاء هنا إتيانه بما بقي عليه من بقية صلاته التي فاتته مع الإمام وإلا فهو بان في الأفعال قاض في الأقوال، لقوله على نحو ما فعل الإمام. وفي كلامه إشكال من حيث إنه أحال مجهولا على مجهول وهو فعل الباني المصلي وحده إذ لم يتقدم له ذكر، والمقصود من ذلك أن من فسد له - وهو فذ - ركعة فأكثر من صلاته بنى على ما صح له منها وعمل على أنه أول صلاته، وكذلك هذا في أفعال صلاته لا في أقوالها، فالمأموم على حدته في بنائه والمدرك واسطة بينهما، فإذا أدرك مثلا ركعة من العشاء الأخيرة يأتي بركعة بأم القرآن وسورة جهرا لأن الإمام كذلك فعل، ثم يجلس بعدها لأنها ثانية بنائه، ثم بأخرى بأم القرآن وسورة جهرا أيضا ثم ركعة بأم القرآن فقط

وهذه طريقة الأكثر اهـ. وبقي في المسألة طريقتان انظر شراح الرسالة وغيرها من كتب المذهب. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وتدرك الصلاة ركعة لا بدونها، لكنه يبني على إحرامه " يعني أخبر المصنف رحمه الله تعالى أن المسبوق يدرك الصلاة - بمعنى فضل الجماعة - بإدراك ركعة كاملة بسجدتيها لا بأقل منها، لكن إن أدرك أقل من ركعة فإنه يبني على نيته بأن يتم صلاته منفردا لأنه بمجرد الإحرام لزمه إتمامها. قال العلامة ابن جزي في القوانين الفقهية في الباب الثامن عشر: فروع ثلاثة: الفرع الأول: من ركع فمكن يديه من ركبتيه قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع فقد أدرك الركعة عند الأربعة، فإن شك هل رفع الإمام رأسه أم لا لم يعتد بتلك الركعة ولا يعتد بإدراك السجود. الفرع الثاني: إذا لم يدرك المسبوق ركوع الركعة الأخيرة فدخل في السجود أو الجلوس فقد فاتته الصلاة كلها، فيقوم فيصليها كاملة، فإن جرى له ذلك في الجمعة صلاها ظهرا أربعا. وقال أبو حنيفة ركعتين جهرا. الفرع الثالث: إذا قام المسبوق بعد سلام الإمام قام بتكبير إن كان جلوسه مع الإمام موضع جلوس له، وذلك بأن يصلي معه ركعتين، وإلا قام بغير تكبير وذلك إذا صلى معه ركعة أو ثلاثا. وقيل بتكبير اهـ. قال العلامة أبو الضياء السيد خليل: وإنما يحصل فضلها بركعة، أي بإدراك ركعة فأكثر مع الإمام بأن يدركه قبل أن يرفع من الركوع وإن لم يطمئن إلا بعده بأن ينحني قبل رفع الإمام من الركوع. ونقل ابن عرفة عن ابن يونس وابن رشد أن فضلها يحصل ويدرك بجزء قبل سلام الإمام، وأما حكمهما فلا يثبت إلا بركعة لا بأقل منها، وحكمها أن لا يقتدي به ولا يعيد في جماعة، ويترتب عليه سجود سهو إمامه وتسليمه عليه وعلى من على يساره وصحة استخلاف اهـ. جواهر الإكليل. قال المصنف رحمه الله تعالى: " فإن أدركه راكعا أو ساجدا كبر للإحرام ثم

فصل في قضاء الفوائت

للهوي و " إن أدركه حال كونه " قائما " كبر " للإحرام فقط " هذا ظاهر. قال ابن عاشر في مرشد المعين على الضروري من علوم الدين: وأحرم المسبوق فورا ودخل ... مع الإمام كيفما كان العمل مكبرا إن ساجدا أو راكعا ... ألفاه لا في جلسة وتابعا يعني أن المسبوق إذا دخل فوجد الإمام يصلي فإنه يكبر تكبيرة الإحرام فورا أي بنفس دخوله ويدخل مع الإمام كيفما وجده قائما أو راكعا أو ساجدا أو جالسا، ثم إن كان قد وجده في الجلوس وأحرى في القيام فلا يكبر إلا تكبيرة الإحرام فقط كما قال المصنف، انظره في ميارة. قال الشيخ خليل: وكبر المسبوق لركوع أو سجود بلا تأخير، لا لجلوس. ولما أنهى الكلام على هذا الفصل انتقل يتكلم على حكم قضاء الفوائت وترتيبها وما يتعلق بها من اشتراط الذكر والقدرة على الوجه الذي تبرأ به الذمة، فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في قضاء الفوائت اعلم أن هذا الفصل مما ينبغي به الإنسان أي المكلف ليتدارك ما فاته من فرائض الأعيان من الصلوات وغيرها، فالمراد تداركها وقضاؤها وترتيبها على هيئتها التي فاتت عنها من كونها في الحضر أو السفر، ولذا قال رحمه الله تعالى: " يجب ترتيب الفوائت مع الذكر، خمس فما دونها، تقدم على الحاضرة " يعني أنه يجب على المكلف أن يجمع همته ويبذل جهده في تخليص نفسه بإدراك ما فاته مما أوجب الله عليه. قال صاحب العزية: يجب على المكلف قضاء ما فاته من الصلوات المفروضة مرتبة في أي وقت كان، ويجب ترتيب الحاضرتين المشتركتين في الوقت، فإن خالف أعاد الثانية أبدا.

ويجب تقديم الفوائت على الحاضرة وإن خرج وقت الحاضرة ما لم تزد على خمس صلوات، فإن زادت عليها على أحد القولين المشهورين، أو على الأربع على المشهور الآخر قدمت الحاضرة إذا ضاق وقتها اهـ. وفي الرسالة: ومن عليه صلوات كثيرة صلاها في كل وقت من ليل أو نهار، وعند طلوع الشمس وعند غروبها، وكيفما تيسر له، وإن كانت يسيرة أقل من صلاة يوم وليلة بدأ بهن وإن فات وقت ما هو في وقته، وإن كثرت بدأ بما يخاف فوات وقته اهـ. وفي الأخضري: يجب قضاء ما في الذمة من الصلوات، ولا يحل التفريط فيها، ومن صلى كل يوم خمسة أيام فليس بمفرط، ويقضيها على نحو ما فاتته، إن كانت حضرية قضاها حضرية وإن كانت سفرية قضاها سفرية سواء كان حين القضاء في حضر أو سفر. والترتيب بين الحاضرتين وبين يسير الفوائت مع الحاضرة واجب مع الذكر. واليسير أربع صلوات فأدنى. ومن كانت عليه أربع صلوات فأقل صلاها قبل الحاضرة ولو خرج وقتها أي وقت الحاضرة ويجوز القضاء في كل وقت، ولا يتنفل من عليه القضاء ولا يصلي الضحى ولا قيام رمضان، ولا يجوز له إلا الشفع والوتر والفجر والعيدان والخسوف والاستسقاء ويجوز لمن عليهم القضاء أن يصلوا جماعة إذا استوت صلاتهم. ومن نسي عدد ما عليه من القضاء صلى عددا لا يبقى معه شك. اهـ اعلم يا أخي وفقنا الله تعالى لما يحب ويرضى إذا ذكر المصلي صلاة وهو في الصلاة التي تليها كأن ذكر الظهر في العصر مثلا فالتي هو فيها وهي العصر تبطل وإليه أشار رحمه الله بقوله: " وتبطل بذكرها فيها " أي بمجرد ذكرها إن كانتا حاضرتين، وأما لو كانت المذكورة فائتة بأن خرج وقتها لم تفسد بمجرد الذكر إلا أن يفسدها، وظاهر ما في الرسالة فسادها بمجرد الذكر، ونصها: ومن ذكر صلاة في صلاة فسدت هذه عليه اهـ. وفي العزية: ومن ذكر فائتة في وقتية يجب ترتيبها معها فإن كان فذا قطع ما لم يعقد ركعة بوضع يديه عللا ركبتيه، فإن عقدها ضم إليها أخرى وخرج عن شفع، وإن كان إماما قطع ولا يستخلف، ويسري ذلك لصلاة المأمومين،

وإن كان مأموما تمادى مع إمامه، فإذا فرغ صلى ما نسي ثم يعيد ما صلى مع الإمام في الوقت، فإذا كانت جمعة صلاها ظهرا اهـ. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: " وبعدها يعيدها في الوقت " أي إنه إذا تذكر المنسية بعد أن سلم من الثانية فإنه يعيدها في الوقت استحبابا بعد أن يأتي بالمنسية التي هي الأولى لتقدم وقتها قبل هذه المعادة التي هي الثانية. انظره في الفواكه عند قول صاحب الرسالة: ومن ذكر صلاة في صلاة إلخ قال ابن جزي: المسألة الرابعة ترتيب الفوائت مع المفعولات مثل أن يصلي الظهر ثم يذكر فوائت، فإن فرغ منها قبل خروج الوقت الضروري أعاد الظهر استحبابا لأن ترتيب المفعولات مستحب في الوقت اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وليأت بعدد ما يبرئه " قال ابن جزي: فيجب أن يأتي بما تبرأ به ذمته بيقين، كمن شك هل ترك واحدة أو اثنتين صلى اثنتين اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ففي نهارية مجهولة يصلي النهاريات " يعني إن جهل عين الصلاة المتروكة لكنه تيقن أنها نهارية فيجب عليه أن يأتي بما تبرأ به ذمته بيقين بأن يصلي الصبح والظهر والعصر. قال رحمه الله: " و " إن جهل عين الصلاة المتروكة " في ليلية كذلك " يعني أنه يصلي صلاتين ليلتين وهما (¬1) " العشاءين " أي المغرب والعشاء ولا تبرأ الذمة إلا بهما. هذا إذا تيقن في ذلك أن المتروك صلاة واحدة وعلم أنها نهارية أو ليلية، وأما إن جهل كونها ليلية أو نهارية بأن كانت واحدة وجهل عين الوقت، وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وفي " نسيان الصلاة أو تركها ولو عمدا مع " جهلة من أيهما " كانت المنسية أو المتروكة أهي ليلية أو نهارية فإنه يصلي الصلوات " الخمس " إذ الذمة لا تبرأ إلا بذلك. قال خليل: وإن جهل عين منسية مطلقا صلى خمسا، وإن علمها دون يومها صلاها ناويا له اهـ قال ابن جزي: الثاني: ¬

(¬1) لا داعي لقوله وهما، لأنه لا يتفق مع إعراب المتن.

الشك في تعينها فيجب أن يأتي بما تبرأ به ذمته بيقين، كمن نسي صلاة لا يدري أي الخمس هي صلى خمسا، فإن نسي نهارية صلى صبحا وظهرا وعصرا، أو ليلية صلى مغربا وعشاء اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وفي " جهل عين وقت صلاتين " اثنتين " منسيتي وقتهما مع علم عينهما إلا أنه " لا يدري السابقة " منهما فإنه يصلي " ثلاثا يعيد المبدوء بها " يعني أنه إن نسي ترتيب صلاتين معينتين من يومين لا يدري السابقة منهما بأن لم يعلم عين اليومين، أو لم يعلم السابق منهما فإنه يصلي ثلاثا بأن يصلي صلاتين ثم يعيد المبدوء بها. قال الشيخ خليل: وفي صلاتين من يومين معينتين لا يدري السابقة صلاهما وأعاد المبتدأة اهـ. وقال ابن جزي: الثالث: الشك في ترتيبهما مع علم عددهما، كمن نسي ظهرا وعصرا إحداهما للسبت والأخرى للأحد لا يدري أيهما للسبت ولا للأحد فالمشهور مراعاة الترتيب، فيصلي ثلاث صلوات ظهرا بين عصرين أو عصرا بين ظهرين ليحصل الترتيب بيقين. قال والقانون في ذلك أن تضرب عدد الصلوات في أقل منهما بواحد وتزيد على المجموع واحدا، فلو نسي ثلاثا صلى سبعا، وإن نسي أربعا صلى ثلاث عشرة، وإن نسي خمسا صلى إحدى وعشرين، وأي صلاة بدأ بها ختم بها اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " في نسيان صلاتين " متوالتين مجهولتي العين والسبق " صلى وجوبا " ستا كذلك " أي مثل ذلك الحكم المتقدم من إعادة المبدوء بها للترتيب، وهذا الحكم من كونه يصلي ستا هو المشهور يؤيد ما قاله قول الشيخ خليل، خلافا لما في الدردير على أقرب المسالك، ونصه: وفي جهل صلاة وثانيتها، كأن يعلم أن عليه صلاتين الثانية منهما تلي الأولى ولم يدر أهي الظهر مع العصر، أو العصر مع المغرب، أو المغرب مع العشاء، أو العشاء مع الصبح، صلى خمسا فقط لا ستا، فإذا بدأ بالظهر ختم بالصبح. قال الصاوي في حاشيته عليه: الحاصل أن ما قاله المصنف - يعني به الدردير - مبني

على المعتمد من أن ترتيب الفوائت في أنفسها واجب غير شرط. وقول خليل في هذه المسألة وما بعدها صلى ستا مبني على أن الترتيب واجب شرطا، يبدأ بالظهر ويختم بها على هذا القول. وقد صورنا ذلك عند قول المصنف لكن في عمله يثني بباقي المنسي، انظره مع باقي الكلام في كلا الكتابين اهـ بزيادة إيضاح. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " في جهل عين " ثلاث " من الصلوات كظهر وعصر ومغرب من ثلاثة أيام معينة أم لا ولم يدر السابقة منها قال صلى " سبعا " لتبرأ ذمته بأن يصليها مرتبة أي متوالية، ويعيدها كذلك، ويعيد التي ابتدأ بها. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " في جهل عين " أربع " من الصلوات الفوائت المتوالية من يوم وليلة، ولا يدري سبق الليل والنهار، ولا عكسه، وهي الصلاة وثانيتها وثالثتها ورابعتها قال صلى " ثمانيا ". الخمس مرتبة ويعيد الأولى والثانية والثالثة للترتيب. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " جهل عين " خمس " من الصلوات كذلك أي متوالية لا يدري السابقة منها قال صلى " تسعا " قال الشيخ خليل: في هذه المسائل الثلاث وصلى في ثلاث مرتبة من يوم لا يعلم الأولى سبعا وأربعا ثمانيا وخمسا تسعا. قال الخرشي: لما قدم أن من جهل عين منسية يصلي خمسا، ومنسية وثانيتها يصلي ستا، وكان الضابط لذلك أنه كلما زاد واحدة زادها على الخمس الثابتة للواحدة، فإذا نسي ثلاث صلوات مرتبة، أي متوالية من يوم وليلة ولا يعلم الأولى منها فإنه يصلي سبع صلوات مرتبة لأن للواحدة المجهولة من الثلاث خمسا، فيبدأ بالظهر ويختم بالعصر. وإذا نسي أربع صلوات مرتبة أي متوالية من يوم وليلة ولا يعلم الأولى منها فإنه يصلي ثماني صلوات مرتبة، لأن للواحدة المجهولة من الأربع خمسا، وإذا نسي خمس صلوات متوالية من يوم وليلة ولا يعلم الأولى منها فإنه يصلي تسع صلوات، لأن للواحدة المجهولة من الخمس خمسا، فقوله هنا من يوم أي وليلة، ولا بد أن لا يعلم سبق الليل لليوم وعكسه وفهم من قوله لا يعلم الأولى أنه لا

حكم تارك الصلاة

يعلم أعيان الصلوات اهـ. وفي جواهر الإكليل: وإن علم تقدم الليل صلى خمسا مبتدئا بالمغرب، وإن علم تقدم النهار صلى خمسا أيضا لكن يبدأ بالصبح، ولكنه في هذين القسمين عالم بالعين والترتيب اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وما لا يحصيهن حتى يغلب على ظنه براءته " لأن غالب الظن كاليقين، فالمدار أن يتحقق براءة ذمته ولو بغلبة الظن. قال الأخضري: ومن نسي عدد ما عليه من القضاء صلى عددا حتى لا يبقى معه شك. وقال ابن جزي في القوانين: فيجب أن يأتي بما تبرأ به ذمته بيقين، كمن شك هل ترك واحدة أو اثنتين صلى اثنتين. وفي الرسالة: ومن عليه صلوات كثيرة صلاها في كل وقت من ليل ونهار. فراجعه إن شئت. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ولا يمنع القضاء في وقت الكراهة ولا في غيره " يعني أنه يجوز القضاء في كل وقت سواء عند طلوع الشمس، أو عند غروبها، أو وقت الكراهة كبعد العصر، والمطلوب براءة الذمة مما عليه. قال مالك في المدونة: ومن نسي صلوات كثيرة أو ترك صلوات كثيرة فليصل على قدر طاقته، وليذهب إلى حوائجه فإذا فرغ من حوائجه صلى أيضا ما بقي عليه حتى يأتي على جميع ما نسي أو ترك، ويقيم لكل صلاة، ويصلي النهار بالليل ويسر، ويصلي صلاة الليل بالنهار ويجهز بصلاة الليل في النهار اهـ. حكم تارك الصلاة ثم ذكر المصنف رحمه الله تعالى حكم تارك الصلاة، وهو على قسمين: إما أن يكون الترك تهاونا وكسلا وهو مقر بوجوبها،/ وإما أن يكون الترك جحدا وهو غير مقر بوجوبها، وأشار المصنف إلى الأول بقوله: " وتارك الصلاة تهاونا ليخرج وقتها الضروري

يضرب ويهدد بعد أمره ثلاثا " وفي نسخة لخروج وقتها الضروري وهما صحيحتان أي لأجل أن يخرج أو إلى خروج وقتها الضروري من غير مبالاة ولا اكتراث فحكمه أنه يؤمر بها، ثم يهدد، ثم يضرب. وقوله بعد أمر ثلاثا أي مرة بعد مرة في وقت واحد بقدر اتساع وقت تلك الصلاة إلى أن يبقى من وقتها الضروري مقدار ركعة كاملة بسجدتيها، ولا يقدر فيها طمأنينة ولا اعتدال صونا للدماء ما أمكن، فإن صلى فلله الحمد، وإن لم يصل قتل بالسيف حدا، ويصلي عليه غير أهل الفضل والصلاح، ويدفن في مقابر المسلمين، ولا يطمس قبره، ولا يقتل بالفائتة. قال أبو الضياء سيدي خليل: ومن ترك فرضا أخر لبقاء ركعة بسجدتيها من الضروري، وقتل بالسيف حدا، ولو قال أنا أفعل، وصلى عليه غير فاضل، ولا يطمس قبره، لا فائتة على الأصح اهـ. قوله: ولو قال أنا أفعل هذا ما لم يفعل وإلا فلا يقتل. قال المصنف رحمه الله تعالى: " فإن فعل أو وعد " ترك وانتظر، فإن فعل فلله الحمد " وإلا " أي وإن لم يصل حتى خرج وقتها الضروري قال: " قتل " بالسيف " حدا " لا كفرا لأنه أقر بوجوبها إلا أنه امتنع من فعلها وماله لورثته. وأما من ترك الصلاة جحدا وعنادا فقد أجمع أهل العلم على كفره. قال المصنف عاطفا على قوله: تهاونا. " وجحدا كفرا " قال العلامة خليل: والجاحد كافر، أي مرتد عن دين الإسلام يستتاب ثلاثة أيام، فإن تمت ولم يتب يقتل بالسيف كفرا فلا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يورث ماله فهو فيء لمصالح المسلمين. وكذا كل من جحد حكما شرعيا مجمعا عليه معلوما لعامة الناس كالصوم والزكاة وغيرهما بلا عذر شرعي. قاله الأبي في جواهر الإكليل مع إيضاح اهـ. قال العلامة ابن رشد في المقدمات: فمن جحد الصلاة فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وكان ماله للمسلمين كالمرتد إذا قتل على ردته بإجماع من أهل العلم لا اختلاف

بينهم فيه، وأما من أقر بفرضها وتركها عمدا من غير عذر فاختلف أهل العلم فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كافر ينتظر به إلى آخر وقت الصلاة فإن صلى وإلا قتل وكان ماله لجميع المسلمين كالمرتد، روي هذا عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبي الدرداء، وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب: ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية أن من ترك صلاة واحدة متعمدا حتى يخرج وقتها فهو كافر حلال الدم إن لم يتب، فإن تاب وإلا قتل، وكان ماله لجميع المسلمين، كالمرتد إذا قتل على ردته اهـ. قال ابن جزي: تارك الصلاة إن جحد وجوبها فهو كافر بإجماع، وإن أقر بوجوبها وامتنع من فعلها فيقتل حدا لا كفرا وفاقا للشافعي. وقال ابن حبيب وابن حنبل: يقتل كفرا. وقال أبو حنيفة يضرب ويسجن حتى يموت أو يرجع اهـ. وقد تقدم لنا الكلام في هذه المسألة في أول كتاب الصلاة من هذا الكتاب فراجعه إن شئت. ثم شرع المصنف يذكر المواضع التي تكره فيها الصلاة بقوله رحمه الله تعالى: " وتكره الصلاة في متعبدات الكفار " أي كالكنائس، والبيع، وبيت النار. قال خليل: وكرهت بكنيسة ولم تعد. ولا فرق في الكراهة بين العامرة والخربة، ولا بين أن يصلي على فراشها أو غيره حيث صلى فيها اختيارا. وأما الإعادة فمشروطة بأن يصلي بها اختيارا وكانت عامرة وصلى على فرشها فيعيد في الوقت بمنزلة من صلى على نجاسة ناسيا. انظر الفواكه اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " والمزبلة " يعني تكره الصلاة في الموضع الذي تطرح فيه الزبالة إن لم يتيقن طهارته وإلا فلا كراهة. قال المصنف رحمه الله تعالى: " والمجزرة " أي وتكره الصلاة في الموضع الذي يعد للتذكية ما لم يتيقن منه الطهارة وإن تيقن الطهارة منه فلا كراهة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: " وقارعة الطريق " قال العلامة النفراوي في الفواكه ومحل الكراهة في المزبلة والمجزرة وقارعة الطريق عند الشك في الطهارة، وتعاد الصلاة في الوقت ولو صلى عامدا انظره اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " والمقبرة القديمة وقيل مطلقا " يعني أنه تكره الصلاة في المحل الذي يدفن فيه الناس عادة، سواء مقابر المشركين أو مقابر المسلمين، سواء عامرة أو دارسة. قال النفراوي: والنهي للكراهة حيث شك في طهارته، وأما لو تحققت نجاستها فتمنع الصلاة فيها. عند الأمن من نجاستها، ولذلك شهر العلامة خليل جواز الصلاة في المحجة والمقبرة والمزبلة إن أمنت تلك البقاع من النجس، ولا فرق بين مقبرة مسلم وكافر. ولفظ خليل: وجازت بمربض بقر أو غنم. كمقبرة ولو لمشرك، ومزبلة، ومحجة ومجزرة إن أمنت من النجس، وإلا فلا إعادة - أي أبدية - على الأحسن. إن لم تتحقق، فعلم منه أن محل النهي في الجميع إن لم توقن طهارة تلك البقاع. قال المصنف رحمه الله تعالى: " والحمام إلا أن يكون موضعا طاهرا مستورا " يعني أي وتكره الصلاة في المحل الذي يعد للاستحمام، أي للاغتسال بالماء الحميم (¬1) أي المسخن إلا أن يكون طاهرا متيقنا بعدم النجاسة فيه فلا كراهة إذا، كخارجه وهو موضع نزع الثياب فتجوز الصلاة فيه بدون توقف حيث لم يتيقن نجاسته، لأن الغالب على خارجه الطهارة. قال المصنف رحمه الله تعالى: " والدار المغصوبة " يعني وتكره الصلاة في الدار التي أخذها الظالم قهرا وعجز صاحبها عن تخليصها منه، فالصلاة فيها مكروهة. قال النفراوي في الفواكه: لكن لا إعادة معها على المشهور. ¬

(¬1) الحميم: الماء الحار. واستحم: اغتسل بالماء الحار.

قال المصنف رحمه الله تعالى: " والحجر " بكسر الحاء، أي حجر إسماعيل عليه السلام، وهو بناء مقوس حول الكعبة، فالصلاة فيه تارة قد تكون ممنوعة وتارة قد تكون مطلوبة وتارة قد تكون مكروهة على التفصيل كما يأتي عن قريب إن شاء الله تعالى. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " يمنع الفرض في الكعبة وعلى ظهرها أشد " يعني أن الصلاة المفروضة ممنوعة في الكعبة والحجر، وتأكد المنع في إيقاع الصلاة المفروضة على ظهرها. قال العلامة الشيخ أحمد النفراوي في الفواكه: وحاصل ما يتعلق بالصلاة داخل الكعبة أو خارجها، أن الصلاة داخلها على ثلاثة أقسام: إن كانت مندوبة تستحب، وإن كانت رغيبة أو سنة تمنع ابتداء وتصح بعد الوقوع ولا تعاد، وإن كانت مفروضة تمنع وتعاد في الوقت الاختياري، وأول بالنسيان، وبالإطلاق. قال خليل: وجازت سنة فيها وفي الحجر لأي جهة، لا فرض فيعاد في الوقت، وأول بالنسيان، وبالإطلاق. قال المحققون من شراحه معنى جازت: سنة مضت، وأما الصلاة خارجها فإن كانت تحتها فهي باطلة ولو نافلة ولو كان بين يديه جميع جدارها، والفرض والنفل سواء، وإن كان فوقها فالفرض باطل، وأما صلاة النفل على ظهرها ففيها قولان بالصحة وعدمها. والدليل على ذلك الكتاب والسنة والعمل اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وقيل بإباحة النافلة فيها دون الفريضة " وفي نسخة بإسقاط لفظ فيها، والصواب إثباته، والضمير في فيها يعود إلى الكعبة. قال خليل: وجازت سنة قيها وفي الحجر لأي جهة إلخ فراجعه إن شئت. وقال العلامة الشيخ أحمد الزروق في شرح الرسالة: المشهور جواز النفل في الكعبة، لا الفرض ولا الوتر ولا ركعتي الفجر. وقال أشهب بجواز جميع ذلك اهـ مع إيضاح. وقال ابن جزي في القوانين: وتكره في المذهب الصلاة على غير الأرض وما تنبته اهـ.

قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويشترط طهارة موضعها كالثوب " وكأن المصنف رحمه الله تعالى رجع إلى إتمام ما فاته في باب الطهارة من ذكر بعض شروط الصلاة وهو موضع طاهر، كما أن طهارة الثوب والبدن من شروطها مع الذكر والقدرة، وتسمى بطهارة الخبث كما تقدم لنا بيان ذلك في أول كتاب الطهارة. قال في الرسالة: وطهارة البقعة للصلاة واجبة وكذلك طهارة الثوب، فقيل إن ذلك فيهما واجب وجوب الفرائض، وقيل وجوب السنن المؤكدة انظر آخر فصل ستر العورة من هذا الكتاب عند قول المصنف وإزالة النجاسة إلخ تجد هناك ما يشفي العليل إن شاء الله تعالى. قال المصنف رحمه الله تعالى: " فإن ستر النجاسة بما لا يحركها صحت كما لو كانت في طرف بساط وصلى على الآخر " يعني أن المصلى على محل النجس له أن يجعل شيئا كثيفا ساترا ويصلي عليها إذا كانت لا تتحرك بحركاته، سواء كان مريضا أو صحيحا. قال خليل: ولمريض ستر نجس بطاهر ليصلي عليه، كالصحيح على الأرجح اهـ قال المواق من المدونة قال مالك: لا بأس أن يصلي المريض على فراش نجس إذا بسط عليه ثوبا طاهرا كثيفا؛ وقال ابن يونس. قال بعض شيوخنا إنما رخص في هذا للمريض خاصة، وقال بعضهم بل ذلك جائز للصحيح، لأن بينه وبين النجاسة حائلا طاهرا، كالحصير إذا كان بموضعه نجاسة، والسقف إذا صلى بموضع طاهر وتحرك منه موضع النجس أن ذلك لا يضره لأن ما صلى عليه طاهر فكذلك هذا. قال ابن يونس. وهو الصواب اهـ. وعليه مشى صاحب العزية بقوله: وإذا كان المكان نجسا وجعل عليه ساترا طاهرا كثيفا - بمثلثة - أي ثخينا جازت الصلاة عليه مطلقا، أعني للمريض والصحيح على ما رجحه ابن يونس اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " والشمس لا تطهر " يعني أن الشمس ليست

من المطهرات للنجاسة. هذا مذهب جمهور أهل العلم، خلافا لأبي حنيفة. قال العلامة الشيخ محمد بن عبد الرحمن الدمشقي العثماني الشافعي في كتاب " رحمة الأمة في اختلاف الأئمة " فصل ليس للنار والشمس في إزالة النجاسة تأثير إلا عند أبي حنيفة، حتى إن جلد الميتة إذا جف في الشمس طهر عنده بلا دبغ، وكذلك إذا كان على الأرض نجاسة فجفت في الشمس طهر موضعها، وجازت الصلاة عليه، لا التيمم به، وكذلك النار تزيل النجاسة عنده اهـ، انظر مبحث فيما تزال به النجاسة في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة تجد فيه كلام الحنفية في نفس المسألة. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويعفى عن يسير ما عدا الأخبثين " هما البول والغائط وما عداهما قال: " وهو قدر الدرهم فدونه " من كل مستقذر، يعني أن الشريعة السمحاء قد خففت عن العباد بعض النجاسة التي يشق عليهم غسلها بالماء تلطفا من الله سبحانه وتسامحا في الدين. قال العلامة النفراوي في الفواكه: خاتمة، ذكر العلامة خليل ضابطا كليا لما يعفى عنه مما هو محقق النجاسة أو مظنونها بقوله: وعفي عما يعسر كحدث مستنكح، وبلل باسور في يد أو ثوب إن كثر الرد، وثوب مرضعة تجتهد، ودون درهم من دم مطلقا، وقيح وصديد، وبول فرس لغاز بأرض حرب، وأثر ذباب من عذرة، وموضع حجامة مسح، كطين مطر وإن اختلطت العذرة بالمصيب ولم تغلب، وذيل امرأة مطال للستر، ورجل بلت يمران بنجس يبس يطهران بما بعده، وخف ونعل من روث دواب وأبوالها إن دلكا بغير الماء، لأن الخف والنعل والقدم والمخرجين وموضع الحجامة والسيف الصقيل يجزي فيها زوال النجاسة بغير الماء اهـ. وفي العزية: فصل يعفى عن يسير الدم مطلقا، أعني سواء كان دم حيض أو نفاس أو ميتة رآه في الصلاة أو خارجها من جسده أو غيره، ويسير القيح والصديد، واليسير ما دون الدرهم، والمراد بالدرهم البغلي الدائرة التي تكون بباطن الذراع من البغل، وعن أثر الدمل

إذا لم ينك، أي لم يعصر، وعن دم البراغيث، وطين المطر وإن كانت العذرة فيه إلا أن تكون النجاسة غالبة أو يكون لها عين قائمة اهـ. ولله در القائل: وكل ما شق فعنه يعفى ... لعسره والدين يسر لطفا كثوب قصاب وثوب المرضعه ... وبلل الباسور أو ما ضارعه ومثله طين الرشاش والمطر ... أو حدث مستنكح أو كالأثر من دمل لم ينك أو ذباب ... إن طار عن نجس على الثياب أو خرء يرعوث ودون الدرهم ... من عين قيح أو صديد أو دم أو ما على المجتاز مما سلا ... وصدق المسلم فيما قالا قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويطهر المحل بانفصال الغسالة غير متغيرة " قال خليل: والغسالة المتغيرة نجسة. الحطاب: الغسالة هي الماء الذي غسلت به النجاسة، ولا شك في نجاستها إذا كانت متغيرة، وسواء كان تغيرها بالطعم أو اللون أو الريح اهـ يعني كما في عبارة الخرشي أن المحل النجس يطهر بغسله بالماء الطهور بشرط أن ينفصل الماء عن المحل طهورا باقيا على صفته، ولا يضر التغير بالأوساخ والصبغ الطاهر على المعتمد، وأما لو انفصل متغيرا كالثوب الأزرق المتنجس وانفصل الماء متغيرا على صفتها فإن المنفصل منه نجس، وإن انفصل الماء عن المحل طهورا فالغسالة طاهرة ولا يلزم عصره لأن الفرض أن الماء انفصل طهورا، والباقي في المحل كالمنفصل والمنفصل طاهر اهـ مع التقديم والتأخير. ولما أنهى الكلام على حكم البقاع وما يتعلق بذلك انتقل يتكلم على أحكام السهو فقال:

فصل في سجود السهو

فَصْلٌ في سجود السهو أي إن المصنف عقد هذا الفصل في بيان أحكام سجود السهو وصفته ومحله. والسهو بمعنى الذهول عن الشيء سواء تقدم ذكره أم لا؛ لأنه أعم من النسيان. وحكمه - أي سجود السهو - أنه سنة على المشهور كما في المختصر، وهو مذهب المصنف، ولذا قال رحمه الله تعالى: " سجود السهو يجزئ عن ترك السنن " وأنه عبر بالإجزاء إشارة لما في حكمه من الخلاف حتى في المذهب. قال ابن جزي في القوانين: سجود السهو واجب وفاقا لأبي حنيفة. وقيل سنة وفاقا للشافعي. وقيل بوجوب القبلي خاصة اهـ وفي الطراز: وجوب البعدي قاله التتائي، وقد علمت أن المشهور سنيته كما تقدم. قال أبو البركات الشيخ أحمد الدردير في أقرب المسالك: يسن لساه عن سنة مؤكدة أو سنتين خفيفتين، أو مع زيادة ولو شكا سجدتان قبل السلام، ولو تكرر إلخ. ولا فرق في سنية سجود السهو بين الفرض والنافلة، كما لا فرق في ذلك بين القبلي والبعدي. وقول المصنف: (يجزئ عن ترك السنن) يشعر بأن غير السنة كالفرض لا ينجبر بالسجود، وهذا أيضا إشارة إلى أن محل السجود ترك السنة المؤكدة كما تقدم بيان ذلك. قال العلامة الشيخ صالح عبد السميع في هداية الناسك: ليس كل نقص ينجبر بالسجود، إذ من النقص ما لا ينجبر إلا بالإتيان به، مثل لو ترك ركنا من الصلاة كالركوع مثلا، ومنه ما لا يطلب له سجود مثل ما لو ترك فضيلة أو سنة خفيفة، بل السجود للفضيلة مبطل للصلاة، وإنما الذي ينجبر بالسجود السنن المؤكدة وهي ثمانية. قراءة ما زاد على أم القرآن، والسر والجهر في الفريضة كل في محله، والتكبير سوى تكبيرة الإحرام، وقول سمع الله لمن حمده، والتشهد الأول، والجلوس له، والتشهد الأخير. ولا يسجد لغير هذه الثمانية، فمن ترك شيئا من هذه الثمانية سجد سجدتين قبل السلام وبعد أن يتمم تشهده الأول والثاني ثم يتشهد ويسلم، إذ من سنة السلام أن يعقب تشهدا، وهو

اختيار ابن القاسم. وقيل لا يعيد التشهد وهو مروي عن مالك أيضا، واختياره عبد الملك لأن سنة الجلوس الواحد لا يتكرر فيه التشهد مرتين اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وهو للزيادة " في الصلاة يسجد لذلك " بعد السلام " يعني أن المصلي يسجد سجدتين بعد أن يسلم، ولا يقرأ لهما شيئا، وذلك لأجل الزيادة كما قال العلامة عبد الرحمن الأخضري: وللزيادة سجدتان بعد السلام، يتشهد بعدهما ويسلم تسليمه أخرى اهـ قال ابن جزي في صفة السجود: يكبر للسجدتين في ابتدائهما وفي الرفع منهما، واختلف هل يفتقر البعدي إلى نية الإحرام أم لا قلت: والصحيح أن البعدي يفتقر إلى النية: كما يأتي عن المصنف ويتشهد للبعدي ويسلم، وأما القبلي فإن السلام من الصلاة يجزئ عنه، وفي التشهد له روايتان اهـ. وفي الرسالة: وكل سهو في الصلاة بزيادة فليسجد له سجدتين بعد السلام يتشهد لهما ويسلم منهما، ولك سهو بنقص فليسجد له قبل السلام إذا تم تشهده ثم يتشهد ويسلم. وقيل لا يعيد التشهد. قال في أقرب المسالك: وأعاد تشهده بلا دعاء قلت: إعادة التشهد هو المشهور كما في الشارح. وقال الصاوي في حاشيته عليه: قوله: وأعاد تشهده أي استنانا على المشهور خلافا لمن قال بعدم الإعادة، وخلافا لمن قال بالندب اهـ وفي العزية: ويعيد التشهد في القبلي ثم يسلم اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وللنقص أو اجتماعهما قبله " يعني أن المصلي يسن له أن يسجد سجدتين قبل السلام إن نقص سنة أو سنتين أو أكثر غير خفيفة بل مؤكدة، أو نقص مع زيادة. قال العلامة الشيخ عبد الباري في مقدمته: وإن نقص وزاد سجد قبل سلامه لأنه يغلب جانب النقص على جانب الزيادة. وفي العزية: ومحل سجود السهو مختلف، فالزيادة فقط يسجد لها بعد السلام، والنقص فقط أو النقص والزيادة يسجد لهما قبل السلام اهـ. كما نص عليه في الرسالة فراجعه إن شئت. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ولا يتكرر بتكرره " أي إن سجود السهو

لا يتكرر ولو تكرر السهو، أي بمعنى موجب السجود، أي وكان التكرار قبل السجود، أما إن كان التكرار بعده فإن السجود يتكرر، كما إذا سجد المسبوق مع إمامه القبلي ثم سها في قضائه بنقص أو زيادة فإنه يسجد لسهوه ولا يجتزئ بسجوده السابق مع الإمام، وإليه أشار الأخضري: وإذا سها المسبوق بعد سلام الإمام فهو كالمصلي وحده، أو تكلم المصلي بعد سجوده في القبلي وقبل سلامه فإنه يسجد بعد السلام أيضا، وكذا إذا زاد سجدة في القبلي فإنه يسجد بعد السلام. وقيل لا شيء عليه، كما لا شيء عليه أصلا لو زاد سجدة في البعدي نقله الصاوي عن الدسوقي اهـ باختصار. ثم بين المصنف صفة السجود بقوله: " ويحرم للتين بعد السلام " هذا تصريح من المصنف على أن البعدي يفتقر إلى نية كما قررناه سابقا، وعلى أنهما سجدتان لا أكثر ولا أقل ويسجدهما وهو جالس " ويتشهد ويسلم " منهما تسليمة أخرى كما تقدم. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ومن سها عنهما فعلهما متى ذكر " يعني أن من ترك سجدتي السهو سواء كان الترك سهوا أو عمدا أو غيرهما فإنه يطالب بإتيانهما ولو بعد طول الزمان لأن السجود البعدي ترغيم للشيطان فناسب أن يسجده وإن طال الزمان، بخلاف القبلي فإنه جابر لنقص الصلاة فلذا طلب وقوعه فيها أو عقبها مع القرب. قال في الرسالة: ومن نسي أن يسجد بعد السلام فليسجد متى ما ذكره وإن طال ذلك، وإن كان قبل السلام سجد إن كان قريبا، وإن بعد ابتدأ صلاته إلا أن يكون ذلك من نقص شيء خفيف كالسورة مع أم القرآن أو تكبيرتين، أو التشهدين وشبه ذلك فلا شيء عليه اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وهل يتشهد للتين قبله قولان " وتقدم أن

المشهور من القولين إعادة التشهد في القبلي استنانا. قال المصنف رحمه الله تعالى: " فإن سها عنهما فعلهما بعده " يعني إن سها المصلي عن السجود القبلي ولم يتذكر حتى سلم فإنه يسجدهما. قال الأخضري: ومن نسي السجود القبلي حتى سلم سجد إن كان قريبا، وإن طال أو خرج من المسجد بطل السجود القبلي حتى سلم معه إن كان على ثلاث سنن أو أكثر من ذلك، وإلا فلا تبطل. ومن نسي السجود البعدي سجده ولو بعد عام اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " فإن طال الفصل أو انتقضت طهارته فقيل تبطل، وقيل لا إلا أن يترك فعلا كالجلوس الأول " يعني أن من نسي السجود القبلي ولم يتذكر إلا أن سلم وطال هل يبطل السجود فقط مع صحة صلاته، أو بطلت الصلاة؟ فأجاب العلامة الشيخ عبد الرحمن الأخضري بقوله رحمه الله: ومن نسي السجود القبلي حتى سلم سجد إن كان قريبا، وإن طال أو خرج من المسجد بطل السجود وتبطل الصلاة معه إن كان على ثلاث سنن أو أكثر من ذلك، وإلا فلا تبطل. قال الشارح: يعني أن من نسي السجود القبلي أي الذي يفعل قبل السلام حتى سلم من صلاته فلا يخلو إما أن يكون تذكره له عن قرب من انصرافه من الصلاة وحينئذ يأتي به ولا شيء عليه، وناب السجود البعدي عن السجود القبلي لعذره بالنسيان، وإن طال تذكره بأن بعد ما بين تذكره وانصرافه من الصلاة أو خرج من المسجد بطل السجود وتبعه بطلان الصلاة حيث كان مترتبا عن نقص ثلاث سنن. قال التتائي كالتحقيق: كنسيان الجلوس الوسط، أو ثلاث تكبيرات، أو تحميدات، وأما إن كان مترتبا عن سنتين خفيفتين كالسورة التي تقرأ بعد أم القرآن، وكالتحميدتين وطال الأمر فلا سجود عليه ولا بطلان اهـ هداية المتعبد. وقال ابن جزي: وإن نسي القبلي سجد ما لم يطل أو يحدث، فإن طال أو أحدث بطلت الصلاة على المشهور. وقيل إنما تبطل إن كان عن

نقص فعل لا قول، فإن ذكر البعدي في صلاة تمادى وسجد بعدها، وإن ذكر القبلي فهو كذاكر صلاة في صلاة اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويرجع تاركه ما لم يستقل عن الأرض، فإن عاد بعده بطلت إلا أن يرجع ساهيا أو جاهلا " يعني أن من سها عن الجلوس الأول يؤمر بالرجوع قبل أن يستقل قائما، وإن رجع فلا سجود عليه إلا أن يفارق الأرض بيديه وركبتيه، فإن رجع مفارقة الأرض فإن يسجد بعد السلام للزيادة، وأما بعد الاستقلال فلا يرجع، فإن رجع بعد استقلاله قائما بطلت صلاته في القول الأصح. وقيل لا تبطل. قال في الرسالة: ومن قام من اثنتين رجع ما لم يفارق الأرض بيديه وركبتيه، فإذا فارقها تمادى ولم يرجع وسجد قبل السلام اهـ انظر شراح الرسالة. قال العلامة الشيخ عبد الرحمن الأخضري: ومن قام من ركعتين قبل الجلوس فإن تذكر قبل أن يفارق الأرض بيديه وركبتيه رجع إلى الجلوس ولا سجود عليه، وإن فارقها تمادى ولم يرجع وسجد قبل السلام، وإن رجع بعد المفارقة وبعد القيام ساهيا أو عامدا صحت صلاته وسجد بعد السلام اهـ. يعني أن حكم من قام من اثنتين من صلاة الفريضة قبل أن يجلس أي تزحزح للقيام ثم تذكر قبل أن يفارق الأرض بيديه وبركبتيه فإنه يرجع ثم يتشهد ويتم صلاته ولا سجود عليه على المشهور لخفة الأمر في ذلك، فإن تمادى على القيام عامدا بطلت صلاته على المشهور؛ لأنه ترك ثلاث سنن عامدا. وقيل لا تبطل على الخلاف في ترك السنة عمدا، فحكم الرجوع الوجوب على الأول والسنة على الثاني، وإن تمادى ناسيا سجد قبل السلام. قوله فارقها تمادى ولم يرجع وسجد قبل السلام، وإن رجع بعد المفارقة وبعد القيام ساهيا أو عامدا صحت صلاته وسجد بعد السلام، هذا صادق بصورتين: الأولى: أن يفارق الأرض بيديه وركبتيه ولم يعتدل قائما، ثم تذكر بعد أن فارق الأرض بيديه وركبتيه، والثانية: أن يفارق الأرض ويعتدل قائما، والحكم

فيهما واحد وهو ما ذكره المصنف أنه يتمادى على صلاته ولا يرجع ويسجد قبل السلام، لكن عدم الرجوع في الأولى على المشهور وعليه لا تبطل صلاته إن رجع إلى الجلوس عمدا أو سهوا أو جهلا ويسجد بعد السلام لتحقق الزيادة، وفي الثانية: متفق عليه، فإن رجع إلى الجلوس عامدا ففي التوضيح المشهور الصحة، وعليه يسجد بعد السلام لتحقق الزيادة، وإن رجع جاهلا ففي النوادر عن سحنون تفسد صلاته، وإن رجع ناسيا فلا تبطل صلاته اتفاقا. قاله العلامة الشيخ صالح بن عبد السميع الآبي الأزهري في هداية المتعبد، وفي شرحه على الرسالة المسمى بثمر الداني اهـ. قال خليل في المختصر: ورجع تارك الجلوس الأول إن لم يفارق الأرض بيديه وركبتيه ولا سجود، وإلا فلا تبطل إن رجع ولو استقل، وتبعه مأمومه وسجد بعده اهـ. انظر شراحه. قال المصنف رحمه الله تعالى: " أما الأركان فلا يجزئ إلا الإتيان بها " يعني أن من ترك ركنا من أركان الصلاة فلا يجزئه السجود لأن السجود لا يجبر الركن بل الواجب الإتيان به قبل فوته. قال المصنف: " ما لم يفت محل التلافي، فإن فات بطلت الركعة " فقط ويطالب بإتيانها إن كان بقرب ذلك بأن يرجع ويحرم بنية إتمام الصلاة ويأتي بتلك الركعة المتروكة ويتشهد ويسلم ثم يسجد بعد السلام. هذا إن كان الترك من الركعة الأخيرة. قال في الرسالة: ومن انصرف من الصلاة ثم ذكر أنه بقي عليه شيء منها فليرجع إن كان بقرب ذلك، فيكبر تكبيرة يحرم بها ثم يصلي ما بقي عليه، وإن تباعد ذلك أو خرج من المسجد ابتدأ صلاته، وكذلك من نسي السلام اهـ. قال خليل: وبنى إن قرب ولم يخرج من المسجد بإحرام ولم تبطل بتركه وجلس له على الأظهر، وأعاد تارك السلام التشهد اهـ. وفي الأخضري: ومن نقص فريضة فلا يجزيه السجود عنها. قال الشارح لأن جبر الخلل الواقع في الصلاة بالسجود مخصوص بغير الفرائض. وأما الفرائض فلا تجبر بالسجود اتفاقا، بل إن أمكنه تدارك المتروك أتى به وإلا بطلت الصلاة،

فمن تيقن أنه ترك ركعة كاملة، أو شك في الترك حال تشهده وقبل سلامه فلا بد من الإتيان بتلك الركعة، وكيفية الإتيان بها أنه يأتي بها بانيا على ما سبق من الركعات، فلو كانت تلك الركعة إحدى الأوليين فإنه يسجد بعد ذلك قبل السلام لانقلاب الركعات فيتحقق له الزيادة والنقص، فإن لم تكن من إحدى الأوليين فإنه يسجد بعد الإتيان بتلك الركعة بعد السلام لتمحيض الزيادة. انظر اختلاف العلماء فيمن سها عن قراءة الفاتحة في ركعة في هداية المتعبد اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ومن ذكر في آخر صلاته سجدة لا يعلم محلها سجد وأتى بركعة " واحدة " عند ابن القاسم " بأن يسجد تلك السجدة المتروكة ثم يأتي بركعة ويتشهد ويسلم ويسجد بعد السلام " وقال أشهب بركعة فقط " أي إذا كانت السجدة المتروكة من الركعة الأخيرة فيسجدها كما قال المصنف رحمه الله تعالى: " وفي كونها من الأخيرة يسجد لا غير " وحاصل ما ذكره المصنف وغيره على ما نقله العلامة الشيخ حسين بن إبراهيم المغربي ثم المكي أنه ذكر فائدة جليلة في فتاويه قال: إذا ترك ركنا من أركان الصلاة سهوا فإن كان من الركعة الأخيرة ولم يسلم فإنه يتداركه، فإن كان المتروك الفاتحة انتصب قائما فيقرؤها ثم يتم ركته، وإن كان الركوع رجع قائما ثم يركع، وإن كان الرفع منه رجع محدودبا فإذا وصل حد الركوع اطمأن ثم يرفع ويكمل ركعته، وإن كان سجودا واحدا سجده وهو جالس وأعاد التشهد وسلم، وإن كان سجدتين وتذكرهما وهو جالس وقد انحط بنية الجلوس فإنه يرجع قائما ليأتي بالسجدتين منحطا لهما منه، فإن لم يفعل وسجدهما من جلوس سهوا فقد نقص الانحطاط للسجدتين وهو ليس بواجب، إذ لو كان واجبا لم ينجبر بسجود السهو فإنه لو انحط أولا للجلوس ثم سجد السجدتين منه فإن صلاته لا تبطل، لكنه يكره تعمد ذلك، فإن سلم من الأخيرة معتقدا الكمال ثم تذكر ترك ركن منها فات التدارك واستأنف ركعة بدلها إن

لم يطل فإن طال بطلت صلاته. ويسجد بعد السلام في جميع ما تقدم للزيادة. وإن كان الركن المتروك من غير الأخيرة وتداركه إن لم يعقد ركوع الركعة التي بعدها، فإن عقده برفع الرأس من الركوع بطلت ركعة النقص ورجعت الثانية أولى، فإن كانت ركعة النقص هي الأولى صارت الثانية مكانها ويأتي بركعة بأم القرآن وسورة ويتشهد ويسجد بعد السلام، وإن كانت ركعة النقص هي الثانية صارت الثالثة ثانية، وهي بفاتحة فقط فيتشهد بعدها ويأتي بركعتين بفاتحة فقط ويسجد قبل السلام لنقص السورة من التي صارت ثانية مع الزيادة، وإذا كانت ركعة النقص هي الثالثة صارت الرابعة ثالثة ويسجد بعد السلام، وإذا تذكر وهو في الجلوس الثاني أنه ترك ركنا من الأولى رجعت الثانية أولى والثالثة ثانية والرابعة ثالثة فيأتي بركعة بالفاتحة فقط سرا ويسجد قبل السلام لنقص السورة والتشهد الأول لأنه صار ملغى بوقوعه بعد الأولى والزيادة ظاهرة، وكذا إن تذكر بعد السلام بقرب يلغه، فإن بطلت اهـ " قرة العين، بفتاوى علماء الحرمين " للشيخ حسين إبراهيم مفتي السادة المالكية بمكة المكرمة سابقا رحمه الله تعالى. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ومن جهل كم صلى بنى على الأقل " يعني من أن نسي عدد ما صلى فإنه يبني على اليقين؛ لأن الذمة لا تبرأ إلا باليقين. قال في الرسالة: ومن لم يدر ما صلى أثلاث ركعات أم أربعا بنى على اليقين وصلى ما شك فيه وأتى برابعة وسجد بعد سلامه اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " فإن ترك الفاتحة من ركعة أجزأه السجود على الأشهر إلا أن تكون ثنائية فتبطل على قول القاضي " يعني أن المصلي إذا ترك الفاتحة في ركعة واحدة اختلف العلماء فقيل يعيد الصلاة، وقيل يلغي الركعة ويقضيها، وقيل يسجد للسهو قبل السلام والقول الأخير هو الذي مشى عليه المصنف بقوله أجزأه السجود على الأشهر إلخ. وقوله على قول القاضي يعني به الشيخ أبا محمد عبد الله

بن أبي زيد القيرواني. قال العلامة الشيخ صالح بن عبد السميع في هداية المتعبد: واختلف في السهو عن القراءة في ركعة من غير الصبح كالرباعية كالرباعية أو الثلايتة على ثلاثة أقوال كلها في المدونة، فقيل يجزئ عن القراءة في ركعة من غير الصبح سجود السهو قبل السلام، واختار هذا القول عبد الملك بناء على أنها فرض في الجل وقيل بلغيها أي الركعة التي ترك منها قراءة الفاتحة ويأتي بركعة بدلها لفوات تداركها ويسجد بعد السلام حيث جلس بعد ركعتين صحيحتين بحيث قرأ فيهما الفاتحة والسورة، وإلا سجد قبل السلام لزيادة الركعة الملغاه ونقص الجلوس والسورة من الثانية التي ظنها ثالثة، واختار هذا القول ابن القاسم، وهذا يقتضي وجوبها في كل ركعة. وصحح ابن الحاجب القول بوجوبها في كل ركعة. وقال ابن شاس هي الرواية المشهورة. وقيل يسجد قبل السلام ولا يأتي بركعة بدلها ويعيد الصلاة احتياطا. قال الأجهوري: وإنما أمر بالاحتياط لبراءة ذمته مراعاة لمن يقول بوجوبها في كل ركعة وبإعادة افترقت الرواية الثالثة من الأولى اهـ. وتقدم لنا الكلام في تارك الفاتحة في الركن الرابع من أركان الصلاة عند قول المصنف: والمشهور وجوبها إلخ فراجعه إن شئت. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وإن ترك تكبيرة الإحرام ابتدأ " يعني أن المصلي إذا ترك تكبيرة الإحرام وجب عليه أن يبتدئ صلاته لبطلانها لعدم الركن الأول وكأنه لم يدخل الصلاة. قال مالك في الموطأ، ومثله في المدونة فيمن نسي تكبيرة الافتتاح أنه يستأنف صلاته. وقال في إمام نسي تكبيرة الافتتاح حتى يفرغ من صلاته، قال أرى أن يعيد ويعيد من خلفه الصلاة، وإن كان من خلفه قد كبروا فإنهم يعيدون اهـ. وتقدم لنا الكلام على تكبيرة الإحرام في الركن الثاني من أركان الصلاة فراجعه إن شئت.

قال المصنف رحمه الله تعالى: " والمؤتم يحرم ويدرك ما لم يركع إمامه، وقيل ما لم يرفع " يعني أن المأموم يحرم ويدرك الإمام ما لم يعقد إمامه ركعة، فإذا عقدها فاته محل التدارك. واختلف هل عقد الركعة يكون بالركوع أو برفع الرأس منه، والمشهور عند ابن القاسم أن عقد الركعة يكون برفع الرأس من الركوع إلا في مسائل فيتفقان فيها، على أن عقدها يحصل بوضع يديه على ركبتيه. وتلك المسائل هي ترك سر أو جهر بموضعهما، وتقديم السورة على أم القرآن، وتكبير عيد، وسجدة تلاوة، وذكر بعض صلاة، وإقامة مغرب عليه وهو بها، فإن عقد الركعة يحصل في الجميع بالركوع أي بالانحناء. وبه يفوت محل التدارك. وقول المصنف ما لم يركع، وقيل ما لم يرفع إشارة إلى القولين. وقال العلامة المحقق مفتي المالكية بمكة سابقا الشيخ حسين بن إبراهيم المغربي في " قرة العين " فيمن ترك ركنا من أركان الصلاة أنه يتداركه ما لم يعقد ركوع الركعة التي بعدها إلى أن قال: فإن عقده برفع الرأس من الركوع لأن عقده عند ابن القاسم برفع رأسه مطمئنا معتدلا، فمن لم يعتدل تدارك ما فاته. قال: وكذا المسبوق إذا كبر للإحرام وانحنى بعد رفع الإمام رأسه وقبل اعتداله فقد أدرك الركعة معه إلا في مسائل فعقد الركوع فيها بالانحناء عند ابن القاسم، وهي كما تقدم ترك الركوع من ركعة فيفوت لمجرد الانحناء من التي تليها، وتقوم هذه الركعة مقام ما قبلها، أو ترك سر الفاتحة، أو سورة فيفوت تداركه بالانحناء، فإن خالف وعاد للقراءة على سنتها بطلت صلاته، أو ترك جهر كذلك، أو ترك تكبير عيد كلا أو بعضا حتى انحنى فكذلك، أو ترك سورة بعد فاتحة، أو ترك سجدة تلاوة في فرض أو نفل حتى انحنى ساهيا عنها، أو ذكر بعضا من صلاة أخرى قبل التي هو فيها، والمراد بالبعض المتروك ما يشمل البعض حقيقة أو حكما كالسجود القبلي المترتب عن ثلاث سنن فبالانحناء

يفوت التدارك وتبطل الصلاة التي ترك منها البعض الحقيقي أو الحكمي للطول بالركوع. ثم قال: هذا حاصل ما في أقرب المسالك مع زيادة من حاشية الخرشي اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " فإن أدركه راكعا فأمكنه أن يحرم ويدركه قبل رفعه صحت، وبعد رفعه الصحيح أنه يبتدئ، وقيل إن كبر للركوع مضى وأعاد إيجابا. وقال ابن الماجشون استحبابا " يعني أن المسبوق الذي أدرك الإمام راكعا فإن أمكنه أن يكبر وهو قائم قبل اعتدال الإمام قائما فعل ولحقه وقد حصلت له تلك الركعة وصحت. وإن تحقق أنه ما حصل له الركوع إلا من بعد رفع رأسه واعتداله قائما فالصحيح أنه لا يعتد بتلك الركعة، فإن اعتد بها بطلت صلاته ووجب عليه الإعادة. وقيل إن كبر للركوع مضى مع إمامه وأعاد صلاته إيجابا. وقال ابن الماجشون يعيدها استحبابا، ولعل وجه قول ابن الماجشون ما رواه مالك رحمه الله في الموطأ من أهن قال: ولو سها مع الإمام عن تكبيرة الافتتاح وكبر في الركوع الأول رأيت ذلك مجزيا عنه إذا نوى بها تكبيرة الافتتاح اهـ. قال العلامة ابن رشد في المقدمات في الكلام على تكبيرة الإحرام: فإذا نسي المأموم تكبيرة الإحرام وكبر للركوع ولم ينو بها تكبيرة الإحرام تمادى مع الإمام وأعاد، وإن نوى بها تكبيرة الإحرام أجزأته صلاته وحمل عنه الإمام القراءة اهـ. وتقدم لنا الكلام في المسبوق الذي أدرك بعض صلاة الإمام فراجعه إن شئت في فصل المنفرد بصلاة من هذا الكتاب. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويسجد المؤتم لسهو إمامه " يعني أن المأموم غير المسبوق يسجد مع إمامه مطلقا قبليا أو بعديا، أي يلزمه أن يتابعه في سجود سهوه مهما كان.

قال رحمه الله: " فأما المسبوق إن سجد إمامه قبل سلامه سجد معه " على المشهور، وأما إن كان سجوده بعديا فلا يسجد معه حتى يأتي بقضاء ما عليه ثم يسجد بعدي إمامه، فإن قدمه على القضاء أو سجد مع الإمام عمدا، أو كان تقدمه ذلك عمدا أو جهلا بطلت صلاته، لا إن كان ذلك سهوا فيسجد بعد السلام، وكذلك تبطل صلاته إن سجد القبلي مع الإمام إن لم يدرك معه ركعة، ثم إن المأموم مطالب بالسجود إن تركه الإمام. فإن كان السجود مترتبا عن ثلاث سنن وتركه الإمام ولم يسجد له وسجده المأموم بطلت صلاة الإمام دون صلاة المأموم، وتزاد هذه على قولهم كل صلاة بطلت على الإمام بطلت على المأموم إلا في سبق الحدث ونسيانه اهـ شارح العزية. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وقام " أي المسبوق " للقضاء بعد سلامه " الضمير عائد للإمام، يعني أن المسبوق إذا سلم الإمام قام ليقضي ما فاته من الصلاة. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وإن سجد بعد السلام لم يسجد معه " يعني أن المسبوق إذا ترتب على إمامه السجود البعدي فلا يسجد معه كما تقدم قال الأخضري: والمسبوق إن أدرك مع الإمام أقل من ركعة فلا يسجد معه لا فبليا ولا بعديا، فإن سجد معه بطلت صلاته، وإن أدرك ركعة كاملة أو أكثر سجد معه القبلي وأخر البعدي حتى يتم صلاته فيسجد بعد سلامه، فإن سجد مع الإمام فهو كالمصلي وحده، وإذا ترتب على المسبوق بعدي من جهة إمامه وقبلي من جهة نفسه أجزأه القبلي اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وهل يقوم " المسبوق " للقضاء بعد سلامه من الصلاة أو من السجود؟ قولان " يعني اختلف أهل المذهب في المسبوق بعد سلام الإمام

هل يقوم لقضاء ما فاته من الصلاة قبل فراغ إمامه من السجود البعدي، أو ينتظره حتى يسلم منه، قال ابن جزي في القوانين: المسألة الخامسة المسبوق إن سها بعد سلام الإمام وأما سهو إمامه فإن كان قبليا سجد معه مطلقا. وقال إسحاق يسجد بعد فراغه من قضائه مطلقا. وقال الشافعي يسجد معه ثم يسجد بعد فراغه. وعلى المذهب فاختلف هل يقوم لقضائه إذا سلم الإمام أو ينتظره حتى يفرغ من سجوده اهـ قلت: المشهور أن المسبوق لا يقوم لذلك إلا بعد سلام الإمام. والله الموفق للصواب. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويسجد المؤتم بعد قضائه " يعني أن المسبوق يسجد بعد السلام بعد إتيانه بما عليه مما فاته مع الإمام، كما إذا زاد إمامه وسجد لسهوه فإنه يسجد بعد إتمام صلاته كما تقدم. قال المصنف رحمه الله تعالى: " والإمام يحمل سهو المؤتم " يعني أن الإمام يحمل سهو المأموم، ما لم يترك ركنا من أركان الصلاة، فإذا ترك المؤتم ركنا من أركان الصلاة فإن الإمام لا يحمله عنه إلا إذا كان الركن المتروك فاتحة فيحملها عنه الإمام، بل إنه يكره للمأموم قراءتها خلف الإمام في الصلاة الجهرية عند المالكية. وقول المصنف: والإمام يحمل سهو المؤتم، قال العلامة الصاوي في حاشيته على أقرب المسالك: لا مفهوم السهو بل إذا تعمد ترك جميع السنن فإن الإمام يحملها عنه اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وفي تعمد ترك سنة قولان بالسجود وعدمه " يعني اختلف في ترك سنة واحدة عمدا من سنن الصلاة بالسجود قبل السلام وعدمه. وقيل تبطل به الصلاة. وفي العزية قال بعضهم: لو ترك الجهر عامدا فقيل يستغفر الله ولا شيء عليه. وقيل تبطل صلاته لأن هذا من التهاون بالسنن كما يتهاون بالفريضة. قال شارحها: ولا مفهوم للجهر بل كل سنة تركت عمدا في الصلاة فيها هذان القولان اهـ. وقال ابن جزي في

مبطلات الصلاة: وكذلك ترك سنة من سننها المذكورة عمدا يفسدها عند بعضهم اهـ. وفي المكروهات: وكره ترك سنة خفيفة عمدا من سننها كتكبيرة وتسميعة. وحرم ترك المؤكدة، قاله الدردير. وقال الصاوي في حاشيته: قوله وحرم ترك المؤكدة، أي وفيها قولان بالبطلان وعدمه والراجح يستغفر الله ولا شيء عليه. قال والجزم بالحرمة مشكل غاية الإشكال حيث كان متفقا على سنتيها، ولم يكن فيها قول بالفريضة اهـ قلت: الحاصل أن الراجح فيمن ترك سنة واحدة عمدا أن يستغفر الله ولا شيء عليه. والله أعلم. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ولا سجود لترك فضيلة " يعني أن الفضائل لا سجود لها، بل نصوا على أن من سجد قبل السلام لنقص فضيلة أعاد صلاته أبدا. مثال ذلك ما لو ترك القنوت في الصبح فظن أنه يجبر بالسجود فسجد له قبل السلام بطلت صلاته ووجب عليه الإعادة أبدا اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وعمدا الكلام لا لإصلاحها مبطل وإن قل لا سهوه إلا، يكثر " يعني أن من تكلم في الصلاة متعمدا بطلت صلاته، إلا لإصلاحها فلا تبطل بقليله بل بكثيره. وقال في المدونة: من تكلم في صلاته ناسيا بنى على صلاته ثم سجد بعد السلام، وإن كان مع الإمام فإن الإمام يحمل ذلك عنه. وفيها أيضا عن مالك بإسناده عن أبي هريرة يقول: " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر فسلم في ركعتين، فقال ذو اليدين فقال أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذلك ما لم يكن، فقال قد كان بعض ذلك يا رسول الله، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: أصدق ذو اليدين؛ فقالوا نعم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتم ما بقي من الصلاة ثم سجد سجدتين بعد السلام وهو جالس " اهـ قال العلامة الشيخ عبد اللطيف المرداسي في عمدة البيان: أن من تكلم ساهيا وكان قليلا فإنه يجزئه عن ذلك سجود السهو بعد السلام، لأن الكلام إذا كان سهوا وكان قليلا فمنجبر، وأما الكثير ولو كان سهوا فمبطل لكون المصلي يخرج بسببه عن معنى الصلاة. وأما من تكلم عامدا

لغير إصلاح الصلاة بطلت صلاته سواء كان الكلام قليلا أو كثيرا، حراما كان أو واجبا. وأما لإصلاح الصلاة فالمشهور لا تبطل صلاته. وقال ابن كنانة تبطل. وأما الجاهل قيل حكمه كحكم الساهي. وقيل حكمه كحكم العامد. وأما المكره على الكلام فقال ابن شاس تبطل صلاته اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وسعال وعطاس وغلبة بكاء " يعني أن المصلي إذا عرضت له هذه الأشياء فلا سجود عليه ولا تبطل صلاته إلا إذا كانت شديدة ومنعته من الإتيان بشيء من الفرائض فتبطل صلاته وإلا فجميعها مغتفر. قال الأخضري: وبكاء الخاشع في الصلاة مغتفر. وقال ابن جزي في القوانين: المسألة الثالثة فيما يشبه القول فالنفخ غير مبطل. وقيل يبطل عمده ويسجد لسهوه، والبكاء خشوعا حسن وإلا فهو كالكلام. والأنين كالكلام إلا أن يضطر إليه. والقهقهة تبطل مطلقا. وقيل في العمد. والتبسم مغتفر. وقيل يسجد له بعد السلام لأنه زيادة. وقيل قبل السلام لنقص الخشوع، والتنحنح لضرورة لا يبطل، ودونها فيه قولان. وقراءة كتاب إن حرك به لسانه كالكلام، وإلا فمغتفر إلا أن يطول اهـ. وفي المدونة عن مالك فيمن عطس وهو في الصلاة أنه لا يحمد الله، فإن فعل ففي نفسه. قال ابن القاسم: ورأيته يرى أن ترك ذلك خير له اهـ. ولذا قال بعضهم: ومن عطس في صلاته فلا يشتغل بالحمد، أي لا يقل الحمد لله، فإن فعل أي فإن قالها فلا شيء عليه، ولا ينبغي تشميت العاطس في حال الصلاة، فإن شمته أحد فلا يرد عليه لأنه في مناجاة مولاه. ومن تثاءب في الصلاة سد فاه، أي فليضع يده على فيه، ولا ينفث إلا في ثوبه من غير إخراج حروف. قال ابن القاسم: ورأيت مالكا إذا أصابه التثاؤب يضع يده على فيه وينفث في غير صلاة. قال ولا أدري ما فعله في الصلاة اهـ المدونة. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويبطلها سهو الحدث وغلبته " يعني أن الصلاة تبطل

بالحدث مطلقا سواء كان عمدا أو سهوا أو غلبة. قال الدردير في مبطلات الصلاة: وبطرو ناقص، أي ناقص لوضوئه من حدث أو سبب أو تذكره، ولا يسري البطلان للمأموم بحصول ذلك للإمام إلا بتعمده لا بالغلبة والنسيان. قاله الصاوي. وعبارة الشيخ صالح في الإكليل عند قول الشيخ خليل وبحدث: أي بطلت أي الصلاة بحصول ناقض فيها غلبة أو نسيانا لفذ أو مأموم، أو إمام. ولا يسري البطلان لصلاة مأمومية، فيستخلف من يتم بهم، فإن لم يستخلف وكمل بهم، أو عمل عملا بعد حدثه واتبعوه فيه بطلت عليهم، كتعمده الناقض اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " والقهقهة " وهي تقلص الشفتين مع التكشر عن الأسنان عند الإعجاب مع الصوت، وإلا فهو الضحك، والتبسم دونه. وقيل هو أول الضحك كما في الخرشي. والمعنى أن القهقهة من مبطلات الصلاة، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى ذات يوم مع أصحابه وبين يديه حفرة فأقبل رجل للصلاة وفي عينيه شيء فسقط في تلك الحفرة فضحك بعض أصحابه، فلما سلم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " من ضحك منكم فليعد الصلاة " اهـ قاله الليث بن سعد كما في المدونة. قال العلامة عبد الرحمن الأخضري: ومن ضحك في صلاته بطلت صلاته سواء كان عامدا أو ساهيا، ولا يضحك في صلاته إلا غافل متلاعب، والمؤمن إذا قام للصلاة أعرض بقلبه عن كل ما سوى الله تعالى، ويترك الدنيا وما فيها حتى يحضر بقلبه جلال الله تعالى وعظمته، ويرتعد قلبه وترهب نفسه من هيبة الله جل جلاله، فهذه صلاة المتقين اهـ. قال الشيخ خليل في المختصر: وبطلت بقهقهة، وتمادى المأموم إن لم يقدر على الترك اهـ انظر الخرشي. قال المصنف رحمه الله تعالى: " لا التبسم " أي لا تبطل به الصلاة. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وهل يسجد له قولان " يعني هل يسجد المصلي سجود السهو إذا تبسم أم لا سجود عليه؟ قال الخرشي وغيره إنه لا سجود عليه سواء كان

فصل في أحكام الرعاف

عمدا أو سهوا، غير أن العمد مكروه لأن التبسم حركة الشفتين فهو كحركة الأجفان والقدمين، وعرفه بعضهم بأنه انبساط الوجه واتساعه مع ظهور البشرى من غير صوت اهـ وفي الرسالة: ومن ضحك في الصلاة أعادها ولم يعد الوضوء، وإن كان مع إمام تمادى وأعاد، ولا شيء عليه في التبسم. والنفخ في الصلاة كالكلام، والعامد لذلك مفسد لصلاته اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " والتنحنح إن ظهر منه مقاطع الحروف فكالكلام وإلا فلا " يعني أن التنحنح في الصلاة لا شيء فيه إلا إذا ظهر منه خروج الحروف فيكون حكمه كحكم الكلام. قال العلامة ابن جزي في القوانين الفقهية: والتنحنح لضرورة لا يبطل، ودونها فيه قولان وقال الأخضري: والتنحنح للضرورة مغتفر، وللإفهام منكر ولا تبطل الصلاة به. وقال الشارح: حاصل الكلام في التنحنح أنه إن كان لضرورة ولا تبطل به الصلاة ولا سجود فيه اتفاقا. ولغير ضرورة قولان لمالك أحدهما يفرق بين العمد والسهو، والأخر لا يبطل مطلقا وبه أخذ ابن القاسم، واختاره الأبهري واللخمي لخفة الأمر اهـ. وقال الدردير: ولا تبطل بتنحنح ولو لغير حاجة اهـ. ولما أنهى الكلام على السهو وما يتعلق به انتقل يتكلم في أحكام الرعاف فقال: فَصْلٌ في أحكام الرعاف أي في الكلام على الرعاف وأحكامه قال رحمه الله: " الرعاف " يعني به خروج الدم من الأنف بلا سبب، وليس من نواقض الوضوء عند مالك رحمه الله. قال المصنف:

" إن كان قبل ركعة وأمكن التمادي معه مضى في صلاته، وإلا قطع وغسل الدم " يعني كما في القوانين. قال: ومن رعف وعلم أن الدم لا ينقطع صلى على حاله، وإن رجا انقطاعه فإن أصابه قبل الصلاة انتظر حتى ينقطع، فإن لم ينقطع إلى آخر الوقت صلى، وإن أصابه في الصلاة فتله بأصابعه وتمادى، فإن قطر أو سال خرج لغسله، وجاز له أن يقطع الصلاة بسلام أو كلام ثم يغسله ويبتدئ، وأن يبني على صلاته بعد غسل الدم. والقطع اختيار ابن القاسم، والبناء اختيار مالك. ولا يجوز البناء في غير المذهب، وإنما يجوز البناء في المذهب بخمسة شروط وهي: أن لا يتكلم، ولا يمشي على نجاسة، ولا يصيب الدم جسده ولا ثيابه، وأن يغسل الدم في أقرب المواضع، وأن يكون قد عقد ركعة بسجدتيها على خلاف في هذا. والبناء جائز في المذهب للإمام والمأموم. واختلف في المنفرد. وإذا رعف المسبوق فأراد البناء فاختلف هل يبتدئ بالبناء أو بالقضاء اهـ. قال الدردير في أقرب المسالك: فإن اجتمع له قضاء وبناء قدم البناء وجلس في أخيرة الإمام ولو لم تكن ثانيته، وفي ثانيته كمن أدرك الوسطيين أو إحداهما. فظهر على ذلك الخلاف أنه يقدم البناء على القضاء وهو المشهور. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و: " وإن كان بعد عقد ركعة بنى " يعني أن الراعف يبني على صلاته بعد غسل الدم إن كان إماما أو مأموما، وأما الفذ ففيه خلاف كما قال خليل في المختصر: وفي بناء الفذ خلاف. وقول المصنف وبنى، هو كذلك بشرط عقد الركعة فأكثر قبل أن يصيبه الرعاف وإلا فلا يبني. قال المصنف رحمه الله تعالى: " فإن كان إماما استحب أن يستخلف " يعني أنه إذا أصاب الإمام رعاف، واضطر إلى الخروج ليغسل الدم يستحب له استخلاف غيره من المأمومين الذين أدركوا معه ركعة ليكمل بهم الصلاة لعذر قائم به. وشبه في استحباب استخلافه لذلك فقال: " كغلبة الحدث " أي كما يستحب له الاستخلاف عند غلبة الحدث لبطلان صلاته. قال المصنف رحمه الله تعالى:

" فلو أتموا فرادى جاز إلا في الجمعة فيجب الاستخلاف " قال الأبي في جواهر الإكليل: فإن ترك الاستخلاف وجب عليهم في الجمعة وندب في غيرها اهـ. وقال في المختصر: إن كان بجماعة واستخلف الإمام وفي بناء الفذ خلاف اهـ قال الخرشي: يعني أن البناء إنما يكون لمن صلى مع جماعة إماما كان أو مأموما لكن إن كان إماما يستخلف استحبابا وإلا استخلفوا إن شاؤوا وإن شاؤوا صلوا أفذاذا غير الجمعة وإلا وجب الاستخلاف عليهم. وأما الفذ فهل له البناء وهو قول مالك وظاهر المدونة عند الجماعة، أو ليس له البناء فيقطع وهو قول ابن حبيب وشهره الباجي فضل الجماعة فيبني على الأول دون الثاني اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " والمؤتم يخرج وعليه حرمة الصلاة فيغسل الدم في أقرب المواضع إليه " يعني أن المأموم إذا خرج إلى غسل الدم ما زال في حرمة الصلاة ولا يفعل شيئا يخالفها إلا ما خرج لأجله بشرط أن لا يجوز مكانا يمكنه أن يغسل الدم منه، فإن جاوزه بطلت صلاته. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ثم إن ظن " أي ظن المؤتم الذي حصل منه الرعاف " إدراك البقية من الصلاة رجع " الحاصل أن المأموم الذي رعف مع الإمام إذا غسل الدم وظن أن يدرك بقية الصلاة مع إمامه وجب عليه الرجوع ليتم معه الصلاة، وإن لم يظن الإدراك معه فله أن يبني في المحل الذي هو فيه إن أمكن، وإلا فأقرب مكان ممكن. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وبنى " على صلاته التي أدرك مع الإمام منها ركعة فأكثر لا أقل. قال المصنف رحمه الله تعالى: " بشرط عدم الكلام " يعني يشترط عليه عدم الكلام حين خروجه لغسل الدم فلا يتكلم، فإن تكلم ولو سهوا بطلت صلاته كما تقدم. قال رحمه الله: " و " بشرط عدم " وطئه نجاسة " كذلك " و " بشرط عدم " تجاوزه الموضع الأقرب " أي كذلك يشترط عليه أن لا يتجاوز الموضع الذي أمكنه غسل الدم

فيه إلى أبعد منه، فإن جاوزه بطلت كما تقدم. قال رحمه الله تعالى : " و " بشرط عدم " حدثه " يعني فإن أحدث قبل بنائه أو خالف شرطا من الشروط المتقدمة، بطلت صلاته، كما تبطل باستدباره بلا عذر. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وإلا أتم مكانه " يعني وإن لم يظن إدراك بقية الصلاة مع الإمام بأن تحقق أن الإمام سلم فإنه يتم في مكانه الذي هو فيه إن أمكن كما تقدم. قال المصنف رحمه الله تعالى: " إلا في الجمعة فيرجع على كل حال " يعني إذا كان ذلك في صلاة الجمعة وجب عليه الرجوع إلى الجامع الذي صلى فيه إمامه. قال أبو محمد في الرسالة: ومن رعف بعد سلام الإمام سلم وانصرف، وإن رعف قبل سلامه انصرف وغسل الدم ثم رجع فجلس وسلم. وللراعف أن يبني في منزله إذا يئس أن يدرك بقية صلاة الإمام إلا في الجمعة فلا يبني إلا في الجامع اهـ يعني ولو ظن فراغ إمامه لأن الجامع شرط في صحة الجمعة، لكن لا يكلف بموضعه الذي صلى فيه مع الإمام، بل يكفيه أي موضع منه لأن ذلك يؤدي إلى كثرة الفعل وكثرته مبطلة لها، ولو أتم في جامع غير الذي صلى فيه أولا لبطلت صلاته وإن كان أقرب منه، قاله التتائي والأجهوري اهـ قال المصنف رحمه الله تعالى: " والصحيح أن الإمام " أي الذي استخلف غيره " إذا رجع ليس له إخراج المستخلف ليتم هو " يعني أن الإمام إذا رجع بعد زوال عذره ليس له إخراج المستخلف. قال العلامة الشيخ خليل مشبها في عدم صحة الصلاة كعود الإمام لإتمامها، أي ليتم لهم الصلاة إماما كما كان قبل العذر فتبطل عليهم إن اقتدوا به سواء استخلف حال خروجه أم لا، فعلوا فعلا قبل عوده لهم أم لا، هذا هو المشهور. قاله في جواهر الإكليل اهـ وأما عبارة الخرشي أنه قال: أي كما تبطل الصلاة إذا عاد الإمام بعد زوال عذره لإتمامها بهم سواء كأن خرج ولم يستخلف ولم يفعلوا لأنفسهم شيئا إلى أن عاد، أو استخلف عليهم ثم عاد فأخرج المستخلف وأتم بهم. وظاهر كلام المؤلف كغيره بطلان الصلاة كان العذر حدثا أو رعافا، استخلف الإمام أم لا، عملوا عملا أم لا، وليس كذلك بل البطلان محمول على ما

فصل في بيان النوافل وأوقاتها وكيفيتها

إذا كان في حدث أو رعاف بناء واستخلف الإمام، أو لم يستخلف وعملوا وعملوا عملا بعده. وأما لو لم يستخلف ولم يعملوا عملا بعده فلا تبطل اهـ. فَصْلٌ في بيان النوافل وأوقاتها وكيفيتها أي في بيان أوقات النوافل، وكيفيتها، وأنواعها ليلا أو نهارا، حضرا أو سفرا، برا أو بحرا، قال رحمه الله تعالى: " يباح التنفل في سائر الأوقات " يعني أنه يجوز صلاة النافلة في كل وقت من الليل والنهار إلا في وقت التحريم أو الكراهة، إليه أشار المصنف فقال: " إلا بعد صلاة الصبح " فتكره النافلة " حتى ترتفع الشمس " يعني تكره صلاة النافلة بعد صلاة الصبح إلى أن ترتفع الشمس قيد رمح - بكسر القاف وفتح الدال - أي قدر رمح من الرماح التي قدرها اثنا عشر شبرا بالشبر المتوسط. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وبعد العصر حتى تغرب " يعني أنه يكره التنفل بعد فرض العصر حتى تغرب الشمس، لما رواه الإمام في الموطأ بإسناده عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس " اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وفيه " أي إباحة النوافل وعدمها " عند الزوال خلاف " يعني أن الأئمة اختلفوا في إباحة النافلة وعدم الإباحة عند استواء الشمس وقبل زوالها عن كبد السماء، فكرهها الأئمة الثلاثة، لحديث عبد الله الصنابحي، وأجازها الإمام مالك رحمه الله لما جرى به عمل أهل المدينة، قال ما أدركت أهل الفضل إلا وهو يجتهدون ويصلون نصف النهار، وفي المدونة في جامع الصلاة، قال مالك: لا أكره الصلاة نصف النهار إذا استوت الشمس في وسط السماء، لا في يوم جمعة ولا في غيره. قال: ولا أعرف

هذا النهي، وما أدركت أهل الفضل والعباد إلا وهو يهجرون ويصلون في نصف النهار في تلك الساعة، ما يتقون شيئا في تلك الساعة اهـ. وقال العلامة الشيخ أبو الحسن في العزية: يحرم عليه، أي على المكلف صلاة النفل عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وعند خطبة الجمعة، وعند ضيق الوقت، أو بعد خروجه لمن عليه فرض ويكره بعد طلوع الفجر إلى أن ترتفع الشمس قيد رمح، وبعد فرض العصر إلى أن تصلي المغرب، وعند أذان الجمعة للجالس، وبعد فرض الجمعة في مصلاها. ولا تكره عند وقت الاستواء اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وليس مع الصلوات رواتب محدودة " يعني أي ليس شيء محدود من النوافل بعد المفروضات، بل يصلي ما شاء منها مثنى مثنى، فإن زاد على الوارد فله ذلك، وإن نقص عنه فلا حرج عليه. ومعنى الوارد ما ورد في الحديث نحو قوله عليه الصلاة والسلام: " من يحافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار " وفي الطبراني: " من صلى أربع ركعات قبل العصر حرم الله بدنه على النار " وفي رواية لأبي داود والترمذي: " رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا " قال العلماء: ودعاؤه صلى الله عليه وسلم مقبول. وقالوا أيضا: والأعداد الواردة في الأحاديث ليست للتحديد حتى لا يتعداه ولا ينقص عنه بل للترغيب فقط. قال العلامة عبد الوهاب الشعراني في الميزان: اتفق الأئمة الأربعة على أن النوافل الراتبة سنة، وهي ركعتان قبل الفجر، وركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء اهـ. وقال ابن الحاج في المدخل في آداب طالب العلم: ينبغي له أن يشد يده على مداومته على فعل السنن والرواتب وما كان منها تبعا للفرض قبله أو بعده، فإظهارها في المسجد أفضل من فعلها في بيته كما كان عليه الصلاة والسلام يفعل، عدا موضعين كان لا يفعلهما إلا في بيته بعد الجمعة وبعد المغرب، أما بعد الجمعة فلئلا يكون ذريعة لأهل البدع الذين لا يرون صحة الجمعة إلا خلف إمام معصوم، وأما بعد المغرب فشفقة على الأهل لأن الشخص قد يكون صائما فينتظره أهله وأولاده للعشاء

ويتشوقون إلى مجيئه فلا يطول عليهم اهـ. انظره في الحطاب. وقال العدوي في حاشيته على الخرشي: تنبيه: إنما تطلب الرواتب القبلية ممن ينتظر جماعة، لا من الفذ، ولا ممن لا ينتظرها، وات تطلب إلا مع اتساع الوقت. ولا خلاف في منعها إن ضاق اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وهي " أي الرواتب المذكورة، أو مطلق النوافل " في الليل والنهار مثنى مثنى " يعني أن نوافل الليل والنهار كلها ركعتان ركعتان. وعن مالك في الموطأ أنه بلغه أن عبد الله بن عمر، رضي الله عنه، كان يقول: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى يسلم من كل ركعتين. قال مالك: وهو الأمر عندنا اهـ. قال النفراوي: ويكره أن يصلي أربعا من غير فصل بسلام. قال الأجهوري: وإذا نوى شخص النفل أربعا خلف من يصلي الظهر ودخل معه في الأخيرة فهل له الاقتصار على ركعتين ويسلم مع الإمام أم لا، والأول هو المنقول بل يفيد النقل أنه مأمور بالاقتصار على ركعتين. قال اللخمي: اختلف الناس في عدد ركعات النفل، فذهب مالك أنه مثنى مثنى بليل أو نهار، فإن صلى ثلاثا أتم أربعا لا يزيد على ذلك، وسواء على أصله نواه أربعا ابتداء أم لا فإنه مأمور بالسلام من ركعتين، وإن دخل على نية ركعتين فصلى ثلاثا فإنه يؤمر أن يتم أربعا اهـ. وما قررناه خلافا لما مشى عليه أهل الكوفة في إجازتهم عشر ركعات، وثمانيا، وستا، وأربعا بغير سلام اهـ قاله الزرقاني على الموطأ. وقد عقد العلامة محمد بن عبد الرحمن الدمشقي فصلا في كتابه " رحمة الأمة " فقال: والسنة في تطوع الليل والنهار أن يسلم من كل ركعتين، فإن سلم من كل ركعة جاز عند مالك والشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة لا يجوز. وقال في صلاة الليل: إن شاء صلى ركعتين أو أربعا أو ستا أو ثماني ركعات بتسليمة واحدة، وبالنهار يسلم من كل أربع اهـ. قال المصنف: " والأفضل الجهر في الليل والسر في النهار " يعني كما في الرسالة يستحب في نوافل الليل الإجهار وفي نوافل النهار الإسرار، وإن جهر في النهار في تنفله

فذلك واسع اهـ. وقوله واسع أي جائز أي خلاف الأولى لا أنه جائز مستوى الطرفين. وحكى ابن الحاجب في كراهته قولين اهـ الثمر الداني، قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " الأفضل " تكثير الركوع والسجود " اعلم أن تكثير الركوع والسجود عند المصنف من تطويل القراءة مع قلة الركعات. قال خليل في المختصر. وهل الأفضل كثرة السجود أو طول القيام، قولان. رجح المصنف الأول لما فيه من كثرة الفرائض، وما تشتمل عليه من تسبيح وتحميد وتهليل وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولخبر " عليك بكثرة السجود فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط بها عنك خطيئة " اهـ. وقيل الأفضل طول القيام بالقراءة مع قلة الركعات لخبر " أفضل الصلاة القنوت " أي القيام، ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم حتى تورمت قدماه ولم يزد على إحدى عشرة ركعة في رمضان ولا في غيره. وقال الدردير في شرحه على المختصر: ولعل الأظهر الأول. وقال الحطاب: استظهر ابن رشد القول الثاني في رسم المحرم من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة. ونصه: اختلف أهل العلم في الأفضل من طول القيام أو كثرة الركوع والسجود مع استواء من الصلاة، فمن أهل العلم من ذهب إلى أن كثرة الركوع والسجود أفضل، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من ركع ركعة وسجد سجدة رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة " ومنهم من ذهب إلى أن طول القيام أفضل لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الصلوات أفضل؟ قال: " طول القنوت " وفي بعض الآثار " طول القيام " وهذا القول أظهر، إذ ليس في الحديث الأول ما يعارض هذا الحديث اهـ. انظر الحطاب إن شئت. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " الأفضل فعلها خلوة وفي نصف الليل الأخير " يعني أن فعل النوافل في الخلوات والبيوت أفضل، وفي نصف الليل أو ثلثه أو سدسه أفضل وأستر وأبعد من الرياء، ولخبر " اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة " اهـ.

وقال أبو محمد في الرسالة بعد أن ذكر فضل الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم: وهذا كله في الفرائض، وأما النوافل ففي البيوت أفضل، ولذا قال بعضهم رحمه الله تعالى في نظمه: وفي البيوت للنساء أولى ... وللرجال من يريد نفلا وفي الحديث " أفضل الصلوات بعد الفريضة الصلاة في جوف الليل " وفي الخبر أيضا " عليكم بقيام الليل فإنه مرضاة لربكم ودأب الصالحين قبلكم " وفي الرسالة: وأفضل الليل آخره في القيام، فمن أخر تنفله ووتره إلى آخره فذلك أفضل، إلا من الغالب عليه أن لا ينتبه فليقدم وتره مع ما يريد من التنفل أول الليل، ثم إن شاء إذا استيقظ في آخره تنفل ما شاء منها مثنى مثنى، ولا يعيد الوتر اهـ وما ذكر صاحب الرسالة من التنفل ليس فيه شيء محدود، بل الأمر في ذلك بحسب ما تيسر منه، فإن تيسرت الركعات الواردة في السنة أعني العدد الذي كان يوتر بعده صلى الله عليه وسلم فهو الأولى، وإن زاد على ذلك فهو خير، وإن نقص بحسب الطاقة فقد أتى بالمطلوب. وقد جاء في الخبر " قم من الليل ولو قدر حلب شاة " نسأل الله أن يوقفنا للعمل بالسنة آمين. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويجوز الجلوس مع القدرة على القيام " يعني أنه يجوز للمتنفل أن يفتتح صلاته جالسا مع القدرة على القيام، أو يفتتحها قائما ويجلس كذلك. قال الأخضري: وأما النافلة فيجوز للقادر على القيام أن يصليها جالسا وله نصف أجر القائم، ويجوز أن يدخلها جالسا ويقوم فيمتنع جلوسه بعد ذلك اهـ، قال الشارح: يعني أن القيام في الصلاة على جهة الوجوب والشرطية إنما هو في صلاة الفرض، وأما النفل فلا يشترط فيه

القيام ولو للقادر عليه، فله أن يصليه من جلوس ابتداء بأن يحرم به وهو جالس ويتممه كذلك، وله أن يحرم به من جلوس ثم يأتي به من قيام، وله أن يحرم به من قيام ثم يأتي به من جلوس، وله أن يأتي بركعة من قيام وركعة من جلوس، كل ذلك جائز إلا إذا نوى أن يأتي بالنافلة من قيام فلا يجوز له بعد ذلك أن يأتي بها من جلوس. فجميع الأحوال التي تقدمت من حيث الجواز والصحة، وأما من حيث الثواب فليس له إلا النصف من الثواب لنقص بعض ما يحصل به التواضع وهو القيام، لأن الجزاء من جنس العمل اهـ، قاله الشيخ صالح عبد السميع في هداية المتعبد. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " تجوز صلاة النافلة " على الراحلة " أي على الدابة " في سفر القصر حيثما توجهت به " يعني يجوز أن يصلي النافلة على الدابة في حالة السفر حيثما توجهت به دابته بشرط أن يكون السفر يجوز له أن يقصر فيه الصلاة كما تقدم ذلك في الكلام على استقبال القبلة فراجعه إن شئت. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وفي السفينة يستدبر " يعني أنه قد تقدم فيما نقلناه من كلام ابن جزي أنه قال: ويصلي في السفينة إلى القبلة فإن دارت استدار. روى ابن حبيب أن يتنفل حيث سارت به كالدابة والمشهور الأول اهـ. وفي المختصر: لا سفينة فيدور معها إن أمكن. قال الخرشي: أي إن راكب السفينة يمنع تنفله صوب سفره كالفرض لتيسر استقباله بدورانه لجهة القبلة إذا دارت عنها مع إمكانه وإلا صلى فيها حيث توجهت كالدابة بجامع المشقة، ولكن لا يصلي إيماء، والفرض والنفل في هذا سواء اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ومفتتحها جالسا يستحب إذا قارب الركوع قام فقرأ ما تيسر وركع وله إتمامها جالسا وبالعكس " اعلم أنه أشار بما روي عن عائشة من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي جالسا فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين أو أربعين آية قام فقرأ وهو قائم، ثم ركع وسجد

ثم صنع في الركعة الثانية مثل ذلك. وفي رواية " أنها لم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الليل قاعدا قط حتى أسن فكان يقرأ حتى إذا أراد أن يركع قام فقرأ نحوا من ثلاثين أو أربعين آية ثم ركع " اهـ رواه البخاري والموطأ واللفظ له. وأما قول المصنف وله إتمامها جالسا إلخ. تقدم بيانه آنفا عند قوله: ويجوز الجلوس مع القدرة فراجعه إن شئت. قال المصنف رحمه الله تعالى: " والشروع ملزم في سائر النوافل، فإن أبطلها قضاها لا إن بطلت " يعني أن الشروع في سائر العبادة يوجب إتمامها كاملة سواء كانت صلاة أو غيرها، فمن أحرم بصلاة مثلا يلزمه أن يصليها، ولا يجوز قطعها إلا لموجب، لأنها بالشروع صارت واجبة عليه، فإن أبطلها عمدا وجب عليه قضاؤها، وأما إن فسدت فلا يلزمه قضاؤها، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وقال العلامة الصاوي في حاشيته على الجلالين: والحاصل أن الأصل في النوافل أنها لا تلزم بالشروع عند جميع الأئمة، واستثنى مالك وأبو حنيفة سبعا منها تلزم بالشروع، نظمها ابن عرفة من المالكية بقوله رحمه الله تعالى: صلاة وصوم ثم حج وعمرة ... طواف عكوف. والتمام تحتما وفي غيرها كالوقف والطهر خيرن ... فمن شاء فليقطع ومن شاء تمما ولابن كمال باشا من الحنفية: من النوافل سبع تلزم الشارع ... أخذا لذلك مما قاله الشارع صوم صلاة عكوف حجة الرابع ... طوافه عمرة إحرامه السابع ونظمها أيضا بعضهم بقوله: صلاة وصوم ثم حج وعمرة ... يليها طواف واعتكاف وإتمام

يعيدهم من كان للقطع عامدا ... لعودهم فرضا عليه وإلزام وقال العلامة الشيخ عبد الرحمن الأخضري: ومن قطع النافلة عامدا، أو ترك منها ركعة، أو سجدة عامدا، أعادها أبدا اهـ. قال الشارح: بناء على أن النوافل تلزم بالشروع، فمن شرع فيها لزمته، فإذا أفسدها بإخلال ركن منها عمدا أو تعمد قطعها لزمه أن يأتي ببدلها لوجوبها عليه وجوب الفرائض بمجرد الشروع فيها، لأنه ألزم نفسه بها، ولا تبرأ ذمته إلا بفعلها صحيحة اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وداخل المسجد في غير وقت كراهة يحييه بركعتين قبل جلوسه " يعني أن من دخل مسجدا وقت الإباحة متوضئا يستحب له أن يصلي ركعتين تحية المسجد قبل أن يجلس، ولا يفوتان بالجلوس. وقال صاحب الرسالة: ومن دخل المسجد على وضوء فلا يجلس حتى يصلي ركعتين إن كان وقت يجوز فيه الركوع اهـ. قال شارحها: فالحاصل أن تحية المسجد لها ثلاثة شروط: أن يدخل على طهارة، وأن يكون مراده الجلوس في المسجد، وأن يكون الوقت وقت جواز، والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين " اهـ رواه مسلم. وفي رواية له وللبخاري: " إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس " وورد أيضا: " أعطوا المساجد حقها، قالوا وما حقها يا رسول الله؟ قال صلاة ركعتين قبل الجلوس " اهـ. اعلم أنه لا فرق في الأمر بتحية المسجد بين مسجد الجمعة وغيره، إلا مسجد مكة فإنه يبدأ فيه بالطواف لأن تحية مسجد مكة الطواف للقادم بحج أو عمرة أو إفاضة أو المقيم الذي يريد الطواف، وأما من دخل للصلاة أو للمشاهدة فتحيته ركعتان كغيره. ومسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم كذلك أيضا يبدأ بالتحية قبل السلام عليه صلى الله عليه وسلم، وأما المار، أو الداخل على غير وضوء، أو في وقت نهي فيستحب

التراويح

له أن يقول أربع مرات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، لأن التحية بمعنى الصلاة وإن سقطت لا يسقط بدلها اهـ النفراوي مع حذف، وكذا في الخرشي. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ومنها " أي من النوافل المرغوبة " التراويح " وتسمى بقيام الليل، وقيام رمضان. قال المصنف: وهي " ثماني عشرة تسليمة " يعني ستا وثلاثين ركعة، هذا إشارة إلى ما كان يقومون به في زمن عمر بن عبد العزيز. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وقيل عشر ما بين العشاء والوتر " يعني عشرين ركعة بين العشاء والوتر، هذا ما اتفق عليه العلماء من الأئمة الأربعة. قال العلامة ابن جزي في القوانين الفقهية: ويستحب قيام فيه بست وثلاثين ركعة سوى الشفع والوتر. وقيل بعشرين وفاقا لهم اهـ. أي وفاقا للشافعية والحنفية والحنابلة. وقال أبو محمد عبد الله بن أبي زيد: وكان السلف الصالح، أي هم الصحابة رضي الله تعالى عنهم يقومون فيه في المساجد بعشرين ركعة، ثم يوترون بثلاث، ويفصلون بين الشفع والوتر بسلام، ثم صلوا بعد ذلك - أي في زمن عمر بن عبد العزيز - ستا وثلاثين ركعة غير الشفع والوتر، وكل ذلك واسع، ويسلم من كل ركعتين. وقالت عائشة، رضي الله عنها: ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على اثنتي عشرة ركعة بعدها الوتر اهـ. والأصل في ذلك كما في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمر بعزيمة، فيقول: " من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " قال ابن شهاب: فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر بن الخطاب اهـ. وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناس، ثم صلى الليلة القابلة

فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال: " قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم " وذلك في رمضان اهـ. رواه مالك في الموطأ، ثم في خلافة عمر بن الخطاب رأى أن يجمع الناس على قارئ واحد كما في الموطأ من رواية عبد الرحمن بن القاري أنه قال: " خرجت مع عمر بن الخطاب في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر والله إني لأراني لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، فجمعهم على أبي بن كعب، قال ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم فقال عمر: نعمت البدعة هذه، والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون، يعني آخر الليل. وكان الناس يقومون أوله اهـ. وروى البيهقي عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه قال: " أنا والله حرضت عمر على القيام في شهر رمضان، قيل وكيف ذلك يا أمير المؤمنين قال: أخبرته أن في السماء السابعة حظيرة يقال لها حظيرة القدس فيها ملائكة يقال لهم الروح، وفي لفظ، الروحانيون، فإذا كان ليلة القدر استأذنوا ربهم في النزول إلى الدنيا فيأذن لهم، فلا يمرون على مسجد يصلى فيه، ولا يستقبلون أحدا في طريق إلا دعوا له فأصابه منهم بركة، فقال له عمر يا أبا الحسن فنحرض الناس على الصلاة حتى تصيبهم البركة، فأمر الناس بالقيام " اهـ الدر المنثور. وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تبارك وتعالى عن يمين العرش موضعا يسمى حظيرة القدس وهو من نور، فيها ملائكة لا يحصي عددهم إلا الله تعالى يعبدون الله عبادة لا يفترون ساعة، فإذا كان أول ليلة من شهر رمضان استأذنوا ربهم أن ينزلوا إلى الأرض فيصلون مع جماعة المؤمنين، فيأذن لهم ربهم تبارك وتعالى فينزلون كل ليلة إلى الأرض، فكل من مسهم أو مسوه سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا " اهـ وقال صاحب الرسالة: ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. وإن قمت فيه بما تيسر فذلك مرجو فضله وتكفير الذنوب

الوتر سنة مؤكدة

به، والقيام فيه في مساجد الجماعات بإمام، ومن شاء قام في بيته وهو أحسن لمن قويت نيته وحده اهـ. قال الصاوي: حاصله أن ندب فعلها في البيوت مشروط بشروط ثلاثة: أن لا تعطل المساجد، وأن ينشط لفعلها في بيته، وأن يكون غير آفاقي بالحرمين، فإن تخلف منها شرط كان فعلها في المسجد أفضل، كما أنه يستحب أن يختم القرآن في التراويح بأن يقرأ كل ليلة جزءا يفرقه على العشرين ركعة اهـ مع إيضاح. والحاصل أن صلاة التراويح لها أصل في الشرع. وقول عمر فيها نعمت البدعة هذه ليس راجعا لأصلها، وإنما أراد بقوله نعمت البدعة جمعهم على إمام على سبيل المواظبة في المسجد لأنهم حين امتنع المصطفى صلى الله عليه وسلم من الخروج صاروا يصلونها فرادى في بيوتهم، ثم بعد سنتين حصل الأمن من خشية فرضيتها لعدم تجديد الأحكام بعد موت المصطفى عليه الصلاة والسلام أمرهم عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، بفعلها جماعة، ولعله قصد بذلك إشهارها والمدوامة عليها وإحياء المساجد بفعلها لأن إخفاءها ذريعة لإهمالها وتضييعها انظر النفراوي اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ولا بأس بالتنفل في جلسات الإمام بين الأشفاع " يعني يجوز التنفل بين جلسات الإمام في صلاة التراويح لأنهم كانوا في الزمن الأول يطولون القيام فيها ثم يجلسون بعد كل تسليمتين للاستراحة. وفي المدونة: سئل مالك عن التنفل فيما بين الترويحتين؟ فقال لا بأس بذلك إذا كان يركع ويسجد ويسلم. وقال في موضع آخر: ولا أرى بأسا، وما علمت أن أحدا كرهه اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ومدرك الناس فيها لا يصلي العشاء معهم " يعني من دخل المسجد فوجد الناس يصلون التراويح ولم يصل العشاء فلا يصليها معهم، بل إنه يخرج إلى محل آخر لأداء العشاء فيه ثم يدخل معهم. قال المصنف رحمه الله تعالى: " والوتر سنة مؤكدة، ركعة عقب شفع منفصل بسلام، يدخل وقته بعد العشاء في وقتها المختار " يعني أن الوتر سنة مؤكدة،

وهو أوكد من صلاة العيد والكسوف والاستسقاء، ويدخل وقته الاختيار بعد العشاء الصحيحة والشفق إلى طلوع الفجر الصادق، ثم الضروري إلى صلاة الصبح، وهو ركعة واحدة يندب: أن يكون بعد الشفع، لكراهة الاقتصار على ركعة، كما يكره تأخيره إلى ضروريه. وقال العلامة خليل: والوتر سنة آكد، ثم عيد، ثم كسوف، ثم استسقاء. ووقته بعد عشاء صحيحة وشفع للفجر، وضروريه للصبح، وندب قطعها له لفذ، لا مؤتم، وفي الإمام روايتان اهـ وفي الرسالة: ثم يصلي الشفع والوتر جهرا. وقال أيضا: وأقل الشفع ركعتان. ويستحب أن يقرأ في الأولى بأم القرآن وسبح اسم ربك الأعلى، وفي الثانية بأم القرآن وقل يا أيها الكافرون، ويتشهد ويسلم، ثم يصلي الوتر ركعة يقرأ فيها بأم القرآن، وقل هو الله أحد، والمعوذتين. وإن زاد من الأشفاع جعل آخر ذلك الوتر كما يأتي عن قريب عن المصنف اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والأفضل لذي الورد تأخيره إلى آخر الليل، وغيره لا ينام إلا عن وتر " ولفظ الوتر مثلث، والمعنى أن الأفضل لمن كان له ورد أي حزب معتاد يقوم به في كل ليلة تأخيره إلى آخر الليل للأحاديث الواردة في ذلك، وتقدم لنا بعضها في هذا الفصل عند قول المصنف وفعلها خلوة، وفي نصف الليل الأخير فراجعه إن شئت. قال الصفتي: ويستحب فعله - أي الوتر - آخر الليل لمن الغالب عليه الانتباه آخر الليل، فإن غلب على ظنه عدم الانتباه فالأفضل تقديمه. وكان الصديق يوتر أول الليل، وعمر كان يوتر آخر الليل، فقال صلى الله عليه وسلم: " إن الأول أخذ بالحزم والثاني أخذ بالعزم " انتهى فإن استوى الأمران عنده فالأفضل تأخيره كما في الرسالة، واعتمده الشيخ - أي العدوي - في حاشية الخرشي خلافا للمختصر اهـ. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: " يقرأ في " ركعتين من " الشفع بسبح اسم ربك الأعلى والكافرون " يعني يستحب قراءة سورة الأعلى بعد أم القرآن في الركعة الأولى من الشفع، ويقرأ

سورة الكافرون بعد أم القرآن في الركعة الثانية منه. ثم يجلس ويتشهد ويسلم. ويكره وصل الشفع بالوتر من غير سلام بينهما ثم يقوم ويصلي الوتر. قال المصنف رحمه الله تعالى " و " يقرأ بعد أم القرآن " في " ركعة " الوتر بالإخلاص والمعوذتين " لما ورد في الحديث من " أن عائشة رضي الله عنها، سئلت بأي شئ كان يوتر النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت يقرأ في الأولى بسبح اسم ربك الأعلى، وفي الثانية بقل يا أيها الكافرون، وفي الثالثة بقل هو الله أحد والمعوذتين " اهـ رواه أبو داود والترمذي. واتفق الأئمة على أن قراءة تلك السور المذكورة مستحبة في الشفع والوتر لمن له حزب كما في النفراوي. وهنا فروع: تتعلق بالشفع أحدها إذا سها المصلي ولم يدر أهو في الوتر أو في ثانية الشفع فإنه يجعلها ثانية الشفع ويسجد بعد السلام، كمن شك أصلى واحدة أو اثنتين فإنه يبني على الأقل ويأتي بما شك فيه ويسجد بعد السلام ثم يوتر واحدة بعد ذلك، ثانيها إن شك أهو في ثانية الشفع أو أولاه أو في الوتر جعلها أولى الشفع، وأتى بواحدة، ويسجد بعد السلام، ثم يصلي الوتر بعد ذلك. ثالثها من زاد ركعة في الوتر سهوا سجد بعد السلام. رابعها من ذكر في تشهد وتره أنه نسي سجدة من شفعة فإنه يشفع وتره بنية الشفع، ولا يضر إحداث هذه النية، ثم يسجد لزيادة الجلوس الذي كان يسلم بعده ثم يوتر. خامسها إذا شك هل شفع وتره فقال ابن المواز قيل يسلم ويسجد للسهو ويجزيه. وقيل يسجد ويأتي بوتر آخر وهو أحب إلى قاله النفراوي اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ولا قنوت فيه على المشهور " يعني أن الوتر لا قنوت فيه على المشهور في المذهب. قال ابن جزي في القوانين: لا يقنت في الوتر خلافا للشافعي وابن حنبل، وابن نافع في وتر النصف الآخر من رمضان ولأبي حنيفة في وتر السنة اهـ. وقال خليل في المختصر: وقنوت سرا بصبح فقط، وكذا في العزية الخرشي: والظاهر أن حكم القنوت في غير الصبح الكراهة اهـ.

قال المصنف رحمه الله تعالى: " وركعتا الفجر سنة " يعني أن ركعتي الفجر سنة من السنن لمواظبته صلى الله عليه وسلم عليهما. وقيل من الرغائب لقوله عليه الصلاة والسلام: " ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها " قال خليل: وهي رغيبة تفتقر لنية تخصها. هذا قول الأكثر من أهل العلم. قال في الرسالة: وركعتا الفجر من الرغائب وقيل من السنن اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وقيل نافلة " يعني قد اختلف في الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح قيل إنهما سنة. وقيل رغيبة. وقيل نافلة كسائر النوافل، لقول عائشة رضي الله تعالى عنها: " لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر " رواه البخاري ومسلم. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ووقتها بعد طلوع الفجر " ولو عبر هنا بالتثنية في قوله ووقتها كما عبر أولا لكان أولى. أو ووقتهما بعد طلوع الفجر، فإن تقدمتا عليه لم يجزيا. وندب إيقاعهما في المسجد، ونابتا عن التحية ويحصل له بهما ثوابهما أي ركعتي الفجر وتحية المسجد إن نوى ذلك. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ومن دخل المسجد وقبل أن يركع فيه أقيمت عليه الصلاة يركع خارجه ثم يدركه " قال في الرسالة: ومن دخل المسجد ولم يركع الفجر أجزأه لذلك ركعتا الفجر اهـ. وقال غيره: ومن دخل المسجد فوجد اإمام يصلي الصبح تركهما ودخل معه، وإن أقيمت عليه الصلاة وهو خارج المسجد أنه يركعهما خارجه ما لم يخف فوات ركعة من الصبح، فإن خاف ذلك تركهما ودخل مع اإمام على طريق السنية لتحصل فضيلة الجماعة، ثم يقتضيهما بعد ارتفاع الشمس قدر رمح للزوال. ويستحب أن يقرأ فيهما بأم القرآن فقط اهـ.

قال المصنف رحمه الله تعالى: " والنائم عن ورده إن تصبح " أي إن استيقظ أول الصبح ودخل المسجد " لانتظار الجماعة صلاة " الضمير عائد إلى الورد. وفي نسخة صلاها، وكلاهما صواب. يعني أن من نام عن ورده غلبة ثم انتبه من أول الفجر وجاء المسجد ينتظر الجماعة فله أن يصلي ورده حينئذ قبل أن تقام الصبح. قال في الرسالة: ومن غلبته عيناه عن حزبه فله أن يصليه ما بينه وبين طلوع الفجر وأول الإسفار، ثم يوتر ويصلي الصبح اهـ. وكان الصحابة يصلون أورادهم حيث يغلبهم النوم، ثم يدركون الصلاة معه عليه الصلاة والسلام، وهو يقرأ بالسنتين إلى المائة، ويسلم والنجوم بادية مشتبكة اهـ. قاله الزروق على الرسالة. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وإلا بادر إلى فرضه " يعني إن لم يستيقظ في أول الوقت بأن ضاق عليه ولم يبق لطلوع الشمس إلا مقدار ما يسع ركعة أو ركعتين فإنه يبادر لأداء الصبح وجوبا. قال المصنف رحمه الله تعالى: " و " النائم " عن الوتر ففي الوقت يصلي الجميع " يعني أن من نام عن الوتر ثم استيقظ وقد اتسع الوقت لسبع ركعات فأكثر قبل طلوع الشمس فإنه يصلي الجميع الشفع والوتر والفجر والصبح. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وفي ضيقه يقتصر على الوتر " يعني إذا ضاق الوقت عن النائم ولم يبق بين انتباهه وبين طلوع الشمس إلا مقدار ما يصلي ثلاث ركعات فإنه يصلي الوتر ثم الصبح. قال رحمه الله تعالى: " ويصلي ركعتي الفجر بعد طلوع الشمس " يعني إذا ضاق الوقت ولم يتسع إلا لمقدار ما يصلي ركعة أو ركعتين فإنه يبادر إلى فرضه كما تقدم، ويترك الشفع والوتر لسقوطهما، ويصلي الصبح، ثم يقضي الفجر بعد ارتفاع الشمس

سجود التلاوة

قيد رمح إلى الزوال. قال خليل: ولا يقضى غير فرض إلا هي فللزوال. وحاصل ما في العزية: ومن نسي الوتر أو نام عنه ثم يستيقظ وقد بقي لطلوع الشمس مقدار ركعة أو ركعتين فإنه يترك الوتر ويصلي الصبح. وإن اتسع لخمس ركعات صلى الشفع والوتر والصبح وترك الفجر. وإن اتسع لسبع ركعات صلى الشفع والوتر والفجر والصبح اهـ. ولما أنهى الكلام على النوافل وأوقاتها وما يتعلق بها من أنواعها وأوصافها ناسب أن يعقبها بذكر سجود التلاوة وبيان حكمه لما فيه من شروط الصلاة وبعض أركانها، وإن كان ليس في سجود التلاوة إحرام ولا ركوع ولا سلام. فقال المصنف رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في سجود التلاوة أي في بيان سجود التلاوة، وهو سنة على الراجح، وقيل مستحب. وكذا اختلفوا في عدد مواضع السجود في القرآن. والمشهور في المذهب أنها كما قال المصنف رحمه الله تعالى: " عزائم السجدات إحدى عشرة " يعني بالعزائم الأوامر، بمعنى المأمور بالسجود عند قراءتها، ويكره تركها إذا توافرت للقارئ شروطها، وهي أحد عشر موضعا في القرآن على المشهور. قال المصنف رحمه الله تعالى: " منها المص " أي سورة الأعراف عند قوله: {وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُون} [الأعراف: 206] وهو آخرها، أي آخر سورة الأعراف. وثانيها: في سورة الرعد عند قوله تعالى: {وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد: 15]. وثالثهما: في سورة النحل عند قوله

تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] ورابعها: في سورة بني إسرائيل عند قوله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109] وخامسها: في سورة مريم عند قوله تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]. وسادسها: في سورة الحج عند قوله تعالى: {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء} [الحج: 18]. قال المصنف رحمه الله تعالى: " لا آخرة الحج " يعني لا يسجد في آخرة الحج على المشهور، خلافا للشافعي القائل إن فيها سجدتين أولها وآخرها. وقد قال ابن عباس والنخعي: " ليس في الحج إلا سجدة واحدة " رواه ابن القاسم في المدونة. وما في الموطأ من أن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله يسجد كل منهما سجدتين في سورة الحج ما أخذ به مالك. وسابعها: في سورة الفرقان عند قوله تعالى: {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60]. وثامنها: في سورة الهدهد عند قوله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيم} [المؤمنون: 116]. وتاسعها: في سورة السجدة الم تنزيل عند قوله تعالى: {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15]. وعاشرها: في سورة ص عند قوله تعالى: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] هذا هو المشهور. وقيل عند قوله: {لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25] وحادي عشرها: في سورة فصلت عند قوله تعالى: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون} [فصلت: 37]. وهو كذلك على المشهور. وقيل عند قوله: {لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38]. وفي المدونة. قال سحنون: قال عبد الرحمن بن القاسم: قال مالك بن أنس: سجود القرآن إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء، المص، والرعد، والنحل، وبني إسرائيل، ومريم، والحج أولها، والفرقان، والهدهد، والم تنزيل السجدة، وص، وحم تنزيل اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وليس في المفصل منها شيء " يعني ليس شيء

من العزائم في المفصل. ولا يسجد القارئ إذا قرأ شيئا من المفصل. قال النفراوي: والمراد بالمفصل ما كثر تفصيله بالبسملة لقصر سوره. وأوله على الراجح من الحجرات إلى آخر القرآن، فلا يسجد لقراءة النجم، والانشقاق، والقلم، قال خليل: لا ثانية الحج والانشقاق والقلم اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " وأثبت ابن وهب الجميع " يعني أي جميع العزائم، وهي خمسة عشر موضعا على الخلاف في بعضها. قال العلامة ابن جزي في القوانين الفقهية: فالعشرة بإجماع، أي اجتمع عليها الأئمة الأربعة، وأسقط الشافعي التي في ص وزاد هو وابن حنبل وابن وهب التي في آخر الحج، وفي النجم، وفي الانشقاق، وفي اقرأ، ومواضعها من الأيات معروفة، إلا أنه اختلف في التي هي في ص هل هي عند قوله وأناب، أو وحسن مآب. واختلف في فصلت هل هي عند قوله تعبدون، أو وهم لا يسئمون. وفي الانشقاق هل هي عند قوله لا يسجدون، أو هي في آخرها اهـ. وقال النفراوي في شرح الرسالة: وما روي من السجود لغير هذه الإحدى عشرة فهو محمول على النسخ عند مالك. والذي استمر عليه عمل المصطفى عليه الصلاة والسلام الإحدى عشرة المذكورة، وإن صح أنه عليه الصلاة والسلام سجد عند قوله تعالى في النجم فاسجدوا لله واعبدوا. وأنها أول سجدة أعلن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحرم وسجد معه المؤمنون والمشركون من الإنس والجن سوى أبي لهب فإنه رفع حفنة من تراب إلى جبهته وقال: يكفي هذا فإنه نسخ، بدليل إجماع فقهاء المدينة وقرائها على ترك السجود فيها مع تكرار القراءة فيها ليلا ونهارا. ولا يجمعون على ترك السنة مع أنهم أدرى بها وأحرص الناس باتباعها اهـ مع إيضاح. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: " وشروطها كالصلاة " يعني يشترط في سجدة التلاوة شروط كالصلاة؛ كما قال خليل: سجد بشرط الصلاة إلخ. وفي المواق قال ابن

بشير: أجمعت الأمة على أن سجود التلاوة مشروع على الجملة، وهو جزء من الصلاة يشترط فيه ما يشترط في الصلاة من طهارة الحدث والخبث وستر العورة واستقبال القبلة اهـ. قال في الرسالة: ولا يسجد السجدة في التلاوة إلا على وضوء. وقال شارحها: أو بدله مع بقية شروط الصلاة، لأنها من جملة الصلاة والطهارة شرط في صحة مطلق الصلاة، وتبطل بدونها ولو مع العجز أو النسيان اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " يكبر لخفضها ورفعها بغير إحرام وسلام " يعني أن القارئ يكبر عند سجدة التلاوة، وعند رفعه منها، ولا يرفع يديه، ولا يحرم، وأما النية وتكبير الخفض فلا بد منهما، وكذلك لا يتشهد، ولا يسلم. قال في الرسالة: ويكبر لها ولا يسلم منها. وفي التكبير في الرفع منها سعة، وإن كبر فهو أحب إلينا اهـ. قال ابن جزي في القوانين: ويؤمر به القارئ والمستمع لا السامع، ويكبر له في الانحطاط والرفع، ويفتقر إلى شروط الصلاة، ولا إحرام ولا تسليم عند الأربعة اهـ. وقال ابن ناجي في شرح الرسالة: لا خلاف في المذهب أنه يكبر خفضا ورفعا إذا كان في الصلاة، واختلف إن سجد في غير الصلاة. فقيل يكبر خفضا ورفعا. وقيل لا يكبر، والقولان لمالك، وخير ابن القاسم فيها، وكلها في المدونة اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويتجاوزها وقت الكراهة " يعني أن من قرأ السجدة وقت الكراهة فإنه يجاوزها، وذلك كبعد الإسفار والاصفرار. وأما قبلهما فجائز أن يسجدها. قال في الرسالة: ويسجدها من قرأها بعد الصبح ما لم يسفر وبعد العصر ما لم تصفر الشمس قال خليل: وجاز جنازة وسجود تلاوة قبل إسفار واصفرار. وفي المدونة: يسجدها بعد الصبح والعصر ما لم يحصل إسفار واصفرار لأنها سنة مؤكدة، ففارقت النوافل المحضة. ومثلها الجنازة. انظر كلام الفاكهاني في النفراوي. ثم قال المصنف عاطفا على وقت الكراهة: " والحدث ويتلو ما بعدها ولا يسجد " يعني أن

من قرأ السجدة وهو محدث فلا يسجد لها بل يتجاوزها. قال النفراوي في الفواكه: فإن قرأ سورة السجدة في وقت نهي ـو على غير وضوء فهل يحذف - أي يجاوز - موضع السجود خاصة، كيشاء في الحج، وكالعظيم في النمل، أو يحذف الآية جملة؟ تأويلان. أشار إليهما خليل بقوله: وإلا فهل يجاوز محلها أو الآية؟ تأويلان وفهم من عبارة الدردير في أقرب المسالك أنه رجح الثاني بقوله: وكره لمحصل الشرط وقت الجواز تركها وإلا ترك الآية التي فيها السجود برمتها على التحقيق، لا المحل فقط، أي فمثل قوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} [السجدة: 15] يترك الآية برمتها لا خصوص {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15] وفي المجموعة: وينبغي ملاحظة المتجاوز بقلبه لنظام التلاوة، بل لا بأس أن يأتي بالباقيات الصالحات كما في تحية المسجد. وإنما أمر بمجاوزة الآية كلها لئلا يغير المعنى لو اقتصر على تجاوزه محل السجود. والمراد أن الاقتصار على مجاوزته مظنة تغير المعنى، فلا ينافي أن مجاوزة محل السجود فقط في بعض المواضع لا يغير المعنى اهـ مع طرف من حاشية الصاوي عليه. قال المصنف رحمه الله تعالى: " والمستمع كالتالي لا السامع " يعني أن المستمع الذي جلس ليتعلم من القارئ فهو في توجيه الأمر إليه بالسجود فيسجد ولو ترك القارئ السجود إذا كان إنما جلس عنده ليتعلم منه الحروف أو الأحكام أو غير ذلك من أنواع التعليم، سواء كان المستمع ذكرا أو أنثى، فإنه إن سجد القارئ يسجد معه إن كان القارئ يصلح للإمامة بأن كان ذكرا محققا بالغا عاقلا متوضئا وإلا فلا يسجد المستمع، بل على القارئ الذي كملت لديه شروط الصلاة وحده كما تقدم. وإذا كان إنما جلس السامع لمجرد ثواب فإن لم يسجد القارئ لم يسجد اتفاقا، وإن سجد فقيل يسجد معه وقيل لا يسجد، وكذا حكم السامع دون جلوس لاستماعه، فالأكثر على عدم السجود. وإذا كان القارئ إماما وقرأها ولم يسجد، فإن المأموم يتركها، وإن سجدها المأموم دون إمامه، فإن كان عمدا

أو جهلا بطلت صلاته، وأما سهوا فلا تبطل، كما أنه لا تبطل صلاة المأموم بترك السجود خلف إمامه الساجد لها ولو عمدا في الإحدى عشرة المشهورة، ولكنه أساء بعدم تبعية الإمام. قاله النفراوي اهـ. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويكره تعمدها في الصلاة، فإن تلاها سجد " يعني أنه يكره للقارئ (¬1) قراءة سجدة في الصلاة على المشهور في المذهب، فإن قرأها فليسجد سواء في الفرض أو النفل. قال في الرسالة: ويسجدها من قرأها في الفريضة والنافلة اهـ. وفي المدونة عن مالك: لا أحب لإمام أن يقرأ في الفريضة بسورة فيها سجدة لأنه يخلط على الناس صلاتهم. وقال أيضا: أكره للإمام أن يتعمد سورة فيها سجدة فيقرؤها لأنه يخلط على الناس صلاتهم، فإذا قرأ سورة فيها سجدة سجدها اهـ. قال خليل عاطفا في المكروهات: وتعمدها بفريضة أو خطبة لا نفل مطلقا. وإن قرأها في فرض سجد لا خطبة. قال الخرشي: يعني أنه يكره تعمد قراءة السجدة في الفريضة لإمام وفذ لأنه إن لم يسجد دخل في الوعيد، وإن سجد زاد في أعداد سجودها، وكذا يكره تعمدها في الخطبة لإخلالها بنظامها. ولا يكره تعمدها في النفل فذا أو في جماعة؛ جهرا أو سرا، في حضر أو سفر، في ليل أو نهار، متأكدا أو غير متأكد، خشي على من خلفه التخليط أم لا اهـ. قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويجهر اإمام بها في السرية والله أعلم " يعني أنه إذا قرأ الإمام بأحد مواضع السجود المتقدمة، وهو في صلاة السرية كالظهر مثلا فإنه يجهر بمحل السجود ليعلم مأمومه بذلك. قال خليل: وجهر إمام السرية وإلا اتبع. اعلم أم جهر الإمام بها فعل مستحب، أما اتباع المأمومين فيها فواجب غير شرط، وترك ¬

(¬1) حق العبارة: يكره للمصلي تعمد قراءة سجدة في الصلاة، ليتفق مع ما في المتن، ومع عبارة الخرشي الآتية.

خاتمة

الواجب الذي ليس بشرط لا يقتضي البطلان، وفي الحطاب فإن لم يتبعوه صحت صلاتهم نقله ابن عرفة. ومن مسائل ابن قداح: إذا صلى الإمام بسورة السجدة وسجد ولم يتبعه الجماعة فقد أساؤوا والصلاة صحيحة اهـ. وفي الحديث عن ابن عمر " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ السورة التي فيها السجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد أحدنا مكانا لموضع جبهته " رواه البخاري ومسلم أبو داود. وفي رواية " وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن، فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا معه " رواه أبو داود والحاكم اهـ. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي، يقول يا ويله "، وفي رواية " يا ويلي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار " رواه مسلم. خاتمة: نذكر فيها ما ورد فيما يقوله الساجد في سجود القرآن تتميما للفائدة. قد روي عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في سجود القرآن بالليل في السجدة مرارا " " سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته " رواه أصحاب السنن اهـ، وقال ابن جزي في القوانين: ويسبح في السجدة أو يدعو. ثم قال وورد في الحديث: " اللهم اكتب لي بها عندك أجرا، وضع عني بها وزرا، واجعلها لي عندك ذخرا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود " اهـ عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم. والحمد لله رب العالمين. ولما أنهى الكلام على سجدة التلاوة وما يتعلق بها انتقل يتكلم على صلاة السفر فقال رحمه الله تعالى وأدام نفعنا بعلومه في الدارين آمين:

كتاب صلاة السفر

كتاب صلاة السفر وفي نسخة كتاب المسافر، أي في بيان قصر صلاة المسافر والأحكام المتعلقة بها، وعطف عليها خمسة أشياء من أنواع الصلاة بقوله: " والخوف والجمعة والعيدين والاستسقاء والكسوف " أي اشتمل هذا الكتاب على ستة أشياء من أنواع الصلاة المطلوبة من المكلف شرعا، إما على وجه الوجوب وإما على وجه السنية. ولكل واحدة منها أحكام ستأتي في محلها إن شاء الله تعالى. وبدأ بما صدر به وهو أحكام القصر فقال: " مسافة القصر ستة عشر فرسخا " وهي مسافة أربعة برد. قال العلامة الدردير على أقرب المسالك: والبريد أربعة فراسخ. والفرسخ ثلاثة أميال، فمسافة القصر ستة عشر فرسخا، ثمانية وأربعون ميلا، والميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة على الصحيح. وقيل ألفا ذراع. وهي باعتبار الزمن مرحلتان، أي سير يومين معتدلين، أو يوم وليلة بسير الإبل المثقلة بالأحمال على المعتاد من سير وحط وترحال وأكل وشرب وصلاة معتبرة اهـ. وقال العلامة محمد المراكشي في " سبيل السعادة " وليس على المسافر أن يسير كل اليوم من الفجر إلى الليل، بل إلى الزوال سيرا وسطا بسير الأقدام والإبل في البرية، وباعتدال الريح في البحر مع مراعاة الاستراحات المعتادة كالأكل والشرب والوضوء والصلاة ونحوها. ولو قطع المسافر تلك المسافة في بضع ساعات بواسطة مركب بخاري أو طيارة أو أتوموبيل - أي سيارة - قصر صلاته أيضا. ومسافة القصر تعادل ثمانية وثمانين كيلو مترا اهـ. وفي الموطأ عن مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عباس كان يقصر الصلاة في مثل ما بين مكة والطائف، وفي مثل ما بين مكة وعسفان، وفي مثل ما بين مكة وجدة. قال مالك وذلك أربعة برد، وذلك أحب ما تقصر إلي فيه الصلاة.

قال رحمه الله: " غير ملفقة " والتلفيق أن يحسب ذهابه وإيابه، والمطلوب أن يكون السفر وجها واحدا ذهابا أو إيابا، حتى يقطع مسافة أربعة برد فلا يحسب مع ذلك الرجوع، بل يعتبر الرجوع وحده. ثم قال رحمه الله تعالى: " وفي البحر يوم وليلة " يعني أن العبرة في سير البحر بالزمن يوم وليلة مطلقا. وقيل فيه تفصيل، ولذا قال رحمه الله: " وقيل إن سار مع الساحل فكالبر " وفي نسخة فكالبدء بالدال وبعده همزة، وفي أخرى أيضا بإسقاط الواو في قوله " وفي اللجة بالزمان " والصواب إثبات الواو. قال الدردير في أقرب المسالك: سن لمسافر سفرا جائزا أربعة برد ذهابا ولو ببحر أو نوتيا بأهله قصر رباعية، قال الصاوي عليه: قوله ولو ببحر أشار بهذا إلى أن العبرة في التحديد بالمسافة، خلافا لمن قال العبرة في البحر بالزمان مطلقا، ولمن قال العبرة فيه بالزمان إن سافر فيه لا بجانب البر، وإن سافر فيه بجانبه فالعبرة بالأربعة برد. وأما أصل القصر في البحر فلا خلاف فيه اهـ. قال الخرشي: ولا بد من مسافة أربعة برد ولو كان السفر ببحر مع الساحل أو اللجة على المشهور. وقيل يعتبر في البحر سير يوم وليلة دون المسافة. وقيا يعتبر في اللجة بالزمان ومع الساحل بالمسافة اهـ. فالحاصل أن من سافر مسافة أربعة برد يقصر الصلاة سواء كان سفره برا أو بحرا، أو كان بعض المسافة في البر وبعضها في البحر سواء مع الساحل أو في اللجة على المشهور بدون تفصيل. ثم قال رحمه الله تعالى: " فإن مر في أثنائها بأهل فالعبرة بما وراءهم " هذا شروع فيما يقطع به حكم القصر. قال العلامة خليل: وقطعه دخول وطنه أو مكان زوجة دخل بها فقط. قال الخرشي: قوله أو مكان زوجة دخل بها، أي وقطعه دخول مكان زوجته التي دخل بها فيه ولو لم يتخذه وطنا. وقال العلامة الصاوي على أقرب المسالك: وأما مجرد المرور بالوطن أو مكان الزوجة فلا يقطع حكم السفر ولو حاذاه , ولذا

قال في التوضيح: إنما يمنع المرور بشرط دخوله أو نية دخوله لا إن اجتاز. والمراد بمكان الزوجة البلد التي هي به لا خصوص المنزل الذي هي به. ولا يكون محل الزوجة قاطعا إلا إذا كانت غير ناشزة، ففي المجموع: إن الزوجة الناشزة لا عبرة بها. ومثل الزوجة أم الولد والسرية اهـ. وقوله فالعبرة بما وراءهم، يعني بعد ارتحاله من المحل الذي به زوجته يعتبر إن كان باقي سفره أربعة برد قصر وإلا أتم. ثم قال رحمه الله تعالى: " والمشهور " من الأقوال في المذهب " أن القصر سنة في الرباعية " قال العلامة ابن جزي: وفيه خمسة أقوال في المذهب: واجب وفاقا لأبي حنيفة، وسنة وهو المشهور، ومستحب، ومباح، ورخصة أقل فضلا من الإتمام وفاقا للشافعي اهـ. وأما قوله في الرباعية يشعر بأن الثنائية والثلاثية وهما الصبح والمغرب لا يقصران اتفاقا. ثم ذكر شرطا من شروط القصر وهو الشروع في السفر بقوله: " فيقصر إذا جاوز بساتين المصر غير منتظر رفقة، وفي العمود إلى حيث ابتدأ " قال مالك في الموطأ: لا يقصر الذي يريد السفر الصلاة حتى يخرج من بيوت القرية، ولا يتم حتى يدخل أول بيوت القرية أو يقارب ذلك اهـ. كذا في الرسالة، ونصها: ولا يبصر حتى يجاوز بيوت المصر وتصير خلفه ليس بين يديه ولا بحذائه منها شيء، ثم لا يتم حتى يرجع إليها أو يقاربها بأقل من الميل اهـ. وقوله غير منتظر رفقة، قال الصاوي: حاصله أنه إذا خرج من البلد عازما على السفر ثم أقام قبل مسافته ينتظر رفقة لاحقة له، فإن جزم أنه لا يسافر دونها ولم يعلم وقت مجيئها فإنه لا يقصر، بل يتم مدة انتظاره، فإن نوى انتظارها أقل من أربعة أيام فإن لم تأت سافر دونها أو جزم بمجيئها قبل أربعة أيام قصر مدة انتظاره لها اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " فإن أجمع إقامة أربعة أيام أتم " يعني أن المسافر إذا نوى الإقامة أربعة أيام بمحل أتم الصلاة. قال في الرسالة: وإن نوى المسافر إقامة أربعة

أيام بموضع أو ما يصلي فيه عشرين صلاة أتم الصلاة حتى يظعن من مكانه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " لا " يقصر المسافر " في قصد قضاء حوائجه " يعني من خرج لحاجته ولم يدر بمحلها على اليقين، تارة يجدها عن قريب وأخرى عن بعد فإنه لا يقصر الصلاة، وذلك كطالب المرعى لنحو إبل أو بقر أو غنم يرتع حيث يجد الكلأ، ومثله طالب الآبق أو البعير الشارد، وكذا الهائم وهو متجرد عن الأهل والوطن سائح في البلاد، أي بلد يتيسر له فيه القوت أقام به ما شاء؛ لأنه لم يقصد سفر أربعة برد. وكذلك لا يقصر عادل عن طريق قصير دون أربعة برد إلى طريق طويل فيه أربعة برد إذا لم يكن له عذر؛ لأنه لاه بسفره. قال في التوضيح: هذا مبني على أن اللاهي بصيد وشبهه لا يقصر وهو المشهور، قاله صاحب الإكليل وكذا في الحطاب اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فلو عزم عليها بعد صلاته فلا إعادة. وفي أثنائها يجعلها نافلة " يعني أن من عزم إقامة أربعة أيام بموضع بعد أداء السفرية فلا إعادة عليه؛ لأنه أتى بها كما أمر على سنيتها. هذا - والله أعلم - أوضح مما مشى عليه الشيخ خليل القائل بأنه يعيد في الوقت انظره. أما لو نوى الإقامة المذكورة وهو أثناء الصلاة، فإن صلى بركعة كاملة بسجدتيها فليشفع وصارت نافلة، وإن لم يصل ركعة فالمطلوب منه أن يقطعها. قال العلامة خليل في المختصر: وإن نواها بصلاة شفع لم تجز حضرية ولا سفرية، وبعدها أعاد في الوقت أي المختار. وما ذكره خليل من إعادتها في الوقت نص المدونة والله أعلم اهـ. ثم انتقل يتكلم على جمع الصلاتين المشتركتين في الوقت فقال رحمه الله: " ويجوز الجمع بين الظهرين والعشاءين لجد السير لا لمجرد الترخص " وفي نسخة لا بمجرد الرخص وكلاهما صحيح. وقد تقدمت أحكام الجمع بين العشاءين ليلة المطر، والآن أراد أن يبين حكم الجمع بين الصلاتين المشتركتين في الوقت وهي الظهر والعصر والمغرب

والعشاء، وحكمه الجواز. قال مالك في المدونة: لا يجمع الرجل بين الصلاتين في السفر إلا أن يجد به السير فإذا جد به السير جمع الظهر والعصر، ويؤخر الظهر حتى يكون في آخر وقتها ثم يصليها، ثم يصلي العصر في أول وقتها، ويؤخر المغرب حتى تكون في آخر وقتها قبل مغيب الشفق، ثم يصليها في آخر وقتها قبل مغيب الشفق، ثم يصلي العشاء في أول وقتها بعد مغيب الشفق اهـ. ومثله في الرسالة، ونصها: وإذا جد السير بالمسافر فله أن يجمع بين الصلاتين في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر وكذلك المغرب والعشاء، وإذا ارتحل في وقت الصلاة الأولى جمع حينئذ اهـ. قال العدوي: قوله فيجمع في إلخ. . هذا جمع صوري لا حقيقي؛ هو الذي تقدم فيه إحدى الصلاتين عن وقتها المعروف أو تؤخر عنه، وهذا صليت فيه كل صلاة في وقتها اهـ. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: " ويستحب تعجيل الإياب إلى أهله ودخوله صدر النهار لا طروقهم ليلا " أي يندب للمسافر أن يعجل الرجوع إلى وطنه بعد قضاء أوطاره ومهمته، ويستحب له أن يدخل ضحى، وأن لا يطرق عليهم ليلا. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر يبدأ بالمسجد فيركع ركعتين قبل دخول المنزل، ويستحب للمسافر أيضا أن يصحب معه هدية يقسمها بين الأقارب والأحباب لإدخال السرور عليهم سواء كان رجوعه من سفر التجارة أو الحج والزيارة. قال ابن عاشر رحمه الله تعالى: وادخل ضحى واصحب هدية السرور ... إلى الأقارب ومن بك يدور قال بعض الشراح لهذا البيت: وإذا رجعت من سفرك هذا أو غيره من الأسفار فالحكم عام ووصلت بلدك فلا تطرق أهلك ليلا إلا إذا كان عندهم علم بقدومكم فلا بأس، وإذا لم يكن عندهم علم فادخل عليهم ضحى بعد دخولكم لمسجد بلدك والصلاة فيه لتقدم حق بيت الرب على بيتك. وقبل رجوعك من سفرك اصحب هدية بقدر حالك

فصل في حكم صلاة الخوف

ينشأ عنها السرور للأقارب ومن يدور بك من الأحباب. وقد تم سرورك بنيل غرضك ورجوعك سالما، ولسرورهم بك وبهديتك وهي نعمة عظيمة من الله عليك فقابلها بالشكر والثناء، ولا تقابلها بكفران النعم بأن تجعل عند قدومك آلات اللهو والطرب والرقص بالعود والمزمار ونحو ذلك من المغنيات والمحرمات مما لا ينبغي أن يذكر في الكتب ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. هل جزاء الإحسان إلا الإحسان. اللهم وفقنا وإخواننا المسلمين للعمل بشريعة سيد الأنبياء والمرسلين آمين اهـ. ومما أحدثه بعض الحجاج الجهال عدم دخول المنزل حين وصولهم بلدانهم، بل يبيتون خارج المنزل ثلاثة أيام أو سبعا لزوما وهي من البدعة المحرمة التي هي خلاف السنة. وتقدم أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا رجع من السفر يبدأ بالمسجد يصلي فيه ركعتين ويسلم عليه والناس، ولا يبيت إلا في منزله. وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. الحديث. والسلام على من اتبع الهدى. ولما أنهى الكلام على صلاة السفر انتقل يتكلم على صلاة الخوف، وتسمى صلاة المسايفة فقال المصنف رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في حكم صلاة الخوف وحكمها الرخصة. واقتصر عليه الشيخ خليل في المختصر. وقيل واجبة، وهو الذي مشى عليه صاحب الرسالة في باب الجمل. وقيل سنة، ومشى عليه العلامة الدردير

في أقرب المسالك. والأصل في مشروعيتها قوله تعالى في سورة النساء: {كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102]. وفي الموطأ عن مالك بإسناده: " أن صلاة الخوف أن يقوم الإمام ومعه طائفة من أصحابه وطائفة مواجهة العدو فيركع الإمام ركعة ويسجد بالذين معه ثم يقوم، فإذا استوى قائما ثبت وتموا لأنفسهم الركعة الباقية، ثم يسلمون وينصرفون، والإمام قائم فيكونون وجاه العدو، ثم يقبل الآخرون الذين لم يصلوا فيكبرون وراء الإمام، فيركع بهم الركعة ويسجد ثم يسلم فيقومون فيركعون لأنفسهم الركعة الباقية ثم يسلمون اهـ. ومثله في الرسالة مع زيادة البيان، ونصها: وصلاة الخوف في السفر إذا خافوا العدو أن يتقدم الإمام بطائفة ويدع طائفة مواجهة العدو فيصلي الإمام بطائفة ركعة ثم يثبت قائما، ويصلون لأنفسهم ركعة ثم يسلمون، فيقفون مكان أصحابهم، ثم أصحابهم فيحرمون خلف الإمام فيصلي بهم الركعة الثانية، ثم يتشهد ويسلم، ثم يقضون الركعة التي فاتتهم وينصرفون. هكذا يفعل في صلاة الفرائض كلها إلا المغرب فإنه يصلي بالطائفة الأولى ركعتين، وبالثانية ركعة، وإن صلى بهم في الحضر لشدة خوف صلى في الظهر والعصر والعشاء بكل طائفة ركعتين، ولكل صلاة أذان وإقامة. وإذا اشتد الخوف عن ذلك صلوا وحدانا بقدر طاقتهم مشاة أو ركبانا، ماشين أو ساعين مستقبل القبلة وغير مستقبلها اهـ. وأشار المصنف إلى جميع ذلك بقوله: " يقسم الإمام من معه فرقتين فرقة تحرس " أي تحفظ المصلين وتتوجه العدو " وفرقة تصلى معه " أي مع الإمام مستقبلة القبلة في آخر المختار على المشهور. وقيل في الضروري.

قال رحمه الله تعالى: " ففي الثنائية يصلي بكل طائفة ركعة، فإذا فرغ منها أشار قائما إليهم فأتموا وانصرفوا يحرسون " أي فإذا صلوا ركعة واحدة مع الإمام أشار لهم بإتمام الركعة الثانية لأنفسهم ليرجعوا إلى مكان الطائفة التي لم تصل. قال: " وتأتي الأخرى فيصلي بهم الأخرى " أي يصلي بهم الركعة الأخرى التي هي ثانية الإمام. قال رحمه الله تعالى: " وهل يسلم " الإمام بعد تمام ثانيته مع الطائفة الثانية " أو ينتظر إتمامهم ليسلم بهم قولان " المشهور أن الإمام يسلم بمجرد إتمام صلاته ولا ينتظر شيئا بعد الإتمام كما هو معلوم بالنصوص في المذهب. وقيل ينتظرهم حتى يتموا وهو مذهب الشافعي ذكره ابن جزي في القوانين الفقهية. ثم قال رحمه الله تعالى: " وفي غيرها " أي غير الثنائية وهي الرباعية والثلاثية " يصلي بالأولى ركعتين فإذا تشهد أشار إليهم جالسا فأتموا وانصرفوا يحرسون " يعني إذا كانت الصلاة غير الثنائية بأن كانت ظهرا أو عصرا أو مغربا أو عشاء فإن الإمام يصلي بالطائفة الأولى ركعتين فيجلس ويتشهد ثم يشير لمأموميه الذين صلوا معه بأن يتموا لأنفسهم الركعتين الباقيتين وهو جالس، فإذا أتموا وسلموا رجعوا إلى مكان أصحابهم الذين لم يصلوا. قال رحمه الله: " ثم تأتي الأخرى " أي ثم تأتي الطائفة الثانية التي لم تصل فتحرم خلف الإمام. ولذا قال رحمه الله: " فيصلي بهم ما بقي " وهو ركعتان أخيرتان بالنسبة للإمام. قال رحمه الله: " وفي تسليمه وانتظارهم قولان " فالمشهور كما تقدم: في الطائفة الأولى من أن الإمام لا ينتظر إتمامهم على المشهور. فإذا سلموا قضوا ما فاتهم، فتقضي الطائفة الأولى ركعة في الثنائية أو ركعتين في الرباعية، أو ركعة كذلك في الثلاثية مطلقا بفاتحة وسورة، جهرا وسرا في السرية. فإذا سها الإمام مع الأولى سجدت الأولى بعد إكمالها صلاتها القبلي قبل سلامها والبعدي بعده، وسجدت الطائفة الثانية السجود القبلي مع الإمام

فصل في صلاة الجمعة

فإذا سلم قامت لقضاء ما عليها، وسجدت البعدي بعد القضاء هكذا يفعل الإمام والمأموم في صلاة الخوف إن أمكن تقسيم الجيش. وأما إن لم يمكن ذلك فبقدر الإمكان. وإليه أشار رحمه الله بقوله: " وإن اشتد البأس " بأن لا يمكن تقسيم الجيش ولا ترك القتال لبعض القوم " صلوا بحسب الإمكان مشاتا أو ركبانا، أو إيماء طاردين، أو مسابقين، أو مسايفين حيثما توجهوا ولا يلزمهم طرح ما تلطخ بالدم " فالمعنى أنهم يلزمهم أداء الصلاة بقدر الإمكان، سواء ماشين أو ساعين، راجلين أو راكبين، بل ولو في حالة المضاربة والمسايفة، متوجهين إلى القبلة أو غير متوجهين إليها. قال العلامة خليل في المختصر: وإن لم يمكن أخروا لآخر الاختياري وصلوا إيماء، كأن دهمهم عدو بها أي هجم عليهم. وحل للضرورة مشي وركض وطعن وعدم توجه، وكلام وإمساك ملطخ اهـ. وقول خليل وحل إلخ وكذلك حل رمي بنبل وغيرها، وكلام لغير إصلاحها ولو كثر إن احتيج إليه فيما يتعلق بهم، كتحذير غيره ممن يريده أو أمره بقتله، وكتشجيع وافتخار عند الرمي، ورجز إن ترتب على ذلك توهين العدو اهـ قاله العدوي على أبي الحسن. ثم قال رحمه الله تعالى: " فإن أمنوا في أثنائها أتموها صلاة أمن " أي إذا حصل الأمن وزال عنهم الخوف في الصلاة أتموها كصلاة أمن بركوع وسجود تامتين. ولما أنهى الكلام على صلاة الخوف وما يتعلق بها انتقل يتكلم على أحكام صلاة الجمعة، فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في صلاة الجمعة أي في بيان ما يتعلق بصلاة الجمعة وشروطها، وآدابها، ومكروهاتها، وموانعها، وبعض

فضائلها. وقد ثبتت فرضيتها بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] إلخ السورة. وأما السنة فما أخرجه ابن ماجه في حديث طويل عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: " واعلموا أن الله افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في يومي هذا في شهري هذا في عامي هذا إلى يوم القيامة، فريضة مكتوبة} الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم: " من ترك الجمعة ثلاثا من غير عذر طبع الله على قلبه " رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن. وقد انعقد الإجماع سلفا وخلفا على فرضية صلاة الجمعة. وهي فرض عين عند الجمهور كما في القوانين لابن جزي. وإليه أشار المصنف رحمه الله بقوله " تلزم الجمعة كل مسلم حر ذكر مكلف متوطن " يعني أن الجمعة تلزم كل مسلم حر ذكر مكلف مستوطن. قد ذكر رحمه الله لوجوب الجمعة أربعة شروط كغيره. قال العلامة الدردير في أقرب المسالك: الجمعة فرض عين على الذكر الحر غير المعذور المقيم ببلدها أو بقرية نائية عنها بكفرسخ من المنار، وإن غير مستوطن، أي بأن كان مقيما ببلدها المجاورة أو تجارة أو غير ذلك إقامة تقطع حكم السفر، وإن لم تنعقد به، فلا تجب على مسافر إذا لم ينو إقامة أربعة أيام صحاح. فعلم أن شروط وجوبها أربعة: الإسلام، والذكورية، والحرية، والسلام من الأعذار المسقطة لها اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وهي ركعتان يجهر فيهما " يعني أن صلاة الجمعة ركعتان يجهر الإمام فيهما بالقراءة. قال في الرسالة: ويصلي الإمام ركعتين يجهر فيهما بالقراءة، يقرأ في الأولى بالجمعة ونحوها وفي الثانية بهل أتاك حديث الغاشية ونحوها اهـ. قال رحمه الله تعالى: " يخطب قبلهما خطبتين قائما متوكئا " يعني يجب على الإمام أن يخطب خطبتين قبل الصلاة بأن يجلس قليلا ثم يقوم متوكئا على شيء كالسيف. قال في الرسالة:

والخطبة فيها واجبة قبل الصلاة، ويتوكأ الإمام على قوس أو عصا، ويجلس في أولها وفي وسطها وتقام الصلاة عند فراغها اهـ. قال رحمه الله مشيرا لجميع ذلك: " يفصل بينهما بجلسة خفيفة " أي مقدار الجلوس بين السجدتين. وقيل قدر ما يقرأ قل هو الله أحد. قال العلامة الشيخ الزروق في شرح الرسالة: يعني أنه يجلس بين الخطبة الأولى والثانية وقيل للقيام للخطبة للسنة. وقال أبو الحسن: والأصل فيما ذكر استمرار العمل على ذلك في جميع الأمصار والأعصار منذ زمانه صلى الله عليه وسلم إلى هلم (¬1). وأخذ من قوله اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " يختم الأولى بآيات من القرآن، والثانية باذكروا الله يذكركم أو غير ذلك " يعني أنه يستحب ختم الخطبة الأولى بالآيات، كذلك يستحب بدؤها بالحمد لله وختمها بالاستغفار، وكذلك تخفيفها لحديث مسلم " طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه " والثانية أقصر. وقال بعضهم: ويكفي في الخطبة أن يقول الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد فأوصيكم بتقوى الله، وأحذركم من عصيانه ومخالفته اهـ قال النفراوي: وتصح من محض قرآن مشتمل على تحذير وتبشير وبعض مواعظ كسورة ق اهـ. وفي الخرشي: وأول من قرأ في الخطبة إن الله يأمر بالعدل والإحسان الآية عمر بن عبد العزيز. وأول من قرأ في الخطبة إن الله وملائكته يصلون على النبي المهدي العباسي اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " وأقلها ثناء على الله، وصلاة على رسوله، وتحذير وتبشير " قال الحطاب: جزم ابن العربي أن أقلها حمد الله والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم وتحذير وتبشير، ويقرأ شيئا من القرآن اهـ. قال الدسوقي عند قول خليل مما تسميه العرب خطبة. قال بعض المحققين: الخطبة عند العرب تطلق على ما يقال في المحافل من الكلام المنبه به على أمر مهم لديهم، والمرشد لمصلحة تعود عليهم حالية أو مآلية، وإن لم يكن فيه موعظة أصلا عن تحذير أو تبشير أو قرآن يتلى. وقول ابن العربي أقل الخطبة ¬

(¬1) قوله إلى هلم: أي إلى الآن وبعد الآن. كما يقولون: وهلم جرا. يقصدون التتابع.

حمد الله والصلاة والسلام على نبيه صلى الله عليه وسلم وتحذير وتبشير وقرآن، مقابل للمشهور كما في ابن الحاجب وعلى المشهور فكل من الحمد والصلاة على النبي والقرآن مستحب اهـ البناني. زاد العلامة صالح عبد السميع وقال: ولا يشترط كونها سجعا فلو نظمها أو نثرها صحت نعم تندب إعادتها إن لم يصل فإن صلى فلا تعاد. والدعاء فيها للسلطان بدعة مكروهة اهـ. انظر جواب ابن عرفة في الحطاب. ثم قال رحمه الله تعالى: " وهل يشترط الطهارة قولان " قال العلامة العدوي على كفاية الطالب: قوله قولان مشهوران، المشهور منهما أنه لا يشترط فيهما الطهارة، غايته أنه يكره أن يخطب غير متطهر اهـ. قال عبد الباري العشماوي: ويستحب فيهما الطهارة، قال شارحه: فلو خطب محدثا أجزأه. وفي حاشية الصفتي عليه: ويكره تركها لأن الطهارة ليست من شروط الخطبة، وإن كان يحرم عليه في الكبرى من حيث المكث بالجنابة في المسجد اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويجب الإنصات لها والبعيد يتحرى وقتها وينصت " يعني أن الإنصات وقت الخطبة واجب كما قرره العلماء بالأدلة. قال أبو الحسن في كفاية الطالب عند قول صاحب الرسالة: وينصت للإمام في خطبته أي الأولى والثانية، وفي الجلوس بينهما مطلقا سمع الخطبة أو لم يسمعها، سب الإمام من لا يجوز سبه أو مدح من لا يجوز مدحه. وقال ابن حبيب: يجوز الكلام إذا تكلم الإمام بما لا يجوز، وصوبه اللخمي، واقتصر عليه صاحب المختصر. ولا يشمت عاطسا، وإذا عطس هو حمد الله سرا في نفسه، ولا يسلم، ولا يرد سلاما، ولا يحصب من تكلم ولا يشرب الماء. والأصل فيما ذكر قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف: 204] على أحد التفاسير أنها نزلت في الخطبة. وقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: " إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت " سمي

الأمر بالمعروف لغوا فغيره أولى. واللغو: الكلام الذي لا خير فيه. وظاهر كلام الشيخ أن الكلام بعد الفراغ من الخطبة بين النزول من المنبر والصلاة جائز، وهو مذهب المدونة. ويجوز الكلام حال الخطبة في مسائل منها الذكر القليل عند سببه، والتأمين عند سماع الخطيب لمغفرة أو نجاة من النار، والتعوذ عند سماع ذكر النار والشياطين، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره، كل ذلك سرا على الصحيح اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " والداخل والإمام يخطب لا يحيي المسجد ولا يسلم " يعني أن الداخل في المسجد حال الخطبة لا يصلي تحية المسجد على المشهور في المذهب، خلافا للسيوري القائل بجواز النافلة للداخل حال الخطبة، وهو من أهل المذهب (¬1)، وما ذهب إليه السيوري لم يصحبه عمل، فهو منسوخ كما في الإكليل. قال ابن جزي: ولا يصلي التحية إذا خرج الإمام، خلافا للسيوري والشافعي وابن حنبل. وقال في التوضيح: وهو مذهب الشافعي لحديث سليك الغطفاني، وفيه " أنه عليه الصلاة والسلام قال له لما جلس إذا جاء أحدكم للجمعة والإمام يخطب فليصل ركعتين خفيفتين ثم يجلس " وتأوله ابن العربي على أن سليكا كان صعلوكا ودخل ليطلب شيئا، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصلي لأجل أن يتفطن له فيتصدقوا عليه. اهـ الدسوقي نقلا عن البناني، وقول المصنف: ولا يسلم أي يحرم على الداخل السلام والإمام يخطب. قال في حاشية الخرشي: أي لا يجوز لمن كان يسمع الخطبة أن يسلم أو يرد اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وليؤم الخاطب، فإن أم غيره فالمشهور بطلانها " ¬

(¬1) أي والحديث الذي أخذ به منسوخ اهـ شارحه.

قال العلامة عبد الباري العشماوي: ويشترط أن يكون المصلي بالجماعة هو الخاطب إلا لعذر يمنعه من ذلك من مرض أو جنون أو نحو ذلك، ويجب انتظاره للعذر القريب على الأصح اهـ. وقال أبو الحسن: والمطلوب أن يكون الذي خطب هو الإمام، فإن طرأ ما يمنع إمامته كحدث أو رعاف فإن كان الماء بعيدا فإنه يستخلف اتفاقا، وإن قرب فكذلك عند مالك، وحيث يستخلف ففي المدونة يستخلف من حضر الخطبة، وإذا ذكر منسية بعدما خطب صلاها ثم صلى الجمعة ولا شيء عليه اهـ. وقال مالك في المدونة في الإمام يحدث يوم الجمعة، فيخرج ولم يستخلف، فيتقدم رجل من عند نفسه بالقوم ولم يقدموه هم ولا إمامهم: إن ذلك مجزئ عنهم، وهو بمنزلة من قدمه الإمام أو من خلفه. والجمعة في هذا وغيرها سواء اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويستحب لها الطيب والتجمل والغسل متصلا بالغدو، والمشي والتهجير به " يعني أن الشخص يستحب له التطيب (¬1) والتجمل بالثياب في يوم الجمعة. وفي الرسالة: وليتطيب لها ويلبس أحسن ثيابه. وقال قبل ذلك: والغسل لها واجب، أي وجوب السنن، والتهجير حسن وليس ذلك في أول النهار اهـ بتصرف. قال مالك في الموطأ: ومن اغتسل يوم الجمعة معجلا أو مؤخرا وهو ينوي بذلك الجمعة فأصابه ما ينقص وضوءه فليس عليه إلا الوضوء وغسله ذلك ومجزئ عنه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وتلزم من منزله على دون ثلاثة أميال لوقت يدركها، والأعمى يمكنه إتيانها ولو بقائد " يعني أن من كان منزله قريبا من الجامع على ثلاثة أميال أو دونها لزمه السعي إلى الجمعة. وفي ابن حمدون على الميارة عند قول الناظم قريب بكفرسخ. قال: قرره مياره على أن الكاف استقصائية، وقرره بعضهم على أنها غير استقصائية، ¬

(¬1) هذا لغير النساء، وأما هن فمكروه في حقهن اهـ شارحه.

فيدخل ربع الميل أو ثلثه، وهما قولان مبنيان على التحديد أو التقريب. وظاهر الرسالة الأول، فلا تجب على من زاد عليه ولو قلت الزيادة، وهو رواية أشهب، ومذهب ابن القاسم أنه تقريب فتجب في الزيادة اليسيرة. ومثل من كان على كفرسخ من كان مسكنه خارجه وأخذه الوقت داخل الفرسخ إن كان مقيما، وأما إن كان مجتازا فلا يجب عليه السعي كما ذكره الجزولي وغيره. وعلى هذا فالمراعي شخصه لا مسكنه اهـ. والتحديد المذكور إنما هو في حق الخارج عن بلد الجمعة. وأما من هو فيها فتجب عليه ولو كان من المسجد على ستة أميال. وأما قوله رحمه الله: والأعمى إلخ أي تلزم الجمعة الأعمى إن كان يمكنه الإتيان إليها ولو بقائد. وقال العلامة عبد الباري في الأعذار المانعة للجمعة: ومن ذلك الأعمى الذي لا قائد له، أما لو كان له قائد، أو كان ممن يهتدي للجامع بلا قائد فلا يجوز له التخلف عنها اهـ. ثم ذكر الأعذار التي تسقط بها الجمعة فقال رحمه الله تعالى: " وتسقط عن المريض والممرض، وبالمطر، وكثرة الوحل، وخوف ظالم أو لص، ولا خوف حبس في حق وهو معلي به، ولا بشهود العيد " قوله لا خوف حبس إلخ لقوله عليه السلام: " مطل الغنى ظلم " والظالم لا رخصة له في التخلف عنها. وقوله ولا بشهود العيد، قال في المدونة: ما قول مالك إذا اجتمع الأضحى والجمعة أو الفطر والجمعة فصلى رجل من أهل الحضر العيد مع الإمام، ثم أراد أن لا يشهد الجمعة هل يضع ذلك عند شهوده صلاة العيد ما وجب عليه من إتيان الجمعة؟ قال لا: وكان مالك يقول: لا يضع ذلك عنه ما وجب عليه من إتيان الجمعة اهـ وقال صاحب العزية: ويسقط فرض الجمعة بمرض يتعذر معه الإتيان، أو لا يقدر إلا بمشقة شديدة، وبتمريض قريب، وبخوف ظالم يؤذيه في ماله أو نفسه، أو خوف نار أو سارق أو حبس الغرماء له وهو معسر، وبالوحل الكثير، والمطر الشديد، وأكل الثوم، والعري أي ليس عنده ما يستر به عورته اهـ.

ثم ذكر شروط صحة الجمعة بقوله رحمه الله تعالى: " وشروط صحتها إمام، ومسجد وخطبة، وموضع الاستيطان، وجماعة يمكنهم المثوى به من غير عدد محصور " يعني أن الجمعة لها شروط صحة ويعبر عنها بشروط الأداء كما أن لها شروط وجوب، وتقدم أن شروط وجوبها أربعة وهي الإسلام، والحرية، والذكورية، والاستيطان ببلدها أو قريبا منها بكفرسخ، وأما شروط صحتها فأربعة أيضا الإمام، والمسجد، والخطبة، وحضور الجماعة التي تنعقد بهم. وقال صاحب العزية: ولأدائها أربعة شروط الأول الإمام المقيم، فلا تصح أفذاذا، ولا بإمام مسافر، الثاني الجماعة وهي غير محدودة بعدد مخصوص، ولكن لا تجزئ منها الثلاثة ولا الأربعة وما في معنى ذلك، بل لا بد أن يكونوا عددا تتقرى بهم قرية مستغنين عن غيرهم آمنين على أنفسهم. وهذا العدد شرط في الابتداء لا في الدوام، فإن انفضوا من خلف الإمام وبقي منهم اثنا عشر لسلامه صحت وإلا فلا. الثالث الجامع، وهو شرط لها، فلا تصح في غيره، ولا على سطحه، ولا في بيت قناديله، وتصح في صحن المسجد ورحابه والطرق المتصلة به، إلا في حق الإمام فلا تصح له إلا في المسجد ولو ضاق، فإن وقع ونزل بأن صلى الإمام على السطح أو في بيت قناديل أو في رحاب المسجد أو الطريق ولو اتصلت الصفوف به بطلت عليه وعليهم. الرابع الخطبة قبل الصلاة، ولا تصح الخطبة إلا بحضور الجماعة التي تنعقد بهم الجمعة اهـ مع إيضاح. وقد تقدم الكلام على الخطبة فراجعه إن شئت. ثم قال رحمه الله تعالى: " ولها أذانان الأول على المنارة، والآخر بين يدي الإمام إذا جلس على المنبر فإذا فرغوا أخذ في الخطبة " قال أبو محمد في الرسالة: والسنة المتقدمة أن يصعدوا حينئذ على المنار فيؤذنون، ويحرم حينئذ البيع، وكل ما يشغل عن السعي إليها، وهذا الأذان الثاني أحدثه بنو أمية اهـ. وقوله بنو أمية يعني عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو أول أمراء بني أمية اهـ. قال النفراوي: قال ابن حبيب كان النبي

صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد رقي المنبر فجلس ثم يؤذن المؤذنون، وكانوا يؤذنون على المنار واحدا بعد واحد، فإذا فرغ الثالث قام النبي صلى الله عليه وسلم يخطب وكذا في زمن أبي بكر وعمر، ثم لما كثرت الناس أمر عثمان بإحاث أذان سابق على الذي كان يفعل على المنار وأمرهم بفعله بالزوراء عند الزوال، وهو موضع بالسوق ليجتمع الناس، ويرتفعوا من السوق، فإذا خرج وجلس على المنبر أذن المؤذنون على المنار. ثم إن هشام بن عبد الملك في زمن إمارته على المدينة أمر بنقل الأذان الذي كان على المنار بأن يفعل بين يديه عند جلوسه على المنبر، فصار الأمر إذا خرج هشام وجلس على المنبر أذن المؤذنون كلهم بين يديه، فإذا فرغوا خطب، ولهذا قال الجلاب: ولها أذانان، أحدهما عند الزوال والآخر عند جلوس الإمام على المنبر، والثاني منهما آكد من الأول، وعنده يحرم البيع والشراء. هذا هو الصحيح الذي عليه مالك وابن القاسم وابن حبيب وعبد البر وغيرهم من الأئمة المحققين. انظر الفواكه وفيه مقابل الصحيح وتأمل. ثم قال رحمه الله تعالى: " ومن أدرك منها ركعة فقد أدركها، فإن أدرك دونها صلى ظهرا، وهل يبني على إحرامه قولان " المشهور من القولين أنه لا يبني على إحرامه بل يقطع ويصلي ظهرا بإحرام جديد. قال خليل في من رعف مع الإمام وإن لم يتم ركعة في الجمعة ابتدأ ظهرا بإحرام جديد. قال الدردير عليه: ولا يبني على إحرامه الأول. الدسوقي قوله ولا يبني على إحرامه: أي بناء على عدم إجزاء نية الجمعة عن الظهر. وقال ابن القاسم: يبني على إحرامه ويصلي أربعا بناء على إجزاء نية الجمعة عن الظهر. والقول بعدم البناء على إحرامه وهو المشهور، وعليه فلو بنى على إحرامه وصلى أربعا فالظاهر الصحة كما قاله الحطاب اهـ، قال العلامة ابن جزي في القوانين: إذا لم يدرك المسبوق ركوع الركعة الأخيرة فدخل في السجود أو الجلوس فقد فاتته الصلاة

كلها، فيقوم فيصليها كاملة، فإن جرى له ذلك في الجمعة صلاها ظهرا أربعا وقال أبو حنيفة ركعتين جهرا اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " ومن صلى الظهر لوقت يدرك منها ركعة فهي باطلة " هذه الجملة ساقطة في بعض النسخ، والصواب إثباتها. قال خليل في المختصر: وغير المعذور إن صلى الظهر مدركا لركعة لم يجزه. وعبارة صاحب أقرب المسالك: وغير المعذور إن صلاة مدركا لركعة لو سعى لم يجزه كمعذور زال عذره أو صبي بلغ اهـ. قال الخرشي: يعني أن غير المعذور ممن تلزمه الجمعة إذا أحرم بالظهر وكان بحيث لو سعى إلى الجمعة لأدرك منها ركعة فإن الظهر لا تجزئه على الأصح (¬1) وهو قول ابن القاسم وأشهب وعبد الملك لأن الواجب عليه جمعة ولم يأت بها ويعيد ظهرا إن لم يمكنه جمعة، وسواء أحرم بالظهر مجمعا على أنه لا يصلي الجمعة أم لا، عمدا أو سهوا، وإن لم يكن وقت إحرامه مدركا بركعة من الجمعة لو سعى إليها أجزأته ظهره. وظاهر قوله لم تجزه سواء كانت تجب عليه وتنعقد به، أو تجب عليه ولا تنعقد به كالمسافر الذي أقام في محل الجمعة إقامة تقطع حكم السفر. وأما من لا تجب عليه أصلا فإنه من المعذورين أو غير مكلف فتجزئه صلاة الظهر ولو كان يدرك صلاة الجمعة اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " ومن لا تلزمه تنوب عن ظهره " يعني أن من لا تلزمه الجمعة كالعبد والمسافر إذا حضرها وصلاها تجزئه عن الظهر ولا يطالب بها وفي الحديث " الجمعة على كل مسلم إلا على أربعة العبد والمرأة والصبي والمريض إذا كان لا يقدر على السعي " اهـ وفي الرسالة: ولا تجب على مسافر، ولا على أهل منى، ولا على عبد، ولا امرأة، ولا صبي، وإن حضرها عبد أو امرأة فليصليها وتكون النساء ¬

(¬1) قوله على الأصح، عبارة ابن جزي: من ترك الجمعة لغير عذر وصلى ظهرا أربعا فإن كان بعد صلاة الجمعة أجزأه مع عصيانه، وإن كان قبلها وجبت عليه الجمعة اهـ.

خلف صفوف الرجال، ولا تخرج إليها الشابة اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وتاركها لغير عذر لا يصلي الظهر جماعة " يعني أن من ترك الحضور إلى الجمعة بغير عذر لا يصلي الظهر جماعة. قال خليل: ولا يجمع الظهر إلا ذو عذر اهـ قال الخرشي: يعني لا يصلي الظهر جماعة من غير كراهة من فاتته الجمعة إلا ذو عذر لا يمكن معه حضورها من سفر ومرض وسجن فليطلب منه الجمع اهـ. تنبيه: تكره صلاة الظهر جماعة يوم الجمعة لغير أرباب الأعذار الكثيرة الوقوع وأما أرباب الأعذار الكثيرة الوقوع فالأولى لهم الجمع. ويندب صبرهم إلى فراغ صلاة الجمعة وإخفاء جماعتهم لئلا يتهموا بالرغبة عن الجمعة. واحترزنا بكثرة الوقوع عن نادرة الوقوع كخوف بيعة الأمير الظالم، فإنه يكره للخائف الجمع، وإذا جمعوا لم يعيدوا على الأظهر خلافا لمن قال بإعادتهم إذا جمعوا. وقد وقعت هذه المسألة بالإسكندرية، فتخلف ابن وهب وابن القاسم عن الجمعة فلم يجمع ابن القاسم، ورأى أن ذلك نادر، وجمع ابن وهب بالقوم وقاسها على المسافر، ثم قدما على مالك فسألاه فقال: لا تجمعوا ولا يجمع إلا أهل السجن والمرض والمسافر اهـ الصاوي على أقرب المسالك. ثم قال رحمه الله تعالى: " وقدوم المسافر والعتق والبلوغ والإفاقة لوقت يدركها يوجب إتيانها " يعني أن قدوم المسافر والعتق والبلوغ والإفاقة لوقت يدركها يوجب إتيانها " يعني أن قدوم المسافر لبلده أو المحل الذي نوى فيه الإقامة تقطع حكم السفر بحيث لو سعى إلى الجمعة يدرك منها ركعة يوجب عليه إتيانها. قال خليل: أو صلى الظهر ثم قدم اهـ. قال الخرشي: عطف على أدرك، يريد أن المسافر إذا صلى الظهر قبل قدومه من السفر في جماعة أو فذا أو صلاها مع العصر كذلك ثم قدم وطنه أو غيره ناويا إقامة تقطع السفر فيجد الناس لم يصلوا الجمعة فإنه يلزمه أن يصليها معهم عند مالك لتبين استعجاله اهـ. ونقل عن أبي محمد: إن صلى صبي ثم احتلم قبل الغروب بخمس ركعات أعاد ظهرا، وفي من سقطت عنه جمعة قولان. وعن ابن رشد إن برأ مريض

أو عتق عبد لإدراكه ركعة منها بعد أن صلاها ظهرا ففي لزومها قولان. قال ابن شاس: وتلزم من أدركها لزوال عذره ولو صلى كالبلوغ. فتحصل من تلك النصوص أن من زال عذره من مرض أو سجن أو قدوم من السفر، أو بلغ الصبي أو عتق العبد، أو أفاق المجنون، أو انتبه النائم، أو تذكر الساهي لمقدار ما يدرك أحدهم ركعة من الجمعة لزمه إتيانها ولو صلاها ظهرا مطلقا صلاها فذا أو جماعة، حضرا أو سفرا. وقيل يعيد الظهر استحبابا إن صلاها قبل زوال العذر اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " ومن زالت عليه الشمس وهو يريد سفرا لزمته " يعني أن من أراد أن يسافر في يوم الجمعة ولم يخرج حتى زالت عليه الشمس لزمته صلاة الجمعة، إلا أن يعلم ويتحقق أنه يدركها في البلد الذي أراد أن يسافر إليه. قال ابن جزي في القوانين: الفرع الثالث يجوز السفر يوم الجمعة قبل الزوال، وقيل يكره وفاقا للشافعي وابن حنبل، ويمنع بعد الزوال وقبل الصلاة اتفاقا اهـ. قال عبد الباري: ويحرم السفر عند الزوال من يوم الجمعة على من تجب عليه الجمعة اهـ، يعني لا يجوز السفر بعد الزوال لتعلق الخطاب به. ومحل الحرمة ما لم يحصل له ضرر بعدم السفر عند الزوال من ذهاب ماله ونحوه، كذهاب رفقة فإنه يباح له السفر حينئذ. ومحل الحرمة أيضا ما لم يتحقق إدراك الجمعة، أما إن تحقق إدراكها بقرية جمعة أخرى قبل إقامتها فيها فيجوز سواء كان قصده مجرد المرور بتلك القرية أو الإقامة فيها ولو لم ينو إقامة أربعة أيام، أفاده الصفتي نقلا عن العدوي اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولا يقام في مصر جمعتان " هذا هو المشهور كما نص عليه المتقدمون. قال خليل في المختصر: وبجامع مبني متحد، والجمعة للعتيق وإن تأخر أداء اهـ. قال المواق نقلا عن الجلاب: لا تصلى الجمعة في مصر واحد في مسجدين، فإن فعلوا فالصلاة صلاة أهل المسجد العتيق. وقال أبو محمد: إن كان في البلد جامعان فالجمعة

لمن صلى في الأقدم، صلى فيه الإمام أو في الأحدث اهـ. وقال النفراوي في الفواكه: وإن تعدد فالجمعة للعتيق إلا أن يكون البلد كبيرا بحيث يعسر اجتماعهم في محل، ولا طريق بجواره تمكن الصلاة فيها فيجوز حينئذ تعدده بحسب الحاجة، كما ارتضاه بعض شيوخ المذهب. ثم قال: ينبغي أن يلحق بذلك وجود العداوة المانعة من اجتماع الجميع في محل واحد، بل لو قيل إن هذا أولى لجواز التعدد لما بعد اهـ. وفي بعض تقييدات هذا المحل لبعض الأفاضل أنه قال: ورجح المتأخرون جواز تعدد الجمعة وعليه العمل عندنا بالمغرب، وهو الصواب إلى آخر ما قال اهـ. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: " ووقتها كالظهر " يعني أن وقت صلاة الجمعة كوقت صلاة الظهر، أوله زوال الشمس عن كبد السماء ممتدا للغروب على المشهور. وقيل إلى الاصفرار. وقيل إلى القامة. وقال الخرشي: وهذا إذا أخرها الإمام والناس لعذر. وفي المدونة: قال ابن القاسم: إن أخر الإمام صلاة الجمعة حتى دخل وقت العصر فيصلي الجمعة بهم ما لم تغب الشمس وإن كان لا يدرك بعض العصر إلا بعد الغروب اهـ. وإذ ذهبنا على المشهور من أن وقت الجمعة ممتد للغروب فهل هو مقيد بأن يخطب ويصلي ويبقى من الوقت ما يدرك ركعة من العصر قبل الغروب، أو لا يعتبر بقاء ما يدرك فيه ركعة من العصر فيصلي الجمعة ولو علم أنه لا يدرك العصر إلا بعد الغروب قولان اهـ انظر الحطاب.

فصل في صلاة العيدين

صلاة العيدين ولما أنهى الكلام على الجمعة انتقل يتكلم على بيان صلاة العيدين فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في صلاة العيدين أي في بيان أحكام صلاة العيدين، وهما عيد الفطر وعيد الأضحى. قال رحمه الله تعالى: " صلاة العيدين سنة " أي مؤكد تلي الوتر في التأكيد، وليس أحدهما أوكد من الأخر. قاله الدردير. وفي الرسالة: وصلاة العيدين سنة واجبة أي مؤكدة على الأعيان. قال النفراوي: والدليل على سنيتها مواظبته صلى الله عليه وسلم عليها إلى أن فارق الدنيا اهـ. وقال زروق على الرسالة: يعني تجب إقامتها لأنها من السنن المؤكدة المظهرة لشعائر الإسلام. قال ابن دقيق العيد: لا خلاف أنها من الشعائر المطلوبة شرعا. وقد تواتر بها النقل الذي يقطع العذر ويغني عن أخبار الآحاد. والمشهور ما ذكر الشيخ من السنية فيهما اهـ. ثم ذكر كيفيتها بقوله رحمه الله تعالى: " وهي ركعتان بغير أذان " وفي الرسالة: ليس فيها أذان ولا إقامة، فيصلي بهم ركعتين. وعن جابر: " صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم العيد بلا أذان ولا إقامة " قال ابن عبد البر: وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين اهـ. قال رحمه الله تعالى: " يفتتح الأولى بسبع تكبيرات مع الإحرام، والثانية بست مع القيام " يعني أن المصلي صلاة العيدين يفتتحهما بتكبيرات، يكبر في الركعة الأولى سبع تكبيرات ولاء إلا قدر تكبير المؤتم، يعد منها تكبيرة الإحرام، وفي

الثانية يكبر ستا مع تكبيرة القيام. وعبارة خليل: وافتتح بسبع تكبيرات بالإحرام، ثم بخمس غير القيام اهـ وفي العدوي على الخرشي: ولا يتبع الإمام إن زاد على السبع أو الخمس لأنه غير صواب، والخطأ لا يتبع فيه، سواء زاد عمدا أو سهوا. ولا يتبع أيضا في نقص، بل يكمل المأموم، هذا إذا كان الإمام مالكيا، وأما لو كان ممن يرى الزيادة على السبع ففي شرح الشبرخيتي: الظاهر أنه يزيد، وليس كتكبير الجنازة لأن تكبيرة الجنازة انعقد عليه الإجماع اهـ مع إيضاح. ثم قال رحمه الله تعالى: " يخطب بعدها خطبتين، يفتتح كلا بتسع تكبيرات نسقا، وفي أثنائها، ويكبر الناس بتكبيره " وقوله بتسع تكبيرات، هذا ولم يحدد مالك التكبير في أول الخطبتين ولا خلالهما لعدم وروده. قال خليل في المختصر: واستفتاح بتكبير وتخللهما به بلا حد اهـ. قال الخرشي: أي وندب استفتاح الخطبتين وتخليلهما بالتكبير بلا حد في الاستفتاح بسبع، والتخليل بثلاث، بخلاف خطبة الجمعة فإن افتتاحها وتخليلها بالتحميد. وسيأتي أن خطبة الاستسقاء تكون باستغفار اهـ. وقال النفراوي: ثم بعد السلام يرقى المنبر ويخطب ندبا خطبتين كخطبتي الجمعة، في كونهما باللفظ العربي وجهرا، لكن خطبة العيد يفتتحها بالتكبير وخطبة الجمعة بالحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وينبغي أن تكون الخطبة الثانية مشتملة على بيان ما يتعلق بصدقة الفطر في عيد الفطر مع بيان من يطلب بإخراجها، والقدر المخرج والنوع المخرج منه، وزمن إخراجها، وفي عيد النحر على بيان ما يتعلق بالضحية، ومن يؤمر بها، وما تكون منه، والسن المجزي منها وزمن تذكيتها اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " ومستحباتها كالجمعة " منها الزينة بالثياب الجديدة للقادر عليه ولو أسود، ومنها الغسل والنظافة، ومس الطيب، وقص الشارب، وتقليم

الأظفار، والسواك، وإحياء ليلته بالعبادة. فلو اتفق أن يوم الجمعة يوم عيد تزين في كل وقت بما يناسبه. ومن المستحب ما أشار به رحمه الله بقوله: " ويستحب الأكل يوم الفطر قبل الخروج، ويوم الأضحى بعد الرجوع " وذلك لخبر الدارقطني " أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يفطر حتى يرجع ليأكل من كبد أضحيته " اهـ. وورد أيضا أن أول ما يأكل أهل الجنة عند دخولها كبد الحوت الذي عليه الأرض اهـ. قال خليل في المندوبات: وفطر قبله في الفطر، وتأخيره في النحر اهـ. قال الحطاب: وفي مختصر الوقار: يستحب للمرء أن يطعم يوم الفطر بعد صلاة الصبح شيئا من الحلو إن أمكن قبل صعوده المصلى اهـ قال في التوضيح: قال الباجي: ويستحب أن يكون فطره على تمرات، لما رواه الترمذي وحسنه " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يأكل تمرات " زاد البغوي فيه " ويأكلهن وترا " اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ووقتها من ارتفاع الشمس إلى الزوال " قال مالك في المدونة: وأحب للإمام في الأضحى والفطر أن يخرج بقدر ما إذا بلغ إلى المصلى حلت الصلاة اهـ وفي الرسالة: يخرج لها الإمام والناس ضحوة بقدر ما إذا وصل حانت الصلاة، أي حلت اهـ. وقال خليل: من حل النافلة للزوال: يعني أن وقت صلاة العيدين من حل النافلة إلى زوال الشمس، فإن لم يظهر الأمر ولم يتحقق بأن اليوم يوم العيد إلا بعد الزوال لا يصلون العيد في بقية اليوم ولا في غيره، هذا في قول مالك. وفي الحديث أنهم يفطرون ويخرجون من الغد، وبه أخذ اللخمي اهـ المواق. قال رحمه الله تعالى: " وفعلها في المصلي أفضل " يعني ينبغي أن يكون إيقاع صلاة العيدين في المصلى، إلا من كان بمكة فإيقاعها في المسجد الحرام أفضل. قال خليل: وإيقاعها به - أي المصلى - إلا بمكة فيندب في مسجدها. وقال الخرشي: أي يستحب إيقاع العيد بالمصلى ولو بالمدينة. والمراد بالمصلى الفضاء والصحراء. وصلاتها

بالمسجد من غير ضرورة داعية بدعة لم يفعله عليه السلام ولا الخلفاء بعده، هذا في غير مكة. وأما من في مكة فالأفضل أن توقع في المسجد، لا للقطع بالقبلة، بل لمشاهدة الكعبة، وهي عبادة مفقودة في غيرها، ولخبر " ينزل على هذا البيت في كل يوم مائة وعشرون رحمة، ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين " اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " ولا يتنفل قبلها ولا بعدها " بل ينصرف من غير تنفل. قال النفراوي: لأنه لا يتنفل قبلها ولا بعدها إذا فعلها في الصحراء. قال خليل: وكره لمصلي العيد تنفل بمصلى قبلها وبعدها، لا بمسجد فيهما، لما في الصحيحين " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوم الأضحى فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما " وأما إن أوقعهما في المسجد فلا يكره لإمام ولا مأموم تنفل قبلها ولا بعدها؛ لأن الحديث إنما كان في الصحراء اهـ انظره في شراح خليل. قال رحمه الله تعالى: " يخرجون مكبرين بطريق ويرجعون بغيرها " يعني أنهم يخرجون مكبرين في ذهابهم إلى المصلى، ويرجعون من طريق غير الأولى. وفي المدونة عن مالك " عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى العيدين من طريق ويرجع من طريق أخرى " اهـ. وفي الرسالة: ويستحب أن يرجع من طريق غير الطريق التي أتى منها والناس كذلك، إلى قوله: وليذكر الله في خروجه من بيته في الفطر والأضحى جهرا حتى يأتي المصلى، الإمام والناس كذلك، فإذا دخل الإمام للصلاة قطعوا ذلك اهـ. وفي المدونة عن ابن عمر أنه كان يجهر بالتكبير يوم الفطر إذا غدا إلى المصلى حتى يخرج الإمام فيكبر بتكبيره اهـ. وقال مالك: والتكبير إذا خرج لصلاة العيدين يكبر حتى يخرج إلى المصلى، وذلك عند طلوع الشمس، فيكبر

في الطريق تكبيرا يسمع نفسه ومن يليه، وفي المصلى إلى أن يخرج الإمام، فإذا خرج الإمام قطع اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " ويستحب التكبير أيام النحر عقب خمس عشرة صلاة أولاهن ظهر العيد " قال في المدونة: يبدأ بالتكبير في أيام الحج دبر صلاة الظهر من يوم النحر إلى دبر صلاة الصبح من آخر أيام التشريق اهـ. وفي الرسالة: فإن كانت أيام النحر فليكبر الناس دبر الصلوات من صلاة الظهر من يوم النحر إلى صلاة الصبح من اليوم الرابع منه، وهو آخر أيام منى، يكبر إذا صلى الصبح، ثم يقطع. والتكبير دبر الصلوات: الله أكبر الله أكبر الله أكبر. وإن جمع مع التكبير تهليلا وتحميدا فحسن، يقول إن شاء ذلك: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. وقد روي عن مالك هذا والأول، والكل واسع اهـ. وقد أشار المصنف لما تقدم بقوله رحمه الله تعالى: " ولفظه: الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد " هذا ظاهر كما تقدم. قال رحمه الله تعالى: " ومن أراد أن يصليها وحده صلاها على صفتها " يعني أن من فاتته صلاة العيدين مع الإمام فله أن يصليها وحده، لا جماعة على الراجح كما في الإكليل. وحاصل ما في الحطاب أنه قال: يستحب له أن يصليها، وهل في جماعة أو أفذاذا قولان، والأصح أنه لا يجوز لهم جمعها اهـ. صلاة الاستسقاء ولما أنهى الكلام على صلاة العيدين وما يتعلق بها انتقل يتكلم على بيان أحكام صلاة الاستسقاء فقال رحمه الله تعالى:

فصل في صلاة الاستسقاء

فَصْلٌ في صلاة الاستسقاء أي في بيان الاستسقاء، وهو طلب السقي من الله تعالى عند القحط على وجه مخصوص. والاستسقاء بالدعاء مشروع مأمور به في كل الأحوال إن احتيج إليه. ولا خلاف بين الأمة في جوازه، قاله ابن بشير اهـ. قال رحمه الله تعالى: " تسن الصلاة لطلب الغيث " يعني يسن لمن أصابهم القحط أن يصلوا لطلب المطر لزرع أو شرب أو غيره. وحكمها السنة المؤكدة إلا أن العيد أوكد منها. قال رحمه الله تعالى: " ويستحب تقدمها بصيام وصدقة ونحو ذلك " يعني يندب قبل الخروج إلى المصلى أن يصوموا ثلاثة أيام، ويتصدقوا. وفي أقرب المسالك: وصيام ثلاثة أيام قبلها، وصدقة، وأمر الإمام بهما، كالتوبة ورد التبعات اهـ. وأما قول خليل: ولا يأمر بهما الإمام ضعيف، كما في البناني والإكليل. ثم ذكر كيفيتها بقوله رحمه الله تعالى: " وهي ركعتان بالمصلى يخرجون ضحوة متبذلين متخاشعين يظهرون الندم والتوبة " وفي نسخة يخرجون ضحى متذللين متخشعين. وفي الرسالة: وصلاة الاستسقاء سنة تقام، يخرج لها الإمام كما يخرج للعيدين ضحوة، فيصلي بالناس ركعتين يجهر فيهما بالقراءة؛ يقرأ بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها، وفي كل ركعة سجدتان وركعة واحدة، ويتشهد ويسلم اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويصلي بهم قبل الخطبة، ويكثرون الاستغفار حال الخطبة، والأفضل أن يخطب بالأرض " يعني لا بد أن تكون الصلاة قبل الخطبة. وقوله يكثرون الاستغفار يعني ينبغي أن يكثر الإمام والناس الاستغفار في حال الخطبة

بدل التكبير في العيدين قال خليل وبدل التكبير بالاستغفار اهـ. قال الخرشي: يعني أنه يخطب خطبتين كخطبتي العيد، ويبدل التكبير هناك بالاستغفار هنا والناس معه، لقوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا} [نوح: 10، 11] فجعل المطر جزاء الاستغفار اهـ. ومفهوم قوله أن يخطب بالأرض أنه لا يرقى منبرا ولا غيره، بل الأفضل للإمام أنه لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم منبر يخرج به إلى صلاة العيدين، ولا لأبي بكر، ولا لعمر، وأول من أحدث له في العيدين منبر من طين عثمان بن عفان. أحدثه له كثير بن الصلت اهـ قال خليل: وندب خطبة بالأرض، وصيام ثلاثة أيام قبله وصدقة. وتقدم بيان ذلك. قال رحمه الله تعالى: " فإذا فرغ استقبل القبلة وحول رداءه وحولوا أرديتهم ما على اليمين على اليسار ويسألون الله تعالى " يعني إذا سلم الإمام توجه إلى الناس بوجهه. وفي الرسالة: ثم يستقبل الناس بوجهه فيجلس جلسة، فإذا اطمأن الناس قام متوكئا على قوس أو عصا فخطب، ثم جلس، ثم قام فخطب، فإذا فرغ استقبل القبلة فحول رداءه، يجعل ما على منكبه الأيمن على الأيسر، وما على الأيسر على الأيمن، ولا يقلب ذلك، وليفعل الناس مثله وهو قائم وهم قعود اهـ. قلت هذا نحو ما قاله مالك في المدونة في صلاة الاستسقاء أنه قال: يخرج الإمام، فإذا بلغ المصلى صلى بالناس ركعتين، يقرأ فيهما بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها ونحو ذلك، ويجهر بالقراءة، ثم يسلم، ثم يستقبل الناس ويخطب عليهم خطبتين، يفصل بينهما بجلسة، فإذا فرغ من خطبته استقبل القبلة مكانه، وحول رداءه قائما، يجعل الذي على يمينه على شماله، والذي على شماله على يمينه مكانه حين يستقبل القبلة، ولا يقلبه فيجعل الأسفل الأعلى والأعلى والأسفل، ويحول الناس

أرديتهم كما يحول الإمام فيجعلون الذي على أيمانهم على أيسارهم والذي على أيسارهم على أيمانهم، ثم يدعو الإمام قائما ويدعون وهو قعود، فإذا فرغ من الدعاء انصرف وانصرفوا اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " والمستحب " الذي ينبغي أن يدعو به في الاستسقاء من الأدعية دعاؤه عليه الصلاة والسلام وهو: " اللهم اسقنا من بركات السماء ما تنبت لنا به الزرع، وتدبر لنا به الضرع، وتدفع عنا به الجهد، ولا تجعلنا من القوم القانطين. اللهم اسق عبادك وبهيمتك وانشر رحمتك وأخي بلدك الميت " روى بعضه أبو داود. وفي زاد المعاد للعلامة ابن القيم. قال روي عن سالم بن عبد الله عن أبيه مرفوعا " أنه كان إذا استسقى قال: اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريعا غدقا مجللا عاما طبقا سحا دائما، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد والبهائم والخلق من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنبت لنا من بركات الأرض، اللهم ارفع عنا الجهد، والجوع، والعري، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا ". قال الشافعي، رضي الله عنه: وأحب أن يدعو الإمام بهذا اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " فإن أجيبوا وإلا عادوا ولو مرارا " يعني فإن أجاب الله لهم فلله الحمد والشكر، وإلا فلا بأس بتكررها مرة بعد أخرى حتى يستجاب لهم. وفي أقرب المسالك: وكررت إن تأخر، أي يجوز تكرارها إن تأخر السقي بأن لم يحصل، أو حصل دون الكفاية اهـ. قال الزروق في شرحه على الرسالة: ابن شاس ولا بأس بتكررها إذا تأخرت الإجابة. ابن حبيب: ولا بأس بأيام متوالية، ويستسقي في إبطاء

النيل. أصبغ: فعل بمصر خمسة وعشرين يوما متوالية على سنة الاستسقاء. وحضر ابن القاسم وابن وهب ورجال صالحون فلم ينكروه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولا بأس بخروج الأطفال والبهائم والقواعد وأهل الذمة منفردين عن المسلمين لا منفردين بيوم "، قوله ولا بأس بخروج الأطفال والبهائم فيه خلاف، نقل الخرشي عن الجزولي في شرحه على الرسالة قال: الذين يخرجون للاستسقاء ثلاثة أقسام: قسم يخرجون باتفاق وهم الرجال والصبيان الذين يعقلون الصلاة والعبيد والمتجالات من النساء. وقسم لا يخرجون باتفاق وهن النساء في حال حيضهن ونفاسهن، كذلك الشابة الناعمة لأن خروجها ينافي الخشوع، وقسم اختلف فيهم وهم البهائم، والصبي الذي لا يعقل، والشابة التي ليست بناعمة، وأهل الكتاب. انتهى. ابن شاس: والمشهور أن إخراج الصبيان والبهائم غير مشروع، وكذلك الشابة التي لا يخشى منها الفتنة. وعبارة النفراوي أنه قال: وقسم اختلف فيه وهو من لا يعقل القربة، والشابات غير المخشيات، والبهائم. والذي اقتصر عليه خليل عدم خروجهم، فإنه قال: لا من لا يعقل منهم، وبهيمة. وأما أهل الذمة فأباح في المدونة خروجهم مع الناس، ولكن يقفون على جهة ولا ينفردون بيوم آخر. قال خليل: ولا يمنع ذمي، وانفرد لا بيوم آخر اهـ. وإذا علمت ذلك تعرف أن إطلاق المصنف فيه تقييد وتفصيل فتأمل اهـ.

فصل في صلاة الكسوف

صلاة الكسوف ولما أنهى الكلام على الاستسقاء وما يتعلق به انتقل يتكلم على بيان صلاة الكسوف فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في صلاة الكسوف أي في بيان أحكام الكسوف وما يتعلق به. وفي شرح الرسالة زروق: الخسوف لغة التغيير، ولأهل اللغة كلام في الخسوف والكسوف يطول ذكره. ابن بشير: الخسوف عبارة عن ظلمة أحد النيرين الشمس والقمر أو بعضهما. وفي سبب ذلك ومادته ما يطول ذكره فانظره إن شئت اهـ. قال رحمه الله تعالى: " صلاة كسوف الشمس ركعتان " بدأ المصنف بكيفيتها ولم يذكر حكمها، وهي سنة مؤكدة يخاطب بها كل من يؤمر بالصلاة ولو ندبا، فتخاطب بها النساء، والعبيد، والصبيان الذين عقلوا القربة، والمسافر والحاضر في ذلك سواء. وتصليها المرأة في بيتها لأن الجماعة غير شرط فيها، بل مستحبة للرجال في المساجد. وهي مشروعة كتابا وسنة وإجماعا. وقد بدأ صاحب الرسالة بذكر حكمها بقوله: وصلاة الخسوف سنة واجبة، إذا خسفت الشمس خرج الإمام إلى المسجد فافتتح الصلاة بالناس من غير أذان ولا إقامة إلخ كما قال رحمه الله: " يجمع لها بالمسجد بغير أذان ولا خطبة " يعني أن تكون في المسجد لا الصحراء، لا أذان فيها ولا إقامة، وكذا لا خطبة فيها خلافا للشافعي. وفي الرسالة: وليس في أثر صلاة خسوف خطبة مرتبة، ولا بأس أن يعظ الناس ويذكرهم كما سيأتي عن المصنف. قال رحمه الله تعالى: " في كل ركعة ركوعان وقراءتان، يطيل القراءة سرا

والركوع نحوها " أي يطيل القراءة سرا، ويكون الركوع نحو القراءة. قال رحمه الله تعالى: " ثم يرفع ويقرأ دون الأولى " أي دون قراءته الأولى. قال رحمه الله تعالى: " ويركع نحوها " يعني يركع ركوعا طويلا نحو قراءته الثانية. وفي المدونة عن مالك بإسناده إلى عبد الله بن عباس، رضي الله عنه، قال: " خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس نعه، فقام قياما طويلا نحوا من سورة البقرة، ثم ركع ركوعا طويلا، ثم رفع رأسه فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فقام قياما طويلا دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم رفع رأسه فسجد ثم انصرف وقد تجلت الشمس " اهـ. ومثله في الموطأ. ثم قال رحمه الله تعالى: " وهل يطيل السجود قولان " المشهور منهما التطويل نحو الركوع الثاني استحبابا. قال الدردير: والسجود كالركوع في الطول ندبا، يسبح فيه ويدعو بما شاء. وأما الجلسة بين السجدتين فعلى العادة ولا تطويل فيها اتفاقا اهـ قال رحمه الله تعالى: " وهل يفتتح كل قراءة بالفاتحة، أو يختص بالأولى والثانية؟ قولان " المشهور منهما أنه يفتتح كل قراءة بالفاتحة. قال النفراوي في الفواكه: ظاهر كلام المصنف أن الفاتحة تكرر في كل قيام، وهو كذلك على مشهور المذهب اهـ. قال الشيخ زروق: ويستحب في الأولى بعد الفاتحة سورة البقرة، وثانيا بالفاتحة وآل عمران، وثالثا النساء ورابعا المائدة بعد الفاتحة. وأي سورة قرأ أجزأت. والمشهور إعادة الفاتحة في القيامين الزائدين خلافا لابن مسلمة. ويطيل نحو القراءة كالسجود على المشهور اهـ.

ثم قال رحمه الله تعالى: " فإذا سلم أقبل على الناس فوعظهم وذكرهم " قال المواق: روى ابن عبد الحكم يستقبل الإمام الناس بعد سلامه فيذكرهم ويخوفهم ويأمرهم أن يدعوا الله ويكبروا ويتصدقوا. قال ابن يونس: ولا خطبة مرتبة فيها اهـ. وتقدم قول صاحب الرسالة: وليس في أثر صلاة خسوف الشمس خطبة مرتبة، ولا بأس أن يعظ الناس ويذكرهم. قال خليل عاطفا على المندوب: ووعظ بعده، لأن الوعظ إذا ورد بعد الآيات يرجى تأثيره. وكما يستحب لإمام وعظ الناس يستحب له تحريضهم وحثهم على بذل الصدقات والعتق والصيام. والأصل في ذلك ما في الحديث: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله " وأما ما يفعله الناس من نقر النحاس عند الخسوف فهو بدعة من عمل فرعون اهـ النفراوي. ثم قال رحمه الله تعالى: " وتدرك بركوعها الرابع ويقضي الركعة الأولى دون القيام الثالث " وفي المختصر: وتدرك بالركوع الثاني. قال الدسوقي: وحينئذ فمن أدرك مع الإمام الركوع الثاني من الأولى لم يقض شيئا، وإن أدرك الركوع الثاني من الركعة الثانية قضى الركعة الأولى بقيامها فقط ولا يقضي القيام الثالث اهـ قال الخرشي: وتدرك الركعة من كل من ركعتيها بالركوع الثاني من الركوعين لأنه الواجب. وقال العلامة العدوي في حاشيته عليه: قوله لأنه الواجب أي فلا يقضي من أدرك الركعة الأولى شيئا، ويقضي من أدرك الركوع الثاني من الركعة الثانية الركعة الأولى فقط بقيامها، ولا يقضي القيام الثالث اهـ. وقال أيضا في حاشيته على أبي الحسن: فتدرك ركعتها بالركوع الثاني من الركوعين فمن دخل مع الإمام في الركوع الثاني من الركعة الأخيرة فقد أدرك الصلاة مع الإمام، ويقضي الأولى بركوعين وقيامين اهـ. وقال في حاشية الخرشي: ومثل فرضية الركوع الثاني القيام الذي قبله. والركوع الأول سنة كما في الشيخ

سالم، كالقيام الذي قبله. وظاهر أن الفاتحة كذلك سنة في الأولى وفرض في الثانية، وظاهر المواق وابن ناجي فرضيتها قطعا في أول كل قيام من الركعتين انظره اهـ. ثم شرع يتكلم على خسوف القمر فقال رحمه الله تعالى: " وصلاة خسوف القمر كالنوافل ولا يجمع لها " يعني صفتها كسائر النوافل ركعتين ركعتين، أي يسلم من كل اثنتين بدون تطويل، بركوع واحد وقيام واحد، والقراءة فيهما جهرا لأنها صلاة ليلية. ويكره أن يصليها جماعة. والأفضل كونها في البيوت. والله موفق للصواب. وهنا تم ما احتواه كتاب السفر وما عطف عليه من الفصول الستة، وما يتعلق بجميع ذلك. ثم انتقل الآن يتكلم فيما يتعلق بالجنازة وأحكامها. فقال رحمه الله تعالى:

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز وينبغي للعاقل أن يتذكر ويتفكر، ولا يتغافل عن الموت وما بعده لأنه يأتي لا محالة. وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت " رواه الترمذي والنسائي وابن حبان، وفي الرسالة: والفكرة في أمر الله مفتاح العبادة، فاستعن بذكر الموت والفكرة فيما بعده، وقد أوضح المصنف في هذا الكتاب كيفية ما يفعل بالميت من إغماضه إذا قضى بنزع روحه، وغسله، وتكفينه، وتحنيطه، وحمله إلى قبره بعد الصلاة عليه، ودفنه هناك، وما يتعلق به من مؤن التجهيز فقال رحمه الله تعالى: " يوجه المختصر إلى القبلة " المحتضر من حضره الموت. قال النفراوي: لأن القبلة أفضل الجهات. وفيه التفاؤل بأنه من أهلها، ولما روي عن عمر، رضي الله عنه، أنه قال لابنه: إذا حضرتني الوفاة فاصرفني إلى القبلة. ومثله عن علي، رضي الله عنه. . والمستحب في صفة الاستقبال أن يجعل على جنبه الأيمن وصدره إلى القبلة، كما يستحب أن يوضع في قبره على جنبه الأيمن مستقبلا. وهذا بخلاف للغسل، فيستحب وضعه على جنبه الأيسر ليبدأ بغسل الجنب الأيمن. ومقدمات الموت إحداد بصره، وشخوصه إلى السماء. قال خليل عاطفا على المندوب: وتقبيله عند إحداده على أيمن ثم ظهر، ويكره أن يستقبل به القبلة قبل ظهور علامات الموت كما يفعله العوام، فإن ذلك يؤذي المريض اهـ قال رحمه الله تعالى: " ويلقن الشهادتين ويقرأ عنده يس " يعني يستحب أن يلقن المحتضر بأن يقول الجالس عنده: لا إله إلا الله محمد رسول الله. قال النفراوي ولو لم يقل أشهد، ولا بد من جمع محمد رسول الله مع لا إله إلا الله، إذ العبد لا يكون مسلما إلا بهما. والأصل في ذلك قوله

صلى الله عليه وسلم: " لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ليكون ذلك آخر كلامه " فإن قالها مرة ثم تكلم بغيرها أعيدت، فإن لم يتكلم ترك. قاله زروق اهـ قوله ويقرأ عنده يس، والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " اقرأوا على موتاكم يس " رواه أبو داود والنسائي. وفي الرسالة: وأرخص بعض العلماء في القراءة عند رأسه بسورة يس ولم يكن ذلك عند مالك أمرا معمولا به. قلت والأفضل قراءتها للمحتضر عند رؤية علامة الموت، لخبر: " إذا قرئت عليه سورة يس بعث الله ملكا لملك الموت أن هون على عبدي الموت " وحديث أبي الدراء: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من ميت تقرأ عنده سورة يس إلا هون الله عليه " اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " فإذا قضى أغمض وشد لحياه وسجي " يعني إذا مات يستحب إغلاق عينيه برفق، بأن يأخذ الماء ويمسح به على عيني الميت، ويستحب أن يتولى ذلك من هو أحب وأرفق به من أوليائه. ويستحب شد لحييه بعصابة ويربطهما من فوق رأسه لينطبق فاه؛ لأن عدم إغماضه وشد لحييه يقبح منظره اهـ. قال ابن جزي: فإذا قضى غمضت عيناه، ووجب له أربعة حقوق: أن يغسل، ويكفن، ويصلى عليه، ويدفن. قوله: وسجي أي غطي بثوب زيادة على ما عليه حال الموت، ويستحب تليين مفاصله برفق عقب الموت فيرد ذراعيه لعضديه وفخذيه لبطنه تسهيلا على الغاسل اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ثم يؤخذ في غسله فيرفع على سرير ويجرد الرجل وتستر عورته " يعني ثم يشرع في الغسل بأن يوضع على شيء مرتفع كسرير وتستر عورته وجوبا. قال خليل: وستر الغاسل من سرته لركبته عنه وعن غيره من الأجانب عند تجريده للغسل. ومحل الوجوب إذا كان الغاسل غير سيد وغير زوج وإلا ندب فقط. والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " لا ينظر لفخذ حي ولا ميت " وصفة سترها

أن يلف خرقه ويضعها على قبله، ثم يجعل ثوبا آخر بدبره. وأما غسل المرأة للمرأة فإنها تستر من سرتها إلى ركبتها. ولا يطلع على المغسول غير غاسله والمعين له، قاله النفراوي اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويوضأ ويغسل كالجنب، يكرر وترا إحداهن بالماء القراح، ويجعل في بعضهن سدر إن احتاج إلى ذلك، وفي الأخيرة كافور، ولا تباشر عورته إلا لضرورة ويعصر بطنه برفق، ولا يؤخذ له ظفر ولا شعر، ولا يحضره إلا من يساعد في غسله " يعني يستحب أن يوضأ الميت قبل الشروع في تغسيله. قال في الرسالة: وإن وضئ وضوء الصلاة فحسن، وليس بواجب اهـ. قوله كالجنب، أي كغسل الجنابة سواء، إلا أن هذا لا يحتاج إلى نية بخلاف الجنابة. قواه: يكرر وترا أي يستحب أن يغسل الميت وترا ثلاثا أو خمسا أو سبع غسلات. قال مالك: وليس لغسل الميت عندنا شيء موصوف، وليس لذلك صفة معلومة، ولكن يغسل فيطهر. قاله في الموطأ. ومثله في الرسالة. ونصها: وليس في غسل الميت حد ولكن ينقى ويغسل وترا بماء وسدر، ويجعل في الأخيرة كافور كما ذكره المصنف. وقوله بالماء القراح: بفتح القاف الذي لا يشوبه شيء كما مر في الماء المطلق. والمراد بالغسل أن ينقى بالماء الطاهر ولو ماء زمزم فإنه يجوز أن يغسل الميت به على المشهور، لما يرجى فيه من البركة للميت. والمشهور أن الغسل تعبدي. وقوله: ويعصر بطنه برفق إلخ وفي الرسالة: ولا تقلم أظفاره، ولا يحلق شعره، ويعصر بطنه عصرا رفيقا إلى أن قال: ويقلب لجنبه في الغسل أحسن، وإن أجلس فذلك واسع اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " يتولى ذلك الغسل في الرجل الرجال وفي المرأة النساء. فإن لم يكن فالمحارم وراء ثوب؛ فإن لم يكن يممته أجنبية إلى المرفقين وييممها إلى الكوعين " يعني يتولى غسل الميت الرجال إن كان رجلا، ويتولى ذلك النساء إن

كانت امرأة. قال مالك في المدونة. في الرجل يموت في السفر وليس معه إلا نساء أمه أو أخته أو عمته أو خالته أو ذات رحم محرم منه فإنهن يغسلنه ويسترنه. قال وكذلك المرأة تموت في السفر مع الرجال ومعها ذو رحم محرم منها يغسلها من فوق الثوب. وهذا إذا لم يكن نساء، وفي المسألة الأولى إذا لم يكن رجال , وقال مالك: إذا مات الرجل مع النساء وليس معهن رجل ولا منهن ذات محرم منه تغسله ييممنه بالصعيد، فيمسحن بوجهه ويديه إلى المرفقين، يضربن بأكفهن الأرض ثم يمسحن بأكفهن على وجه الميت، ثم يضربن بأكفهن الأرض، ثم يمسحن بأكفهن على يدي الميت إلى الرفقين. قال وكذلك المرأة تموت مع الرجال إلا أن الرجال لا ييممون المرأة إلا إلى الكوعين فقط ولا يبلغون بها المرفقين اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وإباحة الاستمتاع إلى حين الموت يبيح الغسل من الجانبين، فلو مات فوضعت جاز لها غسله، ولو أبانها فمات لامتنع. وفي الرجعية خلاف " يعني أن إباحية الاستمتاع إلى حين الموت تبيح الغسل لأحد الجانبين. قال الدردير: وقدم الزوجان بالقضاء إن صح النكاح ولو بالفوات. وإباحة الوطء برق تبيح الغسل بلا قضاء اهـ. وفي الرسالة: ولا بأس بغسل أحد الزوجين صاحبه من غير ضرورة. قال النفراوي: والمعنى أن الحي من أحد الزوجين يقدم في تغسيل صاحبه بالقضاء على أقارب الميتة وعلى من أوصته أيضا. ويندب له القيام بأخذ حقه. والدليل على ما ذكر أن أسماء بنت عميس غسلت زوجها أبا بكر وهو خليفة، وأن أبا موسى الأشعري غسلته زوجته. وأوصت فاطمة عليا أن يغسلها، فكان يصب الماء على أسماء المذكورة وهي تغسلها، وما هذا إلا لثبوت حق الحي في التغسيل. قال في التوضيح: وفي حكم الزوجين السيد مع أمته وأم ولده. قال خليل: وإباحة الوطء للموت برق تبيح الغسل من الجانبين، بخلاف المكاتبة والمبعضة، والمعتقة لأجل والمشتركة، فلا يحل للحي منهما تغسيله لحرمة الاستمتاع بهن. وتقديم السيد على أولياء

الأمة بالقضاء، بخلاف الأمة فلا يقضي لها بالتقديم على أولياء سيدها اهـ. قوله: ولو أبانها إلخ أما البائنة فلا يجوز للبائن تغسيلها ولا هي له كالرجعية، ولا تغسيل لواحد منهما على الآخر. قال الخرشي: وهو مذهب المدونة اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " فإذا فرغ نشف بخرقة وأدرج في أكفانه " والمعنى أنه يندب بعد الفراغ من الغسل تنشيف الميت بخرقة نظيفة قبل إدراجه في الكفن بدون تأخير كما سيأتي صفة تحنيطه وإدراجه على وجه الاستحباب. قال رحمه الله تعالى: " وكفنه ومؤنته واجبان في ماله وسطا بالمعروف مقدما على الديون والوصايا، فإن كان عديما ففي بيت المال، فإن لم يكن فعلى المسلمين " يعني قد بين مخرج الكفن بقوله: وكفنه ومؤنته إلى آخره. وفي المدونة: وكذلك تكفينه أيضا واجب، ويتعين في ماله من رأس المال إن كان له مال، ثم على من يلزمه ذلك من سيد إن كان عبدا باتفاق، أو زوج أو أب أو ابن على اختلاف، وهو مذكور مسطور في الأمهات. ثم على جميع المسلمين على الكفاية. والذي يتعين منه تعين الفرض ستر العورة. وما زاد على ذلك فهو سنة، فإن تشارح الأولياء فيما يكفنونه به قضى عليهم أن يكفنوه في نحو ما كان يلبسه في الجمع والأعياد، إلا أن يوصي بأقل من ذلك فتتبع وصيته، وإن أوصى أن يكفن بسرف فقيل إنه يبطل الزائد. وقيل إنه يكون في الثلث. وما يستحب في صفة الكفن وما يتقى منه مذكور في الأمهات فلا معنى لذكره اهـ المدونة. وفي أقرب المسالك: وهو من مال الميت كمؤن التجهيز تقدم على دين غير المرتهن، فعلى المنفق بقرابة أو رق لا زوجية، فمن بيت المال، فعلى المسلمين. والواجب ستر العورة والباقي سنة. ومثله في المختصر اهـ. وفي الرسالة آخر باب النفقة: وعليه أن ينفق على عبيده ويكفنهم إذا ماتوا. واختلف في كفن الزوجة فقال ابن القاسم في مالها. وقال عبد الملك في مال الزوج. وقال سحنون إن كانت مليئة ففي مالها، وإن كانت فقيرة ففي مال الزوج اهـ.

ثم قال رحمه الله تعالى: " وأقله ثوب يدرج فيه " قال النفراوي قال خليل: هل الواجب ثوب يستره، أو ستر العورة والباقي سنة؟ والراجح الأول، وهو ستر جميع الجسد. والخلاف في الذكر. وأما المرأة فيجب ستر جميع جسدها. وأما التكفين وهو إدراج الميت في الكفن فواجب اتفاقا، كمواراته في التراب اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وأكمله للرجل خمسة: قميص، وإزار، وعمامة، ولفاقتان. وللمرأة سبعة: حقو، وقميص، وخمار، وأربع لفائف " قال النفراوي: واختلف العلماء في قول عائشة: كفن النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب إلخ ليس فيها قميص ولا عمامة، فحمله الشافعي على أن ذلك ليس بموجود في الكفن. وقال: فيسن للرجل ثلاثة أثواب خاصة ليس فيها قميص ولا عمامة. وحمله أبو حنيفة ومالك على أنه ليس بمعدود بل يحتمل أن تكون الثلاثة الأثواب زيادة على القميص والعمامة، فنقل عنهما استحباب زيادة القميص والعمامة اهـ. قال في الرسالة: ويستحب أن يكفن الميت في وتر: ثلاثة أثواب، أو خمسة، أو سبعة. وما جعل له من أزرة وقميص وعمامة فذلك محسوب في عدد الأثواب الوتر اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " وهو تابع للنفقة وفي الزوجة الموسرة قولان. قيل عليها وقيل عليه " وتقدم قول أئمة المذهب واختلافهم في هذه المسألة كما نقله صاحب الرسالة فراجعه إن شئت. قال رحمه الله تعالى: " ويستحب تجميره ويذر الحنوط على كل لفافة وعلى مفاصله ومساجده، ويلضق على منافذه قطن محنط، فإذا أدرج شد عند رأسه ووسطه ورجليه " قوله: تجميره بالجيم المعجمة أي تبخيره بالعود وغيره. قال في الرسالة: وينبغي أن يحنط ويجعل الحنوط بين أكفانه وفي جسده ومواضع السجود اه ـ. النفراوي: وصفة اإدراج أن تبسط الوافية أولا ويجعل عليها الحنوط أي الطيب،

ثم تجعل التي تليها في القصر عليها ويجعل عليها الحنوط، ثم يوضع الميت عليها بعد تجفيفه بخرقة نظيفة، ثم يلف عليه الكفن ويربط من عند رأسه ورجليه ويحل عند الدفن اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ثم يحمل على نعشه إلى المصلى، والمشي أمامه أفضل " يعني ثم بعد إدراجه في أكفانه رشد ما ذكر فيحمل على السرير إلى موضع الصلاة الذي كانوا يصلون فيه على الجنازة عادة، كالمصلى كما قال المصنف رحمه الله تعالى. وقال صاحب الرسالة: والمشي أمام الجنازة أفضل. قال الشارح لما روي من " أنه صلى الله عليه وسلم كان يمشي أمام الجنازة والخلفاء بعده " ولأنه شافع وحق الشافع أن يتقدم، فالمشي أمامها محصل لفضيلتين المشي والتقدم , ويكره الركوب إلا لعذر أو بعد الدفن فلا بأس به حينئذ. وهذا في حق الرجال الماشين. وأما في حق النساء والراكبين فالمندوب في حقهم التأخر. قال خليل: ومشي مشيع، وإسراعه، وتقدمه، وتأخر راكب وامرأة. وإنما استحب اإسراع بالجنازة لخبر " أسرعوا بجنائزكم فإنما هو خير تقدمونهم إليه أو شر تضعونه عن رقابكم ". ثم إذا وصلوا به المصلى وضعوه هناك وصلوا عليه. قال رحمه الله تعالى: " فيصلى عليه، وهي فرض كفاية " أي على المشهور قال في الرسالة: والصلاة على موتى المسلمين فريضة يحملها من قام بها، وكذلك مواراتهم بالدفن، وغسلهم سنة واجبة اهـ. وقال المواق: وأما الخلاف في الصلاة عليه فقال عياض: الصلاة على الجنائز من فروض الكفاية، وقيل سنة وروى الجلاب عن مالك هي فرض كفاية. وقال الخرشي: وكذلك اختلف هل الصلاة عليه واجبة وجوب الكفاية؟ وعليه الأكثر، وشهره الفاكهاني وغيره، أو سنة. وأما دفن الميت أي مواراته وكفنه كفاية من غير خلاف إلا ابن يونس فإنه حكى سنية كفنه، ولذا قدم المؤلف ذكر الدفن

على الكفن وإن كان متأخرا عنه في الوجود اهـ. وفي أقرب المسالك كما في المختصر: غسل الميت المسلم المستقر الحياة غير شهيد المعترك بمطلق كالجنابة، والصلاة عليه فرض كفاية، ككفنه ودفنه اهـ. وقال ابن رشد في المقدمات: وأما الصلاة عليه فقيل إنها فرض على الكفاية، كالجهاد يحمله من قام به، وهو قول ابن عبد الحكم إلى أن قال: قد اختلف في وجوب القول به. وقيل إنها سنة على الكفاية وهو قول أصبغ اهـ. ثم ذكر رحمه الله كيفية الصلاة عليه بقوله: " يكبر أربع تكبيرات ليس فيها قراءة، بل يثنى على الله تعالى عقيب الأولى، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم عقيب الثانية، ويدعو عقيب الثالثة " قال في الفقه على المذاهب الأربعة في صفة الصلاة على الميت في مذهب المالكية قالوا صفتها أن يقوم المصلي عند وسط الميت إن كان رجلا، وعند منكبيها إن كانت امرأة، ثم ينوي الصلاة على من حضر من أموات المسلمين، ثم يكبر تكبيرة الإحرام مع رفع يديه عندها كما في الصلاة، ثم يدعو أي يثني على الله كما تقدم، ثم يكبر تكبيرة ثانية بدون رفع يديه، ثم يدعو أيضا أي يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يكبر ثالثة بدون رفع يديه، ثم يدعو، ثم يكبر رابعة بدون رفع يديه ثم يدعو، ثم يسلم تسليمة واحدة على يمينه يقصد بها الخروج من الصلاة كما تقدم في الصلاة. ولا يسلم غيرها ولو كان مأموما، ويندب الإسرار بكل أقوالها إلا الإمام فيجهر بالتسليم والتكبير ليسمع المأمومين كما تقدم. ويلاحظ في كل دعاء أن يكون مبدوءا بحمد الله تعالى وصلاة على نبيه عليه الصلاة والسلام اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " والمستحب " أي المختار من الأدعية " اللهم إنه عبدك وابن عبدك وابن أمتك كان يشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك وأنت أعلم به، اللهم إن كان

محسنا فزد في إحسانه، وإن كان مسيئا فتجاوز عن سيئاته، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده. وفي المرأة اللهم إنها أمتك. وفي الطفل اللهم اجعله سلفا وفرطا وذخرا وشفيعا لوالديه ولمن شيعه ومن صلى عليه والحقه بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم. ويسلم عقيب الرابعة " هذا الدعاء من المستحسنات. والذي في الرسالة أشمل منه وأحسن وهو: الحمد لله الذي أمات وأحيا والحمد لله الذي يحيي الموتى؛ له العظمة والكبرياء، والملك والقدرة والسناء، وهو على كل شيء قدير. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت ورحمت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. اللهم إنه عبدك وابن عبدك وابن أمتك، أنت خلقته ورزقته وأنت أمته زأنت تحييه وأنت أعلم بسره وعلانيته جئناك شفعاء له فشفعنا فيه. اللهم إنا نستجير بحبل جوارك له إنك ذو وفاء وذمة، اللهم قه من فتنة القبر ومن عذاب جهنم اللهم اغفر له وارحمه واعف عنه وعافه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بماء وثلج وبرد ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه. اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه وإن كان مسيئا فتجاوز عنه. اللهم إنه قد نزل بك وأنت خير منزول به؛ فقير إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه. اللهم ثبت عند المسألة منطقة ولا تبتله في قبره بما لا طاقة له به. اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده. تقول هذا بإثر كل تكبيرة. وتقول بعد الرابعة: اللهم اغفر لحينا وميتنا وحاضرنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا إنك تعلم منقلبنا ومثوانا، ولوالدينا ولمن سبقنا بالإيمان وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. اللهم من أحييته منا فأحيه على الإيمان ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام، وأسعدنا بلقائك وطيبنا للموت وطيبه لنا، واجعل فيه راحتنا ومسرتنا. ثم تسلم. وإن كانت امرأة قلت: اللهم إنها أمتك، ثم تتمادى بذكرها على التأنيث اهـ. قال النفراوي: وهذا الدعاء اختاره

المصنف، يعني صاحب الرسالة لما قيل من أن بعضه مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضه عن بعض الصحابة والتابعين، فلا ينافي أنه غير متعين، بل الأفضل دعاء أبي هريرة كما تقدمنا، وإن كان يكفي مطلق دعاء، بل لو قال المصلي على الجنازة: اللهم اغفر له وارحمه واعف عنه لكفى وإن صغيرا اهـ. قلت كما في الثمر الداني؛ لأن الأدعية المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم والمروية عن أصحابه، رضي الله تعالى عنهم، في ذلك مختلفة، منها ما اختاره مالك في الموطأ وهي التي ذكرها المصنف هنا، لأنها حازت فضيلة الاختصار لمن اقتصر عليها، أنها سهلة على المصلي. وذلك كله واسع. نسأل الله حسن القبول. ثم قال رحمه الله تعالى: " ولا يصلى على سقط لم يستهل صارخا " قال مالك في المدونة: لا يصلى على الصبي، ولا يرث ولا يورث، ولا يسمى، ولا يغسل ولا يحنط حتى يستهل صارخا. وهو بمنزلة من خرج ميتا. وفيها أيضا عن ابن شهاب لا يصلى على السقط، ولا بأس أن يدفن مع أمه، وفي الرسالة ولا يصلى على من لم يستهل صارخا. قال النفراوي: بأن نزل من بطن أمه ميتا. وقال خليل عاطفا على المكروه: ولا سقط لم يستهل، ولو تحرك، أو عطس، أو بال، أو رضع إلا أن تتحقق الحياة، وغسل دمه، ولف بخرقة وووري. وحكم غسل الدم الندب. وحكم المواراة واللف بخرقة الوجوب. ولا يسأل، ولا يبعث، ولا يشفع إن لم تنفخ فيه الروح. والنهي عن الصلاة فيه نهي الكراهة، وأما القتيل في سبيل الله فالنهي فيه نهي التحريم. وكذا الغسل. قال مالك في المدونة: الشهيد في المعترك لا يغسل، ولا يكفن، ولا يحنط، ولا يصلى عليه، ويدفن بثيابه لقوله صلى الله عليه وسلم: " زملوهم بكاومهم فإنهم يبعثون يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك " ولذلك قال رحمه الله تعالى: عاطفا على سقط. " ولا قتيل في سبيل الله ولا يغسل " قد تقدم الكلام فيه آنفا فراجعه

إن شئت. قال رحمه الله تعالى: " ولا على قبر " أي يصلى على قبر الميت إذا دفن بدون صلاة بعد الغسل خلافا لما في الرسالة، ونصها: ومن دفن ولم يصل عليه وووري فإنه يصلى على قبره. قال شارحها قال خليل: ولا يصلى على قبر إلا أن يدفن بغيرها فيصلى على القبر، ظاهره ولو كان عدم الصلاة عمدا، كما أن ظاهره أن مجرد تمام الدفن مجوز للصلاة على القبر، وليس كذلك، بل يجب إخراجه ولو تم دفنه إلا أن يخشى تغيره. قال ابن رشد: والفوات الذي يمنع إخراج الميت من قبره للصلاة عليه خشية تغيره. قاله ابن القاسم وسحنون وعيسى. ومحل طلب الصلاة على القبر عند خشية تغيره إذا ظن بقاؤه أو شك فيه. وأما لو تيقن ذهابه ولو بأكل سبع، فإنه لا يصلى عليه. وقولنا بعد الغسل للاحتراز عما لو دفن قبل غسله فإنه لا يصلى على قبره ويجب إخراجه للغسل إلا أن يخشى تغيره فيسقطان لتلازمهما. قال العلامة الأجهوري في شرح خليل: المفهوم من كلام ابن رشد أن المدفون من غير غسل أو من غير صلاة يخرج ما لم يخرج ما لم يخف تغيره اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى عاطفا على سقط: " ولا على غائب ولا تكرر " أي تطره الصلاة على شخص غائب من غريق وأكيل سبع، وميت في محل أو بلد آخر. وصلاته عليه الصلاة والسلام على النجاشي من خصوصياته على المشهور. قال ابن جزي في الشرط الخامس في الصلاة على الميت أن يكون حاضرا، فلا يصلى على غائب عند الجمهور، يعني جمهور أهل المذهب. انظر شراح خليل عند قوله: ولا غائب. وقوله: ولا تكرر أي تكرر الصلاة على الميت مرتين أو أكثر إذا صلت عليه جماعة على المشهور. قال في الرسالة: ولا يصلى على من قد صلى عليه، أي على جهة الكرامة. قال النفراوي: وأما لو صلي عليه منفردا لندب صلاة الجماعة عليه. وفي الفقه على المذاهب الأربعة: يكره تكرار الصلاة على الجنازة، فلا يصلى عليها إلا مرة واحدة حيث كانت الصلاة الأولى جماعة، فإن صلي عليها أولا بدون جماعة أعيدت ندبا في جماعة ما لم تدفن، خلافا للشافعية

والحنابلة القائلين بجواز تكرار الصلاة لمن لم يصل أولا ولو بعد الدفن، انظر قولهما إن شئت اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " ويكره الصلاة لأهل الفضل على أهل البدع والأهواء، أو مقتول في حد " قال في المدونة: لا يصلى على المبتدعة، ولا يعاد مرضاهم، ولا تشهد جنائزهم أدبا لهم، فإن خيف ضيعتهم غسلوا وكفنوا وصلى عليهم غير أهل الفضل. قال خليل عاطفا على المكروه: وصلاة فاضل على بدعي أو مظهر كبيرة، والإمام على من حده القتل بحد أو قتل وإن تولاه الناس دونه، وإن مات قبله فتردد. فالحاصل أنه يكره صلاة الفاضل والصالح على البدعي ونحوه، كما كره صلاة الإمام على المقتول بحد أو قود. وإن مات قبل تنفيذ ذلك عليه خوفا من القتل، قال اللخمي: لا يصلى عليه وقال أبو عمران يصلى عليه. قال المواق: والأول أظهر بناء على أن سبب عدم الصلاة عليه حكم الإمام بقتله، فكراهية الصلاة عليه باقية ولو مات قبل تنفيذ حد أو قود. وأما أصل الصلاة عليه فهي فرض كفاية إلا أنه لا يصلي عليه الإمام وكما لا يصلي أهل الفضل على البدعي. والدليل أي في الصلاة عليهم للحكم بإسلام الجميع، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " صلوا عن من قال: لا إله إلا الله " أي ومحمد رسول الله. وفي الرسالة: ويصلى على قاتل نفسه. ويصلى على من قتله الإمام في حد أو قود، ولا يصلي عليه الإمام. قال النفراوي: وأشار إلى أن الذي يباشر الصلاة على أرباب العاصي غير أهل الفضل والصلاح. والمراد يكره لهم ذلك اهـ مع إيضاح. ثم قال رحمه الله تعالى: " ويصلى على أكثر الجسد، وفي أقله خلاف " يعني اتفق أهل المذهب على الصلاة على أكثر الجسد كالثلثين، واختلفوا في أقله، والصحيح عدم الصلاة عليه. وقال في الرسالة: ويصلى على أكثر الجسد، واختلف في الصلاة على مثل اليد والرجل قال أبو الحسن: ولا يصلى على نصف الجسد عند ابن القاسم. قال العدوي: هذا هو المعتمد. وقال الصاوي على أقرب المسالك: ولا تجب الصلاة عليه إلا

إذا وجد الثلثان فأكثر، ويلغى الرأس، فالعبرة بثلثي الجسد كان معهما رأس أم لا، فإن وجد أقل من الثلثين ولو معه الرأس كره تغسيله والصلاة عليه اهـ. وقال ابن جزي في الشرط الثالث: أن يوجد جسده أو أكثره، فلا يصلى على عضو، خلافا للشافعي اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " وتكره عند الطلوع والغروب إلا أن يخاف تغيره " يعني أن صلاة الجنازة مكروهة عند طلوع الشمس وعند غروبها إلا أن يخاف تغيرها فتجوز. قال مالك في المدونة: لا بأس بالصلاة على الجنازة بعد العصر ما لم تصفر الشمس، فإذا اصفرت الشمس فلا يصلى على الجنازة إلا أن يكونوا يخافون عليه. وقال مالك: لا بأس بالصلاة على الجنازة بعد الصبح ما لم يسفر، فإذا أسفر فلا يصلى عليها إلا أن يخافوا عليها فلا بأس إن خافوا عليها أن يصلوا عليها بعد الإسفار. وعنه في الموطأ أن عبد الله بن عمر قال: يصلى على الجنازة بعد العصر وبعد الصبح إذا صليتا لوقتهما. قال الباجي أي لوقت الصلاتين المختار، وهو في العصر إلى الاصفرار وفي الصبح إلى الإسفار اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ومن دفن بغير صلاة أخرج لها ما لم يظن تغيره " وتقدم الكلام على هذه الجملة عند قوله ولا على قبر. انظر قول ابن رشد هناك. ثم قال رحمه الله تعالى: " ويقدم الموصى إليه رجاء دعائه، ثم الحاكم، ثم العصبة، وأولاهم أقواهم تعصيبا، فإن اجتمعوا وتشاحوا فبالقرعة " والمعنى أن الوصي مقدم بالصلاة على الميت رجاء بركة دعائه كما قال المصنف، وإن لم يكن، أو قام به عذر فالخليفة، ثم أقرب العصبة، فيقدم ابن فابنه، ثم أب فأخ فابنه، فجد فعم فابنه. وقدم الشقيق على غيره. وقدم الأفضل عند التساوي وإن كان ولي امرأة كما لو اجتمع ميتان ذكر وأنثى لكل منهما ولي وكان ولي المرأة أفضل من ولي الرجل فيقدم ولي المرأة الأفضل إذا صلي عليهما معا صلاة واحدة اهـ الدردير مع طرف من الدسوقي. وإن اجتمع الأولياء وتساووا في الفضل فالقرعة. هذا إذا تشاحوا وتنافسوا في الصلاة عليه. وأما الزوج فهو

مؤخر. قال مالك في المدونة: العصبة أولى بالصلاة على الميتة من زوجها، وزوجها أولى بالدخول بها في قبرها من عصبتها. وأهل الفضل لا يرون لزوج المرأة إذا توفيت حقا أن يصلي عليها وثم أحد من أقاربها اهـ. وتقدم أن الزوج مقدم أن الزوج مقدم على أوليائها بالقضاء في تغسليها إذا طلب ذلك. فتأمل. ثم قال رحمه الله تعالى: " وإذا اجتمع جنائز في صلاة جعل الرجل مما يلي الإمام، ثم الصبي، ثم الخنثى، ثم الحرة، ثم العبد، ثم الأمة " يعني يجوز جمع الجنائز في صلاة بلا ضرورة، بل هو أفضل من إفراد كل واحد بصلاة لرجاء عود بركة بعضهم على بعض. قال خليل: يلي الإمام رجل، فعبد فخصي، فخنثى كذلك وفي الصنف أيضا الصف. قال الخرشي: ذكر المؤلف اثنتي عشرة مرتبة، فيلي الإمام الأحرار الذكور البالغون، ثم أحرار الذكور البالغون، ثم العبيد البالغون، ثم العبيد الصغار، ثم الخصي الحر البالغ، ثم الخصي الحر الصغير، ثم الخصي العبد الكبير، ثم الخصي العبد الصغير، ثم الخناثى الأحرار البالغون، ثم الخناثى الأحرار الصغار، ثم الخناثى العبيد الكبار، ثم الخناثى العبيد الصغار، ولم يذكر مراتب النساء الأربع للعلم بتأخرهن عن الجميع، وهي حرة بالغة، فصغيرة، فأمة بالغة، فصغيرة. وزاد ابن محرز بعد الخصي وقبل الخنثى أربعا للمجبوبين فقال: حر رجل، فطفل، فعبد رجل، فطفل. وعلى هذا فالمراتب عشرون: حر كبير، ثم حر صغير، ثم عبد كبير، ثم عبد صغير، ثم خصي حر كبير، ثم خصي حر صغير، ثم [خصي] (¬1) عبد كبير، ثم [خصي] عبد صغير، ثم [مجبوب] عبد صغير، ثم خنثي حر كبير، ثم [خنثى] حر صغير، ثم [خنثى] عبد كبير، ثم [خنثى] ¬

(¬1) هذه الزيادات لا بد منها. ولا تتم المراتب العشرون إلا بها. وهي إن كانت مقدرة، ولكن القارئ قد لا يهتدي إليها فذكرها أولى.

عبد صغير، ثم حرة كبيرة؛ ثم حرة صغيرة، ثم أمة كبيرة، ثم أمة صغيرة، قال ابن رشد: فإن تفاضلوا فب العلم والفضل والسن قدم إلى الأمام أعلمهم، ثم أفضلهم، ثم أسنهم، فمعنى قوله: كذلك حر بالغ ثم صغير، ثم عبد كبير، ثم صغير في كل من الخصي والخنثى. ثم هذا الترتيب مستحب، فإن حصل تساو من كل وجه أقرع إلا أن يتراضى الأولياء على أمر اهـ انظر مراتب قول خليل وفي الصنف أيضا الصف. ثم قال رحمه الله تعالى: " ومن أدرك بعض الصلاة فإن تركت له الجنازة أتمها، وإلا كبر نسقا وسلم " قال في أقرب المسالك كما في المختصر: وصبر المسبوق للتكبير، فإن كبر صحت ولا يعتد بها؛ ودعا إن تركت وإلا والى اهـ. قال الخرشي: يعني أن المسبوق إذا سلم الإمام فإنه يدعو بين تكبيرات قضائه إن تركت الجنازة، ويخفف في الدعاء. إلا يؤخر رفعها فيتمهل في دعائه، وإن رفعت فورا فإنه يوالي بين التكبير ولا يدعو لئلا تصير صلاة على غائب. وما ذكره خليل من التفصيل وجيه لنفع الميت بالدعاء. وأيده البناني. قال الدسوقي؛ خلافا لما في حاشية العدوي على الخرشي؛ لأنه قال: تنبيه ما ذكره المصنف من التفصيل مخالف لمذهب المدونة الذي هو المعتمد كما يفيده ابن عرفة من أنه يواليه مطلقا، أي سواء تركت أو رفعت فورا اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ثم يحمل إلى القبر فيدفن في حفرة تكتم رائحته وتمنعه من السباع " يعني بعد تغسيله والصلاة عليه يحمل إلى القبر، وليس لحمل الميت عندنا كيفية معينة، ولا عدد الحاملين، بل يجوز أن يحمله أربعة أشخاص فأكثر أو أقل. ويستحب حمل الصغير على أيدي الناس، ولا يتعين البدء بناحية من نواحي النعش، والتعيين من البدع. قال خليل عاطفا على الجائزات: وحمل غير أربعة، وبدء بأي ناحية والمعين مبتدع. وينبغي أن يكون القبر متوسطا بقدر ما يحرس الميت من السباع ويمنع الرائحة. قال مالك: أحب إلي أن تكون الحفرة مقتصدة لا عميقة جدا ولا قريبة من أعلى

الأرض جدا اهـ. ثم إذا وضع على شفير الحفرة يدخل فيه برفق، وإليه أشار رحمه الله بقوله: " ويسل من قبل رأسه " أي يدخل القبر منه خلافا لعبد الله بن يزيد الكوفي من أنه أدخل الميت من قبل رجليه، وقال هذا من السنة، وهو خلاف عمل أهل المدينة من الصحابة والتابعين. قال رحمه الله تعالى: " فيوضع في اللحد أفضل من الشق " يعني أن اللحد أفضل من الشق إذا كانت الأرض صلبة، وهو أي اللحد أن يحفر في أسفل القبر من جهة القبلة تسع الميت. وفي الرسالة: واللحد أحب إلى أهل العلم من الشق، وهو أن يحفر للميت تحت الجرف في حائط قبلة القبر، وذلك إذا كانت تربة صلبة لا تتهيل ولا تتقطع اهـ. وفي الحديث عن سعد بن أبي وقاص قال: " ألحدوا لي لحدا، وانصبوا علي اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم " رواه مسلم. وأما الشق، وهو أن يحفر له حفرة كالنهر ويبنى جانباها باللبن أو غيره ويجعل بينهما شق يوضع الميت فيه ويسقف عليه، ويرفع السقف قليلا بحيث لا يمس الميت، ويجعل في شقوقه قطع اللبن، ويوضع عليه التراب. قال أبو الحسن اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " ويحل شد رأسه ووسطه ورجليه " قال الصاوي: يعني إذا وضع في القبر يحل عقد كفنه، ويمد يده اليمنى على جسده ويعدل رأسه بالتراب ورجلاه برفق، ويجعل التراب خلفه وأمامه لئلا ينقلب، فإن لم يتمكن من جعله على شقه الأيمن فعلى ظهره مستقبلا للقبلة بوجهه، فإن لم يمكن فعلى حسب الإمكان. وهذه الصفة هي التي أشار بها الدردير في المندوبات قال: ووضعه على أيمن مقبلا وقول واضعه باسم الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم تقبله بأحسن قبول اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويطبق باللبن، وسد خلله بالطين، ويهال عليه التراب، ويستحب لمن دنا منه أن يحثو فيه ثلاث حثوات " يعني بعد حل ربطات الكفن

يطبق على الميت ويسد الخلل بالطين أو غيره سدا محكما لئلا يظهر منه رائحة كما تقدم، ثم يهال عليه التراب، ويندب لمن قرب منه أن يحثو ثلاث حثوات من التراب لخبر " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على عثمان بن مظعون، وأتى القبر فحثى عليه ثلاث حثوات وهو قائم " اهـ رواه الدارقطني عن عامر بن ربيعة. قال رحمه الله تعالى: " ويكره بناؤه وتجصيصه " يعني أنه يكره البناء على القبر كما يكره تبييضه. قال في الرسالة: ويكره البناء على القبر وتجصيصه اهـ وقال مالك في المدونة: أكره تجصيص القبور والبناء عليها. وهذه الحجارة التي تبنى عليها. والدليل على كراهية ذلك نهيه عليه الصلاة والسلام عن تجصيص القبور والبناء عليها. وورد أيضا أن الملائكة تكون على القبر تستغفر لصاحبه ما لم يجصص، فإن جصص تركوا الاستغفار. وقال خليل عاطفا على المكروهات: أو تبييضه وبناء عليه، انظر شرحه إن شئت. وقال رحمه الله تعالى: " وتحرم النياحة وإظهار الجزع واللطم والشق " وأخبر رحمه الله أن هذه الأشياء كلها محرمة، وهو كذلك. وفي الرسالة: وينهى عن الصراخ والنياحة. قال الشارح: وسائر الأقوال القبيحة. فالنهي للتحريم حيث استلزم أمرا محرما، لخبر " ليس منا من ضرب الخدود ولا من شق الجيوب " وروي " أنا برئ ممن حلق وصلق وخرق " والصلق: الصياح في البكاء وقبح القول. وروي أن النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب. واعلم أن البكاء على ثلاثة أقسام: جائز مطلقا، وهو ما كان بمجرد إرسال الدموع من غير صوت، وحرام مطلقا وهو ما كان بالصوت والأقوال القبيحة، وجائز عند الموت لا بعده وهو ما كان بالصوت من غير قول قبيح معه، قاله النفراوي في الفواكه. قال رحمه الله تعالى: " ويستحب التعزية فيقال: أحسن الله عزاءك، وألهمك الصبر، وغفر لميتك، أو غير ذلك مما يحضره، والله أعلم " قال العلامة أحمد

خاتمة

النفراوي: خاتمة: مشتملة على ما يندب فعله مع أهل الميت: منها تعزيتهم وحملهم على الصبر وعلى الرضى بمصيبتهم لما فيه من البر وإظهار المحبة لأهل الميت، حتى قال ابن رشد: إن التعزية سنة وقد جاء فيها ثواب كثير، فقد روي " أن الله يلبس الذي عزى مصابا لباس التقوى " وجاء " من عزى مصابا فله أجر مثل أجره " وصفتها أن يقول المعزي للمصاب: أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وغفر لميتك. وعزى صلى الله عليه وسلم امرأة في أبيها فقال: " إن لله ما أخذ وله ما أبقى، ولكل أجل مسمى وكل إليه راجعون واحتسبي واصبري فإن الصبر عند أول صدمة " وتكون التعزية قبل الدفن وبعده، وعند القبر، وكونها في المنزل وبعد الدفن أحسن. ولا فرق في الميت بين الصغير والكبير، ولا بين الحر والعبد، ولا في المعزى - بفتح الزاي - بين كونه ذكرا أو أنثى، مسلما أو كافرا حيث كان جارا، فيعزي الكافر لحق الجوار، ويقال له: ألهمك الله الصبر، وعوضك خيرا منه. إلا الشابة والذي لا يميز فلا يعزيان. ويعزى الشخص في كل من يتأثر بفقده أما أو غيرها على المعتمد. وتنتهي التعزية إلى ثلاثة أيام، إلا أن يكون المعزي أو المعزى غائبا. ومنها أنه يستحب أن يصنع لهم طعام ويبعث إلى محلهم لاشتغالهم بميتهم، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأهله حين جاء نعي جعفر بن أبي طالب: " اصنعوا لآل جعفر طعاما وابعثوا به إليهم فقد جاءهم ما يشغلهم " لما فيه من إظهار المحبة والاعتناء. وأما ما يصنعه أقارب الميت من الطعام وجمع الناس عليه، فإن كان لقراءة قرآن ونحوها مما يرجى خيره للميت فلا بأس به، وأما لغير ذلك فيكره، ولا ينبغي لأحد الأكل منه إلا أن يكون الذي صنعه من الورثة بالغا رشيدا فلا حرج في الأكل منه. وأما لو كان الميت أوصى بفعله عند موته فإنه يكون في لثله، ويجب تنفيذه عملا بغرضه. وأما عقر البهائم، وذبحها على القبر، وحمل الخبز ويسمونه بعشاء القبر فإنه من البدع المكرهة ومن فعل الجاهلية لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا عقر

في الإسلام " ولأدائه إلى الرياء والسمعة. والمطلوب في فعل القرب الإخفاء. والصواب في فعل هذا التصدق به في المنزل حيث سلم من قصد المباهاة. هذا ملخص كلام الخطاب في شرح خليل اهـ. تم كتاب الجنائز بحمد الله تعالى، وبتمامه يتم ما تعلق بالصلاة المفروضة والمسنونة والمرغوبة والنوافل. ثم انتقل يتكلم على الزكاة وبيان أحكامها فقال رحمه الله تعالى:

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة أي هذا كتاب الزكاة التي هي أحد أركان الإسلام الخمسة. " شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان " رواه الشيخان عن عبد الله بن عمر , وفرضت في السنة الثانية من الهجرة بعد زكاة الفطر. دل على فرضيتها الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فآيات كثيرة منها قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وأما السنة فحديث الصحيحين المتقدم وغيره مما ورد في وجوب الزكاة، وأما الإجماع فقال القرافي: اتفقوا على وجوبها، فمن جحدها فهو كافر، إلا أن يكون حديث عهد بالإسلام. وأما من أقر بوجوبها وامتنع من أدائها فإنها تؤخذ منه كرها وإن بقتال وتجزئه. ولوجوبها شروط خمسة: الملك التام، والنصاب، ومرور الحول في غير المعدن والحرث والركاز، ومجيء الساعي إن كان في الماشية، وعدم الدين في العين. وأما الإسلام فشرط صحة فقط على المشهور، بناء على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، ولكن لا تصح إلا بالإسلام اهـ. فَصْلٌ في زكاة الذهب والفضة قال رحمه الله تعالى: " نصاب الذهب عشرون مثقالا والورق مائتا درهم، فيجب ربع عشره والزائد بحسابه " قال في الرسالة: ولا زكاة من الذهب في أقل من عشرين دينارا، فإذا بلغت عشرين دينارا ففيها نصف دينار ربع العشر، فما زاد فبحساب ذلك وإن قل، ولا زكاة من الفضة في أقل من مائتي درهم. وذلك خمس أواق والأوقية أربعون درهما من وزن سبعة، أعني أن السبعة دنانير وزنها عشرة دراهم، فإذا بلغت هذه الدراهم مائتي درهم ففيها ربع عشرها خمسة دراهم، فما زاد فبحساب ذلك اهـ. وقول المصنف عشرون مثقالا أي دينارا، وكل دينار وزنه اثنتان وسبعون حبة من الشعير المتوسط.

قال خليل: وفي مائتي درهم شرعي، أو عشرين دينارا فأكثر، أو مجمع منهما بالجزء ربع العشر. قال الخرشي: أي والواجب ربع العشر في مائتي درهم شرعي. وقد مر قدر الدرهم وهو المكي خمسون وخمسا حبة من مطلق الشعير، أو عشرون دينارا شرعيا وقدر الدينار اثنتان وسبعون حبة من مطلق الشعير، وما زاد على ذلك أخرج واجبه لأنه لا وقص في العين والحبوب اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " ويلفق منهما بالأجزاء لا بالقيمة ويخرج من كل بحسابه " قال في الرسالة: ويجمع الذهب والفضة في الزكاة، فمن كان له مائة درهم وعشرة فليخرج من كل مال ربع عشره. قال خليل: أو مجمع منهما بالجزء ربع العشر. وقال الخرشي: قوله أو مجمع إلخ كعشرة دنانير ومائة درهم، أو خمسة دنانير ومائة وخمسين درهما، أو خمسة عشر دينارا وخمسين درهما؛ لأن كل دينار يقابل عشرة دراهم، مرادهم بالأجزاء أي لا بالقيمة، فلا زكاة في مائة درهم وتسعة دنانير قيمتها مائة درهم. ثم قال رحمه الله تعالى: " وشروط وجوبها: الحول والنصاب في ملك كامل متحد " قد تقدم البيان في شروط وجوبها فراجعه إن شئت. قال رحمه الله تعالى: " ويكمل النصاب بربحه لحوله " قال في الرسالة: وحول ربح المال حول أصله. النفراوي: فإذا استلف قدرا ولو أقل من نصاب واشترى به ساعة ثم باعها بزيادة على ما تسلفه عشرين دينارا مثلا بعد حول من يوم السلف وجبت عليه الزكاة، وكذا لو اشترى سلعة بقدر في ذمته ثم باعها بعد حول بثمن زائد على ثمنها نصابا فإنه يجب عليه الزكاة اهـ قال خليل: وضم الربح لأصله، كغلة مكتر للتجارة، ولو ربح دين لا عوض له عنده اهـ قال الخرشي: ومعنى كلام المؤلف أن من عنده دون النصاب من العين فاخر فيه فصار نصابا قبل الحول ولو بيوم فإنه يزكي لتمام حول من يوم ملكه كالنتاج على المشهور، لا من

يوم الشراء، ولا من يوم حصول الربح، فلو ملك دينارا وأقام عنده أحد عشر شهرا ثم اشترى به سلعة باعها بعد شهرين فإنه يزكي الآن اهـ. ومن ذلك ما قاله ابن القاسم في المدونة لو اشترى إناء مصوغا فيه عشرة دنانير، وقيمته بصياغته عشرون دينارا ولا مال له غيره، فحال عليه الحول أنه لا زكاة عليه فيه إلا أن يبيعه بما تجب فيه الزكاة، فإنه باعه بما تجب فيه الزكاة فحال عليه الحول فربح فيه فباعة بما تجب فيه الزكاة فإنه يزكيه مكانه اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " ويجب في أوانيهما، وحلي التجارة، وآنية ما لا يجوز تحليته، والمتخذ ذخيرة " وفي نسخة في أوانيها بالإفراد، والأصح بالتثنية بعود الضمير إلى المذهب والورق كما في قوله ويلفق منهما، والأواني جمع إناء، يعني أن جميع ما لا يجوز اتخاذه قنية من أواني الذهب والفضة ففيه زكاة، وذلك مثل السرير والقمقم (¬1) والسرج، والإكاف، واللجام للفرس، والمبخرة، والقدر، والمدهن، والمكحلة، والمرود، والملعقة، والفنجان. وآلة في اليد كالساعة، والمشط، والقفل، والكأس، وغيرها مما ورد المنع في اتخاذها؛ وكلها تجب فيها الزكاة سواء لرجل أو لامرأة، إلا ملبوسا للنساء فإنه جائز. قال خليل: إلا محرما، أي الذي يحرم اقتناؤه كإناء نقد من قمقم ومبخرة، ومكحلة، ومرود ففيه الزكاة ولو لامرأة. قاله الدردير. وفي الدسوقي: كدواة وعدة فرس من لجام وسرج. قال الباجي: وغيره وإن كان لرجل لكراء فإنه يزكيه. وقال ابن رشد: أجمع أهل العلم على العين من الذهب والفضة في عينه الزكاة تبرا كان، أو مسكوكا، أو مصوغا صياغة لا يجوز اتخاذها اهـ المواق. وقال الخرشي: يعني أن الحلي إذا كان محرم اللبس فإنه تجب زكاته بلا خلاف في ذلك؛ سواء كان لرجل كخاتم ذهب وسوار؛ أو لهما كمكحلة ¬

(¬1) القمقم: آنية العطار. وأنية من نحاس يسخن فيها الماء.

أو مرود ذهب أو فضة أو لاقتناء كالأواني لهما اهـ وقال النفراوي: والمحرم على المرأة غير الملبوس كالمرود والمكحلة وآلة نحو الأكل. وعلى الرجل خاتم الذهب، أو الخنجر أو الركاب ولو كان المحرم معدا للعاقبة ليجعل صداقا، أو منوبا به التجارة ففي جميع ذلك الزكاة. وليس من الحلي ما تجعله المرأة على رأسها من القروش، أو الفضة العددية، أو الذهب المسكوك فإن عليها فيه الزكاة بخلاف ما صاغته لتلبسه لبنتها إذا كبرت أو وجدت فإنه لا زكاة فيه، بخلاف الرجل يشتري أو يصوغ حليا لما يحدثه الله له من الأولاد أو الإماء فعليه فيه الزكاة اهـ. وفي المواق: قال الكافي: لا يجوز اتخاذ الأواني من الذهب والفضة للرجال والنساء اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " لا لبس المباح " أي لا زكاة فيما أباح الشارع لبسه. قال خليل: وجاز للمرأة الملبوس مطلقا ولو نعلا لا كسرير. قال الخرشي: والمعنى أنه يجوز للمرأة اتخاذ ما هو ملبوس لها أو ما يجري مجراه كقفل الجيب، وزر الثوب، ولفائف الشعور من النقدين ومحلى بهما قل أو كثر، وهو مراده بالإطلاق، وإنما بالغ على جواز اتخاذ النعل للنساء، ومثله القبقاب من النقدين بقوله ولو نعلا لئلا يتوهم حرمة ذلك وأنه ليس من الملبوس. وأما ما ليس من جنس الملبوس كسرير ومكاحل ومرايا فلا يجوز للنساء اتخاذه من النقدين اهـ. قال رحمه الله تعالى: " جيد الجنس، ورديئه، وتبره، ومضروبه، وصحيحه، ومغشوشه، ومكسوره سواء " يعني يضم جنس الذهب جيده أي أحسنه، أدناه تبره ومضروبة وسبيكة صحيحة، ومكسوره، خالصه ومغشوشه، فإذا بلغ جميع ذلك نصابا زكاه إن حال عليه الحول، وكذلك الفضة تضم أجناسها كذلك أي كما تقدم، فمتى كمل نصابا زكيت إن حال عليها الحول وإلا فلا، والدليل في ذلك ما رواه أنس في الكتاب الذي كتبه له أبو بكر حين وجهه إلى البحرين في الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله

تنبيهان

عليه وسلم على المسلمين: " وفي الرقة ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس شيء إلا أن يشاء ربها ". وفي رواية " ليس فيهما دون خمس أواق من الورق صدقة ". وفي أخرى عن علي وساق حديثا إلى أن قال: " كانت لك مائتا درهم وحال عليهما الحول ففيها خمسة دراهم وليس عليك شيء حتى تكون لك عشرون دينارا، فإذا كانت لك عشرون دينارا وحال عليهما الحول ففيها نصف دينار فما زاد فبحساب ذلك " اهـ رواه أبو داود وصححه البخاري. تنبيهان: الأول: سكت المصنف عن النحاس اقتصارا على النقدين لما في النصوص أنه لا تجب الزكاة إلا في الذهب والفضة. قال في المدونة: أرأريت لو كانت عند رجل فلوس في قيمتها مائتا درهم، فحال عليها الحول ما قول مالك في ذلك؛ قال: لا زكاة عليها فيها. وهذا مما لا اختلاف فيه، إلا أن يكون ممن يدير فتحل محل العروض اهـ. وقال العلامة الدردير: فلا زكاة في النحاس والرصاص وغيرهما من المعادن. ولو سكت كالفلوس الجدد، الوجوب في الدنانير والدراهم. قال الصاوي في حاشيته عليه: قوله: فلا زكاة في النحاس إلخ أي ما لم تكن معدة للتجارة وإلا فتزكى زكاة العروض، أي فتقوم كالعروض كما يأتي اهـ. الثاني: وسكت أيضا عن الكلام عن هذه الأوراق الحادثة التي يتعامل بها الناس معاملة النقود، فقد اختلف فيها العلماء اختلافا كثيرا، منهم من أفتى بعدم وجوب الزكاة فيها لاقتصار النصوص على الذهب والفضة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ} [التوبة: 34]. والحديث المتقدم " ليس فيما دون خمس أواق من الورقة صدقة " إلخ. ومنهم أي من العلماء من أفتى بوجوب الزكاة فيها أي في الأوراق الحادثة لتعامل الناس بها معاملة النقدين بدون توقف، لأن من ملكها يعد مالكا للنقود عرفا، ولذا ألحقوها بالنقود، والنفس تميل إلى هذا القول، بل الحق الذي نعتقده وندين الله به أن فيها زكاة ما دام الناس يتعاملون بها معاملة النقود إذا بلغ صرفها نصابا،

سواء صرفت أم لا كما قرروه في كتبهم. وفي " الحبل المتين شرح مرشد المعين " في مائتي درهم شرعية، أو عشرين دينارا شرعية فأكثر، أو ما يتنزل منزلتها من هذه الأوراق الحادثة، ربع العشر فيهما، وما زاد على ذلك وإن قل فبحسابه اهـ وقال العلامة الشيخ منصور على ناصف في غاية المأمول بعد الكلام عن زكاة الذهب والفضة. بقي الكلام على الأوراق البنكنوت فعليها الزكاة لأنها يتعامل بها كالنقدين، وتقوم مقامهما، وتصرف بهما، ولأنها سندات دين فتجب فيها الزكاة إذا بلغت النصاب وحال عليها الحول. وعليه المالكية والحنفية. وقال الشافعية لا تجب فيها لأنها حوالة على البنك غير صحيحة لعدم الإيجاب والقبول لفظا بين الطرفين، إلا إذا صرفت نقدا ومضى عليه الحول. وقال الحنابلة: لا تجب زكاتها إلا إذا صرفت بنقد. والله أعلم اهـ بحروفه. ثم قال رحمه الله تعالى: " وتلفه قبل تمكنه من الأداء يسقطها، وبعده يوجب ضمانها " يعني إذا تلف النصاب كله أو بعضه بعد الحول وقبل تمكنه من دفعها لأربابها، لأنه يعد مفرطا، بل ولو لم يفرط. قال الدردير في أقرب المسالك: وإن تلف جزء نصاب ولم يمكن الأداء سقطت، كعزلها بعد الوجوب فضاعت بلا تفريط، لا إن ضاع أصلها. أي بعد الوجوب وبقيت هي فلا تسقط ووجب عليه إخراجها فرط أم لا، ولا إن عزلها قبل الوجوب فضاعت أو تلفت فيضمن أو يعتبر الباقي، ولا إن عزلها بعده وفرط بأن أمكن الأداء فلم يؤد، أو وضعها في غير حرزها فيضمن. قال الصاوي: قوله: أو وضعها في غير حرزها أي إذا لم يجد فقراء يأخذونها فوضعها في غير حرزها فيضمن إن ضاعت، وأما لو وجد مستحقيها وأخرها عنهم فإنه يضمن إن ضاعت ولو في حرزها. ومن ذلك الذين يكنزون الأموال السنين العديدة ثم تأتيها جائحة فإن زكاة السنين الماضية متعلقة بذممهم لا يخلصون منها إلا بأدائها اهـ. وفي العزية: إذا عزل الزكاة عند الحول فضاعت لم يضمن،

وإن عزلها بعد الحول ضمن، وإن عزلها ثم ضاع أصلها قبل إخراجها فإنه يدفعها لأربابها اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فإن تلف البعض لزمه عن الباقي " تقدم بيانه عند قول الدردير: أو يعتبر الباقي، ولا حاجة لإعادته. قال رحمه الله تعالى: " وبعد إفرادها يلزمه دفعها، فإن أتلفها ضمن لا إن تلفت " يعني إذا أخرج الزكاة أي عزلها وأفردها عن المال عند الحول وجب عليه دفعها لأربابها كما تقدم، وإن أتلفها أو تسبب في إتلافها ضمنها، وإن تلفت بلا تسببه فلا ضمان عليه. ثم قال رحمه الله تعالى: " والصحيح " أي من أقوال أئمة المذهب " أنه لا يخرجها قبل وجوبها وينويها زكاة " والمفهوم - والله أعلم - أنه إن أخرج الزكاة بنيتها قبل وجوبها لم تجزه كما في سماع أشهب، وهو مقابل المشهور. قال خليل عاطفا على الجائزات: أو قدمت بكشهر في عين وماشية، أي فتجزئ مع الكراهة. وقال الخرشي: يعني أن زكاة العين والماشية إذا لم يكن هناك سعادة إذا قدمت قبل الحول لأربابها أو وكيل فإنها تجزئ، بخلاف الحرث. قال الحطاب: وهذا هو المشهور إذا قدمت قبل الحول بيسير، وكذا عند ابن هارون. وقال ابن رشد: الأظهر تجزيه إذا أخرجها قبل الحول بيسير لأن الحول توسعة فليس كالصلاة اهـ. انظر المواق. وقال ابن رشد في المقدمات: اختلف فيمن أخرج زكاة ماله قبل حلول الحول على: قولين أحدهما: أن ذلك لا تجزئه وهو رواية أشهب عن مالك، والثاني: أنها تجزئه إذا كان بقرب ذلك. انظر اختلافهم في حد القرب في الكتاب المذكور اهـ. قال رحمه الله تعالى: " أوخذ الإمام العادل ينوب عنه، وغيره إن صرفها في وجوهها، أجزأته، وإلا لزمته الإعادة " يعني إذا أخذ الإمام العادل المحقق العدالة الزكاة أنه ينوب عن صاحب المال لأن الإمام العادل يدفعها لمستحقيها. قال مالك في المدونة:

إذا كان الإمام يعدل لم يسع الرجل أن يفرق زكاة ماله الناض ولا غير ذلك، ولكن يدفع زكاة الناض إلى الإمام ويدفعها الإمام. وأما ما كان من الماشية وما أنبتت الأرض فإن الإمام يبعث في ذلك اهـ. وقال خليل: ودفعت للإمام العدل وإن عينا. قال الخرشي: يعني أن صاحب الزكاة يلزمه إذا كان الإمام عدلا في أخذها وصرفها أن يدفعها له سواء كانت عينا أو ماشية أو حرثا طلبها أو لا اهـ. وأما غيره أي غير العدل فإن صرفها في وجوهها أجزأت وإلا فلا تجزئ، ويلزمه الإعادة كما نص عليه المصنف. وإليه أشار عاطفا على عدم الإجزاء بقوله: أو طاع بدفعها لجائر في صرفها. قال ابن الحاجب: وإذا كان الإمام جائزا فيها لم يجزه دفعها إليه. قال في التوضيح: أي جائزا في تفريقها وصرفها في غير مصارفها لم يجزه دفعها إليه لأنه من باب التعاون على الإثم، والواجب حينئذ جحدها والهروب بها ما أمكن. وأما إذا كان جوره في أخذها لا في تفرقتها، بمعنى أنه يأخذ أكثر من الواجب فينبغي أن يجزيه ذلك على كراهة دفعها إليه اهـ نقله الحطاب. ثم قال رحمه الله تعالى: ويخرج الولي عن الصبي والمجنون " يعني أن الولي مخاطب بإخراج الزكاة من مال الصبي والمجنون. وفي المدونة: قال ابن القاسم: سألت مالكا عن أموال الصبيان والمجانين هل فيها زكاة؛ فقال في أموالهم الصدقة، وفي حروثهم، وفي ناضهم، وفي ماشيتهم، وفيما يديرون للتجارة اهـ. وفي الرسالة: وعلى الأصاغر الزكاة في أموالهم في العين والحرث والماشية وزكاة الفطر اهـ. قال زروق: يعني أن الزكاة حق تعلق بعين المال فلا يشترط في وجوبها بلوغ ولا عقل لثبوت الملك لها، ويخرجها الولي عن الصبي والمجنون وغيرهما ] 276] ممن تحت ولايته، وإذا أخرجها أشهد عليها فإن لم يشهد فقال ابن حبيب يصدق الولي إن كان مأموما. قال الشيخ - يعني عبد الله بن أبي زيد - إنما يزكي الولي عن يتيمه إن أمن التعقب وجعل له ذلك وإلا فلا، كقولهم في التركة يجد فيها خمرا

فانظره اهـ. وقد أطال الحطاب في هذه المسألة عند قول خليل: وإن لطفل أو مجنون، فانظره إن شئت. قال رحمه الله تعالى: " ويجزئ أحد النقدين عن الآخر بقيمته ما لم تنقص عن قدر الواجب " قال مالك في المدونة: وله أن يخرج في زكاة الدنانير دراهم بقيمتها، ويخرج عن الورق ذهبا بقيمتها اهـ. وقال خليل: وجاز إخراج ذهب عن ورق وعكسه بصرف وقته مطلقا السكة إلخ. قال الخرشي: يعني أنه يجوز إخراج الذهب زكاة عن الورق، وكذلك عكسه، أي إخراج الورق زكاة عن الذهب إلى أن قال: وأما إخراج الفلوس عن أحد النقدين فالمشهور الإجزاء كما يأتي عن قريب. وقال النفراوي في الفواكه: وأما إخراج الفلوس الجدد عن الذهب أو الفضة فلا يجوز ابتاء، ويجزئ بعد الوقوع كما قاله المصنف في نوادره اهـ. وفي الحطاب: قال ابن عرفة: ولا يخرج غيرهما عن أحدهما، فإن وقع فالمشهور لا يجزئ. وقال أشهب: إن أعطى عرضا أجزأه اهـ. فالحاصل أن إخراج غير أحد النقدين عن زكاتهما ممنوع ابتداء، ويجزئ بعد الوقوع وإن كان مكروها، ويعتبر في ذلك بصرف الوقت وبما يفي الواجب. قال الحطاب: يعني إذا أخرج ذهبا عن ورق مسكوك، أو ورقا عن ذهب مسكوك فإن قيمة السكة معتبرة اتفاقا. قلت: هذا هو المراد بقول المصنف ما لم تنقص عن قدر الواجب. والمقصود أن يكون الواجب وافيا. ثم قال رحمه الله تعالى: " ومن ابتاع بنصاب بعد حوله وقبل تزكيته فربح زكاة للأول وزكاهما للحول الثاني " يعني أن من فرط ولم يخرج الزكاة بعد تمام حول المال، ثم اشترى بها السلعة فعليه إذا باع السلعة زكاة حول الأول ثم يزكي جميع المال مع الربح في هذا الحول الذي هو الثاني. قال مالك في المدونة: ولو أن رجلا كانت عنده

عشرون دينارا فحال عليها الحول، فابتاع بها سلعة ولم يكن أخرج زكاتها، فأقامت السلعة بعد الحول عنده حتى حال عليها حول آخر، ثم باعها بأربعين دينارا بعد الحول، فإنه يزكي عشرين دينارا للسنة الأولى نصف دينار، ثم يزكي للسنة الثانية تسعة وثلاثين دينارا ونصف دينار اهـ. قال رحمه الله تعالى: " إلا جزء زكاة النصاب " يعني كما في المدونة وإن اشترى سلعة بالعشرين دينارا بعد الحول ولم يكن زكى العشرين حتى مضى الحول ثم باع السلعة بعد ذلك بستة أشهر بثلاثين دينارا فإنه لا زكاة عليه إلا في العشرين دينارا، ويستقبل بالتسعة والعشرين دينارا والنصف حولا من يوم حال الحول على العشرين اهـ. قال رحمه الله تعالى: " إلا أن يكون له عرض يساوسه " وفيها قال أشهب: وإن كان عنده عرض يكون قيمته نصف دينار أو أكثر زكى الأربعين للسنة الثانية دينارا، وزكى الحول الأول نصف دينار لأن التفريط يحسب عليه شبه الدين وله عرض يحتمل دينه اهـ. الضمير في قوله يساويه عائد إلى النصف دينار الذي دفعه المزكي من الحول الأول، فإذا كان عنده عرض قيمته تنوب مناب نصف الدينار فيكون به تمام أربعين دينارا فيزكي الأربعين للسنة الثانية كما تقدم. قال رحمه الله تعالى: " وتضم أولى الفائدتين إلى الثانية كانت نصابا أو أكملته فإن كانت الأولى أو كل نصابا استقلت بحولها " يعني كما في الدردير على أقرب المسالك وتضم ناقصة لما بعدها إلخ، أي ولو تعددت الفائدة حتى يتم النصاب فيتقرر الحول، فمن استفاد عشرة من المحرم ومثلها في رجب فمبدأ الحول رجب فيزكي العشرين في رجب المستقبل ولو استفاد خمسة في المحرم، ومثلها في ربيع، ومثلها في رمضان، فمبدأ الحول رمضان فيستقبل بها حولا منه إلا أن تنقص الأولى أي من الفائدتين عن النصاب

بعد مرور الحول عليها وهي كاملة فحينئذ لا تضم لما بعدها لوجوب الزكاة عليها، كما لا تضم ما بعدها لها بل يزكي كلا في حولها ما دام في المجموع نصاب: مثاله استفاد عشرين في المحرم وحال حولها ووجب زكاتها، ثم نقصت واستفاد في رجب ما يكمل النصاب فأكثر فكل منهما على حولها، فإذا جاء المحرم زكى المحرمية، فإذا جاء رجب زكى الرجبية. وقال الصاوي عليه: قوله: وتضم فائدة ناقصة؛ اعلم أن أقسام الفوائد أربعة: إما كاملتان، وإما ناقصتان، أو الأولى كاملة والثانية ناقصة، أو عكسه، فالكامل لا يضم، والناقص الذي بعده كامل يضم إليه، والناقص بعد الكامل لا يضم لسبقه بالكامل، والناقص يضم للناقص بعده كما يضم للكامل بعده. وهذا التفصيل مخصوص بفائدة مخصوص بفائدة العين كما هو معلوم. وأما الماشية فإن ما حصل من فائدتها بعد نصاب الأول يضم له اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " ومن مكث دينه أحوالا فلا زكاة عليه حتى يقبضه، أو نصابا منه فيزكيه لعام واحد " يعني أن من كان له دين على أحد فلا زكاة عليه فيه حتى يقبضه ولو مكث أعواما، أو يقبض منه ما يتم به نصابا فيزكيه لعام واحد بعد قبضه. قال في الرسالة: ولا زكاة عليه في دين يقبضه وإن قام أعواما فإنما يزكيه لعام واحد بعد قبضه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فإن قبض دونه لم يزك حتى يقبض تمامه، أبقى الأولى أو أتلفها كثمن عروض التجارة " والمعنى أنه إن قبض من الدين أقل من النصاب فلا يزكيه حتى يقبض ما يتم به النصاب سواء طال بين الأول والثاني أم لا، أتلفه أم لا، المعتبر حصول تمام النصاب ولو بتكرر المقبوض، وكذلك عروض التجارة حتى يبيعه ويقبض ثمنه عينا فيزكيه لعام واحد إن كان نصابا فأكثر. قال خليل: وإنما يزكى دين إن كان أصله عينا بيده أو عرض تجارة وقبض عينا ولو بهية أو إحالة كمل بنفسه ولو تلف

المتم إلخ. وعبارة الدردير في أقرب المسالك: ويزكي الدين لسنة من يوم ملك أصله، أو زكاة إن كان عينا من قرض أو عروض تجارة وقبض عينا ولو موهوبا له. أو أحال، وكمل نصابا وإن بفائدة تم حولها، أو كمل بمعدن وحول المتم من التمام ثم زكى المقبوض ولو قل اهـ. وحاصل ما ذكروه أن لزكاة الدين شروطا أربعة: الأول: أن يكون الدين أصله عينا بيده أو بيد وكيله فيسلفه، أو عروض تجارة يبيعها بثمن معلوم لأجل. الشرط الثاني: إن يقبض الدين حقيقة أو حكما، كإحالته لما عليه بعد حلول الأجل، أو هبته لغير المدين. الشرط الثالث: أن يقبض عرضا لا إن قبض عرضا فلا زكاة عليه إلا بعد بيعها فيزكيه لسنة من يوم قبضه. الشرط الرابع: أن يقبض نصابا، أي أن يكون المقبوض من الدين نصابا كاملا ولو في مرات كأن يقبض منه عشرة فيزكيه عند قبض ما به التمام، أو يقبض بعض نصاب وعنده ما يكمل النصاب وإن بفائدة تم حولها، كما لو قبض عشرة وعنده عشرة حال عليها الحول فيوكي العشرين. هذا حكم المحتكر في دين له أو عروض تجاريه. وأما الدين الذي استفاده كالهبة فإنه يستقبل به حولا من يوم قبضه. وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله: " وإن استفاده فلا زكاة حتى يحول بعد قبضه ويعتبر في القبض ما تقدم " يعني بما تقدم، أي من الشروط المذكورة المتقدمة في زكاة الدين من تمام النصاب وحلول الحول وغير ذلك مما تقدم. ثم ذكر أحكام المدير أي في التجارة، وهو الذي لا يستقر بيده عين ولا عرض، فقال رحمه الله تعالى: " ويعين المدير شهرا يقوم فيه عروضه، ويضم دينه وناضه ولو درهما، فإن كان لا ينض له شيء فلا زكاة " يعني أن المدير يجب عليه أن يعين شهرا معلوما في السنة ليزكية ماله بشرط وجود الشيء من النقود في يده وإن لم يكن شيء من ذاك فلا يجب عليه زكاة حتى يبيع بالنقود. قال مالك في المدونة في رجل يدير ماله في التجارة فكلما باع اشترى، مثل الحناطين والبرازين والزياتين، ومثل التجار

الذين يجهزون الأمتعة وغيرها إلى البلدان قال: فليجعلوا لزكاتهم من السنة شهرا، فإذا جاء ذلك الشهر قوموا ما عندهم مما هو للتجارة، وما في أيديهم من الناض فزكوا ذلك كله. قال: وإن كان له دين على الناس فليزكه مع ما يزكي من تجارته يوم يزكي تجارته إن كان دينا يرجى اقتضاؤه وإن كان لا يرجوه لم يقومه وإنما يقوم ما يرتجيه من ذلك. ويقوم الحائط إذا اشتراه للتجارة، هذا إذا كان ممن يدير ماله. وقال ابن القاسم لا يقوم الثمر لأن الثمر فيه زكاة، وكذلك لا يقوم الأواني والآلات وبهيمة العمل. وقال مالك: إذا كان الرجل يدير ماله في التجارة ولا ينض له شيء إنما يبيع العرض بالعرض فهذا لا يقوم ولا شيء عليه، ولا زكاة، ولا تقويم حتى ينض له بعض ماله. وقال: من باع بالعرض والعين فذلك الذي يقوم اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " والمرصع إن علم وزن نقده زكاه، وانتظر بجواهره البيع، وإن جهله ولم يمكن نزعه فالأظهر التحري، وقيل المقصود منهما متبوع " قال العدوي في حاشيته على الخرشي: قوله وإن رصع أي ألزق ورصع يصح قراءته بالتشديد والتخفيف، فقد قال الجوهري: الترصيع: التركيب. وقد يقال رصع بالكسر والترصيع مصدر رصع بالتشديد اهـ. والمعنى إذا رصع أحد النقدين على الحلي أو غيره فالعبرة في الزكاة زنته. قال خليل: وإن رصع بجوهر، وزكى الزنة إن نزع بلا ضرر، وإلا تحرى (¬1). وقال الدردير في الحلي المحرم: يجب فيه الزكاة وإن رصع بالجواهر، أو طرز بسلوك الذهب أو الفضة ثياب أو عمائم فإنها تزكى زنتها إن علمت وأمكن نزعها بلا فساد وإلا تحرى ما فيه من العين وزكى اهـ. وقال مالك في المدونة فيمن اشترى حليا للتجارة وهو ممن لا يدير التجارة، أي اشترى حليا فيه الذهب والفضة والياقوت والزبرجد واللؤلؤ فحال عليه الحول وهو عنده فإنه ينظر إلى ما فيه من الورق والذهب فيزكيه، ¬

(¬1) انظر قوله: وإلا تحرى في الحطاب اهـ.

ولا يزكي ما كان فيه من اللؤلؤ والزبرجد والياقوت حتى يبيعه، فإذا باعه زكاه ساعة بيعه إن كان قد حال عليه الحول. قال: وإن كان ممن يدير ماله في التجارات إذا باع اشترى قوم ذلك كله في شهره الذي يقوم فيه ما له فزكى لؤلؤه وزبرجده وياقوته، وجميع ما فيه إلا التبر الذهب والفضة فإنه يزكي وزنه ولا يقومه اهـ. ثم ذكر المعدن أي معدن النقدين فقال رحمه الله تعالى: " ويشترط في المعادن اتصال النيل وكمال النصاب، لا الحول، فإن أخرج دونه فلا زكاة حتى يخرج تمامه أو يكون عنده ما يكمله قد حال حوله، وتضم المعادن وإن تناءت محالها كالزرع وغيرها بشرط اتصال النيل وإلا استقل كل بحكمه " قال في الرسالة: وفيما يخرج من المعدن من ذهب أو فضة الزكاة إذا بلغ وزن عشرين دينارا أو خمس أواق فضة ففي ذلك ربع العشر يوم خروجه. وكذلك فيما يخرج بعد ذلك متصلا به وإن قل، فإن انقطع نيله بيده وابتدأ غيره لم يخرج شيئا حتى يبلغ ما فيه الزكاة اهـ. وقال خليل: وإنما يزكي معدن عين وحكمه للإمام، ولو بأرض معين، إلا مملوكة لمصالح فله، وضم بقية عرقه وإن تراخى العمل، لا معادن ولا عرق آخر إلخ. النفراوي: وإنما وجبت زكاة الخارج بعد تمام النصاب وإن قل لأنه كالدين يزكى المقبوض منه بعد النصاب وإن قل اهـ. قال مالك في الموطأ إنه لا يؤخذ من المعادن مما يخرج منها شيء حتى يبلغ ما يخرج منها قدر عشرين دينارا عينا أو مائتي درهم، فإذا بلغ ذلك ففيه الزكاة مكانه وما زاد على ذلك أخذ بحساب ذلك ما دام في المعدن نيل، فإذا انقطع عرقه ثم جاء بعد ذلك نيل فهو مثل الأول تبتدئ فيه الزكاة كما ابتدأت في الأول. قال مالك: المعدن بمنزلة الزرع يؤخذ منه مثل ما يؤخذ من الزرع، يؤخذ منه إذا خرج من المعدن من يومه ذلك ولا ينتظر به الحول، كما يؤخذ من الزرع إذا حصد العشر ولا ينتظر أن يحول عليه الحول اهـ ثم ذلك الندرة بفتح النون وسكون الدال المهملة، وفي المصباح: الندرة بالفتح

والضم لغة. ولا يكون ذلك إلا نادرا اهـ. وهي المال الذي. . يوجد في الأرض. وحكمها كالركاز من أن فيها الخمس على المشهور. وهو قول ابن القاسم. وقال ابن نافع فيها الزكاة. وعلى القول الأول مشى الشيخ خليل حيث قال: وفي ندرته الخمس كالركاز. ومشى المصنف على أن القول الثاني أظهر له. ولذا قال رحمه الله تعالى: " والأظهر أن الندرة كغيرها. وقيل بل تخمس " وأنه رحمه الله حكى القول المشهور بقيل التي تدل على الضعف. قال الخرشي: والمعنى أن ندرة معدن العين تخمس على المشهور. قال العدوي: ومقابله ما رواه ابن نافع عن مالك ليس فيها إلا الزكاة، وإنما الخمس في الركاز اهـ وفي الحطاب: قال في التوضيح: المعتبر في تمييز الندرة من غيرها هو التصفية للذهب والتخليص فهي القطعة المشبهة بالركاز وفيها الخمس، وأما إذا كانت ممازحة للتراب وتحتاج إلى تخليص فهي المعدن وتجب فيها الزكاة، حكاه الباجي عن الشيخ أبي الحسن اهـ. والحاصل أن في الندرة قولان أشهرهما التخميس كما تقدم. والله أعلم. ثم قال رحمه الله تعالى: " والأصح تخميس قليل الركاز وكثيره وعروضه " يعني أن الركاز. . يخمس قليله وكثيره لا فرق بين النقدين والعروض. قال الخرشي: المشهور أن الركاز يخمس ولو كان دون النصاب، وسواء كان عرضا أو عينا كالجواهر والنحاس والرصاص والعمد والرخام والصخور ما لم تكن مبنية وإلا فحكمها حكم جدرها اهـ مع إيضاح. وقال زروق في شرحه على الرسالة: والمشهور تخميس القليل والكثير منه كان عينا أو لؤلؤا أو نحاسا أو غيرها، وإليه رجع مالك عن تخصيصه بالعين، واختاره ابن القاسم وغيره. وما كثر العمل والنفقة في تحصيله فليس فيه إلا الزكاة على الأصح اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ثم أربعة أخماسه إن كان بفيفاء في الجاهلية فلواجده "

وفي المواق قال مالك في المدونة: ما وجد في أرض العرب كأرض اليمن والحجاز وفيافي الأرض من ركاز ذهب أو فضة فهو لمن وجده، وعليه فيه الخمس كان قليلا أو كثيرا، وإن نقص عن مائتي درهم، أصابه غني أو فقير أو مدين، ولا يسع الفقير أن يذهب بجميعه لموضع فقره اهـ. قوله في الجاهلية، قال النفراوي: لأن الغالب في الموجود في الأرض كونه من دفن الجاهلية. وقوله فلواجده، قال وأشعر كلام المصنف أنه ليس حكمه للإمام كالمعدن، بل الباقي بعد إخراج خمسه لواجده ولو عبدا أو كافرا، حيث وجده في أرض لا مالك لها، كموات أرض الإسلام، أو فيافي العرب التي لم تفتح عنوة ولا أسلم عليها أهلها. وأما لو وجد في أرض مملوكة فيكون ما فيه لمالك الأرض ولو جيشا. انظره في الفواكه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وأما في أرض الصلح فلأهلها، أرض العنوة لمفتتحها " قال مالك في المدونة: ما وجد من ركاز بأرض الصلح فهو للذين صالحوا على أرضهم، ولا يخمس ولا يؤخذ منهم شيء. قال سحنون: ويكون لأهل تلك القرية دون الإقليم، إلا أن يجده رب الدار وهو من أهل الصلح فهو له، إلا أن يكون رب الدار ليس من أهل الصلح فيكون ذلك لأهل الصلح دونه اهـ. وعبارة النفراوي في الفواكه أنه قال يستثنى من الركاز الذي يخمس ما وجد مدفونا في أرض الصلح سواء كان من دفنهم أو من دفن غيرهم، فهذا لا يخمس على المشهور ولا يكون لو اجده وإنما هو لأهل الصلح جميعا إلا أن يجده رب دار منهم بها فإنه يختص به، فلو لم يكن منهم فهو لهم اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وما علم أنه لمسلم لقطة " يعني كما قال النفراوي: وأما ما وجد عليه علامة مسلم أو ذمي فهو لقطة سواء وجد مدفونا أو على ظهر الأرض يجب على واجده تعريفه سنة، ما لم يغلب على الظن انقراض مستحقة فيوضع في بيت المال بلا

تعريف اهـ. وقال خليل: ودفن مسلم أو ذمي لقطة. قال الدردير: كالموجود من مالهما على ظهر الأرض يعرف سنة إذا لم يعلم ربه أو وارثه، فإن قامت القرائن على توالي الأعصار عليه بحيث يعلم أن ربه لا يمكن معرفته ولا معرفة وارثه في هذا الأوان فهل ينوي تملكه أو يكون محله بيت مال المسلمين لقولهم كل مال جهلت أربابه فمحله بيت المال، وهو الظاهر بل المتعين اهـ. وإنما كان مال الذمي كالمسلم لأنه محترم بحرمة الإسلام لدخوله تحت حكم المسلمين. ثم قال رحمه الله تعالى: " والدين إن استغرق أو أبقى ما لا زكاة فيه أسقطها عن النقد الحولي " يعني إذا كان عليه دين أكثر مما بيده من النقود. أو يبقى أقل من النصاب بعد وفاء الدين فلا زكاة عليه في نقده. قال رحمه الله تعالى: " لا المعدني والماشية والمعشرات " يعني أن الدين لا يسقط زكاة المعدن والماشية. خمس الركاز، فمن خرج من زرعه خمسة أوسق، أو وجد في ماشيته نصابا وعليه دين يزيد على قيمة ذلك فإنه يجب عليه إخراج الزكاة ويوفي دينه من الباقي: قال خليل: ولا تسقط زكاة حرث ولا ماشية ومعدن بدين، أو فقد، أو أسر. وقال القرافي: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعمر بن عبد العزيز يبعثون الخراص والسعادة ولا ينقصون شيئا لأجل الدين من ثمرة ولا من ماشية. وكانوا يسألونهم عن الدين في العين. قاله النفراوي. قال رحمه الله تعالى: " إلا أن يكون له عرض يساويه ويجعل بإزائه ما يباع عليه في فلسه كدينه وكتابته وخدمة مدبره ونحو ذلك " والمعنى أن من عليه دين وله أي بيده من الذهب أو الفضة فليحسب ما بيده من النقد على ما عليه من الدين، فإن بقي ما فيه الزكاة بعد الدين زكاه وإلا فلا، إلا إذا كان عنده شيء يجعل بإزاء دينه فعليه أن يزكي ما بيده من النقد. قال في الرسالة: ومن له مال تجب فيه الزكاة وعليه دين مثله أو ينقص عن

فصل في زكاة الماشية وهي الإبل والبقر والغنم

مقدار مال الزكاة فلا زكاة عليه إلا أن يكون عنده مما لا يزكي من عروض مقتناة أو رقيق أو حيوان مقتناة أو عقار أو ربع ما فيه وفاء لدينه فليزك ما بيده من المال، فإن لم تف عروضه بدينه حسب بقية دينه فيما بيده، فإن بقي بعد ذلك ما فيه الزكاة زكاه اهـ. قال النفراوي مثال ذلك أن يكون عنده ثلاثون دينارا، وعليه عشرون دينارا، وعنده من العروض التي تباع في الدين وحال عليها الحول ما يوفي عشرة، تبقى عشرة من الدين بحسبها ويأخذها من الثلاثين التي عنده ويعطيها لصاحب الدين، يبقى بعد وفاء الدين عشرون فيزكيها. وأما لو بقي أقل من النصاب بعد وفاء دينه فلا تجب عليه الزكاة. مثال ذلك أن يكون عنده عشرون وعليه عشرون دينارا، وعنده من العروض ما يفي بعشرة، يبقى من الدين عشرة يعطيها من العشرين التي عنده يفضل له بعد وفاء الدين عشرة لا زكاة فيها اهـ. وما ذكره المصنف من قوله إلا أن يكون له عرض يساويه، الضمير في يساويه عائد إلى الدين، وليس العرض بمخصوم، بل جميع ما كان ملكا له ولو دينا له على غيره نحو الكتابة وخدمة المدبر له وكل ما يباع على المفلس يجب عليه أن يجعل ذلك مقابلة لما عليه كما ذكره المصنف اهـ. ولما أنهى الكلام على زكاة النقدين والمعدن وغيرهما انتقل يتكلم على زكاة النعم وهي الإبل والبقر والغنم، قال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في زكاة الماشية وهي الإبل والبقر والغنم وتسمى زكاة الماشية كما في عبارة الأكثر من المؤلفين. قال رحمه الله تعالى: " لا زكاة فيما دون خمس من الإبل وفيها شاة جذعة أو ثنية " يعني أن أول نصاب الإبل خمسة من الإبل، فإذا بلغت هذا العدد ففيها شاة جذعة أو ثنية وهما ما أوفى سنة ودخل في الثانية دخولا بينا، لا فرق في الإجراء بين الذكر

والأنثى، وإنما قدم زكاة الإبل اقتداء بما في الحديث، ولأنها أشرف النعم، ولذا سميت جمالا للتجمل بها قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] ثم اعلم أنه لا فرق عندنا في الماشية بين أن تكون سائمة أو عاملة، أو معلوفة، والإبل زكاتها من غير نوعها إلى أن تبلغ خمسة وعشرين بعيرا كما في صحيح البخاري " فيما دون خمس وعشرين من الإبل الغنم في كل خمس ذود شاة " أي جذعة، وتعطى من جل غنم البلد، ولا عبرة بغنم المزكي، فإن تساوى الضأن والمعز قيل من الضأن. وقيل يخير الساعي، وإن لم يكن من أهل الغنم فيعتبر جل غنم أقرب البلاد إليهم. ويكفي عنها بعير ولو من سنة بشرط أن تكون قيمته تساوي قيمة الجذعة، ففي العشر جذعتان، وفي خمسة عشر ثلاث شياه. قال رحمه الله تعالى: " وفي العشرين أربع " يعني إذا بلغت الإبل عشرين ففيها أربع شياه إلى أربع وعشرين، وإذا زادت على الأربع والعشرين زكيت من جنسها لأنه كلما زاد المال تنبغي الزيادة في القدر الواجب تعظيما لشكر المنعم. ولذا قال رحمه الله تعالى: " وفي خمس وعشرين بنت مخاض، فإن عدمها فابن لبون " قال في الرسالة: ثم في خمس وعشرين بنت مخاض، وهي بنت سنتين، فإن لم تكن فيها فابن لبون ذكر، قال العلامة الصاوي في حاشيته على الدردير: وليس لنا في الإبل ما يؤخذ فيه الذكر عن الأنثى إلا ابن اللبون عن بنت المخاض، وحينئذ لا يجزئ ابن المخاض عن بنت المخاض، وابن اللبون عن بنت اللبون اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " وفي ست وثلاثين بنت لبون " يعني إ ... ذا بلغت الإبل ستا وثلاثين إبلا ففيها بنت لبون أنثى، وهي ما أوفت سنتين ودخلت في الثالثة، وسميت بذلك لأن أمها ذات لبن، فلو لم توجد عنده، أو وجدت معيبة لم يؤخذ عنها حق، بخلاف ابن اللبون فتقدم أنه يؤخذ عن بنت المخاض كما ذكروه. ثم قال رحمه الله تعالى:

" وفي ست وأربعين حقة " وهي التي أوفت ثلاث سنين ودخلت في الرابعة. وفي الرسالة: وهي التي يصلح على ظهرها الحمل ويطرقها الفحل، وهي بنت أربع سنين، أي أتمت ثلاثا ودخلت في الرابعة، ويستمر يدفعها إلى تمام ستين. قال رحمه الله تعالى: " وفي إحدى وستين جذعة " يعني ثم إذا زادت واحدة على الستين ففيها جذعة، وهي التي أوفت أربع سنين ودخلت في الخامسة، سميت جذعة لأنها تجذع أي تسقط سنها وينبت غيرها، وهي آخر الأسنان التي تؤخذ في الزكاة من الإبل. وغاية أخذها ينتهي إلى تمام خمس وسبعين، لأن الوقص في هذه أربعة عشر كالتي قبلها. قال رحمه الله تعالى: " وفي ست وسبعين بنتا لبون " تؤخذان، وسنهما كما تقدم، ويستمر أخذهما إلى تمام تسعين، لأن الوقص في هذه أربعة عشر أيضا ثم إن زادت ففيه ما أشار إليه رحمه الله بقوله: " وإحدى وتسعين حقتان " تؤخذان، وسهما كما تقدم، فالوقص أربعة عشر أيضا وغاية أخذهما يستمر إلى تمام عشرين ومائة، فإن زادت ولو واحدة فالخيار للساعي، وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله: " وفي مائة وإحدى وعشرين يخير الساعي بين حقتين أو ثلاث بنات لبون " يعني إذا تمت إحدى وعشرين ومائة الخيار للساعي في أخذ حقتين أو ثلاث بنات لبون. قال رحمه الله تعالى: " فإن وجد إحدهما تعينت " أي التي وجدها عند رب المال من الحقتين أو ثلاث بنات اللبون تعين أخذها. وما ذكرناه من أن الزيادة الواحدة على مائة وعشرين فالخيار للساعي هو قول ابن شهاب، وتبعه فيه ابن القاسم. قال العلامة الصاوي في حاشيته على الدردير: اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن بين ما تقدم من التقادير، وبين أن في الإحدى والتسعين إلى مائة وعشرين حقتين قال: " ثم ما زاد ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل

خمسين حقة " ففهم مالك أن الزيادة زيادة عقد أي عشرة، وهو الراجح. وفهم ابن القاسم مطلق زيادة ولو حصلت بواحدة، ففي مائة وثلاثين حقة وبنتا لبون باتفاق. وأما في مائة وإحدى وعشرين إلى تسع الخلاف بينهما، فعند مالك يخير الساعي بين حقتين وثلاث بنات لبون، وهو ما مشى عليه الدردير، وعند ابن القاسم يتعين ثلاث بنات لبون اهـ. قال النفراوي في الفواكه: وما ذكره المصنف من أن الواجب يتغير بمطلق الزيادة على المائة والعشرين ولو واحدة هو قول ابن شهاب. قال ابن القاسم: وبه أقول، فيجب عنده في المائة وإحدى وعشرين إلى تسع وعشرين ثلاث بنات لبون من غير تخيير للساعي. والذي ارتضاه مالك وهو المشهور كما قاله في المقدمات أن الزيادة التي يتغير بها الواجب هي زيادة العشرات على المائة والعشرين. وأما زيادة أقل من عشرة على المائة والعشرين فالساعي بالخيار بين أخذ حقتين أو ثلاث بنات لبون، وجرى عليه العلامة خليل حيث قال: وفي مائة وإحدى وعشرين إلى تسع حقتان أو ثلاث بنات لبون الخيار للساعي، إلى أن قال: ثم في كل عشر يتغير الواجب فيتغير في مائة وثلاثين في كل أربعين بنت لبون وفي كللا خمسين حقة، انظر حاصله في الفواكه اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " وما زاد ففي كل أربعين لبون وفي كل خمسين حقة " يعني فما زاد على ما تقدم يؤخذ في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة، ففي مائة وثلاثين حقة وبنتا لبون، وفي مائة وأربعين حقتان وبنت لبون. وفي مائة وخمسين بنات لبون، وفي مائة وثمانين حقتان وبنتا لبون، وفي مائة وتسعين ثلاث حقاق وبنت لبون. وفي مائتين أربع حقاق أو خمس بنات لبون، الخيار للساعي أو لرب المال إن لم يكن ساع، ولا كلام لرب المال مع وجود الساعي. قال رحمه الله تعالى: " وما بين ذلك أوقاص " قال في الرسالة: ولا زكاة

البقر

في الأوقاص وهي بين الفريضتين من كل الأنعام. وذلك كما بين بنت المخاض وبنت اللبون في الإبل، وكما بين التبيع والمسنة في البقر، وكذا ما بين جذعة من الشاة وشاتين في الغنم. وهكذا في جميع الأجناس الثلاثة إلى آخر الفروض فتأمل. ولما أنهى الكلام على زكاة الإبل انتقل يتكلم على زكاة البقر فقال رحمه الله تعالى: " ونصاب البقر ثلاثون ففيها تبيع " وفي الحديث عن معاذ بن جبل، رضي الله تعالى عنه، قال: " بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين بقرة تبعيا أو تبعية، ومن كل أربعين مسنة ". وعنه رضي الله عنه: " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا آخذ من البقر شيئا حتى تبلغ ثلاثين، فإذا بلغت ثلاثين ففيها عجل تابع جذع أو جذعة حتى تبلغ أربعين فإذا بلغت ففيها بقرة مسنة " اهـ رواه النسائي، وفي الرسالة ولا زكاة من البقر في أقل من ثلاثين، فإذا بلغتها ففيها تبيع جل جذع أوفى سنتين، ثم كذلك حتى تبلغ أربعين فيكون فيها مسنة، ولا تؤخذ إلا أنثى وهي أربع سنين، وهي ثنية فما زاد ففي كل أربعين مسنة وفي كل ثلاثين تبيع اهـ. هذا مقصود المصنف رحمه الله بقوله: " وفي أربعين مسنة " أي إلى تسع وخمسين، ثم في ستين تبيعان إلى تسع وستين، ثم في سبعين مسنة وتبيع، وفي ثمانين مسنتان، وفي تسعين ثلاثة أتبعة. وفي مائة مسنة وتبيعان، وفي مائة وعشر مسنتان وتبيع ثم قال رحمه الله تعالى: " وفي مائة وعشرين يخير الساعي بين ثلاث مسنات وأربعة أتبعة " وما ذكره من التخيير إن وجدا معا وأما إن وجدت منفردة تعينت كما تقدم ذلك. قال العلامة خليل: ومائة وعشرون كمائتي الإبل، التشبيه في الخيار بين أخذ أربع حقاق أو خمس بنات لبون هذا في الإبل وإن لم يتقدم ذكر مائتين فإنه مفهوم من قوله ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة. ثم ذكر ما يضم بعضه لبعض من نوع البقر وغيرها فقال رحمه الله تعالى: " والجواميس

نوعها " الضمير عائد إلى البقر المذكور في أول النصاب. والجواميس جمع جاموس وهي بقر سود ضخام صغيرة الأعين طويلة الخراطيم، مرفوعة الرأس إلى قدام بطيئة الحركة وقوية جدا، لا تكاد تفارق الماء، بل ترقد فيه غالب أوقاتها، يقال إنها إذا فارقت الماء يوما فأكثر هزلت، رأيناها بمصر وأعمالها، قاله زروق في شرحه على الرسالة اهـ. والمعنى أن الجاموس من نوع البقر يضم بعضه لبعض في الزكاة، لأن اسم الجنس جمعهما في قوله عليه الصلاة والسلام: " في كل ثلاثين من البقر تبيع " ومثلها باقي الأجناس التي تجمع مع الأخرى، فمن ملك خمس عشرة بقرة ومثلها جاموسا وحال عليها الحول وجب عليه أن يزكيها. قال ابن جزي في القوانين: تجب الزكاة في الأنعام سواء كانت سائمة أو معلوفة، إلى أن قال: ويضم المعز إلى الضأن، والجواميس إلى البقر، والبخت من الإبل إلى العراب. وقال خليل وضم بخت لعراب، وجاموس لبقر، وضأن لمعز، وخير الساعي إن وجبت واحدة وتساويا، وإلا فمن الأكثر. قال الشيخ زروق في شرح الرسالة: والبخت إبل ضخمة مائلة إلى القصر لها سنامان أحدهما خلف الآخر، تأتي من ناحية العراق، وقد رأيناها بمصر والحجاز مع الأورام في حجهم. فسبحان الخلاق العظيم اهـ قلت: نعم ونحن أيضا رأيناها بمكة أيام الحج سنة 1344 هجرية كما وصفها الشيخ. وأما اليوم فلا يأتون بها، بل لا يأتون بالعراب إلا نادرا، وغالب المراكب اليوم السيارات والطيارات كما هو مشاهد. والعراب إبل معروفة، وكذا الضأن والمعز معروفان. قال الخرشي: يعني إذا اجتمع صنفان من ضأن ومعز، أو من بخت وعراب، أو من جاموس وبقر وتساويا، كعشرين ضائنة ومثلها معزا، أو خمس عشرة بقرة ومثلها جاموسا، فإن الساعي يخير في أن يأخذ الواجب من أي الصنفين شاء مع مراعاة الأحظ. هذا إذا تساويا وأما إن لم يكونا متساويين كعشرين عرابا أو جاموسا أو ثلاثين ضأنا وعشرة من الصنف الآخر فيأخذ بنت المخاض في الإبل، والتبيع في البقر، والشاة في الغنم، أي يأخذ كذلك من

الأكثر، وهو العشرون من أحد الصنفين الأولين، ويأخذ الشاة من الثلاثين، ولا يأخذ من العشرة شيئا لأن الحكم للغالب اهـ مع إيضاح. وإذا زاد الواجب على ذلك عليك بالمطولات كشراح المختصر وغيره. ثم قال رحمه الله تعالى: " ويكمل النصاب بالعجاجيل كالفصلان، ويؤخذ السن الواجب " قال في الرسالة: ولا تؤخذ في الصدقة السخلة، وتعد على رب الغنم، ولا يؤخذ العجاجيل في البقر ولا الفصلان في الإبل وتعد عليهم. ولا يؤخذ تيس، ولا هرمة، ولا المخاض، ولا فحل الغنم، ولا شاة العلف، ولا التي تربي ولدها، ولا خيار أموال الناس. ولا يؤخذ في ذلك عرض ولا ثمن، فإن أجبره المصدق على أخذ الثمن في الأنعالم وغيرها أجزأه إن شاء الله اهـ والحاصل أنه لا يجوز أخذ الشرار مراعاة لحق الفقراء ولا الجياد مراعاة لحق أرباب المواشي. قال القرافي: فإن أعطى واحدة من الخيار طيبة بها نفسه جاز ذلك، وإن أعطى من الشرار فلا يجزئ، وإن كانت كلها خيارا أو شرارا لزم الوسط على المشهور. فإن امتنع أجبر على ذلك. قاله النفراوي. قال رحمه الله تعالى: " فلو ماتت الأمهات وبقيت الأولاد نصابا زكيت " قال مالك في المدونة: إذا كانت عجاجيل كلها أو فصلانا كلها، أو سخالا كلها، وفي عدد كل صنف منها ما يجب فيه الصدقة فعلى صاحب الأربعين من السخال أن يأتي بجذعة أو ثنية من الغنم، وعلى صاحب الثلاثين من البقر إذا كانت عجولا أن يأتي بتبيع ذكر. وإن كانت فصلانا كلها خمسة وعشرين فعليه أن يأتي بابنة مخاض، ولا يؤخذ من هذه الصغار شيء اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " وتزكي العوامل والهوامل " يعني بالعوامل جمع عاملة وهي التي تستعمل في الحرث والحمل أو السقي أو نحو ذلك. والهوامل جمع هاملة أو مهملة وهي التي تسرح وتترك بغير راع، وتسمى سائمة أيضا، وفي العزية: فصل في زكاة النعم وهي

الغنم

الإبل والبقر والغنم، معلوفة أو سائمة، عاملة أو مهملة. والمعلوفة هي التي يعلفها ربها من عنده، والسائمة هي التي تأكل من المرعى. وتقدم آنفا معنى العاملة والمهملة، قال خليل: وإن معلوفة وعاملة ونتاجا. قال السادة المالكية: والتقييد بالسائمة في حديث " في سائمة الغنم زكاة " لأنه الغالب على مواشي العرب، فهو خرج مخرج الغالب ولبيان الواقع ولذا قالوا لا مفهوم له. انتهى. ولما أنهى الكلام على زكاة البقر انتقل يتكلم على الغنم فقال رحمه الله تعالى: " ونصاب الغنم أربعون وفيها شاة كالتي في الإبل " والغنم اسم جنس يطلق على الضأن والمعز، ولذا تضم مع الأخرى. ولا زكاة من الغنم في أقل من أربعين، فإذا بلغتها ففيها شاة جذعة، أو ثنية أوفت سنة ودخلت في الثانية. وفي كتاب ابن حزم في صدقة الغنم: ليس في الغنم صدقة حتى تبلغ أربعين شاة، فإذا بلغت أربعين شاة ففيها شاة، إلى عشرين ومائة، فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة ففيها شاتان، إلى مائتي شاة، فإذا كانت شاة ومائتي شاة ففيها ثلاث شياه، إلى ثلاثمائة شاة، فما زاد ففي كل مائة شاة، وإليه أشار رحمه الله تعالى: " وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان " أي جذعتان، أو جذعان إلى مائتين. ثم قال رحمه الله تعالى: " وفي مائتين وشاة ثلاث " أي من الشياة إلى ثلاثمائة وتسع وتسعين، ثم في أربعمائة أربع من الشياه. قال رحمه الله تعالى: " ثم في كل مائة شاة " أي بعد الأربعمائة فلا يتغير الواجب بعدها إلا بزيادة المائة. ثم قال رحمه الله تعالى: " ولا تؤخذ هرمة، ولا هزيلة، ولا معيبة، ولا فحل، ولا كريمة الضأن " قال في المدونة كما في كتاب ابن حزم: ولا تخرج في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، ولا تيس إلا أن يشاء المصدق. وتقدم لنا في شرح قول المصنف ويؤخذ السن الواجب فراجعه إن شئت. قال العلامة الدردير في أقرب المسالك: وتعين أخذ

الوسط ولو انفرد الخيار أو الشرار، إلا أن يتطوع المزكي أو يرى الساعي أخذ المعيبة أحظ اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والمعز جنس " وتقدم أن الغنم اسم جنس يطلق على الضأن والمعز، كما يشملهما لفظ الشاة. قال مالك في الموطأ في الرجل يكون له الضأن والمعز إنها تجمع عليه في الصدقة، فإن كان فيها ما تجب فيه الصدقة صدقت. وقال إنما هي غنم كلها اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وحكم الأولاد ما تقدم " أي عند قوله فلو ماتت الأمهات وبقيت الأولاد نصابا زكيت، فراجعه إن شئت. ثم قال رحمه الله تعالى: " وتزكى السائمة والمعلوفة " وتقدم الكلام أيضا في السائمة والمعلوفة عند قوله: وتزكى العوامل والهوامل، فراجعه إن شئت، قال رحمه الله تعالى: " ومبدل نصابا بجنسه يبني، وبخلافه المشهور الاستئناف إلا أن يفعله فرارا " والمعنى أن من أبدل ماله بجنسه أي بنوعه - وهو نصاب وقت الإبدال فإنه يبني على حول ماله قبل الإبدال. وأما إن أبدله بغير جنسه فالمشهور أنه يستأنف حولا من يوم التبديل، إلا أن يفعله فرارا من الزكاة فتؤخذ منه. قال العلامة الدردير في أقرب المسالك: ومن أبدل أو ذبح ماشية فرارا أخذت منه ولو قبل الحول إن قرب. وبنى في راجعة بعيب أو فلس أو فساد لا إقالة: قال الصاوي في حاشيته عليه: حاصله أن من كان عنده نصاب من الماشية سواء كان للتجارة أو للقنية ثم أبدله بعد الحول أو قبله بقرب كشهر بماشية أخرى من نوعها أو من غير نوعها، كانت الأخرى نصابا أو أقل من نصاب، أو أبدلها بعرض أو نقد فرارا من الزكاة، ويعلم ذلك من إقراره أو من قرائن الأحوال، فإن ذلك الإبدال لا يسقط عنه زكاة المبدلة، بل يؤخذ بزكاتها معاملة له بنقيض قصده. ولا يؤخذ بزكاة البدل وإن كانت زكاته أكثر لأن البدل لم تجب فيه زكاة لعدم مرور الحول عليه اهـ.

الخلطة

قال رحمه الله تعالى: " ومستفيد نصاب أو دونه من جنس ماشيته يبينه على حولها " أي يبينه على حول ماشيتها بشرط أن يكون في ماشيته نصاب قبل الفائدة. قال مالك في الموطأ: ولو كانت لرجل إبل أو بقر أوغنم تجب في كل صنف منها الصدقة، ثم أفاد إليها بعيرا أو بقرة أو شاة صدقها مع ماشيته حين يصدقها. وهذا أحب ما سمعت إلي في ذلك، قال أيضا في المدونة: وإنما تضاف الغنم إلى الغنم، والبقر إلى البقر، والإبل إلى الإبل، إذا كان الأصل الذي كان عند ربها قبل أن يفيد هذه الفائدة نصاب ماشية فإنه يضيف ما أفاد من صنفها إليها إذا كان الأصل نصابا فيزكي جميعها، وإن لم يفد الفائدة قبل أن يحول إلا بيوم زكاه مع النصاب الذي كان له اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والخلطاء كالمالك الواحد بشرط كمال النصاب في ملك كل، واجتماعهم على وصفين: كالراعي والفحل والدلو والمراح والمبيت وطلب المصلحة ولو آخر الحول " يعني أن الخلطاء كالملك الواحد في الزكاة، ولا تؤخذ ممن لم تبلغ حصته عدد الزكاة على المشهور، وسواء كان خليطا أو غيره. قال الشيخ زروق في شرح الرسالة: والمذهب أن الخلطاء كالمالك الواحد بشروط ستة: اتحاد النوع، وقصد الرفق، وكون ذلك قبل الحول ما لم يقرب جدا، ونية الخلطة، خلافا لأشهب، وملك كل نصابا على المشهور، وحلول حول كل نصاب، واجتماعها في ملك أو منفعة، في الجل من ماء ومبيت، وراع بإذنهم، وفحل لمرفق، ومراح وهو موضع إقامتها. وقيل موضع الرواح للمبيت، فهي ستة يجمع جلها الراعي، فلذا قيل يكفي وجوده. وقيل يكفي اثنان منها اهـ. وقال ابن ناجي: وشروط الخلطة خمسة، الراعي، والفحل، والدلو، والمراح، والمبيت. ولا خلاف أنه لا يشترط جميعها، واختلف في أقل المجزي منها، قيل ثلاثة، وقيل اثنان، وقيل يكفي الراعي، ورجح المصنف الاثنين بقوله: واجتماعهم على وصفين كما تقدم. وقال مالك في الموطأ في الخليطين: إذا كان الراعي واحدا، والفحل

واحدا، والمراح واحدا والدلو واحدا، فالرجلان خليطان، وإن عرف كل واحد منهما ماله من مال صاحبه. قال والذي لا يعرف ماله من مال صاحبه ليس بخليط، إنما هو شريك. قال مالك: ولا تجب الصدقة على الخليطين حتى يكون لكل واحد منهما ما تجب فيه الصدقة. وتفسير ذلك أنه إذا كان لأحد الخليطين أربعون شاة فصاعدا وللآخر أقل من أربعين شاة كانت الصدقة على الذي له الأربعون شاة ولم تكن على الذي له أقل من ذلك صدقة، فإن كان لكل واحد منهما ما تجب فيه الصدقة جمعا في الصدقة ووجبت الصدقة عليهما جميعا. فإن كان لأحدهما ألف شاة أو أقل من ذلك مما تجب فيه الصدقة، وللآخر أربعون شاة أو أكثر فهما خليطان يترادان الفضل بينهما بالسوية على قدر عدد أموالهما على الألف بحتها وعلى الأربعين بحتها اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " ولا يجمع بين مفترق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة " وتفسير لا يجمع بين مفترق أن يكون النفر الثلاثة الذين يكون لكل واحد منهم أربعون شاة قد وجبت على كل واحد في غنمه الصدقة، فإذا أظلهم المصدق جمعوها لئلا يكون عليهم فيها إلا شاة واحدة، فنهوا عن ذلك. وتفسير قوله ولا يفرق بين مجتمع أن الخليطين يكون لكل واحد منهما مائة شاة وشاة، فيكون عليهما فيها ثلاث شياه، فإذا أظلهما المصدق فرقا غنمهما فلم يكن على واحد منهما إلا شاة واحدة، فنهى عن ذلك. قاله مالك في الموطأ، ومثله في المدونة اهـ ثم ذكر أن الافتراق والاجتماع لهما تأثير كما فسر الإمام معناه. قال رحمه الله تعالى: " وتؤثر التخفيف كمالكي مائة وعشرين " يعني هذا مثال التخفيف. قال الخرشي: كاثنين لواحد ثمانون من العز، وللآخر أربعون من الضأن فإن عليهما واحدة من المعز على صاحب الثمانين ثلثاها وعلى الآخر ثلث. قال رحمه الله تعالى: " أو التثقيل كمالكي مائتين وشاة " يعني كما يؤثر التخفيف كذلك يؤثر التثقيل يرجع معناهما بالتقليل والتكثير في الأخذ. قال المواق نقلا عن

التلقين: للخلطة في الماشية تأثير في الزكاة، وتأثيرها أن يكون للاثنين ثمانون شاة لكل واحد أربعون، فيأخذ منها الساعي شاتين إذا كانا مفترقتين فإن خلطا أخذ عن الثمانين شاة واحدة، فتأثيرها في هذا الموضع التخفيف. وقد تؤثر التثقيل، وهو أن يكون للاثنين مائتان وشاة فيؤخذ منها ثلاث شياه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فإن ظهر قصد الفرار أخذوا بحال الانفراد، ويصدقون في قصد المصلحة، فإن اتهموا حلفوا " قوله فإن ظهر قصد الفرار إلخ ومفهومه لو تفرقوا أو اجتمعوا لعذر لا حرمة، ويصدقون في العذر من غير يمين إن كانوا مأمونين ظاهري الصلاح، وإلا فبيمين كما ذكر المصنف اهـ النفراوي ومثله في العدوي. ثم قال رحمه الله: " والنصاب المؤلف إن أخذ منه متأولا ترادوا بحسب أملاكهم، كما لو زاد الفرض بخلط دونه، وإلا فهي من مالكها كالمأخوذة من دون النصاب " قال خليل كتأول الساعي الأخذ من نصاب لهما أو لأحدهما وزاد للخلطة لا غصبا أو لم يكمل لهما نصاب اهـ وفي حاشية العدوي على الدردير: تنبيه يتراجعان بالقيمة لو أخذ الساعي من نصاب لهما متأولا كلكل عشرون من الغنم لا يملك غيرها أو لأحدهما نصاب للخلطة، كما لو كان لواحد مائة وللثاني أحد وعشرون لا يملك غيرها، وأخذ الساعي شاتين. وأما لو كان عند الشريكين أقل من نصاب وأخذ الساعي من أحدهما فمصيبة على صاحبها كالغصب اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولا خلطة في غير الماشية، ولا زكاة في حيوان غيرها " يعني لا خلطة معتبرة شرعا إلا في الماشية، كما لا تجب الزكاة على ذات غيرها من الحيوان. واسم الماشية لا يطلق إلا على الإبل والبقر والغنم فقط. قال النفراوي: وهي التي تجب فيها الزكاة، فلا تجب في خيل وبغل وحمير، وإنما وجبت فيها دون غيرها

لوجود كمال النماء فيها من لبن وصوف ونسل وغير ذلك من أنواع الانتفاع، بخلاف غيرها من بقية أنواع الحيوان اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " ولا ضمان لتلفها قبل مجيء الساعي " الضمير في تلفها عائد إلى الماشية. وقد تقدم قول المصنف في زكاة العين، وتلفها قبل تمكنه من الأداء يسقطها، وبعده يوجب ضمانها، فراجعه إن شئت. وفي المدونة: ولو كانت لرجل ألف شاة فمضى لها خمس سنين لم يأته المصدق فيها، وهي ألف شاة على حالها، فلما كان قبل أن يأتيه المصدق بيوم هلكت فلم يبق منها إلا تسع وثلاثون شاة، قال مالك: ليس عليه فيها شيء اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فإن نقصها فرارا ضمن " هذا كقوله سابقا فإن ظهر قصد الفرار أخذوا بحال الانفراد. والمعنى أن من نقص نصابا بذبح أو بيع أو غيرهما بقصد الفرار من الزكاة ضمنها، لأي يعامل بنقيض قصده، كالهارب بمأشيته سنين فإنه ضامن ولو ماتت ماشيته، ولم يضع عنه موتها عما وجب عليه من الزكاة شيئا، بخلاف الذي لم يهرب لو هلكت ماشيته وجاءه المصدق بعد هلاكها لم يكن عليه شيء. وسئل ابن القاسم فيمن هرب بماشيته من المصدق وقد حال عليها الحول وقد تموتت كلها أيكون زكاتها لأنه هرب من المصدق؟ فقال نعم. وهو قول مالك. قاله في المدونة اهـ. ولما فرغ من الكلام على زكاة الماشية انتقل يتكلم على زكاة الحبوب، وتسمى زكاة الحرث والثمار، فقال رحمه الله تعالى:

فصل في زكاة الحرث والثمار وما يتعلق بها من الأحكام

فَصْلٌ في زكاة الحرث والثمار وما يتعلق بها من الأحكام أي في بيان زكاة الحرث والثمار، وبيان النصاب والأنواع التي تجب فيها الزكاة وما لا تجب وغير ذلك مما يتعلق بأحكام الزكاة. قال رحمه الله تعالى: " نصاب الحبوب والثمار خمسة أوسق " ابتدأ بما في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس في حب ولا تمر صدقة حتى تبلغ خمسة أوسق " وفي رواية للبخاري كما في الموطأ " ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة " وفي الرسالة: ولا زكاة من الحب والتمر في أقل من خمسة أوسق. وذلك ستة أقفزه وربع قفيز. والوسق ستون صاعا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أربعة أمداد بمده عليه الصلاة والسلام. وقال النفراوي: والمد حفنة وهي ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، ووزنه رطل وثلث بالبغدادي، فيكون الصاع خمسة أرطال وثلثا بالبغدادي، وحينئذ فالخمسة أوسق بالأرطال الشرعية ألف وستمائة رطل، كل رطل مائة وثمانية وعشرون درهما بالوزن المكي والرطل اثنتا عشرة أوقية، والأوقية أحد عشر درهما، ووزن الدرهم خمسون حبة وخمسا حبة وخمسآ حبة من متوسط الشعير , وأما بالأرطال المصرية فالخمسة أوسق - كما قال الأجهورى - ألف رطل وأربعمائة رطل وخمسة وثمانون رطلا. فعلم أن الخمسة أوسق بالصيعان ثلاثمائة صاع , وبالأمداد ألف مد ومائتا مد. وبما ذكرنا علم قدر النصاب بالكيل الشرعي والمصري، وبالوزن الشرعي والمصري اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وهي ثلاثمائة صاع بالمدني " يعني فالخمسة الأوسق تعتبر بالصاع المدني وهو الذي تقدم وصفه. قال العلامة الدردير: كل صاع أربعة أمداد، كل مد رطل وثلث , وكل رطل مائة وثمانية وعشرون درهما مكيا، لأنه ورد " الوزن وزن مكة والكيل كيل المدينة " لأن مكة محل التجارة الموزونة، والمدينة محل الزروع والبساتين

فيعتنون بالكيل. وكل درهم خمسون حبة وخمسا حبة من وسط الشعير. قال في المجموع: فيوزن القدر المعلوم من الشعير ويكال. ثم الضابط مقدار الكيل، فلا يقال الوزن يختلف باختلاف الحبوب. وتقريب النصاب بكيل مصر أربعة أرداب وويبة - كيلتين بالكيل المصري - وذلك لأن كل ربع مصري ثلاثة آصع، فالأربعة أرداب وويبة ثلاثمائة صاع، وذلك قدر الخمسة الأوسق لأن الجملة ألف مد ومائتان. وهذا كيلها. ووزنها ألف وستمائة رطل اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فيجب العشر فيما سقي سيحا أو بعلا، ونصفه فيما سقي نضجا " يعني أن المأخوذ من النصاب باختلاف السقي. قال النفراوي على الرسالة: لم يبين المصنف القدر المأخوذ من النصاب، وهو العشر فيما سقي بغير مشقة، فيدخل أرض السيح أي الماء الجاري، وما سقي من السماء، وما سقي بقليل ماء كالذرة الصيفي بأرض مصر فإنه يصب عليه قليل ماء عند وضع حبه في الأرض ثم لا يسقى بعد ذلك. ونصف العشر فيما سقي بمشقة كالدواليب، والدلاء، والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم. فيما سقت السماء والعيون العشر، وما سقي بالنضج نصف العشر وإن سقي بهما فعلى حكميهما. حيث تساويا أو تقاربا، فيؤخذ العشر من ذي السيح، ونصفه من ذي الآلة، وإن سقي بأحدهما أكثر فقيل الحكم للأكثر ويلغى الأقل، قيل لا تبعية وتعتبر القسمة. قال خليل: وإن سقي بهما فعلى حكميهما، وهل يغلب الأكثر؟ خلاف اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فإن اجتمعا وتساويا فثلاثة أرباعه " يعني كما في الفقه على قول المالكية إن سقى بالآلة وبغيرها نظر للزمن، فإن تساوت مدة السقيين أو تقاربت أخرج عن النصف العشر وعن النصف الآخر نصف العشر فيخرج عن الجميع ثلاثة أرباع العشر. قال الدردير: وإن سقي بهما فعلى حكمهما، أي فالزكاة في ذلك الزرع تجري على حكم السقي بالآلة والسقي بغيرها بأن يقسم الخارج نصفين فيه العشر والآخر

فيه نصف العشر. وظاهره سواء استوى السقي بكل منهما في الزمن أو في عدد السقيات أم لا، وهو أحد المشهورين، والثاني يعتبر الأغلب لأن الحكم للغالب اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فإن تفاوت فالمشهور اعتبار المأخوذ بهما. وقيل الأقل تابع " يعني تفاوت إحدى السقيات ينظر لكل، وأخذ بهما، فإذا كان السقي في ثلثي المدة بدون الآلة وفي ثلثها بالآلة أخرج عن ثلثي الخارج العشر، وعن ثلثه نصف العشر. وقيل العبرة للأكثر والأقل تابع له، لأن الحكم للغالب، وعلى هذا فيخرج عن الكل العشر. والحاصل أنهما قولان مشهوران. ثم قال رحمه الله تعالى: " ويضم إلى البر الشعير والسلت والعلس " قال أبو محمد في الرسالة: ويجمع القمح والشعير والسلت في الزكاة. قوله في الزكاة لأنها جنس واحد، لا في البيوع، فأجناس. وما ذكره المصنف هنا من ضم العلس مع البر قيل بع، لكن المشهور في المذهب أن العلس يضم مع شيء، كالأرز والدخن والذرة لا يضم واحدة منها مع الأخرى. والعلس نوع من القمح إلا أنه لا يضم معها، وتكون الحبتان منه في قشرة واحدة، وهو طعام أهل اليمن. قال الدردير في أقرب المسالك: تضم القطاني لبعضها كقمح وسلت وشعير، لا علس وذرة ودخن وأرز وهي أجناس لا تضم. والزيتون والسمسم وبذر الفجل. والقرطم أجناس. والزبيب جنس والتمر جنس اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويخرج من كل بحسابه " يعني يخرج من البر والشعير والسلت بقدر كل منها إذا حصل من اثنين أو مجموعها خمسة أوسق بحسبما تقدم في السقي من العشر أو نصفه. قال النفراوي: وتقدم أنه عند الضم يخرج من كل نوع بحسابه، وإن أخرجت من بعض الأنواع فقط أجزأ إن كان المخرج منه أعلى من المخرج عنه اهـ. والمتبادر أن الإخراج من الأعلى أفضل من المتوسط. قال في الفقه: فإن اجتمع النصاب من جيد ومتوسط ورديء أخرج زكاة الجميع من المتوسط، فإن أخرجها من

الجيد كان أفضل، ولا يجزئ الإخراج من الرديء لا عنه ولا عن غيره اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " كالقطاني " جمع القطنية كل ما له غلاف. وهي سبعة " الحمص، والعدس، واللوبيا، والترمس، والفول، والجلبان، والبسلة. قالا في الفقه: القطاني السبعة جنس واحد في الزكاة، تضم أنواعه بعضها إلى بعض، فإذا حصل من مجموعها نصاب فأكثر وجبت زكاة الجميع، ويخرج من كل نوع القدر الذي يخصه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " بخلاف الذرة والأرز والدخن " وينبغي أن يكون العلس مع هذه الجملة كما تقدم. وفي الفقه أيضا. وأما الذي لا يضم بعضه إلى بعض: الأرز، والذرة، والعلس، والتمر، والزبيب، والدخن، فكل واحد منها ينظر إليه وحده، فإن حصل منه نصاب وجبت زكاته وإلا فلا، فلا يضم أرز لذرة، ولا تمر لزبيب، كما لا يضم فول إلى قمح، ولا عدس إلى شعير، مثلا اهـ. قال مالك في المدونة: القمح والشعير والسلت هذه الثلاثة الأشياء يضم بعضها إلى بعض في الزكاة. والأرز والذرة والدخن لا يضم إلى الحنطة ولا إلى الشعير ولا إلى السلت، ولا يضم بعضها إلى بعض، ولا يضم الأرز إلى الذرة، ولا إلى الدخن، ولا تضم الذرة أيضا إلى الأرز ولا إلى الدخن، ولا يضم الدخن إلى الذرة، ولا إلى الأرز، ولا يؤخذ من الأرز ولا من الذرة، ولا من الذخن زكاة، حتى يكون في كل واحد منها خمسة أوسق. والقمح والسلت والشعير يؤخذ من جميعها إذا بلغ ما فيها خمسة أوسق، يؤخذ من كل واحد منها بحساب ما فيه. والقطاني كلها الفول والعدس والحمص والجلبان واللوبيا وما ثبتت معرفته عند الناس أنه من القطاني فإنه يضم بعضه إلى بعض، فإذا بلغ جميعه خمسة أوسق أخذ من كل واحد منها بحصته من الزكاة اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " فيجب في الحب بيبسه وفي الثمر بزهوه " وما ذكره

من وجوب زكاة الحب بيبسه أحد الأقوال الثلاثة: قيل تجب بالحصاد لقوله تعالى: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] قال مالك في الموطأ: إن ذلك الزكاة، وقد سمعت من يقول بذلك. وقيل إن وجوبها بالإفراك، هذا هو المشهور. وقد ذكر ابن جزي وقت الوجوب في الثمار، قال الطيب. وقيل الخرص. وقيل الجذاذ. وفي الزرع اليبس في المشهور. وثمرة الخلاف إذا مات المالك أو باع أو أخرج الزكاة بعد أحد الأوجه الثلاثة أو قبله اهـ بتوضيح. قال النفراوي: وقولنا وقت وجوب إخراج الزكاة لأن وقت الوجوب يدخل بمجرد الإفراك. قال خليل: والوجوب بإفراك الحب وطيب الثمر، فما أكل بعد الإفراك زمن المسبغة من القمح والشعير والفول يجب عليه أن يتحراه، ويؤدي زكاته من جنسه حبا ناشفا أو من ثمنه إن باعه، كما يجب عليه أن يتحرى ما تصدق به أو ما استأجر به. وأما الثمار فوقت الوجوب فيها يوم الطيب. قال مالك: إذا زهت النخل، وطاب الكرم، واسود الزيتون أو قارب، وأفرك الزرع، واستغنى عن الماء وجب فيه الزكاة اهـ. واعلم أنه قد بين العلامة الخرشي وجه الجمع بين الإفراك واليبس بقوله: والمراد بالإفراك أن يبلغ حدا يستغنى معه عن السقي وذهاب الرطوبة وعدم النقص وذلك إنما يكون بيبسه. والمراد بطيب الثمر بلوغه الحد الذي يحل بيعه فيه إلخ. قد ظهر أن الإفراك هو يبس الحب عن الرطوبة خلاف ما نقله الصاوي عن التتائي. قال في حاشيته على الدردير: والحق أن اليبس غير الإفراك كما هو معلوم بالمشاهدة اهـ. فتحصل في تعين وقت وجوب زكاة الحب ثلاثة أقوال، وشهر ابن جزي اليبس. وقيل الحصاد كما في الآية الكريمة. وشهر الجمهور الإفراك كما لخليل في المختصر وابن الحاجب وابن شاس كما هو نص المدونة، وضعفوا ما لابن عرفة من الوجوب باليبس اهـ. ذكره الصاوي في الحاشية، انظر الحطاب. قال رحمه الله تعالى: " وتؤخذ بعد التصفية والجذاذ من عينه لا تجزئ قيمته

كان جيدا أو رديئا " المعنى: تؤخذ زكاة الحب بعد الوجوب والتصفية عن التبن والقشر الذي لا يخزن به عادة. وفي المواق قال ابن رشد تجب زكاة الزرع حبا مصفى. وقال القرافي العلس يخزن في قشرة كالأرز فلا يزاد في النصاب لأجل قشره. وكذلك الأرز قياسا على نوى التمر وقشر الفول الأسفل خلافا للشافعية اهـ. وقوله من عينه، أي يخرج زكاة شيء من نفسه لا من غيره كما لا تؤخذ القيمة. وتقدم لنا قول صاحب الرسالة أنه قال: ولا يؤخذ في ذلك عرض ولا ثمن، فإن أجبره المصدق على أخذ الثمن في الأنعام وغيرها أجزأه إن شاء الله. وقال الشارح: وحاصل ما يتعلق بهذه المسألة أن إخراج العين عن الحرث والماشية يجزئ مع الكراهة على المشهور. وإخراج العرض عنهما أو عن العين لا يجزئ من غير نزاع. وكذا إخراج الحرث والماشية عن العين. وكذا إخراج الحرث عن الماشية أو عكسه اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " فإن اجتمعا وتساويا ففي كل بحسابه " يعني فإن اجتمع الجيد والرديء وتساويا فإنه يخرج الزكاة في كل بقدر حساب كل منهما. قال خليل: وأخذ من الحب كيف كان، كالتمر نوعا أو نوعين، وإلا فمن أوسطها. وفي أقرب المسالك: وأخذ عن أصنافهما من الوسط بخلاف غيرهما فمن كل بحسبه اهـ. وفي الحطاب: يعني أن الزكاة تؤخذ من الحب كيف كان، فإن كان جيدا أخذت منه، وكذا إن كان رديئا أو وسطا، فإن كان نوعين أو أنواعا فإنه يؤخذ من كل نوع عشرة أو نصف عشرة. قال اللخمي: إذا كان القمح مختلفا جيدا ورديئا أخذ من كل شيء بقدره، ولم يؤخذ الوسط، وكذلك إذا اجتمع القمح والشعير والسلت، أو اجتمع أصناف القطاني أخذ كل شيء بقدره. ولم يؤخذ من الوسط، وكذلك أصناف الزبيب. واختلف في التمر، فقال مالك إن كان جنسا واحدا أخذ منه ولم يكن عليه أن يأتي بأفضل منه، وإن كان أجناسا أخذ من الوسط. وقال في كتاب محمد: يؤخذ من كل صنف بقدره اهـ.

ثم قال رحمه الله تعالى: " وإن تفاوتا فالظاهر أنه كذلك. وقيل الأقل تابع، ومن المتنوع الوسط " يعني وإن تفاوتت الأصناف فالظاهر يخرج من كل صنف بقدره كما تقدم. وقيل يعتبر الأكثر فيخرج الجميع منها إلا إذا كثر الأصناف جدا ففي المتوسط. قال العدوي: فإذا كانت أربعة أعلى ودون ودون ودون كان الوسط صنفين، إذ الطرفان أعلاها وأدناها، ويبقى النظر إذا كانت خمسة متفاوتة فهل الوسط الثالث وهو الظاهر، أو ما بين الطرفين. وإنما خالف التمر غيره لأنه لو أخذ من كل نوع من التمر ما ينويه لشق ذلك لاختلاف ما في الحائط اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " ويخرص النخل والكرم إذا أزهيا بالحاصل جافا، فإن أكلوا أو باعوا ضمنوا " هذا شروع في بيان خرص النخل والعنب. ويخرص ما على النخل من الرطب تمرا، ومن الكرم زبيبا. قال رحمه الله تعالى: " وإن تركوا وتبين خطؤه وهو عارف فالظاهر الأخذ بما خرص " يعني أن الخارص إذا خرص النخل ثم ظهر خلاف ما خرص فإنه يؤخذ بهما خرص إذا كان عادلا عالما بذلك. قال الدردير: وكفى مخرص واحد إن كان عدلا عارفا، قال الصاوي: أي لأنه حاكم فيجوز أن يكون واحدا. وكان عليه الصلاة والسلام يبعث عبد الله بن رواحة وحده خارصا إلى خيبر اهـ قال مالك في الموطأ: الأمر المجتمع عليه عندنا أنه لا يخرص من الثمار إلا النخل والأعناب فإن ذلك يخرص حين يبدو صلاحه ويحل بيعه، وذلك أن ثمر النخل والأعناب يؤكل رطبا وعنبا فيخرص على أهله للتوسعة على الناس، ولئلا يكون على أحد في ذلك ضيق فيخرص ذلك عليهم ثم يخلى بينهم وبينه يأكلونه كيف شاؤوا ثم يؤدون منه الزكاة على ما خرص عليهم عليهم اهـ. وفي المدونة: فإن خرص الخارص أربعة أوسق فجد فيه صاحب النخل خمسة أوسق قال مالك أحب إلى أن يؤدي زكاته. لأن الخراص اليوم لا يصيبون، فأحب إلي أن يؤدي زكاته قبل أن يؤكل أول شيء منها. قال

وكذلك في العنب اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وإن خرص جماعة واختلفوا أخذ بقول أعرفهم " قال الصاوي: سواء كان رأي الأقل أو الأكثر. والموضوع أنه وقع التخريص منهم في زمن واحد، وأما إذا وقع التخريص في أزمان فيؤخذ بقول الأول وأما استواؤهم في المعرفة فيؤخذ من كل واحد جزء على حسب عددهم، فإن كانوا ثلاثة أخذ من قول كل الثلث، وأربعة الربع، وهكذا. وإليه أشار رحمه الله بقوله: " وإن استووا وزع الواجب بحسب اختلافهم " قال الخرشي: فلو رأى أحدهم مائة وآخر تسعين، وآخر ثمانين يزكى عن تسعين، وليس ذلك أخذا بقول من رأى تسعين، إنما هو لموافقة ثلث مجموع ما قالوه اهـ. ثم ذكر الجائحة فقال رحمه الله تعالى: " فإن أجيحت بعده فلا ضمان، فإن بقي نصاب لزم منه " يعني إن نزلت بها جائحة بعد التخريص بنحو أكل طير أو جراد أو دود أو جيش أو برد أو غير ذلك فإن بقي ما يوجب فيه الزكاة زكاه وإلا فلا. قال مالك في الموطأ: الأمر المجتمع عليه عندنا أن النخل يخرص على أهلها وثمرها في رؤوسها إذا طاب وحل بيعه، ويؤخذ منه صدقته تمرا عند الجذاذ، فإن أصابت الثمرة جائحة بعد أن تخرص على أهلها وقبل أن تجذ فأحاطت الجائحة بالثمر كله فليس عليهم صدقة، فإن بقي من الثمر شيء يبلغ خمسة أوسق فصاعدا بصاع النبى صلى الله عليه وسلم أخذ منهم زكاتة , وليس عليهم فيما أصابت الجائحة زكاة. وكذلك العمل فى الكرم اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ومن باع بعد الزهو ضمن , فإن أفلس فهل يتبع أو يؤخذ من يد المشترى؟ " يعنى كما قال مالك في الموطأ: ومن باع زرعه وقد صلح ويبس في أكمامه فعليه زكاته، وليس على الذي اشتراه زكاة. وقال الزرقاني: لأن وجوبها بطيب الثمر فإذا باعها وقد وجبت زكاتها فقد باع حصته وحصة المساكين.

فيحمل على أنه ضمن ذلك لهم اهـ. وقوله فإن أفلس إلخ قال الخليل: والزكاة على البائع بعدهما إلا أن يعدم فعلى المشتري , يعني إذا افتكر البائع وجب على المشتري أن يدفع الزكاة نيابة عن البائع إن بقي المبيع بيد المشتري أو فوته هو ثم يرجع على البائع بحصة ما أخرجه زكاة من الثمن وهو العشر أو نصفه , فإن فات المبيع بسماوي أو أتلفه أجنبي فلا يزكيه المشتري , بل وجب أن يزكيه البائع إن أيسر اهـ. قاله فى الإكليل. ومثله في الخرشي. وقال الدسوقي: هذا التفصيل الذي ذكره الشارح مثله في أبي الحسن , إذ قال: إذا عدم البائع أخذت الزكاة من المشتري إن كان قائما بعينه أو أتلفه بأكل ونحوه. وإن تلف بسماوي أو أتلفه أجنبي فلا تؤخذ من المشتري وهو موافق لقول ابن القاسم في الرجوع على المشتري. ففي الأمهات: قال ابن القاسم: فإن لم يكن عند البائع شيء يأخذ منه المصدق ووجد المصدق الطعام بعينه عند المشتري أخذ المصدق منه الصدقة ورجع المشتري على البائع بقدر ذلك من الثمن. وقال سحنون: وقد قال بعض أصحاب مالك: ليس على المشتري شيء مطلقا كان المبيع قائما أو تلف بسماوي أو أتلفه هو أو أجنبي , لأن البيع كان جائزا ويتبع بها البائع إذا أيسر اهـ فتبين أن الزكاة تؤخذ من البائع أصالة , وتارة من المشتري نيابة , ثم يرجع بها على البائع ولا يتبع المشتري في حال عدمه , ويتبع البائع وإن فى عدمه , فتأمل. ثم قال رحمه الله تعالى: " وهل يرجع بقدر الثمن أو يكلف شراء الجنس؟ قولان كالذي لا يتناهى " يعني لما تقرر رجوع المشتري على البائع فدفع ما وجب عليه من الزكاة نيابة عنه عند عدمه فهل يرجع بقدر الثمن أو يكلف على البائع بشراء جنس الطعام الذي دفعه المشتري للمصدق قولان. قال الدسوقي: والصواب أنه يرجع على البائع بما ينويه ما أداه زكاة من الثمن كما هو الواقع في عبارة ابن راشد اهـ. ومثله في الخرشي. ونص المدونة صريح فى رجوع المشتري على البائع بقدر ذلك من الثمن وهو قول ابن القاسم.

وقوله كالذي لا يتناهى أي كما يلزم عليه شراء شيء لا ينقطع وجوده كالموز فى بعض الأقطار , هذا لمجرد التشبية بما يسهل وجوده في كل وقت لاأن الزكاة تتعلق بالمشبه لأنه من الفواكه التي لا زكاة فيها فتنبه. ثم قال رحمه الله تعالى " وما يعتصر يوسق حبا ويؤخذ من دهنه " المعنى أن الذي يعتصر منه زيت إذا بلغ حبه النصاب تؤخذ زكاته من زيته. قال في الرسالة: ويزكى الزيتون إذا بلغ حبه خمسة أوسق أخرج من زيته , فإن باع ذلك أجزأه أن يخرج من ثمنه إن شاء الله اهـ. قال النفراوي: والحاصل أن الزيتوت إذا كان له زيت يتعين الإخراج من زيته , ولا يجزئ الإخراج من حبه ولا ثمنه إذا باعه , وإن كان فى بلد لا زيت له فيها كزيتون مصر فيخرج من ثمنه من غير خلاف , ومثله ما لا يجف من رطب مصر وعنبها وحمصها وفولها وفريكها إذا بيعت قبل جفافها , إلا أن هذه يجوز إخراج زكاتها حبا يابسا كما تقدم في نحو الجلجلان اهـ. وفي الدردير: وزيت ما له زيت , وجاز من حب غير الزيتون , وثمن ما لا زيت له، وما لا يجف من عنب ورطب ولا يجزئ من حبه , وكفول أخضر , وجاز من حبه اهـ. فتحصل أن ذوات الزيوت الأربع وهي الزيتون والسمسم والقرطم وحب الفجل الأحمر كلها يجوز الإخراج من حبها وثمنها إذا باع , إلا الزيتون فقط فإنه لا يجزئ الإخراج من حبه ولا من ثمنه إذا باع , بل يتعين الإخراج من زيته على المعتمد , كما صدر به صاحب الرسالة بقوله: ويزكى الزيتون إلى قوله من زيته. ثم قال رحمه الله تعالى " ولا زكاة في شيء من النبات غير ما ذكرنا " يعني أي لا تجب الزكاة في شيء من النبات إلا ما تقدم ذكرنا إياه؛ لأن الأصناف التي تجب فيها الزكاة تنحصر في عشرين صنفا كما تقدم , لا في تين ورمان وتفاح , ولا في بزر كتان ولا في سجلهم وهو اللفت , ولا جوز ولوز , ولا في حب الفجل الأبيض والعصفر , ولا في

فصل فى زكاة الفطر ومن تلزمه

التوابل وهى الفلفل والكزبرة واليانسون والشمار والكمون والحبة السوداء وغير ذلك من مصلحات الطعام وإن كانت ربوية , وكذلك لا تجب في الفواكه والخضر كالدباء والباذنجان والبطيخ الأخضر والأصفر , وكذلك القثاء والخيار والمشمش , ولا في البقول كالبصل والجزر وما شابهها مما ينبت بنفسه في الجبال أو يستنبت مما لا يعد منها ولا يحصى , وكلها لا تتعلق بذاتها الزكاة. وقد قالت عائشة رضي الله عنها: " جرت السنة أن لا زكاة في الخضر على عهده عليه السلام وعهد الخلفاء من بعده " وقال الشيخ زروق في شرح الرسالة: وعليه عامة الفقهاء , إلا أبا حنيفة فإنة أثبتها في جميع النبات حتى ما نبت على الجبال إلا الحشيش والحطب والقصب اهـ والله أعلم. ولما أنهى الكلام على زكاة الحرث والثمار انتقل ليتكلم على صدقة الفطر فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ فى زكاة الفطر ومن تلزمه أي في بيان صدقة الفطر , أي من آخر رمضان. قال بعض المشايخ كما هو وارد. وإنما وجبت تطهيرا للصائم ورفقا بالفقير وإغناء له يوم العيد وليلته؛ لأنه وقت سرور شامل فلا يختص به الغنى دون الفقير. وقال بعضهم: ويقال لها زكاة الفطر. فرضت في السنة الثانية من الهجرة , فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صح فى الحديث. قال العدوي فى حاشية الخرشي: من أنكر مشروعيتها يكفر , ومن أنكر وجوبها لا يكفر وروى أبو داود عن ابن عباس قال: " فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث , طعمة للمساكين , فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة , ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات " اهـ صححه الحاكم. قال رحمه الله تعالى: " صدقة الفطر تلزم من فضل عن قوتة ودينه ومؤنة

عياله , عنه وعمن تلزمه نفقته من المسلمين " وما ذكره من قوله ودينه فيه خلاف: قال النفراوى: تنبيه: وقع الخلاف في إسقاط الدين لصدقة الفطر , وظاهر المذهب عدم إسقاطها بالدين لوجوب تسلف الصاع عنه في الحال للقادر على وفائه في المستقبل. واقتصر على هذا القول خليل اهـ. قال أبو الحسن في كفاية الطالب: وكذلك لا يسقط الدين زكاة الفطر عند أشهب , ويسقطها عند عبد الوهاب , ورجح العدوي في حاشيته القول الأول. قال في الرسالة: وزكاة الفطر سنة واجبة فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل كبير أو صغير , ذكر أو أنثى , حر أو عبد من المسلمين صاعا عن كل نفس بصاع النبي صلى الله عليه وسلم وتؤدى من جل عيش أهل ذلك البلد من بر أو شعير أو سلت أو تمر أو أقط أو زبيب أو دخن أو ذرة أو أرز. وقيل إن كان العلس (¬1) قوت قوم أخرجت منه , وهو حب صغير يقرب من خلقة البر , ويخرج عن العبد سيده والصغير لا مال له يخرج عنه والده. ويخرج الرجل زكاة الفطر عن كل مسلم تلزمه نفقته مكاتبه وإن كان لا ينفق عليه لأنه عبد له بعد اهـ. وقال الدردير: زكاة الفطر واجبة بغروب آخر رمضان , أو بفجر شوال على الحر المسلم القادر , وإن بتسلف لراجي القضاء , عن نفسه وعن كل مسلم يمونه بقرابة أو زوجية أو رق أو مكاتبا , والمشترك بقدر الملك كالمبعض , ولا شيء على العبد وهي صاع فضل عن قوته وقوت عياله يومه , من أغلب قوت المحل , من قمح أو شعير أو سلت أو ذرة أو دخن أو أرز أو تمر أو زبيب أو أقط فقط , إلا أن يقتات غيرها فمنه اهـ. ثم بين قدرها كما تقدم بقوله رحمه الله تعالى: " قدوها وهو صاع وزنه خمسة أرطال وثلث بالبغدادي حبا "وقد تقدم بيان مقدار الصاع عند الكلام في نصاب الحبوب والثمار ولا حاجة بإعادته هنا فراجعه إن شئت. ¬

(¬1) كما ذهب إليه ابن حبيب.

قال رحمه الله تعالى: " والأفضل من غالب قوت بلده , وتجزئ من البر والشعير والسلت والتمر والزبيب والأقط " وتقدم البيان أيضا عن هذا كله. والأقط على وزن كتف هو اللبن اليابس الذي أخرج زبده. قال رحمه الله تعالى: " وعن العبد المشترك عن كل بقدر ملكه , كمن بعضه حر " يعني تلزم زكاة الفطر عن العبد المشترك بين اثنين فأكثر بأن يخرج عنه كل واحد بقدر حظه منه كالنصف والثلث بحسب ذلك , وليس على المبعض شيء في مقابلة بعضه الثاني لما فيه من شائبة الرقية كما هو معلوم. ثم قال رحمه الله تعالى " والمشهور تعلق الواجب بطلوع الفجر يوم الفطر" يعنى أن المشهور من القولين يبتدئ وقت وجوب إخراج زكاة الفطر ودفعها لمستحقها من بعد طلوع الفجر الصادق يوم العيد وقبل صلاتها كما في الدردير. وقال في الرسالة: ويستحب إخراجها إذا طلع الفجر من يوم الفطر. هذا قول. وشهر بعضهم الرواية الثانية من أن وجوبها بغروب آخر رمضان وهو المشهور الثاني. قال صاحب العزية: تجب بأول ليلة عيد الفطر على أحد القولين المشهورين , والآخر تجب بطلوع فجر يوم العيد , وفائدة الخلاف تظهر فيمن مات أو ولد أو أسلم ونحو ذلك اهـ. قال رحمه الله تعالى " ومصرفها الفقراء والمساكين بالاجتهاد , فيدفع صاع لجماعة واصع لواحد " يعني أن زكاة الفطر تصرف للفقراء والمساكين بالاجتهاد من الحاكم إن جمعت عنده , أو باجتهاد المزكي , فله دفع صاع لجماعة الفقراء والمساكين , وآصع لواحد بشرط الإسلام والحرية. قال خليل: وإنما تدفع لحر مسلم فقير. قال مالك في المدونة: لا يعطى أهل الذمة ولا العبيد من صدقة الفطر شيئا اهـ. ويجوز دفعها للقريب الذي لا تلزمه نفقته. وللزوجة دفعها لزوجها الفقير , لا عكسه ولو فقيرة لوجوب نفقتها عليه: ولم يجر الخلاف في دفع الزوجة. لزوجها، وإنما الخلاف في زكاة المال. وجاز

فصل فيمن تصرف له الزكاة

إخراجها قبل يوم العيد باليومين والثلاثة، ويستحب لمن زال فقره أو رقه يوم العيد أن يخرجها، كما يندب للمزكي إخراجها من قوته الأحسن. ولا تسقط بمضي زمنها، فإن لم يقدر إلا على بعضها أخرجه، وأثم إن أخر للغروب لتفويته وقت الأداء وهو اليوم كله. ولما أنهى الكلام على زكاة الفطر انتقل يتكلم على بيان من تصرف له الزكاة فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ فيمن تصرف له الزكاة أي في بيان من يستحق الزكاة. وتدفع لأحد الأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله: " مصارف الزكاة الأصناف الثمانية التي ذكرها الله تعالى " وهي إنما الصدقات الآية , في سورة التوبة. قال رحمه الله تعالى: " وقد سقط نصيب المؤلفة قلوبهم والعاملين " يعني أن هذين الصنفين سقط نصيبهما من الزكاة , لكن في ذلك خلاف في المذهب. قال في المدونة: سئل ابن شهاب عن قول الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ} الآية , قال: لا نعلمه نسخ من ذلك شيئا , إنما الصدقات بين من سمى الله فأسعدهم بها أكثرهم عددا أو أشدهم حاجة اهـ. قال خليل: ومؤلف كافر ليسلم أي يعطى منها ليسلم , وحكمه باق , قال العلامة الشيخ صالح عبد السميع: قوله ليسلم. وقيل مسلم قريب عهد بالإسلام , فيعطى منها ليتمكن إسلامه. قوله وحكمه باق أي لم ينسخ، هذا قول لبعض أهل المذهب والمشهور انقطاع سهم هذا النصف بعزة الإسلام والأول. مبني على أن المقصود من دفعها له ترغيبه في الإسلام لإنقاذ مهجته من الخلود في النار , والثاني مبني على أن المقصود من دفعها له ترغيبه في الإسلام لإعانته لنا على الكفار.

وهذا الخلاف جار على أنه كافر يعطى ليسلم , وأما على أنه مسلم يعطى للتمكن فحكمه باق باتفاق. اهـ قال ابن جزي في القوانين: وأما المؤلفة قلوبهم فالكفار يعطون ترغيبا في الإسلام , وقيل هم مسلمون ويعطون ليتمكن إيمانهم. واختلف هل بقي حكمهم أو سقط للاستغناء عنهم اهـ. قلت ولعل المصنف اعتمد في إسقاط مؤلفة القلوب بما روى ابن مهدي عن إسرائيل بن يونس عن جابر عن الشعبي قال لم يبق من المؤلفة أحد , إنما كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما استخلف أبو بكر انقطع الرشا " اهـ ذكره في آخر قسم الزكاة من المدونة. وقد جمع ابن عاشر الأصناف الثمانية مع أوصافهم في بيتين بقوله: مصرفها الفقير والمسكين ... غاز وعتق عامل مدين مؤلف القلب ومحتاج غريب ... أحرار إسلام ولم يقبل مريب وأما قوله رحمه الله تعالى: والعاملين , هذا ما رأيت من تكلم في إسقاط العامل على الزكاة , بل النصوص تشير إلى الابتداء به. قال خليل: وبدئ به , قال الخرشي: أي بالعامل قبل الأصناف لأنه المحصل , حتى لو حصلت له مشقة وجاء بيسير لا يساوى مقدار أجرته أخذ جميعه. قلت: والعامل يعطى الزكاة ولو كان غنيا , بل له أن يأخذ بوصفيه إن كان فقيرا. قال خليل: وأخذ الفقير بوصفيه اهـ. وباقي الأصناف لا خلاف في دفع الزكاة لهم , والخلاف في المؤلفة القلوب فقط كما تقدم. ثم قال رحمه الله تعالى: " ويجوز صرفها إلى صنف , إلى واحد منه بقدر كفايته وإن زاد على النصاب " يعني يجوز دفع الزكاة لصنف واحد من الأصناف الثمانية , ولا يجب تعميمهم , بل متى دفعها لأي شخص موصوف بكونه منهم كفى لكن يندب إيثار المحتاج منهم بأن يخص بالإعطاء أو يزاد له أكثر مما أعطى غيره ولو كان مجموع ذلك يزيد على النصاب , إذ المقصود إعطاؤه كفايته وسد خلته. قال مالك في المدونة: ومن لم يجد إلا صنفا مما ذكر الله تعالى في كتابه أجزأه أن يجعل زكاته فيهم ,

وإن وجد الأصناف كلها آثر أهل الحاجة منهم , وليس في ذلك قسم مسمى اهـ. قال رحمه الله تعالى " ولا يشترط عدم قدرته على الكسب , ولا تعففه عن المسألة " يعني أن المزكي يجوز دفع زكاته للفقير القادر على الكسب والسائل. قال الدردير: وجاز دفعها لقادر على الكسب , أي إذا كان فقيرا ولو ترك التكسب اختيارا اهـ. وكذلك لا يشترط للفقير التعفف عن المسألة , لأن السائل تدفع له الزكاة بل هو أولى بها , وسؤاله دليل على احتياجه. قال تعالى في مدح المزكين: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24، 25] قال المفسرون: المراد بالسائل الذي يسأل الناس ويتكفف عليهم. وبالمحروم أي الممنوع الذي يمنع عنه الزكاة لتعففه عن المسألة فيحسب غنيا , على حد: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: 273] اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويصدق أنه مستحق إلا أنه يظهر خلافه " يعنى كما في الصاوي نقلا عن حاشية العدوي: وإذا ادعى شخص الفقر أو المسكنة ليأخذ من الزكاة فإنه يصدق بلا يمين إلا لريبة بأن يكون ظاهره يخالف ما يدعيه فإنه لا يصدق إلا ببينة , وهل يكفي الشاهد واليمين , أو لا بد من شاهدين؟ كما ذكروه في دعوى المدين المعدم , ودعوى الولد العدم لأجل نفقة والديه , وعلى أنه لا بد من شاهدين فهل يحلف معهما كما في المسألتين المذكورتين , أو لا يحلف كما في مسألة دعوى الوالد العدم لأجل أن ينفق عليه ولده في ذلك خلاف اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " ولا تنقل عن بلدها مع وجود المستحق فمن فعل كره وأجزأه , والأجرة عليه " هذه العبارة ضعفها الخرشي , والمعتمد عبارة خليل وهي: ووجب نيتها وتفرقتها بموضع الوجوب أو قربه إلا لأعدم فأكثرها له بأجر من الفيء إلخ قال العدوي في حاشية الخرشي: عبارة الإرشاد ولا تنقل عن بلدها مع وجود المستحق فإن فعل كره وأجزأت , والأجرة عليه , أي لأن عبارته عامة. والحاصل أن المصنف

ـ يعنى الشيخ خليلا ـ فصل بين موضع الوجوب وقربه والبعيد , وأن موضع الوجوب وقربه حكمهما واحد دون البعيد. وكلام الإرشاد جعل حكم الكل واحدا اهـ. وقال المواق من المدونة: قال مالك: العمل في الصدقة أن لا تخرج عن موضع جبيت منه , كانت من عين أو حرث أو ماشية , إلا أن يفضل عنهم فضلة فتجعل في أقرب البلدان إليهم. وإن بلغه عن بعض البلدان أن سنة وحاجة نزلت بهم فينقل إليهم جل تلك الصدقة , رأيت ذلك صوابا لأن المسلمين أسوة فيما بينهم إذا نزلت الحاجة اهـ. وعقد صاحب العزية فصلا قال في أوله: وتجب نية الزكاة وتفرقتها بالموضع الذي وجبت فيه , ولا يجوز نقلها عنه إلا أن يكون موضع آخر به فقراء أشد إعداما فإنه يعطى منها في موضع الوجوب , وينقل أكثرها للأعدام اهـ. قال رحمه الله تعالى " ولا تصرف في شيء من وجوه البر غير مصارفها " يعني أن الزكاة لا تصرف لغير الأصناف الثمانية المذكورين في الآية الكريمة. قال ابن جزي في القوانين: لا تصرف الزكاة في بناء مسجد , ولا تكفين ميت. قال مالك في المدونة: لا تجزئه أن يعطي من زكاته في كفن ميت , لأن الصدقة إنما هي للفقراء والمساكين ومن سمى الله , فليست للأموات ولا لبنيان المساجد اهـ. قلت وما ذكره ابن جزي مثل نص المدونة , خلافا لما قرره الشعراني في الميزان في أول باب قسم الصدقات , فإنه قال: اتفق الأئمة الأربعة على أنه يجوز إخراج الزكاة لبناء مسجد أو تكفين ميت اهـ. والأول أصح وأشهر في الذهب انظره. ثم قال رحمه الله تعالى: " وتبين الخطأ يوجب الإعادة إلا أن يتولاها الإمام العادل " فتجزئ. قال الدردير , كما في خليل: أو دفعت لغير مستحق لها كعبد أو كافر أو هاشمي أو غني فلا تجزئ. فقال الصاوي: أي إلا الإمام يدفعها باجتهاد فتبين أن الآخذ غير مستحق فتجزئ حيث تعذر ردها , والوصي ومقدم القاضي كذلك , فتحصل أن ربها

إذا دفعها لغير مستحقها لا تجزئه مطلقا , والإمام ومقدم القاضي والوصي تجزئه إن تعذر ردها , هذا هو المعول عليه اهـ. ومثله في الإكليل. قال ابن جزي في القوانين: إذا كان الإمام عدلا وجب دفع الزكاة إليه , وإن كان غير عدل , فإن لم يتمكن صرفها عنه دفعت إليه وأجزأت , وإن تمكن صرفها عنه دفعت صاحبها لمستحقها , ويستحب أن لا يتولى دفعها بنفسه خوف الثناء اهـ. قال رحمه الله تعالى:" ولا يخص بها أقاربه , فإن كانوا في عياله لم يجزه والله أعلم " يعني كما في الدردير في سياق كلامه على عدم الإجزاء قال: أو دفعت لمن تلزمه نفقته , ومفهومه أن دفعها لمن لا تلزمه نفقته من الأقارب جائز , إلا إذا آثره بأن دفعها كلها له فيكره , كما كره للنائب إيثار أقاربه أو أقارب رب المال. قال الخرشي: وكذلك يكره لرب المال أن يخصص قريبه نفقته بالزكاة , فإن أعطاه مثل غيره فلا كراهة. ومفهوم قوله الذي لا تلزمه نفقته أنه لو كان ممن تلزمه نفقته فلا تجزئ كما مر والله أعلم اهـ بتوضيح. ولما أنهى الكلام على الزكاة وما يتعلق بها انتقل يتكلم على ركن من أركان الإسلام وهو الصوم فقال رحمه الله تعالى:

كتاب الصيام

كتاب الصيام أي في بيان فرائضه وسننه ومندوباته، وما يجوز فيه وما لا يجوز، وذكر مبطلاته ومكروهاته. الصوم لغة: الإمساك والكف عن الشيء، وشرعا: الإمساك عن شهوتي البطن والفرج، وما يقوم مقامهما مخالفة للهوى في طاعة المولى في جميع أجزاء النهار، بنية قبل الفجر أو معه إن أمكن فيما عدا زمن الحيض والنفاس وأيام الأعياد. اهـ الصاوي نقلا عن الخرشي. قال رحمه الله تعالى: " صيام رمضان فرض عين يلزمه برؤية ظاهرة، أو شهادة عدلين، فإن غم فبكمال عدة شعبان " يعني أن صيام رمضان فرض واجب عينا يلزم المكلف غير المعذور برؤية هلاله، أو بشهادة عدلين، فإن غم الهلال أي أخفاه الغيم أو الغبار فبكمال عدة شهر شعبان ثلاثين كما في الحديث. قال الله عز وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] الآية، أي فمن حضر وقته منكم فلينو صيامه. والضمير في فليصمه عائد إلى الشهر، فنية واحدة كافية في جميع الشهر عند المالكية، بناء على أن رمضان أي صيامه بمنزلة العبادة الواحدة، تجب في العام مرة كالزكاة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " وإنما لكل امرئ ما نوى " وهذا قد نوى جميع الشهر، لكن يندب التبييت كل ليلة مراعاة للخلاف لأن الشافعي يرى النية لكل يوم على انفراده كالصلاة. وفي الحديث عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: " لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له " وفي رواية: " إذا

رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا " وفي رواية لمسلم: " فاقدروا له ثلاثين " وفي أخرى للبخاري: " فأكملوا العدة ثلاثين " وله من حديث أبي هريرة: " فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " اهـ. قال بعض مشايخنا: وفي الحديث دليل على وجوب صوم رمضان لرؤية هلاله، وإفطار أول يوم من شوال لرؤيته، ولا يشترط رؤية جميع أهل البلد للهلال، فإذا رآه بعضهم وثبت فقد لزم جميعهم. فالمخاطب بذلك إنما هو مجموع الأمة لا كل فرد اهـ انظر " إسعاف أهل الإيمان " للعلامة الأستاذ حسن بن محمد المشاط، وفيه الغنية إن شاء الله. قال أبو البركات الدردير: يجب صوم رمضان على المكلف القادر الحاضر الخالي من حيض ونفاس، بكمال شعبان أو برؤية عدلين، فإن لم ير بعد ثلاثين صحوا كذبا، أو بجماعة مستفيضة، أو بعدل لمن لا اعتناء لهم به، ولا يحكم به، فإذا حكم به مخالف لزم على الأظهر، وعم إن نقل عن المستفيضة، أو العدلين بهما، أو بعدل على الأرجح، وعلى العدل. والمرجو الرفع للحاكم، فإن أفطرا فالقضاء والكفارة؛ لا بقول منجم اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " وتجب له النية وتجزئ من الليل لا بعد طلوع الفجر " يعني كما في الحطاب أن شرط صحة الصوم - أي فرضا كان أو نفلا، معينا أو غير معين - أن يكون بنية لقوله صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات " وقوله: " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " وفي رواية: " من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له " رواه أحمد وأصحاب السنن. وفي الدردير: وكفت نية لما يجب تتابعه كرمضان وكفارته وكفارة قتل أو ظهار، وكالنذر المتتابع، كمن نذر صوم شهر بعينه، أو عشرة أيام متتابعة وهذا إذا لم ينقطع بكسفر قصر أوحيض أو نفاس أو رفع نية التتابع وإلا وجب إعادتها فيما بقي اهـ بتوضيح. وفي الرسالة: ويبيت الصيام في أوله، وليس عليه البيات في بقيته، ويتم الصيام إلى الليل اهـ.

قال رحمه الله تعالى: " وتبيت لغيره كل ليلة " يعني يجب أن يبيت النية في كل صوم يجوز له تفريقه كقضاء رمضان وصيامه في السفر، وكفارة اليمين، وفدية الأذى، ونقص الحج فلا تكفي فيه النية الواحدة، بل لا بد من التبييت في كل ليلة قاله الصاوي اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويلزم المنفرد برؤيته، فإن أفطر فعليه القضاء والكفارة، إلا أن يعذر بجهل أو تأويل " يعني أن من رأى هلال رمضان وحده سواء كان عدلا أو مرجوا أو نحوهما فإنه يجب عليه الصوم، فإن أفطر متعمدا، أو منتهكا لحرمة الشهر فعليه القضاء والكفارة، وإن أفطر متأولا فظن أنه لا يلزمه الصوم برؤيته منفردا ففي وجوب الكفارة تأويلان، والقول بوجوب الكفارة هو المشهور اهـ الحطاب. وفي المواق: قال مالك في المدونة: من رأى هلال رمضان وحده فليعلم الإمام لعل غيره رآه معه فتجوز شهادتهما، وإن لم يره غيره رد الإمام شهادته ولزمه الصوم في نفسه، فإن أفطر لزمه القضاء والكفارة. وقال أشهب: إلا أن يكون متأولا اهـ. وما ذكره من التأويل مردود بناء على أنه تأويل بعيد. قال خليل: كراء ولم يقبل، كذا في الصاوي على الدردير. قال: وأما لو أفطر من لا اعتناء لهم بأمر الهلال مع ثبوت رؤية المنفرد له فعليهم الكفارة اتفاقا. ولو تأولوا لأن العدل في حقهم كالعدلين اهـ. انظر القوانين لابن جزي. قال رحمه الله تعالى: " والشاك يمسك حتى يتبين، ولا يجزئ صومه مترددا " يعني وجب الإمساك للشاك ولا يصوم مع تردد؛ لأن الجزم بالنية شرط في صحتها قال عبد الباري: والنية قبل ثبوت الشهر باطلة حتى لو نوى قبل الرؤية ثم أصبح لم يأكل ولم يشرب ثم تبين له أن ذلك اليوم من رمضان لم يجزه، ويمسك عن الأكل والشرب فيه لحرمة الشهر ويقضيه. ولا يصام يوم الشك ليحتاط به من رمضان

ويجوز صيامه للتطوع والنذر إذا صادف، وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله: " بخلافه تطوعا أو يصادف وردا أو نذرا أو قضاء " فيجوز ذلك إن لم يصادف رمضان الحاضر، وإلا لم يجزه. وقوله أو قضاء، قال الحطاب: كمن عليه صوم من رمضان فقضاه فيه أي في يوم الشك فإنه يجوز، ثم لم يثبت كونه من رمضان فقد أجزأه، وإن ثبت أنه من رمضان لم يجزه عن القضاء ولا عن رمضان الحاضر، وعليه قضاء يوم رمضان الحاضر وقضاء ما في ذمته اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ورؤيته نهارا للمستقبل ولو قبل الزوال " يعني أن الهلال إذا رآه الناس في النهار، فإنه يكون لليلة المقبلة لا لليلة الماضية، ولا فرق في رؤيته قبل الزوال أو بعده فيستمر على الفطر إن وقع ذلك في آخر شعبان، وعلى الصوم إن وقع في آخر رمضان. قاله الخرشي، ومثله في الحطاب. وقل المواق عن ابن يونس: إذا رأى الهلال آخر يوم من شعبان أو من رمضان فهو لغده رئي بعد الزوال أو قبله. قال ابن بشير: هذا هو المشهور كما هو نص المدونة عن مالك. قال رحمه الله تعالى: " وثبوته يوجب إمساك بقيته، وعيد يوجب الفطر " يعني أن ثبوت هلال رمضان يوجب الكف عن المفطرات في بقية اليوم، وأن ثبوت هلال شوال يوجب الفطر والعيد، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " الحديث. وفي القوانين: إذا ارتقب هلال رمضان فلم يظهر، ثم ثبت من الغد أنه قد رئي وجب إمساك ذلك اليوم وقضاؤه، وإذا ثبت هلال شوال نهارا وجب الفطر اهـ. قال خليل: وإن ثبت نهارا أمسك، وإلا كفر إن انتهك. قال الخرشي: يعني أن رمضان إذا ثبت في أثناء النهار بوجه من الوجوه السابقة أنه رئي في الليلة الماضية فإنه يجب الإمساك وهو المنع والكف عن الأكل في حق من أكل في ذلك اليوم، وفي من لم يأكل فيه، ثم يجب عليهم القضاء لعدم الجزم بالنية. فإن لم يمسك وأفطر متعمدا بأكل

فصل فيمن يلزمه القضاء دون الكفارة

أو جماع فإنه يكفر إن انتهك الحرمة بعلمه الحكم، وإن كان غير منتهك بأن تأول جواز الفطر لعدم صحة الصوم فلا كفارة اهـ. قال مالك في الموطأ: إذا صام الناس يوم الفطر وهم يظنون أنه من رمضان، فجاءهم ثبت أن هلال رمضان قد رئي قبل أن يصوموا بيوم، وأن يومهم ذلك أحد وثلاثون فإنهم يفطرون في ذلك اليوم أي ساعة جاءهم الخبر، غير أنهم لا يصلون صلاة العيد إن كان ذلك جاءهم بعد زوال الشمس اهـ. ولما أنهى الكلام على إثبات الهلال انتقل إلى بعض أحكام الفطر في شهر رمضان وغيره فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ فيمن يلزمه القضاء دون الكفارة أي في بيان حكم من فعل شيئا مما يأتي عن قريب من المفطرات. ثم اعلم أن الفطر في رمضان ممنوع، إلا أنه تارة يكون جائزا بل في بعض الأحوال يكون واجبا، وعلى كل حال فالقضاء واجب على من أفطر فيه إن كان قادرا عليه كما هو معلوم. قال رحمه الله تعالى: " يجب القضاء بالفطر ولو سهوا، أو جهلا، أو مكرها، أو لمرض، أو حيض، أو سفر، أو نوى رمضان تطوعا، أو نذرا، أو قضاء، أو ظن بقاء الليل أو دخوله فتبين خلافه، أو ابتلع ما يمكنه طرحه، أو رمى إلى حلقة بذوق، أو اكتحال أو وضوء، أو سعوط، أو تقطير في أذن " وقد ذكر رحمه الله تعالى جملة مما يوجب القضاء دون الكفارة: منها الفطر بالأكل أو الشراب أو الجماع سهوا أو جهلا بحرمة الشهر غير منتهك به، فمن ذلك فعليه القضاء فقط دون الكفارة. قال الدردير: فإن ظن الإباحة فأفطر فتأويل قريب ومنها الإكراه في ذلك، فمن أكره على فعل شيء من ذلك في نهار رمضان وجب عليه الإمساك والقضاء بعد زوال الإكراه دون

الكفارة. ومنها المرض فمن أفطر للمرض الذي لم يقدر معه على الصوم بأن خاف على نفسه هلاكا، أو شدة ضرر، أو زيادته، أو تأخر برء وجب عليه الفطر، ووجب عليه القضاء دون الكفارة. ومنها عذر مانع لصحة الصوم كحيض ونفاس وجنون، فطرو ذلك يمنع صحة الصوم ووجوبه، وعليها القضاء دون الكفارة. ومنها السفر الذي يباح فيه الفطر، فمن أفطر لسفره وجب عليه القضاء دون الكفارة. قال الله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ومما يوجب القضاء دون الكفارة أن ينوي بصوم رمضان تطوعا أو نذرا أو قضاء، فمن صامه كذلك وجب عليه القضاء دون الكفارة. ومن ظن بقاء الليل أو دخوله فتبين خلاف ذلك بعد فطره وجب عليه القضاء دون الكفارة. ومنها وصول المائع إلى الحلق بغير اختيار الصائم فإنه موجب للقضاء دون الكفارة. وفي حكم المائع البخور الذي تتكيف به النفس، أو كان بخار قدر لطعام، قال الدردير: فمتى وصل ذلك للحلق أفسد الصوم ووجب القضاء. ومن ذلك الدخان الذي يشرب أي يمص بنحو قصبة، بخلاف دخان الحطب ونحوه فلا قضاء في وصوله للحلق ولو تعمد استنشاقه. وأما رائحة كالمسك والعنبر والزبد فلا تفطر. ولو استشقها لأنها لا جسم لها إنما يكره فقط اهـ. ومنها ابتلاع ما أمكن طرحه كقيء أو قلس وصل إلى الفم فإن لم يمكن طرحه بأن لم يجاوز الحلق فلا شيء فيه. وأما البلغم الممكن طرحه فالمعتمد أن ابتلاعه. ومنها وصول الشيء المفطر إلى المعدة مطلقا مائعا كان أو جامدا، عمدا أو سهوا ولا يلزمه إلا القضاء دون الكفارة، وفي العمد بشرط عدم انتهاك حرمة الشهر كما تقدم. ومما يوجب القضاء دون الكفارة تعمد القيء، قال ابن جزي في القوانين: ومن استقاء عامدا فعليه القضاء وجوبا دون الكفارة في المشهور. وعند الجمهور من رجع إلى حلقه قيء أو قلس بعد ظهوره على لسانه فعليه القضاء اهـ. ومثله في الرسالة. ومما يوجب القضاء دون الكفارة تقطير شيء

في الأذن أو الأنف، أو وصل إلى الحلق باكتحال أو غالب المضمضة أو السواك وليس في جميع ذلك إلا القضاء دون الكفارة. ثم ذكر رحمه الله تعالى الأشياء التي لا توجب القضاء بحصول شيء منها بقوله: " لا بدخول ذباب، أو غبار، أو حقنة، أو احتلام، أو تصبح بغسل جنابة، أو حيض إن طهرت ونوت قبل الفجر " يعني أن هذه الأشياء كلها لا توجب القضاء لصحة الصوم، ولم يقع فيه خلل معها. قال العلامة الشيخ أحمد النفراوي: ومما لا قضاء فيه ما غلب من ذباب أو دقيق أو جبس لصانعه أو بائعه، كغبار الطريق يغلب الصائم، ومما لا قضاء فيه الحقنة من الإحليل وهي عين الذكر ولو بمانع، وأما من الدبر أو فرج المرأة ففيها القضاء. ومما لا قضاء فيه أيضا الجائفة حيث لم تصل محل الطعام أو الشراب، وكذا المني والمذي المستنكحان، ولا في نزع المأكول أو المشروب طلوع الفجر اهـ. وفي الشرنوبي على العزية: وإذا طلع الفجر وهو يأكل أو يشرب أو يجامع فكف ونزع في الحال فلا قضاء عليه. وأما لو سكت قليلا متعمدا فعليه القضاء والكفارة اهـ. وفي إسعاف أهل الإيمان للعلامة الشيخ حسن محمد المشاط الملكي ما نصه: فمن طلع عليه الفجر وفي فمه شيء من طعام أو شراب طرحه حالا وصح صومه، فإن لم يطرحه وبلعه بطل صومه ووجب عليه إمساك ذلك اليوم لحرمة الوقت، وعليه القضاء عند الثلاثة، وعند الإمام مالك عليه الكفارة مع القضاء اهـ. ثم ذكر بعض مكروهات الصيام فقال رحمه الله تعالى: " ويكره الفصد والحجامة والقبلة والملاعبة " يعني أن الفصد والحجامة مكروهان للصائم على ما مشى عليه المصنف، وجائزان على ما مشى عليه غيره إلا للمريض فيكرهان له. قال في الرسالة: ولا تكره له الحجامة. قال النفراوي: ولا الفصادة إلا خيفة التغرير قال لأدائها إلى الفطر. وربما أشعر قوله خيفة التغرير بأن هذا في حق المريض، وهو كذلك. قال خليل:

وكره ذوق ملح وعلك ثم يمجه، ومداواة حفر زمنه إلا لخوف ضرر، ونذر يوم مكرر، ومقدمة جماع كقبلة وفكر إن علمت السلامة وإلا حرمت، وحجامة مريض فقط، قال: وأما الصحيح فلا تكره له إلا إذا شك في السلامة وعدمها، والذي حرره الأجهوري أن الحجامة والفصادة يحرمان عند علم عدم السلامة حتى على الصحيح، ويكرهان عند الشك في السلامة ولو للصحيح، وأما عند اعتقاد السلامة فالكراهة للمريض، وعدمها للصحيح اهـ. وقوله: والقبلة والملاعبة، وفي العزية: ويكره ذزق الملح ومجه، ومقدمات الجماع كالقبلة والمباشرة والفكر والنظر المستدام والملاعبة إن علمت السلامة وإلا فيحرم عليه ذلك. وزاد بعضهم: لكنه إن أمذى من ذلك فعليه القضاء فقط، وإن أمنى فعليه القضاء والكفارة اهـ. وعبارة الخرشي: يعني أنه يكره للشاب والشيخ، رجلا أو امرأة أن يقبل زوجته أو أمته وهو صائم، أو يباشر أو يلاعب أو ينظر أو يفكر على المشهور إذا علم من نفسه السلامة من مذي ومني وإنعاظ على قول ابن القاسم اهـ. ثم ذكر رحمه الله تعالى ما يوجب الكفارة فقال: " والكفارة بتعمد الفطر، أو الجماع، أو استدعاء المني بدوام نظر أو تذكر أو تحريك دابة على المشهور " يعني أن الكفارة تجب بتعمد الفطر إلخ. قال خليل: وكفر إن تعمد - بلا تأويل قريب وجهل في رمضان فقط - جماعا أو رفع نية نهارا، أو أكلا أو شربا بفم فقط، وإن وجهل في رمضان فقط - جماعا أو رفع نية نهارا ظن أو أكلا أو شربا بفم فقط، وإن باستياء بجوزاء، أو منيا وإن بإدامة فكر إلا أن يخالف عادته على المختار. وإن أمنى بتعمد نظر فتأويلان اهـ. وعبارة الدردير في أقرب المسالك: والكفارة برمضان فقط إن أفطر منتهكا لحرمته بجماع وإخراج مني وإن بإدامة فكر أو نظر إلا أن يخالف عادته، أو رفع نية، أو إيصال مفطر لمعدة من فم فقط، لا بنسيان أو جهل أو غلبة، إلا إذا تعمد قيئا أو استياكا بجوزاء نهارا اهـ. قال النفراوي: والحاصل أن شروط الكفارة

خمسة: العمد، والاختيار، والانتهاك للحرمة، والعلم بحرمة الموجب الذي فعله وإن جهل وجوب الكفارة، بخلاف جهل رمضان فيسقطها اتفاقا، وخامس الشروط كون الفطر في رمضان الحاضر اهـ. وعبارة الصاوي في هذه الشروط: فتحصل أن شروط الكفارة للمكلف خمسة كما في الأصل: أولها العمد فلا كفارة على ناس، الثاني الاختيار فلا كفارة على مكره أو من أفطر غلبة، الثالث الانتهاك فلا كفارة على متأول تأويلا قريبا، الرابع أن يكون عالما بالحرمة، فجاهلها كحديث عهد بالإسلام ظن أن الصوم لا يحرم معه الجماع فلا كفارة عليه، خامسها أن يكون في رمضان فقط، لا في قضائه، ولا كفارة أو غيرها اهـ. ويزاد في الأكل والشرب: أن يكون بالفم فقط، وأن يصل للمعدة. ولا كفارة على ناذر الدهر إن أفطر في غير رمضان على المعتمد اهـ المراد. وقال العلامة الشيخ عبد الله التيدي في أجوبة له: فهل تعرف مواضع القضاء والكفارة؟ قال نعم في اثني عشر موضعا، ولا تكون الكفارة إلا في أداء رمضان فقط. وهي مغيب الحشفة المعتد به شرعا، وإخراج مني، ومن نية نهارا عمدا أو ليلا واستمر حتى طلع الفجر، وإيصال مفطر لمعدة من فم فقط، ومن تعمد قيئا، ومن استاك بجوزاء نهارا، ومن رأى هلال رمضان ولم تقبل شهادته فأفطر، ومترقب حمى أو حيض ولو حصلا وأفطر، ومن اغتاب وأفطر، ومن عزم على السفر ولم يسافر وأفطر، والفطر في الكل عمدا فعليهم القضاء والكفارة اهـ. فتحصل بمجموع ذلك أن الكفارة لا تكون إلا في رمضان، ولا يكون الانتهاك إلا مع معرفة الحكم بلا تأويل قريب، فجاهل الحكم كحديث عهد بالإسلام لا كفارة عليه. وأما من أفطر بتأويل بعيد فإنه يجب عليه القضاء والكفارة. ومثله من أنزل بتحريك دابة على المشهور اهـ. ثم انتقل إلى بيان أنواع الكفارة وهي ثلاثة أنواع على التخيير، فقال رحمه الله تعالى: " والمشهور تنوعها، وأنها على التخيير " واعلم أن في تنوع كفارة الصيام

سبعة أقوال، مشهورها أنها على ثلاثة أنواع، وهي العتق، والصوم، والإطعام. واختلف هل هي على التخيير ككفارة اليمين وهو المشهور في المذهب، أم هي على الترتيب ككفارة الظهار وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة. قال ابن جزي في القوانين الفقهية: وأما أنواعها فثلاثة: عتق، وإطعام، وصيام، فالعتق تحرير رقبة مؤمنة سليمة من العيوب ليس فيها عقد من عقود الحرية، ولا يكون عتقها مستحقا بجهة أخرى. والصيام [صيام] (¬1) شهرين متتابعين. والإطعام [إطعام] ستين مسكينا، مد لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو حنيفة مدان، وهي على التخيير ككفارة الأيمان، إلا أن أفضلها الإطعام في المشهور. وقيل على الترتيب ككفارات الظهار وفاقا لهما اهـ بلفظه. وقد ذكر تلك الأقوال المتقدمة أحمد الزروق وابن ناجي في شرحيهما على الرسالة القيروانية فراجعهما إن شئت. ثم قال رحمه الله تعالى: " فيعتق رقبة مؤمنة كاملة الرق غير معيبة ولا مستحقة العتق، أو يصوم شهرين متتابعين فإن قطع لعذر بنى وإلا استأنف، أو يطعم ستين مسكينا مدا مدا، والعدد شرط " قوله والعدد شرط، قال المواق نقلا عن الباجي: ولا يجزئه أن يطعم ثلاثين مسكينا مدين مدين. وقال أبو الحسن: وله أن يسترجع ثلاثين مدا من المساكين ويعطيها غيرهم، فإن فوتوها لم يكن له عليهم رجوع. قال رحمه الله تعالى: " ولا يلفق من نوعين " يعني لا يجوز التلفيق من نوعين في الكفارات، لا في كفارة الصيام، ولا في اليمين، ولا في الظهار. قال خليل في كفارة اليمين: ولا تجزئ ملفقة وفي الدردير: ولا يجزئ تلفيق من نوعين، ولا ناقص. وقال الخرشي: يعني أن الكفارة يشترط فيها أن تكون من جنس واحد، فلا تجزئ ملفقة ¬

(¬1) هذه الزيادة لا بد منها ليتفق مع إعراب الشارح. (الزاوي).

من جنسين اهـ. وقال خليل أيضا في الظهار: ولا تركيب صنفين ولو نوى لكل عددا، أي لا يجزئ تركيب كفارة من صنفين كصيام ثلاثين يوما وإطعام ثلاثين مسكينا. قال العلامة صالح عبد السميع: احترز بصنفين من تركيبها من صنف واحد كغداء وعشاء ثلاثين وتمليك ثلاثين كل واحد مدا وثلثين فيجزئ. قاله في كفارة الظهار اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وتتعدد بتعدد الأيام " يعني أن الكفارة تتعدد بتعدد موجبها في كل يوم. وفي المدونة: سئل مالك عن السفينة بعد أن يحتلم يفطر في سفهه في رمضان أياما، فقال عليه لكل يوم أفطره كفارة مع القضاء. وفي موضع آخر أنه سئل فيمن جامع امرأته أياما في رمضان فقال: عليه لكل يوم كفارة، وعليها مثل ذلك إن كانت طاوعته، وإن كان أكرهها فعليه أن يكفر عنها وعن نفسه، وعليها قضاء عدد الأيام التي أفطرتها، فإن وطئها في يوم واحد مرتين فعليه كفارة واحدة. وفيها أيضا في رجل جامع امرأته نهارا في رمضان وطاوعته في ذلك ثم حاضت من يومها، فقال عليها القضاء والكفارة، ومثلها من أفطر في رمضان متعمدا ثم مرض من يومه عليه القضاء والكفارة اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والأظهر عدم تعددها في اليوم الواحد " يعني أن الكفارة لا تتعدد بتعدد موجبها في اليوم الواحد على الأظهر. وهو كذلك قال ابن جزي في القوانين: ومن كرر الإفطار في يوم واحد فعليه كفارة واحدة. ومن أفطر فلم يكفر حتى أفطر في يوم ثان فعليه كفارة ثانية خلافا لأبي حنيفة اهـ. قال النفراوي: لم يتعرض المصنف لحكم ما إذا تعدد منه موجب الكفارة، ومحصله أنها لا تتعدد بتعدد الأكلات أو الوطآت، ولا بأكل ووطء في يوم واحد، ولو كان أخرج للأول كفارة قبل الثاني،

وإنما تتعدد بتعدد أيام. وهذا حكم الكفارة عن نفسه. وأما أوجب الكفارة على غيره فتتعدد عليه بتعدد المكفر عنه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وعدم وجوبها بالجماع سهوا " يعني أن الأظهر من الأقوال عدم وجوب الكفارة بالجماع سهوا. قال في الرسالة: ومن أفطر في نهار رمضان ناسيا فعليه القضاء فقط، سواء كان فطره بالأكل أو بالشرب أو بالجماع على المشهور، خلافا لابن الماجشون القائل تجب الكفارة إذا كان فطره بجماع. وفي المدونة: رأيت من أكل أو شرب أو جامع امرأته في رمضان ناسيا أعليه القضاء في قول مالك؟ قال نعم. ولا كفارة عليه اهـ. وتقدم جملة مما يوجب القضاء دون الكفارة عند قول المصنف يجب القضاء بالفطر ولو سهوا أو جهلا إلخ فراجعه إن شئت. قال رحمه الله تعالى: " وفض نية " يعني والأظهر عدم ترتب الكفارة برفض نية، بل المشهور القضاء فقط، وصوب اللخمي سقوط القضاء. وقال إنه غالب الرواية عن مالك. وكذاك في المجموع، نقله الصاوي وقال: وأما من عزم على الأكل أو الشرب ثم ترك ما عزم عليه فلا شيء عليه لأن هذا ليس رفعا للنية اهـ. انظر الحطاب والمواق. قال رحمه الله تعالى: " وتعجيل فطر لتوقع مبيح " يعني والأظهر عدم وجوب الكفارة لأجل توقع العلامة الدالة على إباحة الفطر كغروب الشمس ثم تبين خلافه بعد فطره، ليس عليه إلا القضاء فقط دون الكفارة كما تقدم. وفي المدونة عن مالك بإسناده عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه " أنه أفطر يوما في رمضان في يوم ذي غيم، ورأى أنه قد أمسى وقد غربت الشمس، ثم جاءه رجل فقال يا أمير المؤمنين قد طلعت الشمس، فقال عمر: الخطب يسير، وقد اجتهدنا " قال مالك: يريد بالخطب القضاء اهـ. ومثله في الموطأ. ثم قال رحمه الله تعالى: " والمكرهة تلزم المكره عنها " يعني أن المرأة المكرهة على

فصل فيما يندب فعله للصائم

الجماع في نهار رمضان يلزم على مكرهها أن يكفر عنها وعن نفسه، وعليهما القضاء والإمساك لحرمة الوقت. قال الدردير: وكفر عن أمته إن وطئها، وعن غيرها إن أكرهها لنفسه نيابة، بلا صوم وبلا عتق في الأمة، أي ولو طاوعته لأن طوعها إكراه، ما لم تتزين له فتلزمها فتصوم، ما لم يأذن لها في الإطعام. وأما الزوجة وغيرها فإن طاوعته في الجماع أو الزنى فعليها القضاء والكفارة، وإلا فعليه الكفارة نيابة عنها. وعليها القضاء فقط. هذا في إكراهها على نفسه لا إن أكرهها على غيره. قال النفراوي: وأما لو أكره شخص شخصا على الأكل والشرب للزم المكره بالفتح ويلزم المكره بالكسر الكفارة، وبخلاف من أكره غيره على جماع امرأة لا تلزمه كفارة. والفرق أن الانتشار معه نوع اختيار، وإنما لم تلزمه الكفارة لأنه لا يتعمد. فالحاصل أن من أكره (¬1) غيره على الجماع لا تلزمه كفارة ولا تلزم المكره بالفتح أيضا لأن لزوم الكفارة مشروط بالتعمد اهـ. وما تقدم من تكفير المكره عن المكرهة محله إن كانت بالغة مسلمة عاقلة، وإلا فلا. قال الصاوي على الدردير: الإكراه يكون بخوف مؤلم كضرب فأعلى، كإكراه الطلاق فقد ذكر الرماصي أن الإكراه في العبادات يكون بما ذكر اهـ. ولما أنهى الكلام على ما يتعلق بثبوت الصيام ووجوبه ولوازم الإفطار من الكفارة وغيرها انتقل يتكلم في بعض ما يستحب للصائم، وبعض مسائل الصيام، وبيان ذلك، فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ فيما يندب فعله للصائم أي في بيان فعله للصائم، وما يلزمه وما يباح له، وما يكره عليه فعله في رمضان وغيره. فقال رحمه الله تعالى: " يستحب تعجيل القضاء وتتابعه " قال خليل عاطفا على ¬

(¬1) انظر الحطاب عند قول خليل وفي تكفير مكره رجل ليجامع قولان.

المندوبات: وتعجيل القضاء وتتابعه، يعني يستحب لمن عليه قضاء صوم رمضان أو غيره أن يبادر في قضائه لأن المبادرة للطاعة وبراءة الذمة أولى من النافلة، كما يستحب له أن يتابع ذلك القضاء. قال رحمه الله تعالى: " فإن أخره أو بعضه لغير عذر متصل حتى دخل رمضان آخر فعليه مع القضاء الكفارة " أي الصغرى كما تأتي، لتفريطه في القضاء حتى دخل رمضان آخر بغير عذر، لا إن اتصل عذره. قال الدردير: ووجب إطعام مده عليه الصلاة والسلام لمفرط في قضاء رمضان لمثله عن كل يوم لمسكين، إن أمكن القضاء بشعبان، لا إن اتصل عذره بقدر ما عليه مع القضاء أو بعده اهـ قوله بشعبان أي إلى تمام شهر شعبان، فمن عليه خمسة أيام مثلا وحصل له عذر كمرض، أو سفر، أو جنون، أو حيض قبل رمضان الثاني بخمسة أيام واتصل عذره فلا إطعام عليه، وإن كان طول عامه خاليا من الأعذار، وإن حصل العذر له في يومين فقط وجب عليه إطعام أمداد لأنها أيام التفريط دون أيام العذر اهـ. قال رحمه الله تعالى: " إطعام مسكين مدا عن كل يوم " يعني تمليك مد لمسكين في كل يوم يقضيه من غالب قوت أهل البلد، وذلك بعدد الأيام. ثم قال رحمه الله تعالى: " ويلزم المرضع تفطر خوفا على الرضيع، لا الحامل، وفيها خلاف " والمعنى كما قال عبد الباري: أن الحامل إذا خافت على ما في بطنها أفطرت ولم تطعم، وقد قيل تطعم. والمرضع إذا خافت على ولدها ولم تجد من تستأجره له، أو لم يقبل غيرها أفطرت وأطعمت اهـ. ومثله في الرسالة. وما ذكر من الخلاف في الحامل إن أفطرت فالمشهور أنها لا تطعم كالمريض. قال النفراوي: والحاصل أن كل من جاز له الفطر لمرض أو سفر أو مشقة لا إطعام عليه إلا من يسقط عنه الصوم لكبر أو عطش كما تقدم، وإلا الحامل والمفرط في قضاء رمضان حتى دخل رمضان آخر اهـ.

وأشار رحمه الله تعالى إلى حكم العاجز عن الصيام لكبر أو عطش فقال: " ويستحب للعاجز لكبر أو عطش " يعني أن يندب له إطعام مسكين مدا عن كل يوم يمر عليه لعجزه عن الصوم. قال في الرسالة: ويستحب للشيخ الكبير إذا أفطر أن يطعم، أي مدا عن كل يوم. وإنما يكتفي بالإطعام إذا كان لا يستطيع الصوم جملة، وأما لو كان يقدر عليه ولو في غير رمضان لوجب عليه القضاء ولا إطعام عليه. ومثل الشيخ الكبير من لا يستطيع ترك الماء لشدة العطش في جميع الزمن. قال خليل عاطفا على المندوب: وفدية لهرم وعطش. وقول المدونة: ولا فدية على من لم يستطع الصوم، ومراده عدم الوجوب، فلا ينافي الندب كما قال المصنف اهـ النفراوي. قال رحمه الله تعالى: " ولا قضاء عليهما " أي على العاجز لكبر أو العاجز لعطش إذا كانا لا يستطيعان الصوم ولو في زمن الشتاء أو في أي زمان من الأزمنة، وإلا وجب علهما القضاء كما تقدم. وإنما أبيح لهما الفطر ولا قضاء لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ومن جن او أغمى عليه أكثر يومه لزمه القضاء، جن من الليل، أو طرأ عليه، بلغ مجنونا أو صحيحا، لا باليسير " يعني كما قال عبد الباري العشماوي، ومن شروط صحة الصوم العقل، فمن لا عقل له كالمجنون والمغمى عليه لا يصح منه في تلك الحالة، ويجب على المجنون إذا عاد إليه عقله ولو بعد سنين كثيرة أن يقضي ما فاته من الصوم في حال الجنون. ومثله المغمى عليه إذا أفاق، أي فإنه يقضي الصوم إذا أغمى عليه يوما كاملا، أو جله، أو أقله ولم يسلم أوله، ولا يلزمه الإمساك فيما بقي من يومه على المعتمد، كما في الصفتي نقلا عن العدوي اهـ. وقال صاحب الرسالة: ومن أغمي عليه ليلا فأفاق بعد طلوع الفجر فعليه قضاء الصوم، ولا يقضي من الصلوات إلا ما أفاق في وقته. قال النفراوي: ولو وقت الضروري. ثم قال: تنبيه كان الأنسب للمصنف أن لو

قال: ولا يطالب المغمى عليه بفعل شيء من الصلوات إلا ما أفاق في وقته، لأن القضاء عبارة عن الإتيان بما خرج وقته وما أفاق في وقته أداء لا قضاء. وقال قبل ذلك: وأما النائم يمضي عليه أيام وهو نائم بعد تبييت النية فلا قضاء عليه أي لصحة صومه وبقاء تكليفه، وإنما الساقط عن النائم الإثم فقط، حتى لو بيت النية بعد ثبوت الشهر ونام جميعه صح صومه وبرئت ذمته، وليس السكران بحلال كالنائم بل كالمجنون فيجب عليه القضاء اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " ويلزم الكافر إمساك بقية يوم إسلامه " وما ذكره رحمه الله من لزوم الإمساك قول في المذهب، لكن المشهور الاستحباب. قال خليل عاطفا على المندوبات: وإمساك بقية اليوم لمن ألسم اهـ كما يأتي عن قريب إن شاء الله تعالى. قال الخرشي: يريد أن الكافر إذا أسلم في نهار رمضان فإنه يستحب له الإمساك في بقية ذلك اليوم ليظهر عليه صفات الإسلام بسرعة. وإنما لم يجب عليه الإمساك ترغيبا للإسلام، ويستحب له أيضا قضاؤه اهـ. ومثله في الفواكه للنفراوي. انظر الحطاب، وفيه زيادة إيضاح لمن يريد أكثر من هذا. ثم قال رحمه الله تعالى: " ويستحب للصبي يبلغ الإمساك " يعني يندب للصبي بلغ نهارا في رمضان أن يمسك بقية يومه عن المفطرات لحرمة الشهر، هذا إذا بيت الصوم، وإلا فلا يستحب له ذلك قال العلامة الحطاب: وإذا بلغ الصبي أو الصبية وهو صائم فإنه يتمادى لأن صومه انعقد نافلة ظاهرا وباطنا، فإن كان مفطرا فهو كالحائض أي فلا يستحب له الإمساك، ولا يجب عليه قضاء ما مضى من رمضان ولا قضاء اليوم الذي بلغ فيه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " لا بقية يوم الشفاء والطهر وقدوم المسافر مفطرا " قال في رسالة: وإذا قدم المسافر مفطرا، وطهرت الحائض نهارا فلهما الأكل في بقية يومهما.

قال شارحها. وكالمفطر لضرورة جوع أو عطش، والمرضع يموت ولدها نهارا، والمريض يقوى، والصبي يبلغ، ولم يكن بيت الصوم، أو بيته وأفطر عمدا قبل بلوغه فلا يجب الإمساك على واحد من هؤلاء بقية يومه، بخلاف الصبي يبيت الصوم ويستمر صائما حتى بلغ، أو أفطر ناسيا وأمسك فإنه يجب عليه الإمساك في هاتين الصورتين، نقله النفراوي عن الأجهوري اهـ. وقال العلامة الدردير - عاطفا على المندوبات -: وإمساك بقية اليوم لمن أسلم وقضاؤه، بخلاف من زال عذره المبيح له الفطر مع العلم برمضان، كصبي بلغ أي فلا يندب له الإمساك، هذا عند عدم تبييت الصوم، ومريض صح، ومسافر قدم فيطأ امرأته كذلك أي التي زال عذرها المبيح لها الفطر مع العلم برمضان، بأن قدمت معه من السفر أو طهرت من حيض أو نفاس، أو بلغت نهارا، أو أفاقت من جنون اهـ بتوضيح. ثم قال رحمه الله تعالى: " ثم السفر المبيح سفر القصر " يعني السفر المبيح الفطر فيه هو السفر الذي تقصر فيه الصلاة، بأن كان سفرا مباحا أربعة برد ذهابا كما تقدم في صلاة السفر. وإذا كان السفر تقصر فيه الصلاة يجوز الفطر فيه في رمضان إذا شرع في السفر. ما لم يبيت الصوم، فإن بيت الصوم منع الفطر. قال رحمه الله تعالى: " والصوم أفضل " يعني أن الصوم في السفر أفضل من الفطر فيه لمن قوي على ذلك، لقوله تعالى: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 184] الآية. وقال في الرسالة: ومن سافر سفرا تقصر فيه الصلاة فله أن يفطر وإن لم تنله ضرورة، وعليه القضاء، والصوم أحب إلينا. أي معاشر المالكية. قال رحمه الله تعالى: " وإذا أجمع إقامة أربعة أيام لزمه " يعني إذا نوى المسافر إقامة أربعة أيام بموضع لزمه الصوم كما لزمه إتمام الصلاة. قال النفراوي في الفواكه: تنبيهات: الأول يقطع جواز الفطر ما يقطع جواز قصر الصلاة المشار إليه بقول خليل:

وقطعه نية إقامة أربعة أيام صحاح ولو بخلاله إلا العسكر بدار الحرب اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " والمتطوع إن أفطر ساهيا لزمه إمساك بقية يومه لا قضاؤه " يعني أن الصائم المتطوع إذا أفطر ساهيا فإنه يجب عليه الإمساك إلى الغروب. وفي الموطأ " قال يحيى سمعت مالكا يقول: من أكل أو شرب ساهيا أو ناسيا في صيام تطوع فليس عليه قضاء، وليتم يومه الذي أكل فيه أو شرب وهو متطوع، ولا يفطره، وليس على من أصابه أمر يقطع صيامه وهو متطوع قضاء إذا كان إنما أفطر من عذر غير متعمد للفطر " الحديث اهـ وقال في الرسالة: ومن أفطر في تطوعه عامدا أو سافر فيه فأفطر لسفره فعليه القضاء، وإن أفطر ساهيا فلا قضاء عليه، بخلاف الفريضة اهـ. قال الشارح: قوله فلا قضاء عليه أي لعدم تعمده، ولكن يجب عليه الإمساك بقية يومه. واختلف في ندب قضائه على قولين. ومثل الناسي المفطر لضرورة كجوع أو عطش، أو لوجه كأمر شيخه، أو أحد أبويه، والمراد شيخه في العلم أو الطريقة اهـ قاله النفراوي. قال رحمه الله تعالى: " ويحرم صيام العيد " يعني أنه لا يجوز صيام يوم العيد سواء عيد الفطر أو الأضحى لما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن صيام يومين يوم الفطر ويوم الأضحى " قال الزرقاني على الموطأ: فصيامهما حرام على كل أحد من متطوع، وناذر، وقاض فرضا، ومتمتع، وغير ذلك إجماعا؛ لأنه معصية فلا يصومهما من نذرهما، لحديث " من نذر أن يعصي الله فلا يعصه " قال المازري: ذهب مالك إلى من نذر صوم أحد العيدين لا ينعقد ولا يلزمه قضاؤه، وخالفه أبو حنيفة. والحديث رواه مسلم، وأعاده الإمام في الحج انظرهما اهـ. وقال في المدونة: سئل ابن القاسم: أرأيت لو أن رجلا أصبح يوم الأضحى أو يوم الفطر صائما، فقيل له إن هذا اليوم لا يصلح فيه الصوم فأفطر أيكون عليه قضاؤه في قول مالك أم لا؟ قال: لا يكون عليه قضاؤه عند مالك اهـ. وفي الرسالة: ولا يجوز صيام يوم الفطر ولا يوم النحر، ولا يصوم اليومين

اللذين بعد يوم النحر إلا المتمتع الذي لا يجد هديا، واليوم الرابع لا يصومه متطوع، ويصومه من نذره أو من كان في صيام متتابع قبل ذلك اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويكره أيام التشريق إلا لتمتع ونحوه " يعني أن أيام التشريق لا يجوز صيامها إلا للمتمتع الذي لم يجد الهدي فله صيامها بلا كراهة. قال مالك في المدونة: من نذر صيامها أو كان عليه صوم واجب، أو نذر صيام ذي الحجة فلا ينبغي له أن يصوم أيام الذبح الثلاثة، ولا يقضي فيها صياما واجبا عليه من من نذر أو رمضان، ولا يصومها أحد إلا المتمتع الذي لم يجد الهدي فذلك يصوم اليومين الآخرين، ولا يصوم يوم النحر أحد، وأما آخر أيام التشريق فيصام إن نذره رجل، أو نذر صيام شهر ذي الحجة، فأما أن يقضي به رمضان أو غيره فلا يفعل اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويستحب صوم أيام البيض " سميت بذلك لبياض الليالي بالقمر من الغروب إلى الفجر، وهي الثالثة عشرة وتاليتاها. وما ذكر المصنف من استحباب صيامها وهو كذلك، إلا أن الإمام مالكا كره تعيينها فرارا من التحديد فيما لا يحدده الشارع، فإن وافق صومها بلا قصدها فلا كراهة. وفي الحديث عن ذر أنه قال: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام: ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر " رواه النسائي والترمذي، وصححه ابن حبان اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويوم عرفة " يعني ينبغي صيام يوم عرفة لمن لم يحج، ويكره صومه للحاج، لما في الحديث عن أبي هريرة قال: " إن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة " رواه الخمسة غير الترمذي. ويتأكد فطر من بعرفة ليتقوى على أداء المناسك، ويكره له صومه لئلا يضعفه عن الوقوف، وأيضا وفي فطره تأسيا به صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أفطر في حجة الوداع. قال رحمه الله تعالى: " وعاشوراء " أي يستحب للمكلف صيام يوم عاشوراء وهو عاشر

الاعتكاف

المحرم ومثله تاسوعاء وهو تاسع محرم. قال الخرشي: والمعنى أن صيام يوم عاشوراء ويوم تاسوعاء مستحب وإنما قدم عاشوراء لأنه أفضل من تاسوعاء لأنه يكفر سنة، وقد صامه النبي صلى الله عليه وسلم قبل فرض رمضان. وأما تاسوعاء: فقد تمنى رسول الله صلى الله عليه وسلم صيامه، لقوله: " لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع " رواه مسلم. وفي رواية: " فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع " فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال القرطبي في تفسيره: ولم يصم النبي صلى الله عليه وسلم قط، ببينة قوله لئن بقيت إلى قابل الحديث. وقد ذكر العلماء اثنتي عشرة خصلة مستحبة تفعل في يوم عاشوراء انظرها في الخرشي اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والاثنين والخميس " يعني من الأيام الفاضلة التي يستحب فيها الصوم يوم الاثنين ويوم الخميس. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الاثنين فقال: " ذلك يوم ولدت فيه وبعثت فيه وفيه أنزل القرآن " رواه أبو داود ومسلم. وصامهما رسول الله صلى الله عليه وسلم كما شهد بذلك حديث أبي قتادة. وسئل النبي عن ذلك فقال: " إن أعمال العباد تعرض يوم الاثنين ويوم الخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم " اهـ. رواه أصحاب السنن. ثم انتقل يتكلم على الاعتكاف لما فيه من المناسبة بينه وبين الصوم فقال رحمه الله تعالى: باب الاعتكاف وفي نسخة ذكر هنا فصل بعد الباب والصواب حذفه اكتفاء بذكر الباب. والاعتكاف لغة العكوف وهو اللزوم، وشرعا لزوم مسلم مميز مسجدا مباحا بصوم ليلة ويوما لعبادة قاصرة بنية، كافا عن الجماع ومقدماته اهـ. وعبارة صاحب العزية:

وحقيقته اللبث في المسجد للعبادة على وجه مخصوص. وأقله يوم وليلة، وأكمله عشرة أيام. وهو من نوافل الخير اهـ. قال رحمه الله تعالى: " الاعتكاف ملازمة المسجد ليلا ونهارا مع النية والصوم مشتغلا بالعبادات " يعني أن الاعتكاف عبادة مخصوصة، وهي ملازمة المسجد، كما قال الله تعالى: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] مع النية والصوم مشتغلا بالعبادة المخصوصة، وهي الصلاة، وتلاوة القرآن وذكر الله تعالى كالهيللة والحمدلة، والاستغفار، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وينبغي أن يستغرق أوقاته بذلك، لأن المقصود تصفية النفس وصرفها عن شهواتها الدنيوية، كما قال رحمه الله تعالى: " تاركا للأسباب الدنيوية إلا لضرورة تحصيل طعامه " يعني كما قال مالك في المدونة، ومثله في الموطأ: المعتكف مقبل على شأنه لا يعرض لغيره مما يشغل به نفسه من التجارات أو غيرها. وقال: لا بأس أن يشتري ويبيع الشيء الخفيف لعيشه الذي لا يشغله. وأما شراؤه أو بيعه للتجارة داخل المسجد فيكره اهـ. وفي النفراوي: فالحاصل أنه يكره بيعه أو شراؤه للتجارة مطلقا أي سواء كان خارج المسجد أو داخله، ويجوز لغيرها مما لا يستغنى عنه ولو خارجه بحيث لا يجاوز محلا قريبا يمكن الشراء منه، ويشترط أن لا يجد من يشتري له وسئل مالك: أيجلس العلماء ويكتب العلم؟ فقال: لا يفعل إلا الأمر الخفيف، والترك أحب إلي اهـ. قال رحمه الله تعالى: " واشتراطه الخروج ملغى، ويبطل بالخروج إلا لحاجة الإنسان أو طعامه، ولو لعيادة أو صلاة جنازة أو جمعة " يعني لا شرط في الاعتكاف سواء قبل الدخول أو بعده. قال ابن عرفة: وشرط منا فيه لغو. وقال خليل: وإن شرط سقوط القضاء لم يفده اهـ. وقال مالك في المدونة: لا أسمع أن أحدا من أهل العلم يذكر أن في الاعتكاف شرطا لأحد، وإنما الاعتكاف عمل من الأعمال كهيئة الصلاة والصوم

والحج، فمن دخل في شيء من ذلك فإنما يعمل فيه بما مضى من السنة في ذلك، وليس له أن يحدث في ذلك غير ما مضى عليه الأمر بشرط يشترطه أو بأمر يبتدعه، وإنما الأعمال في هذه الأشياء بما مضى فيها من السنة، وقد اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف المسلمون سنة الاعتكاف. اهـ. ومثله في الموطأ. وقوله: ويبطل بالخروج إلخ هذا شروع في ذكر مبطلاته. أي ويبطل الاعتكاف بالخروج عن المعتكف بغير حاجة الإنسان، ولو لعيادة مريض أو لصلاة الجنازة، أو كان خروجه لجمعة كما يأتي عن قريب. ويبطل أيضا بفعل الكبائر كشرب الخمر. وبالجماع، أو مقدماته ليلا أو نهارا. ولا يصلي على على الجنازة ولو لاصقته، ولا يعود مريضا إلا إذا كان بقربة، ويكره أكله بفناء المسجد. وكذلك فعل غير ذكر وتلاوة وصلاة. قال رحمه الله تعالى: " ويستحب أن لا ينقص عن عشرة أيام " قال في الرسالة: وأقل ما هو أحب إلينا من الاعتكاف عشرة أيام. ومن نذر اعتكاف يوم فأكثر لزمه، وإن نذر ليلة لزمه يوم وليلة. قال خليل: ولزم يوم إن نذر ليلة، وكذا عكسه، بخلاف ما لو نذر بعض يوم أو بعض ليلة فلا يلزمه شيء، إلا أن ينوي الجوار فيلزمه ما نوى اهـ. انظر النفراوي. قال رحمه الله تعالى: " ويجوز في كل مسجد إلا من تلزمه الجمعة فيتعين الجامع " يعني أن الاعتكاف جائز في كل مسجد من المساجد إلا من تلزمه الجمعة ونوى من الأيام التي تدركه فيها فيتعين الجامع، وإلا خرج وبطل بالخروج. قال ابن جزي: فإن نوى اعتكاف مدة يتعين عليه إتيان الجمعة في أثنائها تعين الجامع، لأنه إن خرج إلى الجمعة بطل اعتكافه، خلافا لأبي حنيفة وابن الماجشون اهـ. قال أبو الحسن في العزية: المسجد من أركان الاعتكاف، فلا يصح في غيره. قال شارحها: ولا يشترط كون المسجد جامعا إلا أن يكون المعتكف نوى أو نذر أياما تأخذه فيها الجمعة وكان ممن تجب عليه

فيجب عليه الاعتكاف في الجامع فيما تصح فيه الجمعة دائما، لا برحبته الخارجة عنه. وأما رحبته الداخلة فيه فيصح فيها، إذ هي عبارة عن صحن الجامع، فإن لم يخرج حرم عليه ولم يبطل اعتكافه، لأنه لم يرتكب كبيرة بناء على ما ذهب إليه الحطاب في باب الجمعة من أن تركها مرة من غير عذر صغيرة، ولا يعد مرتكبا كبيرة إلا أن يتركها ثلاث مرات متواليات خلافا لأصبغ اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويدخل معتكفه قبل الفجر " وما ذكره المصنف من دخول المعتكف في معتكفه قبل الفجر وإن كان جائزا إلا أنه خلاف المندوب، فالمندوب الدخول قبل غروب الشمس. قال مالك في الموطأ: يدخل المعتكف المكان الذي يريد أن يعتكف فيه قبل غروب الشمس من الليلة التي يريد أن يعتكف فيها حتى يستقبل باعتكافه أول الليلة التي يريد أن يعتكف فيها اهـ. انظر شرحه للزرقاني. وقال أبو محمد في الرسالة: وليدخل معتكفه قبل غروب الشمس من الليلة التي يريد أن يبتدئ فيها اعتكافه. قال شارحها: ليستكمل الليلة. وحكم الدخول في ذلك الوقت الوجوب إن كان الاعتكاف منذورا، والندب إن لم يكن منذورا، وعلى الوجهين لو أخر دخوله ودخل قبل الفجر أجزأه، قال خليل عاطفا على المندوبات: ودخوله قبل الغروب. وصح إن دخل قبل الفجر لأنه أدرك محل النية، بل ولو دخل مع الفجر بناء على صحتها مع الفجر، لكن مع الإثم على التأخير في الاعتكاف المنذور. وإنما أجزأه مع مخالفته الواجب بناء على أن أقله يوم اهـ. قلت: وما ذكره من هذا البناء مرجوح. انظر حاشية العدوي على الخرشي. قال رحمه الله تعالى: " فإن دخل بعده بطل " يعني إن دخل المعتكف محل اعتكافه بعد طلوع الفجر بطل اعتكافه. قال ابن جزي في القوانين: وأما زمانه فأقله يوم وليلة والاختيار أن لا ينقص عن عشرة أيام ولا حد لأقله عندهما (¬1). ويستحب أن يدخله قبل ¬

(¬1) أي عند الشافعي وأبي حنيفة.

غروب الشمس من ليلة اليوم الذي يبدأ فيه، فإن فعل ذلك أجزأه اتفاقا، وإن دخل بعد الفجر لم يجزه، وإن دخل بين المغرب والعشاء ففي الصحة والبطلان قولان اهـ. وفي الصاوي: قال ابن الحاجب: من دخل قبل الغروب اعتد بيومه، وبعد الفجر لا يعتد به، وفيما بينهما قولان المشهور الاعتداد. وقال سحنون: لا يعتد. وحمل بعضهم قول سحنون على النذر، والقولين بالاعتداد على النفل. ولكن المعتمد الاعتداد مطلقا نفلا أو نذرا اهـ. وما ذكره ابن جزي وابن الحاجب هو مذهب الجمهور خلافا للأوزاعي ومن معه القائلين إنما السنة أن يدخل المعتكف اعتكافه بعد صلاة الصبح مستدلين بظاهر حديث عائشة. انظر الزرقاني على الموطأ اهـ. وقال مالك في حديث أبي سعيد الخدري في الاعتكاف: إن ذلك يعجبني، وعلى ذلك رأيت أمر الناس أن يدخل الذي يريد الاعتكاف في العشر الأواخر حين تغرب الشمس من ليلة إحدى وعشرين، ويصلي المغرب فيه ثم يقيم. فلا يخرج إلى أهله حتى يفرغ من العيد. وذلك أحب الأمر إلى فيه اهـ المدونة. وما ذكره الإمام من حديث أبي سعيد من أن المعتكف لا ينصرف إلى أهله حتى يصلي العيد أشار إليه المصنف بقوله رحمه الله تعالى: " ومعتكف العشر الأواخر لا ينصرف إلى أهله إلا بعد شهود العيد " قال في الرسالة: ومن اعتكف أول الشهر أو وسطه خرج من اعتكافه بعد غروب الشمس من آخره. وإن اعتكف بما يتصل فيه اعتكافه بيوم الفطر فليبت ليلة الفطر في المسجد حتى يغدو منه إلى المصلى. قال مالك: بلغني أنه عليه الصلاة والسلام كان يفعل ذلك عند اعتكافه العشر الأواخر من رمضان اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والمرأة كالرجل فلا يصح في بيتها " يعني أن الاعتكاف لا يصح في البيوت، بل في المساجد ولو لامرأة، فالمسجد شرط في صحته كما تقدم. قال النفراوي: فلا يصح في بيت، ولا في مسجد محجر، ولا في سطح المسجد، ولا في بيت

قناديله ولو كان المعتكف امرأة اهـ. قال الحطاب عند قول خليل ومسجد: أي في صحته بمطلق مسجد، أي مسجد مباح. قال ابن رشد: وأما الاعتكاف في مساجد البيوت فلا يصح عند مالك لرجل ولا لامرأة، خلاف قول أبي حنيفة في أن المرأة تعتكف في مسجد بيتها اهـ. وقال مالك في الموطأ: الأمر عندنا الذي لا اختلاف فيه أنه لا يكره الاعتكاف في كل مسجد يجمع فيه ولا أراه كره الاعتكاف في المساجد التي لا يجمع فيها إلا كراهية أن يخرج المعتكف من مسجده الذي اعتكف فيه إلى الجمعة أو يدعها، فإن كان مسجدا لا يجمع فيه الجمعة ولا يجب على صاحبه إتيان الجمعة في مسجد سواه فإني لا أرى بأسا بالاعتكاف فيه، لأن الله تبارك وتعالى قال: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فعم الله المساجد كلها، ولم يخص شيئا منها اهـ. ومثله في المدونة. ثم قال رحمه الله تعالى: " ومن عرض له ما يمنعه إتمامه من مرض أو حيض ولم يمكنه المقام خرج وعليه حرمة الاعتكاف، فإذا زال عذره عاد في الفور " يعني أن المعتكف إذا عرض له عذر في أثناء اعتكافه وقبل إتمام ما نواه أو نذره، فإن كان عذره خفيفا لا يمنعه المكث في المسجد فلا يخرج، وإن كان مما يمنع المكث فيه كالحيض والإسهال والمرض الشديد وجب عليه الخروج إلى منزله، فإذا زال عنه العذر رجع إلى المسجد وقتئذ وحرمة الاعتكاف معه في حالة العذر، وإن تأخر عن المسجد بعد العذر بطل الاعتكاف. قال في الرسالة. وإن مرض خرج إلى بيته، فإذا صح بنى على ما تقدم، وكذلك إن حاضت المعتكفة وحرمة الاعتكاف عليهما في المرض، وعلى الحائض في الحيض، فإذا طهرت الحائض أو أفاق المريض في ليل أو نهار رجعا ساعتئذ إلى المسجد اهـ. قال خليل: وبنى بزوال إغماء أو جنون، كان منع من الصوم لمرض أو حيض أو عيد، وخرج وعليه حرمته، فإن أخره بطل إلا ليلة العيد أو يومه وأخر رجوعه إلى المسجد حتى مضى يوم العيد وتالياه في عيد الأضحى فإن اعتكافه

لا يبطل، بخلاف ما لو طهرت الحائض أو صح المريض وأخر كل الرجوع إلى المسجد فإن اعتكافه يبطل لصحة صوم ذلك اليوم لغيرهما، بخلاف يوم العيد فإن صومه لا يصح لأحد اهـ الخرشي. قال رحمه الله تعالى: " وإن شرط عدم القضاء لمرض أو غيره لم يفده على المشهور " يعني كما قال الخرشي: إن المعتكف إذا اشترط ما ينافي اعتكافه، بأن قال إن حصل له مانع يوجب القضاء لا أقضى، فإن شرطه لا يفيده ويصح اعتكافه على مقتضى الاعتكاف المشروع. قال ابن عرفة: وشرط منافيه لغو. وقال صاحب الشامل: فإن شرط سقوط القضاء لحدوث مرض أو غيره لم يفده على المشهور، وثالثهما إن وقع بعد الدخول وإلا بطل اهـ. وتقدم لنا هذه المسألة عند قول المصنف واشتراطه الخروج ملغى فراجعه إن شئت. قال رحمه الله تعالى: " ويحرم على المعتكف الاستمتاع ليلا أو نهارا لا عقد نكاح. والله أعلم " يعني كما قال مالك في الموطأ: لا بأس بنكاح المكتف نكاح الملك، ما لم يكن المسيس. والمرأة أيضا تنكح نكاح الخطبة ما لم يكن المسيس. ويحرم على المعتكف من أهله بالليل ما يحرم عليه منهن بالنهار، ولا يحل لرجل أن يمس امرأته وهو معتكف لا يتلذذ منها بقبلة ولا غيرها، ولم أسمع أحدا يكره للمعتكف ولا للمعتكفة أن ينكحها في اعتكافها ما لم يكن المسيس فيكره. ولا يكره للصائم أن ينكح في صيامه، وفرق بين نكاح المعتكف ونكاح المحرم، أن المحرم يأكل ويشرب ويعود المريض، ويشهد الجنائز. ولا يتطيب. والمعتكف والمعتكفة يدهنان ويتطيبان، ويأخذ كل واحد منهما من شعره، ولا يشهدان الجنائز، ولا يصليان عليها، ولا يعودان المريض، فأمرهما في النكاح مختلف، وذلك الماضي من السنة في نكاح المحرم والمعتكف والصائم اهـ. وفي المدونة:

وإن جامع في ليل أو نهار ناسيا، أو قبل أو باشر أو لامس فسد اعتكافه وابتدأه اهـ. انظر الحطاب. ولما أنهى الكلام على دعائم الإسلام الثلاث، وهي الصلاة والزكاة والصوم وما يتعلق بجميع ذلك انتقل يتكلم على الدعامة الرابعة، وهي الحج فقال رحمه الله تعالى:

كتاب الحج

كتاب الحج وهو لغة القصد، وعرفا حضور جزء بعرفة ساعة من ليلة يوم النحر، وطواف بالبيت سبعا، وسعي بين الصفا والمروة سبعا بإحرام. وقال بعض المعرفين: الحج ندب. وهو عبادة عظيمة ينبغي أداؤها على الوجه الذي قرره الشارع، وإلا ردت على وجه صاحبها اهـ. واعلم أن الله تعالى أوجب على عباده حج بيته الحرام من استطاع إليه سبيلا. قال سبحانه وتعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] وعن أبي هريرة قال " خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم " الحديث، مسلم والنساء والترمذي. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " رواه البخاري ومسلم. ثم اعلم أن للحج أركانا وواجبات، وسننا، ومندوبات، وجائزات، ومكروهات، وممنوعات، ومبطلات. وستقف عليها في مواضعها إن شاء الله تعالى. وبدأ رحمه الله تعالى أن الإسلام شرط في صحة الحج، فالكافر لا يصح منه حتى يسلم، وكذا قد أخبر أن الحرية شرط في وجوبه، فالعبد ومن فيه بقية الرق لا يلزمه الحج وإن وقع منه نفلا، وإن عتق وجب عليه حجة الإسلام (¬1)، ومثله الصبي والمجنون إذا أدخلهما وليهما في حرمة الإحرام، ثم إذا بلغ الصبي أو أفاق المجنون لزمهما حجة الإسلام. وقوله مستطيع، سيأتي معنى الاستطاعة عن قريب. ¬

(¬1) سيأتي في المصنف فصل مستقل فيما يتعلق بحج الصبي وغيره.

قال رحمه الله تعالى: " على الفور مرة في العمر " يعني أن الحج واجب على الفور وجوبا موسعا، في العمر مرة، وما زاد على المرة مندوب. وينبغي أن ينوي به القيام بفرض الكفاية الذي هو إقامة الموسم في كل سنة ليحصل له ثواب ذلك. وما ذكره من فورية الحج هو الراجح في المذهب. وقيل على التراخي. قال في الدر الثمين للعلامة محمد بن أحمد ميارة: وفي كون وجوبه على الفور أو على التراخي إلى خوف الفوات فيكون حينئذ واجبا على الفور قولان. وخوف الفوات إما بفساد الطريق بعدم أمنها، أو بذهاب ماله، أو صحته، أو ببلوغ المكلف ستين سنة اهـ. انظر في الكتاب المذكور أقوال العلماء. قال رحمه الله تعالى: " والاستطاعة إمكان الوصول مع الأمن كيفما تيسر " يعني أن الاستطاعة التي هي من شروط وجوب الحج هي إمكان الوصول. قال العلامة الشيخ حسين بن إبراهيم مفتي المالكية بمكة سابقا في توضيح المناسك: والاستطاعة هي إمكان الوصول بلا مشقة عظمت، ولو بلا زاد وراحلة لذي صنعة تقوم به، ولو بالسؤال إذا كان ذلك عيشه في بلاده، وكانت العادة إعطاءه، وقدر على المشي، وأن يكون آمنا على نفسه وماله، ويعتبر ما يرجع به إلى محل يمكنه فيه التعيش إن خشي الضياع بالإقامة بمكة اهـ. وعبارة ميارة في الدر الثمين أنه قال: والاستطاعة هي إمكان الوصول إلى مكة بلا مشقة عظيمة مع القدرة على أداء الصلاة في أوقاتها المشروعة لها في السفر، وعدم الإخلال بشيء من فرائضها، ومع الأمن على النفس والمال من لص أو مكاس، وإلا لم يجب الحج إلا أن يكون المكاس مسلما يأخذ شيئا لا يجحف بالشخص ولا ينكث بعد أخذه. ويجب الحج بلا زاد ولا راحلة إذا كان الشخص قادرا على المشي وله صنعة يقتات منها ولو بالسؤال إذا كان ذلك عيشه في بلده، وكانت العادة إعطاءه، وإن لم يكن ذلك عيشه في بلده فلا يجب عليه الحج، ويكره له الخروج، ومن قدر على المشي ووجد

من يؤاخره نفسه للخدمة ولا يرزي به ذلك وجب عليه الحج، ومن عجز عن المشي اعتبر في حقه وجود المركوب بشراء أو كراء. ومن لم تكن له صنعة يفعلها في الطريق يتعيش بها اعتبر في حقه وجود الزاد، ومن عجز عنهما اعتبرا معا في حقه اهـ. وقال الشيخ خليل في مناسكه: وليس من شروط الاستطاعة وجود الناض، بل يلزمه أن يبيع من عروضه ما يباع على المفلس اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والمرأة مع محرم أو رفقة مأمونة " يعني أن الاستطاعة في حق المرأة زيادة على ما تقدم وجود الزوج معها في السفر، أو المحرم ولو غير بالغ، ولو لم تكن فر رفقته لكن حيث يمكنها الوصول إليه بلا مشقة عند الحاجة، ويقوم مقام المحرم الرفقة المأمونة في سفر الفرض فقط. والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا يكون ثلاثة أيام فصاعدا إلا ومعها أبوها أو زوجها أو ابنها أو أخوها أو ذو محرم منها " قال شارح هذا الحديث: وليس على المرأة حج إذا لم تجد محرما، كما في دلالة الحديث. وعند مالك لا يجب المحرم في سفر الفريضة، وتكفي رفقة مأمونة. والمراد بالمحرم من حرم عليه نكاحها على التأييد اهـ. ثم انتقل رحمه الله تعالى يتكلم على أحكام النيابة بالحج وكيفيتها وتنفيذها فقال: " والميت الصرورة إن أوصى به يلزمه في ثلثه فليستأجر من يحج عنه " يعني أنه إذا أوصى الميت الصرورة وهو من لم يحج الفرض، أي إذا أوصى بالحج عنه وجب على الموصى له أن ينفذ الوصية، بأن يستأجر من يحج عنه في ثلث ماله، وإن كانت الوصية بالحج مكروهة عند مالك، والأولى الوصية بالصدقة، وإنما نفذ الوصية به مراعاة لمن يقول بجواز النيابة مطلقا، وعندنا لا تصح النيابة عن الحي مطلقا فرضا أو نفلا، صحيحا أو مريضا بأجرة أم لا قال الرماصي: المعتمد في المذهب أن النيابة عن الحي لا تجوز ولا تصح مطلقا

إلا عن ميت أوصى به فتصح مع الكراهة اهـ. وقال ابن جزي: وإذا أوصى الميت أن يحج عنه من ماله وكان صرورة نفذت الوصية من ثلث ماله، وإن لم يوص سقط عنه. وقال الشافعي يحج عنه من رأس ماله، وينوي الأجير الحج لمن حج عنه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ثم الإجازة ضربان " يعني أن الإجازة لها صورتان: الأولى على البلاغ، والثانية على الضمان وهي أفضل. قال خليل عاطفا على الأفضلية: وإجازة ضمان على بلاغ، أي فضلت إجازة ضمان على إجازة بلاغ لأن إجازة الضمان أحوط للمال، المعنى أن الاستئجار للحج على وجه الضمان أفضل من الاستئجار على وجه البلاغ. انظر الحطاب. ثم عرف إجازة البلاغ بقوله رحمه الله تعالى: " بلاغ وهي دفع مال بحسب كفايته، ذهابا وإيابا فما فضل لزمه رده " يعني أن الإجازة المسماة بالبلاغ هي إعطاء ما ينفقه الأجير في سفر الحج نيابة عن غيره بدءا وعودا بالعرف، وإن ضاع منه المال قبل الإحرام رجع ولا شيء عليه في الضائع وإذا فرغ منه المال قبل إتمام العمل استمر على إنفاق نفسه من ماله ورجع على من استأجره بما أنفقه من عنده أو تسلف، ويرجع عليه بالسرف، أي إذا شهد عليه به، وإذا مات قبل التمام أو صد يرجع للحساب كأجير الضمان اهـ النفراوي. قال رحمه الله تعالى: " فإن تلف قبل إحرامه فله الترك، فإن مضى لم يكن له رجوع بنفقته " قال النفراوي: وقدمنا أنه إن ضاع المال قبل إحرامه يرجع، فإن لم يرجع واستمر على العمل والإنفاق من عنده فلا شيء له في الذهاب ولا في الإياب إلى موضع الضياع، بخلاف ما لو ضاع بعد الإحرام فإنه يستمر على عمل الحج ويكمل العمل ويجب على المستأجر الإنفاق عليه من مال نفسه لتفريطه بعدم الاستئجار على الضمان الذي هو الأحوط كما قدمنا اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وبعده يلزمه إتمامه، وله الرجوع بنفقته " يعني إذا

تلف المال بعد الإحرام بالحج لزم الأجير إتمامه ويرجع على المستأجر بما أنفق. قال خليل: وإن ضاعت قبله رجع وإلا فنفقته على آجره إلا أن يوصي بالبلاغ ففي بقية ثلثه ولو قسم. قوله وإلا فنفقته إلخ يعني إذا ضاع المال بعد إحرام الأجير أو قبله ولم يعلم إلا بعده، أو لم يمكنه الرجوع فإنه يستمر إلى تمام الحج ونفقته على مستأجره إلا أن يوصي الميت بالبلاغ ففي بقية ثلثه إن بقي منه شيء، وإلا فعلى عاقد إجارة البلاغ لتفريطه بالعدول عن إجارة الضمان. قال رحمه الله تعالى: " قال ابن القاسم على المستأجر " كما تقدم وهو المشهور " وقال ابن حبيب في بقية الثلث " هذا إذا أوصى بالبلاغ. قال ابن حبيب أيضا الحج وقد ضاع المال بعد الإحرام تكون على المستأجر على المشهور، إلا إذا أوصى الميت بأن يحج عنه على البلاغ فتكون حينئذ في بقية الثلث إن بقي شيء فإن لم يبق من ثلثه شيء فعلى المستأجر. قال الحطاب قال في الطراز: فإن لم يبق للميت ثلث، فذلك على العاقد من وصي أو غيره اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " الثاني مضمونة، وفيها يتعين قدر الأجرة وصفة الحج وموضع ابتداء " يعني الضرب الثاني من ضربي الإجازة وهي إجازة الضمان التي هي أفضل من غيرها. قال الخرشي: ومعنى الأفضلية، أن الضمان أحوط للمستأجر لوجوب المحاسبة للأجير فيما إذا لم يتم لصد أو غيره، لا بمعنى أنها أكثر ثوابا إلى آخر ما قال، انظره. وقال العلامة ابن جزي في القوانين: وهي - أي الإجازة - على وجهين: إجازة بأجرة معلومة تكون ملكا للأجير كسائر الإجازات، فما عجز عن كفايته وفاه من ماله، وما فضل كان له. والثاني البلاغ وهو أن يدفع إليه المال ليحج عنه فإن احتاج إلى زيادة أخذها من المستأجر، وإن فضل شيء رده إليه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والمشهور اشتراط تعين السنة. وقيل بل تتعين السنة

الأولى بالإطلاق " يعني أن المشهور من القولين اشتراط تعيين السنة حين العقد، فإن لم يعين تتعين السنة الأولى. قال خليل: وصح إن لم يعين العام، وتعين الأول وعلى عام مطلق. وقال الحطاب: يعني أن الإجازة تصح وإن لم يعين في العقد العام الذي يحج فيه الأجير. وقيل لا تصح الإجازة للجهالة. قال في التوضيح: والأول أظهر كما في سائر عقود الإجازة إذا وقعت مطلقة فإنها تصح وتحمل على اقرب زمن يمكن وقوع الفعل فيه. ابن شاس: والقولان للمتأخرين اهـ. فإذا صحت الإجازة مع عدم تعيين العام الذي يحج فيه الأجير فإنه يتعين عليه أن يحج في أول عام يمكنه فيه، فإن لم يحج في أول سنة لزمه الحج فيما بعدها. قاله في البيان. ونقله في التوضيح اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ثم ما فضل أو أعوز فله وعليه " يعني إذا دفع الأجرة للأجير بالضمان وفضل منها شيء فهو له، وإن نقص عنه شيء قبل تمام النسك وجب عليه إتمام الحج على سنته، ولا يرجع على المستأجر بشيء مما نقص عنه لأن الإجازة وقعت على الضمان. وقال الحطاب نقلا عن مصنفنا في شرحه على العمدة: الفرق بين البلاغ والضمان أن أجير البلاغ يملك التصرف في المال على وجه مخصوص، والأجير على الضمان يملك رقبة المال، ولذلك يكون الفضل له والتلف عليه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولا يستأجر له عبد أو صبي، بخلاف غيره إلا أن يمنع من ذلك " قوله ولا يستأجر له الضمير في له راجع إلى الميت الصرورة الذي لم يحج حجة الإسلام وأوصى أن يحج عنه بعد موته. قوله بخلاف غيره الضمير في غيره راجع لغير صرورة وإن لم يتقدم ذكره، وهو مذكور بالجملة في المعنى، وهو الذي أوصى بأن يحج عنه تطوعا بعد حجة الإسلام فيجوز أن يستأجر له من يحج عنه ولو عبدا أو صبيا إلا أن يمنعه السيد أو الولي فيرجع المال إلى الورثة. قال خليل: ثم أوجر للصرورة فقط غير عبد وصبي، وإن امرأة، ولم يضمن وصي دفع لهما مجتهدا اهـ. قال الحطاب: لا شك

أن قوله ثم أوجر للصرورة فقط من تمام ما قبله. قال رحمه الله تعالى: " فلو عين شخصا فأبى عاد المال ميراثا، كما لو عين قدرا فوجد من يرضى بدونه إلا إن قصد دفعه إليه " يعني كما في الحطاب أنه إذا عين الميت شخصا يحج عنه ولم يسم ما يعطى فإنه إن لم يرض بأجرة مثله زيد عليها قدر ثلثها، فإن لم يرض بذلك تربص به قليلا لعله يرضى، فإن لم يرض فإنه يستأجر للميت من يحج عنه إن كان صرورة، وأما إن كان غير صرورة فإنه لا يحج عنه ويرجع المال ميراثا. ونص المدونة: ولو كان صرورة فسمى رجلا بعينه يحج فأبى ذلك الرجل فليحج عنه غيره بخلاف المتطوع الذي قد حج إذا أوصى أن يحج عنه رجل بعينه تطوعا، فإن أبى الرجل أن يحج عنه رجعت ميراثا اهـ قوله: كما لو عين قدرا يعني لو عين الميت قدرا من المال كمائه مثلا فوجد من يحج عنه بأقل منها أو تطوع أحد رجع باقي المال ميراثا في مثال الأول، أو كلها في الثاني إلا إذا قصد الميت إعطاءه ما زاد على أجرة مثله فيدفع له جميع المسمى إن كان غير الوارث، أما إن كان وارثا فأجرة المثل فقط. قال خليل: ودفع المسمى وإن زاد على أجرته لمعين لا يرث فهم إعطاؤه اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " ولو عين صفة فأحرم بغيرها لم يجزه " يعني إذا شرط الميت صفة من صفات الإحرام وعينها على الأجير وخالفه الأجير بأن أحرم بخلافها لم تجز عن الميت. قال بعضهم: أما لو كان الشرط من الوارث أو من وصي الميت وخالف الأجير تلك الصفة المشروطة من أحدهما فيجزئ وإلا فلا اهـ. قال خليل: أو خالف إفرادا لغيره إن لم يشترطه الميت، أي فيجزئ وإلا فلا اهـ. قال ابن عبد السلام: والحاصل أنه إذا خالف شرط الميت لم يجزئه، وتنفسخ الإجازة إذا خالفه إلى القران، سواء كان العام معينا أو غير معين، وإن خالفه إلى تمتع لم تنفسخ وأعاد إن لم يكن العام معينا، ونحوه في التوضيح، قال خليل: كتمتع بقران أو عكسه، أو هما بإفراد اهـ. ونحوه في التوضيح، قال خليل: كتمتع بقران أو عكسه، أو هما بإفراد اهـ. قال الحطاب: هذه أربع صور نص سند على عدم الإجزاء

فيها: الأولى: أن يشترط عليه التمتع فيأتي بالقران. الثانية: عكسها أن يشترط عليه القران فيأتي بالتمتع. الثالثة: أن يشترط عليه القران فيفرد. الرابعة: أن يشترط عليه التمتع فيفرد اهـ. وعبارة الخرشي أنه قال: وكذلك لا يجزئ الحج عن الميت إذا شرط على الأجير أن يحج عنه متمتعا فخالف وحج قارنا، لأنه أتى بغير المعقود عليه. وكذلك لو شرط عليه أن يحج متمتعا أو قارنا فخالف الأجير وحج مفردا، لأنه بغير المعقود عليه. وسواء كان المشترط لذلك في هذه الأربع هو الميت أو الوصي كما هو مقتضى كلامهم. وزاد سند فيما إذا خالف التمتع إلى الإفراد لا يجزئه أن يعتمر بعد الحج. قال: لأن الشرط لا يتناوله، فإن قيل الإفراد عندكم أفضل من التمتع ومن القران، قلنا الأجرة متعلقة بشرط الإجازة ولا ينظر إلى غيره، ألا ترى أنه لو استؤجر على العمرة فحج لم يجزئه، وإن كان لا يختلف أن الحج أفضل من العمرة اهـ مع التوضيح. ثم قال رحمه الله تعالى: " فلو أحرم عن نفسه انفسخت الإجازة " يعني كما في المواق عن ابن شاس: حكم الأجير أن ينوي الحج لمن حج عنه، وإن نوى لنفسه انفسخت الإجازة، إلا أن يكون استؤجر على عام لا بعينه اهـ. وفي الحطاب نقلا عن الطراز ونصه: إذا أحرم الأجير عن الميت ثم بدا له فصرف إحرامه لنفسه لم يجزه عن حجه عن نفسه ولا عن حج الإجازة، لأنه قصد بالفعل نفسه دون المستأجر، فلا يستحق أجرة في عمل لم يقصد به عمل الإجازة اهـ. وكذا نقل في الذخيرة عن القرافي قال: إذا أحرم الأجير عن الميت ثم صرفه لنفسه لم يجز عن واحد منهما اهـ. وفي الجواهر الإكليل للشيخ صالح الآبي الأزهري عند قول خليل أو صرفه لنفسه: أي صرف الإحرام لنفسه فلا يجزئ عن الميت ولا عن الأجير، فتفسخ وترد الأجرة لأنه خلاف شرطه، ولأن الحج لا ينتقل لغير من وقع له وسواء كان العام معينا أم لا اهـ.

فصل في مواقيت الحج والعمرة

قال رحمه الله تعالى: " ومن تطوع أو حج عن غيره قبل فرضه كره ووقع على ما نواه " يعني أنه يكره أن يحرم بالحج تطوعا أو عن غيره قبل أداء حجة الإسلام. قال القاضي عبد الوهاب: وإنما كره أن يحج عن غيره قبل نفسه لقوله صلى الله عليه وسلم للذي سمعه يقول لبيك عن شبرمة، قال من شبرمة؟ قال أخ لي، قال حججت؟ قال لا، قال: " حج عن نفسك ثم عن شبرمة " قال شيخ مشايخنا محمد علي المالكي في إيضاح المناسك، فلو نوى الإحرام بنافلة انعقد نافلة وحرم عليه ذلك ولم يجزه عن الفرض. قال وعند الشافعية يقع فرضا، ولو نوى النفل فالأسهل تقليدهم بعد الوقوع بلا مراعاة لهم في شروط الحج، لجواز التقليد بعد الوقوع، وجواز التلفيق كما في حاشية الخرشي اهـ. ولما أنهى الكلام على الإجازة والنيابة في الحج انتقل يتكلم على المواقيت، فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في مواقيت الحج والعمرة أي في بيان مواقيت الحج , وهي جمع ميقات. وأصله أن يجعل للشيء وقت يختص به كوقت الصلاة، ويطلق على المكان والزمان. قال بعضهم: المواقيت جمع ميقات وهو ما حدد ووقت للعبادة من زمان ومكان. وميقات الحج ينقسم إلى قسمين: ميقات زماني وميقات مكاني، وإلى الأول أشار رحمه الله تعالى بقوله: " الميقات زماني: شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة " قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] والأشهر جمع شهر، وأقل الجمع ثلاثة، وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة، يعني أن الوقت الزماني في الحج أوله إثبات هلال شهر شوال، وآخره بالنسبة للإحرام يمتد لقرب طلوع فجر يوم النحر. وفي إيضاح المناسك لشيخ مشائخنا العلامة محمد علي بن حسين الأزهري المكي المتوفى سنة 1367 هجرية أنه قال: الوقت الأكمل لإحرام الحج ابتداء شوال إلى مقدار ما يسع الوقوف

من ليلة النحر فيصح الإحرام به قبله مع الكراهة اهـ. وأما آخر وقته بالنسبة لتمام النسك فيمتد لكمال شهر ذي الحجة. ووقت الإحرام بالعمرة في حق غير محرم بحج جميع السنة. أما في حق المحرم بالحج فبعد أيام التشريق كما يأتي عن المصنف. ثم ذكر القسم الثاني وهو الميقات المكاني، فقال رحمه الله تعالى: " ومكاني ذو الحليفة، والجحفة، ويلملم، وقرن المنازل، وذات عرق " يعني هذه الخمسة هي المواقيت المكانية للحج والعمرة. وفي الموطأ عن عبد الله بن عمر أنه قال: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل المدينة أن يهلوا من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن " قال عبد الله بن عمر: أما هؤلاء الثلاثة فسمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ويهل أهل اليمن من يلملم " اهـ ولأحمد وأبي داود والنسائي " وقت النبي صلى الله عليه وسلم لأهل العراق ذات عرق " اهـ وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم: " وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم وقال: هن لهن ولكل آت أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة " اهـ. رواه الخمسة. وقال العلامة الدردير: ومكانه له - أي للحج - لمن بمكة مكة. وندب بالمسجد، وخروج ذي النفس لميقاته. ولها - أي العمرة - وللقران الحل، وصح بالحرم وخرج، وإلا أعاد طوافه وسعيه بعده وافتدى إن حلق قبله. ولغيره - أي غير المكي - لهما - أي بالنسبة للحج والعمرة - ذو الحليفة للمدني، والجحفة لكالمصري، ويلملم لليمن والهند، وقرن لنجد، وذات عرق للعراق وخراسان ونحوهما، ومسكن دونها، وحيث حاذى واحدا منها أو مر به ولو ببحر إلا كمصري يمر بالحليفة فيندب منها وإن حائضا، ومن مر غير قاصد مكة، أو غير مخاطب به، أو قصدها مترددا، أو عاد لها

من قريب فلا إحرام عليه، وإلا وجب، ورجع له وإن دخل مكة ما لم يحرم، ولا دم إلا لعذر كخوف فوات فالدم، كراجع بعد إحرامه، إلا أن يفوت فتحلل بعمرة اهـ. وقال الشيخ حسين بن إبراهيم في التوضيح: وأما الآفاقي القادم إلى مكة برا فميقاته مختلف: فميقات أهل مصر والشام والمغرب والتكرو الجحفة، ومنها رابغ على الراجح. وميقات أهل نجد قرن. وميقات أهل اليمن والهند يلملم. وميقات أهل العراق وخراسان ذات عرق. وميقات أهل المدينة ذو الحليفة، ويستحب الإحرام من أول الميقات إلا بذي الحليفة فالأفضل الإحرام من مسجدها لأنه محل إحرامه صلى الله عليه وسلم. ويجب على كل من مر بواحد من هذه المواقيت وهو يريد أحد النسكين أن يحرم من الميقات الذي مر به، أو محاذيها ولو كان غير ميقاته، إلا المصري ومن ذكر معه إذا مروا بذي الحليفة فالأفضل لهم أن يحرموا منها، ولهم التأخير للجحفة اهـ بتوضيح. ثم قال رحمه الله تعالى: " فهي لأهلها ومن مر بها " يعني أن المواقيت المذكورة هي لأهل الجهات التي كانت بها، وهي أيضا ميقات لمن مر بها من غير أهل تلك الجهات، لما تقدم في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: " هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة " الحديث. قال بعضهم في شرح هذا الحديث: والمراد بأن هذه الأماكن جعلت ميقاتا أن كل من يريد الحج لا يتعداها إلا وهو محرم، والإجماع على إجزاء الإحرام في مكان يسبقها حتى يوافيها محرما اهـ. قلت: قد أفتى العلماء المعتبرون من أهل العصر بوجوب الهدي على من تعدى الميقات على الطائرة وغيرها قبل الميقات المكاني لسقط عنه الدم، وإن كان الإحرام قبل الميقات مكروها، والكراهة لا تنافي الجواز، بل قد قال الحافظ أحمد الطبري في كتاب " القرى لقاصد أم القرى " والتقديم جائز بالإجماع، وإنما كرهه قوم اهـ فراجعه إن شئت.

قال رحمه الله تعالى: " فمن تجاوزه حلالا لزمه دم إلا أن يرجع غير محرم " يعني فمن تجاوز ميقاتا مكانيا حلالا وهو ممن يخاطب بالأحرار منه لزمه دم تعدي الميقات قال في التوضيح: المار بالميقات إما أن يريد مكة أم لا فإن كان لا يريد مكة، أو كان غير مخاطب بالنسك كالعبد والصبي فلا إحرام عليه، فإن بدا له دخول مكة بعد تعدي الميقات فأحرم فلا دم عليه ولو كان صرورة مستطيعا على تأويل ابن زيد، وصوبه ابن يونس كما في حاشية الخرشي، وإن كان يريد مكة وجب عليه الإحرام ولو لم يرد نسكا فلو دخلها بغير إحرام وجب عليه أن يرجع إلى الميقات ليحرم منه، إلا أن يغلب على ظنه فوات الحج أو الرفقة التي لا يجد غيرها فيحرم من مكانه الذي هو به ولا يرجع، ويلزمه هدي، وإن أحرم بعد تعدي الميقات وجب عليه الهدي ولو لم يرد نسكا لأن قصد مكة كقصد النسك كما في نقل ابن عرفة، واعتمدوه، سواء رجع إلى الميقات بعد الإحرام أم لا، أفسده أم لا لوجوب إتمام المفسد؛ لا إن فاته الحج فلا دم عليه حيث تحلل بفعل عمرة، وإن لم يتحلل بفعل عمرة وبقي على إحرامه لعام القابل فدم تعدي الميقات باق عليه مع دم الفوات، أما لو تحلل بفعل عمرة فلا يلزمه دم تعدي الميقات لأنه كأنه تعدى الميقات غير مريد نسكا ثم بدا له الإحرام بالعمرة فأحرم بها، فقد انقلب حجة لعمرة ولم يتسبب في فواته، فقد سقط عنه إتمام العبادة التي نقصها بترك الإحرام من الميقات وانقلبت لغيرها، ولا فائدة في جبران عبادة قد عدمت من أصلها، إذ لا بد من قضائها على الكمال كما في الخرشي اهـ بتصرف. قال رحمه الله تعالى: " ومن منزله بعد ميقات فهو ميقاته " يعني أن من كان منزله عند الميقات أو وراءه فميقاته منزله، فإن كان منزله قريبا من الميقات فيستحب له أن يذهب إلى الميقات ليحرم منه، فإن سافر إلى وراء الميقات فله التأخير إلى منزله، وله أن يحرم من الميقات. ومن كان منزله بين ميقاتين فميقاته منزله كأهل الصفراء وبدر، ومن

فصل في أركان الحج وكيفية الإحرام

كان منزله بين مكة والميقات كأهل جدة فميقاتهم منزلهم ويخيرون بين بيوتهم ومساجدهم، فإن أحرموا بعد أن تعدوا منازلهم فعليهم الهدي. ومن كان منزله في الحرم فميقاته منزله، ويستحب أن يكون إحرامه في المسجد الحرام. قال في توضيح المناسك: أما أهل مكة والمستوطنون بها فالمستحب لهم أن يحرموا من مكة إن أرادوا الإحرام بالحج مفردا. والأفضل الإحرام من المسجد الحرام. وإنما كان هذا هو الأفضل لأن مكة ليست من المواقيت؛ لأن المواقيت أقتت لئلا يدخل الإنسان إلى مكة بغير إحرام، فمن كان عند البيت فليس البيت ميقاتا له، بدليل أن المعتمر لا يحرم منها، والمواقيت يستوي في الإحرام منها الحج والعمرة اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ومكة ميقات أهلها، والمعتمر يخرج منها إلى أدنى الحل، وفي المكي منها خلاف، ولا يدخل أفقي (¬1) مكة إلا محرما " يعني كما قال خليل في منسكه. فمن يحرم منها لا بالعمرة فلا بد أن يخرج منها إلى أدنى الحل من أي جهة كانت. والأفضل الجعرانة أو التنعيم. ولا يحرم بالقران أيضا إلا من الحل على المشهور خلافا لعبد الملك. وإنما قلنا إنه يخرج في العمرة لأن كل إحرام لا بد فيه من الجمع بين الحل والحرم اهـ. ولما أنهى الكلام على ما تقدم من بيان المواقيت الزماني والمكاني انتقل يتكلم على الأركان فقال رحمه الله تعالى. فَصْلٌ في أركان الحج وكيفية الإحرام أي في بيان أركان الحج والأركان جمع ركن وهو ما لا ينجبر بالدم، بل لا بد من الإتيان به. وأركان الحج أربعة: النية، والحضور بعرفة في جزء من ليلة عاشر ذي الحجة، ¬

(¬1) وفي نسخة الآفاق، وأصلحها بعض المحققين بقولخ: أفقي بإفراد آفاقي وهو الآتي من نواحي الأرض اهـ.

وطواف الإفاضة، والسعي. وأركان العمرة ثلاثة: النية، والطواف، والسعي. وإلى ذلك أشار رحمه الله تعالى بقوله: " أركان الحج أربعة: الإحرام، والوقوف، والطواف، والسعي " يعني أن أركان الحج عند معاشر المالكية أربعة كما تقدم: الأول الإحرام، وحقيقته نية الدخول في أحد النسكين مع قول أو فعل يتعلقان به كالتلبية، والتوجه على الطريق كما قال خليل في منسكه. وأما حقيقة الوقوف فهو أيضا كما تقدم حضور بعرفة بإحرام في جزء من ليلة عاشر ذي الحجة ولو مارا، علم بأنه بعرفة ونوى. وأما الطواف المراد به هنا طواف الإفاضة الذي يكون بعد رمي جمرة العقبة، فهو ركن بلا خلاف. وأما السعي فالمشهور أنه ركن خلافا لأبي حنيفة. قال الصاوي: اعلم أن الركن هو ما لا بد من فعله ولا يجزئ عنه دم ولا غيره، وهو الإحرام والطواف، والسعي، والوقوف بعرفة. وهذه الأركان ثلاثة أقسام: قسم يفوت الحج بتركه ولا يؤمر بشيء وهو الإحرام. وقسم يفوت بفواته ويؤمر بالتحلل بعمرة وبالقضاء في العام القابل وهو الوقوف، وقسم لا يفوت بفواته ولا يتحلل من الإحرام، ولو وصل لأقصى المشرق أو المغرب رجع لمكة ليفعله وهو طواف الإفاضة والسعي، والثلاثة غير السعي متفق على ركنيتها. وأما السعي فقيل بعدم ركنيته وإن كان قولا ضعيفا، وبه قال أبو حنيفة اهـ. انظر بلغة السالك. ثم قال رحمه الله تعالى: " فالإحرام ثلاثة أضرب " يعني أن الإحرام له أنواع ثلاثة، وعبر بها بعضهم بالأقسام، وبعضهم بالأوجه، وبعضهم بالأضرب كالمصنف، وكلها معنى واحد، وهي الإفراد، والقران، والتمتع. وعدها بعضهم خمسة أنواع باعتبار مطلق الإحرام، وإحرام بما أحرم به والده مثلا. وأشار رحمه الله تعالى إلى النوع الأول فقال: " إفراد وهو أفضلها " يعني أن الإفراد هو أفضل أوجه الإحرام، بأن يحرم بالحج وحده. قال في الرسالة: والإفراد بالحج أفضل عندنا من التمتع ومن القران. وفي توضيح المناسك: وأوجهه - أي الإحرام - خمسة: أولها: الإفراد، وهو أفضلها لأنه لا هدي فيه، ولأنه

صلى الله عليه وسلم حج مفردا قلت: بشهادة حديث عائشة أم المؤمنين أنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أفرد الحج كما في الموطأ. والإفراد: هو أن يحرم بالحج بأن ينوي بقلبه الدخول في حرمة الإحرام بالحج مفردا، وهو أفضل عند مالك. وينوي به حج الفرض إن لم يكن حج الفرض، أو فرض الكفاية إن كان حج الفرض ليثاب عليه ثواب الواجب، فهو أفضل من كونه ينوي به التطوع اهـ. ثم ذكر النوع الثاني من أنواع الإحرام فقال رحمه الله تعالى: " وتمتع وهو أن يأتي الأفقي بالعمرة أو بعضها في أشهر الحج، ثم يحج من عامه قبل رجوعه إلى أفقه، أو مثل مسافته، ويلزمه به الهدي إلا لحاضري المسجد الحرام " يعني أن من حج متمتعا يلزمه هدي بأربعة شروط. أولها: عدم الاستيطان بمكة أو قربها وقت الإحرام، وأما من قدم محرما بعمرة في أشهر الحج ونيته الاستيطان فإنه يجب عليه هدي. ثانيها: أن يحج من عامه، ثالثها: أن لا يرجع بعد اعتماره وقبل إحرامه بالحج إلى بلده أو مثله ولو بالحجاز، لا لأقل إلا أن يكون بلده بعيدة كالإفريقي فيكفيه في سقوط الدم رجوعه إلى نحو مصر. رابعها: أن يفعل بعض أركان العمرة ولو بعض شوط من السعي في أشهر الحج، لا إن حلق للعمرة في أشهره فلا يكون متمتعا. ولا يشترط في التمتع صحة العمرة، فلو أفسد عمرته ثم حج من عامه بعد تمامها وقبل قضائها فهو متمتع، وعليه قضاء عمرته إذا حل من حجه وحجه تام، ولو كرر العمرة في أشهر الحج فعليه هدي واحد، ولا يشترط كون الحج والعمرة عن واحد، فلو حج عن نفسه واعتمر عن غيره لزمه الدم على الراجح. ولو أحرم بعمرة وحل منها في أشهر الحج ثم بقران فعليه هديان: هدي للتمتع وهدي للقران اهـ. ثم ذكر النوع الثالث من أنواع الإحرام فقال رحمه الله تعالى: " وقران: وهو جمع العمرة والحج في إحرام مقدما للعمرة لفظا أو نية أو يردف الحج عليها في أثنائها

ويلزم به الهدي " يعني أن القران يلي الإفراد في الفضل مع وجوب الهدي، وله صورتان كما في توضيح المناسك: الأولى: أن يحرم بعمرة وحجة معا، فإن رتب في نيته بأن نوى أحدهما ثم الآخر وجب البدء بالعمرة، وإن لم يرتب بأن أحرم بهما بنية واحدة وقصد القران أو النسكين استحب له أن يقدم العمرة، الثانية: أن يردف الحج على العمرة بأن يحرم بالعمرة أولا ثم يردف عليها الحج، ويصح الإرداف بلا كراهة ما لم يكمل طواف العمرة فإن أردف في طوافها كمل الطواف تطوعا للزومه بالشروع، فلا يسعى بعده واندرج طوافها في طواف الإفاضة. ويصح مع الكراهة بعد الطواف وقبل تمام الركوع. ولا يصح بعد الركوع وقبل تمام السعي، فإن أحرم بالحج بعد كمال سعي العمرة وقبل الحلاق صح إحرامه، ولم يكن مردفا وحرم الحلق ويجب عليه هدي لوجوب تأخير الحلق عليه بسبب إحرامه بالحج، فإن حلق لم يسقط عنه الهدي، ولزمته فدية أيضا لحلقه وهو محرم. ويشترط في صحة الإرداف أن تكون العمرة صحيحة، فلو أفسدها بجماع مثلا ثم أردف الحج عليها لم يرتدف على المشهور. قال في أقرب المسالك: ووجب إتمامها فاسدة، ثم يقضيها وعليه دم اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " وتدخل العمرة في الحج " وما ذكره المصنف من قوله وتدخل العمرة في الحج مثله لابن جزي في القوانين الفقهية خلافا للمشهور في المذهب. قال خليل ولغا عمرة عليه كالثاني في حجتين أو عمرتين. وقال الخرشي: يعني أن العمرة لا ترتدف على الحج لضعفها وقوته، وكذلك لا ترتدف العمرة على مثلها، وكذلك لا يرتدف الحج على مثله لأن المقصود من الثاني حاصل بالأول. وأما إرداف الحج على العمرة فإنه يصح وضعفها؛ ولأنه يحصل منه ما لا يحصل منها، فالقسمة رباعية صح منها المسألة الأخيرة. ومعنى اللغو عدم الانعقاد اهـ. وفي الحطاب يعني أن من أحرم بحج ثم أحرم بعده بعمرة فإن العمرة لغو، وكذا إذا أحرم بحجة ثم أحرم بحجة أخرى، أو

بعمرة ثم أحرم بعمرة أخرى، فإن الحجة الثانية والعمرة الثانية لغو، يريد ويكره له ذلك اهـ. وقال المواق فيها: كره مالك لمن أحرم بالحج أن يضيف إليه عمرة ولا يلزمه شيء مما أردف، ولا قضاء ولا دم قران اهـ. وفي الموطأ عن مالك أنه سمع أهل العلم يقولون. من أهل بحج مفرد ثم بدا له أن يهل بعده بعمرة فليس له ذلك: قال مالك: وذلك الذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " فمريد الإحرام إذا أتى الميقات إن كان معه هدي قلده وأشعره " يعني أن مريد الإحرام إذا وصل إلى الميقات المكاني، وأراد أن يحرم بحج أو عمرة يندب له أن يقلد هديه إن كان معه، وأن يشعره هناك. قال في توضيح المناسك: يسن له أن يقلد هديه إن كان من الإبل أو البقر، ثم يشعره إن كان من الإبل سواء كان لها أسنمة أم لا، أو من البقر إن كان لها أسنمة، ولا تقلد ولا تشعر. والتقليد: شيء في عنق الهدي. والأفضل أن يكون شيئا مما تنتبه الأرض ويجعل فيه نعلين ويعلقه في عنق الهدي. والإشعار: أن يشق في الجانب الأيسر من السنام بادئا من جهة الرقبة إلى جهة المؤخر قدر أنملتين ونحو ذلك قائلا على جهة الاستحباب باسم الله والله أكبر ويستحب أن يكون مستقبل القبلة هو وهديه عند إشعاره، وأن يجعل الهدي عن يمينه، وأن يمسك خطامه بيساره، وأن يقدم التقليد على الإشعار. ويستحب أن يجلل الهدي إن كان من الإبل بأن يجعل من الثياب بقدر طاقته اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " واغتسل وصلى ركعتين نافلة استحبابا، ويتجرد عن محيط في إزار ورداء ونعلين، ثم ينوي ما يريد عقده ملبيا ومتوجها " قوله: عن محيط بضم الميم وبالحاء المهملة، وفي نسخة مخيط بالخاء المعجمة كما في الرسالة، وهما روايتان صحيحتان. والمعنى ثم بعد تمام التقليد والإشعار وما يتعلق بذلك يسن الغسل للإحرام، وهذا الغسل سنة من سنن الإحرام، ثم يتجرد عن المحيط والمخيط، يلبس

إزارا ونعلين، ويندب أن يكون الإزار والرداء أبيضين نظيفين. قال في توضيح المناسك: ويسن له بعد فعل ما تقدم أن يركع للإحرام ركعتين فأكثر إن كان متوضئا، وإلا بأن لم يجد ماء وكان مسافرا، أو كان مقيما ووجد ماء ولكن خاف باستعماله مرضا أو زيادته تيمم وركعها، ويستحب له أن يقرأ في الأولى {قل يأيها الكافرون}، وفي الثانية: {قل هو الله أحد}، فإن كان الوقت وقت نهي انتظر وقت الجواز، إلا أن يخاف فصلاها أغنته عن ركعتي الإحرام، والأفضل تخصيصه بركعتين، ويدعو الله عقب تنقله بأن يسأل الله العون على إتمام نسكه، ثم يركب راحلته وينوي ما أراد من حج أو عمرة ملبيا متوجها كما قال المصنف. والركوب في الحج والعمرة لمن قدر عليه أفضل من المشي للاقتداء به عليه الصلاة والسلام. ثم بعد نية الدخول في الإحرام يلبي. قال رحمه الله تعالى: " ولفظها " أي التلبية التي ينبغي الاقتصار عليها هي " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنغمة لك والملك، لا شريك لك " فهذه هي تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويستحب للملبي الاقتصار عليها، ففي البخاري عن ابن عمر " إن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيك اللهم لبيك " إلخ. ومثله عن عائشة أنها قالت: " إني لأعلم كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبي لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك " اهـ. قال رحمه الله تعالى: " يعاودها في كل صعود وهبوط وتلقي الرفاق ودبر الصلوات، ويلزم الدم بتركها جملة " يعني كما تقدم أن مريد أحد النسكين بعد أن يحرم يلبي حين توجهه إلى مكة. قال في الرسالة: ولا يزال يلبي دبر الصلوات، وعند كل شرف، وعند ملاقاة الرفاق، وليس عليه كثرة الإلحاح بذلك. فإذا دخل مكة أمسك عن التلبية حتى يطوف ويسعى ثم يعاودها حتى تزول الشمس من يوم عرفة

ويروح إلى مصلاها اهـ. انظره في الفواكه الدواني. وما كره من لزوم الدم بترك التلبية جملة هو كذلك. قال في إيضاح المناسك: فمن تركها من أول الإحرام إلى آخره لزمه هدي وكذا من فصل بينها وبين الإحرام بنصف يوم اهـ بتصرف. قال رحمه الله تعالى: " ثم إن كان الوقت واسعا أتى مكة لطواف القدوم " يعني إن كان بين إحرامه بالحج وبين الوقوف بعرفة وقت واسع وجب عليه أن يأتي مكة لطواف القدوم؛ ومفهوم الشرط أنه إن ضاق الوقت ولم يسع الطواف والسعي بعده وخاف بفعلهما فوات الحج فإنه يترك طواف القدوم ويتوجه إلى عرفة لإدراك الوقوف ولا يلزمه الهدي في ترك القدوم لأنه مراهق، ويكون السعي بعد الإفاضة. قال رحمه الله تعالى: " فيدخلها من التثنية العليا " قوله: فيدخلها الضمير عائد إلى مكة، يعني أن المحرم يدخل مكة من الثنية العليا، وهي التي يهبط منها على المقبرة المسماة بالمعلى التي بها أم المؤمنين خديجة، رضي الله تعالى عنها. قال في الرسالة: ويستحب أن يدخل مكة من كداء الثنية التي بأعلى مكة، وإذا خرج خرج من كدا، وإن لم يفعل في الوجهين فلا حرج اهـ. قال رحمه الله تعالى: " حتى يأتي المسجد فيدخل من باب بني شيبة " يعني كما في توضيح المناسك يستحب له أن يدخل المسجد من باب بني شيبة المعروف الآن بباب السلام، ويدور إليه إن لم يكن على طريقه كما هو ظاهر إطلاقهم. ويستحب له أن يقدم رجله اليمنى عند دخوله، وأن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم باسم الله اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وهذا مستحب كلما دخل المسجد الحرام أو غيره من المساجد. قال رحمه الله تعالى: " فإذا رأى البيت قطع التلبية " قال العلامة الشيخ محمد علي رحمه مولاه في إيضاح المناسك: وانتهاء التلبية بيوت مكة لمن أحرم بالعمرة أو الحج

أو القران من الحل، وحدود الحرم لمن أحرم بالعمرة من الميقات ولم يفته الحج فهل يقطعها عند بيوت مكة، أو إذا ابتدأ الطواف؟ قولان مشهوران. وانتهاؤها لمن بمكة إذا أحرم بالحج مفردا أو قارنا قبل زوال يوم التاسع الأقصى من الرواح للمصلى والزوال، وكذا من عاودها بعد سعي الحج الواقع بعد القدوم. وانتهاؤها لمن أحرم بعرفة بعد الزوال جمرة العقبة اهـ. ويستحب عند رؤية البيت أن يستحضر ما أمكنه من الخشوع، وأن يدعو بما أحب من أمر الدنيا والآخرة. وأهمها سؤال المغفرة، والموت على الإسلام، وكفاية هول الموقف، ورضوان الله تعالى، والنظر إلى وجهه من غير سابقة عذاب. وقال ابن حبيب: يستحب إذا وقع بصره على البيت أن يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام. وقال رحمه الله تعالى أي عند رؤية البيت: " وقال اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة وتكريما، وزد من شرفه وعظمه ممن حجه أو اعتمره تشريفا وتعظيما ومهابة وتكريما " قال ابن الحاج في مناسكه: ويكبر عند رؤية البيت قبل أن يقول هذا ثلاث تكبيرات. والحاصل أن التكبير والدعاء عند رؤية البيت مستحب، لأن الدعاء عند رؤية البيت مستجاب فيها الدعاء كما في الحديث. قال رحمه الله تعالى: " فيأتي الحجر الأسود فيقبله " يعني فإذا دخل المسجد لا يركع تحية المسجد فإن تحيته حينئذ الطواف، بل يقصد الحجر الأسود ويقبله بفيه إن قدر، وإلا فبيده ثم يضعها على فيه من غير تقبيل، وإن تعذر ذلك كبر بلا رفع يد على المشهور في المذهب. قال رحمه الله تعالى: " ويقول " أي عند شروعه في الطواف: " اللهم إيمانا بك، ووفاء بعهدك، وتصديقا بكتابك، واتباعا لسنة نبيك " سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله تعالى: " ويبتدئ الطواف منه " أي من الحجر الأسود لأن الابتداء

منه واجب بل الأولى الاحتياط بالوقوف قبله بقليل، فمن بدأ من غيره وأتم لمحل بدئه أجزأه الطواف وبعث بهدي إذا خرج من مكة، وإلا ابتدأه، انظره في إيضاح المناسك. قال رحمه الله تعالى: " فيطوف سبعة أشواط من وراء الحجر (¬1) جاعلا البيت عن يساره " يعني أنه يطوف سبعة أشواط، وإكمال سبعة أشواط شرط في صحة الطواف، فيعيده من بمكة إذا ترك شوطا أو بعض شوط منه مطلقا، ورجع على إحرامه واستأنفه إن خرج من مكة حيث كان الطواف ركنا، وبعث بهدي حيث كان واجبا ولا شيء عليه حيث كان نفلا. ويبني الشاك غير المستنكح على الأقل ويأتي بما شك فيه كالصلاة، فإن لم يبن كان كمن ترك شوطا أو بعضه، ويعمل بخبر من كان معه في الطواف ولو واحدا وقوله: من وراء الحجر بالكسر أي من وراء حجر إسماعيل، وأصله من البيت، فلو طاف الإنسان ماسحا بيده على جدار الحجر لم يصح طوافه إلا أنه إذا بعد عن مكة ينبغي أن لا يلزم بالرجوع بل يبعث بهدي مراعاة لمن يقول إن الحجر ليس من البيت. وقوله: جاعلا البيت إلخ، وأيضا كون البيت عن يسار الطائف شرط في صحة الطواف، فمن طاف والبيت عن يمينه أو وجهه أو ظهره للبيت لم يجزه. قال خليل: وجعل البيت عن يساره. قال الخرشي: يعني أن الطائف يجب عليه في طوافه أن يجعل البيت في دورانه عن يساره فكأنه لم يطف ورجع إليه ولو من بلده إن كان ذلك الطواف ركنا، وهذا هو المشهور لطوافه عليه الصلاة والسلام هكذا، وقوله: " خذوا عني مناسككم " وفي الصاوي على أقرب المسالك: المراد عن يساره وهو ماش مستقيما جهة أمامه، فلو جعله عن يساره إلا أنه رجع القهقرى من الأسود إلى اليماني لم يجزه. قال الحطاب: حكمة جعل البيت ¬

(¬1) لأن الله أمر بالطواف به لا بالطواف فيه.

عن يساره ليكون قلبه إلى جهة البيت ووجهه إلى وجه البيت؛ إذ باب البيت هو وجهه، فلو جعل الطائف البيت عن يمينه لأعرض عن باب البيت الذي هو وجهه ولا يليق بالأدب الإعراض عن وجوه الأمثال اهـ. قال رحمه الله تعالى: " الثلاثة الأول خببا، كلما مر بالحجر قبله وبالركن اليماني لمسه بيده " يعني أنه يطوف بالبيت سبعة أشواط ثلاثة خببا وأربعة مشيا كما في الحديث، ويسن استلام الحجر الأسود في أول شوط، ويندب في كل شوط، وكذلك اليماني لكنه باليد فقط. وعبر رحمه الله بالخبب وعبر غيره بالرمل وهما لفظان متقاربان في المعنى وكلاهما واردان. وفي الحديث الصحيح " كان عليه السلام إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثة ومشى أربعة، وكان يسعى ببطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة " اهـ أخرجه الشيخان عن ابن عمر. وفي الموطأ عن نافع " أن عبد الله بن عمر يرمل من الحجر الأسود ثلاثة أطواف، ويمشي أربعة أطواف " اهـ وفيه عن جابر بن عبد الله أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف " قال مالك " وذلك الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا اهـ. وفي الرسالة: سبعة أطواف ثلاثة خببا وأربعة مشيا. وقال خليل عاطفا على المندوبات: ورمل رجل في الثلاثة الأول ولو مريضا وصبيا حملا اهـ. وما ذكرناه من الخبب والرمل من أنهما لفظان متقاربان في المعنى هو كذلك؛ لأن الخبب فوق الرمل ودون الجري. والرمل فوق المشي مع هز المنكبين. قال العلامة الدردير على أقرب المسالك: والرمل الإسراع في المشي دون الخبب اهـ. وأما قوله: كلما مر بالحجر قبله إلخ قد روينا عن جابر بن عبد الله في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم قال: " حتى إذا أتينا البيت استلم الركن فرمل ثلاثة ومشى أربعة، ثم أتى مقام إبراهيم فصلى ورجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا ". وفي الحديث: " إن مسح الركن اليماني والركن الأسود يحط الخطايا حطا " اهـ. أخرجه النسائي.

ثم قال رحمه الله تعالى: " واستيفاء العدد شرط كالطهارة " يعني كما تقدم أن إكمال سبعة أشواط شرط في صحة الطواف فراجعه إن شئت عند قول المصنف فيطوف سبعة أشواط إلخ. وكما أن استيفاء العدد شرط في صحة الطواف كذلك الطهارة شرط في صحته. قال في إيضاح المناسك: الثاني: أي من شروط صحة الطواف طهارة الحدث الأكبر والأصغر في ابتداء الطواف ودوامه على الذاكر القادر وغيره، فلا يصح طواف المحدث ولو غلبة أو سهوا أو نسيانا. ولا يجوز له البناء على ما مضى بعد تطهره ولو بالقرب. وكذا يشترط في صحة الطواف طهارة الخبث على الذاكر القادر في ابتداء الطواف فقط، فلا إعادة على من لم يعلم بها إلا بعد فراغه. ولا يبطل طواف من علم بها في أثنائه، بل يبني على ما فعله بعد طرحها أو غسلها كمن رعف في أثنائه بشرط أن لا يمشي على نجاسة، وأن لا يبعد المكان جدا، وأن لا يتعدى موضعا قريبا اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فإذا فرغ صلى ركعتين، والأفضل وراء المقام " يعني فإذا انقضى الطواف بأن تم سبعة أشواط صلى ركعتين في أي موضع تيسر له ذلك من المسجد، لكن الأفضل أن يصليها خلف مقام إبراهيم امتثالا لقوله تعالى: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] قال في توضيح المناسك. ثم يصلي ركعتي الطواف، ويستحب له أن يقرأ في الركعة الأولى {قل يأيها الكافرون} [الكافرون: 1]، وفي الثانية: {قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1]، وإن اقتصر على الفاتحة أجزأه، ويستحب أن يركعهما بالمسجد وأن يكون خلف المقام إن لم يؤد إلى مروره بين يدي المصلين أو مرروهم بين يديه. وأما صحتهما ففي أي مكان حتى لو طاف بعد العصر أو بعد الصبح وأخر الركعتين فإنه يصليهما حيث كان ولو في الحل، ما لم ينتقص وضوؤه، وإلا فراجع حكم موالاة الطواف وركعتيه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ثم يخرج إلى الصفا فيرقى حتى يرى البيت فيتوجهه

ويكبر ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله لا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين " هذا الدعاء من الواردات. والمعنى أنه يفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع؛ لأنه عليه الصلاة والسلام استلم الحجر الأسود بعد ركعتي الطواف، ثم خرج إلى السعي من باب الصفا. قال بعضهم في منسكه: فلما دنا صلى الله عليه وسلم من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ} [البقرة: 158] الآية ثم قال: " أبدأ بما بدأ الله به " وفي رواية " ابدأوا " ثم رقي عليه حتى رأى البيت فاستقبله فوحد الله وكبره وقال: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده " ثم دعا، وقال هذا ثلاث مرات يدعو بين ذلك، ثم ينزل إلى المروة يمشي فلما انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا جاوز الوادي وأصعد مشى. هذا الذي صح عنه صلى الله عليه وسلم قبل وجود الميلين الأخضرين. وكان صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى المروة رقي عليها واستقبل البيت وكبر الله ووحده وفعل كما على الصفا حتى ختم السابع على المروة اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ثم ينزل فيسعى حتى يجاوز الميلين الأخضرين، ثم يمشي حتى يأتي المروة، فيفعل عليها كالصفا، وذلك شوط، ثم يأتي بتمام سبعة أشواط كذلك " وما ذكره رحمه الله مثله في الرسالة، ونصها: فإذا تم طوافه ركع عند المقام ركعتين، ثم استلم الحجر إن قدر، ثم يخرج إلى الصفا فيقف عليه للدعاء، ثم يسعى إلى الصفا، يفعل ذلك سبع مرات فيقف بذلك أربع وقفات على الصفا وأربعا على المروة اهـ قال ابن عاشر في المرشد المعين:

واخرج إلى الصفا فقف مستقبلا ... عليه ثم كبرن وهلا واسع لمروة فقف مثل الصفا ... وخب في بطن المسيل ذا اقتفا أربع وقفات بكل منهما ... تقف والأشواط سبعا تمما وادع بما شئت بسعي وطواف ... وبالصفا ومروة مع اعتراف وقول الناظم وادع بما شئت بسعي وطواف، إشارة إلى أن ليس في السعي والطواف دعاء مخصوص، بل يندب أن يدعو الطائف والساعي بما أحب من خيري الدنيا والآخرة. وكان عبد الله بن عمر، رضي الله عنه، يدعو وهو على الصفا يقول. اللهم إنك قلت: ادعوني استجب لكم، وإنك لا تخلف الميعاد، وإني أسألك كما هديتني للإسلام أن لا تنزعه مني حتى تتوفاني وأنا مسلم اهـ. رواه مالك في الموطأ. ومما يقال في الطواف " اللهم إني أعوذ بك من الشك والشرك والنفاق والشقاق وسوء الأخلاق " اهـ. أخرجه البزار. ولابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وكل بالركن اليماني سبعون ملكا، فمن قال اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار قالوا آمين " وعنه أيضا " من طاف بالبيت سبعا ولا يتكلم إلا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله محيت عنه عشر سيئات، وكتبت له عشر حسنات، ورفع له بها عشر درجات " اهـ. ويستحب القيام على الصفا والمروة للدعاء، وأن يطيل الوقوف. وكذلك يستحب أن يكثر قول لا إله إلا الله مع الصلاة على النبي في السعي بين الصفا والمروة وغير ذلك من أنواع الذكر بلا تخصيص بدعاء معين على ما اتفق عليه الأئمة؛ لأن الطواف والسعي ليس لهما دعاء مخصوص كما تقدم. ثم قال رحمه الله تعالى: " وهذا السعي هو الركن " أي هو ركن من أركان الحج

كما أنه ركن من أركان العمرة. وتقدم أن أركان الحج أربعة. الإحرام، والوقوف، والطواف، والسعي، فراجعه في أول الفصل إن شئت. قال رحمه الله تعالى: " فإن لم يأت بطواف القدوم، أو أخره عنه سعى مع طواف الإفاضة " يعني أن المحرم بالحج إن لم يطف طواف القدوم، بأن كان مرهقا وأخر السعي إلى بعد النزول من عرفة، فإنه يسعى بعد طواف الإفاضة هذا إن كان تأخيره السعي لعذر كما وصفنا، وإلا فعليه الهدي لوجوب تقديم السعي على الوقوف. وأما لو أحرم بحج من مكة كالتمتع، أو كان من أهلها فإنه يجب عليه إعادته بعد الإفاضة ما دام بمكة، فإن لم يعاوده حتى سافر إلى بلده وجب عليه أن يرسل بهدي لإيقاعه السعي بعد طواف التطوع؛ لأن طوافه قبل الوقوف تطوعا، ولا يلزم عليه الرجوع، بخلاف من لم يسع أصلا فإنه يرجع له وجوبا ولو وصل إلى أقصى المشرق أو المغرب؛ لأن السعي ركن على المشهور، خلافا لأبي حنيفة القائل إنه واجب ينجبر بالدم. وروى ابن قصار عن الإمام أن السعي واجب يجبر بدم وليس بركن، فحينئذ إن رجع إلى بلده يرسل بهدي فقط، لكن المشهور الذي عليه الجمهور الأول، فتنبه. قال رحمه الله تعالى: " وشرطه أن يكون عقيب طواف " يعني أن شرط صحة السعي أن يكون بعد تقديم طواف صحيح مطلقا. قال في توضيح المناسك: وشرط صحته في الحج والعمرة أن يتقدمه طواف تام صحيح سواء كان فرضا أو واجبا أو تطوعا، فلو سعى من غير طواف لم يجزه، فإن كان محرما بعمرة وجب أن يكون إثر طواف العمرة وإن كان محرما بحج أو بقران من الحل وجب عليه تقديم من ترك طواف القدوم. وتركهما معا كترك أحدهما أحدهما من حيث لزوم الدم، فإن أحرم بالحج من مكة، أو أردف الحج بالحرم فلا

يطوف ولا يسعى حتى يرجع من عرفة، وكذا يرخص للمراهق في تأخيره وهو من قدم في اليوم الثامن ومعه أهل أو في التاسع وإن لم يكن معه أهل، فإن أوقعه مطلقا سواء كان من حج أو عمرة بعد طواف تطوع أعاده ما دام بمكة، فإن لم يعاوده حتى بعد عن مكة لزمه الهدي اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ثم يخرج في اليوم الثامن إلى منى ويعاود التلبية " يعني كما في الرسالة: ثم يخرج يوم التروية أي يوم الثامن من ذي الحجة متوجها إلى منى فيصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، ثم يمضي إلى عرفات ولا يدع في هذا كله حتى تزول الشمس من يوم عرفة ويروح إلى مصلاها اهـ. وتقدم لنا عند قول المصنف ويعاودها في كل صعود وهبوط فراجعه إن شئت. قال في توضيح المناسك: ويكره التقديم إلى منى بقصد النسك قبل اليوم الثامن ولو بتقديم الأثقال. وإلى عرفات بقصد النسك قبل التاسع والتراخي في مكة إلى آخر النهار من ذلك اليوم من غير عذر، فإذا وصل إلى منى نزل بها حيثما تيسر له النزول. قال رحمه الله تعالى: " ويستحب المبيت بها فإذا صلى الصبح دفع إلى عرفة فينزل بها " يعني كما في توضيح المناسك، ويسن المبيت بها وأن يصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء، كل صلاة في وقتها قصرا إلا المغرب، وهذه الليلة يطلب إحياؤها، فليكثر فيها من الصلاة والدعاء والذكر، والسنة أن لا يخرج من منى حتى تطلع الشمس على ثبير، وإنما كان القصر سنة مع قصر المسافة لأجل السنة، والقصر لجميع الحجاج سواء المكي وغيره سنة في ذهابه للحج وفي رجوعه لبلده أيضا، حيث بقي عليه عمل من النسك بغيرها، وإلا أتم حال رجوعه، كمنوي راجع من مكة بعد الإضافة لمنى، فإنه لا يقصر في رجوعه لأنه وإن كان رجوعه لوطنه إلا أن عليه النزول بالمحصب وهو بغير وطنه اهـ.

قال رحمه الله تعالى: " فإذا زالت الشمس قطع التلبية وجمع بين الصلاتين ثم وقف، وعرفة كلها موقف إلا بطن عرنة، فإذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب دفع إلى المزدلفة " والمعنى كما ذكرنا في الرسالة المختصرة في صفة الحج، فإذا زالت الشمس من يوم التاسع وأنت بعرفة فاغتسل بإمرار اليد من غير إزالة الوسخ وصل الظهر والعصر مجموعتين جمع تقديم، ولا تصل النفل بينهما، ثم تذهب إلى موقف عرفة، وعرفة كلها موقف ما عدا بطن عرنة، ويستحب لك أن تقف موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت جبل الرحمة، وأن تستقبل القبلة وأنت متوضئ مشتغلا بالدعاء والذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والتضرع وسؤال العافية في الدنيا والآخرة وطلب المغفرة لنفسك ولوالديك ولمن أوصالك بالدعاء ولجميع المسلمين والمسلمات، ولا تزال مشتغلا مجتهدا بذلك إلى غروب الشمس، وبعد الغروب تقف قليلا وتنوي الوقوف الركن ولو بقدر سبحان الله، لأن الوقوف نهارا واجب ينجبر بدم، والوقوف الركن لا يكون إلا عند تحقق الغروب عند المالكية، ولذا أشار رحمه الله بقوله: " ومن خرج من عرفة قبل تواريها بطل حجه إلا أن يعود جزءا من الليل، ومن تركه نهارا متمكنا فعليه دم " قال مالك: إن عبد الله بن عمر كان يقول: من لم يقف بعرفة من ليلة المزدلفة قبل أن يطلع الفجر فقد فاته الحج، ومن وقف بعرفة من ليلة المزدلفة من قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج اهـ. قال في الموطأ: وتقرر لنا في دماء الحج أن نية الخروج من عرفة قبل الغروب من موجبات الهدي، فمن نوى الخروج من عرفة قبل الغروب ولم يخرج إلا بعد الغروب وجب عليه الهدي فإن خرج فعلا والحال أنه لم تغرب الشمس فقد فاته الحج إن لم يرجع قبل طلوع الفجر، وندب له التحلل بفعل عمرة، ووجب عليه القضاء والهدي في العام القابل اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فإذا أتى المزدلفة جمع بين العشاءين فإن لم ينزلها

لزمه الدم، والأفضل المبيت ويلتقط منها حصى الجمار، فإذا طلع الفجر أتى المشعر الحرام فصلى الصبح ووقف ذاكرا " يعني كما في صفة الحج إذا تحقق غروب الشمس من يوم عرفة تدفع بوقار وسكينة قبل صلاة المغرب حتى تصل إلى مزدلفة فتجمع بها المغرب والعشاء وتقصرها دون المغرب، ويسمى هذا الجمع جمع التأخير بأذان واحد وإقامتين، ولا تصل النفل بينهما. وأما الجمع بعرفة فإنه بأذانين وإقامتين، ولا تصل النفل بينهما. وأما الجمع بعرفة فإنه بأذانين وإقامتين لكل من الظهر والعصر على المشهور، ويسمى جمع التقديم. والنزول بالمزدلفة واجب، ويلزم في تركه الدم كما قال المصنف، ويستحب المبيت بها وأن يصلى الصبح في أول وقتها، وأن تقف عند المشعر الحرام مستقبل القبلة، وأن تكثير من الذكر والدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسفار، وأن تلتقط القبلة، وأن تكثر من الذكر والدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسفار، وأن تلتقط سبع حصيات لرمي جمرة العقبة. ومما ينبغي إحياء تلك الليلة بكثرة العبادة من الذكر والصلاة وغيرها، لما رواه الطبراني في التكبير عن عبادة بن الصامت مرفوعا " من أحيا ليلة الفطر وليلة الأضحى لم يمت قبله يوم تموت القلوب " اهـ. قال ابن جزي: إذا غربت الشمس يوم عرفة دفع الإمام والناس معه إلى المزدلفة، وهي ما بين منى وعرفة، وينصرفون على طريق المأزمين فيجمعون بالمزدلفة بين المغرب والعشاء مقصورة بعد مغيب الشفق، ويبيتون بها تلك الليلة، ومن صلى قبلها من غير على أعاد إذا أتاها، ولا ينزل ببعض المياه لعشاء أو استراحة، فإذا طلع الفجر صلوا الصبح بغلس ثم نهضوا إلى المشعر الحرام وهو آخر أرض المزدلفة فيقفون للتضرع والدعاء إلى الإسفار، ثم يدفعون منها قبل طلوع الشمس إلى منى ويخب في وادي محسر اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ثم يدفع قبل الطلوع إلى منى فيرمي بها جمرة العقبة بعد الطلوع بسبع حصيات " قال في توضيح المناسك: يستحب له إذا وصل إلى منى أن يرمي جمرة العقبة حين وصوله إلى هيئته ماشيا أو راكبا إلا أن يكون في إتيانه كذلك أذى للناس، فيحط رحله ويأتي إليها ماشيا. وأصل رميها واجب، ويندب المشي في غيرها،

ويدخل وقتها بطلوع الفجر أي في يوم النحر، ويمتد وقت أدائها إلى الغروب، وأفضله من طلوع الشمس إلى الزوال، والليل وقت قضاء لها، فإن أخر إليه لزمه دم، ويستحب أن يستقبلها حالة الرمي ومنى عن يمينه وطريق مكة عن يساره ثم يرميها بسبع حصيات متفرقا، فإن رماها من فوقها من الطريق العليا في أصل المرمى من تلك الجهة أجزأه ويستغفر الله. ولا يرمي يوم النحر إلا جمرة العقبة اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ثم ينزل فيحلق أو يقصر وينحر هديه " يعني إذا تم رمي جمرة العقبة بسبع حصيات فإنه يبادر إلى الحلق أو التقصير، وينحر هديه إن كان معه هدي، لكن يستحب تقديم النحر على الحلق وأن يفعلهما قبل الزوال بلا عذر مكروه؛ لأن الذبح بعده مكروه؛ لأن الذبح مقدم على الحلق لقوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّه} [البقرة: 196] وأول ما يفعل في يوم النحر الرمي ويجب تأخير الحلق والطواف، فتقديم الطواف قبل الرمي يوجب هديا، وتقديم الحلق يوجب فدية، وتقديمهما معا يوجب هديا وفدية. وأما تأخير الذبح عن الرمي وتأخير الحلق عن الذبح فمستحب كتأخيري الإفاضة عن الذبح. وحاصل ما يطلب في يوم النحر أربعة أشياء وهي: الرمي، والذبح، ثم الحلق، ثم الطواف، وإليها أشار بعضهم بقوله: " رنحط " الراء للرمي، والنون للنحر، والحاء للحلق، والطاء لطواف الإفاضة اهـ. ويجب استيعاب جميع الرأس بالحلق أو التقصير، والحلق أفضل، وإن أخره حتى رجع لبلده لزمه الهدي ولو قربت. وفي المدونة: والحلاق يوم النحر بمنى أحب إلي وأفضل، فإن حلق بمكة أيام التشريق أة بعدها، أو حلق في الحل في أيام منى فلا شيء عليه اهـ. قال الحطاب: لعله مقيد بأنه رحل ولم يرجع لبلده ليوافق ما في المدونة وهو قولها: وإن أخره حتى رجع لبلده لزمه الهدي، ولو قربت كما تقدم اهـ. فتقرر أن تأخير

الحلق إلى بلده يوجب الهدي، وكذلك الطول، كبعد خمسة أيام بعد أيام التشريق. ويكره الجمع بين الحلق والتقصير لغير ضرورة. ويتعين الحلق في الشعر القصير جدا، وفي عديم الشعر كالأقرع فيجر الموسى على رأسه، ويستحب استقبال القبلة حالة الحلق أو التقصير والبدء بالأيمن، وأن يذكر الله ويدعوه لأن الرحمة تغشى الحاج عند حلاقه، وكذلك يستحب إيقاع الحلاق بمنى من غير إيجاب، وأن يكون عند جمرة العقبة. ويتعين التقصير في حق الأنثى ولو بنت تسع، ويحرم عليها الحلق، لأنه مثله في حقها، والحرمة في حق الصغيرة متعلقة بوليها، وأما بنت أقل من تسع فيخير فيها بين الحلق والتقصير. والتقصير أن تأخذ المرأة قدر أنملة أو أقل أو أكثر، ويأخذ الرجل في تقصيره من قرب أصله استحبابا اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ثم يأتي مكة فيطوف طواف الإفاضة وهذا هو الركن " يعني إذا رمى جمرة العقبة وفعل ما ذكر بعدها من النحر والحلق فإنه يستحب له أن يأتي مكة لطواف الإفاضة ليتحصل له التحلل الأكبر، لأن التحلل الأصغر قد حصل برمي جمرة العقبة كما يحصل بخروج وقت أدائها ولو لم يرمها، وبرميها يحل لك كل شيء إلا الجماع ومقدماته، وعقد النكاح، والصيد فحرمتها باقية حتى يطوف طواف الإفاضة. ويكره الطيب، فلا فدية، وطواف الإفاضة به يحصل التحلل الأكبر وهو الركن الرابع من أركان الحج في حق من قدم السعي إثر طواف القدوم. وهو آخر أركانه. قال النفراوي في الفواكه: اعلم أنه قد تقرر أن للحج تحللين أصغر وأكبر، فالأكبر طواف الإفاضة لأنه يحل به كل ما كان محرما على المحرم، والأصغر رمي جمرة العقبة لأنه إنما يحل به غير النساء والصيد، ويكره معه مس الطيب، ومثل رميها بالفعل فوات وقت أدائها وهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، لأن الليل قضاء اهـ. وفي توضيح المناسك: ويستحب له أن يأتي مكة لطواف الإفاضة إثر الحلق في يوم النحر، وأن يدخلها طاهرا ليبادر بفعله،

وأن يطوف في ثوبي إحرامه، ثم يصلي ركعتي الطواف وجوبا، ثم يسعى سبعة أشواط إن لم يكن سعى بعد طواف القدوم كما تقدم. ويدخل وقت طواف الإفاضة بطلوع الفجر من يوم النحر ويستحب الرمل في الثلاثة الأشواط الأول منه للرجال فقط. ولا رمل في طواف لا سعي بعده اهـ، وفي صفة الحج: ثم تتوجه إلى مكة فتطوف بالبيت سبعة أشواط طواف الإفاضة وهو ركن من أركان الحج، وتسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط كذلك إن لم تقدم السعي بعد طواف القدوم، ثم ترجع إلى منى من يومك لأجل المبيت والرمي بعد زوال كل يوم ثلاث جمرات، كل جمرة بسبع حصيات، تبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، ثم الجمرة الوسطى، ثم الكبرى، تفعل ذلك ثلاثة أيام إن لم تتعجل، أو يومين إن تعجلت ثم تدفع إلى مكة اهـ. ومثله في الرسالة، ونصها: فإذا وصل إلى منى رمى جمرة العقبة بسبع حصيات مثل حصى الخذف، ويكبر مع كل حصاة، ثم ينحر إن كان معه هدي، ثم يحلق. ثم يأتي البيت فيفيض ويطوف سبعا ويركع، ثم يقيم بمنى ثلاثة أيام، فإذا زالت الشمس من كل يوم منها رمى الجمرة بمثل ذلك تلي منى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ثم يرمي الجمرتين كل جمرة بمثل ذلك، ويكبر مع كل حصاة، ويقف للدعاء بإثر الرمي في الجمرة الأولى والثانية، ولا يقف عند جمرة العقبة ولينصرف، فإذا رمى في اليوم الثالث وهو رابع يوم النحر انصرف إلى مكة وقد تم حجه وإن شاء تعجل في يومين من أيام منى فرمى وانصراف اهـ. وإلى جميع ذلك أشار رحمه الله تعالى فقال: " ثم يعود إلى منى فيبيت بها ليالي التشريق لرمي الجمار، فيرمي الأيام الثلاثة كل يوم بعد الزوال، ولا يجزئ قبله ولا ليلا، يبدأ بالجمرة السفلى فيرميها بسبع حصيات رميا لا وضعا، ويكبر مع كل حصاة، ويتقدم أمامها فيتوجه العقبة ويبتهل بالدعاء، ثم يأتي الوسطى فيفعل كذلك، ثم يأتي العليا وهي العقبة فيرميها " يعني إذا تم طواف

الإفاضة وجب عليه الرجوع إلى منى للمبيت والرمي، فالمبيت بمنى أيام التشريق واجب وتركه يوجب الهدي، إلا من رخص لهم وهو رعاة الإبل ومن ولي السقاية بمكة. قال في توضيح المناسك: يسقط المبيت عن الرعاة، فإذا رموا جمرة العقبة يوم النحر فلهم أن يذهبوا ويرخص لهم في تأخير رمي جمار اليوم الثاني، فيأتوا في الثالث فيرموا لليوم الثاني ثم للثالث ولا دم عليهم. قال ويسقط المبيت أيضا عمن ولي السقاية بمكة، فيرمي الجمار نهارا في كل يوم ثم يعود لمكة لأجل المبيت، ومن ترك المبيت بمنى ليلة كاملة أو جلها أو جميع الليالي لزمه الدم، ويشترط في المبيت بها أن يكون فوق جمرة العقبة وجمرة العقبة من منى كما في المجموع. فمن بات دونها جهة مكة لم يبيت بمنى اهـ. وأما الرمي فله شروط الصحة وشرط الكمال، فشروط صحته عشرة، الأول أن يكون في اليوم الأول من أيام النحر بعد الفجر وفي اليوم الثاني والثالث والرابع بعد الزوال. الثاني أن يكون بحجر. الثالث أن يكون رميا. الرابع أن يكون بيده. الخامس أن يكون على الجمرة وهي البناء وما تحته من موضع الحصا المجتمع أو السائل فيه. السادس الترتيب بين رمي الجمار الثلاث في اليوم الثاني والثالث والرابع من أيام النحر. السابع أن تكون الحصاة قدر حصى الخذف، واستحب مالك أن يكون أكبر منه قليلا. الثامن أن يكون الرمي لكل جمرة سبعا من المرات يقينا ولو بحصاة واحدة. التاسع أن لا ينوي بواحدة من المرات السبع نفسه وغيره وإلا لم تجز عن واحد منهما. العاشر عدم صرف الرمي بالنية لغير النسك اهـ وأما شروط الكمال وتسمى آداب الرمي فكثيرة، منها أن يكون بالأصابع لا بالقبضة، وباليد اليمنى لا باليسرى إلا إذا كان أعسر. ومنها تطهير الحصى إن كان متنجسا، وأن يلقطه بنفسه، وأن يكون غير مرمى به، ولو في عام مضى. ومنها أن يرمي الأولى والوسطى من جهة مسجد الخيف حال كونه مستقبلا طريق مكة، , وأن يستقبل جمرة العقبة حال رميها ومنى عن يمينه وطريق مكة عن يساره، وأن ينصرف بعد رميها من ورائها. ومنها أن يكبر

مع كل حصاة في جميع الجمار، ويفوت المندوب بمفارقة الحصاة ليده قبل النطق به ولو قبل وصولها لمحلها. ومنها أن يوالي بين رمي الحصيات في جميع الجمار، وأن يوالي بين رمي الجمار الثلاث في اليوم الثاني والثالث والرابع. ومنها أن يتقدم بعد رمي الجمرة الأولى والوسطى في الثاني والثالث والرابع أمام الجمرة فيقف مستقبل القبلة ثم يدعو قدر قراءة سورة البقرة بإسراع، ولا يقف للدعاء عند جمرة العقبة لضيق موضعها. ومنها أن يذهب إذا تحقق زوال الشمس من اليوم الثاني أو الثالث أو الرابع لرمي الجمار الثلاث قبل صلاة الظهر ماشيا متوضئا , وأن يذهب في يوم النحر لرمي جمرة العقبة حين وصوله من المزدلفة إلي منى بعد طلوع الشمس على هيئته ماشيا أو راكبا ما لم يؤذ أحدا وإلا حط رحله وأتى إليها ماشيا , قاله في الإيضاح اهـ. وأشار رحمه الله لبعض ما تقدم من شروط صحة الرمي بقوله: " والترتيب شرط فإن نكس أعاد ما نكس " يعنى أن ترتيب الجمار الثلاث شرط في صحة الرمي , فلا يصح رمي الجمرة الثانية حتى يكمل ومي الجمرة الأولى , ولا يصح رمى الثالثة حتى يكمل رمى الثانية , فلزم الابتداء بالجمرة الأولى التي تلي مسجد مني , ثم يرمي الوسطى , ثم يرمى جمرة العقبة , وإن نكس أعاد ما نكس بأن ابتدأ بالعقبة أو الوسطي في اليوم الثاني أو الثالث أو الرابع. قال الدردير: وصحته بترتيبهن لا إن نكس بأن قدم العقبة أو الوسطى أو ترك بعضا ولو سهوا. قال خليل في المختصر: وبترتبهن وأعاد ما حضر بعد المنسية وما بعدها في يومها فقط , وندب تتابعه. قال في توضيح المناسك: مثال ذلك لو نسي الجمرة الأولى من ثاني النحر، ثم رمى ثالث النحر بتمامه، ثم رمى رابع النحر بتمامه، ثم ذكر فإنه يرمي الجمرة المنسية وما بعدها وجوبا، وهي الجمرة الوسطى، ثم جمرة العقبة لأنه رمى باطلا لعدم الترتيب، ثم يرمي اليوم الرابع بتمامه استحبابا وهو مراده بقوله: ما حضر وقته وإنما أعاد الرابع لأجل استدراك فضيلة الترتيب؛ لأن الترتيب بين المنسي وما حضر وقته واجب

مع الذكر لا مع النسيان فلذا استحب إعادته، بخلاف ترتيب المنسيات في اليوم الواحد فإنه واجب ولو مع النسيان. وأما اليوم الثالث فإن رميه صحيح وقد خرج وقته. ومثاله في الصلاة لو نسي الصبح وصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم ذكر فإنه يصلي الصبح والمغرب والعشاء لبقاء وقتهما ولا يعيد الظهر والعصر لخروج وقتهما اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولا يرمي بما قد رمي به، ومن ترك المبيت ولو ليلة أو الرمي ولو حصاة لزمه الدم " قد تقدم البيان لهذا في جملة ما ذكرناه ولا حاجة في تكراره. قال رحمه الله تعالى: " ولو فضل في يده حصاة لا يدري من أيهن، يرمي في كل جمرة حصاة على الترتيب " (¬1) يعني كما قال خليل: وإن لم يدر موضع حصاة اعتد بست من الأولى. وقال الصاوي: حاصله أنه إذا رمى الجمار الثلاث ثم تيقن أنه ترك حصاة واحدة منها ولم يدر من أيها تركها، أو شك في ترك حصاة ولم يدر من أيها فإنه يعتد بست من الجمرة الأولى لاحتمال كونها منها فيكملها بحصاة، ثم يرمي الثانية والثالثة بسبع سبع، ولا دم عليه إن كمل الأولى وفعل الثانية والثالثة في يومه، فإن رمى الجمار الثلاث في يومين وحصل الشك في ترك حصاة ولم يدر من أي الجمار، وهل هي من اليوم الأول أو الثاني فإنه يعتد بست من الأولى في كلا اليومين ويكمل عليها ويعيد ما بعدها، ويلزمه دم التأخير رمي اليوم الأول لوقت القضاء اهـ وفي جواهر الإكليل فإن تحقق إتمام سبع الأولى وشك في الثانية منها ورماها بحصاة ورمى الثالثة بسبع وإن شك في الثالثة رماها بحصاة فقط اهـ. ¬

(¬1) ظاهر المتن أنه يرمي في كل جمرة حصاة ويصح الرمي وهذا لا يتفق مع ما نقله الشارح عن خليل، والصاوي.

قصيدة

قال رحمه الله تعالى: " ثم يدفع إلى مكة لطواف الوداع وهو آخر المناسك " يعني إذا تم أيام التشريق وتسمى الأيام المعدودات فإنه يتوجه إلى مكة لطواف الوداع الذي هو آخر أعمال الحج وهو مندوب. قال في الرسالة: فإذا رمى في اليوم الثالث وهو رابع يوم النحر انصرف إلى مكة وقد تم حجه، إلى أن قال: فإذا خرج من مكة طاف للوداع وركع وانصرف اهـ. قال خليل عاطفا على المندوب: وطواف الوداع إن خرج لكالجحفة لا كالتنعيم وإن صغيرا إلخ. قال النفراوي وغيره: ولا ينصرف من المسجد بعد الركعتين حتى يقبل الحجر، ولا يرجع القهقرى، وإذا فعل الطواف وأقام بمكة ولو بعض يوم أعاده إلا لشغل خف. والدليل على ندب طواف الوداع قوله صلى الله عليه وسلم: " لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت الطواف ". قال مالك: ولو أن رجلا جهل أن يكون آخر عهده الطواف بالبيت حتى صدر لم أر عليه شيئا إلا أن يكون قريبا فيرجع فيطوف بالبيت ثم ينصرف إذا كان قد أفاض اهـ. وفي الرسالة وغيرها: ويستحب لمن انصرف من مكة من حج أو عمرة أن يقول: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده اهـ. وقد تقدم أن طواف الوداع هو آخر أعمال الحج، وبعده لم يبق إلا الارتحال. قال أبو الحسن الشاذلي صاحب العزية في آخر باب الحج: خاتمة، إذا خرج الإنسان من مكة فلتكن نيته وعزمته زيارة النبي صلى الله عليه وسلم، إذ زيارته صلى الله عليه وسلم سنة مجمع عليها، وفضيلة مرغب فيها إلى آخر كلامه، رضي الله عنه. وسنذكرها في الخاتمة إن شاء الله وقد نظم بعض الصالحين قصيدة في المناسك ونقلنا منها أبياتا لما تضمنت من الفوائد العظيمة وهي هذه كما ترى قال رحمه مولاه: وما زال وفد الله يقصد مكة ... إلى أن بدا البيت العتيق وركناه

فضجت ضيوف الله بالذكر والدعا ... وكبرت الحجاج حين رأيناه وقد كادت الأرواح تزهق فرحة ... لما نحن من عظم السرور وجدناه فطفنا به سبعا رملنا ثلاثة ... وأربعة مشيا كما قد أمرناه كذلك طاف الهاشمي محمد ... طواف قدوم مثل ما طاف طفناه وسالت دموع من غمام جفوننا ... على ما مضى من عظم ذنب كسبناه ونحن ضيوف الله جئنا لبيته ... نريد القرى نبغي من الله حسناه فنادى بنا أهلا ضيوفي تباشروا ... وقروا عيونا فالحجيج قبلناه فيا مرحبا بالقادمين لبيتنا ... إلي حججتم لا لبيت بنيناه علي الجزا مني المثوبة والرضى ... ثوابكم يوم الجزا أتولاه فطيبوا سرورا وافرحوا وتباشروا ... وتيهوا وهيموا بابنا قد فتحناه ولا ذنب إلا قد غفرناه عنكم ... وما كان من عيب عليكم سترناه ومن بعد ما طفنا دخلناه دخلة ... كأنا دخلنا الخلد حين دخلناه ونلنا أمانة الله عند دخوله ... كذا أخبر القرآن فيما قرأناه فهذا الذي نلنا بيوم قدومن ... وأول ضيق للصدور شرحناه وصلى بأركان المقام حجيجنا ... وفي زمزم ماء طهورا وردناه وفيه الشفا فيه بلوغ مرادنا ... لما نحن ننويه إذا ما شربناه وبين الصفا والمروة الوفد قد سعى ... فإن تمام الحج تكميل مسعاه فسبعا سعاها سيد الرسل قبلنا ... ونحن تبعناه فسبعا سعيناه نهرول في أثنائها كل مرة ... فهاذاك من فعل الرسول فعلناه كذلك ما زلنا نحاول سيرنا ... نهارا وليلا عيسنا ما أرحناه إلى أن بدا إحدى المعالم من منى ... وهب نسيم بالوصال نشقناه

ونادى بنا حادي البشارة والهنا ... فهذا الحمى هذا ثراه غشيناه وبتنا بأقطر الثبير ملبيا ... فيا طيب ليل من منى قد أبتناه وفي صبحنا سرنا إلى الجبل الذي ... من البعد جئناه لحج وصلناه فلا حج إلا أن نكون بأرضه ... وقوفا وهذا في الصحيح رويناه إليه ابتدرنا قاصدين إلهنا ... فلولاه ما كنا لحج سلكناه وسرنا إليه قاصدين وقوفنا ... عليه ومن كل الجهات أتيناه وبعد زوال الشمس كان وقوفنا ... إلى الليل نبكي والدعاء أطلناه فكم خاضع كم خاشع متذلل ... وكم سائل مدت إلى الله كفاه وكم حامد كم ذاكر ومسبح ... وكم مذنب يشكو لمولاه بلواه ورب دعانا ناظر لخضوعنا ... خبير عليم بالذي قد أردناه ولما رأى تلك الدموع التي جرت ... وطول خشوع في خضوع خضعناه تجلى علينا بالمتاب وبالرضى ... وباهى بنا الأملاك حين وقفناه وقال انظروا شعثا وغبرا جسومهم ... وقد وفدوا والكل يطلب مولاه وقد هجروا أموالهم وديارهم ... وأولادهم والكل يرفع شكواه ألا فاشهدوا أني غفرت ذنوبهم ... ألا فانسخوا ما كان عنهم نسخناه فيا صاحبي من مثلنا في مقامنا ... ومن ذا الذي قد نال ما نحن نلناه على عرفات قد وقفنا بموقف ... به الذنب مغفور وفيه محوناه وقد أقبل الباري علينا بوجهه ... وقال ابشروا فالعفو فيكم نشرناه وقد كان جمع الظهر والعصر سنة ... لدى عرفات ذاك جمع فعلناه وظل إلى وقت الغروب وقوفنا ... وقيل ادفعوا فالكل منكم قبلناه أفيضوا وأنتم حامدون إلهكم ... إلى مشعر جاء الكتاب بذكراه

وسيروا إليه واذكروا الله عنده ... فسرنا وفي وقت العشاء نزلناه وفيه جمعنا مغربا وعشاءها ... ترى عائدا جمعا لجمع جمعناه وبتنا به حتى لقطنا حصاتنا ... هناك شكرنا ربنا ودعوناه ومنه أفضنا حيثما الناس قبلنا ... أفاضوا وغفران الإله طلبناه ونحو منى ملنا لنشهد نفعنا ... ونلنا بها ما القلب كان تمناه وبالجمرة القصوى بدأنا وعندها ... حلقنا وقصرنا لشعر حضرناه ولما حلقنا حل لبس مخيطنا ... فيا حلقة منها المخيط لبسناه ومن بعدها يومان للرمي عاجلا ... ففيها رمينا والإله دعوناه وإياه أرضينا برمي جمارنا ... وشيطاننا المرجوم ثم رجمناه وردت إلى البيت الحرام وفودنا ... نحن له كالطير حن لمأواه وطفنا طوافا للإفاضة حوله ... وفزنا به بعد الجمار وزرناه نطوف به والله يخصي ... ليسقط عنا ما نسيناه وأحصاه وبالحجر الميمون عجنا فإنه ... يمين لرب الخلق في الأرض صفحناه نقبله من حبنا لإلهنا ... وكم لثمة طي الطواف لثمناه وكم موقف فيه يجاب لنا الدعا ... دعونا به والقصد فيه نويناه وبعد تمام الحج والنسك كلها ... حللنا وباقي عيسنا قد أنخناه فمن شاء وافى الصيد والطيب والنسا ... فقد تم حج للإله حججناه ولما قضيناه للإله مناسكا ... ذكرناه والمطلوب منه سألناه فمن طالب حظا بدنيا فما له ... خلاق بأخراه إذا الله لاقاه ومن طالب حسنا بدنيا لدينه ... وحسنا بأخراه وذاك يوفاه وآخر لا يبغي من الله حاجة ... سوى نظرة في وجهه يوم عقباه

فصل في الفدية وما يتعلق بها من الأحكام

نطوف وداعا للرحيل بلادنا ... وأعيننا كالسيل إذ سال مجراه تداعت رفاقا بالرحيل فما ترى ... سوى دمع عين بالدماء مزجناه وودعت الحجاج بيت إلهها ... وكلهم تجري من الفرح عيناه لفرقة بيت الله والحجر الذي ... نقبله لله نطلب رحماه وبات حجيج الله بالبيت محدقا ... ورحمة رب العرش ثمة تغشاه ومن بعد ما طفنا طواف وداعنا ... رحلنا لمعى المصطفى ومصلاه وكم يا أخي في الحج من حكمة بدت ... فدونك منها بعض ما قد بسطناه ولنمسك العنان عن هذا الميدان. انتهى ما أردنا نقله من تلك القصيدة الميمونة مع تقديم وتأخير وتصحيح بعض المعنى، لله در ناظمها رحمه مولاه آمين. ولنرجع إلى ما نحن بصدده. ولما تم المناسك وكيفية الحج انتقل يتكلم في محرمات الإحرام مما يوجب الجزاء وغيره فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في الفدية وما يتعلق بها من الأحكام أي في بيان الفدية، وما يترتب فيها، وما يجزئ منها، وما لا يجزئ وكيفيتها، وأنواعها وما يجوز لبسه للمحرم، وما لا يجوز. وسيأتي تفصيله في ذلك إن شاء الله تعالى. قال رحمه الله تعالى: " يلزم المحرم الفدية بلبس المخيط لبسا معتادا ولو بإدخال كتفيه القباء " يعني أن المحرم ممنوع من لبس المخيط سواء كان محيطا بالجسد كالقميص , أو بالعوض كالخاتم. قال خليل عاطفا في تحريم لبس المخيط: وعلى الرجل محيط بعضو وإن بنسج أو أرز أو عقد كخاتم وقباء وإن لم يدخل كما. قال الخرشي: يعني وكذلك يحرم على الرجل بسبب الإحرام أن يلبس المخيط , فلو ارتدى بثوب مخيط , أو بثوب مرقع برقاع أو بازار كذلك فلا شيء عليه وهو جائز لأنه لم يلبسه. ولا فرق في

حرمة لبس المخيط بين أن يكون محيطا بكل البدن أو ببعضه, ولا فرق بين ما أحاط بنسج أو زر يقفله عليه أو عقد يربطه أو يخلله بعود. والمراد بالرجل الذكر حرا كان أو عبدا بالغا كان أو غير بالغ , وعلى وليه أن يجنبه المخيط مخيطا أو غيرة اهـ. قال المواق نقلا عن الكافي: لا يلبس المحرم قميصا , ولا مخيطا , ولا عمامة , ولا سراويل , ولا خفين , ولا بأس، أن يأتزر , كما له أن يرتدى إلا أنه يكره له أن يستتر بالمئزر عند ركوبه , ولا يشد فوق مئزره تكة ولا مخيطا , ولا بأس بلبس الهميان على البشرة , ونحوه المنطقة والحزام اهـ بتصرف. وقال في توضيح المناسك: والمحرم ضربان رجل وأنثى , فأما الرجل فإحرامه في وجهه ورأسه فيحرم عليه سترهما بما يعد ساترا من عمامة وقلنسوة وخرقة وعصابة وطين , ومثله من جعل على وجه دقيقا ونحوه كجير لأنه جسم ويعد ساترا عرفا. وأما بقيه بدنه فلا يحرم سترة بالإزار والرداء ونحوهما , وإنما يحرم سترة بالملبوس المعمول على قدر البدن أو عضو منه إذا لبسه باعتبار ما خيط له , وذلك كالقميص والسراويل والجبة والقبا ـ أي القفطان ـ سواء أخرج يديه من كمي الجبة أو القفطان أم لا , لأن ذلك في معنى الملبوس , فلو نكس القفطان مثلا بأن جعل أسفلة على منكبيه فلا فدية علية إذا لم يدخل رجليه في كميه وإلا افتدى. وفى معنى الخياطة التزرير , والنسيج , والتلبيد , والتخليل , والملصقة بعضه على بعض , ودرع الحديد اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولبس الخف إلا أن يعطيه أسفل من الكعب " يعني ويلزم المحرم الفدية بسبب لبس الخف إلا أن يقطع الخف أسفل من الكعب , لما في الموطأ من عبد الله بن عمر " أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تلبسوا القمص , ولا العمائم , ولا السراويلات , ولا البرانس , ولا الخفاف إلا أحدا لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما

أسفل من الكعبين , ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران أو الورس " اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والترفه بحلق شعر وتقليم ظفر وإزالة شعث وتطيب " قوله والترفه معطوف على المخيط , يعني ويلزم المحرم الفدية بسبب الترفه أي التنعم بحلق الشعر , وتقليم الظفر , وإزالة الشعث , أي الوسخ والتطيب , ومنه التدهن بدهن مطيب أو غيره كما يأتي مفصلا إن شاء الله. وهذا كله يستوي فيه الرجل والمرأة أي في تحريم ما ذكر ولزوم الفدية بذلك. قوله بحلق شعر يعني ترفه بحلق شعره بأن حلقه بعد الإحرام , أو أزال أكثر من عشر شعرات في موضع الحجامة أو غيرها ولو لضرورة فتلزم الفدية بذلك. قال في الإيضاح: ففي الشعر تلزم الفدية بإبانة أكثر من اثني عشر ولو لغير إماطة الأذى , وبإبانة اثنتي عشرة فأقل إن كان لإماطة الأذى , وإلا فحفنة من الطعام لمسكين , والحفنة هنا ملء يد واحدة متوسط اهـ. ومن الترفه قلم الأظفار. ومن قلم ظفرا واحدا أو أظافر لإماطة الأذى وجبت علية الفدية. قال في الإيضاح: وفي قلم الأظفار تلزم الفدية , وفي قلم ظفرين مطلقا إن لم يخرج للأول ما يترتب علية. وفي قلم ظفر واحد لإماطة الأذى كأن يقلقه طوله أو يريد مداواة جرح تحته , لا إن انكسر فقط فقطع المكسور بمقدار ما يزول به الألم فإنه يجوز ولا فديه , وفي قلم الظفر الواحد لا لإماطة أذى ولا لكسر أو لكسر بلا ألم حفنه تطعم لمسكين اهـ. ومن الترفه إزالة الوسخ بأن يغسل بدنه بقصد إزالة شعثه فتلزم عليه الفدية , وأما يغسل يديه بالأشنان والصابون ونحوهما وإنقاء ما تحت الأظفار من الوسخ فجائز اهـ. قاله في الإيضاح ومن الترفه مس الطيب كالمسك والعنبر وسائر العطريات ففيه الفدية إذا مسه , ومنه الحناء فمن اختضب بالحناء وكانت كالدرهم البغلي لزمه الفديه وإلا فلا , كجعل الحناء في فم جرح أو شربها أو حشو شقوق الرجلين بها كثرت أو قلت اهـ. ومن الترفه التدهن بدهن مطيب. قال في توضيح المناسك: يحرم على المحرم الرجل والمرأة دهن: اللحية والرأس , ودهن

الجسد أو بعضه لغير الضرورة أما لضرورة فيجوز الإدهان. وأما الفدية ففيها تفصيل. وحاصلة أنه إذا ادهن بدهن مطيب ففيه الفدية في أربع صور , وهي ما إذا ادهن لعلة أو لغير علة , وفي كل إما أن يكون دهن الجسد كله أو باطن كف يده ورجله فهذه أربع صور , فإذا ادهن بغير مطيب لغير علة ففيه الفدية أيضا مطلقا سواء دهن الجسد كله أو باطن الكف والرجل وهاتان صورتان , وإذا ادهن بغير مطيب لعلة في باطن الكف والرجل كشقوق فلا فدية عليه ولا حرمة اتفاقا , وإذا ادهن بغير مطيب لعلة في بقية الجسد ولو ظاهر يده ورجله ففي الفدية قولان , فالصور ثمان ويجوز له أكل السمن والزيت وسائر الأدهان التي لا طيب فيها وتقطيرها في الأذن اهـ. قال رحمه الله تعالى " وتغطية الرجل رأسه أو وجهة " يعني من الترفه تغطية الرجل رأسه أو وجهه بما يعد ساترا قال في العزبة: وإحرام الرجل في وجهه ورأسه فيحرم سترهما بما يعد ساترا كالعمامة والخرقة وكل ما ينتفع به من الحر والبرد ويحرم عليه لبس الخاتم اهـ قال فى توضيح المناسك: خاتمة تجب الفدية في جميع ما تقدم من اللباس الممنوع في حق الرجل والمرأة بشرط حصول الانتفاع من حر أو برد أو طول كاليوم , وما قارب اليوم كاليوم , وإلا فلا فدية عليه , وذلك كما لو لبس قميصا ونحوه لقياس ونحوه دون اليوم ولم ينتفع به ثم نزعه فلا فدية , وأما ما لا يقع إلا منتفعا به كحلق الشعر وما عطف عليه فالفدية فيه من غير تفصيل اهـ بتوضيح. ثم اعلم أن التجرد من المخيط واجب , فمن تركه لزمه الفدية ولو مع ضرورة , وإن كان لغير ضرورة فعليه الفدية والإثم معا. ثم ذكر رحمه الله تعالى إحرام المرأة فقال " والمرأة وجهها وكفيها " يعني كما قال الدردير: يحرم على الأنثى بالإحرام لبس مخيط بكف أو إصبع إلا الخاتم وستر وجهها , أي يحرم سترها إلا لفتنه بلا غرز وربط , وإلا ففدية اهـ. ومثله في المختصر , ونصه:

حرم بالإحرام على المرأة لبس قفاز وستر وجهه إلا لستر بلا غرز وربط , وإلا ففدية اهـ. قال رحمه الله تعالى " واكتحالها لغير ضرورة " يعني مما يوجب الفدية اكتحال المحرم للزينة ولو مع الضرورة. قال في توضيح المناسك: خاتمة في الكحل والحناء وإن اكتحل المحرم بمطيب وكان لضرورة جاز وفيه الفدية على الرجل والمرأة , وإن كان بغير مطيب فإن كان لضرورة الحر أو برد فالمندوب جوازه لهما ولا تجب عليهما الفدية على ما في المجموع وغيره. وقيل تجب عليهما , وقيل تجب على المرأة دون الرجل , وإن كان لغير ضرورة بأن كان للزينة فلا يجوز وفيه الفدية , وإن اكتحل بغير مطيب لقصد الدواء والزينة فقال ابن القاسم: عليه الفدية تغلبا لقصد الزينة اهـ. ومثله في إيضاح المناسك. ثم قال رحمه الله تعالى: " ولها لبس المخيط والخف وسدل ثوب على وجهها غير مربوط خوف فتنتها " يعني أن المرأة لها أن تلبس المحيط بالجسد كالقميص , أو بالعضو كالخف والخاتم , ولا فدية عليهما , ولا يجوز لها أن تلبس القفاز , كما يحرم عليها تغطية وجهها لكن أن تسدل الثوب على وجهها من غير ربط ولا غرز وإلا افتدت. قال في توضيح المناسك: وأما المرأة فإحرامها في وجهها وكفيها , فيحرم عليها ستر وجهها بنقاب وهو ما يصل للعيون , أو لثام على الفم أو برقع إلا أن تكون مخشية الفتنة فيجب عليها ستره بلا غرز وربط , بل تسدل شيئا عليه , فإن سترته غير مخشية الفتنة افتدت ولو لم تغرزه أو تربطه. وفي البناني: لها أن تسدل علي وجهها شيئا ولو لم تكن وخشية الفتنة ولا فدية عليها , ولو لصق بوجهها حيث قصدت الستر عن أعين الناس إذا كان بلا غرز ولا ربط , وإلا افتدت قطعاً اهـ قال رحمه الله تعالى: (وَبِلَفِّ خِرقَة عَلَى ذَكَرِهِ، وَشَدِّ تَعْوِيذٍ عَلَى عَضُدِهِ وَتِكَّةٍ أَوْ خَيْطٍ فَوْقَ إِزَارِهِ) يعنى من موجبات الفدية على المحرم الرجل فقط لبسُ المُحيط ببعض الأعضاء كلفّ الخرقة على ذكره، أو شد التعويذ على عضده، أو ربط تكة أو حبل

أو خيط أو غيرها على وسطه، فإذا لبس ذلك فوق الإزار لغير ضرورة عليه الإِثم والفدية، وإن كان لضرورة عليه الفدية فقط كما تقدم. ثم ذكر الأشياء التي لا توجب الفدية بفعلها فقال رحمه الله تعالى: (لا بِحَمْلِ مَتَاعِهِ لِلضَّرُورَةِ، وَشَدِّ نَفَقَتِهِ تَحْتَ إِزَارِهِ، وَتَسَاقُطِ شَعْرٍ بِحِكَّة أَوْ رِكَابٍ أَوْ تَخْلِيلِ وُضُوءٍ) يعني كما في توضيح المناسك قال: ويجوز له أن يحمل متاعه على رأسه إن كان محتاجاً بأن لا يجد ما يحمل خرجه لا بأجرة ولا بغيرها، وهذا لا فدية عليه. وكذا إذا كان فقيراً كأن يحمل حزمة حطب أو غيره ليتعيش بثمنها، أو يحمل شيئاً لغيره بأجرة كذلك فلا بأس بذلك. وأمّا لو كان غَنِيّاً وحمل بخلاً بالأجرة فلا يجوز ذلك وعليه الفدية، وإن حمل لكسر نفسه ففي عبد الباقي ينبغي المنع، وكلام أبي الحسن يفيد أنه لا شيء عليه كما في حاشية الخرشي اهـ. وقوله وشد نفقته إلخ قال في التوضيح أيضاً: وله أن يشد نفقته في وسطه على لحمه بأن يضعها في كمر أو نوار أو غير ذلك، سواء كان من جلد أو قماش ويدخل خيوط ما ذكر في الأثقاب، أو الكلاب، أو الإبريم مثلاً. وأمّا لو عقدها على جلده فإنه يفتدى. وله أن يضيف نفقة غيره إلى نفقته، فإذا ذهبت نفقة نفسه وأمكنه رد نفقة غيره وجب الرد، وإلا افتدى. وإن ذهب صاحبها وهو عالم افتدى، وإن لم يعلم أبقاها معه ولا شيء عليه اهـ. وقوله وتساقط شعر إلخ قال في التوضيح أيضاً: تنبيه لا شيء عليه فيما تساقط من شعر رأسه ولحيته عند وضوئه وغسله ولو كان للتبرد، ولا شيء عليه أيضاً إذا جريده على لحيته أو حمل متاعه على رأسه لحاجة أو فقر فتساقط شعر، ولا شيء عليه إذا أدخل أصبعه في أنفه لمخاطة ينزعها فتساقط شعر، وكذلك إذا تساقط بالركاب أو السرج، وله أن يحك جسده ولو يدميه إن تحقق عدم الهوامّ في محل الحكّ، وأن يحلق للحلال إن تحقق نفي القمل اهـ بإيضاح. ثم أراد رحمه الله بيان حقيقة الفدية وأنواعها قال: (وَهِيَ إِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ مُدَّيْنِ مُدَّيْنِ، أَوْ صِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ نُسْكُ شَاةٍ فَمَا فَوْقَهَا غَيْرَ مُخْتَصَّةٍ بِمكَانٍ)

ولا بزمان. يعني أن أنواع الفدية ثلاثة: إمّا إطعام ستة مساكين مدين مدين، أو صيام ثلاثة أيام ولو أيام منى أو ذبح شاة تجزئ أضحية وهي على التخيير، أي ولك أن تختار واحداً من أنواعها الثلاثة، ولا تختص الفدية بسائر أنواعها بمكان أو زمان إلا أن ينوي بالذبح الهدي فمحله حينئذ مكة أو منى بشروطها. قال العلامة الدسوقي: فيجوز الصوم في أي زمان , كما يجوز في أي مكان , وكذا يجوز الإطعام في أي زمان وفي أي مكان , وكذا يجوز له ذبح الشاة وإعطاؤها للفقراء في أي زمان وفي أي مكان اهـ. وهل الأفضل طيب اللحم كالضحايا أو كثرته كالهدايا؟ الراجح الثاني. ولا يجوز أكل الفدية , وإن أكل فعليه بدلها , ولو نوى بها الهدى على المشهور. قال العلامة الشيخ خليل في منسكة: تنبيه: إذا فعل ما يوجب الفدية فإن كان لضرورة فالفدية واجبة ولا إثم , وإن كان لغير ضرورة فالفدية والإثم , وربما ارتكب بعض العامة شيئا من المحرم وقال أنا أفتدي , متوهما أنه بالفدية يتخلص من الإثم , وذلك خطأ صريح وجهل قبيح وهو كمن قال أشرب الخمر والحد يطهرني اهـ. قال رحمه الله تعالى " وتعددت بتعدد موجبها لا يفعلها في فور أو مرض واحد " وفي نسخة بإسقاط أو مرض , والمعنى أن الفدية تتعدد بتعدد موجبها إلا أن يفعل موجبها في فور واحد أو في مرض واحد. قال خليل: واتحدت إن ظن الإباحة أو تعدد موجبها بفور , أو نوى التكرار , أو قدم الثوب على السراويل اهـ. ومثله في أقرب المسالك. وفي توضيح المناسك: فإن فعل موجبات الفدية بأن لبس وتطيب وحلق وقلم وأزال الوسخ وقتل القمل , فإن كان ذلك في وقت واحد أو متقارب ففدية واحدة , وإن كان ذلك في أوقات متباعدة تعددت الفدية. ويقال مثل ذلك في الحفنة. وكذلك تتحدد الفدية وإن تراخى الثاني عن الأول إن ظن الإباحة كالذي يطوف على غير وضوء في عمرته ناسيا ثم يسعى , ثم بعد أن تحلل من عمرته تبين فساد طوافه فاعتقد أنه خرج

فصل في الصيد وما يترتب فيه من الجزاء وعدمه

من إحرامه ففعل سائر الممنوعات التي توجب الفدية فلا يلزمه إلا فدية واحدة , وأما إن يظن الإباحة جهلا محضا فإن الفدية تتعدد , وكذا يلزمه فدية واحدة إن أعتقد أن الإحرام يرتفض ويباح له فعل الممنوعات فرفضه , وفعل جميع ما يوجب الفدية , ومنه من أفسد إحرامه بالوطء , ثم فعل موجبات الفدية متأولا أن الإحرام تسقط حرمته بالفساد وكذا تتحد الفدية إذا كانت نيته أن يفعل جميع ما يحتاج اليه من موجبات الفدية ولم يخرج للأول قبل فعل الثاني وألا تعددت , وكذا تتحد الفدية إذا نوى التكرار وهو أن يلبس لعذر مثلا ثم يزول فيخلع ما لبسه وينوي عند خلعه أنه إن عاد إليه العذر عاد إلى اللبس أو يتداوى بدواء فيه طيب ينوى أنه كلما احتاج إلى الدواء فعله , ومحل النية من حين لبسه لأجل العذر إلى حين نزعه. وأما من لبس ثوبا ثم نزعه ليلبس غيره , أو نزع ثوبه عند النوم ليلبسه إذا استيقظ فقال سند هذا فعل واحد متصل في العرف ولا تضره تفرقته في الحس اهـ. ثم انتقل يتكلم في تحريم الصيد فقال رحمه الله تعالى فَصْلٌ في الصيد وما يترتب فيه من الجزاء وعدمه أي في بيان أحكام صيد المحرم، ومن في الحرم ولو لم يكن محرما، وما يتعلق بذلك من تحريم أكل ذبحه، ووجوب جزائه إن قتله. قال الله تعالى في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] الآية دالة على منع الصيد مطلقا للمحرم ومن بالحرم، ثم خصصت الآية الثانية تحريم صيد البر دون البحر كما يأتي عن قريب. ولذا قال رحمه الله تعالى: " يحرم على المحرم اصطياد جميع البري طائرا كان أو غيره " والبري بفتح الباء نسبة للبر ضد البحر، ويحل صيد البحر. قال تبارك وتعالى في سورة المائدة: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ

وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] يعني يجوز صيد البحري للمحرم وغيره ولو في الحرم ويحرم صيد البري في الحرم ولو للحلال. وأما إذا خرج الحلال المقيم بالحرم إلى الحل وأتى بصيد نفسه أو للحلال فإنه يجوز له وللمحرم أكله. وحاصل ما في المقام: أن الحلال إذا خرج للحل وأتى بصيد منه وأدخله الحرم فيجوز له تملكه وذبحه , فإن كان من أهل الأفاق وجب عليه إرساله ولو أقام بمكة إقامة تقطع حكم السفر , فإنه ذبحه حرم عليه سواء ذبحه وهو بمكة أو خرج به عن الحرم , وإن كان أكله ولو بعد خروجه من الحرم دفع جزاءه سواء كان محرما أو حلالا. أما الحرم فواضح , وأما الحلال فلأنه لما أدخله الحرم صار من صيد الحرم. وإن كان من أهل مكة جاز له ذبحه وأكله ولو اشتراه من آفاقي صاده في الحل. وفي حاشية الخرشي: أنه يجوز للحلال المقيم بالحرم ذبحه في الحرم , ويباح أكله ولو كان الصائد له محرما قد تعدى ووهبه للحل في الحرم. وأما ما صيد بالحرم فلا يجوز ذبحه لساكن الحرم ولو كان الصائد حلالا اهـ. قال رحمه الله تعالى " وقتله وأكله " معطوف على يحرم , يعني يحرم على المحرم ومن بالحرم قتل الصيد البري , وبقتله يلزمه جزاؤه , ولا يجوز أكله لأنه ميتة. وحاصل المسألة أن من قتل حيوان البري لزمه الجزاء مثل ما قتل من النعم مطلقا باشر قتله بنفسه أو أمر غلامه بقتله , سواء قتله عمدا أو خطأ أو نسيانا , كان الصيد طائرا أو غيره مأكولا أو غير مأكول , وحشيا أو متأنسا , مملوكا لغيره أو مباحا , قتله المحرم في الحل أو في الحرم , وهو ميته لا يحل لأحد أكله اهـ وفي أقرب المسالك: وما صاده محرم أو صيد له , أو ذبحه أو أمر بذبحه , أو عليه فميتة كبيضه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " لا ما صاده حلال لغير محرم " فيجوز أكله كما تقدم. قال الدردير وجاز أكل ما صاده حل لحل كإدخاله الحرم وذبحه به إن كان من ساكنيه , أي أنه

يجوز لسكان الحرم أن يخرجوا للحل فيصطادوا ويدخلوا بالصيد الحرم فيذبحوه به وهو يجوز أكله لكل أحد , بخلاف غيرهم إذا اصطادوا بالحل صيدا وخلوا به الحرم فيجب عليهم إرساله , فإن ذبحوه به فميتة اهـ ومثله في الخرشي. وسئل مالك عما يوجد في لحوم الصيد على الطريق هل يبتاعه المحرم؟ فقال: أما ما كان من ذلك يعترض به الحاج ومن أجلهم صيد فإني أكرهه وأنهي عنه فأما أن يكون عند رجل لم يرد به المحرمين فوجده محرم فابتاعه فلا بأس به اهـ. وفي الحديث عن البهزي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يريد مكة وهو محرم , حتى إذا كان بالروحاء إذا حمار وحشي عقير , فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " دعوه فإنه يوشك أن يأتى صاحبه " فجاء البهزي وهو صاحبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله شأنكم بهذا الحمار , فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقسمه بين الرفاق " الحديث رواه مالك في الموطأ اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فإن صاده أو أحرم وهو معه لزمه إرساله "يعني فإن صاد مريد الإحرام صيدا وأحرم بأحد النسكين , أو أحرم والصيد معه لزمه إرساله والمشهور أن ملكه يزول عنه بنفس الإحرام , وأنه يجب عليه إرساله فلو أرسله صاحبه فأخذه غيره قبل لحوقه بالوحش ولم يزل بيده حتى حل صاحبه ليس له أخذه ممن أخذة , وهو لا خذه , فلو لم يرسله صاحبه بل أبقاء بيده حتى حل لوجب عليه أن يرسله , فلو لم يرفع صاحبه يده عنه حتى مات فإنه يلزمه جزاؤه , وكذلك يلزمه جزاؤه إذا أبقاه بيده حتى حل ثم ذبحه قاله الخرشي اهـ. وقال الدردير: وزال به ـ أي بالإحرام ـ ملكه عنه فيرسله إن كان معه لا ببيته ولو أحرم منه أى من بيته , فلا يلزمه إرساله بإحرامه من بيته على المعتمد. قال الصاوي: والفرق بين البيت والقفص أن القفص حامل له وينتقل بانتقاله , والبيت مرتحل عنه وغير مصاحب له اهـ. ومثله في الخرشي. قال رحمه الله تعالى " فأن عطب لزمه جزاؤه كما لو نفره , أو تعلق

بحبالته , أو سقط في بئر احتفرها لسبع ونحوه ذلك " يعني أنه إذا مات الصيد بأي سبب من الأسباب الذي تسبب المحرم في موته كمناولة سقوط , أو إشارة , أو أفزعه فوقع في حفرة وهلك , أو نصب له شركا ومات به , أو جرحه , أو نتف ريشه ولم يتحقق سلامته فعليه الحزاء في كل واحدة من ذلك فإن بري ناقصا فلا جزاء عليه على المشهور. وما ذكره من لزوم الجزاء بسبب هو المذهب. قال خليل: وبسبب ولو اتفق كفزعه فمات , أي فيلزم الجزاء بذلك عند ابن القاسم كما في الخرشي. ونصه: المشهور ـ وهو قول ابن القاسم في المدونة ـ أن الجزاء يلزم المحرم بالتسبب الاتفاقي , ومعناه أن المحرم لم يقصد قتل الصيد بوجه , وإنما اتفق أن الصيد رآه ففزع منه فعطف فمات فإنه يلزمه جزاؤه , لأنه من رؤيته , وكذلك يلزمه الجزاء إذا ركز رمحا فعطف فيه صيد اهـ. قال رحمه الله تعالى " فإن أكله فجزاؤه واحدا " يعني إذا أكل المحرم أو من بالحرم شيئا مما حرم عليه أكله فلا يتكرر عليه الجزاء بأكله بل عليه جزاء واحدا , وغاية أمره أنه يستغفر الله بأكله الميتة إذ كان ذلك اختبارا , وإن كان لمخمصة فلا جناح عليه في ذلك. وفي المواق: وما صاده المحرم فكالميتة لا يأكله حلال ولا حرام , ولو وداه ثم أكل من لحمه فلا جزاء عليه لما أكل كأكله الميتة. وفيها: ما صاده المحرم فأذى جزاءه فلا يأكله , فإن أكل منه لم يكن عليه جزاء آخر لأنه لحم ميتة وما لا يحل اهـ. وإليه أشار خليل بقوله: لا في أكلها. قال الخرشي: والمعنى أن المحرم إذا أكل من لحم صيد صاده , أو صيد له فأخرج جزاؤه فإنه لا يلزمه جزاؤه ثانيا إذا أكل منه ثانيا لأنه ميتة ولا يلزمه شيء لأكل الميتة على المشهور اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولو كسره وتركه مخوفا لزمه جزاؤه " وتقدم أنه إذا تسبب

في إيقاعه في المهالك بأي سبب كان ولم يتحقق سلامته لزم عليه الجزاء فراجعه إن شئت. قال رحمه الله تعالى: " فإن تلف فجزاءان لا إن برئ ولحق بالصيد " يعني إذا جرح المحرم الصيد , أو نتف ريشه , أو ضربه ضربا وجيعا مثلا وتركه مخوفا وشك في سلامته ودفع جزاؤه ثم تحقق موته فإنه يلزم عليه جزاء آخر إن تحقق تقدم الجزاء قبل موته وإلا فلا يتكرر , كما إن برئ ولحق بالوحش. قال خليل: وكرر إن أخرج لشك ثم تحقق موته. وقال الخرشي: قد علمت أن الجزاء لا يجب إلا بعد تحقق موت الصيد , فإذا جرح الصيد وغاب عنه ولم يعلم هل مات أم لا فأخرج جزاؤه على شك من موته ثم تحقق أنه مات بعد الإخراج فإنه يلزم أن يخرج جزاؤه ثانيا ولو كانت الرمية أنفذت مقاتله لأنه أخرج قبل الوجوب اهـ. ثم ذكر رحمه الله تعالى كيفية الجزاء وأنواعه فقال " ثم الجزاء مثل الصيد من الأنعام أو ما يقاربه خلقة " يعني أن جزاء الصيد أحد الثلاثة على التخيير: إما مثل ما قتل من النعم وهو الإبل والبقر والغنم , أو ما يقارب الصيد خلقه , أو قيمته طعاما , أو عدل ذلك صياما. ثم فسر الجزاء بقوله رحمه الله تعالى: " ففي النعامة بدنه " أي ففي قتل النعامة تلزمه بدنه تجزئ في الأضحية وإن عن صغيرة أو مريضة. وكذلك إذا قتل الزرافة تلزمه البدنة. قال رحمه الله تعالى: " وفي الظبي شاة كحمام الحرم " يعنى تلزم في قتل الظبي والضبع والثعلب شاه , كما تلزم شاة تجزئ في الأضحية بقتل حمام الحرم. قال الدردير: وفي الضبع والثعلب شاة كحمام مكة والحرم ويمامة بلا حكم اهـ. قوله بلا حكم راجع إلى ما بعد الكاف. وأما الظبي والثعلب فلا بد لهما من الحكم. وقد ورد في الموطأ أن عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف , رضي الله عنهما , حكما على رجل أصاب ظبيا بعنز. وأما ما لا مثل له كضب وأرنب

ويربوع وحمام الحل ويمامه وسائر الطيور فحكومة بأن يحكمها على القاتل بإطعام أو صيام كما يأتي عن المصنف. قال رحمه الله تعالى: " وفي حمام الحل حكومة " وتقدم أن حمام الحرم فيه شاة. وأما حمام الحل ويمامه ففيه حكومة. قال في إيضاح المناسك: وأما صيد الحمام واليمام بالحرم فلا تخيير في جزائه , بل يجب على الصائد في الواحدة شاة كالهدي بلا حكم فإن لم يجدها صام عشرة أيام. وإنما خرج حمام الحرم عن الحكومة التي هي الأصل في الجزاء لقضاء سيدنا عثمان فيه بالشاة. قال رحمه الله تعالى: " وفي حمار الوحش بقرة كالإبل " يعني وفي قتل حمار الوحش وبقره بقرة إنسية , وتقدم أن في قتل الزرافة بدنة. والزرافة هي إبل الوحش. وفي توضيح المناسك: فأما جزاء الصيد فهو على التخيير , وصفه التخيير أن يحكم القاتل حكمين عدلين فقيهن فيخيرانه بين أنواع الجزاء الثلاث: إما أن يخرج مثل ما قتل من الصيد أو ما قاربه , فمثل بقر الوحش وحماره بقرة , والنعامة بدنة , والفيل بدنة خراسانية ذات سنامين لقرب الفيل من خلقتها , والضبع والثعلب شاة. وأما ما صيد بمكة والحرم من الحمام واليمام وإن لم يتولد فيهما فإن قتل شيئا من ذلك والحال أنه بالحرم لزمه في كل واحدة شاة بلا حكم. فإن لم يجدها صام عشرة أيام. وأما إن كان بالحل فإنه يخير بين قيمته طعاما والصوم , كبقية الطير مطلقا سواء كان في الحل أو الحرم فإنه يخير بين الإطعام والصوم. ويخير أيضا بين الإطعام والصوم في الضب والأرنب واليربوع اهـ هذا كالتلخيص لما تقدم ثم قال رحمه الله تعالى: " أو قيمه الصيد حيا طعاما يطعمه المساكين مدا مدا , والكسر مسكينا ولا يلزمه تكميله ـ بل يندب ـ أو يصوم عن كل مد أو كسره يوما يحكم به ذوا عدل " يعنى كما في توضيح المناسك: وإما أن يخرج قيمة الصيد طعاما وذلك بأن يقال كم يساوى هذا الصيد من الطعام بمحل تلفه , فيقال كذا وكذا كمائه

مد فتدفع لفقراء محل التلف , فإن لم يكن للصيد قيمة في محل تلفه قوم بأقرب مكان له قيمة فيه , وكذا إن لم يكن بمحل التلف فقراء فإن الطعام المقوم به يدفع إلى فقراء أقرب مكان إلى موضع التلف، لكل مسكين مد بمده صلى الله عليه وسلم، ولا يجزئ التقويم ولا الإطعام بغير محل التلف أو القريب منه، ولا يجزئ زائد ولا ناقص عن مد لمسكين، وإما أن يصوم أياما بعدد الأمداد، وكمل لكسر المد يوما كاملا وجوبا لأن الصيام لا يتبعض. أما إذا اختار الإطعام فإنه يندب له تكميل المنكسر وبعد أن يخيره الحكمان بين هذه الأنواع الثلاثة، فإذا اختار أحدها حكما عليه به، ثم بعد ذلك له أن يتنقل عما حكما به عليه إلى غيره من الأنواع إلا أن يلتزم ما حكما به عليه فقولان، والراجح أن له الانتقال، إن عرف ما حكما به والتزمه اهـ. قال مالك رحمه الله: أحسن ما سمعت في الذي يقتل الصيد فيحكم عليه في أن يقوم الصيد الذي أصاب فينظر كم ثمنه من الطعام فيطعم كل مسكين مدا، أو يصوم مكان كل مد يوما، وينظر كم عدة المساكين فإن كانوا عشرة صام عشرة أيام، وإن كانوا عشرين مسكينا صام عشرين يوما عددهم ما كانوا وإن كانوا أكثر من ستين مسكينا اهـ الموطأ. قال رحمه الله تعالى: " وفيما لا مثل له إطعام أو صيام، وصغير الصيد ككبيره " وقد تقدم الكلام فيما لا مثل له من الصيد كضب وأرنب وقنفذ ويربوع وغيرها فراجعه إن شئت. وأما الصيد الذي له المثل الصغير منه والكبير والمعيب والسليم المأكول وغيره سواء في لزوم الجزاء في ذلك كالدية. قال رحمه الله تعالى: " وفي البيضة عشر ما في أمها " يعني كما في توضيح المناسك قال: إن كسر بيض الصيد، أو أنزله ناقصا، أو ضرب صيدا فألقى جنينا ميتا، ففي كل واحدة من البيض والجنين عشر دية الأم، والمراد بدية الأم قيمتها من الطعام أو عدله صياما، أي خير بين عشر قيمة أمه من الطعام وبين عدل ذلك صياما، بأن يصوم مكان كل مد يوما، وذلك فيما في جزاء أمه طعام، وهو غير حمام

الحرم ويمامه كما تقدم، وأما إن لم يكن في جزاء أمه طعام كالحمام واليمام إذا صيد بالحرم فإنه يلزم في جنينهما وبيضهما عشر قيمة الشاة طعاما، وهذا هو المراد بدية الأم هنا، فإن عجز عن عشر قيمة الشاة صام يوما. والمراد بالبيض غير المذر، وأما هو فلا شيء في كسره. وما ذكر في الجنين محله إن لم يستهل، فإن استهل فجزاؤه كأمه، ويندرج في أمه إن ألقته ميتا وهي ميتة. والاستهلال هنا كناية عن تحقق الحياة. وظاهر قول الشيخ خليل: والبيض أن فيه العشر من غير حكومة، كان بيض حمام أو غيره. وذكر سند أنه لا بد من حكم عدلين في البيض ولو كان بيض حمام الحرم. قال لأنه من باب الصيد والصيد لا بد فيه من حكمين اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى مخبرا بما استثناه الشارع، أي ما يباح قتله شرعا في الحل والحرم بقوله: " ويجوز قتل ما يخاف كالسباع، والحية، والعقرب، والزنبور , والفأرة , والحدأة , والأبقع , ودفع الصائل " يعني أنه يستثنى مما حرم قتله من الصيد ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور " اهـ رواه مسلم كما في الموطأ , قال شارحه: فنبه بالخمس على خمسه أنواع من الفسق: فنبه بالغراب على ما يجانسه من سباع الطير , وكذا بالحدأة وبالعقرب على كل ما يلسع كالحية والزنبور , وبالفأرة على ما يجانسها من هوام المنزل المؤذية , وبالكلب العقور على كل مفترس اهـ. وقال العلامة المحقق الشيخ حسين بن إبراهيم في توضيح المناسك: ويستثنى من ذلك أيضا الغراب والحدأة إن كبرا , وفي صغيرهما خلاف , والفأرة والعقرب والحية وابن عرس فيقتلهن المحرم والحلال في الحل والحرم وإن لم تبدأ بالأذى , وصغيرها ككبيرها , وكذا عادي السباع كالأسد والنمر والذئب ونحوها إن كبرت , ويكره قتل صغارها , فإن قتلت فلا جزاء في قتلها , وأما الكلب الإنسي فيجوز قتله في الإحرام وغيره ولا شيء في قتله.

وفي حاشية الخرشي: بل يندب قتله على المشهور. وكذا لا يجوز للحلال في الحرم قتل الوزغ , ويكره قتله للمحرم وعليه جزاؤه وهو إطعام حفنة. وفي حاشية الخرشي: المراد بالكراهة الحرمة. وفي الدسوقي: وقد يقال الإطعام في قتله على جهة للندب فلا ينافي أن الكراهة على بابها للتنزيه. ومثله في المجموع. ولا يقتل سباع الطير إلا أن تبدأ بالأذى. ويجوز قتل الزنبور وهو ذكر النحل، وإذا رأى الصيد معرضا للتلف فلا يجب عليه تخليصه، ويجوز للمحرم في الحل وفي الحرم ذبح ستة للأكل: الإبل، والبقر، والغنم ومن الطير البط والأوز. والدجاج اهـ. قوله والأبقع لأنه مذكور في الحديث وهو الغراب الذي فيه بياض وسواد. وقوله ودفع الصائل يعني مما يجوز قتله في الحل والحرم، بل يجب قتل كل مؤذ. والصائل هو الذي يصول ويعدو على الإنسان سواء آدميا كالمحارب، أو غيره كالكلب العقور، وهو كل ما يعقر الناس ويعدو عليهم كالأسد ونحوه كما في الموطأ. ثم قال رحمه الله تعالى: " ولا يحل صيد الحرم لحلال ولا لمحرم ولو رماه من الحل " يعني لا يجوز لأحد من المسلمين أن يقتل الصيد في الحرم لا لمحرم ولا لحلال، كما لا يجوز أكله وعليه جزاؤه، ولو كان الصائد من الحل والصيد في الحرم لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] الآية، كما تقدم. ثم ذكر مسألة من المسائل التي فيها اختلاف كمسألة الدلالة على الصيد وتفزيعه، أو سقوطه في بئر حفرها لماء فعطب فيها الصيد، ومنها هذه. قال رحمه الله تعالى: " وفي العكس خلاف كفرع شجرة الحل في الحرم وبالعكس " يعني إذا كان الصائد بالحرم ورمى الصيد في الحل ففيه خلاف، وأما لو كان الصائد بالحل ورمى الصيد في الحرم فلا خلاف في تحريمه ووجوب جزائه. وإن رماه على الغصن والأصل في أحدهما هل عليه الجزاء ولا يؤكل؟ أم يؤكل ولا جزاء؟ أم الجزاء على المحرم دون الحلال في الحل؟ في ذلك

خلاف، فقال أبو البركات الشيخ أحمد الدردير في أقرب المسالك: والجزاء بقتله مطلقا ولو برمي من الحرم، أو له أو مرور سهم بالحرم، أو كلب تعين طريقه، أو إرساله بقربه فأدخله وقتله خارجه، أو على كسبع أو نصب شرك له اهـ. قال خليل: ورمي منه أو له. وقال الخرشي: أي من رمى من الحرم صيدا في الحل فقتله فعليه الجزاء ولا يؤكل على المشهور نظرا لابتداء الرمية، وكذلك لا يؤكل الصيد اتفاقا وعليه أنه قتل صيدا في الحرم ولو أصابه في الحل فلا شيء عليه سواء قرب من الحرم أو بعد على المشهور اهـ. وقال المواق نقلا عن المدونة: ومن رمى صيدا في الحرم من الحل، أو في الحل من الحرم فقتله فعليه الجزاء. وقال الباجي عند قول خليل كسهم مر بالحرم: أي ومن رمى من الحل صيدا في الحل إلا أن سهمه يمر على الحرم، فقال ابن القاسم: لا يأكله وعليه جزاؤه اهـ. هذه المسألة من المسائل ذوات الخلاف كما تقدم. قال خليل: ورميه على فرع أصله بالحرم، أو بحل وتحامل فمات به إن أنفذ مقتله، وكذا إن لم ينفذ على المختار اهـ. وقال الخرشي: المشهور أيضا أنه لا جزاء في هذه الصورة، وهي شجرة ثابتة أصلها بالحرم ومنها فرع في الحل وعليه طائر فرماه الحلال بسهمه فقتله، لأنه في الحل وهو مذهب المدونة. وقال الأبي: إذا كان الفرع خارجا عن حد الحرم يؤكل ولا جزاء. قال العدوي في الحاشية: أي وهو خارج عن جدار الحرم ويؤكل. وأما لو كان الفرع مسامتا لجدار الحرم والطير فوقه فالظاهر أن فيه الجزاء كما لو كان الطير على الجدار نفسه، أو على غصن بالحرم وأصله في الحل، وأولى في الحرمة والجزاء وعدم الأكل إذا كان الغصن والأصل في الحرم اهـ. انظر شراح خليل والله أعلم تنبيه: اعلم أنه لم يذكر المصنف رحمه الله حكم قتل المحرم الجراد إلا عموم قوله يحرم على المحرم اصطياد جميع الصيد البري طائرا كان أو غيره. ونحن نذكر شيئا من ذلك فأقول كما قال الدردير: ولا شيء في الجراد إن عم واجتهد، وإلا فقيمته طعاما بالاجتهاد إن كثر، وفي الواحدة لعشرة حفنة، كتقريد البعير

والدود والنمل ونحوهما قبضة من طعام من غير تفصيل بين قليله وكثيره اهـ. قال في توضيح المناسك: ولا شيء في جراد عم ولم يتحرز من إصابته، وأما إذا لم يعم أو عم ولم يتحرز من إصابته ففي الواحدة منه إلى العشرة حفنة، وفيما زاد على العشرة قيمته طعاما سواء قتله عمدا أو نسيانا أو انقلب عليه في نوم، ومتى قلنا بجواز قتل المحرم لحيوان بري فشرط الجواز أن ينوي بقتله دفع أذيته أو لا نية له. ولا يجوز له أن يقتله بنية تذكيته فإن وقع ونزل حرم عليه ذلك، وفي الجزاء نظر، والأظهر عدمه اهـ. ثم انتقل إلى بيان حكم قطع الشجرة فقال رحمه الله تعالى: " ولا يجوز قطع شجره " أي لا يجوز للمحرم وغيره قطع شجر الحرم أو نباته الذي شأنه أن ينبت بنفسه إلا ما استثني منها لضرورة كما يأتي عن قريب. قال رحمه الله تعالى: " وكره الاحتشاش " أي في الحرم، وهو قول مالك في المدونة وغيرها أنه كره الاحتشاش في الحرم لمحرم أو حلال خيفة قتل الدواب، وكذلك للمحرم في الحال قال - أي الإمام - فإن سلموا من قتل الدواب فلا شيء عليهم، وأكره لهم ذلك. حمل أبو الحسن وسند الكراهة على بابها، وحمل ابن عبد السلام الكراهة في هذا على التحريم، قال أبو الحسن: أما لو تيقن قتل الدواب في الاحتشاش لمنع اهـ. قال رحمه الله تعالى: " بخلاف الرعي وقطع الإذخر والسنا وما غرس " يعني قد استثنوا من حرمة قطع الشجر أشياء مما ذكروه لحاجة الناس إليه. قال في توضيح المناسك: وحرم قطع ما ينبت في الحرم بنفسه ولو استنبت إلا الإذخر والسنا والسواك والعصا، وقطع الشجر للبناء والسكنى بموضعه، وقطعه لإصلاح الحوائط والبساتين، والهش وهو تحريك الشجر بالمحجن ليقع الورق ولا يخبط ولا يكسر، ويجوز قطع ما شأنه أن يستنبت وإن نبت بنفسه كخس وحنطة وبطيخ، ويجوز أن يرعى دوابه في الحرمين الشريفين في الشجر والحشيش اهـ.

ثم قال رحمه الله تعالى: " وحرم المدينة كحرم مكة، وفي جزاء صيده خلاف " يعني أن حرم المدينة المنورة بأنوار ساكنها عليه أفضل الصلاة والسلام كحرم مكة المكرمة، إلا أن صيدها اختلف فيه هل فيه الجزاء أم لا. المشهور في المذهب عدم الجزاء. وفي إيضاح المناسك نقلا عن توضيحها وحد الحرم المدني الذي يحرم فيه الصيد ما بين الحرار الأربع، والمدينة داخله في حريم الصيد، ولا جزاء في صيد المدينة على مشهور المذهب. وأما حرمها الذي يحرم فيه قطع الشجر فهو بريد (¬1) من كل جهة مبدؤه من سورها الآن الذي هو طرف بيوتها القديمة التي كانت في زمنه صلى الله عليه وسلم، فما كان خارجا عن سورها من البيوت يحرم قطع ما ينبت به، ولا يحرم قطع الأشجار التي بالمدينة، ويحرم نقل أجزاء الحرمين فإن وقع ففي وجوب رده إلى موضعه خلاف اهـ. قوله ويحرم نقل أجزاء الحرمين أي من الأحجار والأشجار والأغصان والكيزان المعمولة من ترابهما والأباريق ونحوها. كذا في كبير الخرشي اهـ. وحد الحرم المكي الذي يحرم فيه الصيد وقطع الأشجار من جهة المدينة أربعة أميال. والمبدأ من الكعبة والانتهاء للتنعيم المسمى الآن بمساجد عائشة، والعوام يسمونه عمرة، ومن جهة العراق ثمانية أميال للمقطع وهو اسم مكان، ومن جهة عرفة تسعة أميال إلى حد عرفة، ومن جهة الجعرانة تسعة أميال أيضا إلى موضع سماه التادلي شعب آل عبد الله بن خالد، ومن جهة جدة عشرة أميال لآخر الحديبية، فهي داخلة، بخلاف اهـ. قاله في توضيح المناسك. وقال ابن مؤلفها العلامة محمد عابد في حاشيته نقلا عن حاشية الخرشي: أول من نصب الحدود للحرم سيدنا إبراهيم عليه السلام، ثم قصي، وقيل إسماعيل، ثم قصي ثم قريش بعد قلعهم لها، ثم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عام الفتح، ثم عمر بن الخطاب، ثم ¬

(¬1) والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال.

فصل في دماء الحج مطلقا وسن الهدي وغيره مما يجزئ وما لا يجزئ

عثمان بن عفان، ثم معاوية، ثم عبد الملك بن مروان، ثم المهدي العباسي. وهؤلاء أظهروا ما حدده سيدنا إبراهيم بعد درسه لا أنهم أحدثوا حدودا من عند أنفسهم اهـ مع زيادة من الحطاب على منسك خليل. ثم اعلم أنه لا جزاء عندنا في قطع شجر الحرم، بل يجب على من قطعه الاستغفار كعقد المكاح. قال مالك في الموطأ: ليس على المحرم فيما قطع من الشجر في الحرم شيء، ولم يبلغنا أن أحدا حكم عليه فيه بشيء وبئس ما صنع اهـ وقال ابن جزي في القوانين: ولا يقطع شيئا من شجر الحرم يبس أم لا، فإن فعل استغفر الله ولا شيء عليه. وقال الشافعي: في الشجرة الكبيرة بقرة، وفي الصغيرة شاة اهـ. ثم انتقل يتكلم على دماء الحج فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في دماء الحج مطلقا وسن الهدي وغيره مما يجزئ وما لا يجزئ أي في بيان أحكام دماء الحج والعمرة أو غيرهما كالنذر، أما دماء الحج فهي على ثلاثة أنواع: الهدي والفدية وجزاء الصيد. قال رحمه الله تعالى: " دماء الحج كلها هدي إلا نسك الأذى " يعني أن دماء الحج كلها تسمى هديا إلا ما استثنى منها فهي فدية الأذى وجزاء الصيد، فكل منهما يختص بأحكام وشروط تأتي بمحلها إن شاء الله تعالى. قال خليل: وغير الفدية والصيد مرتب هدي، ثم ذكر مراتب الدماء فقال رحمه الله تعالى: " وأعلاه بدنة وأدناه شاة " يعني الأفضل ما يهدى به من الأنعام البدنة لكثرة لحمها. قال الصاوي: لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر هداياه الإبل، نحر في حجة الوداع مائة باشر منها ثلاثا وستين، ونحر علي سبعا وثلاثين. ويؤخذ من هذا الحديث أن مباشرة النحر بيده أفضل إلا للضرورة فيستنيب المسلم، لأن الكافر لا مدخل له في القرب، عكس الضحايا فإن الأفضل فيها الضأن لأنه صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين اهـ. قال خليل:

وندب إبل فبقر، قال الخرشي: قد علمت السلام كان أكثر هداياه الإبل. وضحى بكبشين ثم البقر، ثم الغنم لأن الأفضل في باب الهدايا كثرة اللحم، عكس باب الضحايا اهـ. وفي الرسالة: وأما في الهدايا فالإبل أفضل، ثم البقر، ثم الضأن، ثم المعز. وفي توضيح المناسك: ويستحب في الهدي واجبا كان أو تطوعا كونه من الإبل، ثم من البقر، ثم من الضأن، ثم من المعز، وكونه ذكرا وفحلا إن لم يكن الخصي أسمن، وكونه سمينا وأبيض وأقرن اهـ. وسيأتي في الضحايا أنه عليه السلام: " ضحى بكبش أقرن يطأ في سواد، ويبرك في سواد وينظر في سواد. زاد النسائي: ويأكل في سواد " رواه مسلم وغيره اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وتقليده تعليق نعل في عنقه، وإشعاره شق صفحة سنامه اليسرى " وفي الموطأ عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا أهدى هديا من المينة قلده وأشعره بذي الحليفة، يقلده قبل أن يشعره، وذلك في مكان واحد وهو متوجه إلى القبلة، يقلده بنعلين، ويشعره من الشق الأيسر ثم يساق معه حتى يقف به مع الناس بعرفة، ثم يدفع به معهم إذا دفعوا، فإذا قدم منى غداة النحر نحره قبل أن يحلق أو يقصر، وكان هو ينحر هديه بيده يصفهن قياما ويوجههن إلى القبلة ثم يأكل ويطعم اهـ. وقد تقدم الكلام في التقليد والإشعار في فصل أركان الحج عند قوله: " فمن يريد الإحرام إذا أتى الميقات إن كان معه هدي قلده وأشعره " فراجعه إن شئت. ثم قال رحمه الله تعالى: " وهو في السلامة والسن كالأضحية " يعني كما قال خليل: وسن الجميع وعيبه كالضحية. والمعتبر حين وجوبه وتقليده قال الشارح: والمعنى أن سن جميع دماء الحج من إبل وبقر وغنم: نسك، أو جزاء، أو هدي عن نقص أو نذر، أو تطوع. وعيبه مما يجزئ معه وما لا يجزئ كالأضحية الآتية في بابها. والمعتبر في مساواة الدماء بالضحايا في السن والعيب إنما هو من حين وجوبه وتقليده , لا يوم نحره

على المشهور اهـ. في توضيح المناسك: ويشترط فيه ـ أي في الهدي ـ سواء كان واجبا أو تطوعا من السن والسلامة من العيب ما يشترط في الأضحية. فالسن إن كان من الإبل أن يكون ابن خمس سنين ودخل في السادسة , وإن كان من البقر أن يكون ابن ثلاث سنين ودخل في الرابعة , وإن كان من الضأن أن يكون ابن سنه ودخل في الثانية أي دخول , فلو ولد الضأن يوم عرفة في العام الماضي كفى ذبحه يوم النحر , وأن كان من المعز أن يكون ابن سنة ودخل في الثانية دخولا بينا كشهر. والسلامة من العيوب أن لا يكون مكسور القرن يدمى , وأما إن برئ فيجزئ , وأن لا يكون دائم الجنون بأن كان لا يهتدي معه لما ينفعه ولا يتجنب ما يضره , وأن لا يكون بين المرض والجرب والبشم والهزال والعرج والعور , وأما خفيف ما ذكر فيجزئ. والمراد بالبشم التخمة. والمراد بين العور ذاهب بصر إحدى العينين , ولو كانت صورة العين قائمة. وكذا ذاهب أكثره , فإن كان بالعين بياض لا يمنع البصر أجزأ وأن لا يكون أبتر لا ذنب له ولا أبكم أي فاقد الصوت , ولا أبخر ولا يابس الضرع جميعه , فإن أرضعت الشاة ببعضه فلا يضر. ولا مشقوق أكثر من ثلث الأذن. ولا مكسور أكثر من سن إن كان لغير إثغار أو كبر , والواحدة لا تمنع الإجزاء على الأصح. ولا ذاهب ثلث الذنب ولا نصفه الأذى. ولا ناقص شيء من الأعضاء إلا إن كانت الخصية فلا يمنع الإجزاء. وأن لا يكون صغير الأذنين صغرا فاحشا , وأن لا تكون أمه وحشية وأبوه من الأنعام باتفاق. وكذلك إن كان أبوه وحشيا وأمه من الأنعام على المعتمد. والمعتبر في سلامته من العيوب المذكورة وقت التقليد والإشعار والتعيين , فلو كان سالما وقت تعيينه ثم طرأ عليه عيب أجزأ سواء كان واجبا وتطوعا على المذهب. ولو عين الهدى وهو معيب ثم سلم لم يجزه اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " فيوقفه بعرفة وينحره بمنى وما لم يوقف منحره مكة , وسبيل ولدها سبيلها " يعنى يجب أن يقف به بعرفة وينحره بمنى إن ساقه

في الحج , وإن لم يوقف بعرفة فمحل ذبحه مكة. قال في الرسالة: فمن قرن أو تمتع من غير أهل مكة فعليه هدى يذبحه أو ينحره بمنى إن أوقفه بعرفه , وإن لم يوقفه بعرفة فلينحره بمكة بالمروة بعد أن يدخل به من الحل , فإن لم يجد هديا فصيام ثلاثة أيام في الحج , يعني من وقت أن يحرم ألي يوم عرفة فإن فاته ذلك صام أيام منى وسبعة إذا اهـ. وقال خليل عاطفا على المندوبات: ووقوفه به المواقف , والنحر بمنى إن كان في حج ووقف به هو أو نائبه , كهو بأيامها وإلا فمكة. قال الحطاب: الاستحباب راجع لإيقافه جميع المواقف , وليس المراد أن إيقافه في كل موقف مستحب لأن إيقافه بعرفه شرط في ذبحه بمنى. وقال ابن هارون نقلا عن التوضيح: وأما اشتراط كون الوقوف بالهدى ليلا فلا أعلم في ذلك خلافا. لأن كل من اشترط الوقوف بعرفه جعل حكمه حكم ربه فيما يجزى من الوقوف اهـ. قال في توضيح المناسك: ويستحب إحضار الهدي المشاعر كالمشعر الحرام ومنى وعرفة ألا منحور منى فإحضاره عرفة واجب. ثم قال: اعلم أن الهدى مطلقا كان لنقص في حج أو عمرة , أو تطوعا لا بد فيه من الجمع بين الحل والحرم , فلا يجزئ ما اشترى بمنى وذبح بها لأن من الحرم. وكل هدي استوفى شروطا ثلاثة يجب ذبحه بمنى على الراجح. وقيل يندب. والوجوب ليس شرطا فيصح ذبحه بمكة مع الشروط: الشرط الأول أن يساق الهدى في إحرام حج , الثاني أن يقف به هو أو نائبه جزءا من الليل بعرفه , فلا يكفى وقوف التجار به , إلا إذا اشتراه منهم ووكلهم في الوقوف به , الثالث أن يكون ذبح الهدى أو نحره في يوم النحر أو تالييه , فإن فقدت هذه الشروط أو بعضها وجب ذبحه بمكة , والأفضل بمكة المروة , ومكة كلها منحر , ولا يجزئ ذبحه بمنى حينئذ , والأفضل بمنى عند جمرة العقبة , ولا يجوز النحر دونها مما يلي مكة لأنه ليس من منى اهـ مع طرف من الدسوقي. قوله: وسبيل ولدها سبيلها يعنى إذا ولدت الهدى ولدا فسبيل ولدها سبيل الأم يجب نحره معها حيث نحرت , هذا إذا ولدته بعد التقليد

والأشعار , وأما لو ولدته قبل ذلك فحمله ونحره معها مندوب إن أمكن , وإلا فحكمه كهدى التطوع إذا عطبت قبل محلها من أنها تنحر ويترك بينها وبين الناس يأكلون , ولا يأكل هو , فإن أكل منها شيئا ضمن بدله. قال خليل: وحمل الولد على غير إلخ قال الخرشي: يعني أن الإنسان إذا أهدى بدنه وقلدها وأشعرها ثم ولدت فإنه يلزمه أن يحمل ولدها وجوبا معها ألي مكة , إذ لا محل له دون البيت , فإن لم يجد غيرها يحمله عليه على أمه إن كان فيها قوة , وإن نحره دون البيت وهو قادر على تبليغه هدى بدله , فإن لم يمكن حمله عليها لعجزها عن ذلك إما لضعفها أو لخوف موتها فإنه يتركه من يحفظه حتى يشتد , فإن لم يمكن تركه عند من يحفظه بأن كان في فلاة من الأرض مثلا فإنه يصير حكمه كهدي التطوع , وإن كانت من الهدى الواجب. قاله عبد الملك اهـ. ثم انتقل في بيان ما تقدم من الترتيب في الهدي بعد العجز عن الذبح فقال رحمه الله تعالى " فمن عدمه صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع " تلك عشرة كاملة كما في الآية. في المدونة إنما يجوز الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج إن لم يجد هديا صام قبل يوم النحر ثلاثة أيام وسبعة إذا رجع , فإن لم يصمها قبل يوم النحر صامها أيام التشريق يفطر يوم النحر الأول ويصومها فيما بعد يوم النحر , فإن لم يصمها في أيام التشريق فليصمها بعد ذلك إذا كان معسرا اهـ. وإلى ما تقدم أشار رحمه الله تعالى بقوله: " ويجوز قبل رجوعه " يعني يجوز لمن عدم الهدى وفاته صيام الثلاثة قبل الوقوف أن يصوم ثلاثة أيام بمنى , أو بمكة قبل رجوعه إلى مكة أو إلى بلده , ويصوم السبعة حيث شاء. هذا إذا حصل موجب الهدى قبل الوقوف. أما إذا حصل بعد الوقوف بعرفة فإنه إذا لم يجد هديا صام عشرة أيام حيث شاء , ويستحب تتابعها. وإن قدر على الهدى قبل أن يصوم وجب الرجوع إلى الأصل وهو الهدى , فلا يجزيه الصيام حينئذ فتأمل. وقال في توضيح المناسك:

وما ذكر من صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع محله إذا تقدم النقص على وقوفه كدم التمتع , والقران , وترك التلبية , وتعدي الميقات. وتأخير الثلاثة أو بعضها لغير عذر إلي أيام منى مكروه على المعتمد , فيصوم الأيام الثلاثة التي بعد يوم النحر , وهى أيام التشريق , وإن حرم صوم ثاني النحر وثالثه في غير هذا. وكره صوم رابعة تطوعا. فإن لم يصمها وأخرها ولو عمدا صامها متى شاء, وصلها بالسبعة أولا. ,وأما إذا تأخر النقص عن الوقوف بعرفة كترك النزول بالمزدلفة , وترك رمى الجمار أو المبيت بمنى , فإنه يصوم العشرة متى شاء اهـ. قال رحمه الله تعالى:" والمعتمر يتطوع به , ثم يصير قارنا يلزمه آخر لقرانه " وما ذكره من إلزامه هديا آخر خلافا لما في خليل ونصه: وإن أردف لخوف فوات أو لحيض أجزأ التطوع لقرانه. قال الخرشي: المشهور أن الهدى يجب بالتقليد أو الإشعار , أحرم الإنسان بعمرة وساق معه هديا تطوعا وقد قلده أو أشعره ثم خاف إن تشاغل بعمل العمرة فاته الحج , أو حاضت وخافت فوات الحج فإنهما يردفان الحج على العمرة ويصير كل منهما قارنا ويجزئه هذا الهدى الذي قلده أو أشعر قبل الإرداف عن دم القران. وهدي التطوع هو ما سيق لغير شيء وجب أو يجب في المستقبل اهـ. وقال في توضيح المناسك: إن ساق هدي التطوع في إحرام العمرة ثم أردف عليها الحج , أو حج متمتعا أجزأ عن القران والتمتع , ولو وجب بالتقليد والإشعار اهـ خلافا لما قال المصنف من أنه يلزمه هدي آخر لقرانه. لكن في الحطاب ما يؤيده. والله أعلم بالصواب اهـ. ثم انتقل يتكلم في بيان ما يتعلق بجواز الأكل وما لا يجوز أكله , فقال رحمه الله تعالى: " ويجوز الأكل منه " أي من كل هدى ترتب عن نقص أي بترك الواجب في حج وعمرة ونحو ذلك , كهدى الفساد , أو الفوات , أو المذي , أو التمتع والقران , وكهدى التطوع بلغ المحل. وقال في توضيح المناسك: تنبيه يجوز لرب هدي التمتع والقران

ونحوهما الأكل منه قبل المحل لأنه يلزمه بدله , ويجوز له الأكل بعده , والتزود وإطعام الغنى والقريب , والتصدق والإهداء بالكل والبعض بلا حد. وكره أكله كله. ثم ذكر ما استثني عن أكله فقال رحمه الله تعالى: " إلا جزاء الصيد , وفديه الأذى , ونذر المساكين , وهدى التطوع يعطف قبل محله " يعني يحرم عليه أكل ما استثنى من جزاء الصيد وما عطف عليه. قال في الرسالة: ولا يأكل من فدية الأذى , وجزاء الصيد , ونذر المساكين , وما عطب من هدى التطوع قبل محله. ويأكل مما سوى ذلك إن شاء اهـ. وقال الدردير في اقرب المسالك: ولا يؤكل من نذر مساكين عين ولو لم يبلغ الحل كهدى تطوع نواه لهم وفديه , كنذر لم يعين وجزاء صيد , وفديه نوى بها الهدى بعد المحل , وهدى تطوع عطب قبله , ويأكل مما سوى ذلك مطلقا واه إطعام الغنى والقريب. ورسوله كهو. والخطام والجلال كاللحم فإن أكل ربه من الممنوع أو أمر غير مستحق ضمن بدله إلا نذر مساكين عين فقدر أكله اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ومن أكل مما ليس له أكله ضمن. وهل لحما أو قيمة قولان " قال العلامة الصاوي في حاشيته على الدردير: الحاصل أن رب الهدي الممنوع من الأكل منه إن أكل لزمه هدي كامل إلا في نذر المساكين المعين، إذا أكل منه فقولان في قدر اللازم له، وإن أمر أحدا بالأكل فإن أمر غنيا لزمه هدي كامل إلا في نذر المساكين المعين فلا يلزمه إلا قدر أكله فقط. ويحتمل أن يجري فيه القولان الجاريان في أكله هو. وأما الرسول فإن أمر غير مستحق أو أكل وهو غير مستحق فإنه يضمن قدر ما أمر به أو أكله فقط في جميع الممنوع منه، وإلا فلا ضمان. هذا هو الصواب اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولا يركب ولا يحمل عليه إلا لضرورة فإذا زالت بادر إلى النزول والحط عنه " يعني أن المطلوب في الهدي عدم ركوبها إلا لضرورة. قال خليل: وندب عدم ركوبها بلا عذر. قال الخرشي: يعني أن الهدي يندب لصاحبه

عدم ركوبه إذا كان لا عذر له ولا يحمل عليها زاده ولا شيئا يتبعها، وأما مع العذر فإنه يجوز له أن يركبها، فلو تلفت في هذه الحالة فإنه لا شيء عليه، وإذا ركبها لغير عذر وتلفت ضمنها. وقال ابن عبد السلام: ركوب الهدي لضرورة جائز، ولغير ضرورة المشهور كراهته، والقول الثاني جوازه ما لم يكن ركوبا فادحا اهـ الحطاب. والدليل على جواز ركوبها ما في الحديث عن أبي هريرة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة مقلدة فقال: اركبها، فقال يا رسول الله إنها بدنه فقال اركبها " وفي راوية لمسلم " ويلك اركبها , ويلك اركبها " وفي أخرى للبخاري أى من رواية عكرمة قال الراوي " فلقد رايته راكبها يساير النبي صلى الله عليه وسلم والنعل في عنقها " اهـ وعن مالك: لا يلزمه النزول بعد الراحة. وإذا نزل لحاجه أو لليل لم يركبها أيضا حتى يحتاج إلى ذلك كأول مرة اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولا تجوز الشركة في الهدي " يعني كما في الموطأ عن مالك أنه سمع بعض أهل العلم يقول: لا يشترك الرجل وامرأته في بدنه واحدة , لينحر كل منهما بدنه اهـ وقال في المدونة: لا يجوز أن يشترك في شيء من الهدى لا في تطوعه , ولا في واجبه , ولا في هدي نذر , ولا في هدي نسك , ولا جزاء الصيد اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويفسد الحج بالوطء واستدعاء المنى ما بين الإحرام ورمى جمرة العقبة , ويلزمه إتمامه والقضاء , والهدى يسوقه في حجة القضاء " يعنى كما في الدردير عاطفا على ما يحرم على المحرم. قال والجماع ومقدماته. وأفسد مطلقا , كاستدعاء منى وإن بنظر أو فكر إن وقع قبل يوم النحر أو فيه فبل رمى عقبه وإفاضة , أو قبل تمام سعى العمرة وإلا فهدى , كإنزال بمجرد نظر أو فكر , وإمذاؤه وقبلة بفم , ووجب إتمام المفسد إن لم يفته الوقوف , وإلا تحلل بعمرة , فإن لم يتمه فهو باق على إحرامه , فإن أحرم فلغو. وقضاؤه , أي ووجب قضاؤه , وفوريته , وقضاء القضاء ,

وهدى له , وتأخير للقضاء , وأجزأ إن قدم واتحد , أي هدي الفساد وإن تكرر موجبه بنساء اهـ. وقال في توضيح المناسك: يحرم على المحرم مغيب الحشفة أو مثلها من مقطوعها في القبل والدبر من آدمي أو غيرة , وإن لم ينزل , ناسيا أو عامدا , مكرها أو طائعا , فاعلا أو مفعولا. ويفسد بذلك الحج ولو من صبى , أو في غير مطيقة , أو كان على الحشفة ساتر كثيف , أو غابت في هو الفرج , كذا لعبد الباقي , وخصه البناني بموجب الغسل. ويفسد أيضا بإخراج المنى بقبلة أو جسة أو غير ذلك ولو لم يستدم , وباستدامة , نظر أو فكر فإن أنزل بمجرد النظر أو بمجرد الفكر من غير استدامة لم يفسد , ولكن يجب الهدى بذلك. وفساد الحج بما ذكر إن وقع قبل التحللين: الأصغر وهو رمى جمرة العقبة كما تقدم , والأكبر وهو طواف الإفاضة , وقبل مضي يوم النحر. وحيث فسد الحج فيجب إتمامه إن أدرك الوقوف , فإن لم يدركه لصد ونحوه وجب تحلله منه بفعل عمرة. ولا يجوز له البقاء على إحرامه لقابل , لأن فيه التمادي على الفاسد مع إمكان التخلص منه. ويجب القضاء على الفور في قابل سواء كان ما أفسده واجبا أو تطوعا. ويجب الهدي وينحره في حجة القضاء , وإن قدمه أجزأه وكذلك يجب إتمام العمرة وقضاؤها على الفور إن فسدت. ولا يتكرر الهدي بتكرر الوطء سواء كان في امرأة واحدة أو أكثر , فإن لم يتم حجة الفاسد , وأحرم بقضائه في السنة الثانية فهو باق على إحرامه الفاسد , ويكمله في السنة الثانية , ولا يكون ذلك قضاء عما أفسده , ويقضيه في السنة الثالثة. وإن أفسد القضاء لزمه قضاء القضاء أيضا , وأما إن وقع ذلك المفسد بعد رمى جمرة العقبة وقبل طواف الإفاضة أو وقع قبلهما بعد يوم النحر , أو وقع بعد الطواف وقبل ركعتيه , أو وقع بعد الطواف بركعتيه وقبل السعي , فيجب عليه هدى وعمرة في هذه الصور الأربع. وإنما طولب بالعمرة ليأتي بطواف وسعي لا خلل فيهما. وأما إن وقع منه ذلك بعد طواف الإفاضة وركعتيه وبعد السعي وقبل رمي جمرة العقبة أو وقع بعد ما ذكر وقبل الحلق فيجب عليه هدي فقط ولم يطلب بالعمرة في هاتين الصورتين لسلامه الطواف والسعي من الخلل اهـ.

قال رحمه الله تعالى: " ويفارق الموطوءة فيها من حين إحرامه إلى التحلل , ويقضي على صفة ما أفسد " قال العلامة الصاوي نقلا عن الدسوقي: ويجب علية مفارقة من أفسد معها من حين إحرامه بالقضاء لتحلله خوفا من عوده لمثل ما مضي , ولا يراعى في القضاء زمن إحرامه بالمفسد , فلمن أحرم في المفسد من شوال أن يحرم بالقضاء من ذي الحجة بخلاف الميقات المكاني إن شرع فإنه يراعي , فمن أحرم بالمفسد من الجحفة مثلا تعين إحرامه بالقضاء منها , بخلاف ما إذا لم يشرع بأن أحرم في العام الأول قبل المواقيت فلا يجب الإحرام في القضاء إلا منها , فإن تعدى الميقات المشروع الذي أحرمه منه أولا فدم ولو تعداه بوجه جائز , كما لو استمر بعد الفساد بمكة إلى قابل وأحرم بالقضاء منها. وأما لو تعداه في عام الفساد فلا يتعداه في عام القضاء اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولا ينكح المحرم ولا ينكح حتى يحل. ويحل بالإفاضه جميع محظورات الإحرام " قوله: حتى يحل , وفي نسخة حتى يتحلل بلامين. وفي الموطأ عن عثمان بن عفان كان يقول: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ينكح المحرم ولا ينكح , ولا يخطب " " اهـ. وقد ورد أن عمر بن الخطاب , رضي الله عنه , رد نكاح المحرم كما في الموطأ اهـ. بمعناه. قال ابن جزي في القوانين الفقهية: فلا يجوز للمحرم أن يقرب امرأة بوطء ولا تقبيل ولا لمس , ولا ينكح ولا ينكح , ولا يخطبها لنفسه ولا لغيره. ويفسخ نكاحه وإنكاحه قبل البناء وبعده , خلافا لأبى حنيفة في العقد والخطبة. ويجوز له ارتجاع المطلقة الرجعية ما دامت في عدتها. ويجوز له شراء الجواري من غير وطء اهـ. قال في توضيح المناسك: يحرم على المحرم أن يعقد نكاحا لنفسه أو لغيره. وكل نكاح كان الولي فيه محرما أو الزوج أو الزوجة فهو باطل , يفسخ قبل البناء وبعده بطلاق , ولو ولدت الأولاد ولا يتأبد تحريمها , لكن إن كان الفسخ قبل الدخول فلا شيء لها , وإن كان بعده فلها الصداق , لأن كل مدخول بها الصداق. ويستمر التحريم

فصل فيما يتعلق بحج الصبي والعبد والمرأة وغيرهم

حتى يفرغ من حجة أو عمرته. فإن حصل العقد بعد السعي وطواف الإفاضة وصلاة ركعتي الطواف كان عقدا صحيحا وإن لم يكن رمي جمرة العقبة. وأما إن حصل بعد السعي والطواف وقبل الركعتين فيفسخ إن قرب , لا إن بعد. وهذا في الحج. وأما في العمرة فيصح بعد تمام سعيها , ويستحب تأخيره حتى يحلق , ولا يكون واسطة بين الرجل والمرأة في أمر النكاح , ولا يحضر العقد بين الزوجين لكن لا يفسخ النكاح بذلك. ويكره له محادثة النساء وتقليب الجواري. ويجوز له شراؤهن وبيعهن , ومراجعة زوجته والفتوى في أمور النساء , وأن يري شعر امرأته اهـ. ثم انتقل يتكلم في أحكام حج الصبي والعبد والمرأة والسفيه والمجنون , فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ فيما يتعلق بحج الصبي والعبد والمرأة وغيرهم أي في بيان ما يتعلق بحج الصبي والعبد والمرأة وغيرهم، وما يطرأ عليهم من بلوغ الصبي أو عتق العبد، أو إذن لأحد المذكورين قبل الإحرام أو بعده، وحكم المحصر وغيره. وبدأ بما يتعلق بحج الصبي والعبد اهتماما بشأنهما فقال رحمه الله تعالى: " حج الصبي والعبد نالفلة وإن أعتق أو بلغ في أثنائها " يعني أن العبد والصبي إذا حجا وقع حجمهما نفلا وإن طرأ على الصبي بلوغ أو على العبد عتق بعد الإحرام، فلا ينقلب حج أحدهما فرضا، بل يتمادى على إحرامه حتى يتمه تطوعا، وهو مذهب الجمهور لما رواه الشافعي والطيالسي كما في القرى والحاكم والبيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة أخرى " اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وليس له الإحرام بغير إذن سيده وله تحليله كالزوجة في التطوع " يعني أن العبد إذا لم يأذن له سيده في الإحرام فله أن يحلله، ويجب عليه

القضاء إذا عتق أو أذن له السيد على المشهور اهـ. قاله الحطاب. وقال خليل: وللولي منع سفيه، كزوجة في تطوع، وإن لم يأذن فله التحلل وعليها القضاء كعبد. قوله: كزوجه إلخ. قال الخرشي: يعني أن المرأة إذا أحرمت بالحج التطوع بغير إذن زوجها فله أن يحللها، لأنها من جملة المحاجير كالسفيه وتحلل كالمحصر، هذا ما لم يكن الزوج محرما وإلا فلا يحللها لأنها لم تفوت عليه الاستمتاع. وأما حجة الإسلام فليس لزوجها منعها من الخروج لها إن قلنا إن الحج على الفور، وكذا على القول بالتراخي اهـ. وقل خليل: وعليها القضاء كعبد هو المشهور، ومقابله ما ذكره الحطاب نقلا عن شارح العمدة، ونصه: فإن أحرمت المرأة بغير إذن زوجها فله أن يحللها ولا قضاء عليها على الأصح لأنها التزمت شيئا بعينه فمنعت من إتمامه إجبارا كالمحصر اهـ. قال الخرشي يلزم العبد القضاء عن ذلك إذا أذن له سيده أو عتق، ويقدمه على الفرض، فإن قدم حج الفرض صح. ومثل العبد في وجوب القضاء لما حلله منه المرأة إذا حللها زوجها مما أحرمت به من غير إذنه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فإن كان الصبي قويا يتعقل باشر الأفعال وإلا أحرم وطاف وسعى به وليه ". يعني كما في توضيح المناسك: أن الولي يأمر محجوره بما يطيقه، ومنه إحضاره المشاهد كعرفة ومزدلفة ومنى والمشعر الحرام وجوبا بعرفة، وندبا بغيرها. وأما ما لا يطيقه فما أمكن فعله به فعله معه، فيطوف به بعد أن يطوف عن نفسه. وأما إن قصد بطوافه نفسه ومحموله فلم يجز عن واحد منهما لأن الطواف كالصلاة، بخلاف السعي به وإن حاملا له وأجزأ عنهما إن قصد ذلك لخفة أمر السعي اهـ. وفي إيضاح المناسك: ويحرم المميز من أول الميقات إن قارب البلوغ وإلا فقرب الحرم، ويندب إحرام الولي عن الصبي غير المميز بقرب مكة لا من الميقات للمشقة بأن ينوي إدخاله في النسك، لما ورد أن له أجرا، ولا يجرده إن خاف عليه الضرر فيفدي اهـ.

قال رحمه الله تعالى: " فإن كان وصيا وخاف عليه ضيعة فنفقته من ماله، وإلا ضمن الزائد على نفقة الحضر " قال الخرشي: إن الولي أو الوصي إذا أخذ الصبي الذي في حجره إلى الحجاز فإن نفقة الصبي تكون في ماله، فإن كانت نفقة السفر مثل الحضر فلا كلام، أي لا له ولا عليه، وإن زادت نفقة السفر على الحضر فالزائد في مال الصبي إن كان يخشى الولي على الصبي الضياع لو تركه؛ لأن النفقة حينئذ من مصالحه، فإن كان لا يخشى عليه الضياع إذا سافر وليه وتركه فزيادة نفقة الصبي حينئذ على الولي لأنه أدخله في ذلك من غير ضرورة اهـ. وعبارة الصاوي على الدردير أنه قال: تنبيه، كل ما ترتب على الصبي بالإحرام من هدي وفدية وجزاء صيد فعلى وليه مطلقا خشي عليه الضيعة أم لا، إذ لا ضرورة في إدخاله في الإحرام، كزيادة نفقة السفر وجزاء صيد صاده في الحرم إن كان غير محرم إن لم يخف ضياعه بعدم سفره معه، فإن خاف ضياعه فزيادة النفقة في السفر وجزاء صيد الحرم في مال الصبي كأصل النفقة المساوي لنفقة الحضر فإنه في مال الصبي مطلقا اهـ. ومثله في هداية الناسك. وقال في إيضاح المناسك: المسألة الرابعة يجزي في المجنون المطبق مثل ما ذكر في الصبي من تأخير إحرامه وتجريده قرب مكة وإدخاله في حرمات الإحرام وغير ذلك. والمطبق ما لا يفهم الخطاب ولا يحسن رد الجواب ولو ميز بين الإنسان والفرس، ولا يجزئه عن الفرض، فلو أفاق بعد إدخاله في الإحرام فليس له رفضه وانتظر المجنون الذي يفيق أحيانا كالمغمى عليه، ولا ينعقد عليهما إحرام غيرهما إلا أن المجنون الذي يفيق أحيانا يدخله وليه في حرمات الإحرام إذا خاف فوات الحج عليه بخلاف المغمى عليه لأن الإغماء مظنة عدم الطول، ثم إن أفاق في زمن يدرك الوقوف فيه أحرم وأدركه ولا دم عليه في عدم إحرامه من الميقات اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ومن أسلم أو أعتق أو بلغ يوم عرفة فأحرم ووقف سقط

فرضه " يعني - كما تقدم - أن الإسلام شرط في صحة الحج والعمرة على المشهور، وحينئذ فإذا أسلم الكافر بعرفة قبل طلوع الفجر يوم النحر ونوى، أي أحرم ووقف ولو بقدر سبحان الله قبل الفجر فقد أدرك الحج أي فحجه صحيح. وعن عطاء أنه سئل عن الرجل إذا أسلم بعرفات فوقف مسلما فقال أجزأه الحج اهـ. أخرجه سعيد بن منصور، كذا في " القرى لقاصد أم القرى " ومثل الذي أسلم بعرفة العبد إذا أعتق يوم عرفة وأدرك الوقوف فحجه صحيح أيضا كالمراهق بلغ يوم عرفة ونوى بأن أحرم ووقف قبل طلوع فجر يوم النحر. فالحاصل أن كلا من الثلاثة وقع حجه فرضا بزوال المانع الذي تعلق به قبل ذلك. ومما يلحق بهؤلاء ما لو أحرم الصبي المراهق بغير إذن وليه ولم يعلم الولي بذلك حتى بلغ فللولي تحلله من هذا الإحرام النفل ليحرم بفريضة الحج، هذا إن بلغ سفيها، لا إن بلغ فللولي تحلله من هذا الإحرام النفل ليحرم بفريضة الحج، هذا إن بلغ سفيها، لا إن بلغ رشيدا على الظاهر من كلامهم وليس العبد كذلك بل هو يتمادى على حجة النفل ولو أذن له سيده لا يكون حجه فرضا بل عليه حجة الإسلام إذا أعتق كما تقدم. قال رحمه الله تعالى: " والمحصر بعدو يتحلل مكانه ولا قضاء عليه ولا يسقط فرضه " يعني أن المحصر بعد ويتحلل في الموضع الذي أحصر منه، ولا يجب عليه قضاء ما تحلل عنه من حج أو عمرة، لكن لا تسقط عنه حجة الإسلام بذلك إن كان ضرورة، وكذا لا يسقط عنه سنية العمرة بذلك اهـ. وقد قال العلامة خليل في منسكه: من موانع الحج العدو والفتنة بين المسلمين، وهو مبيح للتحلل ونحو الهدي حيث كان إذا طرأ ذلك بعد الإحرام، أو كان قبله ولم يعلم، أو ظن أنهم لا يصدونه، وأما إن علم منعهم فلا يجوز له الإحلال، نقله ابن المواز عن مالك. ثم إن حصر العدو على ثلاثة أقسام: الأول: أن يحصر عن البيت وعن عرفة وحكمه ما تقدم، الثاني: أن يحصر عن عرفة فقط فلا يحل إلا بأفعال العمرة. الثالث: أن يحصر عن البيت فقط، ففي المدونة: تم حجه ولا يحله إلا الإفاضة، وعليه لجميع مافاته من الرمي والمبيت بنمى أو مزدلفة هدي كما لو نسي

الجميع. وقيل لا هدي عليه. قلت والصحيح الأول اهـ بحذف وزيادة إيضاح. وقال في المختصر: وإن منعه عدو أو فتنة أو حبس لا بحق بحج أو عمرة فله التحلل إن لم يعلم به وأيس من زواله قبل فوته ولا دم اهـ. قال الأبي: وقول خليل: ولا دم، أي إن تحلل فلا دم عليه لفوات الحج بحصر العدو على المشهور، وأوجبه عليه أشهب لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وتأوله ابن القاسم على المحصر بمرض. ورده اللخمي بنزول الآية في قضية الحديبية وكان حصرها بعدو، وبقوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنتُمْ} [البقرة: 196] وهو إنما يكون من عدو. وأجاب التونسي وابن يونس بأن الهدي فيها لم يكن لأجل الحصر، وإنما كان بعضهم ساقه تطوعا فأمروا بتذكيته، ورد قول أشهب بقوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] والمحصر بعدو يحلق أين كان، وهو رد قوي ظاهر اهـ. وقال ابن جزي في القوانين الفقهية: الإحصار بعدو الإحرام وهو مبيح للتحلل إجماعا، فالمحصر بعدو أو فتنة في حج أو عمرة بتربص ما رجى كشف ذلك، فإذا يئس تحلل بموضعه حيث كان من الحرم وغيره ولا هدي عليه، أي على المشهور في المذهب. وإن كان معه هدي نحره. وقال الشافعي وأشهب عليه الهدي ويحلق أو يقصر ولا قضاء عليه ولا عمرة إلا إن كان ضرورة فعليه حجه الإسلام اهـ. وقال خليل في منسكيه: المانع الثاني ـ أي من موانع الحج ـ حبس السلطان شخصا أو شرذمه في دم أو دين , فمذهب المدونة وغيرها أنه كالمحصر بالمرض لا يحلله إلا البيت , ونقل عن المتأخرين أنه كحصر العدو , ونقل عن مالك إن حبسوا بحق فكالمرض وإلا فكالعدو , ولم يعده صاحب البيان خلافا , وعده ابن الحاجب خلافا اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والمحصر بمرض لا يحلله إلا البيت " يعني ـ كما قال ابن

فصل في العمرة وأحكامها

جزي ـ: من أصابه المرض بعد الإحرام لزمه أن يقيم على إحرامه حتى يبرأ وإن طال ذلك خلافا لأبى حنيفة فإن عنده كالمحصر بالعدو , فإذا برأ اعتمر وحل من إحرامه بعمرته وليس عليه عمل ما بقى من المناسك , فإذا كان العام القابل قضى حجته فرضا كان أو تطوعا وأهدى هديا بقدر استطاعته , فإن لم يجد هديا صام صيام المتمتع ثلاثة في الحج وسبعه إذا رجع , فإن تمادى به المرض حتى دخلت عليه أشهر الحج من قابل وهو محرم أقام على إحرامه حتى يقضى حجه ولا عمرة عليه , وعليه الهدى استحبابا. وحكم المحبوس بعد إحرامه , والضال عن الطريق , والغالط في حساب الأيام , والجاهل بأيام الحج حتى فاته كحكم المريض في كل ذكرنا اهـ. وإلي جميع ما تقدم أشار خليل بقوله: وإن حصر على الإفاضة أو فاته الوقوف بغير كمرض أو خطأ عدد أو حبس بحق لم يحل إلا بعمل عمرة بلا إحرام إلخ. راجع ما قاله الأجهوري عند قول خليل أو حبس بحق، انظره في حاشية العدوي على الخرشي اهـ. ولما أنهى الكلام فيما يتعلق بحج الصبي ومن عطف عليه انتقل يتكلم على بيان العمرة وأحكامها. فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في العمرة وأحكامها أي في بيان فضل العمرة وأحكامها. وفي الحديث عن أبي هريرة قال:: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما. والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " اهـ. رواهما البخاري ومسلم كلاهما عن مالك. وفيهما أيضا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عمرة في رمضان تعدل حجة معي " اهـ. والأحاديث في فضلها كثيرة. وبدأ بحكمها فقال رحمه الله تعالى:

" العمرة سنة مرة في العمر " وهي في اللغة الزيارة، وفي الشرع: عبادة يلزم المحرم بها الطواف بالبيت سبعا والسعي بين الصفا والمروة كذلك. يعني أن العمرة سنة مؤكدة مرة في العمر. قال مالك: العمرة سنة، ولا نعلم أحدا من المسلمين أرخص في تركها، قال: ولا أرى لأحد أن يعتمر في السنة مرارا. قاله في الموطأ اهـ. وقال خليل في منسكه: وهي سنة على المشهور، وفي توضيح المناسك: وتستحب في كل عام مرة، ويكره تكرارها في العام على المشهور، وأجاز تكرارها مطرف وابن الماجشون. وقال ابن حبيب: لا بأس بالعمرة في كل شهر مرة، ويستثنى من كراهة تكرارها في العام الواحد من تكرر دخوله إلى مكة من مواضع يجب عليه الإحرام منها اهـ. قال ابن جزي: وحكمها في الاستطاعة والنيابة والإجازة كحكم الحج. قال رحمه الله تعالى: " ومحظوراتها كالحج " يعني أن ممنوعات العمرة كممنوعات الحج، وما كان ممنوعا في الحج فهو ممنوع في العمرة. قال في الرسالة: ويجتنب في حجه وعمرته النساء والطيب ومخيط الثياب والصيد وقتل الدواب وإلقاء التفث ولا يغطي رأسه في الإحرام، ولا يحلقه إلا من ضرورة ثم يفتدي اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " وأركانها الإحرام والطواف والسعي " يعني أن أركان العمرة كأركان الحج سوى الوقوف بعرفه جزءا من ليله النحر. قال في توضيح المناسك: وأركانها ثلاثة: الإحرام , والطواف , والسعي. فإذا أتم سعيه كرة له أن يفعل شيئا من ممنوعات الإحرام غير الوطء قبل الحلاق , فإن فعلها أو شيئا منها فلاشيء عليه , ومن ذلك أن يغسل رأسه بغاسول ونحوه كما قال ابن القاسم. وإن حصل منه مذي فلا هدى عليه , وإن وطئ أو أنزل وجب عليه الهدى. وهذا ما عليه الأجهوري. وقال

السنهوري: إن كل ما أوجب هديا في الحج يوجب هديا في العمرة , فإن حصل منه مذى مثلا قبل الحلاق وجب عليه هدي , كذا في المحموع وغيره اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويحل بالحلاق أو التقصير " يعني إذا أتم سعي العمرة فإنه يحلق رأسه أو يقصره. قال في الرسالة: ثم يحلق رأسه وقد تمت عمرته. والحلاق أفضل في الحج والعمرة. والتقصير يجزئ. وليقصر من جميع شعره. وسنه المرأة التقصير اهـ كما تقدم في الحج. قال رحمه الله تعالى: " ويصح الإحرام بها في جميع السنة إلا أيام التشريق " قال ابن جزئ في القوانين الفقهية: وتجوز في جميع السنة إلا في أيام الحج لمن كان مشغولا بأفعال الحج. وأفضلها في رمضان. وقال أبو حنيفة تكره للحاج وغيره في خمسة أيام متوالية. عرفة , والنحر , وأيام التشريق اهـ. وفي توضيح المناسك وللعمرة ميقاتان: زماني ومكاني فالزماني جميع السنة ولو يوم عرفه ويوم النحر وأيام التشريق لمن لم يحرم بحج , فيعمل عمل العمرة والناس في الموقف بعرفه لأمر عمر , رضي الله عنه , لأبي أيوب الأنصاري وهبار بن الأسود حين قدما عليه يوم النحر , وقد فاتهما الحج , أن يتحللا بفعل عمرة من إحرامهما بالحج ويقضياه قابلا ويهديا كما في الموطأ. وأما من كان محرما بحج مفردا أو قارنا فإنه يمتنع إحرامه بها حتى يكمل حجه وتمضى أيام التشريق , فإن أحرم بها قبل الزوال من اليوم الرابع من أيام منى لم تنعقد , وإن أحرم بها بعد الزوال منه وكان قد طاف وسعي لحجه وأكمل رمى الجمار انعقد إحرامه بها مع الكراهة , إلا أنه لا يفعل فعلا من أفعالها إلا بعد الغروب من ذلك اليوم , وإن طاف وسعي قبل الغروب فهما كالعدم , وإن خرج إلى الحل فلا يدخل الحرم حتى تغرب الشمس لأن دخول الحرم بسبب العمرة عمل لها , وهو ممنوع من عملها , فإذا دخل قبل الغروب لأجلها أعادة والمكاني يختلف باختلاف الناس , فالواصل إلى مكة من الآفاق

إذا أراد الإحرام بالعمرة ميقاته أحد مواقيت الحج الخمسة المتقدمة , ويستمر يلبى حتى يصل إلى حدود الحرم فيقطعها حينئذ كما مر , وإن كان منزله من دون المواقيت فميقاته منزله على ما تقدم، وإن كان من أهل مكة أو مقيما بها فميقاته الحل من أي جهة، والأفضل أن يبعد عن طرف الحل، وأفضل جهات الحد الجعرانة، ثم التنعيم. قال النووي: ثم الحديبية، فإذا أحرم بها من الحل فيستمر يلبي إلى بيوت مكة، فإذا أحرم وصل البيوت قطع التلبية حينئذ، ولا يجوز الإحرام بها من مكة أو الحرم، فإن أحرم بها منهما فالمعروف من المذهب انعقادها ولا دم عليه على المعروف، ويؤمر بالخروج إلى الحل قبل أن يطوف ويسعى لها، فإن طاف وسعى لها قبل خروجه إلى الحل فطوافه وسعيه كالعدم، وإن حلق رأسه لزمته الفدية، ويؤمر بإعادة الطواف والسعي والحلاق بعد الخروج إلى الحل اهـ. وإلى ما تقدم أشار رحمه الله تعالى فقال: " ومن أحرم من الميقات قطع التلبية إذا دخل الحرم، ومن الجعرانة إذا دخل مكة، ومن التنعيم إذا دخل الحرم لطول زمانه بالتلبية والمحرم بها أيضا من الجعرانة أو التنعيم يقطع إذا دخل بيوت مكة، هذا مذهب المدونة، وفي الجلاب: لا يقطع في التنعيم إلا إذا رأى البيت اهـ. وتقدم الكلام في قطع التلبية عند قول المصنف فإذا رأى البيت قطع التلبية فراجعه إن شئت. قال رحمه الله تعالى: " وإذا حاضت المعتمرة قبل طوافها انتظرت الطهر فإن ضاق الوقت أردفت الحج وسقط عمل العمرة " قال مالك في المرأة التي تهل بالعمرة ثم تدخل مكة موافيه للحج وهي حائض لا تستطيع الطواف بالبيت: إنها إذا خشيت الفوات أهلت بالحج وأهدت وكانت مثل من قرن الحج والعمرة وأجزأ عنها طواف واحد كما في الموطأ اهـ. قال الباجي: قوله إنها إذا خشيت الفوات أهلت

بالحج وأهدت يريد لقوانها، قال وكانت مثل من قرن الحج والعمرة، يريد أنها في أحكامها مثل التي قرنت الحج والعمرة، إلا أن التي أحرمت بهما من ميقاتها يلزمها طواف الورود، وهذه التي أردفت الحج بمكة لا يلزمها ذلك لأنها أحرمت بالحج من الحرم ولا يلزمها للحج الورود، والمعتمر لا يلزمه ذلك أيضا، وإنما يطوف عند ورود طواف عمرته اهـ. وعن ابن عباس مرفوعا " أن النفساء والحائض تغتسل وتحرم وتقضي المناسك كلها غير أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر " اهـ أخرجه الترمذي. قال رحمه الله تعالى: " والمستحاضة تغتسل تحرم وتقف وتنتظر الطهر للطواف. والله أعلم " وفي الحديث عن عائشة، رضي الله عنها: " أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال: " لا إن ذلك عرق وليس بالحيضة، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي " اهـ. فعلمنا أن دم الاستحاضة ليس بالحيض، ولا يمنع شيئا من العبادة. والمعنى أن المستحاضة تغتسل بالإحرام لأنه سنة لكل من يريد الإحرام ولو حائضا أو نفساء، لما في الموطأ عن أسماء بنت عميس أنها ولدت محمد بن أبي بكر بالبيداء وذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " مرها فلتغتسل ثم لتهل " اهـ والاستحاضة لا تمنع شيئا مما يمنعه الحيض، لكن يستحب لها أن تتوضأ لكل صلاة كما يسن لها الغسل عند الإحرام بحج أو عمرة، وكذلك إذا انقطع عنها الدم إن ميزت به، قال ابن جزي: وأما دم الاستحاضة فهو الخارج من الفرج على المرض فلا تنتقل المستحاضة إلى حكم الحائض إلا بثلاثة شروط: أحدها أن يمضي لها من الأيام في الاستحاضة مقدار أقل الطهر. ثانيها أن يتغير الدم عن صفة الاستحاضة إلى الحيض فإن دم الحيض أسود غليظ ودم الاستحاضة أحمر رقيق والصفرة والكدرة حيض. ثالثها أن تكون المرأة مميزة ولا تمنع الاستحاضة شيئا مما يمنع من الحيض، ويستحب للمستحاضة

أن تتوضأ لكل صلاة وأوجبه الشافعي اهـ. وقوله وتقف وتنتظر الطهر للطواف، يعني أن المستحاضة يجوز لها أن تقف بعرفة وتؤدي جميع المناسك مثل الحائض إلا أن الحائض تمكث حتى تطهر لا بد منه أو يمضي من الزمان قدر ما يحبس النساء الدم فإذا مضى ذلك ولم ينقطع صارت مستحاضة بعد أيام الاستظهار. قال مالك في المرأة حاضت بمنى قبل أن تفيض فإن كريها يحبس عليها أكثر مما يحبس النساء الدم. قال الشارح أبو الوليد الباجي: أي يحبس عليها بقدر ما يحكم للمرأة بأنها حائض، فإذا حكم لها بالاستحاضة اغتسلت وطافت ورجعت اهـ. قال الحطاب: فإن مضى قدر حيضها والاستظهار ولم ينقطع الدم فظاهر المدونة أنها تطوف لأنها مستحاضة اهـ. وقال الدردير في المستحاضة: لكن يندب إذا انقطع أن تغتسل. وقال الصاوي أي لأجل النظافة وتطييب النفس كما يندب غسل المعفوات إذا تفاحش ذلك والاستحاضة من جملتها والله أعلم. ولما كان المصنف لم يذكر زيارة النبي صلى الله عليه وسلم في إرشاده معتمدا لشهرتها أو لغرض آخر أتيت هنا بذكر شيء منها، وختمت بها هذا الجزء تبركا، كما ختم بذكرها بعض الصالحين مناسكهم، فقلت مستعينا بالله تعالى:

خاتمة في زيارة النبي صلى الله عليه وسلم

خاتمة في زيارة النبي صلى الله عليه وسلم وزيارته عليه الصلاة والسلام سنة مجمع عليها وفضيلة مرغب فيها قاله القاضي عياض في في الشفاء. وقال بعض مشايخنا زيارة النبي صلى الله عليه وسلم سنه لكل احد حتى النساء اتفاقا ولو لغير حاج ومعتمر , وسن أن ينوي الزائر مع زيارته صلى الله عليه وسلم التقرب بالسفر إلى مسجده صلى الله عليه وسلم والاعتكاف فيه وأن يكثر في طريقه من الصلاة والسلام عليه , فإذا رأى حرم المدينة وأشجارها زاد في ذلك اهـ. وينبغي للذكر القادر أن ينزل خارج المدينة ويغتسل ويتوضأ إن وجد ماء وإلا تيمم , وأن يلبس أنظف ثيابه ويقدم البياض على الأغلى , ويتطيب ويتصدق ولو بقليل , ويدخل المسجد ماشيا حافيا بسكينه ووقار. ويستحب أن يقدم رجله اليمنى قائلا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم باسم الله اللهم صل على سيدنا محمد وعلى ال سيدنا محمد , اللهم اغفر لى ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك , وأما عند الخروج فيقدم رجله اليسرى ويقول ذلك إلا أنه يقول: وافتح لي أبواب فضلك. ثم يقول: اللهم إن هذا حرمك وحرم رسولك فاجعله لي وقاية من النار وأمانا من العذاب وسوء الحساب , وارزقني في زيارته ما رزقته أولياءك وأهل طاعتك. ثم يقصد الروضة ويصلى ركعتين تحيه المسجد إن كان وقت تجوز فيه النافلة وإلا بدأ بالقبر الشريف , ويندب ركوعهما في محراب النبي صلى الله عليه وسلم إن قدر , وإلا ففي أو غيرها. ثم يتقدم ـ إلى القبر الشريف مستقبلا له مستديرا للقبلة , يقف قبالة وجهه صلى الله عليه وسلم ويكون متصفا بكثرة الذل والسكينة والانكسار , ويعلم أنه واقف بين يديه صلى الله عليه وسلم إذ لا فرق بين موته وحياته ويطيل في السلام

عليه. ومن أكمله ما يسلم المسلم عليه أن يقول: السلام عليك يا خاتم النبيين. السلام عليك يا شفيع المذنبين. السلام عليك يا طه. السلام عليك يا إمام المتقين. السلام عليك يا قائد الغر المحجلين. السلام عليك يا رسول الله رب العالمين. السلام عليك يا منة الله على المؤمنين , وعلى أزواجك الطيبات الطاهرات أمهات المؤمنين. السلام عليك وعلى أصحابك أجمعين ورحمة الله وبركاته. جزاك الله يا رسول الله أفضل الجزاء. وصلى عليك أفضل الصلوات. فقد بلغت الرسالة , وأديت الأمانة , وعبدت ربك , وجاهدت في سبيله , ونصحت لعباده صابرا محتسبا حتى أتاك اليقين. صلى الله تعالى عليك أفضل الصلوات وأتمها وأطيبها وأزكاها. صلى الله تعالى عليك يا نبي الله ورسوله وخيرته من عباده , القائل بالحق والصادق بالوعد، والنافذ لله بالأمر الذي أقام به شرائع دينه، وأوضح به سبيله، وختم به أنبياءه ورسله، وأمر بالصلاة عليه وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم. واجز عنا سلفنا ومن تبعهم بإحسان مرافقة نبيك والحلول في أعلى درج جناتك. وألحقنا بهم، واسلك بنا سبيلهم، واقف بنا آثارهم إنك على كل شيء قدير. وصلاة ربنا ورحمته وبركاته على ملائكته ورسله وأنبيائه. ويسن للزائر إذا وصاه أحد بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: السلام عليك يارسول الله من فلان بن فلان، بل يتعين إذا استؤجر لذلك لجواز الإجازة على الزيارة كما قرروه. ثم يتنحى - إلى يمينه نحو ذراع فيقول: السلام عليك ياأبا بكر الصديق ورحمة الله وبركاته، صفي رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثانيه في الغار، أشهد أنك جاهدت في الله حق جهاده جزاك الله عن أمة سيدنا محمد خيرا رضي الله تعالى عنك وأرضاك وجعل الجنة متقلبك ومثواك. ورضي الله تعالى عن كل الصحابة أجمعين. ثم يتنحى - إلى يمينه نحو ذراع أيضا ثم يقول: السلام عليك يا أبا حفص عمر الفاروق السلام عليك يا صاحب رسول الله،

السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته أشهد أنك جاهدت في الله حق جهاده، جزاك الله تعالى عن أمة سيدنا محمد خيرا، رضي الله تعالى عنك وأرضاك وجعل الجنة متقلبك ومثواك. ورضي الله تعالى عن كل الصحابة أجمعين ثم يرجع إلى موقفه الأول يستقبل القبلة ويدعو بما شاء لنفسه وللمسلمين. قاله بعض مشايخنا في منسكه. ويستحب أن يزور البقيع والقبور المشهورة فيه فيسلم على أهله مثل ما مر في السلام على الصاحبين، وينبغي أن يخص المشهورين بالسلام كسيدنا عثمان بن عفان ومن كان معروف القبر هناك كسيدنا عباس عم النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يعم بأن يقول السلام عليكم أيها الشهداء، السلام عليكم يا مجاهدون في سبيل الله حق جهاده " سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبي الدار " ثم يزور شهداء أحد كسيدنا حمزة عم النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من الشهداء. وينبغي أن يزور المساجد المشهورة كمسجد قباء لما صححه الترمذي عنه عليه الصلاة والسلام قال: " صلاة في مسجد قباء كعمرة " وأن يتوضأ من الآباري المباركة كبئر أريس وبئر عثمان. وأن يشرب منها: قال خليل في منسكه: وهذا إنما هو فيمن كثرت إقامته بالمدينة المنورة وإلا فالمقام عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ليغتنم مشاهدته عليه الصلاة والسلام ويسن أن يقيم في الروضة فيكثر فيها من الصلاة والدعاء، بل إن أمكن أن لا يجعل صلاته مدة إقامته بالمدينة المنورة إلا فيها فليفعل، ويتحرى الوقوف والدعاء عند المنبر تأسيا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وينبغي للزائر أن يصاحب أحدا من سكان المدينة ليدله على الآثار والمزارات المذكورة ليفوز بزيارتها كلها، ثم إذا أراد الخروج وعزم الرجوع إلى بلده ووطنه ينبغي له أن يودع رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقف عند القبر الشريف ويقول: السلام عليك يا رسول الله. السلام عليك يا نبي الله. الوداع يا خير خلق الله. الرحال يا شفيع المذنبين. لا جعله الله آخر العهد لا منك ولا من

زيارتك. ثم يخرج من المسجد وقلبه مملوء شوقا له عليه الصلاة والسلام ولأهل المدينة ونية العود إليها. فتحفظ على هذه الآداب فإن من فعلها مع الشوق وفراغ القلب من الأغيار بلغ كل ما يتمنى إن شاء الله تعالى، وأعظمه حسن الختام. ختم الله لنا بخاتمة السعادة، وبلغنا الحسنى وزيادة، آمين. وفي هذا القدر كفاية. تم الجزء الأول من كتاب " أسهل المدارك " ويليه الجزء الثاني وأوله " كتاب الجهاد "

كتاب الجهاد

كتاب الجهاد أي في بيان أحكام الجهاد وما يتعلق به. وهو لغة التعب والمشقة. وحده ابن عرفة بقوله: قتال مسلم كافرا غير ذي عهد لإعلاء كلمة الله تعالى، أو حضوره له أو دخوله أرضه اهـ. ثم اعلم أن الجهاد ينقسم إلى قسمين: الأول جهاد بالقلب وهو مجاهدة النفس والشيطان عن الشهوات المحرمة. والثاني جهاد الكفار بالسيف في المعترك، وهو المراد هنا، وهو على قسمين أيضا: الأول في سبيل الله لإعلاء كلمة الله. والثاني لقصد الغنيمة أو إظهار الشجاعة. وفى الحديث: عنه صلى الله علية وسلم قال: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " اهـ قال الخرشي وغيره: إن من قاتل للغنيمة أو لإظهار الشجاعة وغيرها لا يكون مجاهدا فلا يستحق الغنيمة حيث اظهر ذلك، ولا يجوز تناولها حيث علم من نفسه ذلك اهـ. وقد ورد في فضله آيات كثيرة وأحاديث صحيحة. وقد بين الله تعالى في تنزيله فضل الجهاد والمجاهدين، وجزاء الشهادة والشهداء بقوله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون} [آل عمران: 169] الآيات. وقال تعالى {وقتلوا المشركين كافه كما يقتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين} [التوبة: 36] والآيات في ذلك أكثر من أن تحصى، والإشارة تكفى العاقل. ثم إن الجهاد لا يتعين على الشخص إلا في ثلاث أحوال: في حال مفاجأة العدو محلة المسلمين. وفى تعيين الإمام شخصا قادرا على القتال. وكذلك يتعين في حال النذر

لوجوب الوفاء به لأنه عبادة وإلا فاصل الجهاد فرض كفاية، والى ذلك أشار رحمة الله تعالى " إذا نزل الكفار دار الإسلام تعين على كل من أمكنه النصرة حتى العبد والمرأة، ولا مانع للسيد والزوج والوالد وإلا ففرض كفاية " قال النفراوي في الفواكه الدواني: محل كون الجهاد فرض كفاية بحسب الأصل فلا ينافي انه قد يكون واجباً على الأعيان إذا غزا العدو على قوم فيتعين على كل حتى النساء، وعلى من بقربهم إن عجزوا، وبتعيين الإمام، وبالنذر. قال خليل: ويعين بفجء العدو، وإن على امرأة أو عبد، وعلى من قربهم إن عجزوا وبتعيين الإمام اهـ. وفي ضياء الحكام: ومحل تعيينه على من بقربهم إن لم يخشوا العدو على نسائهم وبيوتهم، فإن خافوا ذلك بأمارة ظاهرة لزموا مكانهم وتركوا الإعانة. وقوله وبتعيين الإمام فمن عينه وجب عليه الخروج ولو كان صبيا مطيقاً للقتال أو امرأة أو عبداً أو ولداً أو مديناً ولو منع أولياؤهم اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويلزم الإمام حراسة الثغور " الحراسة بمعنى المحافظة، يعني يلزم على الإمام أن يعتني بمحافظة الثغور، وهي الجهة التي يطلع منها العدو ويدخل. وعبارة بعضهم: الثغور جمع ثغر وهو الموضع الذي يخاف منه هجوم العدو، أي دخول العدو في بلاد الإسلام اهـ. وذلك بقدر كثرة خوف أهل ذلك الثغر وكثرة تحرزهم من عدوهم اهـ. قال رحمه الله تعالى عاطفاً على الحراسة: " والبعث إلى دار الحرب في كل وقت يمكنه " يعني يلزم على الإمام أن يبعث بالجيش أو السرية أو يخرج بنفسه هو أو نائبه في كل وقت أو سنة متوجهين إلى دار الحرب بقدر الإمكان والنظر في ذلك. قال رحمه الله تعالى: " فيدعوهم إلى الإسلام فإن أبوا فإلى الجزية والدخول في ذمة الإسلام فان أبوا " عن جميع ذلك وتعرضوا أوجب القتال، ولذا قال فإن أبوا " قاتلوهم ولا يقاتلون قبل الدعوة إلى أن يتعجلوا " قال في الرسالة: والجهاد فريضة،

أي فرض كفاية يحمله بعض الناس عن بعض وأحب إلينا ألا نقاتل العدو حتى يدعوا إلى دين الله إلا أن يعاجلونا فإما أن يسلموا أو يؤدوا الجزية وإلا قوتلوا. وإنما تقبل منهم الجزية إذا كانوا حيث تنالهم أحكامنا، فأما إن بعدوا منا فلا تقبل منهم الجزية إلا أن يرتحلوا إلى بلادنا وإلا قوتلوا اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويجوز التنكيل بهم بقطع أشجارهم ومنع المياه وإرسالها عليهم ورميهم بالمجانيق وعقر دوابهم ونهب أموالهم وبكل ما فيه نكاية لهم " قال العلامة المحقق المدقق الشيخ عبد الله بن فودى في ضياء الحكام: ويقاتل الكفار بجميع أنواع الحرب: بقطع الماء أو إرساله عليهم وسيف ونبل ورمح ومجنيق مطلقاً، وبنار إن خيف منهم ولم يمكن غيرها عند ابن القاسم، ومطلقاً عند مالك، وان كان فيهم مسلم لم يقاتلوا بها اتفاقاً إلا لخوف، كأن كانوا في الحصن مع النساء والصبيان وأولى مع مسلم، وإن تترسوا بهم تركوا إلا لخوف، وبالمسلمين قتلوا ولم يقصد الترس إن لم يخف على أكثر المسلمين. واعلم أن التدبير في الحرب عدم تحقير العدو، وبث الجواسيس، واختيار الشجعان وانتخاب الأمراء وأصحاب الولاية، ولا ينبغي أن يقدم على الجيش إلا ذو الشجاعة رابط الجأش، صادق البأس ممن توسط الحروب ومارس الرجال مع رعي آداب الحرب التي بين الله تعالى في قوله {يأيها الذين امنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين} [الأنفال: 46،45] وقوله: {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} [محمد:7] اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ومن أجاب الجزية أقر على دينه وقبلت منه " وتقدم قول صاحب الرسالة إنما تقبل منهم الجزية إذا كانوا حيث تنالهم أحكامنا فأما إن بعدوا منا فلا تقبل منهم الجزية إلا أن يرتحلوا إلى بلادنا فراجعه إن شئت.

ثم بين قدرها فقال رحمه الله تعالى: " وهي في كل سنة أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهماً على أهل الورق من كل كافر اصلي حر ذكر مكلف غير مرتهب ولا عتيق مسلم، ولا يؤخذ مني بمعدم، ولا حي بميت، مع ضيافة المجتاز من المسلمين ثلاثة أيام، وتسقط بالإسلام ولو عن أحوال، لا بانتقاله إلى ملة أخرى " قال في المقدمات: والجزية ما يؤخذ من أهل الكفر جزاء على تأمينهم وحقن دمائهم مع إقرارهم على كفرهم. وهي على وجهين: عنوة وصلحية، فأما الصلحية فلا حد لها إذ لا يجبرون عليها، ولأنهم منعوا أنفسهم وأموالهم حتى يقروا في بلادهم على دينهم إذا كانوا بحيث تجري عليهم أحكام المسلمين. وتؤخذ منهم الجزية عن يد وهم صاغرون، إلى أن قال: وهي على ثلاثة أوجه: أحدها أن تكون الجزية مجملة عليهم، والثاني أن تكون مفرقة على رقابهم دون الأرض، والثالث أن تكون مفرقة على رقابهم وأرضهم أو على أرضهم دون رقابهم، مثل أن يقول على كل رأس كذا وكذا، وعلى كل زيتونة كذا وكذا، وعلى كل مبذر قفيز من الأرض كذا وكذا، ولكل وجه من هذه الوجوه أحكام تختص به، إلى أن قال: وأما الجزية العنوية وهي الجزية التي توضع على المغلوبين على بلادهم المقرين فيها بعمارتها فإنها عند مالك رحمه الله على ما فرضها عمر، رضي الله عنه، أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهماً على أهل الورق مع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام، إلا أن مالكاً رحمه الله رأى أن توضع عنهم الضيافة إذا لم يوف لهم بالعهد على وجهه اهـ المقدمات. قال الصاوي في حاشيته على أقرب المسالك: ومما أسقطه مالك عنهم أرزاق المسلمين التي قدرها الفاروق مع الجزية، وإنما أسقطها مالك عنهم الظلم الحادث عليهم من ولاة الأمور اهـ. رحمه الله وتسقط بالإسلام إلى إلخ وعبارة الدردير: وسقطنا أي الجزية العنوية

والصلحية بالإسلام وبالموت، ولو متجمداً من سنتين مضتا، بخلاف خراج الأرض العنوية فلا يسقط بالإسلام، بل هو على الزارع ولو مسلماً، وكذا لا تسقط الجزية بانتقال الكافر من ملة إلى أخرى لأنه خرج من كفر إلى كفر، هذا هو المشهور خلافاً لابن الماجشون القائل إنه يقتل ولا تؤخذ منه الجزية اهـ ذكره القاضي في الشفاء. وأما المرتد أي الذي خرج عن الإسلام فلا يؤخذ منه الجزية، بل يستتاب ثلاثة أيام فإن تاب فلله الحمد، وإلا قتل وما له فيء. قال عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاضربوا عنقه) قال رحمه الله تعالى: (ويؤخذ ممن تجر إلى غير بلده عشر ما يبيع حراً كان أو عبداً، فإن باع ببلد واشترى بغيره فعشران، ونصفه مما حملوه إلى الحرمين من الأقوات ونحوها. والحربي كغيره إلا أن يشترط عليه أكثر) يعني كما في الرسالة ونصها: ويؤخذ ممن تجر منهم من أفق إلى أفق عشر ثمن ما يبيعونه، وإن اختلفوا في السنة مراراً وإن حملوا الطعام خاصة إلى مكة والمدينة خاصة أخذ منهم نصف العشر من ثمنه، ويؤخذ من تجار الحربيين العشر إلا أن ينزلوا على أكثر من ذلك. قال النفراوي: فتلخص أن أهل الذمة إنما يؤخذ منهم عشر الثمن إذا اشتروا من أفق وباعوا في أفق آخر، وأما الحربيون فلا فرق بين أن يبيعوا في بلد واحد أو في جميع بلاد المسلمين، إنما يؤخذ منهم عشر الأعيان لا بشرط أكثر أو أقل إلا في الطعام المحمول إلى مكة والمدينة فكأهل الذمة. والفرق أن بلاد الإسلام كالبلد الواحد بالنسبة لأهل الحرب، بخلاف أهل الذمة فلا يكمل النفع لهم إلا بالانتقال من أفق إلى آخر وباعوا بالفعل. هذا ملخص ما يتعلق بما يؤخذ من أهل الذمة والحربيين. ثم قال: وأما المسلمين فقد قام الإجماع - أي إجماع الصحابة - على عدم جواز أخذ شيء منهم، لخبر (إنما العشور على اليهود والنصارى، وليس على المسلمين عشور) انظر النفراوي، ومثله في الدردير اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: (ويمنعون شراء ما فيه ضرر على المسلمين كالسلاح

والحديد) يعني إذا دخل الحربيون بلاد الإسلام بالأمان للتجارة فإنهم يمنعون شراء ما فيه ضرر على المسلمين من سلاح وغيره، وكذا أهل الذمة إذا سافروا من أفق إلى أفق آخر يمنعون من إدخال ما يضر المسلمين، وهو من باب درء المفاسد. قال رحمه الله تعالى: " وتنقض كنائس بلاد العنوة لا الصلح لكن يمنع رم دائرها " يعني تهدم ولا يحدث بنائها، هذا في كنائس العنوة. قال الدردير: وليس لعنوي إحداث كنيسة ولا رم منهدم إلا إن شرط ورضي الإمام. قال الصاوي: والحاصل أن العنوي لا يمكن من الإحداث في بلد العنوة سواء كان أهلها كلهم كفار أو سكن المسلمون معهم فيها، إلا باستئذان من الإمام وقت ضرب الجزية، وكذا رم المنهدم على المعتمد اهـ. وقال ابن جزي فيما يجب لنا عليهم من شروط: وأن لا يبنوا كنيسة ولا يتركوها مبنية في بلد بناها المسلمون أو فتحت عنوة، فإن فتحت صلحاً واشترطوا بقاءها جاز، وفي اشتراط بنائها قولان اهـ. قال الدردير: والصلحي ذلك أي الإحداث للكنيسة والترميم في أرضه مطلقاً شرط أولاً اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويعلمون بما يميزهم عن المسلمين " قال خليل: وألزم بلبس يميزه، يعني ألزم الذمي بلبس شيء يميز به عن المسلمين، كلبس الزنار والبرنيطة ونحوه مما يميزه عن زي المسلمين. وعبارة الخرشي: يعني أن الذمي يلزمه أن يلبس شيئاً يميزه عن زي المسلمين لئلا يتشبه بهم، ولهذا إذا ترك لبس الزنار يلزمه التعزيز. والزنار بضم الزاي هو ما يشد به الوسط علامة على الذل اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ومن أظهر صليباً أو خمراً أو، أدب وكسر وأريق " قال المواق: ابن حبيب: يمنع الذميون الساكنون مع المسلمين إظهار الخمر والخنزير. وتكسر أن ظهرتا عليهم، ويؤدب السكران منهم، وإن أظهروا صلبهم في أعيادهم واستسقائهم كسرت وأدبوا اهـ. قال العلامة محمد الأمير في الإكليل: يجوز كسر

أواني الخمر خلافة لما في الخرشي. قلت وما فيه الإكليل هو المعتمد كما في حاشية الخرشي. ونص الخرشي أنه قال: وكذلك يعزر إذا أظهر الخمر ويريقها ولا يضمن لها شيئاً فيها وأما إن لم يظهر خمر وأراقها مسلم فإنه يضمن لتعديه، لأن أوانيها من جملة مال الذمي، ولا يجوز لأحد إتلافه، وكذلك يعزر إذا حمل الخمر من بلد إلى بلد اهـ. فظهر أن الخلاف في الإظهار وعدمه فتأمل. قال رحمه الله تعالى: " ويمنعون ضرب الناقوس " والناقوس يكون من خشب أو نحاس أو حديد، ويضرب عليها لأجل اجتماعهم لصلاتهم فإنه يكسر ولا شيء على من كسره. ومثله الصليب كما تقدم. قال رحمه الله تعالى: " ورفع أصواتهم بالقراءة " معطوف على ضرب الناقوس، يعني مما يمنعون ويعزرون على فعله رفع أصواتهم بالقراءة. وفي دليل الطالب للمرعي الحنبلي: ويمنعون من الجهر بكتابهم، ومن قراءة القرآن، وشراء المصحف وكتب الفقه والحديث، ومن تعلية البناء على المسلمين اهـ. وفي المواق عن ابن شاذ: ولا يرفعون أصوات نواقيسهم ولا أصواتهم بالقراءة في حضرة المسلمين اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وشراء الرقيق وركوب نفائس الدواب وجادة الطريق " قال الدردير في أقرب المسالك: ومنع ركوب خيل وبغال وسروج وبرادع نفيسة وجادة الطريق كما في المختصر. قال الخرشي: يعني أن الذمي عنوياً أو صلحياً يمنع من ركوب الخيل النفيسة ومن ركوب البغال النفيسة ويمنع من الركوب في السروج ولو على الحمير، بل يركبون على الأكف عرضاً بأن يجعل رجليه معاً في جانب الدابة اليمنى أو اليسرى والأكف [جمع إكاف] البرذعة الصغيرة التي جعلت تحت البرذعة الكبيرة، والإبل كالخيل في عرف قوم، وكالحمير في عرف آخرين بل دونهم. ويمنع من جادة الطريق إذا لم يكن خالياً اهـ مع تصرف.

فصل في بيان ما يتعلق بالجيش وأخذ الغنيمة قبل القسم

قال رحمه الله تعالى: " ولا يكنون، ولا تشيع جنائزهم، ولا يستعان بهم " قال زروق: التكنية تعظيم وإكرام، فلذلك لا يكنون، وهل تكنيتهم بفلان الدين كذلك أو لا؟ لم أقف على شيء فيه، ولأشبه المنع، وتشييع الجنائز إكرام ولو كان قريباً أو أباً أو ابناً، نعم لوارثه إن لم يجد أحداً من أهل دينه اهـ. ذكره الحطاب. قوله ولا يستعان بهم قال خليل في المحرمات باب الجهاد: وحرم نبل سم، واستعانة بمشرك إلا لخدمة، انظره في المواق. قال الحطاب: انظر أول رسم سماع يحيى. وفي جواهر الإكليل: فإن خرج من تلقاء نفسه فلا يمنع على المعتمد كما نقله العلامة عبد الله بن فودى في ضياء الحكام فيما حرم علينا، ونصه: ويحرم علينا رميهم بمسموم. وقيل يكره، واستعانة بكافر في الجهاد في الصف، ويجوز أن يخدمنا في الهدم والحفر ونحو ذلك. وأما إن خرج من تلقاء نفسه لم يمنع على المعتمد اهـ كما في الخرشي. قال في الحاشية: والمراد بالمشرك أي مطلق الكافر لا من أشرك مع الله غيره خاصة اهـ ثم انتقل يتكلم على أحكام ما وجدوه من الغنيمة وغيرها وكيفية القسم وغير ذلك من الأحكام فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في بيان ما يتعلق بالجيش وأخذ الغنيمة قبل القسم أي في بيان ما يتعلق بالجيش من الأحكام وسنقف عليها إن شاء الله. قال رحمه الله تعالى: " للجيش الانتفاع بما وجدوا من أموال الحربيين قبل الغنيمة " أي قبل قسم الغنيمة. قال صاحب الرسالة: ولا بأس أن يؤكل من الغنيمة قبل أن يقسم الطعام والعلف لمن احتاج إلى ذلك. النفراوي. قال العلامة خليل: وجاز أخذ محتاج نعلاً

أو حزاماً أو إبرة أو طعاماً وإن نعماً وعلفاً كثوب وسلاح ودابة ليرد، ورد الفضل إن كثر، فإن تعذر تصدق به، ولا يتوقف المحتاج إلى إذن الإمام، بل ولو نهاهم عن ذلك، ومفهوم إن احتاج أن الغني لا يجوز له أخذ شيء منها، ومطلق الحاجة كاف فلا يتوقف على الضرورة، ومفهوم قوله إن كثر بأن زاد ثمنه على الدرهم. وقوله فإن تعذر، أي لسفر الإمام وتفرق الجيش تصدق به كله بعد إخراج الخمس كما في الدردير وغيره. قال رحمه الله تعالى: " ومن غل من المغنم " أي من أخذ من الغنيمة شيئاً قبل القسم ولم يكن مما تقدم ذكره فإنه يستحق الأدب ولذا قال رحمه الله تعالى: " أدب ورده " أي يؤدبه الإمام بعد رد الشيء المأخوذ. قال الدردير: وحرم الغلول، وأدب إن ظهر عليه، أي لا إن جاء تائباً قبل القسم وتفرق الجيش، ورد ما أخذ للغنيمة، فإن تعذر بتفرق الجيش رد خمسة للإمام، وتصدق بالباقي عنهم ولا يجوز تملكه كما تقدم - في المأخوذ للحاجة اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويأخذ الإمام خمسه ويقسم باقيه في القائمين " يعني كما قال في الرسالة: وما غنم المسلمون بإيجاف فليأخذ الإمام خمسه ويقسم الأربعة الأخماس بين أهل الجيش، وقسم ذلك ببلد الحرب أولى. وإنما يخمس ويقسم ما أوجف عليه بالخيل والركاب وما غنم بقتال اهـ قال النفراوي: وأما ما لم يوجف عليه من أموالهم بأن انجلى عنه أهله فهذا هو المسمى بالفيء يوضع جميعه في بيت المال. وأما ما يهرب به الأسير أو التاجر أو يأخذه المتلصص فيختص به وهو المسمى بالمختص لأنه يختص به حائزه ولا يقسم ولا يوضع في بيت المال، لكن المسلم يخرج خمسة كما قدمناه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولا يختص قاتل بسلب إلا أن ينفله الإمام من الخمس، كتنفيل غيره ممن ظهر منه زيادة اجتهاد " يعني أنه لا يختص القاتل بسلب ما على المقتول إلا أن ينفله الإمام من الخمس كما ينفل غيره من أهل الجيش باجتهاده منه،

ولا يكون ذلك إلا من الخمس. قال في الرسالة: ولا نفل إلا من الخمس على الاجتهاد من الإمام، ولا يكون ذلك قبل القسم والسلب من النفل اهـ. والنفل لغة الزيادة، وأما اصطلاحاً فهو مال موكول علم قدره إلى الإمام، وللإمام أن يزيد ما شاء من الخمس لمن شاء من المجاهدين اجتهاداً منه لمصلحة. قال النفراوي: ولا بد أن يكون لمصلحة. قال خليل: ونفل منه السلب لمصلحة كقوة بطش الآخذ وشجاعته، أو يرى ضعفاً من الجيش فيرعبهم بذلك في القتال، فإن استووا فيما يقتضي التنفيل جاز تنفيلهم جميعاً اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وتستحق الأسهام بشهود الوقعة " وفي نسخة بحضور الوقيعة بزيادة ياء، والمعنى تستحق الغنيمة بحضور المعترك أو تخلف لشغل متعلق بالقتال. قال في الرسالة: وإنما يسهم لمن حضر القتال أو تخلف عن القتال في شغل المسلمين من أمر جهادهم اهـ. قال رحمه الله تعالى: " للراجل سهم، وللفارس ثلاثة، والمراهق كالبالغ " وعبارة صاحب الرسالة: ويسهم للمريض وللفرس الرهيص، ويسهم للفرس سهمان وسهم لراكبه، ولا يسهم لعبد، ولا لامرأة، ولا لصبي إلا أن يطيق الصبي الذي لم يحتلم القتال، ويجيزه الإمام ويقاتل فيسهم له، ولا يسهم للأجير إلا أن يقاتل اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولا يرضخ للنساء والعبيد والصبيان " قال ابن جزي: وأما الرضخ فهو ما يعطيه الأمير من الخمس لمن لا يسهم له كالنساء والعبيد والصبيان، ولا يرضخ لهم على المشهور اهـ. قال النفراوي: وكل من يسهم له لا يرضخ له. والرضخ شرعاً: مال يعطيه الإمام من الخمس كالنفل معروف قدره لاجتهاد الإمام اهـ. قال

رحمه الله تعالى: " وسهم من مات لوارثه، والأجير لمستأجره " يعني من المعلوم أن سهم من مات ممن حضر القتال يرفع ويدفع لوارثه. وكذا سهم الأجير والتاجر على الصحيح. قال خليل مشبهاً في استحقاق السهم لهما: كتاجر وأجير إن قاتلا وخرجا بنية غزو لأنهما كثرا سواد المسلمين. قال الخرشي: والمعنى أن التاجر والأجير إذا كانا مع القوم في القتال وقاتلا أو خرجا بنية الغزو وحضرا القتال ولو لم يقاتلا فإنه يسهم لهما لأنهما كثرا سواد المسلمين، وسواء كانت نية الغزو تابعة أو متبوعة أو هما على حد السواء. قال في الحاشية: كانت تجارته تتعلق بالجيش من مطعم وملبس أم لا. قوله وأجير، كانت منافعه عامة كرفع الصواري - وهي وعاء جلد كالقرب - والأحبل وتسوية الطريق، أو خاصة كأجير خدمة. ويسهم للأجير ويحط من أجرته بقدر ما عطل من خدمته، وليس لمستأجره أخذ سهمه عوضاً فيما عطل من خدمته، خلاف مؤجر نفسه في خدمة أخرى لأن ذلك قريب بعضه من بعض، بخلاف السهم ربما كثر عما استأجره ولأن القتال لا يشبه الخدمة، ولا يقابل أجره أجرها لأن فيه ذهاب نفسه، وإنما يخير مستأجره فيما تقارب لا فيما تباعد اهـ. ومثله في المواق خلافاً لما ذكره المصنف من أن سهم الأجير لمستأجره فتأمل. قال رحمه الله تعالى. " ولا تقسم أرض العنوة بل تصير وقفاً بالاستيلاء ". يعني أن أرض العنوة لا يجوز لأحد قسمها لأنها بمجرد الاستيلاء عليها صارت وقفاً لمصالح المسلمين يعطيها الإمام لمن يشاء وخراجها على زراعها. قال تعالى: {وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم} [الأحزاب: 27] الآية. قال خليل ووقفت الأرض كمصر والشام والعراق. قال الخرشي: والمعنى أن الأرض المفتوح بلدها عنوة تصير وقفاً للمسلمين بمجرد الاستيلاء عليها من غير احتياج إلى حكم على المعتمد. ولا تقسم بين الجيش كغيرها من أموال الكفار؛ لفعل عمر في أرض مصر والشام والعراق. وتلاه عثمان وعلي على مثل ذلك. وقد غنم عليه السلام غنائم وأراضي فلم ينقل أنه قسم منها إلا خيبر، وهذا إجماع

من السلف اهـ انظر شراح خليل وغيره. هذا ما يتعلق بأرض العنوة على الاختصار. وأما أرض الصلحي ففيها تفصيل. قال الدردير: وأرض الصلحي له ملكاً ولو أسلم، فإن مات ورثوها، فإن لم يكن وارث فلهم إن أجملت جزيتهم عليها وعلى الرقاب كيفية مالهم، وإلا فللمسلمين، وحينئذ فوصيتهم في الثلث اهـ. وإلى ذلك أشار مالك بقوله: وأما أهل الصلح فإنهم قد منعوا أموالهم وأنفسهم حتى صالحوا عليها فليس عليهم إلا ما صالحوا عليهم اهـ قاله في الموطأ. ثم قال رحمه الله تعالى: " وإذا غنم الكفار مال المسلمين فمن أسلم على شيء ملكه " قال في الرسالة: ومن أسلم من العدو على شيء في يده من أموال المسلمين فهو له حلال، ومن اشترى شيئاً منها من العدو لم يأخذه ربه إلا بالثمن اهـ يعني أن من أسلم من الكفار وفي يده شيء من أموال المسلمين فهو له حلال. قال النفراوي: إن كان المذكور يملكه بالأمان بأن كان أخذه قبل دخوله إلينا بأمان، لا ما أخذه من أموال المسلمين بعد الدخول إلينا بأمان فإنه يكون سرقة ينزع منهم قهراً عليهم ولو لم يعودوا إلينا به. فقول الخليل وانتزع ما سرق ثم عيد به لا مفهوم له، وأشار إلى تلك المسألة بقوله: وملك بإسلامه غير الحر المسلم. قال شراحه: سواء قدم بها أو أقام ببلده. ومثل الحر المسلم في عدم ملكه اللقطة والحبس حيث ثبت أنه حبس؛ لأن ما ثبت تحبيسه لمسلم لا يبطل تحبيسه بغنم الكفار له. قاله الأجهوري. وإنما ملك بإسلامه غير ما ذكرنا تأليفاً له على الإسلام لقوله صلى الله عليه وسلم: " من أسلم على شيء فهو له " اهـ. وفي المدونة عن مالك: أن ما أسلموا عليه فهو لهم دون أربابهم اهـ. قال ابن جزي: إذا أسلم الكافر وعنده حر مسلم أخذ منه بغير ثمن وأعتق عليه. وإذا أسر العدو حرة مسلمة ثم أخذها المسلمون فهي حرة، وإن ولدت عندهم أولاداً وأخذوا صغاراً فهم بمنزلتها، واختلف في الكبار. وإن كانت أمة لرجل فهي وأولادها لسيدها، وإن غنموا ذمياً ثم غنمناه

رد لذمته، وإن غنموا عبداً أو مدبراً أو مكاتباً أو معتقاً إلى أجل، أو أم ولد فهم لسيدهم كالمال، وإذا خرج الأسير إلينا وترك ماله في أيديهم ثم غنمه المسلمون فهو أحق به قبل القسمة بغير ثمن وبعدها بالثمن، وإذا أسلم الحربي ثم غزا المسلمون بلاده فزوجته فيء، وكذلك أولاده على المشهور. وقيل هم تبع له وما له فيء. وقيل هو له. وقيل هو له قبل القسمة بلا ثمن وبعدها بالثمن اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " وما غنمه المسلمون فما علم أنه لمسلم لم يقسم وما جهل فربه أحق به قبل القسمة مجاناً وبعدها بالثمن " يعني كما قال مالك في المدونة: إن أدركه قبل القسم أخذه بغير ثمن، وإن أدركه بعدما قسم كان أولى به بالثمن، فإن عرف أنه مال لأهل الإسلام رده إلى أهله ولم يقسموه إن عرفوا أهله وإن لم يعرفوا أهله فليقسموه وأموال أهل الذمة مثله اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والمأخوذ بغير إيجاف فهو لبيت المال كالخمس والخراج والجزية وميراث من لا وارث له يأخذ الإمام كفايته بالمعروف ويصرف الباقي بالاجتهاد في مصالح المسلمين " قال الدردير: وخمس غيرها - أي غير الأرض العنوة - فخراجها، والخمس، والجزية، وعشر أهل الذمة، وما جهلت أربابه، وتركة ميت لا وارث له لآله عليه الصلاة والسلام، ولمصالح المسلمين من جهاد وقضاء دين معسر وتجهيز ميت، وإعانة محتاج من أهل العلم وغيرهم، ومساجد وقناطر ونحوها. والنظر للإمام، وله النفقة منه على عياله بالمعروف، وبدئ بمن فيهم المال اهـ. وقال ابن جزي: سيرة أئمة العدل في الفيء والخمس أن يبدأ بسد المخاوف والثغور واستعداد آلة الحرب وإعطاء المقاتلة، فإن فضل شيء فللقضاة والعمال وبنيان المساجد والقناطر ثم يفرق على الفقراء، فإن فضل شيء فالإمام مخير بين تفريقه على الأغنياء وحبسه لنوائب الإسلام. واختلف هل يفضل في العطاء من له حرمة وسابقة وغناء، أو يسوى بينهم وبين غيرهم اهـ.

قال رحمه الله تعالى: " ويخير الإمام في الأسرى بين القتل والاسترقاق والمن والفداء وعقد الذمة " يعني يخير الإمام في شأن الأسرى ينظر فيما هو أصلح من خمسة أشياء. قال الدردير: ونظر في الأسرى بمن أو فداء أو جزية أو قتل أو استرقاق اهـ. وقال ابن جزي: فأما الرجال فيخير الإمام فيهم بين خمسة أشياء: القتل، والمن، والفداء، والجزية، والاسترقاق. ويفعل الأصلح من ذلك. ويجوز فداؤهم بأسرى المسلمين اتفاقاً. واختلف في فدائهم بالمال. وقال أبو حنيفة: لا يجوز المن ولا الفداء. وقال قوم يقتلون على الإطلاق. وأما النساء والصبيان فيخير الإمام فيهم بين المن والفداء والاسترقاق اهـ انظر القوانين. وفي ضياء الحكام نقلاً عن الكتاب المذكور مع البيان في رجال أهل الكفر إذا غنموهم قال: فيخير الإمام فيهم بين خمسة أشياء يجب عليه رعي المصلحة فيها: القتل فيمن يقتل فيحسب من رأس الغنيمة، والمن فيمن يمن عليه كأن لا يكون له قيمة معتبرة فيخلي سبيله ويحسب من الغنيمة، والفداء من الخمس أيضاً إن كان الفداء بأسرى المؤمنين وإن كان بالمال يجعل في الغنيمة، والجزية فيمن تضرب عليهم ويحسب المضروب عليه من الخمس والاسترقاق فيقسم اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " ولا يقتل من استحياه وامرأة، وصبي، وراهب ويؤخذ فضل مالك " الضمير في استحياه راجع إلى الإمام، وفى ماله راجع إلى الراهب، لمعنى لا يجوز قتل من استحياه الإمام، وكذا من استحياه أمير الجيش بأن أمنه فيكون معصوم الدم والمال، وكذلك لا يجوز قتل المرأة والصبي إلا إذا قاتلا، ومثلهما الراهب لمنعزل بلا رأى، والأعمى، والزمن، والمعتوه، والشيخ الفاني إلا أنه يؤخذ فضل أموالهم ويترك لهم الكفاية ولو من مال المسلمين. قال النفراوي: سكت المصنف عن تأمين الإمام لوضوحه لأنه يؤمن حتى القبيلة والإقليم، ويصير من أمنه الإمام في أمان في سائر البلاد. قال خليل عاطفاً في وجوب الوفاء: وبأمان الإمام. قال شراحه: ومثل

الإمام أمير الجيش. وفائدة الأمان حرمة قتل المؤمن واسترقاقه وعدم ضرب الجزية عليه إن وقع الأمان قبل الفتح، وأما لو كان الأمان بعد الفتح فيسقط القتل فقط، ويرى الإمام رأيه في غيرة. ومن قتل ممن منع قتله وجب على قاتله أن يغرم قيمته إن حيز للمغنم، ووجب عليه أن يستغفر الله كقاتل الراهب أو الراهبة، لأنهما حران، لكن لا دية على قاتلهما خلافاً لما في الخرشي. قال رحمه الله تعالى: " ويجوز أمان أدنى المسلمين للعدد من الكفار، فأما بلد وحصن ونحوه فإلى الإمام " قال في الرسالة: ويجوز أمان أدنى المسلمين على بقيتهم، وكذلك المرأة والصبي إذا عقل الأمان. وقيل إن أجاز ذلك الإمام اهـ. قال النفراوي: فتلخص أن الأمان إن وقع من الحر المسلم البالغ العارف بمصلحة الأمان غير الخائف ممن أمنه يكون جائزاً ماضياً اتفاقاً، ولو وقع من أدنى المسلمين، ولو كان خارجاً عن طاعة إمام حين تأمينه حيث أمن دون الإقليم. وأما لو أمن البالغ إقليما لنظر فيه الإمام. وأما إن وقع الأمان من امرأة أو عبد أو صبي عاقلي مصلحة الأمان، فقيل يجوز ابتداء ويمضي وعليه الأكثر. وقيل يتوقف إمضاؤه على إجازة الإمام اهـ. وإليه أشار الدردير بقوله: وللإمام الأمان لمصلحة مطلقاً كغيره: إن كان مميزاً طائعاً مسلماً ولو صبياً أو امرأة أو رقيقاً أو خارجاً عن الإمام وأمن دون إقليم قبل الفتح وإلا نظر الإمام، ووجب الوفاء به وسقط به القتل وإن من غير الإمام بعد الفتح فينظر في غيره بلفظ أو إشارة مفهمة اهـ أنظر حاشية الصاوي على الدردير فيما نقله عن الدسوقي. ثم قال رحمه الله تعالى: " وتجوز الهدنة للضرورة بحسب ما يراه الإمام مصلحة، ورد رهائنهم وإن أسلموا والله أعلم " يعني تجوز الهدنة ورد الرهائن لأجل الضرورة أو المصلحة. قال في الضياء: وأما المهادنة فهي الصلح على ترك القتال بعد التحرك فيه

مدة قصيرة. وقال ابن عرفة: هي عقد المسلم مع الحربي على المسألة أي المتاركة ليس هو فيها تحت حكم الإسلام، ولجوازها أربعة شروط: الأول أن يكون العاقد لها الإمام أو نائبه لا غير. الثاني أن تكون لمصلحة كالعجز عن القتال مطلقاً أو في وقت، مجاناً أو بعوض على وفق الرأي السديد للمسلمين، لقوله تعالى: {وإن جنحوا للسلم فأجنح لها} [الأنفال: 61] فإن لم تظهر المصلحة بأن قوي المسلمون لم تجز. الثالث أن تخلو عن شرط فاسد كشرط بقاء مسلم أسير بأيديهم أو بقاء قرية للمسلمين خالية منهم، أو أن يحكموا بين كافر ومسلم، أو أن يأخذوا منا مالاً إلا لخوف منهم فيجوز كل ما منع، الرابع ألا تزيد على المدة التي تدعو إليها الحاجة على حسب الاجتهاد. وقال أبو عمران: يستحب أن لا يزيد على أربعة أشهر إلا مع العجز، ووجب الوفاء بما عاهدناهم عليه، وإن استشعر الإمام خيانتهم بأن ظنها ظناً قوياً بظهور دلائلها نبذ العهد قبل المدة وأعلمهم وجوباً أنه لا عهد لهم، وأنه يريد قتالهم، وإن تحقق خيانتهم نبذه بغير إنذار. قال تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين} [الأنفال: 58] قال الصاوي: خطاب عام للمسلمين وولاة الأمور، وإن كان أصل نزولها في قريظة. قال: والحاصل أنه إذا ظهرت أمارات نقض العهد وجب على الإمام أن ينبذ عهدهم ويعلمهم بالحرب قبل الركوب عليهم، بحيث لا يعد الإمام غادراً لهم. وإن ظهرت الخيانة ظهوراً مقطوعاً به فلا حاجة إلى نبذ العهد ولا الإعلام، بل يبادرهم بالقتال اهـ. وأما مسألة رد الرهائن فجائز لمصلحة رآها الإمام والمسلمون كما تقدم. قال خليل فيما يجب من الوفاء بالعهد: ووجب الوفاء وإن برد الرهائن ولو أسلموا وإن رسولاً إن كان ذكراً. قال الخرشي: تقدم أن الإمام يلزمه أن يوفي لهم بشروطهم الصحيحة التي اشترطوها عليه حتى لو شرطوا أن يرد إليهم من جاءنا منهم مسلماً من الرجال فإنه يوفي لهم بذلك وفاء بالعهد. وأما النساء فإنه لا يجوز ردهن إليهم لقوله تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} [الممتحنة: 10] الآية. والله أعلم اهـ. ولما أنهى الكلام على الجهاد وما يتعلق به انتقل يتكلم على الأيمان فقال رحمه الله تعالى:

كتاب الأيمان

كتاب الأيمان أي في بيان الأيمان وما يتعلق بها من الأحكام الكثيرة. والأيمان - بفتح الهمزة - جمع يمين، وهي لغة مأخوذة من اليمين العضو المعروف، وعرفاً الحلف. قال الدردير: وهو قسمان الأول تعليق طاعة أو طلاق على وجه قصد الامتناع من فعل المعلق عليه، أو الحض على فعله، نحو إن دخلت الدار أو إن لم أدخلها فطالق، والأول يمين بر، والثاني يمين حنث وقسم، الثاني حلف بالله أو بصفاته اهـ. وفي الرسالة: والأيمان بالله أربعة: فيمينان تكفران وهو أن يحلف بالله إن فعلت، أو يحلف ليفعلن. ويمينان لا تكفران، إحداهما لغو اليمين، وهو ان يحلف على شيء يظنه كذلك فى يقينه ثم يتبين له خلافه، فلا كفارة عليه ولا إثم. والأخرى الحالف متعمداً للكذب أو شاكاً فهو إثم ولا تكفر ذلك الكفارة وليتب من ذلك إلى الله سبحانه وتعالى اهـ. ولجميع ذلك أشار المصنف بقوله: " وهي لاغية كالحلف على غلبة الظن " قال الله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو فى ايمانكم ولكن يؤخذكم بما عقدتم الايمن} [المائدة: 89] الآية. قال رحمه الله تعالى مشيراً إلى قسم من أقسام اليمين: " وغموس كالكذب عمداً " قال الدردير: سميت غموساً لأنها تغمس صاحبها في النار، أي سبب لغمسه فيها، ولذا لا تفيد فيها الكفارة، بل الواجب فيها التوبة قال: ومحل عدم الكفارة فيها إن تعلقت بماض نحو والله ما فعلت كذا، أو لم يفعل زيد كذا، أو لم يقع كذا مع شكه أو ظنه في ذلك، أو تعمده الكذب، فان تعلقت بمستقبل ولم يحصل المحلوف عليه كفرت نحو والله لآتينك غداً، أو لأقصينك حقك في غد ونحو ذلك، وهو جازم بعدم ذلك، أو متردد، فعلى كل حال يجب عليه الوفاء بذلك فان لم يوف بما حلف عليه لمانع أو غير

مانع فالكفارة، وان حرم عليه الحلف مع جزمه أو تردده في ذلك. وكذا تكفر إن تعلقت بالحال نحو والله إن زيداً لمنطلق أو مريض أو معذور، أي في هذا الوقت، وهو متردد في ذلك أو جازم بعد ذلك اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ومنعقدة على ما يمكنه فعله " كلا فعلت، بمعنى لا أفعل وهو على بر حتى بفعل فيحنث، أو على حنث كلأدخلن الدار فهو على حنث حتى يدخل فيبر. كما سيأتي تفصيل ذلك. قال رحمه الله تعالى: " وهي بالله وأسمائه وصفاته. وقوله اقسم أو أعزم إن أردت بالله " وهاتان الصيغتان الأخيرتان إن أراد بواحدة منهما اليمين انعقدت وإلا فلا. قال الدردير مشبها في انعقادها: وكأحلف، واقسم، واشهد أن نوى بالله، واعزم إن قال بالله، بان قال اعزم بالله لأفعلن كذا فيمين لا إن لم يقل بالله فليس بيمين ولو نوى بالله، لان معناه اقصد واهتم، فإذا قال بالله اقتضى أن المعنى أقسم اهـ. قال ابن جزي في صيغ اليمين: وهي على ثلاثة أقسام: أحدهما تجريد الاسم المحلوف به كقوله الله لا فعلت، الثاني زيادة حرف قسم كقوله والله وتالله وبالله ويمين الله وايم الله ولعمر الله فلا خلاف في انعقاد هذين القسمين. الثالث زيادة فعل مستقبل كقوله احلف واقسم واشهد، أو ماض كقوله حلفت أو أقسمت إن أو اسم كقوله يميني وقسمي فهذه إن قرنها بالله أو بصفاته نطقاً أو نية كانت أيماناً، وإن أراد بها غير ذلك أو أعراها من النية لم تكن أيماناً ولم يلزم بها حكم، وقال الشافعي ليست بأيمان على الإطلاق إذا لم يقرنها بأسماء الله تعالى لفظاً. وعكس أبو حنيفة، ومن قال لغيره بالله أفعل كذا لم يلزمهما شيء اهـ انظر القوانين. قال رحمه الله تعالى: " لا بالنبي والكعبة، أو هو يهودي ونحوه، أو بريء من الله ويستغفر الله لذلك " وفى الحديث: " ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت " اهـ رواه البخاري ومسلم. ورواه

الإمام في الموطأ والمدونة. وبسنده أيضا عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من حلف بيمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير " اهـ وقوله لا بالنبي والكعبة إلخ يعني إن الحلف بغير الله إن كان بما عظمه الشارع كالحلف بالكعبة والنبي فهي مكروهة، وان كانت بنحو اللات والعزى فإن اعتقد تعظيمها فهو كفر وإلا فحرام. قال ابن جزي فيما لا يلزم من الإيمان ويحتاج فيه لاستثناء ولا كفارة وهو الحلف بغير أسماء الله وصفاته، كالحلف بالكعبة والقبلة والنبي، وكقوله لعمرك وحياتك وعيشك وحقك. وأما قوله إن كان كذا فهو يهودي أو نصراني، أو بريء من الله أو كافر أو شبه ذلك فلا كفارة فيه إن حنث خلافاً لأبي حنيفة وليستغفر الله اهـ كما تقدم. قال رحمه الله تعالى: " فلو قال أقسمت لأفعلن إن قصد عقد اليمين على نفسه لزمته لا مجرد مسألة " يعني أن المكلف لو قال أحلف أو أقسم أو أشهد أو أتى بصيغة ماض كقوله حلفت أو أقسمت أو باسم كقوله يميني وقسمي فإن قرنها بالله أو بصفة من صفاته تعالى نطقاً أو نية فإنها انعقدت اليمين ولزمته في الحنث كلأفعلن وكذا في البر كلا فعلت لأنها في القوة إن فعلت لا بمجرد ذكر تلك الألفاظ بغير اقترانها باسم من أسماء الله ولا بصفة من صفاته تعالى. قال الدردير في أقرب المسالك: أو قسم على أمر كذلك بذكر اسم الله أو صفته وهي التي تكفر كبالله، وتالله، وهالله، والرحمن، وايمن الله، ورب الكعبة، والخالق، والعزيز، وحقه، ووجوده، وعظمته، وجلاله، وقدمه، وبقائه، ووحدانيته، وعلمه، وقدرته، والقرآن، والمصحف، وسورة البقرة، وآية الكرسي، والتوراة، والإنجيل، والزبور، وكعزة الله، وأمانته، وعهده، وميثاقه، وعلي عهد الله إلا أن يريد المخلوق. وكأحلف كما تقدم. قال رحمه الله تعالى: " وهو في لأفعلن أو إن لم أفعل على حنث، وفي لا فعلت

وإن فعلت على بر " يعني أن اليمين المنعقدة إما على الحنث وإما على البر كما أوضح المصنف رحمه الله تعالى. قال الدردير: والمنعقدة على بر كلا فعلت، أو لا أفعل، أو إن فعلت، أو حنث كلأفعلن، أو إن لم أفعل فيها الكفارة اهـ. قال الخرشي: وكذلك تلزم الكفارة في اليمين المنعقدة على بر كقوله إن فعلت كذا في هذا اليوم مثلاً فعلي كفارة، أو والله لا أفعله في هذا اليوم ثم يفعل المحلوف عليه في ذلك اليوم فإنه تلزمه حينئذ كفارة يمين. وهاتان الصيغتان معناهما واحد إذ كل منهما فيه حرف نفي، فإن قاعدة المنعقدة على بر أن يكون على نفي الفعل، أي أن يكون الفعل المحلوف عليه بعد اليمين غير مطلوب من الحالف. وسميت يمين بر لأن الحالف بها على بر حتى يفعله فيحنث، إذ الحالف على البراءة الأصلية، إذ الأصل براءة الذمة، وقوله على حنث يعني كذلك تلزم الكفارة في اليمين المنعقدة على حنث، كقوله والله لآكلن هذا الطعام مثلاً، أو إن لم آكل هذا الطعام مثلاً فعلي كفارة ثم لم يأكل الطعام المحلوف عليه حتى ذهب. وقاعدة اليمين المنعقدة على حنث أن تكون على إثبات الفعل أي يكون الفعل المحلوف عليه بعد اليمين مطلوباً من الحالف. وسميت يمين حنث لأن الحالف بها على حنث حتى يفعل المحلوف عليه فيبر، إذ الحالف بها على غير البراءة الأصلية فكان على حنث. هذا إذا لم يضرب في يمينه أجلاً في صيغتي الحنث، أما لو ضرب الأجل فلا يكون على حنث بل يكون يمينه على بر إلى ذلك الأجل، كوالله لأكلمن زيداً في هذا الشهر، أو والله إن لم أكلمه قبل شهر لا أقيم في هذه البلدة، فهو على بر ولا يحنث إلا بمضيه ولم يفعل بلا مانع أو لمانع شرعي أو عادي لا عقلي كما يأتي اهـ. ثم ذكر الأمثلة التي تفوت بها قبل المحلوف عليه فتجب الكفارة فقال رحمه الله تعالى: " ويتحقق الحنث بفوت المحلوف عليه كقوله لأدخلن اليوم فغربت الشمس ولم يدخل " يعني يحنث في قوله لأدخلن الدار في هذا اليوم ولم يدخلها حتى غربت

الشمس وفاته الدخول بأمر شرعي أو عادي فيحنث وتلزمه كفارة. قد عقد ابن جزي فصلاً في البر والحنث في القوانين فقال: البر هو الموافقة لما حلف عليه، والحنث مخالفة ما حلف عليه من نفي أو إثبات، فكل من حلف على ترك شيء أو عدمه فهو على بر حتى يقع منه الفعل فيحنث، ومن حلف على الإقدام على فعل أو وجوده فهو على حنث حتى يقع الفعل فيبر. ثم إن الحنث في المذهب يدخل بأقل الوجوه، والبر لا يكون إلا بأكمل الوجوه فمن حلف أن يأكل رغيفاً لم يبر إلا بأكل جميعه، وإن حلف أن لا يأكله حنث بأكل بعضه. ومن حلف أن لا يفعل فعلاً ففعله حنث سواء فعله عمداً أو سهواً أو جهلاً إلا أن نسي ففعل ناسياً فاختار السيوري وابن العربي أنه لا يحنث وفاقاً للشافعي، فلو فعله جهلاً كما لو حلف أن لا يسلم على زيد فسلم عليه في ظلمة وهو لا يعرفه حنث خلافاً للشافعي. وأما إن أكره على الفعل لم يحنث، كما لو حلف أن لا يدخل داراً فأدخلها قهراً، لكن إن قدر على الخروج فلم يخرج حنث، وإن حلف أن يفعل شيئاً فتعذر عليه فعله فلا يخلو من ثلاثة أوجه: الأول أن يمتنع لعدم المحل كمن حلف أن يضرب عبده فمات، أو أن يذبح حمامة فطارت فلا حنث عليه إن لم يفرط. الثاني أن يمتنع شرعاً كمن حلف ليطأن زوجته فوجدها حائضاً، فإن لم يطأها فاختلف هل يحنث أم لا، وإن وطئها فقيل أثم على المشهور وبر يمينه. وقيل لم يبر لأنه قصد وطأها مباحاً اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " وتعتبر النية، ثم الباعث، ثم العرف، ثم الوضع " يعني كما في أقرب المسالك: وخصصت نية الحالف، وقيدت، وبنيت، والمعنى فالعبرة في الحلف بالنية وإذا لم توجد النية يعتبر البساط وهو الباعث على الحلف. ثم إن لم يوجد الباعث يعتبر بالعرف القولي، ثم العرف الشرعي. فتحصل أن ما تخصص به اليمين أو يقيدها أمور أربعة: النية، والبساط، والعرف القولي، والمقصد الشرعي. قال الصاوي: والخامس العرف الفعلي على ما لابن عبد السلام. قال الدردير: وإنما تعتبر النية

في التخصيص والتقييد أي يعتبر تخصيصها أو تقييدها إذا لم يسلتحف في الحق الذي عليه لغيره، وإلا بأن استحلف في حق فالعبرة حينئذ بنية المحلف سواء كان مالياً كدين وسرقة أم لا، فمن حلفه المدعي أنه ليس له عليه دين، أو لقد وفاه، أو أنه ما سرق، أو ما غصب، فحلف وقال نويت من بيع أو من قرض أو من عرض الذي على خلاف ذلك لم يفده ولزمه اليمين بالله أو بغيره، أو حلف ما سرقت، وقال نويت من الصندوق وسرقتي كانت من الخزانة أو نحو ذلك لم يفده، وكذا لو شرطت عليه الزوجة عند العقد أن لا يخرجها من بلدها أو لا يتزوج عليها وحلفته على أنه إن تزوج عليها أو أخرجها فالتي يتزوجها طالق، أو فأمرها بيدها فحلف ثم فعل المحلوف عليه وادعى نية شيء لم يفده؛ لأن اليمين بنية المحلف لأنه اعتاض هذه اليمين من حقه فصارت العبرة بنيته دون الحالف اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فمن حلف لا شربت لفلان ماء يريد عدم الانتفاع بماله، أو قطع منته حنث ولو بسلك يخيط به " لأن الحنث يحصل بأقل الوجوه، بخلاف البر كما تقدم. قال رحمه الله تعالى: " أو قال لا سكنت مع فلان لزمه الانتقال بأهله ومتاعه بدار، فإن أراد في بلده فإلى فوق ثلاثة أميال " قال المواق: ومما ينظر فيه إلى المقاصد وإلى السبب المحرك على اليمين، أن يحلف أن لا يساكن إنساناً، فإنه ينتقل عن مساكنته حتى تنتقل حالته عن الحالة الأولى التي كان عليها، فإن كان معه أولاً في بلد وظهر أنه قصد الانتقال عنه وجب عليه ذلك، وإن كان معه في قرية فكذلك أيضاً، وإن كان في حارة انتقل عنها اهـ. قال رحمه الله تعالى: " أو حلف لا يلبس ثوباً وهو لابسه أو لا يركب دابة وهو راكبها، أو لا يدخل بيتاً وهو فيه لزمه المبادرة إلى الترك إلا أن يريد الاستئناف " قال ابن جزي: من حلف أن لا يسكن داراً وهو ساكنها، أو أن لا يلبس

ثوباً وهو عليه، أو أن لا يركب دابة وهو عليها لزمه النزول أول أوقات الإمكان، فإن تراخى مع الإمكان حنث. وفي الواضحة: لا يحنث عليه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " أو حلف لا يأكل شيئاً بعينه فانتقل عن صفته، فإن أراد ما دام على تلك الصفة وإلا حنث، أو على شيء أو أشياء ففعل البعض حنث، ويستوي العمد والسهو " يعني من حلف أن لا يأكل شيئاً بعينه كهذا اللحم فانتقل بشيء أو طبخ فأكله حنث، إلا إذا أراد ما دام على تلك الصفة التي كانت عليه قبل إزالة ما يكره منه فحينئذ لا يحنث بأكله لبساط يمينه بذلك. قال ابن جزي في آخر الفروع: من حلف على فعل شيء ينتقل حنث بما ينتقل إليه، كالحالف على القمح فأكل خبزه، أو على اللبن فأكل جبنه، أو على العنب فأكل زبيبه. وقيل لا يحنث اهـ وقوله وقيل لا يحنث إشارة إلى قول المصنف: فإن أراد ما دام على تلك الصفة يعني فلم يحنث لبساط يمينه الحامل له من تلك الصفة المذكورة. وقوله وإلا حنث راجع إلى أصل المسألة التي هي الحنث. قوله أو على شيء أو أشياء إلخ يعني يحنث بالبعض حيث كانت الصيغة صيغة حنث وإلا فلا يبر إلا بفعل الكل لأن الذمة لا تبرأ في صيغة البر إلا بالكل. قال الصاوي: إذا كانت الصيغة صيغة حنث وحلف على شيء ذي أجزاء فلا يبر بفعل البعض. وذكر العلامة العدوي أن من حلف عليه بالأكل فإن كان آخر الأكل فلا يبر الحالف إلا بأكل المحلوف عليه ثلاث لقم فأكثر، وإن لم يكن المحلوف عليه في آخر الأكل فلا يبر إلا بشبع مثله اهـ. قال ابن جزي: إذا حلف على فعل فهل يحمل على أقل ما يحتمله اللفظ أو على الأكثر وهو المشهور؟ قولان. وعليه الخلاف فيمن حلف أن لا يأكل رغيفاً فأكل بعضه فإنه يحنث في المشهور. ولو حلف أن يأكله لم يبر إلا بأكل جميعه اهـ. وقوله ويستوي العمد والسهو، تقدم الكلام في هذه الجملة فراجعها إن شئت.

قال رحمه الله تعالى: " ويلغى تحريم الحلال إلا في الزوجة والأمة فيلزمه الطلاق والعتق " يعني لا يعتبر بتحريم المكلف على نفسه شيئاً مما أحل الله له مطلقاً إلا الزوجة والأمة. قال في الرسالة: ومن حرم على نفسه شيئاً مما أحل الله له فلا شيء عليه إلا في زوجته فإنها تحرم عليه إلا بعد زوج اهـ قال النفراوي قوله من حرم على نفسه شيئاً مما أحل الله له من طعام أو شراب أو لبس ثوب أو نحو ذلك فلا شيء عليه سوى الاستغفار لإثمه بهذه الألفاظ. ولا يحرم عليه ما حرمه على نفسه لأن المحرم والمحلل إنما هو الله تعالى. وقد ذم الله فاعل ذلك بقوله: {قل أرءيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل ءالله أذن لكم أم على الله تفترون} [يونس: 59] قال تعالى: {لا تحرموا طيبات مآ أحل الله لكم} [المائدة: 87] وقوله: إلا في زوجته أي في تحريمها فإنها تحرم عليه إلا من بعد زوج. قال خليل: وتحريم الحلال في غير الزوجة والأمة لغو، ومثله في أقرب المسالك. قال الصاوي عليه: قوله في غير الزوجة دخل في غير الأمة ما لم يقصد بتحريمها عتقها وإلا لم يكن لغواً. قال النفراوي: وأما تحريم الأمة فكتحريم الطعام والشراب لا يلزم بتحريمه إلا الاستغفار، إلا أن يقصد بتحريم الأمة عتقها فتعتق عليه، ولا يحل له وطؤها بعد ذلك إلا بعقد نكاح برضاها، وبصداق وشهود كالأجنبية. قال الدردير: فمن قال كل حلال علي حرام، أو اللحم أو القمح علي حرام إن فعلت كذا ففعله فلا شيء عليه؛ إلا في الزوجة إذا قال إن فعلته فزوجتي علي حرام، أو فعلي الحرام فيلزمه بت المدخول بها على المشهور وطلقة في غيرها ما لم ينو أكثر. ولو قال كل علي حرام فإن حاشى الزوجة لم يلزمه شيء كما تقدم، وإلا لزمه فيها ما ذكر اهـ قال مالك في المدونة: لا يكون الحرام يميناً في شيء من الأشياء: لا في طعام، ولا في شراب، ولا في أم ولد إن حرمها على نفسه، ولا خادمه، ولا عبده، ولا فرسه، ولا في شيء من الأشياء إلا أن يحرم امرأته فيلزمه الطلاق. إنما ذلك في امرأته وحدها اهـ. ثم انتقل يتكلم على الاستثناء فقال رحمه الله تعالى:

فصل في الاستثناء بـ إلا وأخواتها

فَصْلٌ في الاستثناء بـ إلا وأخواتها أي في الاستثناء وهو حل اليمين إذا قصد ذلك. قال رحمه الله تعالى: " والاستثناء يمنع الانعقاد " بشرط قصده، فإن جرى على لسانه من غير قصد أو قصد به التبرك فلا ينفعه الاستثناء، لأن شروطه ثلاثة: قال في الرسالة: ومن استثنى فلا كفارة عليه إذا قصد الاستثناء، وقال إن شاء الله، ووصلها بيمينه قبل أن يصمت وإلا لم ينفعه ذلك اهـ. قال رحمه الله مبيناً حقيقة الاستثناء: " وهو بمشيئة الله إن قصده " ونطق به وإن سراً بحركة لسانه، فلا تكفي النية من غير تلفظ. قال رحمه الله تعالى: " وبإلا وأخواتها " وهي غير، وسوى، وليس، وخلا، وعدا، وحاشا، وغيرها من أدوات الاستثناء. قال رحمه الله تعالى: " نطقاً متصلاً إلا أن ينقطع بسعال ونحوه " يعني من شروط الاستثناء أن ينطق به، وأن يتصل بيمينه من غير فصل إلا لعارض كسعال أو عطاس أو تثاؤب أو شبه ذلك. والحاصل أن شروط الاستثناء ثلاثة: القصد والنطق، واتصال بيمين، والرابع أن لا يستحلف في حق، وإلا بأن لم يقصد الاستثناء، أو لم ينطق به وإن سراً، أو فصل اختياراً بين اليمين وبين قوله إن شاء الله، أو استحلف في حق الغير لم ينفعه الاستثناء، وتلزمه الكفارة قال النفراوي وغيره. قال رحمه الله تعالى: " وتلزم الكفارة بالحنث " يعني تلزم كفارة اليمين بسبب الحنث كالأمثلة السابقة. قال رحمه الله تعالى: " وهي " أي كفارة اليمين على أربعة أنواع: الإطعام، والعتق، والكسوة، على التخيير في الثلاث. ثم الصيام كما

سيأتي. قال رحمه الله تعالى: وهي " إطعام عشرة مساكين " من المسلمين الأحرار بدفع مد لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يكون الطعام من أوسط ما يطعم أهل البلد أو من أوسط طعام المكفر على مقابل المشهور. قال رحمه الله تعالى: " وسطاً " أي من أوسط ما تطعمون أهليكم كما في الآية الكريمة، وله أن يشبعهم غداء وعشاء، أو كما قال رحمه الله: " من الشبع رطلان خبزاً " بالبغدادي. قال النفراوي: ويقوم مقام المد شيئان على سبيل البدلية: أحدهما رطلان من الخبز بالرطل البغدادي مع شيء من الإدام: لحم أو لبن أو زيت أو قطنية أو بقل على جهة الندب على المشهور، وثانيهما إشباع العشرة مرتين كغداء وعشاء، أو غداءين، أو عشاءين، وإن لم يستوف كل واحد قدر المد، وسواء كانوا مجتمعين أو متفرقين اهـ. قال ابن جزي فأما الاطعام فمد بمد النبي صلى الله عليه وسلم، لكل مسكين إن كان بالمدينة، فإن كان بغيرها قال ابن القاسم يجزيه المد بكل مكان. وقال غيره يخرج الوسط من الشبع، وقال بعضهم هو رطلان بالبغدادي وشيء من الإدام، وعد ذلك وسطاً من الشبع في جميع الأمصار، والوسط من الشبع في بلادنا رطل ونصف رطل من أرطالنا اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويستحب شيء من الإدام " تقدم فيه كلام النفراوي. قال الدردير: وندب بإدام أي من تمر أو زيت أو لحم أو غير ذلك اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والعدد شرط " قال الخرشي: وأما العدد فلا بد منه. وقال زروق في شرحه على الرسالة: وشرط في الإطعام التعدد، فلا تعطى لأكثر ولا لأقل ولا لواحد مراراً. وقال أيضاً في الكسوة: والعدد شرط فيها كالإطعام اهـ. قال ابن جزي في التفسير: اشتراط المسكنة دليل على أنه لا يجزى في الكفارة إطعام غنى، فإن أطعه جهلاً لم يجزه على المشهور من المذهب اهـ. فتحصل أن العدد شرط في الإطعام كما هو شرط في الكسوة، فلا بد من عدد الأمداد والمساكين فيهما.

ثم أشار إلى النوع الثاني من أنواع كفارة فقال رحمه الله تعالى: " أو كسوتهم ما تجزئ به الصلاة " يعني أن الثاني من أنواع الكفارة التي يخير فيها المكفر الكسوة قال في الرسالة: وإن كساهم كساهم للرجل قميص وللمرأة قميص وخمار اهـ. يعني المراد بالكسوة التي تجزئ بها الصلاة ولو من غير وسط كسوة أهله، والصغير يعطى كسوة كبير من أوسط الرجال. قال خليل: والرضيع كالكبير فيهما. قال المواق من المدونة: يعطى الرضيع من الطعام كما يعطى الكبير إن أكل الطعام. قال ابن القاسم: وإن كسا صغار الإناث فليعط درعاً وخماراً كالكبيرة، والكفارة واحدة لا ينقص منها للصغير ولا يزداد فيها للكبير. وعن ابن المواز عن مالك قال: لا يعجبني كسوة المراضع على حال انتهى نقل ابن يونس اهـ. وأشار إلى ثالث الأنواع الثلاثة المخير فيها المكفر الحر بقوله رحمه الله تعالى: " أو تحرير رقبة صفتها ما تقدم " أي في كفارة الصيام من كونها رقبة مؤمنة كاملة الرق غير معيبة ولا مستحقة العتق. قال الدردير: أو عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب كالظهار، فلا يجزئ مقطوع يد أو رجل أو إصبع أو أعمى أو مجنون أو أبكم أو أصم إلى آخر ما سيأتي هناك، أي في كفارة الظهار اهـ. قال النفراوي: ولا يشترط كبرها لإجزاء الرضيع. وقولنا المكفر الحر لإخراج العبد كما يأتي فإنه يكفر بالصوم إلى أن يأذن له سيده في الإطعام فيجزئه، ولا يجزئه العتق ولو أذن له سيده لأنه لا ولاء له على من أعتقه، إنما ولاؤه لسيده ولا يعتق إلا من يستقر له الولاء اهـ. وأشار للنوع الرابع الذي لا يجزئ إلا عند العجز عن الثلاثة المتقدمة التي على التخيير، فقال رحمه الله تعالى: " فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام " يعني كما في الرسالة:

" فإن لم يجد ذلك ولا إطعاماً فليصم ثلاثة أيام يتابعهن، فإن فرقهن أجزأه. وله أن يكفر قبل الحنث أو بعده، وبعد الحنث أحب إلينا " كما يأتي عن قريب. وقال النفراوي: فلا يصح صيام من حر مع القدرة على شيء من الثلاثة لوجوب الترتيب بينها وبين الصوم والمعتبر في عجزه أن لا يجد إلا قوته أو كسوته، والمعتبر أيضاً العجز حال إخراج الكفارة وإن كان ملياً حين الحلف أو الحنث. فإن شرع في الصوم لعجزه عن أقل الأنواع الثلاثة ثم أيسر فإن كان في أثناء اليوم الأول وجب عليه الرجوع للتكفير بما قدر عليه، وإن كان بعد كمال اليوم الأول وقبل كمال الثالث ندب له الرجوع للتكفير بما قدر عليه اهـ مع حذف وإيضاح. ثم قال رحمه الله تعالى: " وتتكرر الكفارة بتكرر اليمين إلا أن يريد التأكيد " قال خليل: وتكررت إن قصد تكرر الحنث، أي بيمين واحدة، كقوله: والله لا يكلم فلاناً، ونوى أنه كلما كلمه يحنث فتتكرر الكفارة بتكرر كلامه، وكقوله: أنت طالق إن خردت إلا بإذني فخرجت مرة بغير إذنه وطلقت واحدة وراجعها، وخرجت ثانياً بغير إذنه طلقت أيضاً واحدة، فإن راجعها وخرجت بلا إذنه طلقت أيضاً إن كان نوى كلما خرجت بغير إذنه إلى تمام العصمة المعلق فيها، وإلا فلا تلزمه غير الأولى اهـ نقل عن ابن المواز كما في الإكليل. قال ابن جزي: ولا خلاف أن من حلف على أمور شتى يميناً واحدة أنه يلزمه كفارة واحدة وأن من حلف على شيء واحد أيماناً كثيرة أنه يلزمه كفارة لكل يمين، فإن حلف على شيء واحد مراراً كثيرة، كقوله والله والله والله ففي كل يمين كفارة إلا إذا أراد التأكيد اهـ. قال في الرسالة: ومن قال علي عهد الله وميثلقه في يمين فحنث فعليه كفارتان. قال النفراوي: والمعتمد في المذهب أنه لا يلزمه إلا كفارة واحدة ولو كانت اليمين بألفاظ مختلفة المعاني أو بجميع الأسماء والصفات سواء قصد الحالف بتعددها التأكيد أو الإنشاء أو لا قصد له إلا أن ينوى كفارات فتتعدد اهـ. وأما إن قصد التأكيد فلا يلزمه إلا كفارة واحدة. قال في الرسالة: وليس على من وكد

اليمين فكررها في شيء واحد غير كفارة واحدة اهـ قال مالك في الموطأ: فأما التوكيد فهو حلف الإنسان في الشيء الواحد مراراً يريد فيه الأيمان يميناً بعد يمين، كقوله: والله لا أنقصه من كذا وكذا يحلف بذلك مراراً ثلاثاً أو أكثر من ذلك، قال كفارة ذلك كفارة واحدة مثل كفارة اليمين اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والمشهور إجزاؤها قبل الحنث " يعني أن المشهور من أقوال الأئمة جواز تقديم الكفارة على الحنث. قال ابن جزي في القوانين الفقهية: يجوز تقديم الكفارة قبل الحنث وفاقاً للشافعي. وقيل لا يجوز وفاقاً لأبي حنيفة اهـ. انظر المواق. قال رحمه الله تعالى: " وفي الصيام خلاف " يعني هل يجوز تقديم صيام الكفارة قبل الحنث عند عدم القدرة على أحد الثلاثة من أنواع الكفارة المتقدمة أو لا يجوز تقديمه؟ في ذلك خلاف بين الأئمة في المذهب. قال ابن عبد البر في الكافي في الكلام على كفارة اليمين: قيل يجوز تقديمها بغير الصوم، وأما بالصوم فلا. وفي التهذيب: وإن كفر معسر بالصوم قبل الحنث ثم أيسر بعد الحنث فلا شيء عليه اهـ نقله ابن ناجي في شرحه على الرسالة. قال رحمه الله تعالى: " ويكفر العبد بالصيام والله أعلم " يعني أن كفارة العبد تكون بالصيام إلا أن يأذن له السيد فيجوز له أن يكفر يمينه بغير العتق كما تقدم لنا فراجعه إن شئت والله أعلم. ولما فرغ من الكلام على ما أراده من الأيمان شرع في الكلام على النذر فقال رحمه الله تعالى:

كتاب النذور

كتاب النذور النذور جمع نذر، قال تعالى: {يوفون بالنذر} [الإنسان: 7] النذر " هو التزام مسلم مكلف قربة ولو بالتعليق على معصية أو غضبان "، كلله علي، أو علي ضحية، أو إن حججت، أو شفى الله مريضي، أو إن جاءني زيد، أو قتلته فعلي صوم شهر، أو شهر كذا وحصل أي المعلق عليه فيلزمه نذره اهـ الدردير: قال رحمه الله تعالى في تعريفه: " وهو التزام طاعة مطلقاً أو مقيداً بصفة ولو في الغضب " المعنى من التزم على نفسه قربة كقول المكلف لله على أن أصلي، أو أن أصوم لزمه الوفاء بما نوى من ذلك البر وإن لم يسم شيئاً وليس له نية لم يلزمه شيء إلا إذا قال لله علي نذر فتلزمه كفارة يمين. قال في الرسالة: ومن نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه، وأصله في المدونة والموطأ عن مالك بإسناده عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنظره في الزرقاني. وقال في الرسالة: ومن نذر صدقة مال غيره أو عتق عبد غيره لم يلزمه شيء. ومن قال إن فعلت كذا فعلي نذر كذا وكذا لشيء يذكره من فعل البر من صلاة أو صوم أو حج أو عمرة أو صدقة شيء سماه فذلك يلزمه إن حنث كما يلزمه لو نذره مجردا من غير يمين، وإن لم يسم لنذره مخرجاً من الأعمال فعليه كفارة يمين، وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله: " وما لا مخرج له فيه كفارة يمين " يعني كما قال النفراوي: النذر الذي لم يعين فيه مخرجاً ولم يسم شيئاً من أعمال البر ولا من الذوات التي يتقرب بها، بأن قال لله علي نذر هو الذي يسمى بالنذر المبهم، والنذر المبهم حكمه عند مالك حكم اليمين بالله. قال الأجهوري: النذر المبهم كاليمين بالله في الاستثناء واللفو والغموس والكفارة، وإنما يتخالفان في أنه إذا كرر لفظ النذر تكررت عليه الكفارة إلا أن ينوي الاتحاد، بخلاف

اليمين بالله فقد سمع ابن القاسم في الحلف بعشرين نذراً عشرين كفارة اهـ بتصرف. قال رحمه الله تعالى: " فإن قيده بطاعة وفعلها لزمه " يعني فإن قيد نذره بطاعة الله، كقوله لله علي هدي إن حججت فيلزمه الهدي إن حج ينحره بمنى أو بمكة، أو قال لله علي أن أتصدق بدينار إن شفى الله مريضي أو غير ذلك من وجوه البر فيلزمه الوفاء بنذره بعد حصول مقصوده وهو المعلق عليه. قال ابن جزي: وأما المقيد فهو المعلق بشرط كقوله: إن قدم فلان، أو شفى الله مريضي، أو إن قضى الله حاجتي فعلي كذا. أو هو مباح. وقيل مكروه وهو المشهور. ويلزم الوفاء به سواء علقه على قربة أو معصية أو مكروه مباح ولا يقضى عليه بالوفاء به إذ لا يجزيه إلا بنية اهـ. قال رحمه الله تعالى: " أو بمعصية لم يجز فعلها " معطوف على طاعة، يعني فإن قيد نذره بمعصية لا يجوز له فعلها لقوله عليه الصلاة والسلام: " ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " قال في الرسالة: ومن نذر معصية من قتل نفس أو شرب خمر أو شبهه أو ما ليس بطاعة ولا معصية فلا شيء عليه وليستغفر الله اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فإن فعلها لزمه " يعني فإن فعل المعصية لزمه ما سمى من الطاعة وعليه إثم المعصية. قال الدردير: أو إن قتلته فعلي صوم شهر أو شهر كذا فحصل المعلق عليه فيلزمه المعلق والمعلق عليه في هذا معصية يرغب في حصولها، فإن كان مقصوده الامتناع منها فيمين لا نذر اهـ. قال في الرسالة وإن حلف بالله ليفعلن معصية فليكفر عن يمينه ولا يفعل ذلك، وإن تجرأ وفعله أثم ولا كفارة عليه ليمينه اهـ هذا أي الذي ذكره صاحب الرسالة خلاف ما مشى عليه المصنف من اللزوم. والجواب في ذلك أن كلام المصنف في النذر الذي سمي فيه مخرج، معاصي الله تبارك وتعالى فقال علي نذر إن لم أشرب الخمر، أو إن لم أقتل فلاناً أو إن لم أزن بفلانة، أو ما كان من معاصي الله فإنه يكفر نذره في ذلك إذا قال إن لم أفعل فالكفارة كفارة

اليمين إن لم يجعل لنذره مخرجا يسميه، ولا يركب معاصي الله. وإن كان جعل لنذره مخرج شيء مسمى من مشي إلى بيت الله أو صيام أو ما أشبه ذلك فإنه يؤمر أن يفعل ما سمى من ذلك ولا يركب معاصي الله. فإن اجترأ على الله عز وجل وفعل ما قال من المعصية فإن النذر يسقط عنه كان له مخرج أو لم يكن. وقد ظلم نفسه والله حسيبه اهـ فتبين لك أن المخرج في نذر المعصية يسقط عن الناذر بارتكاب تلك المعصية كما تسقط الكفارة بالاجتراء على فعل المعصية مع الإثم العظيم فيهما. قال رحمه الله تعالى: " والتصدق بالمال يوجب ثلثه، وبجزء يلزمه ما سماه " وفي المدونة عن سعيد بن المسيب أنه قال: " من قال مالي صدقة كله فليتصدق بثلث ماله ". وقال ابن شهاب: ولا نرى أن يتصدق الرجل بماله كله فينخلع مما رزقه الله، ولكن بحسب المرء أن يتصدق بثلث ماله اهـ. قال ابن جزي في القوانين: المسألة الثالثة في الصدقة إن نذر صدقة جميع ماله، أو حلف بذلك فحنث كفاه الثلث، وإن نذر أقل من الجميع كالنصف أو الثلثين أو شيئاً بعينه كداره ولا يملك غيرها، أو عدداً معلوماً لزمه ما نوى وإن كان جل ماله أو كله. وقيل يجزيه الثلث وإن لم يعين كفاه ما يتصدق به من قليل أو كثير. وقال أبو حنيفة فيمن نذر جميع ماله: يلزمه جميعه. وقال الشافعي إن كان على وجه النذر لزمه الوفاء به، وإن كان على وجه اللجاج والغضب فعليه كفارة يمين. وقال ابن حبيب إن كان ملياً أخرج ثلث ماله، وإن أجحف به إخراج الثلث أخرج قدر زكاة ماله، وإن كان فقيراً كفر كفارة اليمين. وقال سحنون: يخرج ما لا يضر به سواء عين أو لم يعين. ثم أنه إذا قال لوجه الله فمخرجه الصدقة دون غيرها، وإن قال في سبيل الله كان مخرجه الغزو والجهاد خاصة، وإن قال ذلك في عبده كان مخرجه العتق اهـ. وفي الرسالة: ومن جعل ماله صدقة أو هدياً أجزأه ثلثه: قال النفراوي: قوله أجزأه ثلثه أي حين يمينه. قال خليل: وثلثه حين يمينه إلا أن ينقص فما بقى بمالي

في كسبيل الله وهو الجهاد والرباط بمحل خيف، والدليل على ذلك خبر الموطأ " أن أبا لبابة حين تاب الله عليه قال يا رسول الله أهجر دار قومي التي أصبت الذنب فيها وأجاروك وأنخلع من مالي صدقة لله ولرسوله، فقال له عليه الصلاة والسلام يجزئك من ذلك الثلث " اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " وإن عين حجا أو عمرة لزمه على صفته " يعني وإن عين أن يحج أو يعتمر على الوصف الذي ألزمه على نفسه لزمه الإحرام بما نوى من حج مفرد أو قران أو تمتع، وإن عين العام لزمه أن يحرم فيها مع الاستطاعة في ذلك كما تقدم في الحج مفصلاً. قال رحمه الله تعالى: " فإن التزمه ماشياً لزمه إلى التحلل " يعني فإن التزم على أن يكون ماشياً في حجه أو عمرته لزمه المشي إلى أن يتحلل من حجه الأصغر والأكبر، أو يتحلل من عمرته بإتمام سعيها وفاء لنذره. وفي القوانين لابن جزي: فإن قال علي المشي إلى بيت الله لزمه أن يحج أو يعتمر ماشياً سواء ذكر الحج أو العمرة أم لا، وإن عين أحدهما لزمه بعينه اهـ. وفي الرسالة: ومن حلف بالمشي إلى مكة فحنث فعليه المشي من موضع حلفه فليمش إن شاء في حج أو عمرة، فإن عجز عن المشي ركب، ثم يرجع ثانية إن قدر، فيمشي أماكن ركوبه، فإن علم أنه لا يقدر قعد وأهدى. وقال عطاء: لا يرجع ثانية وإن قدر ويجزئه الهدي، وإذا كان ضرورة جعل ذلك في عمرة فإذا طاف وسعى وقصر أحرم من مكة بفريضة وكان متمتعاً. قال خليل: وإن حج ناوياً نذره وفرضه مفرداً أو قارناً أجزأ عن النذر، وهل إن لم ينذر حجاً تأويلان، وعلى الضرورة جعله في عمرة ثم يحج من مكة على الفور اهـ. وإلى ذلك أشار رحمه الله تعالى بقوله: " فإن ركب في أثنائه عاد فمشى موضع الركوب وأهدى، وفي اليسير يجزيه بعث هدي " يعني يكفيه الهدي في الركوب

اليسير. قال خليل: كأن قل ولو قادراً كالإفاضة فقط، يعني لا يرجع ثانية وإن قدر على الرجوع، بل قال عطاء يجزيه الهدي مطلقاً. قال رحمه الله تعالى: " وإن التزم حافياً انتعل " قال زروق في شرحه على الرسالة: المشهور يمشي على قدميه لا حافياً ولو نذر الحفاء اهـ. وقال الحطاب عند قول خليل كنذر الحفاء: قال في الشامل ومشى في نذر الحفاء والحبو والزحف اهـ. قال مالك: من قال علي المشي إلى بيت الله حافياً راجلاً فلينتعل، وإن أهدى فحسن، وإن لم يهد فلا شيء عليه. ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل نذر أن يمشي حافياً إلى الكعبة القهقرى قال: " مروه أن يمشي بوجهه " وقال ابن وهب عن عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه أن امرأة من أسلم نذرت أن تحج حافية ناشرة شعر رأسها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم استتر بيده منها وقال: ما شأنها؟ قالوا نذرت أن تحج حافية ناشرة رأسها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مروها فلتختمر ولتنتعل ولتمش " اهـ قال ربيعة: لو أن رجلاً قال علي المشي إلى الكعبة حافياً لقيل له البس نعلين وامش، فليس لله حاجة بحفائك، وإذا مشيت منتعلاً فقد وفيت نذرك، وقاله يحيى بن سعيد اهـ المدونة. قال رحمه الله تعالى: " وإن نذر صلاة بأحد المساجد الثلاثة لزمه، وفي غيرها يصلي حيث شاء " يعني كما في الرسالة: ومن نذر مشياً إلى المدينة أو إلى بيت المقدس أتاهما راكباً إن نوى الصلاة بمسجديهما، وإلا فلا شيء عليه، وأما غير هذه الثلاثة المساجد فلا يأتيها ماشياً ولا راكباً لصلاة نذرها وليصل بموضعه اهـ. قال النفراوي: والحاصل أن ناذر المشي إلى مكة يلزمه ولو لم ينو صلاة ولا صوماً ولا غيرهما، ويجعله عند التعيين فيما عينه، وعند عدم التعيين في حج أو عمرة. وأما ناذر المشي إلى غيرها ففيه تفصيل بين كونه إلى المدينة أو الياء، وقد بين المصنف حكمه فيهما، يعني بالمصنف صاحب الرسالة من قوله إن نوى الصلاة بمسجديهما أتاهما وإلا فلا شيء عليه، كما لا يلزمه

المشي في غيرهما ولو نوى الصلاة فليصل في موضعه اهـ مع إيضاح. قال رحمه الله تعالى: " فإن نذر نحر ولده تقرباً لزمه هدي " قال خليل عاطفاً على ما لا يلزمه من النذر: أو علي نحر فلان ولو قريباً إن لم يلفظ بالهدي أو ينوه أو يذكر مقام إبراهيم أي قصته مع ولده. وقيل المراد بمقام إبراهيم مقام الصلاة وهو الحجر الذي وقف عليه عند بناء البيت اهـ. قال في الرسالة: ومن حلف بنحر ولده. قال النفراوي: مثل الحلف النذر فإن ذكر مقام إبراهيم أهدى هدياً يذبح بمكة وتجزئه شاة، وإن لم يذكر المقام فلا شيء عليه ومثله في المدونة اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وفيما يهدى بمثله يلزمه وإلا باعه وصرفه في هدي. والله أعلم " قال مالك في المدونة: من حلف أو نذر فقال داري هذه هدي أو بعيري هذا أو دابتي هذه هدي، فإن كان ذلك الذي حلف عليه أو نذره مما يهدى أهداه بعينه إن كان يبلغ، وإن كان مما لا يهدى باعه واشترى بثمنه هدياً. وفيها أيضاً: فلو قال لله علي أن أهدي بقري هذه فحنث وهو بمصر أو بإفريقية ما عليه في قول مالك؟ قال البقر لا تبلغ من هذا الموضع فعليه أن يبيع بقره هذه ويبعث بالثمن فيشتري بثمنها هدياً من حيث يبلغ، ويجزئه عند مالك أن يشتري له من المدينة أو من مكة أو من حيث أحب من البلدان إن كان الهدي الذي يشتري يبلغ من حيث اشترى اهـ وأشار الناظم إلى جميع ما تقدم من النذر على الاختصار بقوله: النذر في الشرع التزام مسلم ... مكلف ما حكمه الندب اعلم ونذر كل المال بالثلث اكتفي ... بنذر ممنوع وكره لا تفي ومن صلاة أو عكوفاً نذرا ... بمسجد من الثلاث حضرا لفعله ولو نوى بالأفضل ... كغيره وغير ذا لا ترحل ولما أنهى الكلام على النذر وما يتعلق به من الأحكام أراد أن ينتقل ويتكلم على أحكام الأضحية وما عطف عليها، فقال رحمه الله تعالى وأدام نفعنا به في الدارين آمين:

كتاب الأضحية والعقيقة والصيد والذبائح

كتاب الأضحية والعقيقة والصيد والذبائح يعني يشتمل هذا الكتاب على الأحكام الأربعة كلها ترجع إلى معنى الذبيحة، وهي الأضحية والعقيقة والصيد وجميع الذبائح الشرعية، وكل منها لها حكم مستقل يحتاج أن ينفرد ببيان يخصه قال رحمه الله تعالى: " الأضحية سنة " قال العلامة الصاوي على الدردير: والأضحية بضم الهمزة وكسرها مع تشديد الياء فيهما. ويقال ضحية كما سيأتي فلغاتها ثلاث. وسميت بذلك لذبحها يوم الأضحى ووقت الضحى اهـ. وبدأ بحكمها فقال: إنها سنة، وهو كذلك على المشهور وقيل إنها واجبة وهي ما يتقرب بذبحها من الأنعام. قال في الرسالة: والأضحية سنة واجبة على من استطاعها. قال رحمه الله تعالى: " وهي من بهيمة الأنعام " وهي الضأن والبقر والأبل. قال رحمه الله تعالى: " جذع الضأن وثني غيرها " يعني الذي يجزئ الأضحية من الضأن الجذع وهو ابن سنة على المشهور ودخل في الثانية أي دخول، ولو ولد الضأن في يوم عرفة يكفي ذبحه يوم الأضحى كما تقدم في الهدي. والثني من المعز وهو ما أوفى سنة ودخل في الثانية دخولاً بيناً كشهر أو شهرين. قال رحمه الله تعالى: " وأفضلها الغنم والذكر " يعني أن أفضل ما يذبح الأضحية الغنم، واسم الغنم شامل لذكور الضأن والإناث منها ومن المعز، لكن الضأن أفضل من المعز، كما أن ذكور كل نوع أفضل من إناثه. قال في الرسالة: وفحول الضأن في الضحايا أفضل من خصيانها، وخصيانها أفضل من إناثها، وإناثها أفضل من ذكور المعز ومن إناثها، وفحول المعز أفضل من إناثها، وإناث المعز أفضل من الإبل والبقر في الضحايا وأما في الهدايا فالإبل أفضل، ثم البقر، ثم الضأن ثم المعز اهـ كما تقدم في الهدي.

قال رحمه الله تعالى: " فجذع الضأن ما له ستة أشهر فصاعداً " هذا مقابل المشهور. وقيل ابن ثمانية أشهر وهي رواية عن مالك، وقيل ابن عشرة أشهر وهو مروي عن ابن وهب. وقال سحنون ابن ستة أشهر. قال النفراوي فجملة الأقوال أربعة أرجحها أولها كما قررنا. ثم أشار إلى ما تقدم من الثني في كل نوع فقال رحمه الله تعالى: " وثني المعز ما دخل في السنة الثانية، والبقر في الثالثة، والإبل في السادسة " قال ابن جزي: والجذع من البقر ابن سنتين والثني منها ما دخل في الثالثة وفاقاً لهما. وقيل ابن أربع سنين اهـ. قال خليل بجذع ضأن، وثني معز وبقر وإبل ذي سنة، وثلاث، وخمس اهـ يعني بعد كمال كل سنة مما ذكر ودخول السنة التي تليها. قال الخرشي: هو بيان لما يجزئ في الأضحية، وإن جذع الضأن وثني المعز ما أوفى سنة ودخل في الثانية دخولاً ما في جذع الضأن، بخلاف ثني المعز لابد من دخوله فيها بيناً كالشهر، وإن الثني من البقر هو ما أوفى ثلاثاً ودخل في السنة الرابعة، والثني من الإبل هو ما أوفى خمس سنين ودخل في السنة السادسة اهـ. وعبارة صاحب العزية مثل الخرشي. ولفظه: وأقل ما يجزئ في الضحايا من الأسنان الجذع من الضأن، والمعز وهو ابن سنة، والثني من البقر وهو ما دخل في السنة الرابعة، والثني من الإبل وهو ما دخل في السادسة اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ووقتها المعلوم يوم النحر بعد صلاة الإمام وذبحه وثانيه وثالثه، لا ليلاً " قال في الرسالة: وليل الرجل ذبح أضحيته بيده بعد ذبح الإمام أو نحره يوم النحر ضحوة، ومن ذبح قبل أن يذبح الإمام أو ينحر أعاد أضحيته، ومن لا إمام لهم فليتحروا صلاة أقرب الأئمة إليهم وذبحه، ومن ضحى بليل أو أهدى لم يجزه. وأيام النحر ثلاثة يذبح فيها أو ينحر إلى غروب الشمس من آخرها. وأفضل أيام النحر أولها ومن فاته الذبح في اليوم الأول إلى الزوال فقد قال بعض أهل العلم يستحب له أن

يصبر إلى ضحى اليوم الثاني اهـ. قال ابن جزي: يذبح الإمام بالمصلى بعد الصلاة ليراه الناس فيذبحوا بعده، فلا تجزئ من ذبح قبل الصلاة ولا قبل ذبح الإمام بعد الصلاة. وعند الشافعي بعد مقدار الصلاة سواء صلى الإمام وذبح أم لا اهـ. وقال الدردير في أقرب المسالك: من ذبح الإمام بعد صلاته والخطبة لآخر الثالث، فلا تجزئ إن سبقه إلا إذا لم يبرزها تحرى، فإن توانى بلا عذر انتظر قدره وله فلقرب الزوال. ومن لا إمام له تحرى أقرب إمام له تحرى أقرب إمام. والانتظار بقدر ذبح الإمام شرط في صحة الأضحية. وأما الانتظار لقرب الزوال فمندوب اهـ. مع إيضاح. ثم ذكر العيوب المانعة. قال رحمه الله تعالى: " يجتنب فيها العيوب الفاحشة كالعمى والعور والمرض والعجف والعرج وقطع أكثر الأذن وكسر القرن إن كان يدمي " قال الدردير: فالسلامة من جميع ما ذكر شرط صحة. وفي الرسالة: ولا يجوز في شيء من ذلك عوراء ولا مريض، ولا العرجاء البين ضلعها، ولا العجفاء التي لا شحم فيها، ويتقي فيها العيب كله، ولا المشقوقة الأذن إلا أن يكون يسيراً، وكذلك القطع ومكسورة القرن إن كان يدمي فلا يجوز، وإن لم يدم فذلك جائز اهـ. انظر فواكه الدواني للنفراوي. قال رحمه الله تعالى: " ولا يجوز الاشتراك فيها بخلاف رب المنزل يضحي عنه وعن أهله واحدة غير مشتركين في ثمنها " قال الدردير: وشرطها النهار بطلوع الفجر في غير الأول، وإسلام ذابحها، والسلامة من الشرك إلا في الأجر قبل الذبح، وإن أكثر من سبعة إن قرب له وأنفق عليه ولو تبرعاً، إن سكن معه فتسقط عن المشترك. فتحصل أن شروط الاشتراك في الضحية ثلاثة: أن يكون قريباً له كابنه وأخيه وابن عمه، ويلحق به الزوجة، وأن يكون في نفقته، وأن يكون ساكناً معه بدار واحدة سواء كانت النفقة غير واجبة كالأخ وابن العم أو واجبة كأب وابن فقيرين كما هو ظاهر

النقول اهـ. قال الصاوي عليه: فإن اختل شرط منها فلا تجزئ عن المشرك بالكسر ولا عن المشرك بالفتح اهـ. ونقل الحطاب عن المدونة: ولو اشترى أضحيته عن نفسه ثم نوى أن يشترك فيها أهل بيته جاز ذلك بخلاف الهدي، وعن سحنون أنه قال: ليس على الرجل أن يضحي عن زوجته، وإنما هي سنة لا ينبغي له تركها، فإن أدخل زوجته في أضحيته أجزأها وإلا كان عليها أن تضحي عن نفسها اهـ. وفي المواق: قال مالك وليس على الرجل أن يضحي عن زوجته إلا أن يشاء بخلاف الفطرة اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويستحب مباشرة ذبحها " وتقدم قول صاحب الرسالة وليل الرجل ذبح أضحيته بيده. وفي أقرب المسالك عاطفاً على المندوبات: وذبحها بيده، وكره نيابة بغير ضرورة وأجزأت، وإن نوى عن نفسه كذبح كقريب اعتاده. قال ابن جزي: الأول أن يتولى ذبح أضحيته بيده، فإن لم يمكنه فليوكل على الذبح مسلماً مصلياً وينوي هو لنفسه، فإن نوى الوكيل عن صاحبها جاز وإن نوى عن نفسه جاز خلافاً لأشهب، فإن ذبحها تارك الصلاة استحب إعادتها اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويأكل ويتصدق بغير حد " يعني يستحب للمضحي أن يأكل من أضحيته غير شيء محدود وأن يتصدق للفقراء ويهدي للأغنياء والجيران. قال ابن جزي: الأفضل أن يأكل من الأضحية ويتصدق، فلو اقتصر على أحدهما أجزأ على كراهة اهـ. ومثله في الرسالة وغيرها. قال رحمه الله تعالى: " ولا يجوز بيع شيء ولا يستأجر به جزاراً ولا دباغاً " قال في الرسالة: ولا يباع من الأضحية والعقيقة والنسك لحم ولا جلد ولا ودك ولا عصب ولا غير ذلك. قال خليل: ومنع البيع وإن ذبح قبل الإمام أو تعيبت حالة الذبح أو قبله، أو ذبح معيباً جهلاً، ومثل الضحية الهدي والفدية والعقيقة. واعلم أن بيع هذه المذكورات غير جائز إلا المتصدق أو الموهوب له فيجوز لهما بيع ما تصدق أو وهب لهما، ولو علم ربها بذلك،

فصل في العقيقة وما يفعل للمولود يوم سابعه

وأما إن وقع البيع من ربها أو إبدال فسخ، فإن فات وجب التصدق بالعوض، فإن فات العوض فإنه يتصدق بمثله وجوباً اهـ قوله: ولا يستأجر به إلخ قال ابن جزي: ولا يعطى الجزار أجرته من لحمها ولا جلدها ولا الدباغ على دبغها بعض جلودها. وإذا وهبت أو تصدق بها فهل للمعطي أن يبيعه قولان اهـ. وقد علمت مما تقدم أن البيع لهما جائز فتنبه. ولما أنهى الكلام على الأضحية انتقل يتكلم على العقيقة وأحكامها فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في العقيقة وما يفعل للمولود يومَ سابعه أي في بيان العقيقة وما يتعلق بها من أحوال المولود. قال رحمه الله تعالى: " العقيقة ذبح شاة عن المولود سابع ولادته " قال مالك في المدونة: والعقيقة مستحبة لم يزل من عمل المسلمين، وليست بواجبة ولا سنة لازمة، ولكن يستحب العمل بها. وقد عق عن حسن وحسين ابني فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وليس يجزئ فيها من الذبائح إلا ما يجزئ في الضحية، فلا يجزئ فيها عوراء ولا عرجاء ولا جرباء ولا مكسورة ولا ناقصة ولا يجز صوفها، ولا يبيع جلدها ولا شيئاً من لحمها ويتصدق منها. وسبيل العقيقة في جميع وجوهها ووقت ذبحها وقت ذبح الضحية ضحى في اليوم السابع من مولد الصبي الذكر والأنثى فيه سواء، يعق عن كل واحد بشاة شاة. وقد سئل عن الرجل يولد له الولدان في بطن واحد أيعق عنهما بشاة واحدة؟ فقال بل شاة شاة عن كل واحد منهما اهـ. قال ابن رشد في المقدمات: وهي سنة من سنن الإسلام، وشرع من شرائعه إلا أنها ليست بواجبة عند مالك وجميع أصحابه: وهي عندهم من السنن التي الأخذ بها فضيلة وتركها غير خطيئة. ثم قال: العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم سابعه. وأفضل ما يعق به الضأن ثم المعز إلى آخر ما تقدم

في الضحايا. قال عطاء: ويعق عنه يوم سابعه، ولا يحسب في السبعة الأيام اليوم الذي ولد فيه إن سبق الفجر بأن طلع قبل الولادة ولو بزمن يسير جداً، فإن ولد مع الفجر حسب يومها، ومفهوم قوله يوم سابعه أنه لا يعق عنه قبل يوم السابع ولا بعده في سابع الثاني أو الثالث كما في التتائي على الرسالة، وهو كذلك فيما قبله وعلى المشهور فيما بعد. قال الدردير في أقرب المسالك: وتسقط بغروبه أي يوم السابع كما تسقط الأضحية بغروب اليوم الثالث. ومثله في شرح الرسالة. وروي ابن وهب عن مالك. أنه إن لم يعق عنه يوم سابعه عق عنه يوم السابع الثاني. فإن لم يفعل عق عنه في الثالث، فإن جاوز ذلك فقد فات موضع العقيقة. وفي الصاوي: وقيل لا تفوت بفوات الأسبوع الأول بل تفعل يوم الأسبوع الثاني، فإن لم تفعل ففي الأسبوع الثالث ولا تفعل بعده. وعند الشافعية لا تسقط أصلاً فإن لم يفعلها أبوه طولب بها هو بعد البلوغ اهـ وكل ذلك بشرط حياته، وأما إن مات الولد قبل اليوم السابع أو في يوم السابع مع طلوع الفجر لم يعق عنه، وإن مات بعد الفجر وقبل الذبح فإنه يعق عنه. قال العدوي: ظاهره أنه متى ما بقي حياً للسابع يعق عنه ولو مات قبل العق، وليس كذلك فقد نقل عن مالك أنه لا يعق عنه. قال ابن ناجي: وهو ظاهر المدونة اهـ وتكون العقيقة من مال الأب على المشهور. قال رحمه الله تعالى: " والأفضل عن الذكر بشاتين " أخذ المصنف بظاهر هذا الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم " من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل، عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة " وأخذ مالك من فعله صلى الله عليه وسلم من أنه عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً. وتقدم ما في المدونة من قول مالك: إن الذكر والأنثى فيه سواء يعق عن كل واحد بشاة شاة. قال رحمه الله تعالى: " ويستحب حلق شعره والتصدق بزنته ذهباً أو فضة " يعني كما قال عطاء: يبدأ بالحلق قبل الذبح، فإذا حلق شعر رأسه يندب التصدق بوزنه

ذهباً أو فضة بقدر الطاقة. ثم يعق عنه ويسميه بأحسن اسم كعبد الله أو أحمد أو محمد نحو ذلك. ويبارك فيه أهل الفضل والصلاح. قال في الرسالة: وإن حلق شعر رأس المولود وتصدق بوزنه من ذهب أو فضة فذلك مستحب. قال رحمه الله تعالى: " ولا يلطخ بدمها " أي يكره أن يلطخ رأس المولود بشيء من دم العقيقة لأن ذلك من فعل الجاهلية، ويستحب أن يلطخ رأسه بكزعفران. قال الدردير: وجاز تلطيخه بخلوق. أي طيب بدلاً عن الدم الذي كانت تفعله الجاهلية اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويجوز كسر عظامها " وقيل يندب لأن فيه مخالفة للجاهلية في امتناعهم من كسر عظامها مخافة ما يصيب المولود وتقطيعها من المفاصل فجاء الإسلام بخلاف ذلك اهـ الإكليل. وفي المواق نقلاً عن الموطأ: العقيقة بمنزلة الضحايا، وتكسر عظامها ولا يمس الصبي بشيء من دمها. قال عبد الوهاب: ليس كسر عظامها بمسنون إنما هو جائز. قالت عائشة وعطاء وابن جريج: لا يكسر لها عظم. وروى في الحديث: " من ولد له مولود فأذن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى رفعت عنه أم الصبيان " اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وهي كالأضحية فيما يجوز ويمتنع " وتقدم أن الأضحية يأكلها ربها ويتصدق، وكذلك العقيقة، ويجوز الادخار وله أن يطعم الغني والفقير كيف شاء إلا أنه يمنع عليه البيع ودفعها إجارة للجزار وغيره ويكره عملها وليمة بأن يجمع عليها الناس كوليمة العرس لمخالفة السلف. وسبيل العقيقة كالأضحية إلا ما يخصها بعينه فتخص ببيانه. والله أعلم. ولما أنهى الكلام على العقيقة انتقل يتكلم على أحكام الصيد وبيان ما يباح منه وما لا يباح. فقال رحمه الله تعالى:

فصل في بيان الصيد وما يتعلق به من الأحكام

فَصْلٌ في بيان الصيد وما يتعلق به من الأحكام قال الزرقاني على الموطأ: أصل الصيد مصدر ثم أطلق على الصيد كقوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر} {المائدة: 96}. و {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} {المائدة: 95} والمراد في هذه الترجمة أحكام الصيد الذي هو المصدر اهـ. وقد ثبت جواز أكل الصيد بالكتاب والسنة والإجماع. فأما الكتاب فقول الله تعالى: {يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم وأذكروا أسم الله عليه} {المائدة: 4}. وقوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} {المائدة: 2} فالأمر في الآية الكريمة يفيد حل الصيد. وأما السنة فكثيرة منها ما رواه البخاري ومسلم " أن أبا ثعلبة قال قلت يا رسول الله أنا بأرض صيد أصيد بقوسي أو بكلبي الذي ليس بمعلم أو بكلبي المعلم فما يصلح لي؟ " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل. وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل " وأما الإجماع. فقد أجمع المسلمون على حل أكل الصيد بالشرائط الآتية اهـ فقه المذاهب. قال رحمه الله تعالى: " يباح الاصطياد بالسلاح المحدد " يعني يباح الاصطياد بأي شيء محدد إلا السن والظفر، سواء كان المحدد سلاحاً أو غيره فقد عقد ابن جزي فصلاً في الآلة التي يذكي بها فقال: وهي كل محدد يمكن به إنفاذ المقاتل وإنهار الدم، سواء كان من حديد أو عظم أو عود أو قصب أو حجر له حد أو زجاج إلا أنه يكره غير الحديد من غير حاجة، وتؤكل. وأما السن والظفر ففيهما ثلاثة أقوال، انظر القوانين اهـ.

قال رحمه الله تعالى: " والجوارح المكلبة وهي المطيعة بالإغراء الممتنعة بالزجر فيؤكل ما أنفذت مقاتله وإن أكلت منه إذا كانت مرسلة إليه " الجوارح معطوف على السلاح، والمعنى يباح الاصطياد بالسلاح المحدد، وبالجوارح المكلبة، وهي الكواسب التي ترسل إلى الصيد سواء من الحيوان كالكلب، أو من الطير كالباز تمسكه وتكنعه عن الجرى العادى المعلم منها هي التي يؤكل صيدها التي إذا أرسلت أطاعت وإذا زجرت انزجرت، ولو كانت من جنس ما لا يقبل التعليم عادة كالنمر. قال الصاوي: واعلم أن عصيان المعلم مرة لا يخرجه عن كونه معلماً، كما لا يكون معلماً بطاعته مرة، بل المرجع في ذلك للعرف اهـ. فإذا قتل الجارح المعلم الصيد فإنه يباح لك أكل جميع ما أنفذ مقتله إذا أرسلته فمات قبل قدرتك على ذكاته سواء من الحيوانات أو من الطيور بالشروط المعتبرة في الصيد والصائد. قال الدردير عاطفاً على الذبح: وعقر وهو جرح مسلم مميز وحشياً غير مقدور عليه إلا بعسر لا كافر ولو كتابياً، ولا إنسياً شرد أو تردى بحفرة، بمحدد، أو حيوان علم من طير أو غيره فمات قبل إدراكه، إن أرسله من يده أو من يد غلامه، ولم يشتغل بغيره قبله، وأدماه ولو بأذن، وعلمه من المباح، وإن لم يعلم نوعه منه، وإن تعدد مصيده إن نوى الجميع وإلا فما نواه إن صاده أولاً، لا إن تردد في حرمته أو في المبيح إن شاركه غير ككلب كافر أو غير معلم أو تراخى في إتباعه إلا أن يتحقق أنه لا يلحقه، أو حمل الآلة مع غيره أو بخرجه، أو بات أو صدمه أو عضه بلا جرح، أو اضطرب فأرسله بلا رؤية اهـ. قال في الرسالة: وكل ما قتله كلبك المعلم أو باز المعلم فجائز أكله إذا أرسلته عليه. وكذلك ما أنفذت الجوارح مقاتله قبل قدرتك على ذكاته وما أدركته قبل إنفاذها لمقاتله لم يؤكل إلا بذكاة وكل ما صدته بسهمك أو رمحك فكله، فإن أدركت ذكاته فذكه،

وإن فات بنفسه فكله إذا قتله سهمك ما لم يبت عندك. وقير إنما ذلك فيما بات عندك مما قتلته الجوارح، وأما السهم يوجد في مقاتله فلا بأس بأكله اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويشترط التسمية عند الرمي والإرسال فإن أسترسل بنفسه فأنفذ مقاتله لم يجز أكله إلا أن يدركه مستقر الحياة فيذكيه " قال في الرسالة: وليقل الذابح باسم الله والله أكبر، وإن زاد في الأضحية ربنا تقبل منا فلا بأس بذلك. ومن نسي التسمية في ذبح أضحية أو غيرها فإنها تؤكل، وإن تعمد ترك التسمية لم تؤكل، وكذلك عند إرسال الجوارح على الصيد اهـ. وفي المدونة: قال ابن القاسم: ومن ترك التسمية عمداً على الذبيحة لم أر أن تؤكل الذبيحة، وهو قول مالك. قال والصيد عندي مثله اهـ. قال ابن جزي من شروط الصائد أن يسمي الله تعالى عند الإرسال أو الرمي، كما يسمي الذابح عند الذبح. فقد قال مالك في الكلب يرى الصيد فيخرج فيعدو في طلبه ثم يشليه صاحبه فينشلي أنه لا يؤكل لأنه خرج بغير إرسال صاحبه اهـ. قال في المدونة: هذا إن أنفذ الكلب مقاتله، وإن لم ينفذ مقاتله وأدركه حياً وجب أن يذكيه. ثم شبه بما إذا أدرك فيها حياة مستقرة فلا تؤكل إلا بذكاة. فقال رحمه الله تعالى: " كصيد الشرك والحبالة والبندق وقبضة اليد وصيد مجوسي أو غير معلم أو متروك التسمية أو مرسل على معين صاد غيره أو انحرف عنه إلى ميتة ثم صاده " وهذه الجملة فيها تسع مسائل، وكلها لا تؤكل إلا بذكاة كما في الأصول وتقدم بعضها، وكل مسألة منها لها ترجمة تخصها بالبيان في محلها. قال الدردير على أقرب المسالك: والمراد بالبندق أي البرام الذي يرمى بالقوس فلا يؤكل صيده إذا مات به أو أنفذ مقتله، وأما صيده بالرصاص فيؤكل به لأنه أقوى من السلاح كما أفتى به بعض

الفضلاء واعتمده بعضهم اهـ. قال في حاشية الصاوي عليه: حاصله ببندق الرصاص لم يوجد فيه نص للمتقدمين لحدوث الرمي به بحدوث البارود في وسط المائة الثامنة، واختلف فيه المتأخرون: منهم من قال بالمنع قياساً على بندق الطين، ومنهم من قال بالجواز كأبي عبد الله القروي وابن غازي وسيدي عبد الرحمن الفاسي لما فيه من إنهار الدم والإجهاز بسرعة الذي شرعت الذكاة لأجله. ثم إن محل الاحتراز عن العصا وبندق الطين إذا لم يؤخذ الصيد حياً غير منفوذ المقتل وإلا ذكي وأكل قولاً واحداً. وأما إذا أخذ منفوذ المقاتل فلا يؤكل عندنا ولو أدرك حياً وذكي. وعند الحنفية ما أدرك حياً ولو منفوذ جميع المقاتل وذكي يؤكل فلا خلاف بيننا وبينهم في عدم أكل ما مات ببندق الطين وفي أكل الذي لم ينفذ مقتله حيث أدرك حياً وذكي، وإنما الخلاف فيما أدرك حياً منفوذ المقتل وذكي فعندهم يؤكل وعندنا لا اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وما أنفذت الرمية مقاتله فتردى أو سقط في ماء أو غاب ثم وجده جاز أكله " يعني كما في الموطأ عن مالك أنه سمع أهل العلم يقولون: إذا أصاب الرجل الصيد فأعانه عليه غيره من ماء أو كلب غير معلم لم يؤكل ذلك الصيد إلا أن يكون سهم الرامي قد قتله أو بلغ مقاتل الصيد حتى لا يشك أحد في أنه هو الذي قتله وأنه لا يكون للصيد حياة بعده اهـ. قال الزرقاني: فيؤكل لتحقق الإباحة. قال وسمعت مالكاً يقول: لا بأس بأكل الصيد وإن غاب عنك مصرعه إذا وجدت به أثراً من كلبك أو كان به سهمك ما لم يبت، فإذا بات فإنه يكره أكله اهـ. قال الزرقاني: كراهة تحريم على المشهور. قال ابن جزي ولو فات عنه الصيد ثم وجده غداً منفوذ المقاتل لم يؤكل في المشهور. وقيل يؤكل. وقيل يكره. فلو رماه فوقع في ماء أو تردى من جبل لم يؤكل إذ لعل موته من الغرق، أو التردى إلا أن يكون سهمه قد أنفذ مقاتله قبل ذلك فلا يضره الغرق أو التردى اهـ. قلت وما ذكره الدردير وغيره من عدم الأكل للشك

في المبيح، وأما بعد تحقق إنفاذ المقتل وقبل وقوعه في الماء فأكله جائز كما في الخرشي. انظر فقه المذاهب الأربعة. قال رحمه الله تعالى: " ومشاركة كلب مجوسي أو غير معلم " يعني من جملة المسائل التي لا يؤكل فيها الصيد إلا بذكاة المشاركة المذكورة إذا لم يتحقق قاتل الصيد وإلا فلا إشكال في أكله أو عدم أكله، ولذا قال رحمه الله تعالى: " فإن تيقن انفراد كلبه بقتله حل وإلا فلا " وفي القوانين: من شروط الصائد أن لا يشاركه في العقر ما ليس عقره ذكاة كغير المعلم فإن تيقن أن المعلم هو المنفرد بالعقر أكل وإن تيقن خلاف ذلك أو شك لم يؤكل، وإن غلب على ظنه أنه القاتل ففيه خلاف، وإن أدركه غير منفوذ المقاتل فذكاه أكل مطلقاً اهـ قال المواق نقلاً عن اللخمي: وأما إن لم يتحقق المبيح في شركة كلب مجوسي كما إذا أرسل مسلم ومجوسي كلبيهما على صيد فتعاونا أو لم يتعاونا فلم يدر أيهما سبق إليه فقتله فإنه لا يؤكل، وإن علم أن كلب المسلم قتله ولم يمسكه كلب المجوسي أكل، وإن كان بعد إمساكه لم يؤكل، وإن صاد المسلم بكلب المجوسي أكل، وإن صاد المجوسي بكلب المسلم لم يؤكل وذلك عند مالك بمنزلة ما لو ذبح أحدهما بسكين الآخر اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولو أرسل على صيود فقتل أحدهما أو في غار لا منفذ له لا يعلم فيه صيداً أو على نوع فإذا هو غيره جاز أكله " قال خليل يبالغ في جواز أكله: ولو تعدد مصيده أو أكل أو لم ير بغار أو غيضة، أو لم يظن نوعه من المباح، أو ظهر خلافه اهـ. وفي المدونة: وإن أرسل كلبه أو بازه على جماعة من وحش أو طير ونوى ما أخذ منها ولم يخص شيئاً منها أو على جماعتين ونوى ما أخذ منهما جميعاً فليأكل ما أمسك عليه من ذلك كله مما قل عدده أو كثر، وقوله أو في غار إلخ قال الخرشي: يعني أن المشهور عدم اشتراط رؤية ما إذا كان الصيد في الغار، فإذا أرسل الكلب أو الجارح

على صيد في غار أو غيطة، أو كان وراء أكمة ونوى إن وجد صيداً داخل ذلك فإنه إذا وجده وأخذه وقتله فإنه يؤكل على المشهور لأن ما في ذلك كالمعين لأنه محصور، وقوله أو على نوع فإذا هو غيره، قال الخرشي: صورتها أرسل كلبه أو جارحه أو سهمه على صيد وهو يعلم أنه غير محرم الأكل إلا أنه لم يعلم جنسه من أي الأجناس المباحة الأكل ولا تحققه بل تردد فيه هل هو بقر أو حمار وحش أو نحو ذلك، فإذا أخذ صيداً وقتله فإنه يجوز أكله إذ لا يشترط في جواز أكله أن يعلم جنسه من المباح حين الإرسال عليه. هذا في محل محصور كالغار وإلا فالرؤية شرط إرسال الجارح كما تقدم. قال رحمه الله تعالى: " ولو ظنه غير مأكول فإذا هو مأكول لم يحل " يعني إذا رمى الصيد أو أرسل عليه الكلب وهو يظنه غير مأكول كالخنزير مثلاً فإذا هو غزال وقد أنفذ مقتله فلا يجوز له أكله ولو ذكي. قال ابن جزي: من شروط الصيد أن يكون جائز الأكل فإن الحرام لا يؤثر فيه الصيد ولا الذكاة اهـ. وفي المدونة عن مالك: من رمى صيداً بسكين فقطع رأسه أكله إن نوى اصطياده وإن لم ينو اصطياده لم يؤكل، وكذلك لو رمى صيداً وهو يظنه سبعاً، أو خنزيراً فأصاب ظبياً لم يؤكل لأنه حين رماه لم يرد صيده فلا يأكله اهـ. ومثله في المواق. قال رحمه الله تعالى: " ومشاركة الجوارح توجب شركة أربابها " يعني إذا أرسل المسلم كلبه المعلم وأرسل الآخر مثله على صيد واحد فقتلاه صارا شريكين. قال الحطاب: فأما لو أرسل صائد آخر فاشترك الكلبان فيه فإنه للصائدين يكونان شريكين، فلو أنفذ أحد الكلبين مقاتله ثم جاء الآخر فهو للذي أنفذ مقاتله اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وإذا أفلت صيد ولحق بالصيد فصاده آخر فهو له وإلا فهو للأول " قال خليل: وإن ند ولو من مشتر فللثاني لا إن تأنس أي عند الأول فله ولم يتوحش أي بعد ندوده، فإن توحش فللثاني. قال الخرشي: يعني أن الصيد إذا

فصل في الذبح

كان قد تأنس عند الأول ولم يتوحش فأخذه الثاني فإنه لا يكون له ويكون للأول ويغرم الثاني أجرة تعبه ونفقته في تحصيله اهـ. وعبارة الحطاب: قال في المدونة: ومن صاد طائراً في رجليه ساقان، أو ظبياً في أذنيه قرطان أو في عنقه قلادة عرف بذلك ثم ينظر فإن كان هروبه ليس هروب انقطاع ولا توحش رده وما وجد عليه لربه، وإن كان هروبه هروب انقطاع وتوحش فالصيد خاصة لصائده دون ما عليه اهـ. ولما أنهى الكلام على الصيد وما يتعلق به انتقل يتكلم على أحكام الذبح والنحر وكيفيتهما وما يتعلق بجميع ذلك، فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في الذبح أي في بيان ما يتعلق بالذبح والنحر وكيفيتهما وبيان موضعهما من الحيوان، وشروط الذبح والذابح والذبيحة وغير ذلك مما سنقف عليه إن شاء الله تعالى. قال رحمه الله: " تنحر الإبل ويذبح ما سواه مجهزاً عليها " هذا شروع منه في بيان ما يذبح من الحيوان وما ينحر منها. أما النحر وهو طعن المسلم المميز بمحدد بلبة إبل أو زرافة ويجوز في بقر بكره. واللبة بفتح اللام وهي النقرة التي فوق الترقوة وتحت الرقبة، ويكون ذلك بلا رفع يد قبل التمام، ولا يضر يسير فصل ولو كان اختياراً، فلا يشترط فيه قطع الحلقوم والودجين بخلاف الذبح اهـ الدردير. وأما الذبح قال في الرسالة: والذكاة قطع الحلقوم والأوداج ولا يجزئ أقل من ذلك، وإن رفع يده بعد قطع بعض ذلك ثم أعاد فأجهز فلا تؤكل اهـ وإليه أشار رحمه الله تعالى: " فلو رفع المدية قبل تمامها ثم أعاد فأتمها لم تؤكل على المشهور " قال الشرنوبي: هذا إذا تراخى. وأما إذا أعاد بلا مهلة فإنها تؤكل رفع اختياراً أو اضطراراً، والطول بالعرف. ويجوز أن يكون المتمم غير الأول لكن يلزمه النية والتسمية. ومحل هذا التفصيل إن كانت لو تركت لم تعش. وأما إذا لم تنفذ

مقاتلها بحيث لو تركت عاشت فإنها تؤكل ولو مع التراخي لأن الثانية ذكاة مستقلة فلابد فيها من النية والتسمية حيث كان المتمم غير الأول مطلقاً أو الأول في حالة البعد. واعتمد العلامة العدوي الأكل فيما إذا وضع شخص آلة الذبح على ودج وآخر على الآخر وقطعا الودجين والحلقوم جميعاً. هذه هي المسألة المشتركة في الذبح، ولابد من النية والتسمية من كل وإلا فلا تؤكل اهـ مع إيضاح. قال رحمه الله تعالى: " ولو ذبح البعير ونحر غيره لضرورة تبيحه ولغير ضرورة تحرمه على المشهور " قال ابن جزي في القوانين: فإن ذبح ما ينحر أو نحر ما يذبح من غير ضرورة لم تؤكل. وقيل تؤكل وفاقاً لهما. وقيل يكره. وقيل إن ذبح ما ينحر أكل بخلاف العكس اهـ. قال في الرسالة: والبقر تذبح فإن نحرت أكلت، والإبل تنحر فإن ذبحت لم تؤكل. وقد اختلف في أكلها. والغنم تذبح فإن نحرت لم تؤكل. وقد اختلف أيضاً في ذلك. قلت كل ذلك في حال الاختيار، وأما في حالة الضرورة فإنه يؤكل. قال النفراوي وقيدنا باختيار للاحتراز عن حالة الضرورة فإنه يجوز ذبح ما ينحر ونحر ما يذبح. قال فتلخص أن الإبل تنحر والغنم وما شابهها تذبح، والبقر يجوز فيها الأمران. قال خليل عاطفاً على الواجب: ونحر إبل وذبح غيره إن قدر وجاز للضرورة إلا البقر فيندب الذبح. ومن الضرورة وقوع الجمل في مهواة بحيث لا يتوصل إلى محل النحر، ووقوع الغنم في مهواة بحيث لا يتمكن من ذبحها. ومن الضرورة عدم الآلة على ما جزم به بعضهم اهـ. ثم شبه في عدم الأكل بغير ضرورة وجوازه معها فقال رحمه الله تعالى: " كتعمد ترك التسمية " يعني أن من ترك التسمية عمداً في الذبح أو النحر، أو عند إرسال الجوارح على الصيد، أو عند الرمي لم يؤكل ومع الضرورة فإنها تؤكل. وتقدم في الصيد قول صاحب الرسالة أنه قال: ومن نسي التسمية في ذبح أضحية أو غيرها فإنها تؤكل، وإن تعمد ترك التسمية لم تؤكل وكذلك عند إرسال الجوارح اهـ قال رحمه الله تعالى: وذكاة الجنين ذكاة أمة

بشرط تمام خلقه ونبات شعره وعدم انفصاله حياً " وفي الحديث عن عبد الله بن عمر مرفوعاً قال: " إذا نحرت الناقة فذكاة ما في بطنها في ذكاتها إذا كان قد تم خلقه ونبت شعره " فإذا خرج من بطن أمه ذبح حتى يخرج الدم من جوفه. وعن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: ذكاة ما في بطن الذبيحة في ذكاة أمه إذا كان قد تم خلقه ونبت شعره اهـ رواهما الإمام في الموطأ. وفي الرسالة: وذكاة ما في البطن ذكاة أمه إذا تم خلقه ونبت شعره اهـ قال ابن جزي في القوانين: المسألة الرابعة في ذكاة الجنين، وله أربع أحوال: الأولى أن تلقيه ميتاً قبل تذكيتها فلا يؤكل إجماعاً. الثانية أن تلقيه حياً قبل تذكيتها فلا يؤكل إلا أن يذكى وهو مستقر الحياة. الثالثة أن تلقيه ميتاً بعد تذكيتها فهو حلال وذكاته ذكاة أمه خلافاً لأبي حنيفة. ويشترط أن يكون قد كمل خلقه ونبت شعره خلافاً للشافعي. الرابعة أن تلقيه حياً بعد ذكاتها فإن أدركت ذكاته ذكى، وإن لم تدرك فقيل هو ميتة وقيل ذكاته ذكاة أمه اهـ. ثم قال: فرع في البيض إذا سلق فوجد فيه فرخ ميت لم يؤكل، وإذا أخرجت بيضة من دجاجة ميت لم تؤكل. وقال ابن نافع تؤكل إذا اشتدت كما لو ألقيت في نجاسة اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والمنخنقة والموقوذة وما ذكر معهما إن أدركت مستقرة الحياة فذكيت أكلت وإلا فالمشهور الحرمة " يعني أن المذكورة في الآية هي خمسة أشياء: الأولى المنخنقة بحبل ونحوه. والثانية الموقوذة بعصا أو حجر وشبهها. الثالثة المتردية أي الساقطة من علو إلى أسفل. الرابعة النطيحة أي التي نطحتها أخرى. الخامسة أكيلة السبع ونحوه. فإن أدركت واحدة منها مستقرة الحياة وذكيت قبل إنفاذ مقتلها أكلت وإلا فالمشهور عند مالك الحرمة. هذا لقول الله تعالى عاطفاً على التحريم: " والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم " قال الحافظ السيوطي أي أدركتم فيه الروح من هذه الأشياء فذبحتموه اهـ. قال الصاوي

أي مع بقاء الحياة المستقرة بحيث يتحرك بالاختيار، أو يبصر بالاختيار ولو نفذت مقاتله. وهذا مذهب الشافعي. ومذهب مالك لا بد من استقرار الحياة مع عدم إنفاذ المقاتل. فما أدرك بذكاة وهو مستقر الحياة وكان قبل إنفاذ مقتاه أكل وإلا فلا يؤكل ولو ثبتت له حياة مستقرة. والمقاتل هي قطع النخاع، ونثر الدماغ، وفري الودج، وثقب المصران، ونثر الحشوة. وفي شق الودج قولان. والاستثناء راجع للمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، وهو متصل على كلا المذهبين مع مراعاة الشرط المتقدم عند كل اهـ. وعلى أصل المذهب مشى صاحب الرسالة كغيره فقال: والمنخنقة بحبل ونحوه. والموقوذة بعصا وشبهها. والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع إن بلغ ذلك منها في هذه الوجوه مبلغاً لا تعيش معه لم يؤكل بذكاة اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وندود المستأنس ولحوقه بالصيد لا يخرجه عن سنته " والمراد بالمستأنس كما في النفراوي بهيمة الأنعام وما شابهها من نحو الدجاج. قال في الرسالة: ولا تؤكل الإنسية بما يؤكل به الصيد اهـ. أي من العقر وغيره. قال خليل: لا نعم شرد أو تردى بكهوة، فلا يؤكل الفحل الجاموس إذا نفر، ولا الجمل الشارد، ومثل النعم الحيوان الوحشي إذا تأنس، أو صار مقدوراً عليه كالغزالة وبقر الوحش يصادان من غير جرح فلا يؤكل شيء منهما بالعقر، وإنما يؤكلان بما يؤكل به الحيوان الإنسي وهو الذبح اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " والمذكي كل مسلم يتعقل وتصح منه النية " والتسمية إن ذكر المسلم وقدر لا عند العجز والنسيان. قال ابن رشد ستة في المذهب لا تجوز ذبائحهم وهم: الصغير الذي لا يعقل، والمجنون حال جنونه، والسكران الذي لا يعقل، والمجوسي، والمرتد، والزنديق. وستة تكره، وهم: الصغير المميز، والمرأة،

والخنثى، والخصي، والأغلف، والفاسق. وستة اختلف في ذبائحهم وهم: تارك الصلاة، والسكران الذي يخطئ ويصيب، والمبتدع المختلف في كفره، والنصراني العربي، والنصراني إذا ذبح المسلم بأمره، والعجمي يجيب إلى الإسلام قبل البلوغ اهـ. وقد عقد ابن جزي فصلاً في المذكي فقال: وهو على ثلاثة أصناف: صنف اتفق على جواز تذكيته وهو المسلم البالغ العاقل الذكر المصلي. وصنف اتفق على تحريم تذكيته وهو المشرك من عبدة الأوثان. وصنف اختلف فيه وهو عشرة: أهل الكتاب، والمجوس، والصابئون، والمرأة، والصبي، والمجنون، والسكران، وتارك الصلاة، والغاصب، والسارق. قال رحمه الله تعالى: " وتجوز ذكاة الكتابي ما هو مباح لهم غير محرم علينا " قال ابن جزي: فأما أهل الكتاب من اليهود والنصارى رجالهم ونساؤهم فتجوز ذبائحهم على الجملة اتفاقاً واختلف منها في فروع أنظره في القوانين. قال الدردير في أقرب المسالك: وشرط الكتابي أن يذبح ما يحل له بشرعنا، وأن لا يهل به لغير الله تعالى، ولو استحل الميتة فالشرط أن لا يغيب، لا تسميته. وكره لنا إن ذبح ما حرم عليه بشرعه كذي الظفر، وكذا يكره لنا شراء ذبحه وجزارته، كبيع وإجارة لكصيده، وشحم يهودي وهو شحم رقيق يغشى الكرش والأمعاء، لا ما اختلط بعظم أو لحم، يعني يكره لنا أكله مع تحريمه عليهم لقوله تعالى: {ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما} {الأنعام: 146} ولم يحرمه علينا مع ثبوت تحريمه عليهم بكتابنا، لأنه جزء مذكى، والمذكى حلال لهم، فقد ذبح مستحله، لكن لحرمة شحمه عليه كره لنا أكله اهـ الإكليل مع تصرف. قال: وكره ذبح لعيسى أو لصليب، وذكاة خنثى وخصي وفاسق سواء يذبح لنفسه أو لغيره، كان فسقه بالجارحة كتارك الصلاة أو بالاعتقاد كبدعي لم يكفر ببدعته اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والآلة كل محدد أنهر الدم إلا الظفر والسن " قد تقدم

الكلام في المحدد في الصيد ولا حاجة إلى إعادته هنا. وأما الظفر والسن فلا يذبح بأحد منهما على الخلاف، لقوله عليه الصلاة والسلام: " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر " وأما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة اهـ. قال خليل: وفي جواز الذبح بالظفر والسن، أو إن انفصل أو بالعظم ومنعهما خلاف اهـ قال المواق: وأما السن والظفر المنهي عن التذكية بهما فهما المركبان في فم الإنسان وفي أصبعه، فإن كانا منزوعين فلا بأس بالذبح بهما إذا أمكن اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويستحب توجيه الذبيحة ونركها بعد الذبح حتى تبرد والله أعلم " يعني أنه يندب للذابح أن يتوجه إلى القبلة بذبيحته أو منحوره. قال خليل عاطفاً على المندوبات: وضجع ذبح على أيسر وتوجيهه، أي إلى القبلة قال ابن القاسم في المدونة: من السنة توجيه الذبيحة إلى القبلة، فإن لم يفعل أكلت وبئس ما صنع ونهى مالك الجزارين يدورون حول الحفرة يذبحون حولها وأمرهم بتوجيهها إلى القبلة. قال محمد - أي ابن المواز -: ترك توجيهها للقبلة سهواً عفو، وعمداً لا أحب أكلها. وقال ابن حبيب: إن كان عمداً لا جهلاً لم تؤكل اهـ المواق. قلت: والمشهور في المذهب الأكل وإن كان ترك ذلك عمداً. وأما قوله: وتركها بعد الذبح الخ فمستحب أيضاً ترك الذبيحة عن تقطيعها أو تسلخها أو نتفها حتى تبرد بخروج روحها. قال ابن جزي عاطفاً في سنن الذبح: وأن يرفق بالبهيمة فلا يضرب بها الأرض. ولا يجعل رجله على عنقها، ولا تجر برجلها، ولا تسلخ، ولا تنخع، ولا يقطع شيء منها حتى تموت. والنخع هو قطع النخاع. والله أعلم اهـ. ولما أنهى الكلام على الذبح وما يتعلق به انتقل يتكلم على الأطعمة والأشربة وما يتعلق ببيان ذلك من الأحكام فيما يجوز من ذلك ويحرم. فقال رحمه الله تعالى:

كتاب الأطعمة والأشربة

كتاب الأطعمة والأشربة أي في بيان ما يجوز تناوله من الأطعمة والأشربة وما لا يجوز منه لضرره بالعقل أو البدن، أو ما هو محرم شرعاً مما في تعاطيه اختياراً يلزم به إثم عظيم كشرب الخمر، وأكل الميتة ونحو ذلك مما سيأتي بيانه إن شاء الله. وبدأ بما اتفق عليه في المذهب فقال رحمه الله تعالى: " ميتة جميع دواب الماء مباح " يعني أن ميتة البحر طاهرة مطلقاً، ونقل عن أئمة المذهب ما حاصله أنهم قالوا: جميع حيوانات البحر مباح أكلها، ولم يستثنوا منها شيئاً أبداً. قال بعضهم: اعلم أن ميتة البحر طاهرة ولو تغيرت بنتونة، إلا أن يتحقق ضررها فيحرم أكلها لذلك لا لنجاستها، وكذا المذكى ذكاة شرعية طاهر ولو تغير بنتونة، ويؤكل ما لم يخف الضرر، وسواء وجد ذلك الميت راسباً في الماء أو طافياً، أو في بطن حوت أو طير، وسواء ابتلعه ميتاً أو حياً ومات في بطنه ويغسل ويؤكل. وسواء صاده مسلم أو مجوسي. وشمل قوله البحري آدمي الماء وكلبه وخنزيره. ى قال الخرشي: وهو المعتمد، وما عداه لا يعول عليه اهـ. وشبه رحمه الله في الإباحة فقال: " كصيد المجوسي " يعني أن ما صاده المجوسي في البحر طاهر يؤكل بدون توقف. قال مالك في الموطأ: لا بأس بالحيتان يصيدها المجوسي، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في البحر: " هو الطهور ماؤه والحل ميتته " قال مالك: وإذا أكل ذلك ميتاً فلا يضره من صاده اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والطير كله " معطوف على صيد المجوسي يعني أن الطير كله مباح. قال رحمه الله تعالى: " وتكره سباعه " وما ذكره من كراهة سباع الطير هو كذلك. والكراهة لا تنافي الجواز. قال في الرسالة: ولا بأس بأكل سباع

الطير وكل ذي مخلب منها اهـ وفي المدونة: قال ابن القاسم: لم يكره مالك أكل شيء من الطير كله: الرخام، والعقبان، والنسور، والأحدية، والغربان، وجميع سباع الطير وغير سباعها، ما أكل الجيف منها وما لم يأكلها. ولا بأس بأكل الهدهد والخطاف. وروي على كراهة أكل الخطاف اهـ نقله المواق قال خليل عاطفاً على طاهر: وطير ولو جلالة وذا مخلب. والجلالة من الطير هي التي تأكل الرجيع والجيف، وذا مخلب، والمخلب للطائر بمنزلة الظفر للإنسان. قال الخرشي: المشهور أن جميع الطير مباح أكله ولو كان ذا مخلب كالباز والعقاب والصقر والرخم اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وروى ابن أبي أويس تحريمها " هذا مقابل المشهور، وهو رواية عن مالك لا يؤكل كل ذي مخلب. وهو مذهب الجمهور. قال رحمه الله تعالى: " وروى ابن عبد البر تحريم الكلاب والسباع العادية وهو مذهب الموطأ " يعني هو ما رواه مالك في الموطأ بإسناد صحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أكل كل ذي ناب من السباع حرام " قال مالك: وهو الأمر عندنا اهـ. والكلاب جمع كلب. والكلب من ذوات الناب، وهو يعدو بنابه على الإنسان، وهو عند مالك حرام. قال الصاوي في حاشيته على الدردير: وقد علمت أن في الكلب الإنسي قولين بالحرمة والكراهة، وصحح ابن عبد البر التحريم. وقال في الجلاب: ولا تؤكل الكلاب. قال الحطاب: ولم أر في المذهب من نقل إباحة أكل الكلب اهـ. ولا يجوز للمفتي أن يفتي بأكل الكلاب اهـ. قال العلامة الجزيري في الفقه على المذاهب الأربعة: المالكية لهم في الكلب قولان: قول بالكراهة وقول بالتحريم. والثاني هو المشهور، ولم يقل بحل أكله أحد. وقالوا: يؤدب من نسب

حله إلى مالك اهـ. قال ابن جزي في القوانين: المسألة الثانية في السباع كالأسد والذئب والفهد والنمر والكلب فهي مكروهة. وقيل جميعها محرمة وفاقاً لهم. وقيل تحرم العادية منها ولا تحرم غير العادية اهـ فتحصل أن في الكلاب وكل ذي ناب فيه قولان في الم 1 هب: بالتحريم، والكراهة، القول بالكراهة هو المنصوص لأئمة المذهب، والقول بالتحريم هو مذهب الإمام في الموطأ وإليه ذهب باقي أئمة المذاهب رحمهم الله تعالى. قال رحمه الله تعالى: " والأظهر في الخيل الكراهة كحمار الوحش يتأنس ويحمل عليه " يعني كما نقل المواق من المدونة عن مالك قال: لا تؤكل البغل والخيل والحمر. قال وإذا دجن حمار الوحش وصار يعمل عليه لم يؤكل. وقال ابن القاسم لا بأس بأكله. قال ابن يونس وجه قول مالك فلأنه لما تأنس وصار يعمل عليه صار كالأهلي. ووجه قول ابن القاسم أنه صيد مباح أكله فلا يخرجه عن ذلك التأنس كسائر الصيد اهـ وقال في الموطأ: إن أحسن ما سمع في الخيل والبغال والحمير أنها لا تؤكل، لأن الله تبارك وتعالى قال: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} [النحل: 8] أي لا للأكل. وفي الرسالة: نهى عليه الصلاة والسلام عن أكل كل ذي ناب، وعن أكل لحوم الحمر الأهلية، ودخل مدخلها لحوم الخيل والبغال لقوله تعالى {لتركبوها وزينة} اهـ بالمعنى قال ابن جزي: ذوات الحوافر فالخيل مكروهة، وقيل حلال وفاقاً للشافعي. وقيل محرمة. والحمير مغلظة الكراهية، وقيل محرمة وفاقاً لهم. والبغال كذلك. قال اللخمي: الخيل أخف من الحمير والبغال بينهما، وأما الحمار الوحش فحلال، فإن دجن وصار يحمل عليه فقولان أي جاريان بين مالك وابن القاسم كما تقدم. قال في الرسالة: ولا ذكاة في شيء منها إلا في الحمر الوحشية، أي المستمرة على توحشها فإن الذكاة تنفع فيها من حيث الأكل والطهارة وحل البيع، وأما لو تأنست فلا تنفع فيها لأنها صارت كالإنسية اهـ النفراوي.

قال رحمه الله تعالى: " والخنزير حرام " ولا خلاف بين الأمة الإسلامية في تحريم خنزير البر سواء كان أهلياً أصلاً أو وحشياً تأنس أم لا. والخلاف في خنزير البحر، وقد اختلف فيه أهل العلم، وتوقف فيه الإمام نظراً في اسمه، ثم أباحه ولو ميتاً لأنه من صيد البحر، ولحديث " الطهور ماؤه الحل ميتته " وأما خنزير البر فهو حرام قولاً واحداً، لقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} [المائدة: 3] الآية. وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله عز وجل حرم الخمر وثمنها، وحرم الميتة وثمنها، وحرم الخنزير وثمنه " الحديث. قال في الرسالة: وكل شيء من الخنزير حرام. والآيات والأحاديث في تحريم الخنزير كثيرة ولا حاجة إلى جلب النصوص لوضوح الأدلة في ذلك. قال رحمه الله تعالى: " ولا يؤكل الفيل والدب والقرد والنمر والمستقذرات من خشاش الأرض أو ما يخاف ضرره " وما ذكره من النهي عن أكل الفيل وما عطف عليه هو كذلك، لكنه محمول على الكراهة كما تقدم من نصوص أئمة المذهب. قال العدوي في الحاشية: المشهور عند المالكية الكراهة. وقال الخرشي: المشهور أنه مكروه الأكل؛ لأنه ذو ناب، ومثل الفيل الدب اهـ. وقال عبد الوهاب: النهي عندنا عن أكل كل ذي ناب محمول على الكراهة اهـ. روى المدنيون عن مالك تحريم كل ما يعدو من هذه الأشياء، وما لا يعدو يكره أكله كما تقدم. وأما المستقذرات إلخ قد قال الشيخ عبد الرحمن الجزيري في الفقه: لا نزاع عند المالكية في تحريم كل ما يضر، فلا يجوز أكل الحشرات الضارة قولاً واحداً، أما إذا اعتاد قوم أكلها ولم تضرهم وقبلتها أنفسهم فالمشهور عندهم أنها لا تحرم، فإذا أمكن تذكية الثعبان مثلاً بقطع جزء من عند رأسه ومثله من عند ذنبه بحالة لا يبقى معها سم، وقبلت النفس أكله بدون أن يلحق منه ضرر حل أكله، ومثله سائر حشرات الأرض. ونقل عن بعضهم تحريم الحشرات مطلقاً لأنها من الخبائث

وهو وجيه. قال وعلى القول المشهور من جلها فلا تحل إلا إذا قصدت تذكيتها، وتذكيتها فعل ما يميتها بالنارأو بالماء الساخن أو بأسنان أو غير ذلك اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والظاهر أنه لا تؤكل ميتة الجراد ودود الطعام منفرداً عنه " يعني لا يجوز أكل ميتة الجراد، كما لا يجوز أكل الدود منفرداً عن الطعام، لأن كل واحد منهما يفتقر إلى الذكاة، وذكاتهما بما يموت به. قال خليل: وافتقر نحو الجراد لها بما يموت به ولو لم يعجل كقطع جناح. قال الحطاب قال في المدونة: ولا تؤكل ميتة الجراد ولا ما مات منه في الغرائر، ولا يؤكل إلا ما قلع رأسه أو سلق أو قلى أو شوي حياً وإن لم يقطع رأسه، ولو قطعت أرجله أو أجنحته فمات من ذلك لأكل انتهى. وأما الدود قال في أقرب المسالك: فإن مات بطعام وميز عنه أخرج لعدم ذكاته، وإن لم يمت جاز أكله بنيتها، وإن لم يميز طرح إلا إذا كان أقل. ثم قال: وأكل دود الفاكهة معها مطلقاً. قال الصاوي: ومن كل ما يخلق في الطعام كدود المشمش وسوس نحو الفول، فإن هذا لا يفتقر لذكاة اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وتحرم النجاسات، والدماء المسفوحة، وجبن المجوسي، وما يغطي على العقل من النبات " يعني أن النجاسات محرمة شرعاً ولا خلاف فيها بين الأمة الإسلامية. وتقدم للمصنف أنه قال: الميتات والمسكرات كلها نجسة، وكذلك قوله وأجزاء الميتة نجسة إلا الشعر، وكذا قوله: ولا خلاف في نجاسة الدم المسفوح وغير ذلك، وتقدم لنا أيضاً أن النجاسة المجمع عليها في المذهب بلغت إلى ثماني عشرة، وكذا المختلف فيها. وتقدم جميع ذلك فراجعه إن شئت. وأما جبن المجوس فحرام على ما أفتى به أئمة المذهب. قال النفراوي: عند قول الرسالة ولا يؤكل ما ذكاه المجوسي إلخ. فيجوز لنا أكل خبز المجوسيين وزينتهم حيث تيقنت طهارته، لا إن شك في طهارته فيحرم علينا أكله حيث غلب مخالطته للنجاسة كجبنهم، لأن ابن رشد حمل الكراهة الواقعة في العتبية على التحريم لما فيه

من المنفحة المأخوذة من ذبائحهم، حتى قال خليل في توضيحه. المحققون على تحريمه، حتى قال: لا ينبغي الشراء كمن حانوت فيه جبنهم لتنجيسه الميزان ويد بائعه اهـ. قال زروق: وفي العتبية كراهة جبن المجوس لما يجعل فيه من أنافح الميتة، وأما الزيت والسمن فلا أرى به بأساً،، فحمله ابن رشد على التحريم، وحمله غيره على ظاهره من الكراهة. وسئل مالك عن جبن الرم فقال: ما أحب أن أحرم حلالاً، وأما أن يكرهه رجل في خاصة نفسه فلا أرى بذلك بأساً، وأما أني أحرمه فلا أدري ما حقيقته. وقيل إنهم يجعلون فيه أنفحة الخنزير وهم نصارى، وما أحب أن أحرم حلالاً. وقال القرافي بتحريم قديد الروم وجبنهم، وصنف فيه الطرطوشي مرجحاً تحريمه. قال زروق: وعلى كل حال فتركه متعين على كل مشفق على دينه اهـ وأما قوله: وما يغطي على العقل من النبات وهو معطوف على النجاسات، المعنى ويحرم تعاطي أي شيء يغطي العقل من النبات وغير النبات مما يضر العقل أو البدن. قال الدردير في أقرب المسالك: والمحرم ما أفسد العقل أو البدن. ثم قال: وما أفسد العقل من الأشربة يسمى مسكراً وهو نجس ويحد شاربه قل أو كثر. وأما ما أفسد العقل من النبات كحشيشة وأفيون وسيكران وداتورة، أو من المركبات كبعض المعاجين فيسمى مفسداً ومخدراً ومرقداً، وهو طاهر لا يحد مستعمله بل يؤدب، ولا يحرم القليل منه الذي لا أثر له اهـ. قلت هذا في غير المسكر، وأما المسكر فلا يجوز تناوله ولو قليلاً. قال في الرسالة: وحرم الله سبحانه شرب الخمر قليلها وكثيرها، وشراب العرب يومئذ فضيخ التمر، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن كل ما أسكر كثيره من الأشربة فقليله حرام، وكل ما خامر العقل فأسكر، من كل شراب فهو خمر اهـ. وهذا ظاهر في تحريم جميع المسكرات وإن قلت. والله هو الهادي إلى الصراط المستقيم. قال رحمه الله تعالى: " وحرم ابن ماجشون الطين وكرهه غيره " وهو عبد الملك

بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، وعبد الملك بن الماجشون فقيه ابن فقيه، تلقى العلم عن أبيه وعن الإمام مالك، ودارت عليه الفتيا في أيامه إلى أن مات. وكان قاضياً في المدينة بزمنه. انظر الديباج اهـ يعني أن ابن الماجشون ذهب إلى أن الطين حرام لضرره على آكله، وذهب غيره وهو محمد بن المواز إلى أن الطين مكروه وهما قولان. والمشهور عند ابن عرفة عدم جواز أكله كما في الحطاب. قال في حاشيته على الدردير: تتمة، يحرم أكل ابن عرس لعمى آكله كما قاله الشيخ عبد الرحمن، ويحرم الطين والتراب للضرر، وقيل يكرهان ويحرم الوزغ للسم. ولا يجوز أكل مباح ولده محرم كشاة من أتان، ولا عكسه كأتان من شاة وأما نسل ذلك المحرم الذي ولده المحرم فيؤكل حيث كان مباحاً لبعده كما أفاده المجموع والحاشية اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويباح للمضطر أكل ما يرد جوعاً أو عطشاً من المحرمات " قال النفراوي: المضطر وهو من وصل في الجوع إلى ما لا يستطيع الصبر عليه ولو لم يصل إلى الإشراف على الموت، وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله: " ولا يشترط صبره ليشرف " بل له الأكل قبل الوصول إلى تلك الحالة. قال في الرسالة: ولا بأس للمضطر أن يأكل الميتة ويشبع ويتزود فإذا استغنى عنها طرحها اهـ. ولا فرق في تلك الأحكام بين الحضر والسفر، فيحل للمضطر أكل الميتة ولو كان عاصياً بسفره، بخلاف قصر الصلاة والفطر في رمضان اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فإن وجد طعام الغير فأكل بيعه أو مواساته غصبه والظاهر أنه لا يضمنه " يعني فإن وجد المضطر طعام الغير قدمه على الميتة إن باعه له ولو على الذمة أو واساه، فإن أبى عن جميع ذلك غصبه. قال الدردير: وقاتله عليه بعد الإنذار بأن يعلمه أنه مضطر، وإن لم يعطه قاتله، فإن قتل صاحبه فهدر لوجوب ذلك للمضطر، وإن قتل المضطر فالقصاص بشرط الكفارة اهـ. قال العدوي: تنبيه: محل جواز

أكل الميتة للمضطر حيث لم يجد طعام الغير، وإلا قدمه، ما لم يخف القطع أو الضرب الشديد فيما لا قطع فيه، فإذا أكل من طعام الغير عند عدم خوف القطع أو الضرب فقيل يقتصر على سد الرمق من غير شبع وتزود، وإليه ذهب المواق. وقيل يشبع ولا يتزود وإليه ذهب الحطاب. قلت: وإلى القول الأول ذهب النفراوي. قال: ولا ثمن عليه إن لم يكن معه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والمحرم يجتزئ بالميتة عن الصيد إلا أن يخاف ضررها كخوف عقوبة المال " يعني أن المحرم بحج أو عمرة إذا كان مضطراً ووجد الميتة ومعه صيد فإنه يقتصر على الميتة ولا يذبح الصيد إلا إذا خاف ضرر الميتة بأن صارت سماً قاتلاً، كما يخاف عقوبة في أكل مال الغير فحينئذ يترك ما فيه ضرر، لأن حفظ النفس واجب. قال الدردير في أقرب المسالك: وقدم الميتة على خنزير وصيد محرم، لا على لحمه، والصيد على الخنزير، ومختلفاً فيه على متفق عليه، وطعام الغير على ما ذكر إلا لخوف كقطع اهـ. قال الصاوي: واعلم أن اشتراط عدم خوف القطع إنما هو إذا وجد الميتة أو الخنزير أو لحم المحرم، وإلا أكل ولو خاف القطع كما في الأجهوري لأن حفظ النفوس مقدم على خوف القطع والضرب. وحيث أكل الطعام بالوجه المذكور فلا ضمان عليه إذا لم يكن معه ثمن لأنه لم يتعلق بذمته كما تقدم اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولا يتداوى بنجس شرباً وفي الطلاء قولان، بخلاف إساغة الغصة بخمر ونحوها " المشهور من القولين عدم الجواز. قال عليه الصلاة والسلام: " إن الله عز وجل أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء ولا تتداووا بحرام " اهـ قال في الرسالة: ولا يتعالج بالخمر، ولا بالنجاسة، ولا بما فيه ميتة، ولا بشيء مما حرم الله سبحانه وتعالى. قال النفراوي: أي يحرم التداوي به. قال خليل: لا دواء ولو طلاء لخبر " إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها " إلا ما قام الدليل عليه مثل أن يدفع

الخمر غصة أو عطشاً على قول، وينبغي إلا أن يتعين طريقاً للدواء فيجوز لأنه مثل الغصة، وأيضا كما لا يجوز التداوي بالخمر كذلك لا يجوز بعين النجاسة غير الخمر، ولا بما فيه ميتة ولا بشيء مما حرم الله تعالى. وظاهر الحديث عموم حرمة التداوي بالنجس ولو في ظاهر الجسد ولو غير خمر. وقال الصاوي وأما هو فيحرم التلطيخ به اتفاقاً. فتحصل أن عين النجاسة والخمر لا يتداوى بهما ولو على ظاهر الجسد، إلا لحم الميتة للمضطر، وإلا الخمر لإساغة الغصة فقط، قال الصاوي: فلا يجوز التداوي أي بالخمر إلا ما استثني لضرورة، إذ الضرورات تبيح المحظورات اهـ. قال ابن جزي: ولا يحل التداوي بها في المشهور. وقيل يجوز وفاقاً للشافعي اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والمائعات النجسة حرام " كدم وبول ومسكر كلها حرام لا يجوز شربها ولا استعمالها في دواء ولا طلاء في الجسد. قال رحمه الله تعالى: " كالمسكرات " تشبيه للمائعات النجسة التي هي حرام. قال رحمه الله تعالى: " لا العصير والسوبيا والفقاع والعقيد المأمون سكره والخل ينقلب عن خمر " فهذه الأشياء الخمسة كلها طاهرة مباحة. والمعنى لا يحرم العصير فإنه مباح غير مسكر، وهو ماء العنب المعصور أول عصره. ومن المباح السوبيا وهي شراب يتخذ من الأرز، صفة ذلك أنه يطبخ الأرز طبخاً شديداً حتى يذوب في الماء ويصفى بنحو منخل ويحلى بالسكر أو العسل. ومن المباح الفقاع وهو شراب يتخذ من قمح وتمر. وقيل ما جعل فيه زبيب ونحوه حتى انحل إليه. ومن المباح العقيد المأمون سكره وهو ماء العنب يغلى على النار حتى ينعقد ويذهب إسكاره الذي حصل في ابتداء غليانه، ولا يحد غليانه بذهاب ثلثه مثلاً وإنما المعتبر زوال إسكاره كما هو شرط الجميع. ومن المباح الخل المنقلب عن الخمر بأن زوال ما فيه من صفة الخمر وصيرورته طاهراً غير مسكر اهـ. وفي الحديث عن أنس بن مالك قال: " إن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر تتخذ خلاً فقال لا " رواه مسلم والترمذي. قوله:

تتخذ خلاً أي تعالج حتى تصير خلاً فيحل تناوله. قال: لا. وعن عائشة قالت: كنا ننبذ للنبي صلى الله عليه وسلم في سقاء يوكى أعلاه وله عزلاء أي ثقب في أسفله ننبذه غدوة فيشربه عشاء وننبذه عشاء فيشؤبه غدوة اهـ رواه مسلم وأبو داود والترمذي. وعن ابن عباس: قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقع له الزبيب مساء فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة ثم يأمر به فيسقى أو يهراق " اهـ رواه مسلم وأبو داود والنسائي. وفي رواية " كان ينبذ للنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يجدوه نبذوا له في تور من حجارة " اهـ قال العلامة الشيخ منصور على في غاية المأمول: ففي هذه النصوص جواز الانتباذ وشربه ولو أياماً ما دام حلواً إلا إذا اشتد وتغير وصار مسكراً فإنه يحرم لأنه صار خمراً. ومن هذا ما يصنعه عندنا بائعو الشراب كشراب الزبيب والتين فهو من نوع ما كان في زمنه صلى الله عليه وسلم اهـ والله أعلم. قال رحمه الله تعالى: " والظاهر كراهة المخلل " على المشهور في المذهب كما نقل عن الإكمال. قال رحمه الله تعالى: " كالخليطين " أي كما يكره شرب الخليطين وهو ما يخلط من الاثنين كتخليط الزبيب بالتمر أو التين أو المشمش أو نحو ذلك سواء خلطاً عند الانتباذ أو عند الشرب، وعلى كل حال حكمه الكراهة على المشهور في المذهب. قال ابن جزي: الفرع الثالث يكره انتباذ الخليطين وشربهما كالتمر والزبيب وإن لم يسكر، وحرم قوم الخليطين وأباحهما قوم ما لم يسكر اهـ. قال الصاوي: تنبيه: إذا طرح شيء في نبيذ نفسه كطرح العسل في نبيذ نفسه، والتمر في نبيذ نفسه كان شرابه جائزاً، كما أن اللبن المخلوط بالعسل كذلك اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولا بأس بمخلل الكتابيين " أي يباح شربه ما لم يسكر والله أعلم. ولما أنهى الكلام على الأطعمة والأشربة انتقل يتكلم على النكاح وما يتعلق به من الأحكام والشروط فقال:

كتاب النكاح

كتاب النكاح أي في بيان ما يتعلق بذكر مهماته ومسائله من صداق وطلاق وعدة ورجعة وخلع وظهار ولعان وإيلاء ونفقة ورضاع وغيرها من المسائل. وهو باب مهم ينبغي زيادة الاعتناء به. والنكاح لغة: حقيقة في الوطء مجاز في العقد. وأما اصطلاحاً فعلى العكس، أي حقيقة في العقد مجاز في الوطء. والأصل فيه الندب لما فيه من التناسل وبقاء النوع الإنساني وكف النفس عن الزنا الذي هو من الموبقات. فبدأ رحمه الله ببعض مسائله فقال: " يباح النظر لإرادة النكاح " يعني اتفق الأئمة على جواز نظر وجه المخطوبة وكفيها قبل نكاحها، بل قال بعضهم: إن النظر قبل العقد مندوب، لكن المعتمد جواز ذلك كما يفيده النقل، انظره في حاشية الخرشي. وفي الحديث عن أبي هريرة أنه قال: " كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنظرت إليها؟ قال: لا، قال: فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً " رواه مسلم والنسائي. وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل " رواه أبو داود والشافعي والحاكم وصححه. وعن المغيرة أنه خطب امرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما " رواه النسائي والترمذي وحسنه. قال العلامة الشيخ منصور على في غاية المأمول: ففي هذه النصوص طلب النظر إلى المخطوبة، والمطلوب النظر إلى وجهها وكفيها فقط، فإن حسنهما يدل على بقية الجسم، وللزوجة أن تنظر من الرجل ذلك أيضاً. ومن لم يمكنه النظر بنفسه فليرسل من تنظرها وتصفها له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أم سليم لتنظر له امرأة يريد زواجها اهـ.

قال رحمه الله تعالى: " وخطبة جماعة امرأة " معطوف على النظر يعني ويباح للجماعة أن يخطبوا امرأة في أول أمرها قبل ركونها أو وليها إلى أحد من الخطاب: قال ابن رشد في المقدمات: لا بأس أن يجتمع الاثنان والثلاثة وأكثر على خطبة المرأة. وقد روي أن جرير بن عبد الله البجلي سأل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن يخطب عليه امرأة من دوس ثم سأله مروان بن الحكم بعد ذلك أن يخطبها عليه، ثم سأله بعد ذلك ابنه عبد الله أن يخطبها عليه، فدخل على أهلها والمرأة جالسة في قبتها عليها سترها، فسلم عمر فردوا السلام وهشوا له وأجلسوه، فحمد الله تعالى وأثنى عليه وصلى على نبيه عليه الصلاة والسلام ثم قال: إن جرير بن عبد الله البجلي يخطب فلانة وهو سيد المشرق، ومروان بن الحكم يخطبها وهو سيد شباب قريش، وعبد الله بن عمر يخطبها وهو من قد علمتم، وعمر بن الخطاب يخطبها، فكشفت المرأة عن سترها وقالت: أجاء أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قالت: قد زوجت يا أمير المؤمنين زوجوه فزوجوه إياها فولدت له ولدين اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فإذا ركنت إلى أحدهم لم يجز لغيره إلا أن يرغب الأول عنها " لخبر: " لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له " رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال في الرسالة: ولا يخطب أحد على خطبة أخيه ولا يسوم على سومه. وذلك إذا ركنا وتقاربا اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والصحيح أنه لا يفسخ ولكن يتحلل منه، فإن أبى عليه استغفر الله " يعني أنه قد كثرت أقوال العلماء في فسخ هذا النكاح وعدم فسخه. قال بعضهم: يفسخ قبل الدخول وبعده. وقال بعض: يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده. وقال بعض: يفسخ ما لم يطل. وقال بعض: يفسخ ولو طال ولو ولدت الأولاد. فأجاب المصنف بقوله: والصحيح أنه لا يفسخ إلخ، يعني الصحيح من أقوال العلماء أنه لا يفسخ النكاح المذكور، وغاية الأمر أن يرضيه ويحلله فيما أرتكبه من فعل المنهي عنه، فإن حلله وسامحه فلله الحمد وإلا فليستغفر الله تعالى ويتب إليه عن مثل ذلك.

ثم قال رحمه الله تعالى: " وينعقد بكل لفظ يدل على تأبيد ملك منافع البضع والاستيجاب ويكفي القابل قبلت " هذا شروع فيما ينعقد به النكاح من الصيغة وهي الإيجاب والقبول. وهي اللفظ الدال على إثبات النكاح، ينشأ من ولي وزوج أو وكيليهما. فالصيغة من الولي نحو أنكحتك أو زوجتك أو وهبتك، لكن لا بد في هذا الأخير أن يقرن بذكر الصداق المعين نحو وهبتك بنتي أو وليتي فلانة على أن تصدقها مائة دينار مثلاً أو ما اتفقا عليه، فإن لم يعين الصداق فلا ينعقد على المشهور. ذكره بهرام وقيل ينعقد وهو لابن القصار. أو يقول في صيغة الهبة وهبتها لك تفويضاً ويكون فيه صداق المثل. ولا ينعقد بغير هذه الثلاثة على المذهب، يعني أنكحتك أو زوجتك، أو وهبتك. فلو قال بعت، أو ملكت، أو أبحت أو حللت، أو أطلقت لك التصرف فيها، أو تصدقت، أو أعطيت، أو منحت، قاصداً بواحدة من هذه الصيغ النكاح، سواء سمى الصداق أم لا، وكذا وهبت إذا لم يذكر الصداق. فالمذهب عدم الانعقاد. وهذا كله مرور على طريقة صاحب الشامل اهـ ومقتضى ما ذكره المصنف وما مشى عليه الأجهوري أنه ينعقد بواحدة من تلك الصيغ كلها إذا اقترن بذكر الصداق. قال خليل: وركنه ولي وصداق ومحل وصيغة بأنكحت وزوجت، وبصداق وهبت. وهل كل لفظ يقتضي البقاء مدة الحياة كبعث كذلك، تردد اهـ. وأما الصيغة من الزوج تكون بنحو قبلت ورضيت. هذا إذا كان الزوج هو القابل بنفسه. وأما وكيله فيقول قبلت له نكاحها، أو قبلت لفلان. ومثل اللفظ الإشارة للعاجز منهما كالأخرس اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والولي شرط وهو المسلم الذكر الحر المكلف الرشيد. واختلف في العدالة والأظهر أنها شرط كمال " وما ذكره من أن الولي شرط في النكاح مثله لابن جزي، خلافاً لما في المختصر من أن الولي ركن في النكاح وهو المشهور. قال خليل: وركنه ولي وصداق ومحل صيغة اهـ. فتحصل أن الولي ركن

على المشهور في المذهب، ومن صفته أن يكون مسلماً، فلا يزوج الكافر المسلمة، وأن يكون ذكراً فلا تصح ولاية الأنثى نفسها ولا على غيرها، وأما ولاية الزوج فلا يشترط فيها الذكورية. وأن يكون حراً فلا تصح ولاية العبد ومن فيه شائبة رق. ويفسخ ما عقده ولو بعد الدخول، ولها المهر المسيس. وأن يكون مكلفاً فلا ولاية لمجنون ولا لصبي وأن لا يكون محرماً بحج أو عمرة، فلا تصح ولاية من أحرم بأحدهما حتى يتم أركان نسكه كالزوجين. وأن يكون رشيداً فلا تصح ولاية السفيه إلا أن يكون إذا رأى وأذن له وليه. واختلف في العدالة، قال المصنف: والأظهر أنها شرط كمال، وهو كذلك على المشهور. قال الدردير: إذ فسقه لا يخرجه عن الولاية، فيتولى غير العدل عقد نكاح ابنته، أو ابنة أخيه، أو معتوقته إذا لم يوجد لها عاصب نسب اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وهي قسمان: نسب وهم العصبات فيقدم أقواهم تعصيباً " يعني أن الولاية تنقسم على قسمين الأول النسب، والثاني السبب، وسيأتي الكلام عليه. وأما النسب فيتولى العقد أقرب رجل للمرأة من عصبتها كما قال المصنف. وقال أبو محمد في الرسالة: والابن أولى من الأب، والأب أولى من الأخ، ومن قرب من العصبة أحق. وإن زوجها البعيد مضى ذلك. يعني أن الابن أولى بتزويج أمه من الأب على المشهور لا أقوى العصبة، وأنه أحق بموالي مواليها من الأب، وأولى بالصلاة عليها منه ولأن الأب يكون معه صاحب فرض، وابن الابن وإن سفل مثل الابن في ذلك اهـ أبو الحسن: فإن لم يكن لها أب فأخوها ثم ابنه، ثم الجد، فالعم، ثم ابن العم، يقدم الأقرب فالأقرب هكذا. قال رحمه الله تعالى: " وللأب إجبار البكر وإن بلغت، والثيب الصغيرة وفي العانس قولان " يعني للأب إجبار ثلاث من بناته الأولى البكر ولو عانساً على المشهور إلا إذا رشدها، أو أقامت سنة ببيت زوجها ثم تأيمت فلا جبر له عليها، الثانية بنته الثيب الصغيرة بأن تأيمت ورجعت إليه قبل البلوغ، بعد أن أزال الزوج بكارتها

فله جبرها. الثالثة بنته المجنونة ولو كانت بالغاً ثيباً له جبر عليها، ولا كلام لولدها إن كان لها ولد رشيد اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولا يمنعه الثيوبة بسقطة أو زناً كرجوع البكر قبل المسيس " يعني أن البكر إذا زالت بكارتها بعارض كسقطة أو زناً ولو تكرر، أو ضربة، أو حمل شيء ثقيل، أو بعود نحو ذلك فإن ذلك لا يمنع الأب عن إجبارها، بل له جبرها ولو عانساً. وفي الرسالة: وللأب رإنكاح ابنته البكر بغير إذنها وإن بلغت، وإن شاء شاورها. قال رحمه الله تعالى: " وغيره بالإذن في البالغة العاقلة، فإذن البكر صماتها والثيب نطق " يعني أن غير المجبر لا يزوج امرأة إلا بإذنها إن كانت بالغة عاقلة. قال في الرسالة: ولا يزوج الثيب أب، ولا غيره إلا برضاها، وتأذن بالقول، وأما البكر فإذنها صماتها، كما في الحديث الصحيح عن مالك بإسناده عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها " اهـ رواه في الموطأ. قال رحمه الله تعالى: " والصحيح بطلان العقد على اليتيمة إلا أن يخاف عليها " قال الصاوي في حاشيته على الدردير. واعلم أن البنت إذا مات أبوها أو غاب وكفلها رجل، أي قام بأمورها حتى بلغت عنده، أو خيف عليها الفساد سواء كان مستحقاً لحضانتها شرعاً أو كان أجنبياً فإنه يثبت له الولاية غليها، ويزوجها بإذنها أن لم يكن لها عصبة، وهل ذاك خاص بالدنيئة وهو ظاهر المدونة، فلذا اقتصر عليه الشارح، أو حتى في الشريفة خلاف قلت هذا ما لم يكن حاكم شرعي وإلا فالحاكم هو ولي من لا ولي له كما في الحديث. قال ابن جزي في القوانين: وأما السلطان فيزوج البالغة عند عدم الولي أو عضله أو غيبته، ولا يزوج هو ولا غيره الصغيرة. وقيل: يجوز له وللقرابة تزويجها إن دعتها

ضرورة ومستها حاجة وكان مثلها يوطأ اهـ. قال العلامة الدسوقي: والحاصل أن بلوغها عشراً مطلوب لمراعاة القول الآخر وهو مذهب المدونة ومثله في الرسالة، لأن اليتيمة لا تزوج إلا إذا بلغت. وليس شرطاً يتوقف عليه تزوجها على القول الذي جرى به العمل بتزويجها، وكذلك مشاورة القاضي وإن كانت واجبة ليس شرعاً على ما علمت، فلذا قال العدوي: المعتمد في هذه المسألة ما ارتضاه المتأخرون من أن المدار على خيفة الفساد، فمتى خيف عليها الفساد في مالها أو في حالها زوجت، بلغت عشراً أو لا رضيت بالنكاح أم لا، فيجبرها وليها على التزويج، ووجب مشاورة القاضي في تزويجها، فإن لم يخف عليها الفساد وزوجت صح النكاح إن دخل وطال. وإن خيف فسادها وزوجت من غير مشاورة القاضي صح إن دخل وإن لم يطل اهـ. هذا هو الحاصل في معنى قول خليل: إلا يتيمة خيف فسادها وبلغت عشراً وشور القاضي، وإلا صح إن دخل وطال اهـ انظر شراحه وإليه أشار الناظم رحمه مولاه بقوله: وزوجت يتيمة بالنطق ... من كفئها بالنقد خوف الفسق وشوور القاضي وعشراً بلغت ... بمهر مثل عجلوه قد ثبت قال رحمه الله تعالى: " فإن اجتمعوا قدم أرشدهم، فإن استووا فأسنهم، فإن استووا عقدوا جميعاً فإن عقد أحدهم مضى كعقد الأبعد، فإن تنازعوا فالسلطان، فإن عضل بعضهم عقد غيره كغيبة الأحق " يعني إذا تشاح الأولياء المتساوون في درجة واحدة كإخوة كلهم علماء نظر الحاكم فيمن يقدمه منهم، وإن لم يكن حاكم أقرع بينهم. وقيل يعقدون معاً وعليه المصنف. وفي حاشية الخرشي: فإن تنازعوا في العقد فيقدم السلطان أفضلهم، فإن تساووا فيه فأسنهم، فإن استووا فيه زوج الجميع. وهذا هو الذي يجب المصير إليه اهـ. وأما إن عضل عليها بعضهم فإن العاضل يسقط حقه فيزوجها غيره على كفئها أو السلطان. قال في المدونة: فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له، أو

يكون لها ولي فيمنعها عضلاً لها فإذا منعها فقد أخرد نفسه من الولاية بالعضل. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ضرر ولا ضرار " اهـ قال ابن جزي في القوانين: إن عضل الولي المرأة أمره السلطان بإنكاحها، فإن امتنع زوجها السلطان وذلك إذا دعيت إلى كفء وبصداق مثلها اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولو أذنت لوليين فزوجها كل جاهلاً بعقد الآخر فإن ظهر عليه قبل البناء وجهل السابق فسخا، وإن علم ثبت، وإن دخل الثاني جاهلاً فاتت الأول " هذه هي المسألة التي تسمى بذات الوليين، هي امرأة أذنت لوليها في عقد نكاحها، فعقد كل منهما برجل بدون علم الآخر ولا سابق في العقد، فالحكم فيه الفسخ معاً، هذا ما لم يعرف السابق في الدخول وإلا فالسابق بالدخول أحق بها إن دخل وهو جاهل بالأول. قال في المدونة: وإذا وكلت المرأة كل واحد من ولييها فزوجها هذا من رجل وهذا من رجل فالنكاح لأولهما إذا عرف الأول، إلا أن يدخل بها الآخر فهو أحق بها أي ما لم يكن في عدة وفاة الأول حين دخوله بها فيفسخ لأنه ناكح في العدة، ولا يفسخ إذا طلق الأول قبل موته. وقبل تلذذه بها لأنها في غير عدة اهـ مع طرف من المواق. قال ابن جزي: إن زوجها وليان من رجلين فالداخل من الزوجين أولى إذا لم يعرف السابف اهـ. قال الدردير: وإن أذنت لوليين فعقدا فللأول إن لم يتلذذ بها الثاني غير عالم، وإلا فهي له أي الثاني إن لم يكن عقده في عدة وفاة الأول ولم يتلذذ بها قبله أي قبل تلذذ الثاني فتحصل أن شروط كونها للثاني ثلاثة: أن يتلذذ بها غير عالم بأنه ثان، وأن لا يكون عقده في عدة الأول، وأن لا يسبقه الأول بالتلذذ بها. ثم قال وفسخ بلا طلاق إن عقدا بزمن واحد كنكاح الثاني إن شهدت بينة على إقراره فبل دخوله بها أنه ثان أي إذا شهدت بينة على الثاني أنه قبل دخوله عليها أقر على نفسه أنه ثان فإن نكاحه يفسخ بلا طلاق، وتكون للأول لأنه ثبت أنه تلذذ بها عالماً لا إن أقر بعد الدخول

فيفسخ بطلاق كجهل الزمن اهـ. ثم ذكر القسم الثاني من قسمي ولاية النكاح فقال رحمه الله تعالى: " الثاني سبب " يعني الثاني من قسمي الولاية السبب وهما ما يتوصل به إلى أمر من الأمور، وهو غير النسب، وكل من حصل له سبب من أسباب الولاية تثبت له الولاية بذلك السبب سواء كان السبب وصية أو غيرها مما هو سبب ولاية كالعتق. ولما كان الوصي أقوى الأولياء، بدأ به رحمه الله تعالى: " فوصي الأب مقدم في البكر وفي الثيب إسوتهم، وذو الولاء عند عدم عصبة النسب، والمولاة تستخلف، ثم الحاكم، ثم العامة وهي ولاية الدين، فإن عقد مع وجود المجبر فباطل، ومع غيره يمضي في الدنية وفي غيرها للأخص الخيار " يعني أن وصي الأب مقدم على سائر الأولياء في تزويج البكر لأنه مجبر كالأب. قال خليل: وجبر وصي أمره أب به، أو عين له الزوج، وإلا فخلاف اهـ. قال ابن جزي في القوانين: وأما الوصي من قبل الأب ووصي فيقومان في العقد مقام الأب خلافاً للشافعي، وله الجبر والتزويج قبل البلوغ وبعده من غير استيمار إن جعل له الأب بذلك، وهو أولى من القرابة، واستحب بعض المتأخرين أن يعقد الولي بتقديم الوصي جمعاً بين الوجهين، فإن عقد الوصي جاز وإن لم يأذن الولي، وإن عقد الولي دون إذن الوصي جاز في الثيب لا في البكر. وأما الوصي من القاضي فيعقد بعد البلوغ لا قبله، ولا يجبر ويجب استيمارها، وإن كان الوصي امرأة استخلفت من يعقد اهـ. وأما قوله وفي الثيب إسوتهم يعني ينبغي للأفضل من الأولياء أن يتقدم في تزويج الثيب بإذنها ورضاها بالقول كما تقدم. ومما ينبغي الاعتناء به أن يقدم أولياء النسب على أولياء الولاء في المعتوقة. قال ابن جزي: وأما المولى فهو المعتق فيعقد على من أعتقها إن لم يكن لها عصبة، وتستخلف المعتقة من يعقد على من أعتقها إن لم يكن لها عصبة. ولا ولاية للمولى الأسفل أي مع الأعلى اهـ. وممن يستحق ولاية النكاح بالسبب الحاكم، فيتقدم في تزويج البالغة عند عدم الولي أو

عضله أو غيبته، ولا يزوج هو ولا غيره الصغيرة على ما تقدم بيانه في ذلك فراجعه إن شئت. وأما الولاية العامة فهي آخر الرتبة في ولاية النكاح. قال ابن جزي: فتجوز في المذاهب إذا تعذرت الولاية الخاصة، فأما مع وجودها فقيل لا تجوز أصلاً وفاقاً لهم أي لجمهور الأئمة. وقيل تجوز في الدنية التي لا خطر لها وكل واحد كفؤ لها بخلاف غيرها اهـ. قوله بخلاف غيرها إشارة إلى الشريفة فإن زوجت مع وجود الولي الخاص فللولي أو الحاكم النظر في إمضائه ورده بحسبما تقدم، وأما مع وجود المجبر فيفسخ مطلقاً سواء دخل بها أو لم يدخل في الدنية أو الشريفة ولو أمضاه المجبر على المشهور إلا في حالة التفويض بأن شهدت البينة أن المجبر فوض جميع أموره له من إنكاح بناته وتصرف بماله فهذا إذا زوج فلا يفسخ ما عقد على بنات المجبر بشرط أن يكون المفوض عليه أباً للمجبر أو ابناً أو أخاً أو جداً، وأما إذا فوض الولي المجبر إلى أجنبي أموره فزوج بنته بدون إذنه غإنه لا يصح ويفسخ العقد ولو أجازه الولي. قال في فقه المذاهب: وكذلك إذا فوض إلى أقاربه المذكورين بإقراره فإنه لا يعتبر بل لا بد أن يكون التفويض بالبينة اهـ أنظره. قال رحمه الله تعالى: " وللولي فيما يباح له تولي طرفي العقد بإذنها ورضاها به " يعني يجوز على الولي أن يتولى عقد نكاح وليته لنفسه على نفسها برضاها وإذنها. قال خليل: ولابن عم ونحوه تزويجها من نفسه إن عين بتزوجتك بكذا وترضى وتولي الطرفين اهـ. قال ابن جزي: الفرع الخامس يجوز لابن العم والمولى ووكيل الولي والحاكم أن يزوج المرأة من نفسها ويتولى طرفي العقد خلافاً للشافعي، وليشهد كل واحد منهم على رضاها خوفاً من منازعتها اهـ. قال بعضهم: ولا يحتاج لقوله قبلت لأن قوله تزوجتك فيه قبول. وقال تاشيخ سالم: قوله تزوجتك بكذ إيجاب وقبول من جانبه، وكأنه قال: تزوجنك وقبلت اهـ من حاشية الخرشي. قال رحمه الله تعالى: " ومعين المرأة كفؤاً أولى من معين الولي " يعني إذا عينت

المرأة كفؤاً لها، وعين الولي كفؤاً غيره فكفؤها مقدم على كفئه. قال خليل: وعليه الإجابة لكفء، وكفؤها أولى، فيأمره الحاكم ثم زوج اهـ قال الخرشي: يعني أنه يجب على الولي غير الأب في البكر إجابة المرأة إلى كفء معين دعت إليه وهي بالغة لأنها لو لم تجب لذلك مع كونها مضطرة إلى عقده كان ذلك ضرراً بها، فإن دعا الولي إلى كفء غير كفئها أجيبت وكان كفؤها أولي من كفئه لأنه أدوم للعشرة فيأمره الحاكم أن يزوج من دعت إليه، فإن فعل فواضح وإن تمادى على الامتناع فيسأله عن وجهه، فإن رآه صواباً ردها إليه وإلا عد عاضلاً برد أول كفء، وحينئذ يزوجها الحاكم بعد ثبوت ثيوبتها عنده وملكها أمر نفسها، وإن المهر مهر مثلها وكفاءة الخاطب، وإن شاء رد العقد لغير العاضل من الأولياء إن كان اهـ بحذف. قال رحمه الله تعالى: " والكفاءة الدين، فالمنصوص أن المولى والعبد كفء للحرة العربية " يعني أن الكفاءة تعتبر بالدين والحال ولا تعتبر بالمال والنسب ولا بالحرية على المنصوص في المذهب. فالحرة وذات مال وجاه لها ترك حقها من الكفاءة وتزوج بالعبد والفقير إذا اتفقت هي ووليها. قال خليل: والمولى وغير الشريف والأقل جاهاً كفء. قال الخرشي: يعني أن كل واحد من هذه الثلاثة كفء لمن هو دونها في المرتبة، فالمولى أي العتيق كفء للعربية، وغير الشريف كفء للشريفة، والأقل جاهاً كفء لمن هو أقوى منه جاهاً اهـ ثم قال: وفي العبد تأويلان. وقد علمت أن لها وللأولياء ترك الكفاءة. انظر الحطاب. وأما كون الزوج غير فاسق وهو أيضاً حق المرأة والأولياء معاً. فإن اتفقت معهم على أن تتزوج فاسقاً جاز وقد ظلمت هي وأولياؤها أنفسهم، هذا بشرط الأمن على نفسها منه، فإن لم يؤمن عليها فيجب على الحاكم رد النكاح ولو رضيت هي ووليها لأنه صار الحق لله تعالى لوجوب حفظ النفوس، ولا يلتفت لرضاها ورضا وليها اهـ.

قال رحمه الله تعالى: " وهو حق للمرأة والولي فيجوز اتفاقهما على تركها " يعني أن الكفاءة حق المرأة والأولياء، فإن اتفقت معهم على تركها ماعدا الإسلام جاز، وأما الإسلام فلا يجوز لأحد من الأولياء ولا المرأة تركها إجماعاً لأن الإسلام شرط صحة في نكاح المسلمة. قال رحمه الله تعالى: " ولا ولاء لمسلم على كافرة إلا للسيد في أرقائه فله إجبارهم ولا يجبر هو " يعني أنه لا يجوز أن يكون المسلم ولياً في عقد نكاح الكافرة لقوله تعالى: {ما لكم من ولايتهم من شيء} [الأنفال: 72] إلا ما استثني للسيد في أرقائه فيجوز له تزويجهم وإجبارهم على ذلك سواء كانوا ذكوراً أو أناثاً، ولا يجبر على السيد في ذلك. قال الخرشي: والمعنى أن المسلم إذا كانت له أمة كافرة أو معتقة كذلك، فإنه يجوز له أن يزوجها بشرط أن تكون المعتقة من غير نساء الرجال الذين يؤدون الجزية بأن أعتقها وهو مسلم ببلاد الإسلام فله تزويجها لمسلم أو كافر إن كانت كتابية، فإن كانت من نساء أهل الجزية بأن أعتقها مسلم ببلدهم أو أعتقها كافر ولو ببلد الإسلام ثم أسلم فلا يزوجها إلا أن تسلم اهـ مع طرف من الإكليل. قال رحمه الله تعالى: " فإن تزوج العبد بغير إذن سيده فله إجازته، لا الأمة ثم ليس له منعه الرجعة ولا إجباره على الفرقة، ولا ينفسخ ببيعه " يعني إن تزوج العبد بغير إذن السيد فالحكم فيه في يد سيده، وأما الطلاق فليس للسيد فيه مدخل. قال في الرسالة: ولا نكاح لعبد ولا لأمة إلا أن يأذن السيد. وقال أيضاً: والطلاق بيد العبد دون السيد اهـ. قال خليل: وللسيد رد نكاح عبده بطلقة فقط بائنة إن لم يبعه. يعني فإن باعه فليس له رد نكاحه لخروجه عن ملكه وليس للمشتري رده أيضاً لسبق النكاح لملكه إلا إذا رد العبد لبائعه حين ما اشتراه بغير علم بأنه متزوج فله رده اهـ. قال ابن جزي: فإن تزوج العبد بغير إذن سيده فإن شاء السيد أجازه أو فسخه

فصل في المحرمات اللاتي لا يصح العقد عليهن

بطلقة أو طلقتين، وإن تزوجت الأمة بغير إذن سيدها لم يجز وإن أجازه السيد؛ لأنها لا تعقد نكاح نفسها اهـ وأما الرجعة أي ارتجاع زوجة العبد وليس أيضاً بيد السيد بل بيد العبد كالطلاق كما تقدم والله أعلم اهـ. ولما أنهى الكلام على بعض المسائل المهمات التي ابتدأ بها المصنف انتقل يتكلم على المحرمات من النساء اللاتي يحرم على الإنسان تزوجهن فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في المحرمات اللاتي لا يصح العقد عليهن أي في بيان المحرمات اللاتي لا يصح العقد عليهن. قال في الرسالة: وحرم الله سبحانه من النساء سبعاً بالقرابة وسبعاً بالرضاع والصهر، فقال عز وجل: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت} [النساء: 23] فهؤلاء من القرابة، واللواتي من الرضاع والصهر قوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} [النساء: 23] وقال تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح ءابائكم من النساء} [النساء: 22] وحرم النبي صلى الله عليه وسلم بالرضاع ما حرم من النسب اهـ. وعلى تفسير ذلك عقد المصنف هذا الفصل، وبدأ بما بدأ الله به فقال رحمه الله تعالى: " تحرم الأم وإن علت، والبنت وإن نزلت، ولو من الزنا عند ابن القاسم، وأجازه ابن الماجشون " يعني أن الله سبحانه حرم أصول الشخص وفروعه، فأما أصوله فهن أمهاته، فتحرم عليه أمه التي ولدته وجدته من كل جهة وإن علت، وأما فروعه فهن بناته، وبنات بناته وإن نزلن، ولو كانت البنت من زناً فهي حرام

عليه عند ابن القاسم. وقال ابن الماجشون يجوز نكاحها. قال خليل: وحرم أصوله وفصوله ولو خلقت من مائه. قال الخرشي: يعني الرجل إذا زنى بامرأة فحملت منه بابنة فإنها تحرم عليه، كما يحرم عليه من بناته من ثبت نسبها منه لأن الجميع خلقن من مائه فهي بنت أو كالبنت على المشهور فتحرم عليه وعلى أصوله وفروعه، لا ربيبة، ومثل البنت الابن المخلوق من مائه فيحرم على صاحب الماء تزوج بنته اهـ قال الصاوي على الدردير: ورد بالمبالغة على ابن الماجشون حيث قال لا تحرم البنت التي خلقت من الماء المجرد عن الغقد وما يشبهه من الشبهة على صاحب الماء لأنها لو كانت بنتاً لورثته وورثها وجاز له الخلوة بها وإجبارها على النكاح، وذلك منتف عندنا. ومثل من خلقت من ماء الزنا من شربت من لبن امرأة زنى بها إنسان فتحرم تلك البنت على ذلك الزاني الذي شربت من مائه، وهذا ما رجع إليه مالك وهو الأصح اهـ قال القرطبي في تفسير سورة الفرقان: اختلف الفقهاء في نكاح الرجل ابنته أو أخته أو ابنة ابنه من الزنا، فحرم ذلك قوم منهم ابن القاسم وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وأجاز ذلك آخرون منهم عبد الملك بن الماجشون، وهو قول الشافعي اهـ أنظر الحطاب. قال رحمه الله تعالى: " والأخت وبنات الأخ وبنات الأخت وإن بعدن " يعني يحرم على الشخص فروع أبويه وهن أخواته فتحرم عليه أخته من كل حهة سواء كانت شقيقة أو لأب أو لأم، كما يحرم عليه بناتها وبنات أبنائها وبنات أخيه وإن نزلن، كلهن يحرمن عليه أبداً. قال رحمه الله تعالى: " والعمات والخالات من جميع الجهات " يعني يحرم على الشخص فروع أجداده وجداته وهن عماته وخالاته سواء كن شقيقات لأبيه أو شقيقات لأمه أو ما فوق ذلك من عمات الآباء وخالاتهم، أو من عمات الأمهات وخالاتهن. وتلخيص ذلك أن كل من ولده جدك أو جدتك وإن علوا سواء من قبل الآباء

أو من قبل الأمهات فهي عليك حرام، ولا يدخل في ذلك شيء من بناتهن أولئك حلال نكاحهن. قال في الفقه: وإلى هنا ينتهي التحريم فلا تحرم عليه بنات عماته ولا بنات خالاته ولا بنات عمه فلا يحرم من فروع الأجداد والجدات إلا البطن الأولى اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وأم الزوجة بالعقد، وبناتها بالدخول بها، وتختص الحرمة بعينها أو كونها في حجره " يعني تحرم على الشخص أو زوجته بالعقد على بنتها، ولا يحرم عليه بناتها حتى يدخل بالأم لأن العقد على البنات يحرم الأمهات، والدخول بالأمهات يحرم البنات، قال في الفقه: وإذا عقد الشخص على امرأة حركت عليه أمها وإن علت، سواء دخل بها أو لم يدخل. أما بنتها فإنها لا تحرم إلا بالدخول كما عرفت اهـ. قال في المقدمات: ويدخل في قوله وأمهات نسائكم أمهات الأمهات ومن فوقهن من الجدات وليس يدخل فيه بنات الأمهات ولا أخواتهن ولا عماتهن ولا خالاتهن، أولئك حل نكاحهن بعد موتهن أو فراقهن لأنهن ذوات محارم فإنما يحرم الجمع بينهن اهـ. هذا معنى قول المصنف وتختص الحرمة بعينها، أي تحرم على زوج بنتها هي وأمهاتها فتنبه. وأما قوله أو كونها في حجره لا يشترط كونها في حجره بل لا فرق بين أن تكون في حجره أو لم تكن فيه لأن الآية خرجت مخرج الغالب، فإن الغالب عدم استغناء الربيبة عن أمها فهي في حجر زوجها. قال رحمه الله تعالى: " وحلائل الآباء وإن علوا والأبناء وإن نزلوا " هذا تفسير قوله تعالى: " ولا تنكحوا ما نكح أبآؤكم " والمراد بالنكاح هنا العقد، فمتى عقد أحد من أصول الشخص على امرأة فلا يحل تزوجها لأبنائه وأبناء أبنائه وأبناء بناته، كما تحرم زوجة الابن على أبيه وأجداده وإن علوا بشرط أن يكون الابن ابن الصلب لقوله تعالى: " {الذين من أصلابكم} وخرج به الذي تبناه الأب فلا تحرم عليه زوجته إذا مات

أو طلق، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه تزوج زينب بنت جحش زوجة زيد بن حارثة الذي كان تبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال العلامة حسين بن إبراهيم في قرة العين: مسألة إذا عقد الأب نكاح امرأة ولو مختلفاً فيه كمحرم بأحد النسكين وسغار وتزويج المرأة نفسها حرمت على أولاده، وكذا عقد الابن ولو صغيرا يحرم على الأب، وأما عقد الشراء فلا يحرم فإذا اشترى الأب جارية فلا تحرم على ابنه بنفس عقد الشراء لأن التحريم في الملك إنما يكون بالتلذذ، وكذا يقال في الابن إذا اشترى أمة لا تحرم على الأب بعقد الشراء وإنما تحرم بالتلذذ إن كان الابن بالغاً، وأما إن كان غير بالغ فإنه لا يحرم على أبيه الأمة ولو مراهقاً لأن تلذذه ووطأه كلا وطء اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والنكاح المختلف فيه كالصحيح " يعني أن النكاح المختلف فيه حكمه كالصحيح، وذلك كنكاح المحرم بأحد النسكين فيفسخ بطلاق وتعتد المرأة كعدة الصحيح، وينشر الحرمة على أصوله وفروعه، وتستحق به الصداق إن دخل، ويلحق به الولد، ويدراً الحد على الزوجين، لكن لا تحل به لمن طلقها ثلاثاً. قال في الرسالة: وما فسد من النكاح لصداقه فسخ قبل البناء فإن دخل بها مضى وكان فيه صداق المثل، وما فسد من النكاح لعقده وفسخ بعد البناء ففيه المسمى، وتقع به الحرمة كما تقع بالنكاح الصحيح، ولكن لا تحل به المطلقة ثلاثاً ولا يحصن به الزوجان اهـ. قال ابن جزي: فكل نكاح أجمع على تحريمه فسخ بغير طلاق، وما اختلف فيه فسخ بطلاق، وقيل كل نكاح يجوز للولي أو لأحد الزوجين إمضاؤه أو فسخه فسخ بطلاق، وكل ما يغلبون على فسخه ويفسخ قبل البناء وبعده فسخ طلاق، وفائدة الفرق أن الفسخ بطلاق يوقعه الزوج ويحسب في عدد التطليقات، والفسخ بغير طلاق يوقعه الحاكم ولا يحسب في عدد الطلقات، وتعتد من الفسخ كما تعتد من الطلاق. ثم قال النكاح الفاسد الذي يفسخ بغير طلاق لا يكون فيه بين الزوجين توارث، والفاسد الذي يفسخ بطلاق

يتوارثان فيه إن مات أحدهما قبل الفسخ. وكل نكاح يدرأ فيه الحد فالولد لاحق بالوطئ فلا يجوز للزوج أن يتزوجها في عدتها منه، وكل نكاح فسخ اختياراً من أحد الزوجين حيث لهما الخيار جاز أن يتزوجها في عدتها منه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والجمع بين الأختين، والمرأة وعمتها أو خالتها بملك أو نكاح " يعني يحرم على الشخص الجمع بين الأختين. قال النفراوي: ولو من الرضاع وكذا يحرم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، لما في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام قال: " لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها " رواه مالك في الموطأ. وإليه أشار صاحب الرسالة بقوله: ونهى أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها. قال النفراوي: أو على بنت أخيها أو بنت أختها. وأشار إلى ذلك العلامة خليل بالعطف على المحرمات بقوله: وجمع خمس أو اثنتين لو قدرت أي ذكراً حرم، أي نكاح الأخرى، وهذا الضابط مقيد بما إذا كان امتناع الجمع بالقرابة والرضاع أو المصاهرة فلا يرد الجمع بين المرأة وأمتها، والجمع بين المرأة وبنت زوجها، والجمع بين المرأة وأم زوجها فإنه يجوز، لأن الحرمة من جانب واحد، بخلاف نحو المرأة وعمتها لو قدرت كل ذكراً حرم عليه نكاح الأخرى لأن الشخص يحرم عليه نكاح عمته، وكذلك المرأة وبنت أخيها لو قدرت المرأة ذكراً لحرم عليه بنت أخيه، ولو قدرت بنت الأخ ذكراً لحرم عليه نكاح عمته. وضابط خليل ربما يشمل العمتين والخالتين والعمة والخالة. ومثال العمتين يوجد في بنتي رجلين تزوج كل منهما أم الآخر، والخالتين يتصور في بنتي رجلين تزوج أحدهما أم الآخر والآخر بنت الآخر أنظر التتائي. ومثله للأمير في المجموع نقلاً عن البرزلي كما ذكره الشيخ حسين بن إبراهيم في قرة العين. قال رحمه الله تعالى: " والزيادة على أربع زوجات فإن طلق واحدة رجعياً لم

يحل له غيرها حتى تنقضي عدتها بخلاف البائن " يعني يحرم على الشخص المتزوج بأربع زوجات تزوج الخامسة. قال خليل عاطفاً على المحرمات: وجمع خمس. قال ابن عرفة تزويج الخامسة حرام إجماعاً لا ما دونها اهـ المواق. فإذا تزوج الخامسة فالحكم فيه الفسخ بغير طلاق لأنه مجمع على فساده. وأما إذا طلق ذو أربع زوجات واحدة طلاقاً رجعياً فلا يحل له تزوج الأخرى حتى تنقضي الأولى من عدة الطلاق الرجعي، أما لو كان طلاقها بائناً لجاز له التزوج بأخرى بدون تربص شيء. قال العلامة الصاوي في حاشية الدردير: وهل منع الرجل من نكاح كأخت في عدة تلك المطلقة الطلاق الرجعي يسمى عدة أولاً قولان، وعلى الأول فهي إحدى المسائل التي يعتد فيها الرجل، إلى أن قال: ثانيها من تحته أربع زوجات فطلق واحدة وأراد أن يتزوج واحدة فلا بد من تربصه حتى تخرج الأولى من العدة إن كان طلاقها رجعياً اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ومعتدة الغير والتصريح بخطبتها " يعني يحرم على الشخص عقد على معتدة الغير، بل لا يجوز للخاطب أن يصرح بالخطبة في العدة، سواء كانت المخطوبة مسلمة أو كتابية، حرة أو أمة. وكما يحرم التصريح للمعتدة كذلك يحرم التصريح للمستبرأة. وحاصل ما في الدسوقي أن المستبرأة من زناً منه أو من غيره أو من غصب أو من ملك أو شبهة ملك أو شبهة نكاح حكمها حكم المعتدة من طلاق أو وفاة في تحريم التصريح لها أو لوليها بالخطبة في زمن الاستبراء اهـ قال خليل عاطفاً على التحريم: وصريح خطبة معتدة. قال الدردير: ويحرم التصريح بالخطبة في العدة اهـ أي سواء كانت عدة موت أو عدة طلاق ولو كان رجعياً إن كان الطلاق من غيره وإلا جاز له مراجعتها، وله عقد عليها برضاها إن كان طلاقه بائناً دون الثلاث كالخلع كما سيأتي. والحكم فيمن خطب وعقد في العدة الفسخ بغير طلاق لأنه مجمع على فساده، وله تزوجها بعد تمام ما هي فيه من عدة أو استبراء إذا لم يحصل منه وطء ولا تلذذ بها قبل الفسخ وإلا تأبد التحريم عليه

وعلى أصوله وفروعه إن لم يعلم بذلك وهذا إذا لم يكن استبراء من زناً منه، وأما إذا كان الاستبراء من زنا منه أو غصب، أو كانت ذات زوج أو مطلقة طلاقاً رجعياً فلا بد يتأبد التحريم اهـ. ثم ذكر التعريض فقال رحمه الله تعالى: " لا التعريض كإني فيك لراغب وعليك لحريص ونحوه " يعني أنه لا يحرم التعريض بالخطبة بل هو جائز. قال الله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم} {البقرة: 235} الآية. وقال تعالى: {إلا أن تقولوا قولاً معروفاً} {البقرة: 235} ومعنى ذلك كما في الموطأ أن يقول الرجل للمرأة وهي في عدتها من وفاة زوجها: إنك علي لكريمة، وإني فيك لراغب، وإن الله لسائق إليك خيراً ورزقاً ونحو هذا من القول. قال الباجي وما ذكر من قول الرجل للمرأة: إني فيك لراغب، وإني عليك لحريص تعريض بالنكاح، وهو الذي أباحه الباري تعالى بقوله: {ولا جناح} الآية اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فإن دخل جاهلاً بحرمتها حرمت أبداً. وهل العالم مثله قولان " الضمير في قوله بحرمتها راجع إلى المعتدة، والمعنى فإن خطب وعقد على المعتدة ودخل بها جاهلاً بحرمة العقد في العدة حرمت عليه أبداً، وهل العالم بالحرمة كذلك، أو يحد؟ ففيه قولان. قال في الإكليل: فإن كان عالماً حد في ذات المحرم والرضاع، وفي حده في نكاح المعتدة قولان. وقال الدردير: فإن علم حد، إلا المعتدة قولان. وفي قرة العين: مسألة إذا نكح شخص امرأة نكاحاً مجمعاً على فساده كنكاح معتدة وخامسة، فإن كان عالماً بذلك فلا يحرم أصولها وفصولها، ويحد لأنه زنى، وأما إن كان لا يعلم بأنها معتدة، أو يعتقد حل الخامسة لكونه حديث عهد بالإسلام فلا حد عليه. وحرم عليه أصولها وفصولها. وأما المختلف في فساده فهو كالصحيح، العقد فيه على البنات يحرم الأمهات، والدخول على الأمهات يحرم البنات. ولو بالنظر لغير الوجه والكفين

إن وجد اللذة ولو لم يقصد، إلا إن قصد فقط، ولا إن تلذذ بالنظر للوجه والكفين فلا يحرم فيهما إلا اللذة بالمباشرة أو القبلة اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والمشهور تداخل العدتين " يعني أن المشهور من الأقوال أن العدة والاستبراء يدخل أحدهما في الآخر. وقد عقد أهل المذهب فصولاً في تداخل العدتين كصاحب المختصر وابن جزي وغيرهما. وعقد الدردير فصلاً في ذلك فقال: إن طرأ موجب عدة مطلقاً أو استبراء قبل تمام عدة واستبراء انهدم الأول واستأنفت إلا إذا كان الطارئ أو المطرو عليه عدة وفاة فأقصى الأجلين، كمتزوج بائن ثم يطلق بعد البناء أو يموت مطلقاً، وكمستبرأة من فاسد يطلقها أو يطأ بفاسد، وكمرتجع وإن لم يمس أو مات، وكمعتدة طلاق وطئت فاسداً وإن من المطلق وأما من موت فأقصى الأجلين كعكسه وكمشتراة في عدة ارتفع حيضها وهدم الوضع من نكاح صحيح غيره. ومن فاسد إثره وعدة طلاق لا وفاة فالأقصى اهـ أي من الأجلين إما الوضع من الفاسد، أو إتمام عدة الوفاة. ومثله في القوانين. وقد ذكرنا في بدر الزوجين جميع ذلك مفصلاً أنظره إن شئت. ثم قال رحمه الله تعالى: " والمبتوتة حتى يطأها زوج غيره وطئاً مباحاً في نكاح صحيح " معطوف على وتحرم الأم يعني وتحرم على الشخص المبتوتة، وهي المطلقة ثلاثاً التي قال تعالى في حقها: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} {البقرة: 230} الآية اتفق الجمهور على أن المبتوتة لا تحل إلا من بعد زوج بالغ مع إيلاج، في نكاح صحيح بغير قصد التحليل. قال مالك في المحلل: إنه لا يقيم على نكاحه ذلك حتى يستقبل نكاحاً جديداً، فإن أصابها في ذلك فلها مهرها اهـ الموطأ.

قال رحمه الله تعالى: " وقصد حلها يمنعه لهما " وفي نسخة يمنعها، يعني قصد المحلل في تحليلها للأول يمنع أن تكون المرأة حلالاً لأحد منهما. فلا تحل للمحلل، بل يفسخ نكاحه ولو بعد البناء، وتستبرئ منه، ولا تحل لمن طلقها ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره نكاحاً صحيحاً ويطؤها وطئاً مباحاً بغير إنكار منهما. قال رحمه الله تعالى: " وتصادقهما على الوطء يحلها لا إنكارها " فالمطلوب تصادقهما على الوطء. قال الدردير: فإن أنكرا أو أحدهما لم تحل. وقال في أقري المسالك: والمبتوتة حتى تنكح غيره نكاحاً صحيحاً لازماً، ويولج بالغاً حشفته بانتشار في القبل بلا منع ولا نكرة فيه، مع علم خلوة ولو بامرأتين وزوجة فقط، لا بفاسد إن لم يثبت بعده بوطء ثان كمحلل، وهذا مثال الفاسد الذي لا يثبت بالدخول، وإن نوى الإمساك إن أعجبته، ونيتها كالمطلق لغو ومثله في المختصر. اهـ. وقال بعض المحققين من أهل المذهب: إذا طلق الحر زوجته ثلاثاً سواء كانت حرة أو أمة، سواء كانت في كلمة أو متفرقة، وسواء كانت الزوجة مدخولاً بها أم لا لم تحل له حتى يتزوجها بالغ زواج رغبة ويولج فيها الحشفة، فإن تزوجها بقصد التحليل فالنكاح فاسد قبل الدخول وبعده ولم تحل للأول. وأما إذا تزوجها زواج رغبة ولكنه رجل مطلاق وطلقها في مدة قليلة بعد أن أولج فيها حلت للأول، وتحرم زوجة العبد بطلقتين كذلك حرة كانت أو أمة سواء في كلمتين أو في كلمة مدخولاً بها أم لا تحل لهحتى تنكح زوجاً غيره في نكاح صحيح مباح كذلك اهـ. ولما أنهى الكلام على ذكر بعض المحرمات للقرابة والصهر انتقل يتكلم على المحرمات بالعارض والأسباب فقال رحمه الله تعالى:

فصل في نكاح الشغار وما يتعلق به من الأحكام

فَصْلٌ في نكاح الشغار وما يتعلق به من الأحكام أي في بيان ما يتعلق بأحكام نكاح الشغار، وهو لغة مطلق الرفع، ويقال شغر الكلب إذا رفع رجله ليبول. واستعمل هنا في رفع الصداق عن الزوجين: ولذا فسره عليه الصلاة والسلام بقوله وهو البضع بالبضع، أي الفرج بالفرج. قال رحمه الله تعالى: " نكاح الشغار وهو أن يزوج كل وليته من الآخر على أن لا مهر " يعني أن نكاح الشغار المنهي عنه هو البضع بالبضع مع الشرط والالتزام، مثل أن يزوج الرجل ابنته لرجل على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق. قال النفراوي: هذا صريح الشغار لأنه على ثلاثة أقسام: صريح، ووجه، ومركب: فالصريح الخالي من الصداق من الجانبين، والوجه المسمى فيه الصداق من الجانبين، والمركب المسمى فيه لواحدة دون الأخرى. وحكم صريح الشغار الفسخ مطلقاً ولو ولدت الأولاد، ولا شيء للمرأة قبل الدخول ولها بعده صداق المثل، وهذا مما لا خلاف فيه، وإنما الخلاف في كون فسخه بطلاق، وبه قال مالك مرة، أو بغيره وهو الذي قاله سحنون قائلاً عليه أكثر الرواة. وحكم الوجه أنه يفسخ قبله ولا شيء فيه للمرأة، ويثبت بعده بالأكثر من المسمى وصداق المثل. وحكم المركب من الصريح والوجه فسخ نكاح كل قبل الدخول وأما بعده فيفسخ نكاح من لم يسم لها ولها مثلها، ويثبت نكاح المسمى لها بالأكثر من المسمى ومن صداق مثلها اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " والمتعة وهو المؤقت " قال ابن جزي في البيان: لفظ المتعة في الفقه يقع على أربعة معان: أحدها متعة الحج وقد ذكرت، الثاني النكاح إلى أجل، الثالث متعة المطلقة وستذكر، الرابع امتاع المرأة زوجها في مالها اهـ. والمراد هنا النكاح إلى أجل. يعني من الممنوع عنه شرعاً نكاح المتعة، وهو نكاح إلى أجل بأن يعلم

الزوجة أو وليها بأنه ينكحها مدة من الزمان ثم يفارقها هذا هو المنهي عنه لما روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عام الفتح عن نكاح المتعة. وحكى المأزري الإجماع على حرمته إلى يوم القيامة كما في روايات. وحكم نكاح المتعة إن وقع يفسخ قبل البناء وبعده بغير طلاق على المشهور. وقيل به قاله في التوضيح. ويجب فيه بالدخول صداق المثل إلا أن يكون قد سمى لها صداقاً فلها المسمى. ويسقط عنه الحد ولو عالماً بالحرمة على المذهب، لكن يعاقب العالم بحرمته والعالمة، قال بهرام وبعدم الحد يلحق به الولد، وعليها العدة كاملة فتعتد بثلاث حيض لا باستبراء فقط اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والسر وهو المتواصى على كتمانه " يعني ومن المنهي نكاح السر وهو كما فسره المصنف نكاح المتواصى على كتمانه، كأن يأمر الشهود بكتمان العقد، وهو نكاح فاسد. ونص المدونة أرأيت الرجل ينكح ببينة ويأمرهم أن يكتموا ذلك أيجوز هذا النكاح في قول مالك؟ قال لا إذا أمر بكتمان ذلك أو كان على الكتمان فالنكاح فاسد اهـ. فالمطلوب الإعلان به لما في الحديث عن عاشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف " اهـ رواه أحمد والترمذي وفي رواية: " فضل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت في النكاح " اهـ قال ابن رشد: واتفقوا على أنه لا يجوز نكاح السر، واختلفوا إذا شهد شاهدين ووصيا بالكتمان هل هو سر أو ليس بسر؟ فقال مالك هو سر ويفسخ، وقال أبو حنيفة والشافعي ليس بسر اهـ أنظر سبب اختلافهم في بداية المجتهد. قال الدردير في أقرب المسالك: وفسخ نكاح السر إن لم يدخل ويطل بالعرف أي لا بالولادة وهو

ما أوصى الزوج فيه الشهود بكتمه وإن من امرأة، أو أياً ما وعوقبا والشهود إن دخلا اهـ ومثله في المختصر. قال رحمه الله تعالى: " والنهارية وهو المشترط إتيانها الزواج نهاراً باطل ويجب بالدخول المهر ويسقط الحد ويلحق الولد " يعني من النكاح المنهي عنه نكاح الشرط بأن يشترط أحد الزوجين عدم إتيانه الآخر إلا نهاراً فقط أو ليلاً فقط فإذا اشترطا ذلك أو أحدهما فالنكاح فاسد يفسخ قبل الدخول، ويثبت بعده بصداق المثل لا بالمسمى ويدرأ عنه ويلحق به الولد. قال خليل: وقبل الدخول وجوباً على أن تأتيه إلا نهاراً أو ليلاً، أو بخيار لأحدهما أو غير إلا خيار المجلس اهـ يعني يفسخ قبل الدخول إذا اشترط أن لا تأتيه إلا نهاراً كما إذا اشترط الخيار لأحد الزوجين، أو كان الخيار لأجنبي إلا إذا كان خيار المجلس. قال مالك: لا خير في نهارية. ونص المواق: قول مالك في النهارية وهي التي تتزوج على أن لا تأتيه أو يأتيها إلا نهاراً أو لا تأتيه إلا ليلاً لا خير فيه. قال ابن القاسم: ويفسخ ما لم يدخل فإن دخل ثبت ولها صداق المثل، ويسقط الشرط وعليه أن يأتيها ليلاً ونهاراً. وقال ابن سلمون: من الشروط التي تفسد النكاح مثل أن يتزوجها على أن لا ميراث بينهما، أو على أن الطلاق بيدها، أو على أن لا نفقة لها وشبه ذلك مما هو مناف لمقصود العقد ومخالفة للسنة. فالنكاح بها فاسد يفسخ على كل حال، أي قبل البناء لا بعده على المشهور كما في الشامل اهـ بحذف. قال رحمه الله تعالى: " ويشترط فى نكاح الحر الأمة عدم طول الحرة وخوف العنت وإسلامها " يعني أن الحر لا يحل له أن يتزوج الأمة إلا بثلاثة شروط: الأول عدم الطول، والثاني خوف العنت، والثالث كونها مسلمة. قال النفراوي: والحاصل أن الحر الذي يولد له لا يحل له نكاح أمة غير أصله إلا بثلاثة شروط: أن يخشى العنت وأن

تنبيه

يعجز عن صداق الحرة، وأن تكون مسلمة. أما لو كان لا يولد له أو كانت أمة أصله كأبيه أو أمه أو جده أو جدته الأحرار لجاز له نكاحها من غير شرط اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وعدم شبهة ملكها كالحرة للعبد " يعني من جملة شروط نكاح الأمة عدم شبهة ملكها. قال في الرسالة: ولا تتزوج المرأة عبدها، ولا عبد ولدها، ولا الرجل أمته، ولا أمة ولده. قال النفراوي: ولا فرق في حرمة تزوج الرجل بملكه بين الملك الكامل والمبعض، ولا بين القنة المحضة وذات الشائبة كأم الولد والمكاتبة، وإنما حرم ذلك لأن الملك سبب للإباحة فهو من موانع النكاح بالنسبة للمالك. ولا فرق في الرجل بين كونه حراً أو عبداً، وإنما حرمت أمة الولد لأنها بمنزلة أمة نفسه لقوله صلى الله عليه وسلم: " أنت ومالك لأبيك " ألا ترى أن الأب لا يقطع بسرقته من مال ابنه، ولا يحد بوطء أمته، وتجب نفقته عليه إن احتاج، فإن وقع هذا الممنوع بأن تزوج المالك أمته وأمه فرعه، أو تزوجت المرأة مملوكها أو مملوك فرعها فسخ من غير طلاق، كما يفسخ لو كان سابقاً وطرأ عليه الملك. قال خليل: وفسخ وإن طرأ بلا طلاق. كما إذا اشترى زوجته أو اشترت زوجها، أو ملك الزوج أو الزوجة الآخر بالهبة ونحوها، وملك البعض كملك الكل في الفسخ اهـ. تنبيه: قد ذكر ابن جزي في القوانين الفقهية جملة من أنكحة العالم ينبغي ذكرها هنا للمناسبة أنه قال: نكاح مسلم مسلمة، ونكاح كافر كافرة فهما جائزان. ونكاح كافر مسلمة يحرم على الإطلاق بإجماع. ونكاح مسلم كافرة فتجوز الكتابية بالنكاح والملك، ولا يحل غيرها من الكفار بنكاح ولا بملك. وكره مالك الحربية لبقاء الولد بدار الحرب. ومنع ابن عمر وابن عباس كل كافرة. ثم قال أي انب جزي: ويتصور في الرق أربع صور: نكاح حر لحرة أو عبد لأمة فهما جائزان. ونكاح عبد لحرة فيجوز برضاها، فإن غرها من نفسه فلها الخيار. ونكاح حر لأمة يجوز بثلاثة شروط: الأول أن

تكون مسلمة، الثاني أن يعدم الطول وهو صداق الحرة وقيل النفقة. الثالث أن يخاف العنت وهو الزنا، ولا يشترط عدم الطول ولا خوف العنت في نكاح العبد الأمة اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويفسخ بتملك أحدهما الآخر " يعني إذا تملك أحد الزوجين صاحبه فسخ النكاح بلا طلاق، وذلك كأن كانت الحرة تحت عبد ثم ملكته إما بإرث أو هبة أو غير ذلك. أو تكون الأمة تحت حر أو عبد ثم يملكها بشراء أو غيره من أسباب الملك انفسخ النكاح. وفي الرسالة: ومن اشترى زوجته انفسخ نكاحه لأن النكاح والملك لا يجتمعان معاً فيفسخ قبل الدخول وبعده كما تقدم. قال الدردير: فلا يتزوج الذكر أمته ولا الأنثى عبدها للإجماع على أن الزوجية والملك لا يجتمعان لتنافي الحقوق، إذ الأمة لا حق لها في الوطء ولا في القسمة بخلاف الزوجية. وليست نفقتها كالزوجة ولا الخدمة كالزوجة اهـ قال النفراوي: والملك ينافي الزوجية. ولا تتزوج المرأة عبدها لأنها تطالبه بنفقة الزوجية وخدمة الرق، وهو يطالبها بنفقة الرقية وخدمة الزوجية اهـ بتصرف. ومثله في الصاوي. قال رحمه الله تعالى: " لا وجود الحرة تحته فإن لم تغنه حل له المزيد ولو إلى أربع " يعني لا يمنع الحر نكاح الأمة إذا خشي العنت بوجود الحرة الواحدة تحته إذا لم تغنه واحدة حل له الزيادة إلى أربع. قال مالك في المدونة: والحرة تكون عنده ليست بطول يمنع به من نكاح أمة إذا خشي العنت لأنها لا تتصرف تصرف المال فينكح بها. وقال قبله بقليل: يجوز للحر أن ينكح أربعاً مملوكات إذا كان على ما ذكر الله في كتابه {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} {النساء: 25} قال والطول عندنا المال، فمن لم يستطع الطول وخشي العنت فقد أرخص الله له في نكاح الأمة المؤمنة اهـ.

قال رحمه الله تعالى: " وإن تزوج حرة على أمة جاهلة ثبت لها الخيار بين الفسخ والإقامة لا عالمة " يعني كما قال الدردير في أقرب المسالك: وخبرت أمة مع حرة ألفت أمة أو علمت بواحدة فوجدت أكثر في نفسها بطلقة بائنة، كتزويج أمة عليها اهـ قال مالك: لا تنكح الأمة على الحرة، فإن فعل ذلك جاز النكاح وكانت الحرة بالخيار إن أحبت أن تقيم معه أقامت، وإن أحبت أن تختار نفسها اختارت، فإن أقامت معه كان القسم من نفسها بينهما بالسواء اهـ المدونة. قال رحمه الله تعالى: " وتباح حرائر الكتابيات " يعني يجوز للمسلم نكاح حرائر أهل الكتاب. قال الله سبحانه وتعالى فيما أحل لنا من النساء: {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} {المائدة: 5} الآية. قال مالك في الموطأ: هن الحرائر من اليهوديات والنصرانيات. وقال الشعراني في كشف الغمة كان الصحابة، رضي الله عنهم، يتزوجون من اليهود والنصارى كثيراً زمن الفتح بالكوفة حين قلت المسلمات. قال جابر: فلما رجعنا طلقناهن. وقال أنس: نكح عثمان نصرانية، ونكح طلحة يهودية. قال ابن عباس: لا تحل الأمة الكتابية لمسلم أبداً اهـ قلت: وينبغي أن يستثنى السيد لأنه يحل له وطء أمته الكتابية بملك اليمين كما في الموطأ، لقوله تعالى: {إلا ما ملكت أيمانكم} {النساء: 24} الآية وعن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، أنه قال نساؤهم لنا حلال ونساؤنا عليهم حرام اهـ وفي المدونة: وكره مالك نكاح نساء أهل الكتاب اليهودية والنصرانية من غير حرمة، وذلك أنها تأكل الخنزير وتشرب الخمر ويضلجعها ويقبلها وذلك في فيها، وتلد منه أولاداً فتغذي ولدها على دينها وتطعمه الحرام وتسقيه الخمر اهـ. وفي الرسالة: ويجوز للحر والعبد نكاح أربع حرائر مسلمات أو كتابيات، أي اتفاقاً في حق الحر، وعلى المشهور في حق العبد لعموم قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} {النساء: 3} الآية اهـ.

فصل في بيان العيوب التي توجب الخيار بين الزوجين

قال رحمه الله تعالى: " ومن بلغ به المرض حد الحجر منع النكاح فإن صح قبل فسخه ثبت، فإن فسخ قبل البناء فلا مهر، وبعده يلزمه في ثلثه، ولا ميراث للصحيح فلو برئ لورث من الصحيح " يعني كما في الرسالة: ولا يجوز نكاح المريض ويفسخ، وإن بنى فلها الصداق في الثلث مبدأ ولا ميراث لها اهـ أنظر النفراوي. وقال في أقرب المسالك: ومنع مرض مخوف بأحدهما وإن احتاج أو أذن الوارث، وللمريضة بالدخول المسمى، وعلى المريض الأقل من ثلثه والمسمى وصداق المثل، وعجل بالفسخ إلا أن يصح المريض منهما. ومنع نكاحه الكتابية والأمة على الأصح اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ثم كل نكاح أجمع المسلمون على بطلانه فالفرقة فيه فسخ، وما اختلف فيه فبطلاق " قد تقدم لنا الكلام في هذه الجملة عند قول المصنف: والنكاح المختلف فيه كالصحيح، فراجعه إن شئت. ولما أنهى الكلام على ما تقدم ذكره من المحرمات انتقل يتكلم على الخيار بين الزوجين إذا اطلع أحدهما على عيب في الآخر. فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في بيان العيوب التي توجب الخيار بين الزوجين أي في بيان ما يتعلق بالعيوب التي توجب الخيار بين الزوجين إذا لم يسبق بها علم قبل العقد، أو لم يعلم بها غلا عند الدخول والحال أنه لم يرض بها حين علم بها. وأما إن دخل بها بعد العلم بالعيب فلا خيار له، وكذلك الزوجة إذا اطلعت على عيب الزوج على ما سيأتي بيانه عن قريب إن شاء الله تعالى. قال رحمه الله تعالى: " يثبت لكل الخيار بجهله بعيب الآخر حال العقد وطروه بعده لها دونه " يعني يثبت الخيار من أحد الزوجين بظهور عيب قبل العقد، أو بعده قبل الدخول، فإن طرأ بعد العقد لها الخيار دونه، وإن دخل ولم يعلم فله ردها كما مر آنفاً

والأصل في هذا الباب ما في جملة من الأحاديث الصحيحة، منها ما رواه أحمد والبيهقي والحاكم عن كعب بن زيد " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني غفار، فلما دخل عليها فوضع ثوبه وقعد على الفراش أبصر بكشحها بياضاً " أي برصاً " فانحاز عن الفراش، ثم قال: " خذي عليك ثيابك، ولم يأخذ مما آتاها شيئاً " اهـ. ومنها ما في الموطأ عن عمر بن الخطاب أنه قال: أيما رجل تزوج امرأة وبه جنون أو ضرر فإنها تخير، فإن شاءت قرت وإن شاءت فارقت. وفي رواية: أيما رجل تزوج امرأة وبها جنون أو جذام أو برص فمسها فلها صداقاً كاملاً، وذلك لزوجها غرم على وليها اهـ. وقال مالك: إنما يكون ذلك إذا كان وليها الذي أنكحها هو أبوها أو أخوها أو من يرى أنه يعلم ذلك منها، فأما إذا كان الذي أنكحها ابن عم أو مولى من العشيرة ممن يرى أنه لا يعلم ذلك منها فليس عليه غرم، وترد تلك المرأة ما أخذت من صداقها، ويترك لها قدر تستحل به اهـ. ومنها عن سعيد بن المسيب أنه قال: من تزوج المرأة فلم يستطع أن يمسها فإنه يضرب له أجل سنة، فإن مسها وإلا فرق بينهما اهـ. قال في غاية المأمول: فمن تزوج امرأة ومسها أي جامعها ولو مرة ثم عجز عن جماعها فلا تفريق بينهما لأن الإحصان يحصل بالوطء ولو مرة، أما إذا لم يجامعها ولو مرة بأن كان عنيناً لا تنتشر آلته. فلها رفع أمرها للحاكم الشرعي فيؤجله إلى سنة، فإن جامعها وإلا فرق بينهما. ويثبت الجماع وعدمه بإقرارهما فتلك العيوب تثبت الخيار للطرف الآخر إذا ظهر أنها كانت عند الزواج، وهل حدوثها بعده كذلك؟ يراجع كلام الفقهاء اهـ. وحاصل ما هو مشهور في المذهب أن العيوب التي توجب الخيار بين الزوجين بلغت إلى ثلاثة عشر عيباً، يشتركان في أربعة، ويختص الرجل بأربعة، وتختص المرأة بخمسة. قال رحمه الله تعالى: " وهو الجنون والجذام والبرص " هذا شروع في عد العيوب

التي بها الخيار. وهذه الثلاثة هي المشتركة بين الذكر والأنثى، ولم يذكر المصنف عذيطة وهي مما يشتركان فيها، وهي خروج الغائط عند الجماع وهو عيب يوجب الخيار، وملخصه أن ما أحدث من الجذام والجنون والبرص وكذلك العذيطة فإن كان بالزوجة فلا خيار وهو مصيبة نزلت عليه، فإن كان بالزوج فلها الخيار لعدم صبرها بتلك العيوب لأن العصمة ليست بيدها بخلاف الزوج فإما أن يرضى أو يطلق. وقيل حدوث العيوب بالزوجة بعد العقد كحدوثها بالزوج. فله الخيار. والراجح ما تقدم اهـ الدردير بحذف. وإذا علمت هذا فاعلم أن الزوجة لها الخيار بهذه الأدواء قبل الدخول وبعده، وفي البرص بشرط أن يكون فاحشاً لا يسيراً والزوج كذلك على التفصيل المتقدم. قال رحمه الله تعالى: " والحب والخصاء والحصر والعنة والاعتراض " هذه العيوب الأربعة مما يختص بها الزوج. والجب قطع الذكر والأنثيين معاً، فإنه موجب للخيار، وكذا مقطوع الأنثيين فقط إذا كان لا يمني وإلا فلا خيار به. ومما يوجب الخيار الخصاء وهو قطع الذكر دون الأنثتين فإنه موجب للخيار إذا وجدته كذلك ومما يوجب الخيار العنة، هي صغر الذكر بحيث لا يتأتى الجماع فإنها موجبة للخيار، ومثل الصغر في كونها موجبة للخيار الغلظ المفرط المانع من الإيلاج. وأما الطول فلا خيار به. وأما الحصر وهو لغة المنع والحبس، بمعنى الممنوع عن الجماع كالمحبوس فيرجع إلى معنى الاعتراض ولذا عبرنا بالعيوب الأربعة وإلا لكانت خمسة، وإنما اعتبرنا الحصر والاعتراض شيئاً واحداً للخيار لها اهـ معناه. قال رحمه الله تعالى: " والقرن والرتق والعفل والبخر والإفضاء " هذه العيوب

الخمسة مما تختص بها الزوجة وتسمى عيوب الفرج، القرن وهو شيء يبرز في فرج المرأة يشبه قرن الشاة يمنع لذة الجماع يكون لحماً غالباً فيمكن علاجه، وتارة يكون عظماً فلا يمكن علاجه، وللزوج به الخيار بين الرد والإمساك به. والرتق وهو انسداد مسلك الذكر بحيث لا يمكن الجماع معه إلا أنه إن انسد بلحم أمكن علاجه. وأما إن انسد بعظم فلا يمكن علاجه، وللزوج به الخيار بين الإقامة به والفراق. والعفل وهو لحم يبرز في قبل المرأة يشبه الأدرة ولا يخلو عن رشح، وقيل رعوة تحدث في الفرج عند الجماع وللزوج به الخيار. والبخر وهو نتن الفرج، وهو عيب وللزوج الخيار بخلاف نتن الفم فلا خيار له به. والإفضاء وهو اختلاط مسلك البول والذكر. وقيل اختلاط مسلك البول والغائط. وقيل سبيل الحيض والغائط واحد، وعلى كل هو عيب وللزوج به الخيار اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فإن أمكنته عالمة أو بنى بها عالماً فلا خيار، والفراق فيه بطلاق، ولا مهر قبل الدخول " وفي نسخة والفراق فيه طلاق بحذف الباء وتقدم أن علماً بالعيب قبل الدخول مسقط للخيار وتمكينها له بعد علمها بعيبه يسقط خيارها وبناؤه بعد علمه بعيبها يسقط خياره، فوقوع الطلاق قبل الدخول طلاق بائن لا مهر فيه، وأعلم أن المرأة إذا ردها زوجها بعيب وجده معها فلا صداق لها مطلقاً ردت قبل البناء أو بعده، أما قبل البناء فظاهر، وأما بعده فلأنها غارة ولكن لها ربع دينار حيث كان بعد البناء. قال في الرسالة: وترد المرأة من الجنون والجذام والبرص وداء الفرج، فإن دخل بها ولم يعلم أدى صداقها ورجع له على أبيها، كذلك إن زوجها أخوها، وإن زوجها ولي ليس بقريب القرابة فلا شيء عليه، ولا يكون لها إلا ربع دينار اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ففي الاعتراض لها مرافعته ليؤجل سنة للحر ونصفها للعبد " يعني للمرأة رفع أمرها للحاكم في الاعتراض أصاب زوجها ليضرب له

أجل سنة إن كان حراً، ونصف سنة إن كان عبداً. وفي المواق عن ابن عرفة: من ثبت اعتراضه ولم يكن وطئ امرأته ولو مرة. قال في المدونة وغيرها: يؤجل سنة لعلاجه اهـ وأما العبد فإنه يؤجل نصف السنة. قال المتيطي: الذي به الحكم أن أجل ذي رق نصف سنة. قال الخرشي يعني العبد المعترض الذي لم يتقدم منه وطء لزوجته أصلاً وهو مقر باعتراضه يؤجل نصف سنة ولو كان فيه شائبة حرية كالمدبر ونحوه بعد الصحة من يوم الحكم كالحر. واقتصر عليه صاحب المختصر. وقيل إن العبد يؤجل سنة كالحر اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويخلى بينهما فيصدق إن ادعى الوطء إن كانت ثيباً والبكر ينظرها النساء " يعني أن المعترض يخلى بينه وبين زوجته في محل واحد ولا يحجبه عنها، فإن ادعى أنه وطئها صدق إن كانت ثيباً، وفي يمينه قولان. وإن كانت بكراً لا يصدق حتى ينظرها النساء إن لم تصدقه لحيائها عن النطق بمثل هذا. قال الخرشي: أي صدق المعترض إن ادعى في السنة الوطء بيمينه بعد إقراره بالاعتراض وضرب الأجل على ظاهر المدونة اهـ. قال ابن ناجي في شرحه على الرسالة: وكل هذا ما لم يسبق من المعترض وطء وأما إن سبق فلا مقال لها. قال في النكاح الثاني من المدونة: من وطئ امرأته ثم حدث ما منعه من الوطء من علة أو زمانة، أو اعتراض عنها لا قول لامرأته اهـ ومثله في ميارة على العاصمية. قال رحمه الله تعالى: " فإن أنقضى ولم يطأ فاختارت الفراق أجبر على طلقة " يعني لو ضرب له أجل ولم يطأ ولو مرة فاختارت الفراق فرق بينهما إن شاءت، وإن امتنع عن الفراق أجبر عليه على طلقة بائنة ولها صداقها لإقامتها سنة في بيت الزوج. قال النفراوي: فإن انقضت السنة للحر والنصف للعبد ولم يطأ مع تصديقها له أو لم يحلف على الوطء مع إنكارها فرق بينهما طلقة بائنة إن شاءت الزوجة الفراق لأنه من حقها، فإن امتنع من الطلاق فهل يطلق الحاكم أو يأمرها بالطلاق ثم يحكم به؟ قولان، فلو رضيت

بعد الأجل بالإقامة مدة مع بقاء الاعتراض ثم أرادت القيام فلها ذلك من غير ضرب أجل. قال خليل: ولها فراقه بعد الرضا بلا أجل، بخلاف ما لو قالت رضيت بالبقاء معه من غير تقييد بمدة، أو قالت أقعد معه الأبد فليس لها فراقه بعد ذلك اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فلو عادت إليه لعاد خيارها بخلاف غيره " يعني فلو عادت زوجة المعترض إليه بعد الفراق لعاد خيارها بخلاف غيره ممن ليس مرضه باعتراض كالمجذوم ونحوه، ولا يعود لها الخيار بل يضرب لها أجل ثان كما في الخرشي. وفي الحطاب: قال ابن عرفة وسمع يحيى بن القاسم امرأة المعترض إن تزوجها بعد فراقها إياه بعد تأجيله فقامت بوقفه لاعتراضه فلها ذلك إن قامت في ابتنائه الثاني قدر عذرها في اختيارها له وقطع رجائها إن بان عذرها بأن يكون يطأ غيرها، وإنما اعترض عنها فتقول رجوت برأه اهـ قال المواق: روى من اعتراض فأجل سنة، فلما تمت قالت لا تطلقوني أنا أتركه لأجل آخر فلها ذلك، ثم تطلق متى شاءت بغير سلطان اهـ. قال الصاوي: حاصله أنها إذا رضيت بعد مضي السنة التي ضربت لها بالإقامة مدة لتتروى وتنظر في أمرها، أو رضيت رضاً مطلقاً من غير تحديد بمدة ثم رجعت عن ذلك الرضا فلها ذلك، ولا تحتاج إلى ضرب أجل ثان لأن الأجل قد ضرب أولاً بخلاف ما لو رضيت ابتداء بالإقامة معه لتتروى في أمرها بلا ضرب أجل ثم قامت فلا بد من ضرب الأجل. وهذا كله في زوجة المعترض كما علمت. وأما زوجة المجذوم إذا طلبت فراقه فأجل لرجاء برئه وبعد انقضاء الأجل رضيت بالمقام معه ثم أرادت الرجوع، فإن قيدت رضاها بالمقام معه أجلاً لتتروى كان لها الفراق من غير ضرب أجل ثان، وإن لم تقيد بل رضيت بالمقام معه أبداً ثم أرادت الفراق فقال ابن القاسم: ليس لها ذلك إلا أن يزيد الجذام. وقال أشهب: لها ذلك وإن لم يزد. وحكى في البيان قولاً لتقييد الخيار فيما سبق بعد الرضا اهـ.

تنبيه: إذا طلبت المرأة التأخير لمداواة عيبها قال النفراوي: ومحصله أنها إذا كان يمكن زوال عيبها بمعالجة فإنها تؤجل له مدة باجتهاد أهل الخبرة. قال خليل: وأجلت الرتقاء للدواء بالاجتهاد، ولا تجبر عليه إن كان خلقة. قال شراحه: ولا مفهوم للرتقاء، بل ذات القرن والعفل مما يمكن مداواته كذلك ويلزم الرجل الصبر حيث لم يلزم على مداواتها حصول عيب في فرجها، كما أنها تجبر على ذلك إذا طلبه الزوج إذا كان لا ضرر عليها في المداواة، فالصور أربع للمتأمل اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولا رد بغير هذه العيوب إلا أن يشترط سلامة في العقد " يعني أن لا خيار بغير هذه العيوب أي ثلاثة عشر المتقدم ذكرها، وأما غيرها من العيوب فلا رد بها كالاعتراض بعد تقديم الوطء سليماً فلا خيار للمرأة وهي مصيبة نزلت بها، وكحصول أدرة له مانعة له من الوطء، أو حصل له هرم بعد الوطء فلا خيار بها للمرأة، اللهم إلا أن تخشى على نفسها الزنا فلها التطليق؛ لأن للمرأة التطليق بالضرر الثابت ولو بقرائن الأحوال اهـ النفراوي. وقال ابن جزي: وليس من العيوب التي توجب الخيار القرع، ولا السواد، ولا إن وجدها مفتضة من زنى على المشهور، ولا لعمى، والعور والعرج والزمانة ولا نحوها من العاهات إلا إن اشترط السلامة اهـ وكذلك لا رد بالبول على الفراش، ولا في الريح والاستحاضة والشلل، ولا بقطع عضو ولا بكثرة أكل، ولا نتن فم أو إبط، ولا بجرب، أو حب أفرنج من كل ما يعد عيباً عرفاً وهذه كلها لا يجب الخيار بواحدة منها إلا إن يشترط السلامة، فإن اشترطت فيعمل بها سواء عين ما شرطه أو قال كل عيب أو غير ذلك مما يعلم أنه اشترط فيعمل بها اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وإذا غرت الكتابية بإسلامها أو الأمة بحريتها ثبت له الخيار " يعني كما قال ابن جزي في القوانين: فإذا قال العاقد زوجتك هذه المسلمة فإذا هي كتابية أو هذه الحرة فإذا هي أمة انعقد النكاح وله الخيار فإن أمسكها لزمه

الصداق المسمى، وإن فارقها قبل الدخول فلا شيء لها، وإن فارقها بعد الدخول فلها المسمى إلا أن يزيد على صداق المثل فيرد ما زاد. وإن تزوج العبد على أنه حر فالمرأة بالخيار اهـ. قال خليل: وإلا تزوج الحر الأمة والحرة العبد بخلاف العبد مع الأمة والمسلم مع النصرانية إلا أن يغرا اهـ أي إلا أن يغر كل منهما الآخر بأن تغر الأمة العبد بأنها حرة والعبد الأمة بأنه حر، أو الكتابية المسلم بأنها مسلمة أو المسلم الكتابية بأنه كتابي. ولا يحكم بردته بهذا فللمغرور الخيار في جميع ذلك اهـ انظر شراح خليل. قال رحمه الله تعالى: " فلو ادعاه وأنكره السيد فالقول قوله " الضمير في ادعاه راجع إلى الغرور، والمعنى فلو ادعى العبد المغرور بأن الكتابية غرته بإسلامها، أو الأمة بحريتها فتزوجها وأنكره السيد في دعواه ورد النكاح لكان القول للسيد لتعلق حقه على عبده، ولا ينبغي للعبد أن يتزوج بغير إذن سيده لأنه عبد مملوك لا يقدر على شيء. وتقدم أن العبد إن تزوج بغير إذن السيد فلسيده الرد والإجازة. قال رحمه الله تعالى: " ولو تزوج معينة مجهولة الصفة فإذا هي أمة ثبت خياره لا كتابية " يعني أن لو رجلاً رأى امرأة مستترة مجهولة عنده فتزوجها بدون وصف، وبعد العقد تبين أنها أمة ثبت النكاح وله الخيار. وتقدم آنفاً في الكتابية والأمة اللتين غرتا. فراجع قول ابن جزي فيهما. وفي الرسالة: والأمة الغارة تتزوج على أنها حرة فلسيدها أخذها وأخذ قيمة الولد يوم الحكم له. قال الشارح: وحاصله أنه إذا كان الغار أجنبياً وتولى العقد فلسيدها على الزوج جميع المسمى كقيمة الولد ثم يرجع على الأجنبي بالصداق لا قيمة الولد، أي إذا لم يخبر أنه غير ولي خاص وإنما تولى عقد النكاح بولاية الإسلام أو الوكالة، وإلا فلا رجوع. وأما إن كان الغار هو السيد فحكمه أن عليه - أي الزوج - الأقل من المسمى وصداق المثل كغرورها اهـ وقوله: لا كتابية أي الخيار له إن تبين أنها كتابية. قال خليل: بخلاف المسلم مع النصرانية يظنها مسلمة حال العقد ثم تبين أنها كتابية لأنها من

نسائه وهو من رجالها إلا أن يغر كل منهما الآخر فحينئذ يثبت الخيار للمغرور، وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله: " ولو غرها بكونه على دينها لثبت خيارها " يعني أن الخيار يثبت بالغرور لأحد الزوجين لا بكونها نصرانية في المسلم، ولو غر المسلم الكتابية لكان لها الخيار وبالعكس، فإذا ثبت الغرور ثبت الخيار لأحد الفريقين اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " ويثبت للأمة بتحريرها تحت عبد لا بعتقه قبلها أو عتقهما معاً " يعني أن المعتقة تحت عبد لها الخيار، فإن اختارت نفسها فهو طلاق لا فسخ، وهل هو طلقة بائنة أو طلقتين؟ روايتان كما في المختصر من غير ترجيح، وعلى الأول أكثر الرواة. قال العدوي: وهي الراجحة، وإنما كانت بائنة لأنها لو كانت رجعية لما أفاد الخيار شيئاً اهـ. قال في الرسالة: الأمة المعتقة تحت العبد لها الخيار بين أن تقيم معه أو تفارقه، لما في الموطأ عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: " كان في بريرة ثلاث سنن، فكانت إحدى السنن الثلاث أنها عتقت فخيرت في زوجها " الحديث. وفي مسلم: " وكان زوجها عبداً فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختارت نفسها " ولو كان حراً لم يخيرها اهـ قال ابن جزي: إن عتقت الأمة تحت عبد فلها الخيار، فإن اختارت الفراق فطلقة واحدة بائنة، ويكره لها الثلاث، فإن فعلت جاز وإن لم يدخل بها فلا صداق لها لأن الفراق من قبلها، ولا رجعة له إن أعتق في عدتها لأن الطلقة بائنة إلا إن شاءت وكان الطلاق واحداً، وإن لم تخبر حتى عتق فلا خيار لها، وإن تلذذ بها بعد علمها بالعتق سقط خيارها عند الإمامين، ولا تعذر بالجهل خلافاً للأوزاعي. وقال أبو حنيفة: خيارها في المجلس، فإن قامت سقط. ولا خيار لها إن عتقت وهي تحت حر خلافاً لأبي حنيفة اهـ. ولما أنهى الكلام على الخيار بين الزوجين بسبب العيوب انتقل يتكلم على إسلام الزوجين سواء من عباد الأوثان أو أهل الكتاب، فقال رحمه الله تعالى:

فصل فيما يتعلق بإسلام المتزوجين وحكم نكاحهما بعد الإسلام

فَصْلٌ فيما يتعلق بإسلام المتزوجين وحكم نكاحهما بعد الإسلام أي في بيان ما يتعلق بإسلام المتزوجين وبيان حكم نكاحهما بعد الإسلام. قال رحمه الله تعالى: " إسلام الزوجين يقرهما في المباحة شرعاً " يعني أن إسلام الزوجين معاً يقرهما أي يثبتهما في الإسلام إن كانت الزوجة مباحة له شرعاً بأن كانت غير محرمة كأم مثلاً. قال في الرسالة: وإذا أسلم الكافران ثبتا على نكاحهما، وإن أسلم أحدهما فذلك فسخ بغير طلاق، فإن أسلمت هي كان أحق بها إن أسلم في العدة، وإن أسلم هو وكانت كتابية ثبت عليها، فإن كانت مجوسية فأسلمت بعده مكانها كانا زوجين، وإن تأخر ذلك فقد بانت منه اهـ. وفي عبارة لابن جزي إذا أسلم الزوجان معاً ثبت نكاحهما إذا خلا من الموانع الشرعية ولا يبحث في ذلك عن الولي والصداق، فإن سبق الزوج إلى الإسلام أقر على الكتابية، ويقر على غيرها إذا أسلمت بأثره، وإن سبقت هي فإن كان قبل الدخول وقعت الفرقة وإن كان بعده ثم أسلم في العدة ثبت وإلا بانت اهـ قال النفراوي: فتلخص أن الكافرين إن أسلما في وقت واحد يقران على نكاحهما ولو قبل الدخول أو كانا مجوسيين، وأما لو أسلم أحدهما فإن كان الزوج فإنه يقر على الكتابية مطلقاً، وعلى المجوسية حرة أو أمة إن أسلمت ولو لم تعتق الأمة. ومثل إسلام الأمة المجوسية عتق الأمة الكتابية. وأما لو أسلمت الزوجة ابتداء فإن كان قبل البناء بانت مكانها وإن كان بعد البناء أقر عليها إن أسلم في عدتها، لا إن تأخر إسلامه عن عدتها فلا يقر عليها لبينونتها بانقضاء عدتها اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " وإن أسلم على أكثر من أربع اختار أربعاً " يعني أن الكافر إذا أسلم وتحته أكثر من أربع زوجات وجب عليه فراق ما زاد على الأربع. قال في الرسالة: وإذا أسلم مشرك وعنده من أربع فليختر أربعاً ويفارق باقيهن اهـ

قال شارحها: ولو كان عقد عليهن في مرة أو كان قبل الدخول، ولو أحرم أو مرض بعد إسلامه وقبل اختياره، ولو كانت تلك النساء إماء حيث أسلمن معه ولو فقدت شروط تزوج الأمة على المعتمد كما قدمنا أو كن كتابيات حيث قال خليل: واختار المسلم أربعاً وإن أواخر، وإحدى أختين مطلقاً، وإحدى أم وابنتها لم يمسهما، وإن مسهما حرمتا، وإحداهما تعينت اهـ قال الخرشي: يعني أن الكافر الكتابي أو المجوسي إذا أسلم وتحته عشر مجوسيات ثم أسلمن أو كتاابيات، وسواء تزوجهن في عقد واحد أو في عقود فإنه يختار منهن أربعاً وإن كن أواخر في العقد ويفارق البواقي. والفرقة فسخ لا طلاق على المشهور. وسواء كان في حال اختيار. مريضاً أو لا، محرماً أو لا كانت المختارة أمة هو واجد لطول الحرة أم لا، لكونه كرجعة. وقيل بامتناعه كالابتداء. قال ابن عرفة: والأول أظهر اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فإن كان تحته غير كتابية فأسلمت بعد أيام أقرت وروي عن ابن القاسم إن كان بعد شهر وإلا بانت، فإن سبقته فقبل الدخول تبين وبعده إن أسلم في عدنها ثبت عليها " يعني كما تقدم أنه إن أسلم وكانت تحته حرة كتابية ثبت عليها، وإن كانت مجوسية وأسلمت بعده مكانها بأن لم يتأخر إسلامها فوق الشهر كانا زوجين ولو كانت أمة لأنها تصير أمة مسلمة تحت مسلم، ولو لم توجد بقية شروط تزوج الحر المسلم الأمة على الراجح بناء على أن الدوام ليس كالابتداء. وتقدم تلخيص جميع ذلك فراجعه إن شئت. قال رحمه الله تعالى: " فلو كانت مبتوتة لحلت بغير محلل " يعني أن الكافر لو طلق زوجته ثلاثاً في حال كفره وفارقها بأن أخرجها من حوزه ثم أسلم، أو أسلمت هي أولاً وأسلم هو في عدتها، أو أسلما معاً فإن له أن يعقد عليها قبل أن تنكح زوجاً غيره، وإليه أشار خليل مبالغاً على جواز عقده وبقاء نكاحه بعقد جديد بغير محلل بقوله: ولو

طلقها ثلاثاً وعقد عليها إن أبانها. قال الدردير أي أخرجها من حوزه وفارقها وإن لم يحصل منه طلاق حيث زعم أن إخراجها فراق، إذ ما وقع منه من الطلاق الثلاث حال الكفر لا يعتبر لأن صحة الطلاق شرطها الإسلام، وإنما احتاج لعقد جديد لأجل إخراجها من حوزه واعتقاده أن ذلك فراق عندهم، أما إذا لم يبنها أي لم يخرجها من حوزه وتماديا بعد الطلاق الثلاث حتى أسلما لما احتاج لعقد، بل يقران على نكاحهما ولا يبحث عنهما بشيء، لا من جهة الطلاق الذي تقدم في الكفر، ولا من جهة الولي، ولا من جهة الصداق ترغيباً لبقائهما في الإسلام، ولقوله عليه الصلاة والسلام: " الإسلام يجب ما قبله " اهـ مع زيادة إيضاح قال رحمه الله تعالى: " ولا نكاح بين المسببين " يعني كمال قال ابن القاسم في المدونة: إن السبي يفسخ النكاح. وقال محمد بن علي: السباء يهدم نكاح الزوجين اهـ. قال ابن جزي في القوانين: وإذا سبي الزوجان معاً أو أحدهما انقطع النكاح وجاز لسيدها وطؤها. وقيل يثبت نكاحهما. وقيل ينقطع إن سبيت قبله اهـ. قال خليل: وهدم السبي النكاح إلا أن تسبي وتسلم بعده اهـ. قال الشارح. يعني أن الزوجين الكافرين إذا سبيا مجتمعين أو أحدهما قبل الآخر فإن النكاح ينفسخ بينهما ويحل وطؤها بعد الاستبراء بحيضة ولا عدة لأنها صارت أمة، إلا في صورة واحدة فإنه لا ينقطع بينهما وهي ما إذا أسلم سواء كان عندنا بأمان أو جاء إلينا ثم سبينا زوجته ثم أسلمت بعد ذلك في العدة أي قبل رؤيتها الدم فإنهما يقران على نكاحهما ترغيباً في الإسلام، لأنها صارت أمة مسلمة تحت حر مسلم، فإن لم تسلم فرق بينهما لأنها أمة كتابية تحت مسلم وهو لا يجوز له أن يتزوج الأمة الكافرة، وإنما له أن يطأها بالملك اهـ الخرشي. ولما أنهى الكلام على إسلام الزوجين وما يتعلق بذلك انتقل يتكلم على الصداق وما يتعلق به من الأحكام والأخبار، وما ورد من الآيات في ذلك، فقال رحمه الله تعالى:

فصل في الصداق قلة وكثرة وأحكامه

فَصْلٌ في الصداق قلة وكثرة وأحكامه أي في بيان الصداق الذي هو مأخوذ من الصدق لدلالته على صدق الزوجين في موافقة الشرع ويسمى مهراً، وطولاً، ونحلة وهو شرط في صحة الدخول على الصحيح. قال الله تبارك وتعالى: {يأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك التي أتيت أجورهن} {الأحزاب: 50} وقال تعالى: {وءاتوا النساء صدقاتهن نحلة} {النساء: 4} وقال عز وجل: {فما استمتعتم به منهن فءاتوهن أجورهن فريضة} {النساء: 24} وقال تعالى: {وءاتيتم إحداهن قنطاراً} {النساء: 20} وقال تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} {النساء: 34} وغيرها من الآيات الدالة على وجوبه ومن الأحاديث قوله عليه الصلاة والسلام: " لا نكاح إلا بولي وصداق " الحديث، فالزوج لا يستبيح الفرج الفرج إلا بالصداق يدفعه للمرأة عند العقد، أو عند إرادة الدخول إن كان حالاً وأما إن كان مؤجلاً فعند حلوله، ولها منع نفسها حتى تقبضه إن لم يسبق الوطء منه، وإلا فلا كما سيأتي. واختلف العلماء في أقله. ولا خلاف عندنا أن أقل الصداق ربع دينار شرعي، أو ثلاثة دراهم شرعية، أو ما يقوم مقام ذلك من العروض، اعتباراً بأقل ما تقطع به يد السارق، وهو اعتبار صحيح، وأما أكثر الصداق فلا حد له اتفاقاً، وإنما يكون على حسب ما يتراضى عليه الأزواج والزوجات، وعلى حسب الأقدار والحالات والأزمان إلا أنه يستحب المياسرة فيه، ويكره التغالي كما يأتي. قال رحمه الله تعالى: " لا حد لأكثر الصداق، وأقاه نصاب القطع " يعني لا حد لأكثر ما يدفع للمرأة من الصداق، ولا أقل منه على ما يوجب قطع يد السارق، ويسمى نصاب القطع هو ربع دينار أو ثلاثة دراهم. قال ابن عباس رضي الله عنه: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يسأل عن مهر النساء فيقول: هو ما اصطلح عليه

أهلوهم اهـ. وسئلت عائشة، رضي الله عنها، كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونش، قالت للسائل: أتدري ما النش؟ قال لا، قالت: نصف أوقية فتلك خمسمائة درهم اهـ. وكان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كثيراً ما يقول: لا تغلوا صدق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة كان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية. وصعد رضي الله عنه، مرة منبر فقال: لا تزيدوا في صداق على أربعمائة درهم، فاعترضته امرأة من قريش فقالت: تنهى الناس عن شيء أباحه الله لهم، فقال كيف؟ فقالت: أما سمعت قول الله تبارك وتعالى: {وءاتيتم إحداهن قنطاراً} فقال: اللهم عفواً، كل الناس أفقه من عمر. فلما صعد المنبر ثانية قال: إني كنت نهيتكم آنفاً عن أن تزيدوا في صداق النساء على أربعمائة، فمن شاء أن يعطي من ماله ما طابت به نفسه فليفعل اهـ وفي الحديث: " يسروا ولا تعسروا ". . وعنه صلى الله عليه وسلم: " تياسروا في الصداق " وفي رواية " من يمن المرأة تسهيل أمرها وقلة صداقها " اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويجوز عرضاً ومنفعة " يعني أنه يجوز أن يكون الصداق عرضاً، وهو كل ما يمكن تقويمه من عروض التجارة إذا كان يساوي ثلاثة دراهم فأعلى. وقدر الدرهم زنة خمسون حبة وخمسا حبة من الشعير الوسط. قال الجزيري في الفقه: المالكية قالوا إن المهر يصح أن يكون عيناً من ذهب أو فضة أو عرض تجارة أو حيوان أو دار أو نحو ذلك. وأما المنافع من تعليمها القرآن ونحوه، أو سكنى الدار، أو خدمة العبد ففيها خلاف، فقال مالك إنها لا تصلح مهراً فيمتنع ابتداء أن يسميها مهراً، وقال ابن القاسم: إنها تصلح مهراً مع الكراهة، وبعض أئمة المالكية يجيزها بلا كراهة، والمعتمد قول مالك طبعاً، ولكن إذا سمى شخص منفعة من هذه المنافع مهراً فإن العقد يصح على

المعتمد ويثبت للمرأة المنفعة التي سميت لها، وهذا هو المشهور اهـ. وقد ذكرنا في بدر الزوجين جملة مما يجوز أن يكون صداقاً فراجعه إن شئت. قال رحمه الله تعالى: " وعلى عبد مطلق وشورة، ويلزم الوسط من الرقيق وشورة مثلها " يعني يجوز أن يجعل صداق المرأة عبداً من عبيده أي غير موصوف ولا معين تختاره هي. قال خليل: الصداق كالثمن كعبد تختاره هي لا هو. قال المواق في المدونة: من نكح امرأة على أحد عبديه أيهما شاءت المرأة جاز، وعلى أيهما شاء لم يجز كالبيع اهـ. وقوله: وشورة، أي يجوز النكاح على شورة بيت إن كان معروفاً كما في المدونة، أي مما جرت به عادة الناس. قال الخرشي: فإن كانت حضرية فلها الوسط من شورة مثلها في الحاضرة أو بدوية فالوسط من أهل البادية، ولها الوسط من الإبل والغنم، وكذلك يعتبر الوسط من الرقيق. انظر حاشية العدوي على الخرشي اهـ. قال خليل: وجاز بشورة، أو عدد من كإبل أو رقيق وصداق مثل، ولها الوسط حالاً، وفي شرط ذكر جنس الرقيق قولان اهـ. قال رحمه الله تعالى: " واشتراط عدمه مبطل " الضمير في عدمه عائد إلى الصداق. يعني أن اشتراط إسقاط الصداق بأن اتفقا على عدمه جملة وذلك مبطل للنكاح، فيفسخ قبل الدخول، ويثبت بعده بصداق المثل. قال في الرسالة: ولا يجوز نكاح بغير صداق. قال أبو الحسن: إذا شرط إسقاطه، فإن وقع فالمشهور أنه يفسخ قبل الدخول وليس لها شيء وفي فسخه بطلاق قولان، ويثبت بعده بصداق المثل، ويلحق به الولد ويسقط عنه الحد لوجود الخلاف. قال العلامة العدوي: قوله إذا شرط إسقاطه، وفي معنى إسقاطه، إرسالها له مالاً على أن يدفعه لها صداقاً فيفسخ قبل البناء ويثبت بعده بصداق المثل اهـ. وقال النفراوي: والمضر إنما هو الدخول على الصداق فإنه يقتضي فسخ العقد قبل الدخول وإن ثبت بعده بصداق المثل اهـ. وفي العزية: فلو رضيت بإسقاطه

جملة لم يجز، ولها أن تسقط ما زاد على ربع دينار. قال الشرنوبي: فإن أعطته سفيهة ما ينكحها به ثبت النكاح، ووجب عليه رده لها وإعطاؤها من ماله مثله إن كان صداق المثل، وإلا فصداق المثل. ولو وهبت له الرشيدة قبل الدخول ما يصدقها به وأصدقها إياه ثبت النكاح وملكته وأجبر على دفع أقله فإن لها أن تسقط ما زاد، وأما إذا وهبته بعد الدخول فلا شيء عليه لأنه إبراء بعد أن قدم على البضع بوجه جائز، ومثله ما لو دفعته له بعد أن قبضته ولو كان الدفع والقبض قبل الدخول اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وبما لا يجوز تملكه يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده بمهر المثل " يعني كما قال خليل: أو بما لا يملك كخمر وحر، أو بإسقاطه، أو كقصاص أو آبق إلخ يعني يفسخ النكاح قبل الدخول، ويثبت بعده بصداق المثل بوقوعه بما لا يجوز تملكه شرعاً كالحر والخمر والخنزير، أو بغير متمول كالقصاص، أو كالآبق والبعير الشارد أو غير ذلك مما فيه الغرر. قال المواق: قال ابن الحاجب: لا يجوز بخمر ولا بغرر كآبق ودار فلان على أن يشتريها. وفي المدونة إن تزوجها على دار فلان على أن يشتريها لها فسخ قبل البناء وثبت بعده بمهر المثل اهـ. وقال خليل: وإن وقع بقلة خل فإذا هي خمر فمثله. قال في المدونة من تزوج على قلال خل بأعيانها فوجدتها خمراً فهي كمن نكحت على مهر فأصابت به عيناً فلها رده وترجع به إن كان يوجد مثله أو بقيمته إن كان لا يوجد مثله اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وهو معتبر بحالها ويسارها وأبويها وأترابها لا بأقاربها " قال مالك في المدونة: لا ينظر إلى نساء قومها، ولكن ينظر في هذا إلى نسائها في قدرها وجمالها وموضعها وغناها، وقال ابن القاسم: والأختان تفرقان هاهنا في الصداق، قد تكون الأخت لها المال والجمال والشطاط، والأخرى لا غنى لها ولا جمال فليس هما عند الناس في صداقهما وتشاح الناس فيهما سواء اهـ. وفي الحديث عن أبي هريرة عن النبي

صلى الله عليه وسلم: " تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك " متفق عليه. قال خليل: مهر المثل ما يرغب به مثله فيها باعتبار دين وجمال وحسب ومال وبلد، وأخت وشقيقة أو لأب، لا الأم والعمة اهـ. ومثله في الدردير. قال الدسوقي: يعني ويعتبر فيها المال والجمال والحسب، وهو ما يعد من مفاخر الآباء من كرم وعلم وحلم ونجدة وصلاح وإمارة ونحوها، ولا بد من اعتبار النسب والبلد، فإنما هو يختلف باختلاف البلاد لأن الرغبة في المصرية مثلاً تخالف الرغبة في غيرها، فمتى وجدت هذه الأشياء عظم مهرها، ومتى فقدت أو بعضها قل مهرها فالتي لا يعرف لها أب، ولا هي ذات مال ولا جمال ولا ديانة ولا صيانة، فمهر مثلها ربع دينار مثلاً، والمتصفة ببعضها بحسبه اهـ. وقوله: وأترابها أي صواحبها. وقوله: لا بأقاربها أي من جهة الأم وأما أقاربها من جهة الأب فيعتبر بهن كما أشار بذلك خليل بقوله: وأخت شقيقة أو لأب، لا الأم والعمة أي أخت أبيها من أمه، وأما شقيقته وأخته من أبيه وأخت المخطوبة شقيقتها أو لأبيها فيعتبر مهرهما إن وافقتهما في الصفات المتقدمة لا أخت لأم من نسب آخر فلا يعتبر بها اهـ جواهر الإكليل مع إيضاح. قال رحمه الله تعالى: " ولو جعل عتقها صداقاً مضى العتق ولزم مهر مثلها " قال ابن جزي: لا يجوز أن يعتق أمته ويجعل عتقها صداقاً خلافاً لابن حنبل وداود اهـ. قال خليل عاطفاً على ما لا يلزم: والوفاء بالتزويج، نقل الحطاب عن التلقين: ومن أعتق أمته على أن تتزوجه بعد العتق فلا يلزمها ذلك، وإن شرط أن عتقها صداقها لم يصح ولزمه الصداق اهـ. ومثله في المواق: قال الدسوقي: يعني أن الإنسان إذا أعتق أمته بشرط أن تتزوج به أو بغيره، فلما تم عتقها امتنعت من ذلك فإنه لا يقضي عليها به ولا يلزمها الوفاء به؛ لأنها ملكت نفسها بمجرد العتق، والوعد لا يلزم الوفاء به اهـ. ومثله

في الخرشي قال العدوي عليه: ويجوز الوفاء بالتزويج حيث كان الشرط جائزاً بخلاف غير الجائز، كما لو أعتق أمة على أن صداقها عتقها فإنه لا يجوز الوفاء به لأن العتق غير متمول كما في القصاص اهـ. هذه نصوص أئمة المذهب لأن جعل عتق الأمة صداقاً في تزويجها من خصائصه عليه الصلاة والسلام عند مالك وأصحابه كما في الحطاب وغيره، خلافاً لباقي الأئمة. قال الشعراني في كشف الغمة: (فرغ فيمن أعتق أمته ثم تزوجها) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أيما رجل كانت عنده وليدة فعلمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران " وفي رواية: " إذا أعتق الرجل أمته ثم تزوجها بمهر جديد كان له أجران " وقال أنس، رضي الله عنه: لما اصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي واتخذها لنفسه خيرها بين أن يعتقها وتكون زوجته، أو يلحقها بأهلها، فاختارت أن يعتقها وتكون زوجته، فجعل عتقها صداقها اهـ. انظر أقوال الأئمة في الميزان. والله أعلم. قال رحمه الله تعالى: " ولو شرط زيادة على الصداق في العقد فهي كالصداق " يعني أن ما شرط زيادته من الهدية قبل العقد أو حين العقد فحكمه حكم الصداق، وكذا ما جرى به العرف ولو لم يشترط. قال ابن جزي في المسائل: المسألة الثالثة في استقراره وتشطيره، ويجب جميعه بالدخول أو بالموت اتفاقاً، ونصفه بالطلاق قبل الدخول اتفاقاً، إلا إن طلقها في نكاح التفويض، وقد اختلف هل وجب لها جميعه بالعقد ثم يسقط نصفه بالطلاق قبل الدخول، أو وجب لها نصفه بالعقد والنصف الباقي بالدخول أو بالموت، وهو اختلاف عبارة اهـ. قال خليل عاطفاً على ما يتشطر: وهدية اشترطت لها أو لوليها قبله. قال الخرشي: يعني أن الهدية التي اشترطت لها أو لوليها أعم من أبيها أو وصيها قبل عقد النكاح عليها أو حين العقد إذا كان ذلك على شرط النكاح فإنها تتشطر بالطلاق قبل الدخول عليها لأنها هدية لأجل النكاح، ومثل الاشتراط إذا جرى العرف بذلك اهـ. ومثله في الدردير.

قال رحمه الله تعالى: " ولا يجمع البيع والنكاح في العقد " يعني لا يجوز اجتماع البيع والنكاح في عقد واحد، وكذا باقي العقود السبعة. قال خليل عاطفاً على ما يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده بصداق المثل: واجتماعه مع البيت كدار دفعها هو أو أبوها. قال شراحه: المشهور أن النكاح في هذه المسألة فاسد لصداقه يفسخ قبل البناء ويثبت بعده بصداق المثل، وهو ما إذا اجتمع مع البيع، أو القرض، أو الشركة، أو الجعالة، أو الصرف، أو المساقاة، أو القراض، في عقد واحد للجهل بما يخص البضع من ذلك، أو لتنافي الأحكام بينهما، فإن النكاح مبني على المسامحة والمكارمة، والبيع وما معه مبني على المشاحة والمكايسة. وصورة اجتماع البيع والنكاح مثلاً كأن يدفع الزوج الدار لزوجة على أن يتزوجها ويأخذ منها مائة دينار، فالدار نصفها في مقابلة البضع والنصف الآخر في مقابلة المائة، فقد اجتمع البيع والنكاح في عقد واحد، وكذلك الحكم بفساد النكاح لو دفع الدار أبو الزوجة أو الزوجة نفسها للزوج على أن يتزوجها ويدفع للزوجة مائة دينار مثلاً، فالمائة التي يدفعها الزوج بعضها في مقابلة البضع وبعضها في مقابلة الدار، فقد اجتمع البيع والنكاح في عقد واحد، وظاهره فساد النكاح المجتمع مع البيع سواء سمي لكل منهما ما يخصه من ذلك أم لا اهـ. ومثله في جواهر الإكليل. قال رحمه الله تعالى: " ويستحب تعجيله أو بعضه قبل الدخول، ولها الامتناع حتى تقبض الحال لا المؤجل، ولا بعد تمكينه، فإن أعسر قبل البناء فلها الفسخ " يعني يندب للزوج تقديم جميع الصداق للمرأة أو بعضه قبل الدخول وإن كان تسليمه واجباً في بعض الأحوال. قال في أقرب المسالك: ووجب تسليمه إن تعين أو حل وإلا فلها منع نفسها من الدخول والوطء بعده والسفر معه إلى تسليم ما حل لا بعد الوطء إلا أن يستحق ولو لم يغر اهـ. قال ابن جزي: للمرأة منع نفسها حتى تقبض صداقها، وليس لها ذلك بعد طوعها بالتسليم. وقال غيره: جاز للزوج أن يتأجل بعض الصداق إلى

زمن معلوم إن لم يقدر على تسليمه حين العقد أو قبله. وقال مالك: يكره له أن يدخل بها قبل دفع ربع دينار، ولها منع نفسها حتى تقبضه اهـ. وقال الدردير في أقرب المسالك: وإن ادعى العسر ولا مال له ظاهر ولا بينة تشهد بعسره أجل لإثباته ثلاثة أسابيع، فإن أثبته تلوم له بالنظر من الحاكم ولو لم يرجع له مال، ثم إن لم يأت به طلق عليه إذا لم ترض بالمقام معه وانتظاره، ووجب عليه نصفه لكونه قبل؛ إذ لا طلاق بعد الدخول بعسر صداق اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " فإن اختلفا في قدره أو عينه، فإن حلفا تفاسخا، وأيهما نكل لزمه ما حلف عليه الآخر، وبعد الدخول القول قوله " يعني كما قال الدردير في أقرب المسالك ونصه: وفي قدر المهر أو صفته قبل البناء فالقول لمدعي الأشبه بيمينه. وإلا حلف وفسخ وبدأت، وقضى للحالف على الناكل. وفسخ في الجنس مطلقاً إن لم يرض أحدهما بقول الآخر، وبعد البناء فالقول له بيمين في القدر أو الصفة وإن لم يشبه كالطلاق والموت، فإن نكل حلفت أو ورثتها ورد لصداق المثل في الجنس ما لم يزد على ما ادعته أو ينقص عن دعواه وثبت النكاح اهـ. قال الشارح: فتحصل أنه كان التنازع قبل البناء ولم يحصل طلاق ولا موت فالقول لمدعي الأشبه بيمينه ولا فسخ في القدر والصفة، فإن أشبها معاً أو لم يشبها تحالفا، وفسخ إن لم يرض أحدهما بقول آخر، وإن كان التنازع قبله في الجنس حلفا وفسخ مطلقاً ولا ينظر لشبه ولا عدمه ما لم يرض أحدهما بقول الآخر. وإن حصل التنازع بعد البناء أو قبله بعد طلاق أو موت فالقول للزوج بيمينه ولا فسخ في القدر والصفة، وأما في الجنس فيرد لصداق المثل بعد حلفهما أو نكولهما معاً، ولا سبيل للفسخ، ولا يراعى شبه لهما ولا لأحدهما، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر قضي له بما ادعى ولا فسخ أيضاً وقد علمت أنه متى حصل بناء فلا فسخ مطلقاً، كان النزع في القدر أو الصفة أو الجنس، أشبها أو لم يشبها، أو أشبه أحدهما

دون الآخر، إلا أنه في القدر والصفة القول قول الزوج إن حلف، وإلا حلفت وكان القول لها. وفي الجنس يرد لصداق المثل إن حلفا أو نكلا، فإن حلف أحدهما فالقول له، وأنه إن لم يحصل بناء فتارة يفسخ، وذلك فيما إذا تحالفا أو تناكلا معاً في اختلافهما في الجنس مطلقاً أو في الصفة والقدر إذا لم ينفرد أحدهما بالشبه. وصور المسألة أربع وعشرون؛ لأن التنازع إما في القدر أو الصفة أو الجنس، وفي كل إما أن يشبها معاً، أو لم يحصل شبه، أو يشبه الزوج فقط أو هي فقط، وفي كل إما أن يبني بها أولاً. وظاهر كلام الشيخ أنه لا فرق بين الاختلاف في الجنس وغيره، وهو خلاف ما قرره في توضيحه ونقله عن اللخمي وابن رشد والمتيطي وغيرهم اهـ انظر أيضاً حاشية الصاوي عليه إن شئت زيادة على ما جلبناه لك فتأمل. قال رحمه الله تعالى: " وفي قبضه قبل الدخول قولها، وبعده قول من شهد له العرف، إلا أن يكون معها كتاب ثابت ط يعني وإن كان التنازع في قبض الصداق وعدمه فالقول قول الزوجة قبل الدخول. قال ابن جزي: وإن اختلف في القبض فالقول قولها قبل الدخول، والقول قوله بعد الدخول، إلا إن كان هناك عرف فيرجع إليه. وقال الشافعي وأحمد: القول قوله مطلقاً اهـ. قال في المقرب: سئل بعضهم فيمن تزوج امرأة بصداق بعضه معجل وبعضه مؤجل ودخل بها واختلفا في قبض المؤجل، فقال: سئل مالك عن رجل تزوج بمائة دينار وخادم إلى سنة فنقدها المائة ودخل عليها بعد السنة من يوم تزوجها، ثم اختلفا في قبض الخادم، فقال مالك: إن كان دخل بها بعد مضي السنة فالقول قول الزوج، وإن كان دخل بها قبل مضي السنة فالقول قول المرأة، فكذلك مسألتك اهـ. نقله ميارة في شرحه على العاصمية. ونقل أيضاً عن التهذيب: وإذا ادعى الزوج أنه دفع الصداق وأنكرت الزوجة، أو مات الزوج فادعت الزوجة أنها لم تقبض صداقها، أو مات الزوجان وتداعى ورثتهما في دفع الصداق فلا قول للمدخول بها

ولا لورثتها وإن لم يدخل صدقت هي أو ورثتها اهـ. قوله: وبعده قول من شهد له العرف يعني للعرف في هذه المسائل تأثير، فالحق مراعاته قاله ميارة: قوله: إلا أن يكون معها كتاب ثابت. قال ابن رحال في شرحه على العاصمية: وقد نقلنا في الشرح كلام الناس الدال على أن المذهب هو اعتبار القيود المذكورة، ويظهر من كلام من قيد بالكتاب أن المراد به كتاب مخالف لكتاب الصداق، وقد بينا ذلك في الشرح أيضاً، وهذه المسائل صعاب غاية، فيحتاج القاضي إلى البحث عن العوائد وإلى النظر في أحوال الناس، فإن كثيراً من أهل البوادي يعطي الزوج منهم لولي المرأة ما يطلبه منه ويؤخر عنه بعض الصداق المقدم لأجل ما أعطيه، ولا يكتب الولي أنه بقي عليه كذا ويدخل الزوج فيأتي القاضي الذي لم يطلع على فعل الناس فيصدق الزوج في الدفع لدخوله، وذلك خطأ صراح، ومن مازج الناس ورفع لهم الرأس اطلع على ما هو أكثر من هذا. وهنا يحتاج القاضي إلى السؤال عن الأحوال والبحث عن شأن النساء والرجال، فربما تكون المرأة راغبة في الزوج غاية فتؤخر عنه، وربما يكون العكس فلا، ومن راقب الله منحه هداه، ولكن قف على الشرح تر ما ينجي من عذاب الله بحول الله وقوته اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويكمل بالموت والبناء " يعني أن الصداق يكمل بموت أحد الزوجين وبالدخول بمعنى الوطء، وكذا بالمقام سنة في بيت الزوج ولو لم يطأ كما تقدم. قال ابن جزي: وإن بنى بها وطال الأمر سنة وجب لها جميع الصداق اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويتشطر بالطلاق قبله " يعني أن الصداق يتشطر بالطلاق قبل الدخول. وكذا الهدية التي أهداها الخاطب قبل العقد فإنها تتشطر كالصداق، سواء كانت لها أو لوليها كما تقدم عند قوله: ولو شرط زيادة على الصداق في العقد فهي كالصداق فراجعه إن شئت. قال رحمه الله تعالى: " ويسقط بكل فرقة تكون من جهتها إلا التمليك

والتخيير، واختيارها بإعساره " يعني يسقط الصداق عن الزوج بكل فرقة أتت من جهة الزوجة كالمختلعة قبل البناء. وقال التيدي: يسقط الطلاق في مسألتين: في الرد بالعيب قبل البناء، ونكاح التفويض إذا طلق أو مات قبله، أي قبل الدخول وقبل أن يفرض لها صداقاً فإنه يسقط، ومثل ذلك المعتوقة تحت العبد إذا اختارت الفراق قبل البناء، وأما بعده لها المسمى فتحصل أن الخيار موجب لسقوط الصداق إلا فيما استثني، وهن المملكة والمخيرة الحرة والمخيرة التي عجز زوجها عن دفع الصداق وامتنعت عن الدخول قبله إذا فرق بينهما الحاكم بعد تلوم، فلا يسقط عن الزوج نصف الصداق فإنه يدفعه متى أيسر كما تقدم. قال ابن جزي: إنما يجب لها نصف الصداق إن طلقها قبل البناء اختياراً منه، فإن فسخ النكاح أو رده الزوج بعيب في الزوجة لم يجب لها شيء. واختلف هل يجب إذا ردته هي بعيب فيه؟ اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فلو وهبته بعضه فلها نصف باقيه " يعني لو أن الزوجة وهبت بعض صداقها لزوجها أو لغيره صحت الهبة، ثم إن طلقها قبل البناء فإنها ترجع عليه بنصف الباقي أي نصف ما بقي بعد الموهوب، هذا إذا وهبت بعضه للزوج، وأما إن وهبته كله فقال ابن جزي: الفرع الخامس إذا وهبت المرأة لزوجها جميع صداقها ثم طلقها قبل البناء لم يرجع عليها بشيء. وقال الشافعي: يرجع عليها بنصف الصداق اهـ. وأما إن وهبته للأجنبي فقد قال خليل في ذلك: وإن وهبته لأجنبي وقبضه ثم طلق اتبعها ولم ترجع عليه إلا إن تبين أن الموهوب صداق. قال الشارح: يعني أن المرأة المالكة لأمر نفسها إذا وهبت صداقها لشخص غير الزوج وقبضه منها أو من الزوج ثم إن الزوج طلقها قبل البناء فإن الزوج يرجع عليها بنصف الصداق ولا ترجع المرأة على الأجنبي بشيء منه إلا إن تبين للموهوب له حين الهبة أن الموهوب صداق فترجع عليه بنصفه لأنها إنما وهبت على أن يتم صداقها فلم يتم، وينبغي أن علمه بذلك كبيانها اهـ الخرشي. ومثله الصاوي. وتقدم لنا

الكلام في تشطير الصداق والهبة المشروطة حين العقد وما أخذه الولي من ذلك. قال الصاوي: حاصله أن المرأة إذا طلقت قبل البناء وتشطر ما أخذه وليها من الهدية حين العقد أو قبله فلها أن ترجع على وليها وتأخذ منه النصف الذي بقي بعد التشطير، وللزوج النصف الآخر. يأخذه من الولي وليس للزوج مطالبتها بالنصف الذي أخذه الولي لأن الإعطاء للولي ليس منها وإنما هو من الزوج وحينئذ فيتبعه به اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولو وضعت بعضه في العقد لشرط فلم يف لكان لها الرجوع به " يعني أن الزوجة الرشيدة المالكة لأمر نفسها لو وضعت بعض صداقها عند العقد بشرط أن لا يفعل شيئاً مما تكرهه كأن لا يتزوج عليها أو لا يتسرى أو لا يخرجها من بلد ونحو ذلك مثلاً، ثم إنه لم يف بما شرطت عليه وفعل خلاف ذلك فلها الرجوع بحقها من الصداق وغيره. قال الدردير: كما في المختصر: وإن وهبته أو أعطته مالاً لدوام العشرة أو حسنها ففسخ أو طلق عن قرب، رجعت عليه بما وهبته من الصداق من الصداق وبما أعطته من مالها لعدم تمام غرضها. وقوله عن قرب مفهومه أنه لو تباعد الطلاق لم ترجع، ذكر هذا التفصيل اللخمي وابن رشد، وهو فيما إذا أسقطته من مهرها أو أعطته مالاً على أن يمسكها، أو لا يتزوج أو لا يتسرى عليها، أو نحو ذلك ففرق أو طلق فلها الرجوع في ذلك، ككل عطية معلقة على شيء لم يتم. وإن تسرى أو تزوج عليها فكذلك لها الرجوع سواء كان ذلك بالقرب أو بالبعد اهـ بإيضاح. انظر قوانين وشراح المختصر. قال رحمه الله تعالى: " ولو اشترت ما تختص به ضمنت نصفه وما يصلح لهما فهو بينهما كزيادته ونقصه وتلفه " يعني إن اشترت المرأة بما أخذته من الصداق عبداً أو داراً أو غيرهما مما تختص به ثم طلقها الزوج قبل البناء فإنها ترد له نصف ما أخذته من الصداق، وإن اشترت به الجهاز تعين تشطير ما اشترته من فرش وغطاء ووسائد وأوان وغير ذلك مما يصلح أن يكون جهاز أمثالها، وسواء اشترته من زوجها أو من غيره. وأما

لو اشترت ما لا يصلح للجهاز كعبد أو دار أو فرس أو غير ذلك مما يمكن اختصاصها به، فإن اشترته من غير زوجها فلا يتعين قسمته، والكلام لمن أراد قسمة الأصل. وإن اشترته من زوجها تعين التشطير. وعبارة ابن الحاجب: ويتعين ما اشترته من الزوج من عبد ودار أو غيره نما أو نقص أو تلف وكأنه أصدقها إياه اهـ. وأصله في المدونة، وأبقاها أكثرهم على ظاهرها، وتأولها القاضي إسماعيل على إذا قصدت بشراء ما ذكر من زوجها الرفق والتخفيف عليه، فإن لم تقصد ذلك فلا يتعين التشطير اهـ. وأما قوله: وأصله في المدونة ونصها قلت: أرأيت إن تزوجها بألف درهم فاشترت منه بالألف الدرهم داره أو عبده ثم طلقها قبل البناء بها، بم يرجع عليها في قول مالك؟ قال: قال مالك: يرجع عليها بنصف الدار أو العبد، قلت: فلو أخذت منه الألف فاشترت بها داراً من غيره أو عبداً من غيره ثم طلقها قبل البناء بها قال: قال مالك: يرجع عليها بنصف الألف، قلت: وشراؤها من الزوج بالألف عبداً أو داراً مخالف لشرائها من غير الزوج إذا طلقها قبل البناء؟ قال نعم، كذلك قال مالك: إلا أن يكون ما اشترته من غير الزوج شيئاً مما يصلحها في جهازها خادماً أو عطراً أو ثياباً أو فرشاً أو أسرة أو وسائد، فأما ما اشترت لغير جهازها فلها نماؤه وعليها نقصانه، ومنها مصيبته، وهذا قول مالك: وما أخذت من زوجها من دار أو عرض من غير ما يصلحه أو يصلحها في جهازها فلا مصيبة عليها في تلفه وهو بمنزلة ما أصدقها إياه، له نصف نمائه وعليه نصف نقصانه اهـ. قال ابن جزي: الفرع الثالث ما حدث من الصداق من زيادة ونقصان قبل البناء، فالزيادة لهما والنقصان عليهما وهما شريكان في ذلك، فإن تلف في يد أحدهما فما لا يغاب عليه فخسارته منهما وما يغاب عليه خسارته ممن هو في يده إن لم تقم بينة بهلاكه فإن قامت به بينة فاختلف هل يضمنه من كان تحت يده أم لا اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولو دخل فادعت المسيس وأنكره فالقول قولها ولو خلا بها زائراً ففي منزله قولها وفي منزلها قوله " يعني كما قال ابن جزي: فإن بنى بها واختلفا في المسيس فالقول

فصل في بيان نكاح التفويض والتحكيم

قولها، وإن خلا بها من غير بناء فالقول أيضاً قولها. وقال ابن القاسم: إن خلا بها في بيته فالقول قولها، وإن كان في بيتها لم تصدق عليه، وإن ادعت المسيس وليس بينهما خلوة لزمته اليمين وبرئ من نصف الصداق فإن نكل حلفت واستوجبت جميعه. وحيث قلنا القول قولها فاختلف هل تصدق مع يمينها أو دون يمين اهـ. ولما أنهى الكلام على نكاح المسمى وبيان الصداق وما يتعلق به انتقل يتكلم على نكاح التفويض والتحكيم فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في بيان نكاح التفويض والتحكيم أي في بيان ما يتعلق بأحكام نكاح التفويض والتحكيم قال ابن عرفة: نكاح التفويض ما عقد دون تسمية مهر ولا إسقاطه ولا صرفه لحكم أحد قال النفراوي: وأما لو عقدا على إسقاطه لكان فاسداً يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده بصداق المثل. وما عقد على صرف قدره لحكم شخص فإنه يسمى نكاح التحكيم وهو جائز أيضاً كنكاح التفويض، ولو كان المحكم في صرف قدره عبداً أو صبياً أو امرأة. والدليل على جوازه " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة " الآية اهـ. قال رحمه الله تعالى: " يجوز نكاح التفويض وهو العقد المسكوت فيه عن الصداق، فيلزم برضاها بما فرضه إن بذل مهر مثلها أو رضاه بفرضها أو فرض وليها، فإن طلق قبل الفرض والبناء استحبت المتعة ولا مهر، ويثبت التوارث، ولو دخل للزم مهر المثل " يعني أن نكاح التفويض حكمه الجواز. قال في الرسالة: ونكاح التفويض جائز: وهو أن يعقداه ولا يذكران صداقاً ثم لا يدخل بها حتى يفرض لها، فإن فرض لها صداق المثل لزمها، وإن كان أقل فهي مخيرة، فإن كرهته فرق

بينهما إلا أن يرضيها أو يفرض لها صداق مثلها فيلزمها اهـ. قال ابن جزي: المسألة الرابعة في نكاح التفويض وهو جائز اتفاقاً، وهو أن يسكتا عن تعيين الصداق حين العقد ويفوض ذلك إلى أحدهما أو إلى غيرهما، ثم لا يدخل بها حتى يتعين، فإن فرضه أحدهما فرضية الآخر لزمه، وإن لم ترض المرأة، فإن فرض لها صداق المثل أو أكثر لزمها بخلاف الأقل، إلا أن ترضى به، وإن لم يرض الزوج كان مخيراً بين ثلاثة أشياء: إما أن يبذل صداق المثل، أو يرضى بفرضها، أو يطلق، فإن مات قبل الدخول وقبل الفرض فلا صداق لها خلافاً لأبي حنيفة، ولها الميراث اتفاقاً، وإن طلقها قبل الدخول فلا نصف لها إلا إن كان قد فرض لها اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والتحكيم كالتفويض بما يحكم به وإلا خير بين الطلاق ومهر المثل " قال النفراوي: فمحصل الكلام فيه إن كان المحكم الزوج وفرض صداق المثل لزمها القبول، وإن كان الزوج لا يلزمه فرضه. واختلف لو كانت هي المحكمة أو أجنبي فقيل كذلك، وقيل إن فرض المثل لزمهما وأقل لزمه وأكثر فالعكس. وقيل لا بد من رضا الزوج والمحكم وهو الأظهر. وقيل إن التحكيم عكس التفويض اهـ وإلى الاختلاف المذكور أشار خليل بقوله: ولزمها فيه وتحكيم الرجل إن فرض المثل ولا يلزمه، وهل تحكيمها وتحكيم الغير كذلك، أو إن فرض المثل لزمها وأقل لزمه فقط، وأكثر فالعكس، أو لا بد من رضا الزوج والمحكم وهو الأظهر تأويلات اهـ. قال العلامة الجزيري في فقه المالكية: أما نكاح التحكيم فهو كنكاح التفويض في التفصيل المتقدم، فإن طلقها بعد الوطء كان لها مهر المثل، وإن طلقها قبل الوطء أو مات عنها كان حكمه ما ذكر في نكاح التفويض: ثم إذا كان المحكم الزوج وفرض لها مهر المثل لزمها القبول ولزمه الدفع، أما إذا لم يفرض لها شيئاً وطلقها قبل الدخول فلا شيء عليه، وإذا كان المحكم الزوجة أو شخصاً أجنبياً وحكم بمهر المثل يلزم الزوج سواء رضي أم لم يرض. وقيل لا يلزمه إلا برضاه

فإذا طلقها قبل الرضا لا شيء عليه، والأظهر أنه لا يلزمه إلا إذا تراضيا معاً المحكم والزوج سواء كان المحكم الزوجة أو غيرها اهـ انظر شراح خليل. ثم قال رحمه الله تعالى: " وتلزم النفقة بالدخول أو الدعاء إليه بشرط البلوغ وإطاقتها الوطء " يعني تلزم نفقة الزوجة بالدخول بها أو الدعاء إلى الدخول بشروط. قال النفراوي في الفواكه: إن الزوج لا يلزمه النفقة على زوجته إلا إذا كان بالغاً وهو كذلك، إذ لا يلزم الصبي نفقة زوجته وإن اتسع في المال وافتضها، لأنها أو وليها هي المسلطة له عليها، وكذا لا يلزمه النفقة لغير المدخول بها التي لم تطق الوطء، أو تطيقه لكن لم تمكنه من الدخول، أو مكنته ودعته لكنه صبي أو بالغ إلا أنها مشرفة على الموت بأن أخذت في النزع، بخلاف المدخول بها فلا يسقط نفقتها إلا موتها اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وهي معتبرة بحالها فيجتهد الحاكم بفرض كفايتها مما لا غنى لها عنه " يعني كما أشار بذلك خليل قوله: يجب لممكنة مطيقة للوطء على بالغ، وليس أحدهما مشرفاً قوت وإدام وكسوة ومسكن بالعادة بقدر وسعه وحالها والبلد والسفر وإن أكولة، وتزداد المرضع ما تقوى به إلا المريضة وقليلة الأكل فلا يلزمه إلا ما تأكل على الأصوب اهـ. قوله وهي معتبرة بحالها، هذا غير مشهور، والمشهور في المذهب أنه يعتبر في تقدير النفقة بحال الزوجين معاً كما هو منصوص. والنفقة هو ما يقتات به الإنسان ويتخذه للمعيشة ويعيش به غالباً من الحنطة والشعير والأرز والذرة والدخن وغير ذلك من الحبوب والأشجار كالتمر والزبيب ونحو ذلك، ومما يلزم على الزوج لزوجته أنه يفرض الماء والزيت والحطب والملح واللحم المرة بعد المرة وحصير وسرير احتيج له وأجرة قابلة وزينة تستضر بتركها ككحل ودهن معتادين وحناء ومشط فكل واحد على قدر حاله وعلى الموسع قدره وعلى المقتر قدره، وليس كل الناس سواء في ذلك، لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولا يوقت بوقت في شراء اللحم على المعول اهـ. والأصل في وجوب النفقة

على الزوجة قوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} [النساء: 34]، الآية ولما في الحديث الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: " أفضل الصدقة ما ترك من غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى وأبدأ بمن تعول، تقول المرأة إما أن تطعمني وإما أن تطلقني، ويقول العبد أطعمني واستعملني، ويقول الولد أطعمني إلى من تدعني " اهـ. رواه البخاري وأحمد عن أبي هريرة. قال في الرسالة: ولا يلزم الرجل النفقة إلا على زوجته سواء كانت غنية أو فقيرة. قال شارحها: وتطلق عليه بعد التلوم بالعجز عنها إلا أن تكون تزوجته عالمة بفقره وعجزه عن النفقة فلا تطلق عليه حينئذ اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وإن كانت ممن تخدم أخدمها " يعني إن الزوج الموسر ينبغي له أن يخدم زوجته. قال في الرسالة: وإن اتسع فعليه إخدام زوجته أي إن كانت متأهلة للإخدام وإلا فعليها الخدمة الباطنية من عجن وكنس وغير ذلك مما جرت بها عادة أمثالها كما سيأتي قوله وعليها من خدمته ما يخدم مثلها اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وتسقط بنشوزها لا لوجود عذر شرعي أو حبسه أو سفره " يعني أن النفقة تسقط بنشوز الزوجة بلا عذر شرعي. ولا تسقط بعذر شرعي كالحيض والنفاس، ولا بالإحرام والمرض المانعة من الوطء، وكذا لا تسقط بالسفر أو الحبس ولو لحقها، أو حبست هي لحقه أو حق غيره أو ظلماً، وتسقط بمنعها الوطء أو الاستمتاع، وبخروجها بلا إذن إن لم يقدر الزوج على ردها ولو بالحكم إلا إذا كانت حاملاً فلا تسقط حينئذ. هذا في غير الملاعنة أما هي فلا نفقة لها ولو كانت حاملاً. قال في الرسالة: ولا نفقة للمختلعة إلا في الحمل، ولا للملاعنة وإن كانت حاملاً. ولا نفقة لكل معتدة من وفاة ولها السكنى إن كانت الدار للميت أو قد نقد كراءها اهـ. قال العدوي: ولا نفقة للناشزة ولا للمختلعة ولا مطلقة طلاقاً بائناً ما لم تكن حاملاً حملاً لاحقاً بأبيه فينفق عليها حتى تضع إلا إذا خالعها على إسقاط نفقة الحمل عنه فتسقط، وإن لم يكن

الحمل لاحقاً لأبيه بأن ينفيه بلعان فلا نفقة لها، فإن استلحقه بعد النفي وجبت عليه النفقة، وترجع عليه بالنفقة قبل الاستلحاق إن كان موسراً في تلك المدة اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويثبت خيارها بعسره لا إن تزوجته عالمة بفقره، فإن اختارت فراقه تطلق رجعية ووقفت رجعته على يسره أو رضاها " يعني يثبت خيار الزوجة بعسر زوجها عن النفقة لا إن كانت عالمة بفقره فيسقط الخيار، أما إن كان فقره طارئاً عليه وعجز عن النفقة على زوجته فتسقط عنه مدة إعساره، فينفق عليها ولدها وجوباً إن كان لها ولد موسر، كما سيأتي عند الكلام على نفقة الأبوين الفقيرين. قال في المدونة: ويجب على الولد نفقة أمه إذا كان زوجها معسراً وهو موسر، ولا تسقط نفقتها عليه ما دام زوجها معسراً اهـ. قال العلامة العدوي: وحاصل المسألة أن الزوج إذا عجز عن نفقة زوجته الحاضرة أو المستقبلة لمن يريد سفراً دون الماضية ورفعت أمرها إلى الحاكم وشكت ضرر ذلك وأثبتت الزوجية ولو بالشهرة، أو كانا طارئين فيفصل بين كون الزوج ثابت العسر فيأمره الحاكم بالطلاق، وإن لم يكن ثابت العسر مع ادعاء العسر فيأمره بالإنفاق أو الطلاق، فإن طلق في الأولى أو أنفق، أو طلق في الثانية فلا إشكال، وإن امتنع من ذلك طلق عليه بلا تلوم في الثانية، وبعد التلوم في الأولى باجتهاد الحاكم، وسواء كان الزوج يرتجى له أم لا. ولا نفقة لها زمن التلوم. ولو رضيت بالمقام بعد التلوم ثم قامت بعد ذلك فلا بد من التلوم ثانياً، وإذا مرض أو سجن في أثناء مدة التلوم فإنه يزاد له ما يرتجى له بشيء. وهذا إن رجى برؤه من المرض وخلاصه من السجن عن قرب، وإلا طلق عليه. وملخصه أنه بعد التلوم وعدم الوجدان يطلق عليه، ويجري فيه قول صاحب المختصر حيث قال: فهل يطلق الحاكم، أو يأمرها به ثم يحكم به قولان. ولا فرق في الذي ثبت عسره وتلوم له بين أن يكون حاضراً أو غائباً. ومعنى ثبوت العسر في الغائب عدم وجود ما يقابل النفقة بوجه من الوجوه. والتلوم للغائب محله حيث

لم تعلم غيبته، أو كانت بعيدة كعشرة أيام، وأما إن قربت كثلاثة أيام فإنه يعذر إليه، وجماعة المسلمين العدول يقومون مقام الحاكم في ذلك وفي كل أمر يتعذر الوصول إلى الحاكم أو لكونه غير عدل. وأما من لم يثبت عسره وهو مقر بالملاء وامتنع من الإنفاق والطلاق فإنه يعجل عليه الطلاق على قول، ويسجن حتى ينفق عليها على آخر، فإن سجن ولم يفعل فإنه يعجل عليه الطلاق، كما أنه يعجل عليه بلا تلوم إن لم يجب الحاكم بشيء حتى رفعته. ثم قال: وإن العاجز عن نفقة زوجته إن كان من السؤال لشهرة حاله، وعلى عدمه إن كان فقيراً لا يسأل، نعم إذا علمت أنه من السؤال أو اشتهر بالعطاء ثم ترك السؤال، أو انقطع الإعطاء فإنه تطلق عليه. واعلم أنه إذا لم يجد إلا ما يمسك الحياة فقط فهو كالعاجز، لا إن قدر على قوت زوجته الكامل من الخبز مأدوماً أو غير مأدوم من قمح أو غيره فلا قيام لها ولو دون ما يكتسبه فقراء ذلك الموضع ولو كانت ذات قدر وغنى، أو قدر على ستر جميع بدنها ولو من غليظ الكتان أو الجلد ولو غنية فلا قيام لها. والقادر بالتكسب كالقادر بالمال إن تكسب ولا يجبر على التكسب. ثم قال رحمه الله تعالى: " وعليه إسكانها مسكناً يليق بها " يعني يلزم على الزوج إسكان زوجته في المحل الذي يليق بها بقدر وسعه وحالها، إما بملك أو كراء أو عارية، وأن يكون مشتملاً على جميع ما يحتاج من المنافع اللازمة لعموم قوله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم} [الطلاق: 6] وإن كانت الآية نزلت للمطلقات كما في الحديث إلا أنه يعتبر بعمومها. قال رحمه الله تعالى: " وعليها من خدمته ما يخدم مثلها، وحفظها في نفسه وماله " يعني من حق الزوج على زوجته أن تخدمه خدمة مثلها في المنزل وأن تحفظ نفسها إذا غاب، وتحفظه وماله في غيبته وحضرته لتكون من اللاتي ذكرهن الله بقوله: {فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله} [النساء: 34] أي مطيعات لأزواجهن في غير

فصل فيمن كان متزوجا بأكثر من زوجة

معصية الله، حافظات لفروجهن وغيرها في غيبة أزواجهن حيث أوصى عليهن الأزواج. قال العلامة الصاوي: والمعنى أن الله كما أوصى الأزواج بحفظ النساء كذلك لا تسمى النساء صالحات إلا إذا حفظن الأزواج، لأنه كما يدين الفتى يدان اهـ. قال عليه الصلاة والسلام في حديث طويل: " ألا إن لكم على نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقاً فحقكم عليهن أن لا يوطئن فراشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن " اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وله نقلها والسفر بها إذا كان مأموناً عليها محسناً " يعني أن الزوج له نقل زوجته من بيت أبويها أو من بيتها إذا اتفقا في ذلك، أو جرت به العادة، وكذلك له أن يسافر معها إذا كان مأموناً محسناً عليها إن لم تشترط عليه عدم ذلك وإن اشترط عدم السفر بها فإنه يستحب له الوفاء بالشرط كما تقدم. هذا إن لم يتعلق الشرط باليمين وإلا وجب الوفاء به. قال ابن جزي: الفرع الرابع إن شرط لها أن لا يرحلها من بلدها إلا بإذنها فلها ذلك إن علقه بيمين، فإن أذنت له مرة فردها ثم أراد أن يرحلها ثانية فاختلف هل يسقط شرطها أم لا اهـ. ولما أنهى الكلام على بيان التفويض والتحكيم وما يتعلق بذلك انتقل يتكلم على أحكام القسم بين الزوجات لمن كان متزوجاً بامرأتين فأكثر، فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ فيمن كان متزوجاً بأكثر من زوجة أي في بيان حكم من كان متزوجاً بأكثر من زوجة سواء كن حرائر أو إماء مسلمات أو كتابيات، صحيحات أو مريضات، كبيرات أو صغيرات، كان الزوج البالغ حراً أو عبداً، صحيحاً أو مريضاً، حيث كان يقدر على الانتقال، وأما من لا قدرة له على الانتقال

فيمكث عند من شاء، وعلى ولي المجنون أن يطوف به عليهن كما يجب عليه الإنفاق عليهن من مال الزوج لكن بشرط انتفاعهن بحضوره وعدم الخوف منه عليهن وإلا فلا وجوب على الولي، كما لا يجب عليه إطافة الصبي عليهن اهـ، النفراوي. قال رحمه الله تعالى: " يجب القسم بين الزوجات ولو امة أو كتابية أو بها عذر يمنع الوطء لكل يوم وليلة ما لم يعجزه مرض فيقيم حيث صار " يعني من كان متزوجاً بالزوجات وجب عليه القسم، وهو المعبر عنه بالعدل بينهن ولو كان خصياً أو مجنوناً أو مريضاً حيث لا يمنعه الانتقال إلى من لها النوبة، دل على وجوبه الكتاب والسنة وإجماع الأمة، أما الكتاب فقوله تعالى: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة} {النساء: 3} وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا كان عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط " اهـ رواه أصحاب السنن. وأما الإجماع فقد أجمع المجتهدون على وجوبه وعلى عصيان تاركه، ولا تجوز شهادته ولا غمامته عند بعض الشيوخ، ومن جحد وجوبه يستتاب ثلاثة أيام لارتداده بجحده فإن تاب وإلا قتل اهـ أنظره في الفواكه. قال خليل: إنما يجب القسم للزوجات في المبيت وإن امتنع الوطء شرعاً أو طبعاً أو عقلاً كمحرمة ومظاهر منها، ورتقاء لا في الوطء إلا لإضرار ككفه لتتوافر لذته الأخرى، وعلى ولي المجنون إطافته، وعلى المريض إلا أن لا يستطيع فعند من شاء اهـ. فالمعنى أن المريض يجب عليه القسم إذا كان يقدر معه على الانتقال إلى من لها النوبة، فغن شق عليه ذلك فليختر من شاء منهن وليقم عندها مدة مرضه حتى تحصل له الصحة. والقسم يكون بيوم وليلة إن كانا في بلد واحد أو متقاربين وإلا فيجب على الطاقة، ولا يقسم بيومين إلا برضاهن لقول ابن القاسم في المدونة: ويكفيك ما مضى من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا وأصحابه، ولم يبلغنا عن أحد منهم أنه قسم إلا يوماً ههنا ويوماً ههنا، أما إن كان برضاهن فالقسم بيومين أو بأكثر

جائز لأن الحق في ذلك لهن اهـ بإيضاح. قال الدردير في أقرب المسالك: وجاز برضاهن الزيادة على يوم وليلة والنقص اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وله تفضيل بعضهن في الإنفاق ما لم يقصد إضراراً " يعني جاز له أن يفضل بعض زوجاته في النفقة حيث لم يقصد الإضرار بذلك، بل ينفق على كل واحدة على قدر حالها كالكسوة، فالشريفة بقدر مثلها، والدنية بقدر مثلها مع مراعاة قدر وسعه فيهما، ومما لا يجب العدل فيه الوطء فله أن يترك لطبيعته في كل حال، غلا لقصد إضرار ككفه لتتوافر لذته لزوجته الأخرى فيجب عليه ترك الكف لأنه إضرار، ولا يكف وطؤها كل يوم أو كل ليلة، بل قلنا يترك لطبيعته. فتحصل أن محل وجوب القسم في المبيت فقط، لا في نفقة، ولا في كسوة، ولا في وطء إلا عند قصد الإضرار في الجميع فوجب عليه ترك ذلك، لقوله عليه الصلاة والسلام: " لا ضرر ولا ضرار ". قال رحمه الله تعالى: " ولا يجمعهن في بيت إلا برضاهن " يعني لا يجوز جمع زوجاته في بيت واحد إلا برضاهن، هذا مرجوح. والراجح جوازه حيث كان بمنزلين كل منزل مستقل بمنافعه في دار، أي كل واحدة بمنزل مستقل من كنيفة ومطبخة ومجلس خاص بها، فهذا له جمعهن ولو جبراً. وأما إن كان المنزل فيه مرحاض أي كنيف واحد ومطبخة واحدة ومجلس واحد هذا فكما قال المصنف. قال الدردير في أقرب المسالك عاطفاً على الجائزات: كجمعهما بمنزلين بدار، ولو بغير رضاهما اهـ أنظر حاشية الصاوي عليه. قال رحمه الله تعالى: " فإن أراد سفراً أقرع بينهن " يعني كما في المختصر: وإن سافر اختار إلا في الغزو والحج فيقرع. وتؤولت بالاختيار مطلقاً. وعبارة الدردير: وإن سافر اختار، إلا في قربة فيقرع. قال الشارح: لأن الرغبات تعظم في العبادات اهـ قال الخرشي: يعني أن الرجل إذا كان له زوجتان فأكثر وأراد أن يسافر لتجارة أو غيرها فإنه

يختار من نسائه من يأخذها معه في سفره من غير قرعة لأن المصلحة قد تكون في إقامة إحداهن. إما لثقل جسمها أو لكثرة عائلتها، أو لغير ذلك، وكل ذلك من غير ميل ولا ضرر. اللخمي: ومن تعين سفرها جبرت عليه إن لم يشق عليها أو يعرها، أي إن لم يكن عليها معرة في ذلك، ولا تحاسب من سافر بها بعد رجوعه بل يبتدئ القسم، وأما لو أراد أن يسافر لحج أو غزو فإنه يقرع بين نسائه عند مالك فمن خرج سهمها أخذها معه، هذا هو المشهور. وقيل إن الزوج يختار من غير قرعة مطلقا حجا أو غزوا أو غيرهما، واختاره ابن القاسم من أقوال أربعة. قال المواق في المدونة: إن سافر لحاجته أو غزو أو حج سافر بأيتهن شاء بغير قرعة، فإن كانت القرعة ففي الغزو اهـ قال الجزيري في الفقه: ولكن السفر للحج في زماننا هو الذي يوجب المشاحة، أما الغزو فلا اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فإن تزوج عليهن بكراً سبع عندها، أو ثيباً ثلث، ثم استأنف ولا قضاء " يعني أن الرجل إذا تزوج بكراً فإنه يقيم عندها سبع ليال متواليات دون سائر زوجاته، وإن كانت التي تزوجها ثيباً ولو أمة فإنه يثلث لها أي يخصها بثلاث ليال متواليات، لخبر " سبع للبكر وثلاث للثيب " رواه ابن حبان. وفي الصحيحين عن أنس أن السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعاً ثم قسم، وإذا تزوج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثاً ثم قسم اهـ. قال في الرسالة: ومن نكح بكراً فله أن يقيم عندها سبعاً دون سائر نسائه. وفي الثيب ثلاثة أيام. قال النفراوي: وإنما تميزت البكر من الثيب بطول الإقامة عندها لما عندها من الوحشة بفراق أهلها، بخلاف الثيب اهـ. قال خليل: وقضى للبكر بسبع وللثيب بثلاث ولا قضاء. قال الخرشي: يعني أن من تزوج بكراً على غيرها ولو كانت هذه البكر أمة فإنه يقضي لها بسبع ليال، وإن تزوج بثيب فإنه يقضي لها بثلاث ليال، أي يلزمه أن يبيت عندها ثلاث ليال يخصها بها لأنه حق لها، وإذا سبع للبكر أو ثلث للثيب فإنه لا يقضي لغيرهن مثل ذلك، وفات عليهن فلا قضاء بالفوات كالرجوع من

السفر اهـ وقال النفراوي: السادس من تزوج واحدة بعد أخرى فإنه يقضي للثانية بسبع ليال بأيامها إن كانت بكراً، وبثلاث إن كانت ثيباً وأما لو تزوج اثنتين في ليلة فاستظهر ابن عرفة تقديم السابقة في الدعوى، فإن استويتا فالسابقة عقداً، فإن استويتا فالقرعة، وكل من قدمت تستحق ما يقضي لها به اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ومن وهبته ليلتها لم يختص بها غيرها، ولو وهبتها ضرتها أختصت بها " يعني إذا وهبته صاحبة النوبة ليلتها فلا يختص من شاء بما وهبته، بل تكون الواهبة كالعدم، أما لو وهبته لضرتها لكانت الموهوب لها تختص بما وهب لها عن ضراتها إن رضي الزوج بالهبة. قال في أقرب المسالك: وإن وهبت نوبتها من ضرة فالكلام له لا لها، فإن رضي اختصت بالموهوبة، بخلاف هبتها له فتقدر الواهبة عدماً، لا إن اشترى فيخص من شاء ولها الرجوع اهـ. ويجوز للزوج أو للضرة شراء النوبة، وتختص الضرة بما اشترته، ويختص الزوج من شاء بما اشتراه، وكذا يجوز الإيثار وهو الزيادة في المبيت لإحدى الزوجين على الأخرى برضاها سواء كان الإيثار بإعطاء شيء من المال لتأخذه المؤثر عليها من الزوج، أو من ضرتها، أو بلا شيء بأن رضيت مجاناً اهـ الدردير. قال رحمه الله تعالى: " ولا يلزمه الوطء بل ذلك بحسب رغبته ما لم يقصد إضراراً " هذه الجملة قد تقدم الكلام عليها عند قول المصنف وله تفضيل بعضهن في الإنفاق ما لم يقصد إضراراً فراجعه. وقد قال النفراوي: وأما الوطء فقد قال صاحب القبس: الوطء واجب على الزوج للمرأة عند مالك إذا انتفى العذر. وقاله ابن حنبل. وقال الأجهوري: يجب على الرجل وطء زوجته ويقضي عليه به حيث تضررت المرأة بتركه وقدر عليه الزوج، لأن الإنسان لا يكلف ما لا يطيقه، والراجح أنها إذا شكت قلة الوطء يقضى لها في كل أربع ليال بليلة كما أن الصحيح إذا شكا الزوج من قلة الجماع أن يقضى له عليها بما تطيقه كالأجير، خلافاً لمن قال يقضى بأربع مرات في اليوم والليلة، لاختلاف

أحوال الناس، فقد لا تطيق المرأة ذلك اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولا قسم لملك اليمين " يعني لا يلزم على السيد قسم في المبيت بين إمائه لعدم استحقاق ذلك لهن. قال في الرسالة: ولا قسم في المبيت لأمته ولا لأم ولده. قال النفراوي: لأن الرقيقة لا حق لها في الوطء وإنما للمملوك، على السيد طعامه وكسوته سواء كان ذكراً أو أنثى، ولسيده عليه الخدمة التي يطيقها كما في الحديث اهـ وينبغي للسيد أن يرفق لإمائه إما بعتق أو إنكاح أو تسر، أو يبيع لمن يتسرى بهن، فإن فعل فنعم السيد، لما ورد من أن آخر ما أوصى به صلى الله عليه وسلم الصلاة وما ملكت أيمانكم. قال بعض العارفين. لكن الناس أخذوا بالرخص والتساهل وعدم العمل بذلك إلا نادراً، وقالوا: لا حق لهن في الوطء، ولو تضررت الجارية من ترك الوطء واحتاجت للزواج لا يجبر سيدها، وكذلك العبد، وتأولوا قوله صلى الله عليه وسلم: " لا ضرر ولا ضرار " إنما هو فيما يجب للشخص ومن حقه، والوطء لا حق فيه للرقيق على سيده اهـ نقله النفراوي عن شراح خليل. قال رحمه الله تعالى: " ولا يعزل عن حرة إلا بإذنها، والأمة بإذن سيدها، ويلحق به الولد، فإن أدعت ولادته وأدعى التقاطه فالقول قولها والسرية تلزمها البينة " قال ابن جزي: لا يجوز العزل عن الحرة إلا بإذنها ولا عن الزوجة الأمة إلا بإذن سيدها لحقه في النسل، ويجوز عن السرية بغير إذنها، وأجاز الشافعي مطلقاً. ويلحق الولد بالزوج بعد العزل، وإذا قبض الرحم المني لم يجز التعرض له، وأشد من ذلك إذا تخلق، وأشد من ذلك إذا نفخ فيه الروح فإنه قتل نفس إجماعاً اهـ. وقوله: ويلحق به الولد إلخ لقول مالك في المدونة فيمن يعزل: يلزمه الولد ولا ينفعه أن يقول كنت أعزل عنها اهـ وكذلك لا يقبل قول الزوج في دعوى التقاط مع ادعائها أن الولد منه لما فيه من التهم في نفيه إلا أن يستبرئها قبل ظهور الحمل ولم تطأ بعده، أو كانت بكراً ولم يدخل

بها قط فله نفيه بلعان ولو طلقها كما يأتي في اللعان. وقوله رحمه الله والسرية إلخ يعني لما تقدم الكلام في الزوجة سواء كانت حرة أو أمة شرع يتكلم على السرية وهي التي يطأها السيد، فإذا ولدت منه صارت أم الولد. قال في الرسالة: وكل ما أسقطته مما يعلم أنه ولد فهي به أم ولد، ولا ينفعه العزل. وإذا أنكرت ولدها وأقر بالوطء فإن ادعى استبراء لم يطأ بعده لم يلحق به ما جاء من ولد اهـ هذا هو المشهور. وقد عقد ابن جزي فصلاً في باب أمهات الأولاد في لحوق الولد لمن أقر بوطء أمته، قال: من أقر بوطء أمته لحق به ما أتت به من ولد وإن عزل عنها إذا أتت به لمدة لا تنقص عن ستة أشهر ولا تزيد على أكثر من مدة الحمل. وسواء أتت به في حياته أو بعد موته أو بعد أن أعتقها إلا أن يدعي الاستبراء ولم يطأها بعد فيصدق ولا يلحقه الولد. واختلف هل يصدق بيمين؟ هو المشهور، أو بغير يمين وينفي الولد عن نفسه بغير لعان، فإن لم تأت بولد وادعت أنها ولدت منه لم تصدق ولم تكن له أم ولد حتى تشهد لها بالولادة امرأتان. وأما إن أنكر الوطء فأقامت به عليه شاهدين وأتت بولد فالصواب أن ذلك بمنزلة إقراره بالوطء اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وله الاستمتاع بما شاء إلا الإتيان في الدبر، ويؤدب فاعله ويتعلق به جميع أحكام الوطء إلا فيئة المولي وإحلال المبتوتة " يعني إذا عقد الرجل على المرأة عقداً صحيحاً شرعياً حل له الاستمتاع بها، وكذا إذا ملك الأمة ملكاً تاماً فإنه يجوز له الاستمتاع بجميع الجسد إلا الدبر. ولا يجوز الاستمتاع في الدبر، والممنوع الإيلاج فيه. قال الصاوي: وأما التمتع بظاهره ولو بوضع الذكر عليه فجائز كما ذكره البرزلي قائلاً: ووجهه عندي أنه كسائر جسد المرأة، وجميعه مباح ماعدا الإيلاج في باطنه واعتمده الحطاب واللقاني، خلافاً للتتائي والبساطي والأقفهسي حيث قالوا: لا يجوز التمتع بالدبر لا ظاهراً ولا باطناً اهـ. قال ابن جزي في القوانين: ويجوز للرجل

أن يستمتع بزوجته وأمته بجميع وجوه الاستمتاع إلا الإتيان في الدبر فإنه حرام، ولقد افترى من نسب جوازه إلى مالك قال المنصف: ويؤدب فاعل ذلك، يعني الوطء في الدبر. وقوله رحمه الله ويتعلق به إلخ أي بالاستمتاع بالمرأة جميع أحكام الوطء إلا فيئة المولي. وقد ذكر ابن جزي جملة فيما يترتب من الأحكام بالوطء فراجعه إن شئت وقوله إلا فيئة المولي فإنها لا يكفي الاستمتاع فيها، بل لا بد فيها من الفيئة الشرعية وهي تغيب الحشفة في قبل الزوجة كما سيأتي في الإيلاء. وكذا المبتوتة لا يكفي الاستمتاع بها في تحليلها لمن أبت طلاقها إلا بنكاح صحيح بحسبما تقدم في المحرمات عند الكلام على المبتوتة فراجعه إن شئت. ثم قال رحمه الله تعالى: " فإن نشزت وعظها فإن استمرت هجرها، فإن زادت ضربها غير مبرح " يعني إن نشزت المرأة على زوجها بمنعها التمتع بها أو تزوجها بلا إذن منه لمكان لا يحب خروجها له، أو ترك حق من حقوق الله تعالى الصلاة بغير عذر شرعي، فإذا تحقق النشوز من ذلك وعظها برفق وذكر لها ما يقتضي رجوعها عما ارتكبته، نحو اتقي الله واحذري عقابه فإن الرجل له حق على المرأة ونحو ذلك، فإن استمرت على النشوز هجرها في المضاجع بأن لا ينام معها في فراش واحد ولا يباشرها، فإن لم يفد ذلك ضربها ضرباً غير مبرح إن ظن الإفادة. ومعنى غير مبرح هو الذي لا يكسر عظماً ولا يشين جارحة. قال الصاوي على الجلالين: وهذا الترتيب واجب، وأخذ وجوبه من السنة. ثم قال: واعلم أن الهجر والضرب لا يسوغ فعلهما إلا إذا تحقق النشوز، ويزداد في الضرب ظن الإفادة. وأما الوعظ فلا يشترط فيه تحقق النشوز ولا ظن الإفادة اهـ. قال خليل: وعظ من نشزت، ثم هجرها، ثم ضربها إن ظن إفادته اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وإذا قبح ما بينهما أمر المتعدي بإزالته، فإن جهل بعث الحاكم حكمين من أهله وأهلها يحكمان بالأصلح من صلح أو فراق

فصل في بيان أحكام المفقود والغائب عن زوجته

فيمضي ما حكما به " يعني كما قال خليل: وبتعديه زجره الحاكم، وسكنها بين قوم صالحين إن لم تكن بينهم. وإن أشكل بعث حكمين اهـ هذا هو معنى قوله تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلحاً يوفق الله بينهما} {النساء: 35} الآية. قال في المدونة: الأمر الذي يكون فيه الحكمان إنما ذلك إذا فتح ما بين الرجل وامرأته حتى لا يثبته بينهما بينة ويستطاع أن يتخلص إلى أمرهما، فإذا أبلغا ذلك بعث الوالي رجلاً من أهلها ورجلاً من أهله عدلين فينظرا في أمرهما واجتهدا، فإن استطاعا الصلح أصلحا بينهما، وإلا فرقا بينهما، ثم يجوز فراقهما دون الإمام. وإن رأيا أن يأخذ من مالها حتى يكون خلعاً فعلاً اهـ. وفيها أيضاً: فإذا كان ذلك منهم هل يجوز أن يجتمعوا إلى رجل واحد ويكون بمنزلة الحكمين لهما جميعاً؟ قال مالك: نعم إذا كان يستأهل أن يكون ممن يجعل ذلك إليه، ليس بنصراني، ولا بعبد، ولا صبي، ولا امرأة، ولا سفيه، فهؤلاء لا يجوز منهم اثنان فكيف واحد اهـ. واعلم أن كون الحكمين من الأهلين عند وجودهما واجب عند مالك، ومندوب عند الشافعي كما في الصاوي. ولما أنهى الكلام على القسم بين الزوجات وما يتعلق بذلك من الأحكام انتقل يتكلم على الغائب عن زوجته فأكثر وانقطع عنه الخبر، فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في بيان أحكام المفقود والغائب عن زوجته أي في بيان أحكام الغائب ويسمى بالمفقود وهو الذي غاب عن أهله وفقدوه حتى انقطع خبره. وفي حديث عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه قال: أيما امرأة فقدت زوجها لم تدر أين هو فإنها تنتظر أربع سنين، ثم تعتد أربعة أشهر وعشراً، ثم تحل رواه مالك. وقال ابن المسيب، رضي الله عنه: إذا فقد في الصف في القتال تتربص امرأته

سنة. وقال الزهري في الأسير يعلم مكانه لا تتزوج امرأته ولا يقسم ماله، فإذا انقطع خبره فسنته سنة المفقود اهـ. رواه البخاري. قال رحمه الله تعالى: " إذا غاب الزوج غيبة منقطعة فلم تعلم حياته فلها رفع أمرها إلى الحاكم فيؤجلها أربع سنين " اعلم أن المفقود له أربع أحوال: الأولى مفقود في بلاد المسلمين. الثانية مفقود في بلاد العدو. الثالثة مفقود في صف المسلمين في قتال العدو. الرابعة مفقود في الفتن بين المسلمين والعياذ بالله. انظر تفصيل جميع ذلك في المقدمات لابن رشد، ومثلها في ابن جزي. قال خليل: ولزوجة المفقود الرفع للقاضي والوالي ووالي الماء، وإلا فلجماعة المسلمين، فيؤجل الحر أربع سنين إن دامت نفقتها، والعبد نصفها من العجز عن خبره ثم اعتدت كالوفاة اهـ. قال في الرسالة: والمفقود يضرب له أجل أربع سنين من يوم ترفع ذلك إلى السلطان وينتهي الكشف عنه، ثم تعتد كعدة الميت، ثم تتزوج إن شاءت، ولا يورث ماله حتى يأتي عليه من الزمان ما لا يعيش إلى مثله اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فإن علم موضعه كاتبه بالمجيء، أو نقلها، أو الطلاق، وإلا أمرها بعدة الوفاة وأبيحت للأزواج " نقل الحطاب عن المتيطية قال: اعلم أن الغائبين على أزواجهم خمسة، إلى أن قال: الرابع غائب خلف نفقة ولا شرط لامرأته، وهو مع ذلك معلوم المكان فهذا يكتب إليه السلطان إما أن يقدم، أو يحمل امرأته إليه، أو يفارقها وإلا طلق عليه. والخامس الغائب خلف نفقة ولا شرط لامرأته عليه، وهو مع ذلك معلوم المكان، فهذا هو المفقود اهـ باختصار. قال ابن جزي: فأما المفقود في بلاد المسلمين فإذا رفعت زوجته أمرها إلى القاضي كلفها إثبات الزوجية وغيبته، ثم بحث عن خبره وكتب في ذلك إلى البلاد، فإن وقف له على خبر فليس بمفقود ويكاتبه بالرجوع أو الطلاق، فإن أقام على الإضرار طلق عليه. وإن لم يقف له على خبر ولا عرفت حياته من م 00 وته ضرب له أجلاً من أربعة أعوام للحر، وعامين للعبد من يوم ترفع أمرها، فإذا انقضى الأجل

اعتدت عدة الوفاة ثم تزوجت إن شاءت. قال أبو حنيفة والشافعي لا تحل امرأة المفقود حتى يصح موته اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فإن ظهر قبل نكاحها فهو على نكاحه، وبعده تفوت بالدخول لا بالعقد على الأصح " قال ابن جزي: إن جاء زوجها في الأجل أو في العدة أو بعدها قبل أن تتزوج فهي امرأته، وإن جاء بعد أن تزوجت فإن كان الثاني دخل بها فهي له دون الأول وإن لم يدخل بها فقولان اهـ. قوله فقولان فالأصح ما قاله المصنف من قوله وبعده تفوت بالدخول لا بالعقد. قال خليل: فإن جاء أو تبين أنه حي أو مات فكالوليين، ومعلوم أن ذات الوليين تفوت بدخول الثاني غير عالم بالأول، انظر شراحه. قال النفراوي: فإن جاء أو تبين أنه حي، أو مات وهي في عدتها، أو بعدها وقبل العقد، أو بعد العقد وقبل الدخول، أو بعد الدخول ولكن علم المتزوج بها بأن زوجها المفقود جاء، أو لم يعلم لكن كان عقده فاسداً مجمعاً على فساده فلا تفوت على المفقود في هذه الصور، بخلاف ما لو جاء أو تبين أنه حي أو مات بعد تلذذ الثاني بها غير عالم في نكاح صحيح، أو يفوت بالدخول فإنها تفوت على المفقود اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وتقع به طلقة حكماً قبل العدة " يعني تقع طلقة واحدة حكماً بالشروع في العدة أي قلا تمامها وبعد تمام الأجل المضروب، ويتحقق بدخول الزوج الثاني. قال رحمه الله تعالى: " فإن كان قد بنى بها فلها مهرها، وإلا فنصفه، فإذا ثبت موته أكمل لها مهرها لأن الموت كالدخول. قال الصاوي في أقرب المسالك: فالحاصل أنه يقدر وفاته لأجل أن تعتد عدة وفاة ويكمل لها الصداق، ولا نفقة لها في العدة، ويقدر طلاق لأجل أن تفوت على الأول بدخول الثاني، ولحليتها للأول

إذا كان طلقها طلقتين قبل فقده بعصمة جديدة فتأمل اهـ قال النفراوي: وليس لها بعد انقضاء العدة البقاء في عصمة المفقود لأنها أبيحت لغيره، ولا حجة لها في أن يكون أحق بها إن قدم لأنها على حكم الفراق حتى تظهر حياته، إذ لو ماتت بعد العدة لم يوقف له إرث منهما اهـ. ومثله في المواق. قال رحمه الله تعالى: " ولا تقسم تركته إلا بتيقن موته، أو مضي ما لا يعيش إلى مثله غالباً، قبل تمام سبعين سنة، وقيل ثمانين " يعني كما في النفراوي أن المفقود في بلاد الإسلام ـ لأن الكلام فيه ـ لا يورث ماله حتى يتحقق موته، أو يأتي عليه من الزمان ما لا يعيش إلى مثله، وهي مدة التعمير، واختلف فيها العلماء قيل تمام السبعين، وقيل ثمانين، وقيل تسعين، وقيل مائة سنة، وقيل مائة وعشرين. قال خليل: وحكم بخمس وسبعين. قال بعضهم: وهو المشهور. واحتج له بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين " الحديث. قال رحمه الله تعالى: " ويجتهد الحاكم في الأسير والمفقود في المعترك من غير تأجيل. والله أعلم " يعني كما قال النفراوي: وأما زوجة مفقود أرض الشرك، ومثلها زوجة الأسير لهما أجل كزوجة مفقود أرض الإسلام لتعذر الكشف عن زوجيهما. ومحل بقائهما إن دامت نفقتهما كغيرهما، وإلا فلهما التطليق. قال الأجهوري في شرح خليل: وإذا جاز لها التطليق بعدم النفقة فإنه يجوز لها إذا خشيت على نفسها الزنا بالأولى لشدة ضرر ترك الوطء الناشئ عنه الزنا ألا ترى أنها لو أسقطت النفقة عن زوجها يلزمها الإسقاط، وإن أسقطت عنه حقها في الوطء لا يلزمها، ولها أن ترجع فيه، وأيضاً النفقة يمكن تحصيلها من غير الزوج بتسلف ونحوه، وبخلاف الوطء. فإذا مضت مدة التعمير يحكم بموت من ذكر وتعتد زوجته عدة وفاة، ويقسم ماله على ورثته حينئذ لا على ورثته حين فقد ما لم يثبت موته

يوم الفقد أو بعده فالمعتبر ورثته يوم ثبوت الموت، فإن جاء بعد قسم تركته فإن القسم لا يمضي، ويرجع له متاعه. وأما زوجة المفقود في معترك المسلمين أي في الفتن بين المسلمين فتعتد بعد الفراغ من القتال والاستقصاء في الكشف عنه، لا يضرب لها أجل لأنه يحمل أمره على الموت، ولذلك يقسم ماله حين شروعها في العدة. أما لو شهدت البينة على أنه خرج من الجيش ولم تشاهده في المعترك فإنه يكون كالمفقود في بلاد المسلمين فيجري في زوجته ما تقدم. وأما زوكة المفقود في زمن المجاعة، والوباء، أو الكبة، أو السعال، فتعتد بعد ذهاب ذلك المرض. وأما زوجة المفقود في القتال الواقع بين المسلمين والكفار فإنها تعتد بعد مضي سنة كائنة بعد الفحص عن حاله. قال العدوي: ويورث ماله حينئذ، انظر كلام الأجهوري اهـ. ولما أنهى الكلام على بيان أحكام الغائب وما يتعلق بذلك انتقل يتكلم على ما يتعلق بأحكام الطلاق وأقسامه من صريح وغيره، فقال رحمه الله تعالى:

كتاب الطلاق

كتاب الطلاق أي في بيان الأحكام التي تتعلق بالطلاق وما يشتمل فيه من أركانه وأنواعه وألفاظه من صريح وغيره. وهو على قسمين: مباح ومحظور، فالمباح ما أذن فيه الشارع، والمحظور ما حظر عنه لأنه أبغض الحلال إلى الله كما في الحديث، لكن تعتريه الأحكام، تارة يكون واجباً، وتارة يكون حراماً، وتارة يكون مندوباً، وتارة يكون مكروهاً. قال الصاوي: فكما أن تلك الأحكام تعرض للنكاح كذلك تعرض للطلاق إلا أن الأصل في النكاح الندب، وفي الطلاق خلاف الأولى أو الكراهة اهـ. قال رحمه الله تعالى: " الاثنتان في العبد كالثلاث في الحر، وهو بائن، فتبين غير المدخول بها بواحدة، كالمختلعة، إلا أن يزيد أو يرسل أكثر في الفور فيلزم " ابتدأ رحمه الله في عدد الطلاق بالنهاية في كل زوج، يعني أن الغاية للعبد في الطلاق طلقتان، إذا طلق العبد زوجته اثنتين فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، سواء كانت حرة أو أمة مسلمة، أو كتابية، كما إذا طلق الحر زوجته ثلاثاً فقد بانت عنه وبلغ الغاية التي لا مزيد فيها، سواء أوقع الثلاث في كلمة واحدة، أو متفرقة، وسواء كانت حرة أو أمة، مسلمة أو كتابية، كانت مدخولاً بها أو غير مدخول بها، فتحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره نكاحاً صحيحاً بحسبما تقدم في المبتوتة. وأما غير المدخول بها فتبين بطلقة واحدة بينونة صغرى، كالمختلعة إلا أن يزيد على واحدة، أو ينوي الأكثر فيلزمه ما نوى. قال في الرسالة: والتي لم يدخل بها يطلقها متى شاء، والواحدة تبينها. والثلاث تحرمها إلا بعد زوج. ومن قال لزوجته أنت طالق فهي واحدة حتى ينوي أكثر من ذلك. ومن قال لزوجته أنت طالق البتة فهي ثلاث دخل بها أو لم يدخل

بها، وينوى في التي لم يدخل بها. وقال أيضاً: ومن طلق امرأته ثلاثاً لم تحل له بملك ولا نكاح حتى تنكح زوجاً غيره. وطلاق الثلاث في كلمة واحدة بدعة، ويلزم إن وقع. وطلاق السنة مباح اهـ وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله: " ورجعى وهو إيقاع ما دون نهايته بمدخول بها بغير عوض، وهي زوجة ما دامت في عدتها، فله ارتجاعها، ويصح بالقول كراجعتك، وبالفعل كقصده بالاستمتاع " يعني أن الطلاق الرجعي هو طلاق السنة المأذون فيه، وهو إيقاع ما دون الثلاث في مدخول بها بغير أخذ شيء من العوض، وهي في حكم الزوجة التي في العصمة في لزوم النفقة والكسوة والسكنى ولحوق الطلاق لها إلا في الاستمتاع والخلوة والأكل معها بلا نية مراجعتها بذلك فلا يجوز حتى ينوي المراجعة، وله أن يراجعها إن شاء ما لم تنقض العدة. قال في الرسالة: وطلاق السنة مباح، وهو أن يطلقها في طهر لم يقربها فيه طلقة ثم لا يتبعها طلاقاً حتى تنقضي العدة وله الرجعة في التي تحيض ما لم تدخل في الحيضة الثالثة في الحرة، أو الثانية في الأمة اهـ. وفي أقرب المسالك: والسني واحدة كاملة بطهر لم يمس فيه بلا عدة وإلا فبدعي اهـ. قوله ويصح بالقول إلخ، قلت والأكمل مع النية كما قال أبو الحسن الأزهري في مقدمته ونصه: والرجعة تكون بالنية مع القول، أو بالنية دون القول، فإن نوى في نفسه أنه راجعها فقد صحت رجعته فيما بينه وبين الله تعالى، ولو انفرد اللفظ دون النية لما صحت له الرجعة بذلك فيما بينه وبين الله تعالى، والوطء بدون النية لا يكون رجعة والوطء حرام اهـ. وفي قرة العين: مسألة إذا وطئ زوجته الرجعية ولم ينو الرجعة فهذا الوطء حرام ويستبرئها منه، ولا يلزمه صداق ولا حد، وإن حملت من هذا الوطء يلحق به الولد نظراً لقول ابن وهب إن الوطء مجرداً عن النية رجعة اهـ. ويندب الإشهاد على الرجعة، فلو راجعها بغير شهود صحت كما في أقرب المسالك وغيره اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وتبين بإنقضائها ويقبل قولها فيما يمكن صدقها فيه "

لقول مالك في المدونة: إذا ادعت عدتها قد انقضت في مقدار ما تنقضي فيه العدة صدقت. وفيها أيضاً: إذا طلق الرجل امرأته وقد حاضت الحيضة الثالة لم يكن له عليها رجعة ولا يتوارثان ولم يكن بينهما شيء اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فلو تزوجت فأقام بينة برجعتها قبل انقضائها فاتت بالدخول لا بالعقد " يعني تبين المرأة بانقضاء عدتها وتفوت بدخول الزوج الثاني وتصدق في انقضاء العدة فإذا ادعى زوجها عدم الانقضاء وادعت هي انقضاءها فالقول قولها، ولو تزوجت وأقام بينة أنه راجعها قبل تمام العدة فلا تقبل دعواه بذلك إذا كانت دعواه بعد الدخول لا قبله. وعبارة ابن جزي في القوانين: إذا ادعى بعد العدة أنه راجع في العدة لم يصدق إلا أن يكون خلا بها أو بات معها في العدة اهـ. وقد عقد ابن رشد للمسألة فصلاً في المقدمات قال: فإن ادعى بعد العدة أنه راجعها في العدة بقول أو نية لم يصدق في ذلك إلا أن يعلم أنه كان يخلو بها في العدة أو يبيت معها فيصدق أن خلوته بها ومبيته معها إنما كان لمراجعته إياها، وكذلك إذا وطئها في العدة وقال إنه أراد بوطئها الرجعة فيصدق في ذلك. وهذا هو معنى قولهم: إن الوطء رجعة إذا أراد به الرجعة، أي إنه يصدق في إرادة الرجعة بها اهـ. قال خليل مشبهاً في عدم صحة الرجعة: كدعواه لها بعدها. قال الصاوي في حاشيته على أقرب المسالك: حاصله أن الزوج إذا ادعى بعد انقضاء العدة أنه كان راجع زوجته في العدة غير بينة ولا مصدق مما يأتي فإنه لا يصدق في ذلك وقد بانت منه ولو كانت الزوجة صدقته على ذلك، والموضوع أن الخلوة عملت بينهما لكن يؤاخذ بمقتضى دعواه وهي أنها زوجة فيجب لها ما يجب للزوجة، وكذا تؤاخذ بمقتضى إقرارها إن صدقته ولا يمكن واحد منهما من صاحبه اهـ انظر باقي المفاهيم في شراحه. قال رحمه الله تعالى: " ثم السني منه طلقة في طهر لم يمس فيه ولا تالياً لحيض طلق

فيه ثم لا يتبعها طلاقاً حتى تنقضي عدتها " يعني أنه لا يسمى طلاقاً سنياً إلا إذا كملت فيه شروط خمسة، وقد تقدم الكلام في هذه الجملة عند قوله ورجعي، وهو إيقاع ما دون نهايته، لكن نزيدك هنا بياناً شافياً إن شاء الله تعالى. اعلم أنه لا يقع سنياً إلا بخمسة شروط: الأول أن يكون واحداً فالأكثر من واحد لا يسمى سنياً. الثاني أن يكون في طهر لم يمس فيه، فالطلاق في الحيض أو النفاس أو في الطهر الذي مسها فيه لا يسمى سنياً، وكذلك في الطهر الذي يلي الحيض الذي طلق فيه لا يسمى سنياً قال الدردير: وإنما طلب منه عدم طلاقها في الطهر الذي يلي الحيض الذي طلق فيه لأن الارتجاع جعل للصلح، وهو إنما يتم بالوطء بعد الحيض فقد مسها في ذلك الطهر، فإذا حاضت منع الطلاق، فإذا طهرت فله الطلاق قبل الوطء اهـ. الشرط الثالث أن يكون كاملاً لا بعض الطلاق كنصف طلقة فإنه لا يسمى سنياً. الرابع ألا تكون المرأة معتدة عدة الطلاق الرجعي وإن أتبعها طلاقاً في عدتها فإن هذا الطلاق الثاني لا يسمى سنياً. الخامس أن يوقعه على جملة المرأة لا على بعضها كيدها فإن طلق البعض فإنه يسري في جميعها طلقة كاملة. فإن انتفت هذه الشروط أو شيء منها فلا يسمى سنياً بل بدعياً، وإليه أشار خليل بقوله: طلاق السنة واحدة بطهر لم يمس فيه بلا عدة وإلا فبدعي اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " والبدعي إرسال الثلاث دفعة " أي إيقاع الطلاق دفعة في كلمة واحدة، بأن قال طلقتك ثلاثاً وهو بدعي. والبدعي إما مكروه وإما حرام. قال الدردير في أقرب المسالك: وكره إن كان بغير حيض ونفاس وإلا منع ووقع، وإن طلبته أو خالعت. والإجماع على لزوم الثلاث إذا أوقعها في لفظ واحد، نقله ابن عبد البر وغيره من الأئمة باختصار. قال رحمه الله تعالى عاطفاً على البدعي: " والطلاق في طهر المسيس " يعني من البدعي

الطلاق في الطهر الذي مسها فيه لأنه خلاف السني كما تقدم. قال رحمه الله تعالى: " أو في الحيض فيجبر على ارتجاعها " يعني إيقاع الطلاق في دم الحيض ممنوع ويؤمر بارتجاع الزوجة في عصمته ولو جبراً. قال في أقرب المسالك: وأجبر على الرجعة لآخر العدة وإن لم تقم بحقها، فإن أبى هدد بالسجن، ثم سجن، ثم ضرب بمجلس، فإن أبى ارتجع الحاكم. قال الصاوي في حاشيته عليه: فإن ارتجع الحاكم قبل فعل شيء من هذه الأمور صح إن علم أنه لا يرتجع مع فعلها وإلا لم يصح. والظاهر وجوب الترتيب وأنه إن فعلها كلها من غير ترتيب ثم ارتجع مع إباء المطلق صحت الرجعة قطعاً اهـ. وجاز بارتجاع الحاكم الوطء والتوارث، والأحب إمساكها حتى تطهر فتحيض فتطهر، ثم إن شاء طلق قبل أن يمسها ليكون سنياً اهـ الدردير. وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله: " وإمساكها حتى تطهر من الثانية " يعني كما في الخرشي أن من طلق زوجته في حال حيضها أو نفاسها وراجعها أو أبى أن يراجعها فأجبره الحاكم على رجعتها وألزمه إياها ثم أراد طلاقها فإنه يستحب له أن يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلقها قبل أن يمسها، وإنما أمر أن لا يطلقها في الطهر الذي يلي الحيض المطلق فيه لأنه جعل للإصلاح وهو لا يكون إلا بالوطء وبالوطء يكره له الطلاق فيمسكها حتى تحيض أخرى ثم تطهر اهـ ومثله في المواق. قال رحمه الله تعالى: " ولا إجبار في الطهر بينهما كطهر المسيس وعار عنهما كالصغيرة واليائسة وظاهرة الحمل وغير المدخول بها " يعني فإن طلق في الطهر الذي بين حيضتين فلا يجبر على ارتجاعها. قال المواق: فإن طلق في الطهر التالي للحيضة التي طلقها فيها كره له ذلك ولم يجبر على الرجعة. قال ابن رشد: وإن ارتجاعها كذلك ولم يصبها كان مضماراً آثماً اهـ. وكذلك لا جبر إن طلقها في طهر المسيس مع الكراهة كما تقدم. والتي لا تحيض كالصغيرة واليائسة يطلقها متى شاء. وكذا ظاهرة الحمل وغير المدخول

بها كما في الرسالة: قال ابن رشد: أجمع العلماء على أن المطلق للسنة في المدخول بها وهو الذي يطلق امرأته في طهر لم يمسها فيه طلقة واحدة، وأن المطلق في الحيض أو الطهر الذي مسها فيه غير مطلق للسنة وإنما أجمعوا على هذا لما ثبت من حديث ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر أن تطلق لها النساء " اهـ اللفظ للبخاري. قال رحمه الله تعالى: " ثم صريحه ما يتضمنه لفظه وإطلاقه واحدة إلا أن ينوي أكثر، فإن أدعى إرادة طلاق الولادة أو من وثاق وقف على قرينة الحال " يعني أن الطلاق ينقسم إلى صريح وكناية وغيره. أما الصريح ما فيه لفظ الطلاق، نحو أنت طالق أو مطلقة فيلزم به الطلاق، ولا يفتقر إلى نية لأنه صريح ومطلقها واحدة إلا أن ينوي أكثر فيلزمه ما نوى. فإن ادعى عدم إرادة الطلاق فلا تقبل منه إلا بقرينة الحال. قال ابن جزي في القوانين: وأما ألفاظ الطلاق فهي أربعة أنواع: النوع الأول صريح وهو ما فيه لفظ الطلاق، كقوله طالق، أو طالقة، أو مطلقة، أو قد طلقتك، أو طلقت مني لزمه الطلاق بهذا كله، ولا يفتقر إلى نية، وإن ادعى أنه لم يرد الطلاق لم يقبل منه ذلك إلا إن اقترنت بقرينة تدل على صدق دعواه مثل أن تسأله أن يطلقها من وثاق فيقول أنت طالق، وألحق الشافعي بالصريح لفظ التسريح والفراق اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وكنايته ظاهرة كخلية وبرية وبائن وبتة وبتلة وحرام وحبلك على غاربك والمشهور أنها ثلاث في المدخول بها لا تقبل إرادة دونها ولا عدم إرادة الطلاق " يعني كما في القوانين. الكناية الظاهرة وهي التي جرت العادة أن يطلق بها في الشرع أو في اللغة كلفظ التسريح والفراق، وكقوله أنت بائن،

أو بتة، أو بتلة وما أشبه ذلك فحكم هذا كحكم الصريح. وقال الشافعي: يرجع إلى ما نواه ويصدق في نيته اهـ. قال العلامة الشيخ محمد عليش في الفتاوى: وأما الكناية فهي على قسمين: ظاهرة ومحتملة، فالظاهرة ما هو في العرف طلاق مثل سرحتك وفارقتك وأنت حرام، وبتة، وبتلة، وبائن، وحبلك على غاربك، وكالميتة والدم، ووهبتك، ورددتك إلى أهلك، وغير ذلك فيقضى عليه في ذلك بالطلاق، ولا تقبل دعواه أنه لم يرد بها الطلاق. واختلف ماذا يلزمه في هذه الكنايات الظاهرة من أنواع الطلاق؟ فقيل يلزمه فيها الثلاث على كل حال. وقيل يلزمه الثلاث في المدخول بها وينوى في غير المدخول بها، فإن قال إنه أراد البتة فله نيته وهو المشهور. وقيل يلزمه واحدة بائنة على كل حال. وقيل رجعية في المدخول بها وبائنة في غير المدخول بها. وقيل ثلاث في المدخول بها وواحدة في غير المدخول بها اهـ. وقد علمت من الأقوال ما هو المشهور كما نص عليه المصنف فتأمل. قال رحمه الله تعالى: " ويلزم في غيرها ما نواه كالخلع " يعني يلزم ما نواه فيما ليس بكناية ظاهرة كالخلع لأنه طلقة، لكن ليس فيه ألفاظ الصريح ولا ألفاظ الكناية الظاهرة، وشبه به للزوم الطلاق. وإذا خالعته فالخلع واقع على ما نواه من عدد الطلاق واحداً فأكثر، وإن لم ينو به شيئاً لزمه طلقة. قال في الرسالة: والخلع طلقة لا رجعة فيها، وإن لم يسم طلاقاً إذا أعطته شيئاً فخلعها به من نفسه كما سيأتي. وأما الكناية غير الظاهرة فهي كناية خفية، وتسمى محتملة ففيها ما نواه من طلاق وغيره كما سيأتي للمصنف. قال ابن جزي: الكناية المحتملة كقوله: الحقي بأهلك، واذهبي، وابعدي عني، وما أشبه ذلك فهذا لا يلزمه الطلاق إلا إن نواه، وإن قال إنه لم ينو الطلاق قبل قوله في ذلك اهـ. قال في العزية: وأما المحتملة فمثل اذهبي، وانصرفي، وأنت حرة، والحقي بأهلك، ولست لي بامرأة، ولا نكاح بيني وبينك ونحو ذلك مما ليس بطلاق في العرف فله نيته في ذلك، وهو

مصدق إن ادعى أنه لم يرد بذلك طلاقاً، ولا يحكم عليه في ذلك إلا بما نواه. وفيها أيضاً: والمحتملة مثل اذهبي وانصرفي فتقبل دعواه في نفيه وعدده، فإذا ادعى أنه أراد الطلاق فالمشهور أنه يكون طلاقاً اهـ كما سينص على جميع ذلك. قال رحمه الله تعالى: " وقوله الحلال عليه حرام يلزمه به " أي يلزمه ثلاثاً في المدخول بها وغيرها، إلا أن يستثني زوجته في ذلك كما قال رحمه الله تعالى: " إلا أن يحاشيها لفظاً أو نية " قال في الرسالة: ومن حرم على نفسه شيئاً مما أحل الله له فلا شيء عليه إلا في زوجته فإنها تحرم عليه إلا بعد زوج اهـ. قال الجزيري في الفقه: أما إذا قال الحلال علي حرام، أو حرام علي ما أحل لي، أو ما أرجع إليه حرام فإنه إذا نوى إخراج زوجته واستثناءها من المحرم عليه فإنه يصح ولا تحرم عليه، وإلا حرمت لأن قوله الحلال علي حرام يشمل جميع ما أحله الله له، وهو لا يملك إلا تحريم زوجته، فإذا نواه حرمت، وإلا فلا. وإذا قال لها: الحرام حلال ولم يقل علي، أو قال حرام علي أو علي حرام ولم يقل أنت، أو قال يا حرام فإنه إذا نوى إخراج امرأته من الحرام فلا يلزمه شيء، وإن نوى إدخالها كان كناية صريحة يلزم بها الثلاث في المدخول بها وغيرها إن لم ينو في غير المدخول بها عدداً، انظر شرح الخليل. وتقدم قول المصنف في الأيمان: ويلغى تحريم الحلال إلا في الزوجة والأمة فيلزمه الطلاق والعتق فراجعه إن شئت. قال رحمه الله تعالى: " والمشهور أن السراح والفراق كناية، وقيل صريح " يعني أن المشهور في المذهب في لفظ السراح والفراق كناية ظاهرة كما قال ابن جزي وغيره، لكن تلك الألفاظ التي هي الكناية الظاهرة ينبغي أن يعتبر فيها بعرف القوم في أي زمان ومكان في تنفيذ الطلاق بها عند القضاء أو الفتيا. قال العدوي في حاشية الخرشي: فائدة: قال القرافي في فروقه ما معناه: إن نحو هذه الألفاظ من برية، وخلية، وحبلك على غاربك، ورددتك، إنما كان لعرف سابق، وأما الآن فلا يحل للمفتي أن يفتي

بها إلا لمن عرف معناها وإلا كانت من الكنايات الخفية، فلا نجد أحداً اليوم يطلق امرأته بخلية ولا برية. والحاصل أنه لا يحل للمفتي أن يفتي فيها بالطلاق حتى يعلم العرف في ذلك البلد اهـ. ومثله في الصاوي. ونقل عن القوافي أيضاً مثله. ونصه: لا يحل للمفتي أن يفتي في الطلاق بالحرام بما هو مسطور في الكتب عن مالك حتى يعلم أنه من أهل بلد ذلك العرف الذي يترتب عليه الفتيا، فإن كان بلداً آخر أفتاه باعتبار حال بلده، وقد غفل عن هذا كثير من الفقهاء فأفتوا بما للمتقدمين وقد زالت تلك العوائد فكانوا مخطئين خارقين للإجماع، فإن المفتي بالحكم المبني على مدرك بعد زوال مدركه خلاف الإجماع اهـ نقله المواق في شرحه للمختصر. وقد حرر ذلك العلامة الجزيري في الفقه بقوله: هذا ويشترط في وقوع الطلاق بهذه الألفاظ كلها أن يكون العرف جارياً على أن يطلق الناس بها. أما إذا كانوا لا يطلقون بهذه العبارات فإنها لا تكون كناية ظاهرة، بل تكون من الكنايات الخفية التي لا يقع بها إلا بالنية. ومثل هذه الألفاظ: حبلك على غاربك التي يقع بها الثلاث في المدخول بها وغيرها، فإنه إذا لم يكن عرف الناس جارياً على التطليق بها كما في زمننا فلا يقع بها طلاق إلا بالنية، فإذا نوى واحدة لزمته، وهكذا كما تقدم. وقد قال المحققون من المالكية: لا يحل للمفتي أن يفتي في الطلاق وغيره من الأحكام المبنية على العوائد والعرف كالمنافع في الإجارة والوصايا والنذور والأيمان إلا بعد أن يعلم عرف أهل البلد أو القبيلة في ذلك الأمر. وبهذا تعلم أن معظم الكنايات الظاهرة التي قال المالكية إنه يقع بها الثلاث في المدخول بها بدون نظر إلى نية هي من الكنايات الخفية في زمننا، لأنه لا يطلق بها أحد اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " ومحتملة كاذهبي، واعزبي، وآخرجي، وانصرفي، واعتدي، وألحقي بأهلك، فيقبل ما أراده " إن هذه الجملة معطوفة على قوله ثم صريحة

وكنايته، يعني كما تقدم أن هذه من الكناية الخفية التي تقبل نيته فيما أراد بتلك الألفاظ. والحاصل أن حكم الكناية الخفية يتبع النية، فإن لم تكن له نية أصلاً أو نوى عدم الطلاق فإنه لا يلزمه بها شيء، وإن نوى الطلاق لزمه، فإن نوى واحدة لزمته واحدة، وإن نوى أكثر لزمه الأكثر كما تقدم. قال رحمه الله تعالى: " ولو سألته الطلاق فأجابها بلفظ أو إشارة مفهمة لزمه ككتبه وإنفاذه " يعني لو سألته الطلاق فقال لها لك ما طلبت لزمه ما نوى، أو قال أنت طالق لزمه، أو أشار لها بإصبع أو أصابع أو بغيرها مما يفهم أنه أراد الطلاق لزمه ما أشار، أو كتب كتاباً وأرسل إليها فوصل لزمه ما كتب. قال الدردير في أقرب المسالك: ولزم بالإشارة المفهمة وبمجرد إرساله وكتابته عازماً، وإلا فبإخراجه عازماً، أو وصوله لا بكلام نفسي أو فعل إلا أن يكون عادتهم اهـ. ومثله في المختصر، قال الشارح من المدونة، قال مالك: من قال لرجل أخبر زوجتي بطلاقها أو أرسل إليها بذلك رسولاً وقع الطلاق حين قوله للرسول، بلغها الرسول أو لم يبلغها ذلك وكتمها. وإن كان ليشاور نفسه ثم بدا له فذلك له، ولا يلزمه طلاق. قال ابن القاسم: ولو أخرج الكتاب من يده عازماً وقد كتبه غبر عازم لزمه حين أخرجه من يده، وإن كان أخرجه غبر عازم فله رده ما لم يبلغها، فإن بلغها لزمه اهـ المواق. وعبارة صاحب العزية أنه قال: وأما ما يقوم مقام اللفظ فأنواع: منها الإشارة المفهمة وهي معتبرة من الأخرس في الطلاق قلت: روى الباجي: إشارة السليم بالطلاق برأسه أو بيده كلفظه لقوله تعالى: {ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً} {آل عمران: 41} كما في المواق. ثم قال: ومنها كتابة الطلاق من القادر على النطق، فإن كتب الكتاب بالطلاق وهو عازم على الطلاق وقع عليه ما كتبه، وإن كتبه غير عازم فله رده ما لم يبلغ المرأة فيلزمه، ولو عقد الطلاق بقلبه جازماً من غير تردد ففي وقوع الطلاق عليه بمجرد ذلك روايتان اهـ.

قال رحمه الله تعالى: " ويسري بإضافته إلى أبعاضها ويكمل مبعضه " يعني إذا طلق الزوج بعض زوجته كيدها أو شيء من جسدها متصل بها كشعر فإن الطلاق يسري إلى جميعها، أو أوقع بعض الطلاق كنصفه أو ثلثه فإنه يكمل عليه طلقة كاملة. قال الدردير في أقرب المسالك: ولزم واحدة في ربع طلقة أو ثلثي طلقة أو نصفي طلقة أو ثلث وربع طلقة أو ربع ونصف طلقة واثنتان (أي ولزم) اثنتان في ثلث طلقة وربع طلقة أو ربع طلقة ونصف طلقة، والطلاق كله إلا نصفه، وواحدة في اثنتين إن قصد الحساب وإلا فثلاث إلخ، فقد وضح الجزيري في ذلك بقوله: وإذا جزأ عدد الطلاق كما إذا قال لها أنت طالق نصف طلقة أو جزء طلقة لزمه طلاق كامل، ولو قال لها أنت طالق نصف طلقتين لزمته طلقة واحدة لأن نصف الطلقتين طلقة كاملة ومثله ذلك ما إذا قال لها أنت طالق نصفي طلقة فإنه يقع به واحدة لأن النصفين طلقة كاملة فإذا زادت الأجزاء عن طلقة لزمه طلقتنا أو أكثر بحسب زيادة الأجزاء فإذا قال لها أنت طالق نصف وثلثا طلقة لزمه طلقتنا لأن النصف والثلثين أكثر من الواحدة، ومثل ذلك ما إذا قال لها أنت طالق ثلاثة أنصاف طلقة لأن ثلاثة أنصاف طلقة تشتمل على طلقة ونصف فيقع بها اثنتان لأن الجزء يقع به واحدة كاملة، وكذا إذا قال لها أنت طالق أربعه أثلاث طلقة لأن أربعة أثلاث تشتمل على واحدة وثلث وهكذا اهـ. انظر باقي الأمثلة في الفقه على المذاهب. وقد تقدم لنا بعض هذه المسألة في الطلاق البدعي وهي من المحظورة لأنها يؤدب فاعلها. قال خليل: وأدب المجزئ كمطلق جزء وإن كيد اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والشك في عدده يلزم أكثره على المشهور " يعني كما في القوانين لابن جزي: وإن تيقن الطلاق وشك في العدد لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره لأنها تحتمل ثلاثاً خلافاً لهما اهـ. قال خليل: وإن شك أطلق واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً لم تحل إلا بعد زوج، وصدق إن ذكر في العدة، ثم إن تزوجها وطلقها فكذلك إلا أن

يبت اهـ. قال المواق: نص المدونة: من لم يدر كم طلق أواحدة أم أثنتين أم ثلاثاً فهي ثلاث، فإن ذكر في العدة أنها أقل فله الرجعة، وإن ذكر ذلك بعد كان خاطباً من الخطاب ويصدق في ذلك، وإن بقي على شكه حتى تزوجها بعد زوج ثم طلقها واحدة أو أثنتين لم تحل له إلا بعد زوج، وكذلك بعد ثان وثالث مائة زوج، إلا أن يبت طلاقها وهي تحته في أي نكاح كان فتكون إن رجعت إليه على ملك مبتدأ اهـ. قال الصاوي: تنبيه إن شك أطلق زوجته طلقة طلقة واحدة أو أثنتين أو ثلاثاً لم تحل له إلا بعد زوج لاحتمال كونه ثلاثاً، ثم إن تزوجها بعد زوج وطلقها طلقة أو اثنتين فلا تحل له إلا بعد زوج لاحتمال أن يكون المشكوك فيه اثنتين وهذه ثالثة، ثم إن تزوجها بعد زوج وطلقها لا تحل له إلا بعد زوج لاحتمال أن يكون المشكوك فيه واحدة وهاتان اثنتان محققتان، ثم إن تزوجها بعد زوج وطلقها ثالثة لم تحل له إلا بعد زوج لاحتمال أن يكون المشكوك فيه ثلاثاً وقد تحقق بعدها ثلاث وهكذا لغير نهاية إلا أن يبت طلاقها كأن يقول أنت طالق ثلاثاً، أو إن لم يكن طلاقي عليك ثلاثاً فقد أوقعت عليك تكملة الثلاث فينقطع الدور وتحل له بعد زوج، وتسمى هذه المسألة الدولابية لدوران الشك فيها كما في خليل وشراحه اهـ. وإلى هذه المسألة أشار رحمه الله تعالى بقوله: " وكلما عادت إليه بعد زوج وطلقها واحدة لم تحل له إلا بمحلل إلا أن يرسل الثلاث دفعة " فتحصل أنها إذا كانت في عصمته وأبت طلاقها ثلاثاً ثم تزوجها بعد زوج فتحل له بعصمة جديدة كاملة، فتبين أنه كلما بت طلاقها، ولم يكن معه شك في وقوع الثلاث فإنها تحل له بعد زوج بعصمة جديدة، وثبت أن شروط الدور في هذه المسألة عدم زوال شكه وعدم بت طلاقها، فإذا زال شكه وأبت طلاقها لم يكن في المسألة إشكال ولا دوران. قال في جواهر الإكليل: إلا أن يبت الزوج الشاك طلاقها حقيقة بأن يطلقها ثلاثاً أو حكماً بأن يقول لها: إن لم تكوني مطلقة ثلاثاً طلقتك ما يكملها وهي في عصمته فينقطع الدوران وتحل له بعد زوج بعصمة كاملة اهـ. ومثله في حاشية الخرشي.

قال رحمه الله تعالى: " وقيل تحل بعد ثلاثة أنكحة " هذا مقابل المشهور فتأمل. ثم قال رحمه الله تعالى: " ولا يهدم الثاني ما دون الثلاث " يعني أن الزوج الثاني لا يهدم طلاق الزوج الأول ما لم يكن ثلاثاً. والمعنى لا يهدم طلقة ولا طلقتين. قال ابن جزي في القوانين: من طلق طلقة واحدة أو اثنتين فنكحها زوج غيره ودخل بها ثم نكحها الأول بني على ما كان من عدد الطلقات، فلو طلقها ثلاثاً ثم نكحها بعد زوج غيره استأنف عدد الطلقات كنكاح جديد، لأن الزوج الثاني لا يهدم ما دون الثلاث، ويهدم الثلاث. وقال أبو حنيفة: يهدم مطلقاً اهـ. وحاصل فقه المسألة ـ كما هو مشهور المذهب - أن الزوج الثاني لا يهدم ما دون الغاية من الطلاق، فإذا طلق رجل زوجته المدخول بها طلقة واحدة فله مراجعتها بدون عقد وبدون رضاها ما دامت في العدة كما تقدم في الرجعية، وإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها فقد بانت عنه وله تزوجها بعقد جديد، وإن لم يتزوجها فتزوجت بغيره ثم طلقها الغير أو مات عنها فتزوجها الأول ثم طلقها ثانياً حسب عليه طلاقه الأول ولو كان بين طلقتين مدة طويلة وله مراجعتها إن شاء كذلك ما دامت في العدة، فإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها فقد بانت عنه فله تزوجها أيضاً بعقد جديد، فإن تزوجت بغيره وطلقها الغير أو مات عنها وتزوجها الأول، ثم إن طلقها طلاقاً ثالثاً قد تمت العصمة وليس له مراجعة فتحرم عليه إلا بعد زوج. وذلك هو معنى قولهم. لا يهدم الثاني ما دون الثلاث. وأما لو طلقها ثلاثاً في أول مرة لكانت بائنة بينونة كبرى فليس له فيها مراجعة حتى تنكح زوجاً غيره بشروطه كما في الآية. ثم إن تزوجها بعد زوج فترجع إليه بعصمة كاملة جديدة وهكذا. ثم قال رحمه الله تعالى: " فمن طلق زوجته مبهمة لزمه في الجميع " يعني فمن طلق زوجة من زوجاته مبهمة ولم يعينها لزمه طلاق الجميع. قال الدردير: ولو شك هل طلق واحدة أي من نسائه أو أكثر فالجميع، أي يطلقن عليه كأن قال: إحداكن طالق ولم ينو

معينة أو عينها ونسيها، فالجميع على المشهور. قال الصاوي: مسألة لو كان لرجل أربع زوجات رأى إحداهن مشرفة من طاقة فقال لها: إن لم أطلقك فصواحباتك طوالق فردت رأسها ولم يعرفها بعينها وأنكرت كل واحدة منهن أن تكون هي المشرفة فيلزمه طلاق الأربع، كما أفتى به ابن عرفة. والصواب ما أفتى به تلميذه الأبي، أن له أن يمسك واحدة ويلزمه طلاق ما عداها، لأنه إن كانت التي أمسكها هي المشرفة فقد طلق صواحباتها وإن كانت المشرفة إحدى الثلاث اللاتي طلقهن فلا حنث في التي تحته كذا في الحطاب. وأما لو قال: المشرفة طالق وجهلت طلق الأربع قطعاً، كما في البدر القرافي اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فلو كانت أجنبية فادعى إرادة الأجنبية لزمه " يعني إذا علق الطلاق على أجنبية بأن طلقها فادعى إرادة إن تزوجها فهي طالق لزمه الطلاق بوقوع العقد على المذهب، وعليه نصف المهر، فإن دخل بها جهلاً لزمه جميعه. قال في أقرب المسالك مشبهاً بلزوم التعليق: كقوله لأجنبية: إن فعلت فأنت طالق ونوى بعد نكاحها، أو قال عند خطبتها هي طال تطلق عقبه وعليه النصف، وتكرر إن قال كلما تزوجتك إلا بعد ثلاث مرات، فإن تزوجها ثلاث مرات لزمه النصف في كل مرة، فإن عقد عليها بعد ذلك قبل زوج لم يلزمه شيء، لأن عقده لم يصادف محلاً اهـ. انظر شراح خليل. قال رحمه الله تعالى: " فلو نادى معينة فأجابته غيرها فقال أنت طالق يظنها المناداة لزمه فيهما " يعني إذا نادى زوجته المعينة فأجابته زوجته الأخرى فطلقها يظن أنها المناداة لزمه طلاقهما مطلقاً على ما مشى عليه المصنف، وهو كذلك، لكنه على التفصيل قال خليل عاطفاً على عدم اللزوم: أو قال لمن اسمها طالق يا طالق، وقبل منه في طارق التفات لسانه، أو قال يا حفصة فأجابته عمرة فطلقها، فالمدعوة وطلقتا مع البينة. قال الخرشي قوله يا حفصة إلخ يعني أن من له زوجتان إحداهما اسمها حفصة والأخرى اسمها عمرة فقال:

يا حفصة فأجابته عمرة فأوقع الطلاق عليها وقال لها: أنت طالق يظنها حفصة، فإنه لا يخلو حاله من أنه يكون على لفظ بينة أو لا، فإن لم تكن عليه بينة بل جاء مستفتياً فإن حفصة تطلق فقط وهي المدعوة، وإن كان على لفظه بينة فإنهما يطلقان معاً حفصة بقصده وعمرة بلفظه اهـ. قال الصاوي: تنبيه: لا يلزمه شيء لا في الفتوى ولا في القضاء لو قال لمن اسمها طالق: يا طالق، وقبل منه في طارق التفات لسانه في الفتوى دون القضاء، أو قال يا حفصة فأجابته عمرة فقال لها: أنت طالق يظنها حفصة فتطلق حفصة في الفتوى والقضاء، وأما المجيبة فتطلق في القضاء دون الفتيا اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولا لغو في يمين الطلاق، ولو حلف على فعل شيء وطلق قبله ثم عادت إليه عاد اليمين ما بقى طلقة من النكاح الأول " يعني لا يدخل لغو في يمين طلاق، كما لا يدخل في العتق، لو علق طلاق زوجته على فعل شيء كدخول البيت وطلقها رجعياً قبل الفعل ثم راجعها ولو بعد زوج عاد اليمين ما بقي من هذه العصمة شيء لأن نكاح الأجنبي لا يهدد العصمة السابقة ما بقي منها شيء كما تقدم. أما لو أبانها بالثلاثثم تزوجها بعد زوج ففعلت المحلوف عليه لم يحنث لأن العصمة المعلق فيها قد زالت بالكلية ولو كانت يمينه بأداة تكرار، قاله الدردير. وقال أيضاً في أقرب المسالك: واعتبر في ولايته عليه حال النفوذ فلو فعلت المحلوف عليه حال بينونتها لم يلزم، فلو نكحها ففعلته حنث إن بقي له من العصمة المعلق فيها شيء اهـ. ومثله في المختصر. وقوله: على فعل شيء سواء كان فعلها أو فعل غيرها. قال الدردير: وكذا من حلف على فعل غيرها كدخول زيد أو دخوله هو فدخل حال بينونتها لم يلزم الطلاق لأنهم اعتبروا في نفوذ الطلاق أن تكون هي في ولايته، وإلا فلا يلزمه شيء. قال ابن القاسم: من حلف لغريمه بالطلاق الثلاث ليقضينه حقه وقت كذا فقبل مجيء الوقت طلقها طلاق الخلع لخوفه من مجيء الوقت وهو معدم أو قصد عدم القضاء في الوقت لا يلزمه الثلاث، ثم بعد ذلك يعقد عليها برضاها بربع دينار اهـ. انظر شراح خليل.

قال رحمه الله تعالى: " ثم المطلق المسلم المكلف المتعقل المختار " يعني أن للمطلق شروطاً أربعة. قال ابن جزي: فأما المطلق فله أربعة شروط: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والطوع. يعني أنه لا يصح طلاق الكافر كما لا يصح نكاحه، وكذا لا يصح طلاق المجنون ولا طلاق الصبي غير البالغ، وللوصي أن يطلق زوجة الصبي لمصلحة، وكذلك لا يلزم طلاق المكره بشيء مؤلم كالضرب الشديد. وقد ذكرنا في بدر الزوجين ما حاصله واعلم أن الصبي لا يوقع الطلاق بنفسه، وإن وقع منه لم يصح، وكذلك المجنون المطبق، والسكران بالحلال، ولا يصح طلاقهما، وكذا المكره لا يصح طلاقه مطلقاً. وسئل مالك عن طلاق المجنون هل يجوز؟ قال إذا طلق في حال يختنق فيه فطلاقه غير جائز، وإذا طلق إذا انكشف عنه فطلاقه جائز. وسئل عنه أيضاً عن طلاق المعتوه، قال: لا يجوز طلاقه على حال لأن المعتوه إنما هو مطبق عليه ذهاب العقل، والمعتوه والمجنون والمطبق شيء واحد. وسئل ابن القاسم أيجوز طلاق الصبي في قول مالك: قال: قال لي مالك: لا يجوز طلاق الصبي حتى يحتلم اهـ المدونة. وأما السفيه الضعيف العقل فطلاقه جائز نافذ، وكذلك من سكر بحرام اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وإشارة الأخرس به كالنطق " يعني أن الإشارة من الأخرس كنطقه، وتقدم من قول المصنف وإشارة مفهمة لزمه. وقال بعض شراح المدونة: وأما الأخرس فطلاقه جائز اتفاقاً لأنه قادر على الإشارة والكتابة، فإن أشار بما يفهم أو كتب كتاب الطلاق فإنه يلزمه ما نواه وتحمل على ذلك اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولو ثبت بشهادة عدلين وأختلفا في عدده فقال أحدهما ثلاثاً والآخر اثنتين أو واحدة لزم ما اتفقا عليه " هذه المسألة لها احتمالان: الأول: يحتمل أن يكون الاختلاف من الزوجين فيكون الحكم كما قال خليل في الخلع: والقول قوله إن اختلفا في العدد، أي في عدد الطلاق كما في شراحه. والثاني: يحتمل أن يكون الاختلاف

من الشاهدين العدلين فيكون المعنى حينئذ إذا طلق رجل زوجته وشهد عليه بذلك عدلان، ثم إنهما اختلفا بينهما في عدد الطلاق قال أحدهما: ثلاثاً وقال الآخر: طلقها اثنتين أو واحدة فيلزم الزوج ما اتفقا عليه وهو الاثنتان على هذا المثال أو واحدة على آخر والأحوط الأخذ بالثلاث. وفي تبصرة القاضي ابن فرحون المدني نحو هذا المعنى، وهي لو شهد هؤلاء الأربعة عليه بلفظة واحدة في مجلس واحد فشهد اثنان أنه قال امرأته طالق ثلاثاً، وقال الأخران بل إنما قال امرأته طالق واحدة أخذ بقول الذين شهدوا على الثلاث، ولا يلتفت إلى خلافهم إذا كانا عدلين اهـ. انظر نظائرها في الباب الحادي والثلاثين من التبصرة. قال رحمه الله تعالى: " ولو أبانها مريضاً لزمه وورثته وإن مات بعد العدة أو تزوجت " يعني كما في الرسالة، ونصها ولو طلق المريض امرأته لزمه ذلك، وكان لها الميراث منه إن مات في مرضه ذلك أي الذي طلق فيه معاملة له بنقيض قصده، وسواء كانت مدخولاً بها أم لا. قال خليل: ونفذ خلع المريض وورثته دونه، إلى أن قال: ولو تزوجت غيره وورثت أزواجاً وإن في عصمة. وأما لو صح من مرضه صحة بينة ثم مات فلا ميراث لها، كما أن المرأة لو ماتت في زمن مرضه لم يرثها اهـ مع طرف من النفراوي. ولما أنهى الكلام على الطلاق غير المعلق ولا مقيد بشيء انتقل يتكلم على بيان أحكام التعليق فيه والتنجيز وعدمه وغير ذلك مما يأتي بيانه عن قريب إن شاء الله تعالى، فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ أي فيما يتعلق ببيان التعليق في الطلاق. قال ابن جزي: والطلاق على نوعين: معجل ومعلق، فالمعجل ينفذ في الحين، وأما المعلق فهو الذي يعلق إلى زمن مستقبل أو وقوع صفة أو شرط، وهو على سبعى أقسام. ثم قال: الأول وعدها سبعة، وذكرها وأمثلتها انظره إن شئت.

قال رحمه الله تعالى: " ينجز بتعليقه على متحتم كطلوع الفجر والشمس ورأس الشهر وهو المشهور في غالب الوقوع كطهر الحائض وعكسه " يعني ينجز الطلاق إن علقه على شيء محقق الوقوع كطلوع الفجر، أو بزوغ الشمس، أو مجيء رأس الشهر أو السنة أو طهر الحائض وعكسه، هذا لغير آيسة فيقع حالاً حين التعليق لتحقق المعلق عليه غالباً. قال في أقرب المسالك: ونجز في الحال إن علق بمستقبل محقق عقلاً كإن تحيز الجرم، أو إن لم أجمع بين الضدين أو عادة يبلغه عمرهما عادة كبعد سنة، أو يوم موتي، أو قبله بساعة أو إن أمطرت السماء، أو إن لم أمس السماء، أو إن قمت في كل ما لا صبر عنه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولو علقه على موته أو موتها فروايتان باللزوم منجزاً أو نفيه " والمشهور من الروايتين اللزوم منجزاً. قال في الجواهر: أو قال: أنت طالق يوم موتي أو موتك فينجز عليه حين قوله: وكذا قبل موتي أو موتك بيوم أو شهر فينجز عليه وقت تعليقه لأنه أشبه نكاح المتعة في جعل حلها إلى وقت يبلغه عمرهما ظاهراً اهـ. قال رحمه الله تعالى: " كتعليقه على مشيئة من لا مشيئة له " يعني هذا التشبيه مفرع من قوله: فروايتان باللزوم منجزاً أو نفيه، وتقدم أن المشهور تنجيزه. قال ابن جزي في القوانين: فإن علقه بمشيئة من لا مشيئة له كالبهائم والجمادات فيقع الطلاق في الحين لأنه يعد هازلاً اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويتنجز بمشيئة الله تعالى " يعني أن من علق طلاق زوجته بمشيئة الله تعالى ينجز عليه الطلاق. قال ابن جزي: الخامس أن يعلقه بمشيئة الله تعالى فيقول: أنت طالق إن شاء الله تعالى فيقع الطلاق ولا ينفع هذا الاستثناء خلاقاً لهما اهـ. قوله لا ينفع إلخ ومثله في الصاوي. ونصه: ولأن مشيئة الله تعالى لا تنفع في غير اليمين بالله كما مر في باب

اليمين. ثم قال: وقد تبع المصنف خليلاً، إلى أن قال: فمحصل الجواب أنه لا يمكن الاطلاع على ذات الله في الدنيا، ولا على تعلق إرادته لأن قدر الله لا اطلاع لأحد عليه ما دامت الدنيا اهـ. فراجعه إن شئت. ثم قال رحمه الله تعالى: " ويصح استثناء أكثره وأقله لا المستغرق " يعني يصح استثناء أكثر الطلاق كما يصح استثناء أقله. أما الأكثر نحو قوله: أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين فيلزمه واحدة، أو قال أنت طالق اثنتين إلا واحدة فكذلك، ومثله أنت طالق إلا نصف أو إلا ربع أو إلا ثلث فيلزمه طلقة واحدة كما تقدم. وأما المستغرق فلا يصح منه الاستثناء. قال المصنف رحمه الله تعالى " وقوله أنت طالق أربعاً إلا ثلاثاً مستغرقاً " فيلزمه الثلاث على الأرجح باعتبار اللفظ على ما زاد على الثلاث. قال في أقرب المسالك: واعتبر ما زاد على الثلاث. وقال خليل: وفي إلغاء ما زاد على الثلاث واعتباره قولان: قال الخرشي: يعني أن ما زاد على الثلاث هل يلغى فلا يستثنى منه لأنه معدوم شرعاً، أو هو معتبر فيصح الاستثناء منه، وإن كان معدوماً شرعاً لأنه موجود لفظاً، فإذا قال لها أنت طالق خمساً إلا اثنتين فإن اعتبر ما زاد على الثلاث فيلزمه الطلاق الثلاث لأنه أخرج من الخمس اثنتين وإن لم يعتبر ما زاد على الثلاث فيلزمه طلقة واحدة، فكأنه قال انت طالق ثلاثاً إلا اثنتين، والقولان لسحنون، ورجع للقول باعتبار، واستظهره ابن رشد وابن عبد السلام وتبعه المؤلف يعني خليلاً ومنه يعلم أرجحيته اهـ. ومثله في الإكليل. وقال الدردير: فمن قال أنت طالق أربعاً إلا اثنتين لزمه اثنتان باعتبار لفظه الزائد على الثلاث، أو قال أنت طالق أربعاً إلا ثلاثاً لزمه واحدة كذلك أي باعتبار لفظه الزائد على الثلاث، ومن قال أنت طالق خمساً إلا ثلاثاً لزمه اثنتان باعتبار لفظه الزائد على الثلاث، ومثله من قال أنت طالق ستاً إلا أربعاً لزمه اثنتان كذلك، هذا في جميع الأمثلة الأربعة باعتبار الزائد على

الثلاث. وقيل لا يعتبر الزائد على الثلاث لأنه معدوم شرعاً فهو كالمعدوم حساً، فيلزمه في المثال الأول واحدة أي طلقة واحدة، وفي المثال الثاني ثلاثة، أي وفي المثال فيلزمه طلاق ثلاث لأنه كان استثنى ثلاثاً من ثلاث فيلغى الاستثناء للاستغراق، وكذا في المثال الثالث والرابع أي فيلزمه ثلاثة اهـ. مع زيادة إيضاح. وأما شروط الاستثناء فقد تقدم في باب الأيمان. قال الدردير هنا: وصح الاستثناء بإلا وأخواتها ولو سراً إن اتصل وقصد ولم يستغرق اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولو علقة في امرأة على نكاحها للزم بالعقد وله نكاحها إلا أن يقول كلما ولو عم لم يلزمه " يعني إن قال كلما تزوجتك فأنت طالق فيقع الطلاق بمجرد عقده إلا بعد ثلاث مرات قبل زوج فلا ينعقد كما تقدم لنا الكلام في هذه المسألة عند قوله: فلو كانت أجنبية فادعى إرادة الأجنبية لزمه إلخ فراجعه إن شئت. أما قوله ولو عم لم يلزمه قال خليل: لا إن عم النساء أو أبقى قليلاً ككل امرأة أتزوجها إلا تفويضاً أو من قرية صغيرة أو حتى أنظرها فعمي أي لم يلزمه الطلاق في جميع ذلك وعبارة الدردير أنه قال: إلا إذا عم النساء في تعليقه كأن قال كل امرأة أتزوجها أو إن دخلت الدار فكل امرأة أتزوجها فهي طالق ثم دخل فلا يلزمه شيء للحرج والمشقة بالتضييق والأمر إذا ضاق اتسع أو أبقى قليلاً من النساء ككل امرأم أتزوجها فهي طالق أو إن فعلت كذا فكل امرأة أتزوجها طالق إلا من قرية كذا وهي أي القرية صغيرة قال أبو الحسن والصغيرة هي التي لا يجد فيها ما يتزوج بها أي ما شأنها ذلك لصغرها بخلاف الكبيرة كالقاهرة أو إلا تفويضاً لأن نكاح التفويض قليل جداً بالنسبة لنكاح التسمية إلى آخر ما قال في أمثلته فراجعه إن شئت وأشار رحمه الله تعالى في ذلك بقوله: " بخلاف تعليقه بقبيلة أو بلد أو نوع بعينه " أي فيلزمه الطلاق إن تزوج من تلك القبيلة أو ما عطف عليها لجواز تزوجه من غيرها ولما أنهى الكلام على التعليق في الطلاق انتقل يتكلم على أحكام الخلع،

وهو طلاق بعوض غالباً. ويسمى خلعاً وفداء وبراءة. قال بعض المحققين: الخلع لغة الإزالة والإبانة، من خلع الرجل ثوبه أزاله وأبانه عنه. والزوجان كل منهما لباس لصاحبه. قال تعالى: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} {البقرة: 187} فإذا فارقها كأنه نزعها عنه. ولما كان في نظير عوض ناسبه أن يسمى بهذا الاسمأكثر من غيره. اهـ والخلع يتنازل به عن الحقوق اللازمة بين الزوجين، وحكمه الجواز كما يأتي في بعض الشراح. قال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ أي في بيان ما يتعلق بأحكام الخلع، وشروطه كشروط دافع العوض وغيره. قال الله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت} {البقرة: 229} وثبت من حديث حبيبة بنت سهل الأنصاري أنها اختلعت من زوجها ثابت بكل ما أصدقها، وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الموطأ والصحيحين. قال رحمه الله تعالى: " الخلع طلاق بعوضتبذله هي أو غيرها فيلزم " يعني أن الخلع طلاق يلزم بدفع العوض سواء كان الدافع زوجة أو غيرها كالولي، بشرط أن يكون الدافع حراً رشيداً مكلفاً غير محجور عليه، وبشرط ويشتد أن تكون الزوجة غير مظلومة وإلا رجعت به وبانت عنه. قال في الرسالة: والخلع طلقة لا رجعة فيها وإن لم يسم طلاقاً إذا أعطته شيئاً فخلعها به من نفسه. وفيها أيضاً وللمرأة أن تفتدى من زوجها بجميع صداقها أو أقل أو أكثر إذا لم يكن عن ضرر بها، فإن كان عن ضرر بها رجعت بما أعطته ولزمه الخلع اهـ. وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله: " ويجب دفع العوض إلا أن تبذله لتتخلص من شره فيحرم قبضه ويلزم رده ط يعني يجب دفع ما اتفقا عليه من المال إن لم يكن عن ضرر بها كما في الرسالة. وقال في أقرب المسالك: وشرط باذله الرشد وإلا رد

المال وبانت ما لم يعلق بكإن تم لي أو صحت براءتك فطالق اهـ. قال النفراوي: ومثل دفع العوض لو وقع من المرأة إبراء ولو جهلت ما أبرأت منه، ولا يتوقف على حكم حاكم، وكذا لا يتوقف على كون العوض من الزوجة بل ولو من وليها أو أجنبي، لكن لا يستقر ملك الزوج عليه إلا إذا كان دافعه رشيداً، لا إن كان دافعه سفيهاً أو صغيراً أو رقيقاً فلا يستقر ملكه عليه وإن وقع الطلاق بائناً اهـ. ومثله في الشرنوبي على العزبة. قال رحمه الله تعالى: " ويصح على الصداق وأكثر وأقل " يعني يصح الخلع بقدر ما أعطاها من الصداق أو أكثر أو أقا منه كما تقدم. قال مالك: لا بأس بأن تفتدي المرأة من زوجها بأكثر مما أعطاها اهـ. وقال أيضاً: من قال لرجل طلق امرأتك ولك ألف درهم ففعل لزم الألف ذلك الرجل اهـ المدونة. قال رحمه الله تعالى: " وعلى المجهول والغرر، فإن سلم فهو له وإلا لزم الطلاق دونه كالمحرم " يعني أنه يجوز الخلع على الشيء المجهول وعلى الغرر، كما إذا خالعته على ما في هذه الصورة فإذا هي فارغة أو فيها غير متمول، أو على ما في بطن هذه الأمة فيصح الخلع بذلك، فإن سلم الذي وقع به الخلع فهو له وإلا لزم الطلاق البائن دون العوض. وكذا يقع الخلع دون العوض إن وقع بما لا يجوز تملكه لمسلم كالخمر والخنزير. قال ابن جزي: ولا يجوز الخلع إلا بثلاثة شروط: الأول: أن يكون المبذول للرجل مما يصح تملكه وبيعه، تحرزاً من الخمر والخنزير وشبه ذلك، ويجوز بالمجهول والغرر خلافاً لهما إلخ. قال الدردير عاطفاً على الجائزات: وبالغرر كجنين وآبق وغير موصوف، وله الوسط منه. قال الخرشي: يعني أنه يجوز للمرأة أن تخالع زوجها بما في بطن أمتها، ومثله الآبق والشارد والثمرة التي لم يبد صلاحها، وبحيوان وعوض غير موصوف، أو بأجل مجهول، وللزوج عليها الوسط من جنس ما وقعت المخالعة به لا من وسط ما يخالع به الناس، ولا يراعى في ذلك حال المرأة. وإذا انفش الحمل الذي وقع الخلع عليه فلا شيء للزوج لأنه

مجوز لذلك والطلاق بائن. وكذلك يصح الخلع على نفقة حمل إن كان، يعني يجوز للمرأة أن تخالع زوجها على أن تنفق هي على نفسها مدة حملها إن كان بها حمل، فإن أعسرت أنفق هو عليها ويرجع إن أيسرت، ويجوز الخلع بالإنفاق على ولدها منه أو ما تلده مدة الرضاع أو أكثر، ولا تسقط به نفقة الحمل على الأصح لأنهما حقان كالعكس، وكذلك يجوز الخلع على أن تنفق على الزوج أو غيره وإن مع الإرضاع مدة معينة. وكذا يجوز اجتماع الخلع مع البيع وغيره، بخلاف اجتماعه مع النكاح فإنه لا يجوز كما تقدم اهـ مع إيضاح. قال رحمه الله تعالى: " ومن المريضة إلى قدر ميراثه وقيل قدر ثلثها " يعني يصح الخلع من المريضة إلى قدر ما يرثه منها. وقيل قدر ثلث مالها يوم موتها لا يوم الخلع، فيوقف جميع ما خالعت به إلى موتها لينظر هل هو قدر إرثه أو أقل فيأخذه وما زاد فيرده. قال في أقرب المسالك: ولا يجوز خلع المريضة إن زاد على إرثه منها ورد الزائد، واعتبر يوم موتها ولا توارث اهـ. انظر بقية الأمثلة التي يجوز أن تخلعه بها في المطولات هناك زيادة على ما أتينا به والله أعلم. ولما أنهى الكلام على ما يتعلق بالخلع انتقل يتكلم على أحكام التفويض بالطلاق وهو التمليك والتخيير والتوكيل فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ أي في بيان تفويض الطلاق للمرأة تمليكاً وتخييراً أو توكيلاً نيابة عن الزوج وفي كل من هذه الأنواع الثلاثة أحكام وشروط وتفصيل كما يأتي. قال العلامة الشيخ عبد الرحمن الجزيري في الفقه: والفرق بين التوكيل وبين التخيير والتمليك أن الوكيل يعمل على سبيل النيابة عن موكله والمملك والمخير يفعلان عن نفسهما لأنهما قد ملكا

ما كان الزوج يملكه. والفرق بين التخيير والتمليك أن التخيير يجعل للمخيرة الحق في إنشاء الطلاق الثلاث وإن لم ينو الزوج بها الثلاث سواء جعله بيد الزوجة أو غيرها، أما التمليك فإنه يجعل للغير الحق في ثلاث راجحاً، ولكن يخص ما دون الثلاث بالنية، فإذا ملك الزوج امرأته الطلاق فطلقت نفسها اثنتين أو ثلاثاً وقال: نويت تمليكها واحدة فإنه يسمع منه بالشرائط الآتية. وأما إذا خيرها وكانت مدخولاً بها فطلقت نفسها ثلاثاً وقال إنني نويت واحدة أو ثنتين فلا يسمع قوله اهـ بتصرف. وبدأ بالتمليك فقال رحمه الله تعالى: " يفوض إلى المرأم طلاقها تمليكاً " يعني كما قال الدردير في أقرب المسالك، ونصه: وللزوج تفويض الطلاق لها أو لغيرها توكيلاً وتمليكاً وتخييراً، فإن وكل نحو وكلتك أو جعلته أو فوضته لك توكيلاً فله العزل إلا لتعلق حقها، وإذا تعلق لها حق فليس له حينئذ عزلها. ثم قال: والتفويض كالجنس تحته ثلاثة أنواع: التوكيل، والتخيير، والتمليك. فالتوكيل جعل إنشاء الطلاق لغيره باقياً منع الزوج منه كما قال ابن عرفة، أي لأن الموكل له عزل وكيله متى شاء، أي قبل إيقاع الفعل لأن الوكيل يفعل ما وكل فيه نيابة عن موكله. والتخيير جعل إنشاء الطلاق ثلاثاً صريحاً أو حكما حقاً لغيره، مثال الحكمي اختارني أو اختاري نفسك، والتمليك جعل إنشائه حقاً لغيره راجحاً في الثلاث، ومن صيغه جعلت أمرك وطلاقك بيدك. انظر ما نقلهبعضهم عن القرافي من تغيير الأحكام بتغيير العرف فهو وجيه كما تقدم. قال رحمه الله تعالى: " فإن أجابت بقبول أو رد عمل عليه " يعني أن المملكة والمخيرة إذا أجابت بجواب صريح في الطلاق فإنه يعمل به. قال في المتيطية: فإذا لفظ بالتمليك فلا تخلو المملكة من أن تجيب الطلاق في واحدة، أو في البتات، أو بلفظ يدل عليه، أو بجواب يحتمل أن تريد به بعض الطلاق أو كله أو شيئاً غيره أو تسكت عنهفأما إجابتها بصريح الطلاق الثلاث أو بلفظ يدل عليه مثل أن تقول قبلت نفسي،

أو اخترتها، أو أبنتها، أو حرمتها فينفذ عليه إن سكت أو أنكره ولم يدع نية، ولا تحل له أبداً إلا بعد زوج، ولا يلتفت إلى قولها إنها أرادت به واحدة، وأما إجابتها بلفظ يشكل فلا يدرى أرادت به الطلاق كله أو بعضه أو لم ترد به شيئاً فإنها تسأل، وكذلك إن قالت ـ وهي غير مدخول بها _: خليت سبيلك فإنها تسأل كم أرادت اهـ قاله الحطاب نقلاً عن المتيطية. وأما الرد كذلك يعتبر فيه بقولها أو فعلها فيعمل به سواء كانت المملكة أو المخيرة، كقولها رددت إليه ما جعلته لي أو لا أقبله. 2 قال في أقرب المسالك: وعمل بجوابها الصريح في اختيار الطلاق ورده، كأن تقول طلقت نفسي، أو تقول في رد الطلاق: اخترتك زوجاً ورددت لك ما ملكتني، وقبل تفسيرها برد أو طلاق أو إبقاء لما هي عليه من تمليك أو تخيير فيحال بينهما وتوقف حتى تجيب بصريح وإلا أسقطه الحاكم. قال رحمه الله تعالى: " وإظهارها بالسرور اختيار وتمكينها رد " يعني أن إظهار السرور يدل على اختيارها الطلاق، كما أن تمكينها نفسها له يدل على ردها والحال أنها عالمة بالتخيير أو التمليك وإن لم يطأ بالفعل، لا إن كانت غير عالمة بما جعله لها، وأما جهل الحكم بإن لم تعلم أن التمكين مسقط لحقها فلا ينفعها، ومثلها الأجنبي فلو ملك أو خير أجنبياً فقال شأنك بها أو خلي بينه وبينها طائعاً فرد. فظهر أن تمكينها له اختياراً رد، كما أن إظهارها السرور اختيار اهـ دردير بتصرف. قال رحمه الله تعالى: " فإن أوقعت واحدة فلا مقال له، وإن طلقت ثلاثاً فله إنكارها على الفور بشرط إرادة الطلاق وما دون الثلاث وإلا لزم ما أوقعت " يعني كما قال خليل: وناكر مخيرة لم تدخل، ومملكة مطلقاً إن زادتا على الواحدة إن نواها وبادر وحلف إن دخل وإلا فعند الارتجاع اهـ. قال الخرشي: يعني أن الزوج إذا

فوض الطلاق لزوجته على سبيل التخيير قبل الدخول بها فأوقعت أكثر من طلقة فإن له أن يناكرها فيما زاد عليها، بأن يول لها ما أردت إلا طلقة واحدة، وأما بعد البناء فليس له مناكرتها كما يشير إليه بقوله الآتي ولا نكرة له إن دخل في تخيير مطلق. وأما المملكة فله أن يناكرها قبل الدخول وبعده إذا زادت على طلقة اهـ. وقوله في تخيير مطلق أما لو جعل لها عدداً مقيداً كاثنتين في المدخول بها، أو الواحدة في غيرها فلا تحكم إلا بما جعله لها. وعبارة شارح الرسالة أنه قال: فالمملكة لا تخلو حالها من أمرين لأنها إما أن تطلق واحدة أو زيادة عليها، ففي الواحدة لا مناكرة له، وفيما زاد عليها له المناكرة بشروط خمسة، وهي أن ينكر حين سماعه من غير سكت ولا إهمال، وأن يقر بأنه أراد بتمليكه الطلاق، وأن تكون مناكرته في عدده، وأن يدعي أنه نوى واحدة أو اثنتين في حال تمليكه، وأن يكون تمليكه طوعاً، وإن لم يتم هذه الشروط أو بعضها لزمه ما أوقعته المرأة كما ذكر المصتف اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فإن تفرقا قبل إجابتها أو أبهمت الجواب فله مرافعتها لتجبر على الطلاق أو الإسقاط، فإن أبت أسقطه الحاكم " قال في الرسالة: والمملكة والمخيرة لهما أن يقضيا ما دامتا في المجلس. قال النفراوي أي في المجلس الذي وقع فيه التخيير أو التمليك ما لم توقف أو توطأ فإن تفرقا بأبدانهما من غير قضاء بعد التمكن من الاختيار أو أوقفها قاض أو وطئت أو طال المجلس بحيث خرجا عما كانا فيه سقط ما بيدهما إلا أن يهرب الزوج مريداً قطع ما بيدهما قبل مضي زمان تختار في مثله ولم تختر فإنه لا يسقط خيارها. وما ذكره هو قول مالك الأول الذي رجع عنه وأخذ به ابن القاسم. قال المتيطي: وما أخذ به ابن القاسم به القضاء، وعليه جمهور أصحاب الإمام، والمرجوع إليه أنهما باقيان على ما جعل لهما ما لم يوقفا عند قاض، أو يحصل من الزوج تمكين ولو حصل مفارقة وخروج من المجلس، ومشى عليه العلامة خليل حيث

قال: ورجع مالك إلى بقائهما بيدها في المطلق ما لم توقف أو توطأ. وأخذ ابن القاسم بالسقوط. والحاصل أنهما قولان للإمام والمعتمد منهما المرجوع عنه، وجرى عليه صاحب الرسالة لأن الإمام رجع إليه آخر أمره واستمر عليه إلى أن مات، وإن كان كلام العلامة خليل موهماً عدم الرجوع إليه اهـ. النفراوي، ونحوه في الفقه للعلامة الجزيري، ونصه: هل يسقط حقها إذا قامت من المجلس أو لا؟ خلاف، فبعضهم يقول إذا خيرها تخييراً مطلقاً غير مقيد بالزمان، أو ملكها تمليكاً مطلقاً لا يبقى خيارها أو تمليكها إلا في المجلس الذي خيرها فيه. بحيث لو تفرقا بطل، على أنه إذا لم يتفرقا في المجلس ولكن مضى زمن يمكنها أن تختار فيه ولم تفعل سقط خيارها، وكذا إذا بقيا في المجلس ولكن فعلت ما يدل على الإعراض بطل خيارها، وهو الراجح. وبعضهم يقول لا يبطل تخييرها ولا تمليكها وإن طال الزمن أو تفرقا من المجلس اهـ. قال رحمه الله تعالى: " أو تخييراً فاختيارها نفسها مدخولاً بها ثلاث ولا مناكرة له فإن أوقعت دونها لم يلزم، وغير المدخول بها اختيارها واحدة، فإن زادت فله مناكرتها ولو نص على عدد لغا الزائد " يعني أن المخيرة لا تخلو إما أن تخير في العدد أو في النفس، فإن خيرت في العدد فليس لها أن تختار زيادة على ما جعل لها، وإن خيرت في النفس فإن قالت واحدة أو اثنتين لم يكن لها ذلك وبطل خيارها، وإن قالت اخترت نفسي كان ثلاثاً ولا يقبل منها إن فسرته بما دون ذلك. وفي المقدمات: وأما إن قالت أنا طالق فلا تسأل في تخيير ولا تمليك، وتكون واحدة تلزم في التمليك للزوج أن يناكرها اهـ. هذا معنى قول صاحب الرسالة: وليس لها في التخيير أن تقضي إلا بالثلاث ثم لا نكرة له فيها اهـ. وقد تقدم الكلام في غير المدخول بها عند قول خليل: وناكر مخيرة لم تدخل ومملكة مطلقاً إن زادتا على الواحدة. وأما قوله رحمه الله تعالى:

ولو نص على عدد إلخ يعني كما في الخرشي أن الزوج إذا قال لها: اختاري تطليقتين أو قال لها: اختاري في تطليقتين فاختارت طلقة واحدة فإنه يبطل ما قضت به ويستمر ما جعله لها بيدها كما في الشرح الصغير، وهو مطابق للنقل وما في تت من أنه يبطل ما بيدها ففيه نظر اهـ. وقال الحطاب: مفهوم قوله إن قضت بواحدة أنها لو قضت بأكثر مما عين لها لا يبطل ما لها من التخيير، وهو كذلك إلا أنه لا يلزمه ما عينه ويلغى ما زادته. وقال التتائي في شرحه لهذا المحل: كما إذا قال اختاري تطليقتين أو في تطليقتين فطلقت ثلاثاً ألغي الزائد، ولو قضت بواحدة بطل خيارها اهـ. وقال سيدي الشيخ أحمد زروق في شرحه لهذا المحل أيضاً: كما لو قال اختاري طلقة أو طلقتين فطلقت ثلاثاً ألغي الزائد والله أعلم اهـ. قال الدسوقي: والحاصل أنه إذا قال لها اختاري طلقة فطلقت نفسها أكثر فلا يمين عليه ويلزمه طلقة ويبطل الزائد. وإذا قال لها اختاري تطليقتين فقضت بواحدة بطل ما قضت به مع بقائها على ما جعله لها من التخيير. وأما إذا قال لها ملكتك طلقتين وثلاثاً فقضت بواحدة فلا يبطل ما قضت به. قوله: وبطل ما قضت به أي لا ما جعله لها من الاختيار فإنه مستمر بيدها لأنها لم تخرج هنا عن اختيار ما جعله لها بالكلية بخلاف ما سبق في قوله: وإن قالت واحدة إلخ. وما ذكره الدردير من بطلان ما قضت به فقط تبع فيه عبق. والذي في طفي أن الصواب بطلان ما بيدها إذا قضت بواحدة في اختياري تطليقتين أو في تطليقتين، كالتخيير المطلق إذا قضت فيه بدون الثلاث بعد البناء كما يأتي: قال بن ولم أر ما قاله عبق وهو تابع لشيخه عج اهـ. قوله: لزمه الواحدة أي وبطل الزائد. قوله: وبطل في المطلق إلخ يعني أنه إذا خيرها تخييراً مطلقاً أي عارياً عن التقيد بعدد فأوقعت واحدة أو أثنتين فإن خيارها يبطل ويصير الزوج منها كما كان قبل القول لها على المشهور بشروط ثلاثة: أن يكون تخييرها بعد الدخول بها، وأن لا يرضى الزوج بما قضت به، وأن

لا يتقدم لها ما يتم الثلاث، فإن كان التخيير قبل الدخول وقضت بواحدة لزمت، أو كان بعد الدخول ورضي بما قضت به، أو تقدم لها ما يكمل الثلاث لزم ما قضت به اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " أو توكيلاً وله عزلها ما لم تطلق " هذا معطوف على التمليك المتقدم في أول الفصل، يعني يفوض الزوج إلى المرأة طلاقها تمليكاً أو تخييراً أو توكيلاً، وله عزلها إن فوضها على الطلاق توكيلاً لأن للموكل عزل وكيله متى شاء من زوجة وغيرها قبل إيقاع ما أمر به، إلا لتعلق حق فليس له حينئذ عزلها، كما لو شرط لها أنه إن تزوج عليها فقد فوض لها أمرها أو أمر الداخلة عليها توكيلاً، لأن الحق وهو رفع الضرر عنها قد تعلق لها فليس له عزلها عنه، كما ليس له العزل عن كل وكيل غير الزوجة إذا تعلق له حق في التوكيل اهـ. قاله الدردير وغيره. ولما أنهى الكلام على التفويض في الطلاق انتقل يتكلم على الإيلاء وأحكامه من ضرب الأجل وشروط الفيئة وغير ذلك مما يتعلق بالمولي وأحكامه، فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ أي في بيان ما يتعلق بأحكام الإيلاء، وهو الامتناع من فعل الشيئ أو تركه باليمين. وقيل مطلق الامتناع، ثم استعمل فيما كان الامتناع منه بيمين. وفي بعض التقاييد الإيلاء بالمد الحلف، وهو مصدر، يقال: إلى بالمد يولي إيلاء، وألى وائتلى أي حلف. والألية بكسر اللام وتشديد الياء، والألوة بفتح الهمزة وضمها وكسرها واللام ساكنة فيهن: اليمين اهـ. قال الله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءو فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} {البقرة: 226، 227} قال مالك في الموطأ: ومن حلف أن لا يطأ امرأته يوماً أو شهراً ثم مكث حتى ينقضي أكثر من الأربعة أشهر فلا

يكون ذلك إيلاء، وإنما يوقف في الإيلاء من حلف على أكثر من الأربعة أشهر، فأما من حلف أن لا يطأ امرأته أربعة أشهر أو أدنى من ذلك فلا أرى عليه إيلاء لأنه إذا دخل الأجل الذي يوقف عنده خرج من يمينه ولم يكن عليه وقف اهـ. قال رحمه الله تعالى: " الإيلاء الشرعي الحلف بيمين يلزم بالحنث حكم على ترك وطء زوجته زيادة على أربعة أشهر " يعني الإيلاء الشرعي الذي يعتبر شرعاً هو الحلف بترك وطء الزوجة أكثر من مدة أربعة أشهر للحر، وأكثر من مدة شهرين للعبد، فإذا حلف بترك الوطء في تلك المدة لزمه الحكم بالحنث وطولب بالفيئة عما حلف عليه، فإن فاء فذلك، وإلا فلها رفعه للحاكم الشرعي ليضرب له أجل الإيلاء أربعة أشهر من يوم الحلف، فإن تم الأجل طولب بالفيئة أو الطلاق كما في الحديث. قال ابن رشد في المقدملت: الإيلاء ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم يكون مولياً من يوم حلف، وقسم لا يكون فيه مولياً إلا من يوم ترفعه امرأته إلى السلطان أو من يقوم مقامه من صلحاء البلد عند فقده وتوقفه، وقسم اختلف فيه فقيل أنه مول من يوم ترفعه إلى السلطان، فأما الذي يكون فيه مولياً من يوم حلف فهو الذي يحلف على ترك الوطء، فأما الذي لا يكون فيه مولياً إلا من يوم ترفعه فهو الذي يحلف بطلاق امرأنه أن يفعل فعلاً كدخول الدار مثلاً. وأما المختلف فيه فهو الإيلاء الذي يدخل الظهار، انظر تفصيل ذلك في المقدمات كما نقلناه في بدر الزوجين فراجعه إن شئت. قال رحمه الله تعالى: " فلها مرافعته ليؤجل تمام أربعة أشهر منذ الحلف، فإن فاء وإلا لم يلزمه طلاق بل يوقفه ليأمره بالفيئة أو الطلاق إن اختارته، فإن أبى طلق عليه طلقة رجعية، فإن فاء بعد ارتجاعها، وإلا بانت بانقضاء العدة ". وفي نسخة فلها مراجعته بالجيم، والصواب بالفاء من المرافعة لا من المراجعة، يعني فللزوجة

رفع أمرها إلى الحاكم ليأمره بالفيئة، وتحصل بمغيب الحفشة في قبل الثيب، وافتضاض البكر على وجه مباح وإن لم يفئ أجله تمام أربعة أشهر من يوم الحلف وهو أجل الإيلاء، فإذا تم الأجل أمره أيضاً بالفيئة أو الطلاق، وإن أبى طلق عليه طلقة رجعية إن شاءت المرأة، ثم إن فاء بعد الطلاق وقبل انقضاء العدة له ارتجاعها وتبين عنه بانقضاء العدة. قال في الرسالة: وكل حالف على ترك الوطء أكثر من أربعة أشهر فهو مول، ولا يقع عليه الطلاق إلا بعد أجل الإيلاء وهو أربعة أشهر للحر وشهران للعبد حتى يوقفه السلطان اهـ. قال الشارح: قوله حتى يوقفه السلطان أو القاضي ويأمره بالفيئة وهي الرجوع إلى الوطء الذي حلف على تركه فإن وطئ فلا إشكال، وإن وعد به أمهل، واختبر المرة بعد المرة باجتهاد الحاكم، فإن لم يطأ طلق عليه، كما لو لم يعد بالوطء بأن قال بلفظه لا أطأ ولا يتلوم له، فإن ادعى الوطء صدق بيمينه، فإن نكل حلفت المرأة أنه لم يطأ ويطلق عليه الحاكم إن شاءت المرأة بأن يأمرها بطلاقها، فإن لم يطلقها فهل يطلق الحاكم أو يأمرها به ثم يحكم قولان. وتقع عليه رجعية ولو حكم به الحاكم لما اشتهر في المذهب من أن الطلاق على المولي والمعسر بالنفقة رجعي. وفهم مما قررنا أن الطلاق لا يقع على المولي بمجرد انقضاء الأجل المضروب، وأن الحق للمرأة في البقاء والفراق ولو صغيرة أو سفيهة فلها إسقاط حقها في الوطء إلا أن تكون الزوجة أمة يتوقع حملها فلا بد من رضى سيدها عند إرادتها البقاء لأن له حقاً في الولد اهـ. النفراوي. وما ذكره النفراوي من قوله: إن الطلاق لا يقع على المولي بمجرد انقضاء الأجل المضروب وهو كذلك، كما نص المنصف من قوله فإن فاء وإلا لم يلزمه طلاق إلخ. هذا خلاف ما في شرح التسولي على العاصمية، ونصه: ويقع الطلاق إذا انقضى الأجل فيقال له: إما أن تفيء وإلا طلقت، فإن قال: لا أفيء طلق عليه الحاكم بلا تلوم، وفي عبد الباقي: بعد تلوم، فظهر أنه لا يقع بمجرد انقضاء الأجل إلا بعد التلوم والأمر بالفيئة وإن لم يمتثل فحينئذ يطلق عليه إن شاءت المرأة طلقة رجعية فتأمل.

قال العدوي في حاشية الخرشي نقلاً عن عب: ومن طولب بالفيئة بعد الأجل وأمر بها طلق إن قال: لا أطأ بعد تلوم، فإن لم يطلق طلق عليه الحاكم أو صالحو البلد إن لم يكن حاكم قاله في الشامل اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " وفي تارك الوطء ضراراً روايتان بتأجيله منذ المرافعة وأمره بالفرقة " يعني أن كل من ترك الوطء من غير عذر فإنه ملحق بالمولي هو ما في ابن الحاجب، وهو قول لمالك. والمشهور خلافه، وأنه يطلق عليه بالاجتهاد. قال خليل: واجتهد وطلق في لأعزلن، أو لا أبيتن، أو ترك الوطء ضرراً وإن غائباً أو سرمد العبادة بلا أجل على الأصح اهـ. أي إنه يطلق عليه بلا ضرب أجل الإيلاء، وسواء كان التارك للوطء ضرراً حاضراً أو غائباً. قال التسولي: فإن ترك الوطء مع القدرة عليه تتضرر به الزوجة قصد به ضررها أم لا، وهي مصدقة في تضررها بترط وطئه، كما تصدق أنها خشيت الزنا بترك وطئه إذ كل ذلك لا يعلم إلا منها. وقد علمت أن هذا الحكم جارٍ في الحاضر والغائب وتقدم لنا شيء من هذا في المفقود فراجعه إن شئت اهـ. بحذف. ولما أنهى الكلام على الإيلاء انتقل يتكلم على ما يتعلق بالظهار وأحكامه فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في الظهار، أي فيما يتعلق ببيان أحكام الظهار من الأركان والشروط، وما يلزم المظاهرة من الكفارة وغيرها مما يتعلق بذلك. والظهار هو تشبيه الرجل المكلف من تحل له من النساء بمن تحرم عليه تحريماً مؤبداً بنسب أو رضاع أو مصاهرة أو لعان وغير ذلك. وحكمه الحرمة لأنه من الكبائر، لأن الله تعالى سماه منكراً من القول وزوراً وهما حرام إجماعاً. قال رحمه الله تعالى:

" الظهار تشبيه مباحة بمؤبدة التحريم تشبيه الجملة بالجملة أو البعض بالبعض أو البعض بالجملة ذكر الظهر أو غيره " يعني أن حقيقة الظهار هو تشبيه من يباح وطؤها بمن تحرم عليه تحريماً مؤبداً كالأم والبنت والأخت، سواء كان التشبيه في جملتها أو بعضها كأنت علي كظهر أمي، أو يدك علي كيد بنتي أو أختي أو غيرهن ممن يحرمن عليه. قال ابن جزي في القوانين: وأركانه أربعة: المظاهر، والمظاهر منها، واللفظ، والمشبه به. فأما المظاهر فكل زوج مسلم عاقل بالغ، وأما المظاهر منها فامرأة المظاهر حرة كانت أو أمة، مسلمة أو كتابية، وعلى المذهب يلزمها الظهار في السرية، وأما اللفظ فقسمان: صريح وكناية، فاصريح ما تضمن ذكر الظهر كقوله: أنت علي كظهر أمي. والكناية ما لم تتضمن ذكر الظهر كقوله: أنت علي كأمي أو كفخذها أو بعض أعضائها والحكم فيها سواء. وأما المشبه به فهي الأم ويلحق بها كل محرمة على التأبيد بنسب أو رضاع أو صهر اهـ. بتصرف. قال رحمه الله تعالى: " والتشبيه بالأجنبية ظهار عند مالك طلاق عند غيره " يعني أن الرجل يلزمه الظهار بتشبيه زوجته بالأجنبية. فمن قال لزوجته أنت علي كظهر فلانة الأجنبية فإن نوى الظهار لزمه، وإن نوى الطلاق لزمه الثلاث في المدخول بها، وكذا غير المدخول بها ما لم ينو الأقل، فإن قال أنه نوى بقوله: أنت كفلانة الأجنبية الظهار صدق ديانة ويلزمه الظهار فقط في الفتوى، أما في القضاء فإنه يلزمه الظهار والطلاق الثلاث في المدخول بها وفي غيرها، إلا أنه يعامل بنيته في غير المدخول بها إن ادعى أنه نوى أقل من الثلاث، فإذا قضى القاضي بطلاقها ثلاثاً ثم بعد انقضاء العدة تزوجت غيره وعادت له بعقد جديد فإنه لا يحل له وطؤها حتى يخرج كفارة الظهار اهـ. جزيري، قال خليل: وكنايته كأمي أو أنت أمي إلا لقصد الكرامة أو كظهر أجنبية ونوى فيها في الطلاق فالبتات، كأنت كفلانة الأجنبية إلا أن ينويه مستفتٍ اهـ. والفرق بين الصريح من

الظهار وكناياته فيما يوجبه الحكم أن كنايات الظهار إن ادعى أنه أراد به الطلاق صدق إن أتى مستفتياً أو كان قد حضرته البينة، وأن صريح الظهار لا يصدق إن ادعى أنه أراد به الطلاق إذا حضرت البينة، ويؤخذ من الطلاق مما أقر به ومن الظهار بما لفظ به فلا يكون له إليها سبيل وإن تزوجها بعد زوج حتى يكفر كفارة الظهار. وقيل: إنه يكون ظهاراً على كل حال ولا يكون طلاقاً اهـ. ابن رشد، ومثله في الخرشي. قال رحمه الله تعالى: " وقوله ظهرك كظهر ابني أو غلامي ظهار، فيحرم به الاستمتاع حتى يُكفر " يعني إذا قال الزوج لزوجته أو السيد لأمته ظهرك كظهر ابني أو غلامي وقصد الظهار فإنه يلزمه، فيحرم عليه الاستمتاع بالمظاهر منها بوطء أو مقدماته حتى يكفر. قال الدردير في أقرب المسالك مشبهاً بلزوم البتات: كأنت كفلانة الأجنبية، أو أنت كابني أو غلامي أو غلام زيد، أو ككل شيء حرمه الكتاب، نحو أنت كالخمر، أو كالميتة، أو كالدم، أو لحم الخنزير فيلزمه في ذلك كله البتات، إلا أن ينوي في غير مدخول بها الأقل، والموضوع أنه لم يذكر لفظ ظهر ولا مؤبدة تحريم، وإلا كان ظهاراً إذا لم ينو به الطلاق كما تقدم، فتكون هذه من كناية الطلاق لا الظهار. قال ابن رشد في المقدمات: صريحه عند ابن القاسم وأشهب وروايته عن مالك أن يذكر الظهر في ذات محرم، وكنايته عند ابن القاسم أن لا يذكر الظهر في ذات محرم، وأن يذكر الظهر في غير ذات محرم قاله الحطاب. وقال في المدونة: وإن قال لها أنت كفلانة الأجنبية ولم يذكر الظهر فهو البتات، أي لم ينو به الظهار فإنه يصدق في الفتيا لا في القضاء كما يدل عليه كلام ابن يونس، فإن لم يكن له نية فبتات. وقال ابن رشد: ولو قال كأبي أو غلامي ولم يسم الظهر لم يكن ظهاراً عند ابن القاسم، حكاه ابن حبيب من رواية أصبغ عنه، وتقدم في الطلاق أنه إن دل البساط على عدم إرادة الطلاق لم يلزمه شيء. وقال الصاوي في الحاشية: تنبيه: لو قال الرجل لامرأته إن وطئتك وطئت أمي، أو لا أعود

لمسك حتى أمس أمي، أو لا أراجعك حتى أراجع أمي، فلا شيء عليه ما لم ينو شيئاً فيؤاخذ بما نواه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وهي " أي كفارة الظهار " مشروطة بالعود وهو العزم على الوطء، وقيل مع الإمساك " يعني كما في أقرب المسالك: وتجب الكفارة بالعود وهو العزم على وطئها، ولا تجزئ قبله، وتتقرر بالوطء فتسقط إن لم يطأ بطلاقها وموتها ولو أخرج بعضها قبل الطلاق بطل وإن أتمها بعده، فإن تزوجها لم يقربها حتى يكفر اهـ. قال ابن رشد في المقدمات: وقد اختلف في العودة الموجبة على المظاهر الكفارة على ستة أقوال: أحدها: إرادة الوطء والإجماع عليه وهو قول مالك في موطئه أنه إذا أراد الوطء وأجمع عليه فقد وجبت عليه الكفارة وإن مات أو طلقها، والثاني: أنها إرادة الوطء والإجماع عليه مع استدامة العصمة، فمتى انفرد أحدهما دون الآخر لم تجب الكفارة فإن أجمع على الوطء ثم قطع العصمة بطلاق فلم يستدمها، أو انقطعت بموت سقطت الكفارة، وإن كان قد عمل بعضها سقط عنه سائرها، وكذلك إن استدام العصمة ولم يرد الوطء ولا أجمع عليه لم تجب الكفارة، بل لا تجزئه إن فعلها وهو غير عازم على الوطء ولا مجمع عليه. هذا قول مالك في المدونة وعليه جماعة أصحابه، وهو أصح الأقاويل، ولذا اقتصرنا عليه. انظر المقدمات إن شئت. ثم ذكر رحمه الله تعالى كيفية الكفارة بأنواعها الثلاثة فقال: " وهي " أي الكفارة المذكورة مرتبة كما قال رحمه الله تعالى: " مرتبة فيعتق رقبة صفتها ما تقدم " أي في كفارة الصيام، فيعتق رقبة مؤمنة كاملة الرق غير معيبة أي سليمة من العيوب ولا مستحقة العتق بوجه. أو يصوم شهرين متتابعين، فإن قطع لعذر بنى وإلا استأنف. أو يطعم ستين مسكيناً مداً مداً والعدد شرط. انتهى ما ذكره المصنف هناك. وتقدم لنا الكلام في مقدار المد في كتاب الزكاة فراجعه إن شئت.

قال رحمه الله تعالى: " فإن لم يجد صيام شهرين متتابعين، فإن قطع ولو بالاستمتاع بها ليلاً استأنف إلا أن يجد الرقبة فتلزمه، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً على ما قدمناه " أي في كفارة الصيام، إلا أن كفارة الصيام هي على التخييرو أما هنا في الظهار فعلى الترتيب كما هي مقررة. قال أبو محمد في الرسالة: ومن تظاهر من امرأته فلا يطؤها حتى يكفر بعتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب ليس فيها شرك ولا طرف من حرية، فإن لم يجد صيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً مدين لكل مسكين ولا يطؤها في ليل أو نهار حتى تنقضي الكفارة، فإن فعل ذلك فليتب إلى الله عز وجل فإن كان وطؤه بعد أن فعل بعض الكفارة بإطعام أو صوم فليبتدئها ولا بأس بعتق الأعور في الظهار وولد الزنا، ويجزَى الصغير، ومن صلى وصام أحب إلينا اهـ. انظر النفراوي. وقول صاحب الرسالة مدين لكل مسكين خلاف المشهور، والمشهور كما قال ابن الحاجب وخليل وهو مذهب المدونة أن الواجب لكل مسكين مد بمد هشام وهو قدر مد وثلثين من أمداده صلى الله عليه وسلم. ويمكن الجواب عن صاحب الرسالة فيقال: إنه بنى كلامه على القول بأن مد هشام قدر مدين من أمداده صلى الله عليه وسلم، لأن بعض الشيوخ قال: شاهدت بالمدينة مد هشام وحققته فوجدته قدر مدين من أمداده صلى الله عليه وسلم. نقل ذلك خليل في التوضيح اهـ. النفراوي. قال رحمه الله تعالى: " ولا يجزئ التلفيق ولا يكفر العبد بالعتق " يعني أنه تقدم الكلام لنا في التلفيق وكفارة العبد. وقال النفراوي في الفواكه: علم من كلام المصنف كغيره أن كفارة الظهار كغيرها لا تصح ملفقة كصوم شهر وإطعام ثلاثين مسكيناً. وعلم من كلامه أيضاً ومن نص القرآن أنها من ثلاثة أنواع، لكن في حق الحر. وأما العبد فلا يكفر إلا بالصوم. قال خليل: وتعين لذي الرق ولمن طولب بالفيئة وقد التزم عتق من يملكه لعشر سنين. ومعلوم أنه إنما يصوم إذا قدر على ذلك ولم يكن صومه

يضر بسيده من جهة خدمته إن كان عبد خدمة، أو من جهة خراجه إن كان عبد خراج، وإلا أخر الصوم حتى يقوى عليه ويأذن له، وإن أذن له السيد في الإطعام جاز له التكفير به اهـ. وتقدم في الأيمان قول المصنف ويكفر العبد بالصيام فراجعه إن شئت. قال رحمه الله تعالى: " ويصح تعليقه على النكاح فإذا عقد لم يجز له الاستمتاع بها حتى يكفر " يعني أن الأجنبية يلحقها الظهار كما يلحقها الطلاق عند مالك إذا علق ذلك على تزويجها، فإذا قال للأجنبية أنت علي كظهر أمي وقصد به إن تزوج بها أو نوى بذلك فإنه لزمه الظهار بمجرد العقد وتحرم عليه حتى يكفر كفارة الظهار. وفي الموطأ عن مالك بإسناده عن سعيد بن عمرو بن سليم الزرقي أنه سأل القاسم بن محمد عن رجل طلق امرأة إن هو تزوجها، فقال القاسم بن محمد: إن رجلاً جعل امرأة عليه كظهر أمه إن هو تزوجها فأمره عمر بن الخطاب إن هو تزوجها أن لا يقربها حتى يكفر كفارة المظاهر اهـ. وقال في المدونة في الرجل يقول في المرأة إن تزوجها فهي طالق، وهي علي كظهر أمي: إنه إن تزوجها وقع عليه الطلاق والظهار جميعاً، فإن تزوجها بعد ذلك لم يقربها حتى يكفر كفارة الظهار، لإن الطلاق والظهار وقعا جميعاً معاً اهـ. ولما أنهى الكلام على الظهار وأحكامه انتقل يتكلم على اللعان وما يتعلق به من الأحكام فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ أي في بيان ما يتعلق بأحكام اللعان، وكيفية الشهادات فيه. واللعان هو لغة: الإبعاد والطرد، وشرعاً: هو حلف الزوج على زنا زوجته أو نفي حملها اللازم له. والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع. وأما الكتاب فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ

يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6 - 9] وأما السنة فَلِمَا ثبت في الحديث في شأن عويمر بن أشقر، وقيل: ابن أبيض العجلاني مع زوجته خولة بنت قيس الأنصاري، ولما ثبت من حديث أنس بن مالك قال: إن أول لعان كان في الإسلام أن هلال بن أمية قذف شريك ابن السحماء بامرأته، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: «أربعة شهداء وإلا حد في ظهرك» يردد ذلك عليه مراراً. . . الحديث. رواه النسائي ومسلم وأبو داود اهـ. وأما الإجماع، فقد أجمعت الأمة على أن الرجل إذا رأى زوجته تزني، أو نفى عنه حملها ولم تكن عنده بينة واشتكى أحدهما إلى القاضي فإنهما يتلاعنان. قال رحمه الله تعالى: " اللعان يثبت بين كل زوجين مسلمين بالقذف برؤية الزنا أو بنفي النسب " يعني كما في الرسالة: واللعان بين كل زوجين في نفي حمل يدعى قبله الاستبراء أو رؤية الزنا كالمرود في المكحلة. واختُلف في القذف. وإذا افترقا باللعان لم يتناكحا أبداً. ويبدأ الزوج فيلتعن أربع شهادات بالله، ثم يخمس باللعنة. ثم تلتعن هي أربعاً أيضاً وتخمس بالغضب كما ذكر الله سبحانه وتعالى. وإن نكلت هي رجمت إن كانت حرة محصنة بوطء تقدم من هذا الزوج أو زوج غيره، وإلا جلدت مائة جلدة، وإن نكل الزوج جلد حد القذف ثمانين، ولحق به الولد اهـ. ولكيفية الشهادات أشار رحمه الله تعالى قال: " فيبدأ الرجل فيقول أربعاً أشهد بالله لقد رأيتها تزني وإني لمن الصادقين وهل يلزمه الوصف كالشهود قولان. ويخمس بأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فينتفي عنه الحد والولد " يعني البادي من الزوجين باللعان الزوج في رؤية الزنا ونفي الحمل. وهل يلزمه في الرؤية أن يصف كيفيتها، كما

يلزم ذلك على الشهود قولان. قال الدردير: ولا بد من الرؤية. وقال الصاوي: أي وإن لم يصفها كالبينة. هذا هو المشهور. وقيل: لا يلاعن إلا إذا وصف الرؤية بأن يقول كالمرود في المكحلة. وقد ذكر ابن عرفة الطريقتين وصدر بعدم الاشتراط، وعبر عنه الآبي بالمشهور. ثم اعلم أنه بتمام لعان الزوج يجب ثلاثة أحكام: أحدهما سقوط نسب الولد. والثاني درء الحد عن الزوج. والثالث رجوعه على المرأة إلا أن تلاعن. وقال رحمه الله تعالى: " ثم تشهد هي أربع شهادات بالله ما زنيت وإنه لمن الكاذبين، وتخمس بأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين " يعني وبتمام لعانها أيضاً ترتب ثالثة أحكام: الأول درء الحد عنها. والثاني فسخ النكاح. والثالث تأبيد حرمتها عليه. وإليه أشار رحمه الله بقوله: " فينتفي الحد ويثبت الفرقة وتحرم أبداً " فحاصل ذلك أن أحكام اللعان، أي ثمرته المترتبة ستة، ثلاثة مترتبة على لعان الزوج كما تقدم: الأول رفع عنه إن كانت الزوجة حرة مسلمة، أو رفع الأدب عنه في الأمة والذمية. والثاني إيجاب الحد أو الأدب على المرأة إن نكلت بعد لعانه. والثالث قطع نسبه من حمل ظاهر أو سيظهر. وثلاثة مترتبة على لعانها: الأول تأبيد تحريمها عليه. والثاني ثبوت فسخ النكاح. والثالث رفع الحد عنها كما تقدم. نقله الصاوي وغيره اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولا يبدل اللعن بالغضب " يعني أنه لا يجوز تبديل لفظ اللعن والغضب في اللعان، بل لا يجزئ للرجل إن بدل لفظ اللعن في الخامسة بالغضب، وكذا المرأة لا يجزئها إن بدلت لفظ الغضب في الخامسة باللعنة. ومثلهما لفظ أشهد. قال خليل: ووجب أشهد واللعن والغضب. هذه الألفاظ الثلاثة شرط في صحة اللعان. قال: إنما تعين اللعن في خامسة الرجل، والغضب في خامسة المرأة لأن الرجل مبعد لأهله وهي

الزوجة، ولولده الذي نفاه باللعان، فناسب ذلك، لأن اللعن معناه البعد. والمرأة مغضبة لزوجها ولأهلها ولربها فناسب ذلك التعبير بالغضب اهـ. ومثله في الصاوي: وعبارة الخرشي أنه قال يعني أنه يجب على كل واحد من المتلاعنين أن يقول في كل يمين أشهد بالله، فلو أبدله بأحلف أو أقسم ونحوه لم يجزه، وكذلك يتعين لفظ اللعن في خامسة الرجل لأنه مبعد لأهله ولولده فناسب ذلك، لأن اللعن معناه البعد. ويتعين لفظ الغضب في خامسة المرأة لأنها مغضبة لزوجها ولأهلها ولربها فناسبها ذلك. ولا يجزئ لو أبدل الرجل اللعنة بالغضب أو المرأة الغضب باللعنة اهـ. وعبارة النفراوي أنه قال: لم يذكر حكم أشهد، حكمه الوجوب في حق الناطق، فلا يكفي أحلف ولا أقسم كما يجب لفظ اللعن في خامسة الرجل والغضب في خامسة المرأة اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وليكن بمشهد من المؤمنين بموضع يُعظم " وفي الحطاب: قال القرطبي في سورة النور: اللعان يفتقر إلى أربعة أشياء: عدد الألفاظ وهي أربع شهادات، والمكان وهو أن يقصد به أشرف البقاع بالبلد، إن كان بمكة فعند الركن والمقام، وإن كان بالمدينة فعند المنبر، وببيت المقدس فعند الصخرة، وإن كان في سائر البلدان ففي مساجدها، وإن كانا كافرين بعث بهما إلى الموضع الذي يعتقدون تعظيمه، إن كانا يهوديين فالكنيسة، أو مجوسيين فبيت النار، وإن كان لا دين لهما مثل الوثنيين ففي مجلس حُكمه. والوقت وذلك بعد صلاة العصر. والجمع وذلك بأن يكون هناك أربعة أنفس فصاعداً. فاللفظ وجمع الناس مشروطان. والزمان والمكان مستحبان اهـ. وفي شرح الرسالة: ويجب أن يكون اللعان بحضرة جماعة من الناس أقلهم أربعة، وأن يكون في أشرف أمكنة البلد وهو المسجد إن كانت الزوجة مسلمة، وإن كانت ذمية فتلاعن في كنيستها، وذكر الخرشي عن تقرير أن كونه بأشرف البلد حق لله تعالى، فلو امتنع من ذلك يعد نكولاً. ويستحب تخويفهما قبل الشروع في اللعان بأن يقال

لكل منهما تُبْ إلى الله واعلم أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فإن أحدكما كاذب بلا شك اهـ بتصرف. قال رحمه الله تعالى: " وأيهما نكل حُد وأقر لكن حد الزوج يقف على كونها يحد قاذفها " يعني أي واحد من المتلاعنين نكل عن اللعان يحد فإن التعن الزوج ونكلت رجمت بشروط آتية، وإن كان الناكل الزوج والتعنت الزوجة فإنه يحد حد القذف بشروط آتية وأقر نكاحهما. وتقدم كلام صاحب الرسالة من قوله: وإن نكلت هي رجمت إن كانت حرة محصنة بوطء تقدم من هذا الزوج أو زوج غيره. ويشترط أيضاً أن تكون كبيرة بالغة عاقلة، وأن تكون ممن يمكن حملها. فلا تحد الصغيرة بل لا يلاعنها إذ لو أقرت بالزنا لم يلزمها شيء. قال النفراوي: وشرطه إطاقة الزوجة ولو كتابية وغير مدخول بها، لكن البالغة تلاعن كالزوج والمطيقة إنما يلاعن زوجها دونها، وغير المطيقة لا لعان على واحد منهما ولا حد على الزوج لعدم لحوق المعرة اهـ. ويشترط في الكبيرة الناكلة ألا ترجع إلى الحلف، فإن رجعت فلها ذلك كالتي تقر على نفسها بالزنا ثم ترجع عنه فيسقط الحد عنها، بخلاف الزوج إذا نكل ثم أراد أن يرجع فلا يمكن من ذلك على المشهور. ويشترط في حق الزوج ألا يكون صبياً ولو كانت الزوجة بالغة بل لا يلزمه لعان، وإنما يؤدب وإن ظهر بها حمل ينتفي عنه بغير لعان، وعليها الحد. ويشترط في حق الزوج الناكل ألا تكون الزوجة أمة أو ذمية، فإن كانت كذلك فلا حد على الحر المسلم في نكوله، لقول مالك في المدونة: أما الكافرة والأمة فإنه لا يجلد قاذفهما اهـ. وتقدم أنه يلاعن الزوج الحر المسلم ليدفع عن نفسه الأدب إذا رمى زوجته الأمة أو الذمية بالزنا ونفى الحمل بشروط متقدمة. قال مالك في الموطأ: والعبد بمنزلة الحر في قذفه ولعانه يجري محرى الحر في ملاعنته، غير أنه ليس على من قذف

مملوكة حد. والأمة المسلمة والحرة النصرانية واليهودية تلاعن الحر المسلم إذا تزوج إحداهن فأصابها، وذلك أن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {والذين يرمون أزواجهم} [النور: 6] فهن من الأزواج وعلى هذا الأمر عندنا اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويشترط للنفي الاستبراء وعدم الوطء بعده، ويلتعن هو دونها " يعني يشترط في لعان نفي الحمل أن يدعي استبراء الزوجة قبل ظهور الحمل وعدم الوطء بعده. قال النفراوي: يصح اللعان لنفي حمل بشرط أن يدعَى قبله استبراء ولو بحيضة، ومثل الاستبراء دعواه عدم وطئها بعد وضعها الحمل الأول الذي قبل هذا المنفي، والحال أن بين الوضعين ما يقطع الثاني عن الأول وهو ستة أشهر فأكثر. ويدعى قبله الاستبراء إلى أنه لا يجوز لأحد نفي حمل زوجته لأن الولد للفراش إلا إذا اعتمد على أمر قوي، وأما مجرد شكه في أنه ليس منه مع استمراره على وطئها فلا يحل له نفيه مع إمكان كونه منه، ولا يصح لعانه، ولا يجوز له أن يعتمد في نفيه على عزله ولا عدم مشابهته له، ولا سواده مع كونه أبيض، ولا على كونه كان يطؤها بين فخذيها حيث كان ينزل ولا على وطء بغير إنزال حيث وطئ قبله ولم يبل حتى وطئها لاحتمال بقاء المني في قصبة الذكر اهـ. ثم إنه إذا ادعى الاستبراء وعدم الوطء بعده والتعن فلا يلحق به ما أتت به من ولد إذا كان بين استبرائه ووضعها ستة أشهر، وأما إن كان في أقل من ذلك فإنه يلحق بالفراش ويحمل على وجود الولد في بطنها حال استبرائها لأن الحامل تحيض عند مالك. والشرطان المتقدمان في نفي الحمل بالرؤية، وأما إذا كان في نفي حمل ظاهر بشهادة امرأتين فيشترط تعجيل اللعان من غير تأخير لوضع الحمل. قال خليل: بلعان معجل كالزنا. وقال بعد ذلك: وإن وطئ أو أخر بعد علمه بوضع أو حمل بلا عذر امتنع اهـ. وأما قول المصنف ويشترط للنفي الاستبراء وعدم الوطء أي إذا استبرأها ولم يطأها وأتت بولد كامل لستة أشهر من يوم الاستبراء فيعتمد في نفيه على استبرائها

كما تقدم، ويلاعن وإن لم يدَّع الرؤية. قال عياض: وهو المشهور، ولا ينتفي الولد بغير لعان. ولا بد من لعان الزوج، وإن نكل حد لقذفه، وإن مات الولد الذي رماها به أو الحمل الذي رماها به. وفائدة اللعان حينئذ سقوط الحد عنه اهـ الخرشي وغيره. وتقدم قوله: فإن ادعت ولادته وادعى التقاطه فالقول قولها، فراجعه إن شئت. قال رحمه الله تعالى: " فإن وطئ بعده حد للقذف ولحقه كاعترافه به في ادعاء الرؤية للزنا " يعني فإن وطئ بعد الاستبراء ثم نفى الولد باللعان فإنه يحد للقذف ويلحق به الولد، كما لو اعترف في قذفها بالزنا فإنه يحد كذلك. قال خليل: وحد بعدها، أي بعد العدة كاستلحاق الولد أي الملاعن فيه. قال الآبي في الجواهر: فيحد لاعترافه بالقذف. ولا يتعدد حده بتعدد الأولاد المستلحقين بعد لعانه فيهم سواء استلحقهم دفعة أو واحداً بعد واحد، ولو بعد حده للأول لأنه قذف واحد، إلا أن تزني الملاعنة قبل الاستلحاق فحينئذ لا يحد لاستلحاقه لزوال عفتها اهـ بحذف. قال رحمه الله تعالى: " ولو أكذب نفسه أو استلحقه لحق به وحد ولم تحل " يعني أن الزوج إذا أكذب نفسه بعد اللعان أو قبله، أو استلحق الولد فإنه يلحق به وحد للقذف، فإن كان ذلك قبل أن يلتعن أحدهما فلا لعان ولا فراق، وإن كان بعد تمام لعانهما ثبت الحد والفرقة ولم تحل له أبداً. قال مالك في الموطأ: السنة عندنا أن المتلاعنين لا يتناكحان أبداً، وإن أكذب نفسه جلد الحد وألحق به الولد ولم ترجع إليه أبداً، وعلى هذا السنة عندنا التي لا شك فيها ولا اختلاف. وقال أيضاً في الرجل يلاعن امرأته فينزع ويكذب نفسه بعد يمين أو يمينين ما لم يلتعن في الخامسة أنه إذا نزع قبل أن يلتعن جلد الحد ولم يفرق بينهما اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويلاعن زوجته الأمة والكتابية لنفي النسب " يعني للزوج أن يلاعن زوجته الأمة أي المملوكة لغيره، وكذلك له أن يلاعن زوجته الحرة

الكتابية لنفي النسب. وتقدم قول مالك أنه قال: والأمة المسلمة والحرة النصرانية واليهودية تلاعن الحر المسلم اهـ. وقال في الحرة التي قذفها زوجها: إنه يلتعن لأن هذا القاذف لهذه الحرة فلا بد من اللعان، وهو في الأمة والمشركة لا يكون قاذفاً ولا يلتعن إذا قذفها إلا أن يدعي رؤية أو ينفي حملاً باسبراء يدعيه فيقول: أنا ألتعن خوفاً من أن أموت فيلحقني الولد، فهذا الذي يلتعن إذا كانت امرأته أمة أو من أهل الكتاب أو ينفي من حملها إن له أن يلتعن إن أراد أن يلتعن ويحقق قولهعليها لم أمنعه من ذلك، لأن الله تبارك وتعالى قال: {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} [النور: 6] وإن لم يرد ذلك ذلك لم يكن عليه شيء لأنه لا حد عليه في قذفه إياها اهـ المدونة. قال رحمه الله تعالى: " وفي القذف بالزنا قولان " يعني أنه اختلف أهل المذهب في اللعان وعدمه في القذف بمجرد دعوى الرؤية بالزنا لا تيقن كأن يقول: إنها زن، أو أنت زنيت، أو زانية. قال في الرسالة: واختلف في اللعان في القذف. وقال خليل: وفي حده بمجرد القذف أو لعانه خلاف. قال الخرشي: يعني أنه إذا قال لزوجته أنت زنيت فقط، أو قال لها: يا زانية فقط ولم يقيد ذلك برؤية زنا ولا بنفي حمل هل يحد ولا يمكن من اللعان، أو يلاعن ولا حد عليه للقذف لعموم آية اللعان، وهي قوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} [النور: 6] فلم يذكر فيها رؤية زنا ولا نفي حمل ولا ولد قاله ابن نافع وبعض كبار المتأخرين، والقولان في المدونة اهـ. قال ابن القاسم: يلاعن، والأكثر يحد فقط. قال المصنف: والمشهور الالتعان بمجرد القذف كما يأتي عن قريب اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويصح من الأعمى لنفي النسب ومن الأخرس إذا فهم منه " يعني أن الأعمى له أن يلاعن زوجته في نفي النسب إذا تيقن وتحقق بأي طريق من طرق العلم بذلك. قال العدوي: فالأعمى يلاعن حتى لرؤية الزنا حيث تيقنه بحس أو

جس، ولا يشترط في وصفه أن يقول كالشهود: رأيت فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة كما تقدم اهـ. وأما الأخرس إذا كان يعقل الإشارة ويفهم الخطاب أو الكتابة ويعلم ما يقوله فإنه يصح لعانه وقذفه عند الأئمة الثلاثة خلافاً لأبي حنيفة. ذكره في كتاب الرحمة. قال خليل: وأشار الأخرس أو كتب سواء كان ذكراً أو أنثى فإنه يشير بما يدل عليه إن كان يحسن الكتابة، وإلا يشير بما يدل على الشهادة باللعان. ويكرر الإشارة أو الكتابة أربعاً كاللفظ على الظاهر اهـ بتصرف. قال رحمه الله تعالى: " والمشهور الالتعان لمجرد القذف. والله أعلم " يعني أن المشهور من أقوال أهل المذهب الالتعان بمجرد القذف لعموم الآية كما هو قول ابن القاسم في المدونة والله أعلم. ولما أنهى الكلام على ما يتعلق باللعان وأحكامه انتقل يتكلم على أحكام العدة والاستبراء وما يتعلق بهما من وضع الحمل وبيان الأقراء فقال:

كتاب العدة والاستبراء أي في بيان ما يتعلق بأحكام العدة والاستبراء، وحكم عدة الحامل والمتوفى عنها زوجها، وحكم عدة الطلاق واللواتي يعتددن بالأقراء أو بالشهور أو السنة. وهو باب مهم عظيم الشأن، مسائله بها يكون صلاح الإنسان في دينه ودنياه، نسأل الله التوفيق إنه ولي ذلك. والعدة تربص المرأة زماناً معلوماً قدره الشارع علامة على براءة الرحم غالباً، لفسخ النكاح أو موت الزوج أو طلاقه أو فقده. وحكمها الوجوب لقوله تعالى: {ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} [البقرة: 235] والإجماع على ذلك. وأنواعها ثلاثة: أقراء، وشهور، ووضع حمل. وابتدأ رحمه الله تعالى بحكم الحامل فقال: " الحامل يبرئها وضع الحمل ما كان، وضعته مخلقاً أو غير مخلق " يعني أن عدة الحامل وضع حملها سواء في الوفاة أو الطلاق، لقوله تعالى: {وأولات الحمل أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق: 4] قال في الرسالة: وعدة الحامل في وفاة أو طلاق وضع حملها، كانت حرة أو أمة أو كتابية. ويشترط في انقضاء العدة أن ينفصل الولد كله بعد الطلاق أو الموت ولو بلحظة، فلو نزل بعضه وبقي بعض ولو الثلث فلا تنقضي عدتها إلا بانفصاله عنها. قال خليل: وعدة الحامل وضع حملها كله. ويشترط أن يكون الحمل من اعتدت منه، أو يحتمل أن يكون منه كالمتلاعن فيه. وأما المنفي قطعاً كولد الزنا، وما تضعه المعتدة من وفاة الصبي الذي لا يولد له فإن العدة لا تنقضي بوضعه، بل لا بد من ثلاثة قروء، وتعد في الطلاق نفاسها حيضة، وعليها في الوفاة أقصى الأجلين، وهو المتأخر من الوضع أو تمام الأربعة أشهر وعشر في الحرة، أو الشهرين والخمس ليلا في الزوجة الأمة اهـ النفراوي بحذف.

قال رحمه الله تعالى: " وتعتد الحرة الحائل للوفاة أربعة أشهر وعشراً ولو بكراً أو صغيرة أو يائسة " يعني أن عدة الحرة الحائل وهي غير الحامل إذا مات زوجها أربعة أشهر وعشر ولو كانت بكراً أو صغيرة أو يائسة، سواء كانت مدخولاً بها أو غير مدخول بها، مسلمة أو كتابية، لعموم قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} [البقرة: 234] الآية. قال في الرسالة: وعدة الحرة من الوفاة أربعة أشهر وعشر، كانت صغيرة أو كبيرة، دخل بها أو لم يدخل، مسلمة كانت أو كتابية اهـ. قال النفراوي: والحاصل أن غير المدخول بها ومثلها المأمونة الحمل إما لصغرها أو يأسها أو كون الزوج لا يولد له تحل بمجرد فراغ الأربعة أشهر وعشر، وكذا غير مأمونة الحمل، ولكن تتم الأربعة أشهر وعشراً قبل مجيء زمن حيضتها، أو لا تتم قبل زمن حيضتها ولكن أتاها الحيض فيها أو تأخر لرضاع. وأما إن تأخر لمرض أو لغير علة، أو استحيضت ولم تتميز فلا بد من الحيضة أو تمام تسعة أشهر تحل، إلا أن تظهر ريبة بعد التسعة فمكث أقصى الأجلين اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وعلى المدخول بها حيضة إلا أن تكون عادة طهرها أكثر من الشهور فتقتصر عليها " يعني لازم على المدخول بها وهي حائل إذا توفي زوجها تربص حيضة في أثناء أربعة أشهر وعشر إلا أن تكون عادتها لا تأتيها إلا بعد أربعة أشهر فتقتصر على أربعة أشهر وعشرة أيام إن لم ترتب وقالت النساء ليس بها حمل فتحل للأزواج. قال ابن جزي: فرع يشترط في المذهب في التي دخل بها وهي في سن الحيض أن تحيض في العدة من الوفاة ولو حيضة واحدة، فإن لم تحض فهي مرتابة فينظر إن كان ارتفاع حيضتها لعذر أو عادة حلت بانقضاء العدة اتفاقاً، وإن كان لغير عذر لم تحل حتى تحيض أو تكمل تسعة أشهر. وقال أشهب وسحنون: تحل بانقضاء العدة وإن لم تحض وفاقاً لهما، وإن كانت تحس شيئاً في بطنها قعدت أكثر من مدة الحمل اهـ. وعبارة

الجزيري في الفقه أنه قال: يشترط لانقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وهي غير حامل بانقضاء أربعة أشهر وعشرٍ شروط أي خمسة، إلى أن قال: والحاصل أن المدخول بها إن توفي عنها زوجها فإنه ينظر أولاً لعادتها في الحيض فإن كانت لا تأتيها الحيضة في مدة أربعة أشهر وعشرة أيام بأن كانت تحيض كل خمسة أشهر مرة وتوفي زوجها وهي في أول طهر انقضت عدتها بأربعة أشهر وعشرة أيام بشرط ألا ترتاب في براءة رحمها، بأن تشعر بحمل أو ترتاب النساء التي تراها، فإن ارتابت فإن عدتها لا تنقضي، فيجب عايها أن تنتظر تسعة أشهر أو حيضة واحدة فتحل للأزواج بأقربهما، فإن لم يزل الارتياب مكثت أقصى مدة الحمل وهي خمس سنين على الراجح: وقيل أربع سنين. وقيل غير ذلك. وأما إن كانت تأتيها الحيضة في أثناء أربعة أشهر وعشرة أيام، فإن حاضت فيها ولو مرة فإن عدتها تنقضي بانقضاء مدة أربعة أشهر وعشر، وإن لم تحض لسبب مجهول أو لمرض على الراجح فإن عدتها لا تنقضي حتى تحيض، وإلا انتظرت تسعة أشهر، فإن لم تحض وارتابت في الحمل أو ارتاب النساء انتظرت حتى تزول الريبة أو تمضي خمس سنين، وهي أقصى مدة الحمل اهـ بحذف واقتصار. قال رحمه الله تعالى: " والأمة بشهرين وخمسٍ " أي من الليالي بأيامها. يعني تعتد الأمة من وفاة زوجها بشهرين وخمس ليال ما لم ترتب الكبيرة ذات الحيض بتأخيره عن وقته فتقعد حتى تذهب الريبة اهـ. هذا وتستوي الحرة والأمة في الريبة فتمكث حتى تذهب الريبة إما بحيضة أو بتمام مضي التسعة أشهر. هذا حكم المرتابة بتأخير الحيض في مدخول بها إذا تأخرت حيضتها عن عادتها وكان زوجها ممن يولد له، وأما لو كانت ريبتها بجس بطن فإنها تمكث أقصى أمد الحمل كما تقدم. قال رحمه الله تعالى: " والكتابية تحت المسلم كالمسلمة " يعني أن الكتابية

إذا كانت تحت المسلم فحكمها حكم المسلمة إذا توفي عنها زوجها فإنها تجبر على أربعة أشهر وعشر ولو لم يدخل بها حيث كانت حرة، وعلى الشهرين وخمس ليال إن كانت رقيقة، هذا هو المشهور. قال المواق من المدونة: طلاق المسلم لزوجته الكتابية كطلاق الحرة المسلمة وتجبر على العدة منه إذا بنى بها طلق أو مات عنها، وإن مات ذمي بعد البناء فلا ينكحها مسلم إلا بعد ثلاث حيض استبراء، وإن مات عنها الذمي أو طلقها قبل البناء فلا عدة عليها وينكحها المسلم إن أحب مكانه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وقيل بل تُستبرأ بثلاث حيض إن كانت مدخولاً بها وإلا فلا شيء عليها " يعني أن الكتابية إذا توفي عنها زوجها المسلم وأراد أن يتزوجها مسلم غيره فإنها تعتد بثلاث حيض إن كان مدخولاً بها، وإن لم تكن مدخولاً بها لا عدة عليها لكن المشهور ما تقدم من أنها تعتد بأربعة أشهر وعشر إن أراد المسلم تزوَّج بها أو الكتابي وتحاكموا إلينا. قال الخرشي: يعني أن الذمية الحرة غير الحامل تحت ذمي مات أو طلق وأراد مسلم أن يتزوجها أو تحاكموا إلينا فإن كان دخل بها حلت للمسلم بثلاثة أقراء، وإن لم يكن دخل بها حلت مكانها من غير شيء إجراء لنكاح الكفار مجرى المتفق على فساده. واحترز بقوله: تحت ذمي عما لو كانت تحت مسلم فإنها تجبر على أربعة أشهر وعشر من وفاته دخل بها أم لا، وعلى ثلاثة أقراء من طلاقه إن دخل بها، إما لعموم قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم} وإما لأنه حكم بين مسلم وكافر، وما هذا شأنه يغلب فيه المسلم اهـ. وعبارة الجزيري أنه قال: ثانيها أي ثاني الشروط أن يكون مسلماً، فإذا كان ذمياً تحته ذمية مات عنها وأراد مسلم أن يتزوجها فإن عدتها تكون ثلاثة أشهر إن كانت آيسة من الحيض، وثلاثة أطهار إن لم تكن، وكذا إذا أراد أن يتزوج بها غير مسلم وترافعا إلينا لنقضي بينهما في ذلك، هذا إذا كانت مدخولاً بها وإلا فلا عدة عليها أصلاً اهـ فتحصَّل أن في عدة الكتابية من وفاة زوجها قولين إما بإتمام

أربعة أشهر وعشر جبراً لعموم الآية إن كان المتوفى عنها مسلماً سواء دخل بها أم لا، أراد أن يتزوج بها المسلم أم لا، وإما بثلاثة أقراء إن كان المتوفى عنها ذمياً ودخل بها وأراد المسلم أن يتزوج بها فإنها تحل له بثلاثة أقراء على قول، وللذمي ذلك إن ترافعا إلينا فإن لم يدخل بها فلا عدة عليها أصلاً فتأمل اهـ. وقال في الرسالة: وتجبر الحرة الكتابية على العدة من المسلم في الوفاة والطلاق. قال النفراوي: فتتربص في الوفاة أربعة أشهر وعشراً. وفي الطلاق ثلاثة أقراء أو أشهر إن كانت صغيرة تطيق الوطء أو كبيرة لا تحيض. ومفهوم المسلم أنه لو كان زوجها كافراً لا يكون حكمها كذلك. والحكم أنها إن أراد مسلم أن يتزوجها لا بد لها من ثلاثة أقراء ولو في الوفاة حيث كانت مدخولاً بها، أو ثلاثة أشهر إن كانت صغيرة أو كبيرة وإن لم يكن دخل بها فلا عدة عليها اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وتستبرأ أم الولد لموت سيدها بحيضة وتعتد لموت زوجها قبله كالأمة وبعده كالحرة " يعني أن أم الولد تستبرئ بحيضة الموت سيدها، وتعتد كعدة الأمة شهرين وخمس ليال لموت زوجها قبل موت سيدها، وتعتد كالحرة لموت زوجها بعد موت السيد أربعة أشهر وعشراً، ولها الميراث من زوجها لأنها بمجرد موت سيدها صارت حرة. قال في المدونة: وعدة أم الولد من وفاة سيدها أو عتقه إياها حيضة، فإن قعدت عن الحيض فثلاثة أشهر اهـ ومثله في الموطأ. قال رحمه الله تعالى: " وتنتقل الرجعية لموت زوجها إلى عدة الوفاة كالأمة المطلقة يموت زوجها بعد عتقها في العدة " يعني أن المطلقة طلاقاً رجعياً تنتقل إلى عدة الوفاة إذا توفي المطلق وهي في عدة منه فإنها تنتقل إلى عدة الوفاة، بخلاف البائن. ومثلها الأمة المطلقة يموت زوجها بعد عتقها وهي في عدة الطلاق فإنها تنتقل عن عدة الطلاق إلى عدة الوفاة. قال الخرشي: لأن الناقل عند مالك هو ما أوجب عدة أخرى، والعتق لا يوجب عدة أخرى، ولهذا لو مات زوج المطلقة طلاقاً رجعياً في أثناء عدتها

انتقلت إلى عدة الوفاة حرة أو أمة كما مر لأن الموت يوجب عدة وكذا لو طلقت الأمة رجعياً ثم أعتقها سيدها ثم مات الزوج قبل انقضاء عدتها انتقلت لعدة الحرة أربعة أشهر وعشلأن الموجب وهو الموت لما نقلها صادفها حرة فتعتد عدة الحرة للوفاة بعد أن كانت عدتها قرأين، وسواء تقدمت لها حيضة أو لا. ولو كان الزوج مات قبل عتقها فإنها تعتد عدة الأمة لأن الموت لما نقلها لم يصادفها حرة وإنما صادفها أمة لكنها تنتقل عن حيضتين إلى شهرين وخمس ليال اهـ قال ابن جزي في القوانين: وإن طلقت الأمة ثم أعتقت في عدتها بنت على عدة الأمة. وقال الشافعي: تنتقل إلى عدة الحرة اهـ. فظهر لك أن العتق لا يوجب الانتقال من عدة الطلاق إلى عدة أخرى إلا بموت الزوج في عدة طلاقه عند مالك لا بعتقها. قال خليل: ولا ينقل العتق لعدة الحرة. قال الخرشي: يعني أن الزوج إذا طلق زوجته الأمة طلاقاً رجعياً أو مات عنها ثم إنها عتقت في أثناء العدة فإنها لا تنتقل عن عدة الطلاق التي هي قرءان، ولا عن عدة الوفاة التي هي شهران وخمس ليال إلى عدة الحرة التي هي ثلاثة أقراء في الطلاق وأربعة أشهر وعشر في الوفاة إلى آخر ما قررناه فتأمل اهـ وفي الموطأ قال مالك: الأمر عندنا في طلاق العبد الأمة إذا طلقها وهي أمة ثم عتقت بعد فعدتها عدة الأمة لا يغير عدتها عتقها كانت له عليها رجعة لا تنتقل عدتها. قال مالك: ومثل ذلك الحد يقع على العبد ثم يعتق بعد أن يقع عليه الحد فإنما حده حد عبد. قال: والحر يطلق الأمة ثلاثاً وتعتد بحيضتين، والعبد يطلق الحرة تطليقتين وتعتد ثلاثة قروء اهـ. ثم ينتقل يتكلم على الإحداد فقال رحمه الله تعالى: " وعلى المتوفى عنها الإحداد مدة العدة وهو الامتناع من الطيب والتزين بالحلي والثياب والكحل والحناء " يعني أن الإحداد هو اجتناب المرأة المتوفى عنها زوجها الزينة، فيجب عليها ترك ما تتزين به من يوم الموت سواء كانت كبيرة أو صغيرة، حرة أو أمة، مسلمة أو كتابية. قال في

الرسالة: والإحداد ألا تقرب المعتدة من الوفاة شيئاً من الزينة بحلي أو كحل أو غيره، وتجتنب الصباغ كله إلا الأسود، وتجتنب الطيب كله ولا تختضب بحناء اهـ. أي يجب عليها ترك جميع ذلك من يوم يموت زوجها إلى انقضاء عدتها سواء كانت عدتها وضع حمل أو أربعة أشهر وعشراً، أو كانت مرتابة. قال العدوي: وإن ارتابت فعليها الإحداد حتى تنقضي الريبة وإن بلغت إلى خمس سنين اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولا تنتقل من منزل الوفاة إلا أن تخاف عورة فتلازم الثاني " يعني كما قال صاحب الرسالة: ولا تخرج من بيتها في طلاق أو وفاة حتى تتم العدة إلا أن يخرجها رب الدار، ولم يقبل من الكراء ما يشبه كراء المثل فلتخرج وتقيم بالموضع الذي تنتقل إليه حتى تنقضي العدة اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وهي أحق بالسكنى من الورثة والغرماء " يعني أن المتوفى عنها زوجها هي أحق بالسكنى من الورثة في بيت الميت، كما أنها أحق بذلك من الغرماء. قال مالك في المدونة: لا نفقة لها في مال الميت، ولها السكنى إن كانت الدار للميت وإن كان عليه دين والدار دار الميت كانت أحق بالسكنى من الغرماء، وتباع للغرماء وتشترط السكنى على المشتري، وهذا قول مالك وإن كانت داراً بكراء فنقد الزوج الكراء فهي أحق بالسكنى اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولا تخرج إلا لضرورة ولا تبيت بغيره ولا نفقة لها وإن كانت حاملاً " يعني أن المعتدة مطلقاً سواء عدة الوفاة أو عدة الطلاق لا تخرج من منزلها إلا لضرورة، ولا تبيت إلا في بيتها كما في المدونة. والمعنى أي لا تخرج إلى سفر ولو لحج أو زيارة أو تجارة أو تهنئة أو تعزية إلا لضرورة، أما خروجها في حوائجها التي لا بد منها كتحصيل قوت أو ماء ونحوهما فجائز مع الأمن في ذلك الوقت. قال اللخمي: لا بأس أن تخرج قبل الفجر وترجع قبل الغروب. قال بعض العلماء: كلام

اللخمي هو اللائق بعرف الزمان فالمدار على الوقت الذي ينشر فيه الناس لئلا يطمع فيها أهل الفساد اهـ الدردير. وقوله رحمه الله تعالى: " ولا نفقة لها وإن كانت حاملاً " يعني لا نفقة للزوجة في مال زوجها المتوفى عنها وإن حاملاً لانقضائها بموته وصيرورة التركة للورثة وهي منهم. قال في الرسالة: ولا نفقة لكل معتدة من وفاة ولها السكنى إن كانت الدار للميت إلخ كما تقدم. وسئل جابر بن عبد الله عن المرأة الحامل يتوفى عنها زوجها هل لها من نفقة قال لا حسبها ميراثها. وقال ابن شهاب: نفقتها على نفسها في ميراثها كانت حاملاً أو غير حامل اهـ المدونة. قال رحمه الله تعالى: " ونفقة الطفل من ماله فإن لم يكن له مال أو لم يقبل ثدي غيرها لزمها إرضاعه " يعني أن نفقة الطفل تكون من ماله سواء كان أبوه حياً أم لا فإن كان أبوه حياً ولم يكن للطفل مال وجب على أبيه إنفاقه وإرضاعه ولو بأجرة من الأب. قال في الرسالة: وللمطلقة رضاع ولدها على أبيه ولها أن تأخذ أجرة رضاعها إن شاءت وإن لم يكن للأب مال وللطفل مال فأجرة الرضاع والنفقة في ماله ولو بأجرة تأخذها أمه أو غيرها إن كان يقبل غيرها، وإلا لزم على الأم إرضاعه وأخذها أجرة، وإن لم يكن للطفل مال مع عدم قبوله غير أمه لزمها إرضاعه مجاناً. قال العلامة محمد عليش في الفتاوى نقلاً عن ابن سلمون: وإن مات الأب فإنها ترضعه بأجرة تأخذها من مال الطفل، فإن لم يكن له مال لزمها إرضاعه باطلاً أي مجاناً. هذا في من مات أبوه، ثم قال: وإذا أبت الأم إرضاعه وأرادت دفعه إلى أبيه فإنه لا يؤمر بأخذه حتى يجد من ترضعه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وأما المطلقة فلا عدة قبل البناء " يعني أن المطلقة قبل البناء فلا عدة عليها لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن

وسرحوهن سراحاً جميلاً} [الأحزاب: 49] المراد بالنكاح هنا مجرد العقد، فإذا عقد على امرأة ولو كانت أمة أو كتابية ثم طلقها قبل البناء ولو طال بين العقد والطلاق فإنها لا عدة عليها ولها المتعة بشرط عدم تسمية الصداق. قال الصاوي في سورة الأحزاب: فالمطلقة قبل الدخول إن سمي لها صداق فلا متعة لها ولا عدة عليها، وإن لم يسم لها صداق بأن نكحت تفويضاً فلا عدة عليها ولها المتعة إما وجوباً كما هو عند الشافعي أو ندباً كما هو عند مالك اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وتعتد الحرة المدخول بها بثلاثة أطهار، وإن طلقها في آخر طهر أو مسها فيه ولو كتابية " يعني أن الحرة المدخول بها عدتها ثلاثة أطهار، وإن كان طلاقها في آخر طهر أو مسها فيه ولو كانت كتابية. قال ابن جزي في القوانين: وعلى المذهب إذا طلقها في طهر كان بقية الطهر قرءاً كاملاً ولو كان لحظة فتعتد به ثم بقرءين بعده، فذلك ثلاثة قروء، فإذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد تمت عدتها، وإن طلقها في حيض لم تحل حتى تدخل في الحيضة الرابعة من الحيضة التي طلقت فيها اهـ. وفي الرسالة: وعدة الحرة المطلقة ثلاثة قروء كانت مسلمة أو كتابية. قال النفراوي: وتحل لغير المطلِّق بأول الحيضة الثالثة إن طلقت في طهر أو الرابعة إن طلقت في حيض أو نفاس، ولكن يستحب لها ألا تتعجل بالعقد بمجرد رؤية الدم الثالث أو الرابع، بل حتى يمضي يوم أو بعضه لعدم الاكتفاء في العدة بأقل من ذلك اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والأمة بطهرين " يعني وتعتد الأمة بقرءين. قال في الرسالة: والأمة ومن فيها بقية رق قرءان، كان الزوج في جميعهن حراً أو عبداً. قوله في جميعهن أي الحرة والأمة القن ومن فيها بقية رق، كان الزوج لواحدة منهن حراً أو عبداً، لما هو مقرر من أن العبرة في العدة بالمرأة وفي الطلاق بالزوج، والفرق واضح لأن العدة من المرأة والطلاق من الزوج. وفي الموطأ عن مالك أن سعيد بن المسيب كان يقول الطلاق للرجال والعدة للنساء اهـ وقد تقدم الكلام في الأمة والكتابية فراجعه إن شئت.

قال رحمه الله تعالى: " واليائسة والتي لم تحض بثلاثة أشهر فإن طلقها في بعض شهر أكملته ثلاثين من الرابع وفي بعض يوم تلغيه " يعني أما اليائسة والتي لم تحض لصغر فإنهما تكملان ثلاثة أشهر بالأهلة، فإن طلقتا في بعض شهر أكملتاه ثلاثين من الشهر الرابع. وأما إن وقع الطلاق في بعض يوم فإنهما تلغيان بقية اليوم الذي وقع فيه الطلاق كغيرهما وتبتدئان باليوم الذي بعد يوم الطلاق إن وقع الطلاق بعد الفجر وإلا حسب به كما هو مقرر في المذهب. وإن حاضت التي عمرها دون خمسين سنة في أثناء الأشهر الثلاثة اعتدت بالأقراء كما تقدم كالصغيرة التي يمكن حيضها إذا رأت دماً قبل تمام الأشهر فتعتد بالأقراء كانت حرة أو أمة لكن الحرة تكمل ثلاثة قروء والأمة تحل بقرءين. وأما بنت سبعين سنة فأكثر فليس دمها بحيض قطعاً ولا حاجة فيها إلى سؤال النساء فتعتد بالأشهر الثلاثة. قال في الرسالة: فإن كانت ممن لم تحض أو ممن قد يئست من المحيض فعدتها ثلاثة أشهر في الحرة المسلمة وفي الأمة. قال شارحها: وهذا ما لم تحض في أثناء العدة، وأما لو حاضت فيها ولو لم يبق من الأشهر إلا يوم واحد فإنها تعتد بالأقراء، هذا في الصغيرة التي يمكن أن تحيض اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والمرتابة بتسعة أشهر فإن حاضت في أثنائها انتظرت الثانية والثالثة كذلك، وإلا استأنفت ثلاثة أشهر، فإن حاضت فكذلك، وإلا حلت " قال ابن جزي في القوانين: وأما المرتابة وهي التي ارتفعت حيضتها، فإن ارتفعت بغير سبب من حمل ولا رضاع ولا مرض فإنها تمكث تسعة أشهر، وهي مدة الحمل غالباً، فإن لم تحض فيها اعتدت بعدها ثلاثة أشهر فكمل لها سنة ثم حلت، وإن حاضت في خلال الأشهر التسعة حسبت ما مضى قرءاً ثم انتظرت القرء الثاني لإتمام تسعة أشهر أيضاً، فإن حاضت حسبت قرءاً آخر وكذلك في الثالث، ولو حاضت قبل تمام سنة ولو بساعة حسبت كل ما مضى قرءاً ثم استأنفت تسعة أشهر، ثم اعتدت بثلاثة بعدها،

وإن حاضت بعد السنة لم تعتبر لأن عدتها قد انقضت بالسنة اهـ. هذا وقد تقدم الكلام على المرتابة عند قوله: وعلى المدخول بها حيضة إلا أن تكون عادة طهرها أكثر من الشهور فتقتصر عليها فراجعه إن شئت. قال رحمه الله تعالى: " فإن ارتفع برضاع لم تستبرأ إلا بأقراء وبمرض كالمرضع وقيل كالمرتابة " يعني أن التي ارتفعت حيضتها إما أن ترتفع بسبب رضاع أو بمرض وإما بلا سبب، فإن ارتفعت برضاع فتنتظر ثلاثة أقراء بعد فطام ولدها أو موته، فإن كان ارتفاعها بمرض فكذلك أي كالمرضع تعتد بالأقراء. وقيل كالمرتابة فتعتد بأقرب من أحد الأمرين إما ثلاثة قروء وإما سنة البيضاء. قال ابن جزي في القوانين: ولو ارتفع حيضها لرضاع انتظرت الحيض وإن طال الزمان ولا تجزئها الأشهر، وإن ارتفع حيضها لمرض ففيها روايتان إحداهما أنها كالتي ارتفع حيضها بغير سبب، والأخرى أنها كالمرضع اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والمستحاضة إن كانت مميزة عملت عليه وإلا فسنة " يعنى كما في المسألة، وعدة المستحاضة أو الأمة المعنى أن عدة الحرة المستحاضة والأمة المستحاضة في الطلاق سنة. قال النفراوي بشرط عدم التمييز، ومثلهما في الاعتداد بسنة من تأخر حيضها بغير سبب أو لمرض. قال خليل: وإن لم تميز أو تأخر بلا سبب أو مرضت تربصت تسعة أشهر ثم اعتدت بثلاثة، فعلم أن كل السنة ليست بعدة، بل تسعة استبراء وثلاثة أشهر عدة، وإن كان المصنف أطلة على كل السنة عدة. وأما إذا ميزت فإنها تعتد بالأقراء لا بالأشهر لأن الدم المميز بعد طهر تام يعد حيضاً قال خليل: والمميز بعد طهر تم حيض كما قدمنا اهـ قال ابن جزي: وأما المستحاضة فإن كانت غير مميزة بين دم الحيض والاستحاضة فهي كالمرتابة تقيم تسعة أشهر استبراء وثلاثة عدة، وإن كانت مميزة ففيها روايتان إحداهما أنها كغير المميزة والأخرى أن تعمل على التمييز فتعتد بالأقراء اهـ.

وتقدم لنا في الحج أحكام المستحاضة إحرامها وطوافها واغتسالها وما تفعل في جميع نسكها مما ينبغي لها في ذلك فراجعه إن شئت. قال رحمه الله تعالى: " ومن بلغها موت زوجها أو طلاقه فعدتها منذ الموت والطلاق لا البلوغ " يعني أن ابتداء العدة يكون من يوم الموت أو الطلاق. قال في المدونة: وإذا بلغها موت زوجها فعدتها من يوم مات، فإن لم يبلغها ذلك حتى انقضت عدتها فلا إحداد وقد حلت، وكذلك إن طلقت وهو غائب فعدتها من يوم الطلاق إذا أقامت على الطلاق بينة وإن لم تكن على ذلك بينة إلا أنه لما قدم قال: كنت طلقتها فالعدة من يوم إقراره ولا رجعة له في ذلك فيما دون الثلاث. إذا تمت العدة من يوم دعواه، وترثه في العدة من يوم دعواه المؤتنفه ولا يرثها، وإن كان الطلاق بتاً لم يتوارثا بحال ولا يرجع عليها بما أنفقت من ماله بعد طلاقه قبل علمها لأنه قد فرط. قال ابن يونس وأما المتوفى عنها فإنها ترد ما أنفقت من ماله بعد وفاته لأن ماله صار لورثته فليس لها أن تختص منه بشيء دونهم اهـ نقله الحطاب. ومثله في المواق عند قول خليل: وإن انقضت على دعواه وورثته فيها إلخ. ثم قال رحمه الله تعالى: " وللمبتوتة السكنى، وللحامل نفقتها حتى تضع ولا يثبت بدعواها حتى يظهر فتجعل لها النفقة، فإن انفش فله الرجوع وأكثر مدة الحمل أربع سنين " يعني أن المبتوتة لها السكنى حتى تنقضي عدتها. قال في الرسالة: والسكنى لكل مطلقة مدخول بها. قال الله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن} [الطلاق: 6] قال مالك: يعني المطلقات اللائي قد بن من أزواجهن فلا رجعة لهم عليهن فكل بائن من زوجها وليست حاملاً فلها السكنى ولا نفقة لها ولا كسوة، لأنها بائن منه ولا يتوارثان ولا رجعة له عليها. قال: وإن كانت حاملاً فلها النفقة

والكسوة والمسكن حتى تنقضي عدتها اهـ المدونة. وأما الحامل فلا خلاف في نفقتها وسكناها للآية المتقدمة، ولقوله تعالى: {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} [الطلاق: 6] هذا في المطلقة، وأما في الموت فقد تقدم أن لزوجته السكنى ولا نفقة لها وإن حاملاً فتنبه. ولا يرتب في حمل المطلقة إلا بعد ثبوته، وإن لم يثبت فلا شيء لها إن كان الطلاق بائناً، فإن أخذت من نفقة الحمل شيئاً قبل ظهوره فثبت عدمه فإنه يرجع عليها. قال خليل مشبهاً بها في رد ما أخذ: كانفشاش الحمل. قال الحطاب: يعني أن من طلق زوجته فادعت أنها حامل فأنفق عليها ثم ظهر انفشاش الحمل، فإنه يرجع عليها بالنفقة وتردها، وسواء أنفق الرجل من أول الحمل ظاناً أنها تلزمه أو ظهر الحمل فألزم الإنفاق. وقال الخرشي: وهذا هو الراجح، وسواء أخذته بحكم أم لا انظر الحطاب اهـ. وأما قوله: وأكثر مدة الحمل أربع سنين وتقدم الخلاف فيه بين الأربع والخمس. قال خليل: وهل أربعاً أو خمس؟ خلاف. قال ابن جزي: ومن ارتابت بالحمل لثقل بطنها أو تحركه لم تحل حتى تنقضي مدة الحمل وهي خمسة أعوام في المشهور. وقيل أربعة وفاقاً للشافعي. وقيل سبعة. وقال أبو حنيفة عامان اهـ. وبذلك تعرف أن فيه اختلاف العلماء. قال ابن عاصم في تحفة الحكام مبيناً فيما اشتهر في المذهب: وخمسة الأعوام أقصى الحمل ... وستة الأشهر في الأقل اهـ. ولما أنهى الكلام على مسائل العدة انتقل يتكلم على الاستبراء فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ أي في بيان ما يتعلق بالاستبراء من الحكام بتجدد الملك في الأمة. قال رحمه الله تعالى: " تجديد الملك يوجب الاستبراء " يعني أن الاستبراء واجب على الإمام كوجوب العدة على الحرائر لحفظ الأنساب، وذلك بانتقال الملك إما ببيع أو إرث

أو سبي أو هبة أو صدقة أو غير ذلك. وهو كشف عن حال الرحم ليعلم المالك الثاني هل هي بريئة من الحمل أو مشغولة به. قال ابن رشد في المقدمات: استبراء الإماء في البيع واجب لحفظ النسب، فوجب على من انتقل إليه ملك أمة ببيع أو هبة أو بأي وجه من وجوه الملك ولم يعلم براءة رحمها ألا يطأها حتى يستبرئها رفيعة كانت أو وضيعة اهـ. وما ذكره ابن رشد من قوله لا يطأها حتى يستبرئها أصله قوله عليه الصلاة والسلام في سبايا أوطاس: (لا توطأ حامل حتى تضع حملها، ولا ذات حمل حتى تحيض) اهـ. قال رحمه الله تعالى: " الحامل بالوضع، وذات القرء بالأقراء، واليائسة بثلاثة أشهر، والمرتابة بتسعة، والمملوكة في عدة بانقضائها إلا من تتيقن براءتها " يعني أن استبراء الأمة الحالم وضع حملها كله كما تقدم في العدة، وتستوي الحرة والأمة في انقضاء العدة والاستبراء بالوضع بشروطه المتقدمة. وأما ذات القرء فينقضي استبراؤها بحيضة في انتقال الملك، والحرة بثلاثة قروء إلا في الزنا واللعان والردة فبحيضة فقط. قال الناظم: والحرة استبراؤها كالعدة ... لا في لعان أو زنا أو ردة فإنها في كل ذي تستبرا ... بحيضة فقط كفيت الضرا ويشترط في انقضاء المدة بحيضة لغير المستثنى منهن عدم الارتياب، فإن ارتابت فبتسعة أشهر سواء كانت حرة أو أمة. رواه ابن وهب عن مالك. ونقل عنه أيضاً أن الأمة إذا مضى لها ثلاثة أشهر ودعيت لها القوابل فقلن لا حمل بها فإن استبراءها قد انقضى وأن لسيدها أن يطأها. قال أشهب: هذا أحب إلي لأن رحمها يبرأ بثلاثة أشهر كما يبرأ بتسعة أشهر لأن الحمل يتبين في ثلاثة أشهر، وذلك الذي حمل كثيراً من أهل العلم على أن جعل استبراء الأمة إذا كانت لا تحيض أو قد يئست من المحيض ثلاثة أشهر، وكذا الحكم في من استثنى إن نابت ولم تحض فيكتفي منها بثلاثة أشهر اهـ المدونة بطرف

من شراحها. وأما قوله: والمملوكة الخ قال مالك في المدونة: من ابتاع أمة وهي في سنتها من وفاة أو طلاق فلا يجردها لينظر منها عند البيع ولا يتلذذ منها بشيء إن ابتاعها حتى تنقضي عدتها، وأخذ به ابن نافع اهـ، وأما اليائسة سواء كانت أم ولد أو غيرها في انتقال الملك فثلاثة أشهر، وكذلك التي تأخرت حيضتها عن عادتها بلا سبب أو بسبب رضاع أو مرض أو استحيضت ولم تميز فإنها تمكث ثلاثة أشهر من يوم انتقال الملك، وينظر لها النساء ولو واحدة، فإن لم ترتب حلت، وإن ارتابت بجس بطن فتمكث تسعة أشهر، فإن زالت الريبة حلت وإلا مكثت أقصى أمد الحمل اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ومن وطئ أمة لم يبعها حتى يستبرئها، فإن اتفقا على استبراء واحد جاز " يعني لا يجوز لمن وطئ أمته أن يببعها قبل أن يستبرئها مخافة أن تكون حاملاً منه فترد به. وأما إن كانت عند رجل أمين وقد حاضت عنده ثم اشتراها من سيدها جاز له وطؤها. قال في الرسالة: ومن هي في حيازته وقد حاضت عنده، ثم إنه اشتراها فلا استبراء عليها إن لم تكن تخرج اهـ. وعبارة المدونة: قال مالك: لو أن رجلاً اشترى جارية فوضعها فكانت على يدي رجل لتستبرئ له فحاضت فسأله الذي وضعت على يديه أن يوليه إياها ولم تخرج من يديه كان ذلك له استبراء في شرائه يطؤها ويجزئه الاستبراء عنده اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فلو ردها لفساد عقد أو خيار استحب للبائع استبراؤها " يعني أن المشتري لو رد الأمة إلى بائعها لأجل فساد البيع أو ردها في بيع الخيار فيستحب للبائع أن يستبرئها قبل وطئها، هذا ما لم يغب المشتري عليها وإلا وجب على البائع استبراؤها. قال خليل: ويستحسن إن غاب عليها مشتر بخيار له، وتؤولت على الوجوب أيضاً. قال المواق في المدونة: من ابتاع جارية بخيار واختار الرد من له الخيار فلا استبراء على البائع لأن البيع لم يتم فيها، وإن أحب البائع أن يسبرئ التي غاب

عليها المشتري وكان الخيار له خاصة فذلك حسن، إذ لو وطئها المبتاع كان ذلك مختاراً وإن كان منهياً عنه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وبإقالة يجب استبراؤها " وهي رد المبيع للبائع ورد الثمن للمشتري على وجه المعروف بمثل ما وقع فيه البيع. قال الدردير: والإقالة بيع إلا في طعام المعاوضة والشفعة والمرابحة ستأتي في البيوع. والمعنى: إذا رد المشتري الأمة للبائع وجب عليه استبراؤها بحيضة. قال رحمه الله تعالى: " فإن باعها قبل استبرائها فوطئها المشتري كذلك فأتت بولد لأكثر من ستة أشهر حكم فيه بالقافة " يعني أن من باع الأمة قبل أن يستبرئها فوطئها المشتري ولم يستبرئها أيضاً فأتت بولد لأكثر من ستة أشهر من وطء المشتري فالحكم فيه ما حكمته القافة كما في المدونة. وقد أجاد ابن رشد وأطنب في شرحها فقال في المقدمات: فصل فإن اشترى الرجل أمة فوطئها قبل أن يستبرئها فعليه العقوبة الموجعة مع طرح الشهادة، فإن حملت فماتت قبل أن تضع وقد كان البائع وطئها في ذلك الطهر فمصيبتها منه كان موتها لأقل من ستة أشهر من يوم وطئها المشتري أو لأكثر منها ما بينها وبين ما يلحق به الأنساب من الأول، وإن لم يكن البائع وطئها في ذلك الطهر فمصيبتها من المبتاع. قال: فإن لم تمت ووضعت فلا يخلو وضعها من أن يكون لأقل من ستة أشهر أو لأكثر منها، فإن كان لأقل من ستة أشهر والبائع مقر بالوطء في ذلك الطهر فالولد ولده والأمة أم ولد له، سقطاً كان الولد أو تماماً، حياً كان أو ميتاً وأما إن كان البائع منكراً للوطء في ذلك الطهر فالولد ولد الأمة لا والد له، والمشتري بالخيار إن شاء أن يأخذها وإن شاء أن يتركها، لأن ذلك عيب فيها. وهذا إذا ولد حياً أو ميتاً تام الخلقة لا يشبه أن يكون من المشتري. وأما إن وضعته سقطاً يشبه أن يكون من المشتري فهو منه وهي أم ولد له، وأما إن أتت به لستة أشهر فصاعداً أو مقدار نقصانها

بالأهلة والبائع مقر بالوطء في ذلك الطهر فلا يخلو ذلك من وجهين أحدهما أن تكون وضعته حياً والثاني أن تكون وضعته ميتاً أو سقطاً فأما إن كانت وضعته حياً فإنه تدعى له القافة فمن ألحقوه به منهما لحق به، وكانت الأمة أم ولد له، وهذا إذا لم يدعيا الولد وأما إن ادعياه جميعاً فإن الأمة تكون معتقة منهما جميعاً ويرجع المشتري بنصف الثمن على البائع، وأما إن كان ميتاً أو سقطاً ففي ذلك اختلاف. روى أصبغ عن ابن القاسم أنه من المبتاع وأن الأمة أم ولد له. قال يحيى بن سعيد في المدونة: يعتق عليهما جميعاً. والأظهر أن يلحق بالبائع وتكون الأمة أم ولد له. وأما إن كان البائع منكراً للوطء فالأمة أم ولد للمبتاع وولدها لاحق به. وقد قيل إن الولد للأول والأمة أم ولد منه إن ولدته حياً لأكثر من ستة أشهر ولا تدعى له القافة لأن فراش الأول صحيح وفراش الثاني فاسد. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) وأجمعوا لهذا الحديث أن الزوجين إذا وطئا في طهر واحد أن الولد للأول، وإن أتت به لستة أشهر لصحة فراشه. ولا فرق بين الموضعين اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولستة من وطء الأول يلحق به " هذه الجملة من تمام التي قبلها. قوله ولستة الخ وفي نسخة أخرى ولسنة بالنون الموحدة وهي تصحيف من بعض النساخ. والمعنى: إن أتت بولد لستة أشهر من وطء الأول وهو البائع يلحق الولد به، ولو أتت به لأكثر من ستة أشهر لصحة فراشه، وإليه أشار ابن رشد بقوله: وقد قيل إن الولد للأول والأمة أم الولد منه إن ولدته حياً لأكثر من ستة أشهر، ولا تدعى له القافة لأن فراش الأول صحيح، وفراش الثاني فاسد إلى أخر ما تقدم. وفي عبارة من المدونة أيضاً: لو أن رجلين وطئا أمة بملك اليمين في طهر واحد، أو تزوج رجلان امرأة في طهر واحد وطئها أحدهما بعد صاحبه ثم تزوجها الثاني وهو يجهل أن لها زوجاً فجاءت بولد فقال ابن القاسم: أما إذا كان ذلك في ملك اليمين فإن مالكاً قال يدعى لها القافة

قال: وأما في النكاح فإذا اجتمعا عليها في طهر واحد فالولد للأول لأنه بلغني عن مالك أنه سئل عن امرأة طلقها زوجها فتزوجت في عدتها قبل أن تحيض فدخل بها زوجها الثاني فوطئها واستمر بها الحمل فوضعت قال: قال مالك: الولد للأول، وإن كان تزوجها بعد حيضة أو حيضتين من عدتها فالولد للآخر إن كانت ولدته لتمام ستة أشهر من يوم دخل بها الآخر، فإن كانت ولدته لأقل من ستة أشهر فهو للأول اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولا يحكم بالقائف في ولد زوجة ولا ميت ولا اعتبار بشبه غير الأب " يعني أنه لا يدعي القائف في ولد امرأة متزوجة لأنه ولد على فراش أبيه، وهو ثابت النسب، ومثله الذي ولدته التي في العصمة بعد وفاة زوجها فلا يدعى له القائف لأنه يلحق بفراش الميت ولا يعتبر بشبه غير أبيه لأنه ظن، وأن الظن لا يغني من الحق شيئاً. قال خليل في باب اللعان: ولا يعتمد فيه على عزل ولا مشابهة لغيره وإن بسواد اهـ. وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة أنه قال: (جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أواق؟ قال: نعم، قال: فأنى كان ذلك؟ قال: أراه عرق نزعه، قال: فلعل ابنك هذا نزعه عرق) اهـ. قال ابن عبد السلام: ففهم الأئمة من هذا الحديث أن المشابهة لا يعتمد عليها في اللعان، وأنها لا تصلح مظنة في ذلك ولا علة اهـ. ولما أنهى الكلام على الاستبراء في الإماء وما يتعلق بذلك انتقل يتكلم على النفقات وما يتعلق بها ممن تلزمه، وعلى من ينفق عليه فقال رحمه الله تعالى:

فَصْلٌ أي في بيان النفقة. وتقدم بعض الكلام فيها عند قول المصنف: وتلزم النفقة بالدخول، أي بالزوجة، والمراد بالنفقة هنا نفقة غير الزوجة من، كأبوين والأولاد الصغار الذين لا مال لهم بأن كانوا فقراء فيجب على الولد الموسر إنفاق والديه، وكذلك يجب على الأب الموسر أن ينفق على أولاده. وبدأ بنفقة الوالدين اهتماماً بشأنهما فقال رحمه الله تعالى: " تلزم الموسر نفقة أبويه المعدمين العاجزين عن الكسب ولو كافرين " قال ابن جزي: ولا يشترط عجزهما عن الكسب. يعني ومتى كانا فقيرين وجب الإنفاق عليهما. قال أبو محمد في الرسالة بعد أن ذكر نفقة الزوجة: وعلى أبويه الفقيرين. قال خليل في المختصر: وبالقرابة على الموسر نفقة الوالدين المعسرين سواء كانا مسلمين أو كافرين، وسواء ذلك الشخص ذكراً أو أنثى صغيراً أو كبيراً لأن النفقة من باب خطاب الوضع. قال النفراوي: والضابط أن المطالب بالنفقة إن كان زوجاً اشترط بلوغه ويساره كما تقدم، وإن كان قريباً أو مالكاً لا يشترط فيه بلوغه اهـ. وفي القوانين لابن جزي: إنما تجب على الإنسان نفقة أبويه وأولاده بعد أن يكون له مقدار نفقة نفسه. ولا يباع عليه عبده ولا عقاره في ذلك إذا لم يكن فيها فضل عن حاجته ولا يلزمه الكسب لأجل نفقتهم اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وإعفاف الأب ونفقة زوجته وزوج الأم إن أعسر لا إن تزوجته عديماً " قوله: وإعفاف الأب معطوف على نفقة أبويه. يعني يلزم الولد الموسر إعفاف أبيه المعدم بزوجة، كما لزمه نفقتها ونفقة زوج الأم إذا كانت متزوجة بمعسر وهو موسر. ولا نفقتها عن ولدها ما دام زوجها معسراً. وتقدم نص المدونة عند قول المصنف: ويثبت خيارها بعسرين لا إن تزوجته عالمة بفقره، فراجعه إن شئت. قال

النفراوي في الفواكه: كما يلزم الولد الموسر نفقة أبويه الفقيرين يلزمه نفقة خادمهما. كذا يلزمه إعفاف أبيه بزوجة فلا يلزمه شراء أمة ولا أكثر من زوجة إلا إذا لم تعفه زوجة. قال: وإذا تعددت زوجة الأب لم يلزمه إلا نفقة زوجة واحدة يختارها الأب، إلا أن تكون إحداهن أمه فينفق عليها دون غيرها. قال خليل: ولا تتعدد إن كانت إحداهما أمه على ظاهرها، بل ينفق على أمه فقط حيث كانت تعفه وإلا تعددت على الولد: الأم ينفق عليها بالقرابة والأخرى بالزوجية، فلو لم يقدر إلا على الإنفاق على واحدة فالزوجية، والقول للأب فيمن ينفق عليها الواحدة حيث لم تكن إحداهما أمه وطلب الأب النفقة على من نفقتها أكثر وإلا تعينت الأم ولو كانت غنية، لأن النفقة هنا للزوجية لا للقرابة اهـ بحذف. قال رحمه الله تعالى: " وصغار الأولاد الفقراء، الذكر حتى يبلغ صحيحاً عاقلاً، والأنثى حتى تلزم الزوج ولا تعود بخلوها إلا أن تكون صغيرة " يعني يلزم على الأب الموسر نفقة أولاده الصغار الذين لا مال لهم. قال أبو محمد في الرسالة عاطفاً على نفقة الأبوين الفقيرين: وعلى صغار ولده الذين لا مال لهم، على الذكور حتى يحتلموا ولا زمانة لهم، وعلى الإناث حتى ينكحن ويدخل بهن أزواجهن، ولا نفقة لمن سوى هؤلاء من الأقارب اهـ. قال ابن جزي فيمن تلزم لهم النفقة: أولاد الصلب تجب نفقتهم على والدهم بشرطين: أن يكونوا صغاراً، وألا يكون لهم مال. ويستمر وجوب النفقة على الذكر إلى البلوغ، وعلى الأنثى إلى دخول الزوج بها، فإن بلغ الذكر صحيحاً سقطت نفقته عن الأب، وإن بلغ مجنوناً أو أعمى أو مريضاً بزمانة يمتنع الكسب معها لم تسقط نفقته بالبلوغ على المشهور، بل تستمر. وقيل تنتهي إلى البلوغ كالصحيح، ولو بلغ صحيحاً فسقطت نفقته ثم طرأ عليه ما ذكر لم تعد النفقة خلافاً لابن الماجشون وإن طلقت البنت بعد سقوط نفقتها لم تعد على الأب إلا إن عادت وهي غير بالغة كما في المدونة اهـ.

قال رحمه الله تعالى: " ونفقة الأرقاء كفايتهم بالمعروف أو بيعهم أو عتقهم، ولا يكلفون من العمل ما لا يطيقون " يعني يلزم السيد نفقة عبيده بقدر كفايتهم بالمعروف كما يلزم عليه أكفانهم إذا ماتوا، فإن لم يقدر على الإنفاق عليهم أمر بالبيع أو العتق، وإن فعل فذاك، وإلا بيع عليه ولا يكلف عليهم من العمل ما لا يطيقون كما ورد في الموطأ. وفي البخاري عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم) الحديث. قال تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286] قال في الرسالة: يترفق بالمملوك ولا يكلف من العمل ما لا يطيق. قال ابن جزي: وعلى السيد النفقة على عبيده ذكرانهم وإناثهم بقدر الكفاية على حسب العوائد فإن لم ينفق على عبده بيع عليه اهـ. وفي أقرب المسالك: ويجب على المالك نفقة رقيقه ودوابه، وإلا أخرج عن ملكه كتكليفه من العمل ما لا يطيق إن تكرر اهـ. قال خليل: إنما تجب نفقة رقيقه ودابته إن لم تكن مرعى وإلا بيع اهـ. وإليه أشار الناظم رحمه الله تعالى بقوله في أسهل المسالك: أنفق على الرقيق والدواب ... إن لم يكن مرعى على الإيجاب ومن أبى قهراً عليه فليبع ... كحمل أو تكليف ما لم يستطع وينفق الأب على الابن إلى ... بلوغه حراً بكسب عقلاً ولدخول الزوج بالأنثى كما ... يدعى له مطيقة محتلما والأبوان المعسران ينفق ... عليهما الابن بيسر يرفق

وزوجة لبالغ إن مكنت ... مطيقة لا مشرف أو أشرفت ولو لحج سافرت أو مرضت ... أو حبسته أو له قد حبست اهـ وقد تقدم جميع ذلك فراجعه إن شئت. قال رحمه الله تعالى: " وعلوفة الدواب أو رعيها أو بيعها فإن أبى بيع عليه " يعني كما قال الصاوي: إن نفقة الدابة إذا لم تكن مرعى واجبة ويقضى بها، لأن تركها منكر خلافاً لقول ابن رشد القائل يؤمر من غير قضاء، لكن القضاء بالنفقة أو البيع أو الذبح فيما يذبح هو أصوب. قاله بعضهم، كما نقله زروق على الرسالة. وفي الحطاب قال أبو عمر: ويجبر الرجل على أن يعلف دابته أو يرعاها إن كان في رعيها ما يكفيها، أو يبيعها أو يذبح ما يجوز ذبحه، ولا يترك يعذبها بالجوع، قلت: ولازم هذا القضاء عليه لأنه منكر وتغيير المنكر واجب القضاء به، وهذا أصوب من قول ابن رشد اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " ولا تلزم الأم نفقة ولدها ولو يتيماً، وعليها إرضاعه ما دامت زوجة أبيه " يعني أن الأم لا تلزمها نفقة ولدها، وعليها إرضاعه ما دامت زوجة لأبيه. وتقدم الكلام في هذه المسألة عند قوله: ونفقة الطفل من ماله، فإن لم يكن له مال أو لم يقبل ثدي غيرها لزمها إرضاعه، فراجعه في كتاب العدة إن شئت. قال رحمه الله تعالى: " فإن كانت لا ترضع لشرف أو مرض أو قلة لبن فعلى الأب إلا لفقره أو لا يقبل ثدي غيرها فيلزمها " يعني أن المرأة إن كانت شريفة لا ترضع ولدها لشرفها، أو هي مريضة لا قدرة لها على الإرضاع، أو لقلة لبنها فواجب على الأب أن يأتي له بمرضعه ترضعه ولو بأجرة إلا إذا كان الأب فقيراً ولا مال للطفل أو لا يقبل ثدي غير أمه فيلزم الأم إرضاعه على حسب ما يأتي من الخلاف. قال العلامة الشعراني في الميزان: ومن ذلك قول الأئمة الثلاثة أن الأم لا تجبر على إرضاع ولدها بعد سقيه اللبن إذا وجد غيرها، مع قول مالك: إنها تجبر ما دامت في زوجية أبيه إلا أن يكون

مثلها لا يرضع لشرف أو عذر أو يسار اهـ. وفي الفتاوى للشيخ محمد عليش نقلاً عن ابن سلمون: ويلزم الأم إرضاع ولدها إلا أن تكون مريضة أو غير ذات لبن أو شريفة لا يرضع مثلها فيكون على الأب أن يأتي لها بمن يرضعه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " أما المطلقة فلا يلزمها إلا أن لا يجد من ترضعه أو لا يقبل ثدي غيرها فإن استأجر له فأمه أحق " قال ابن سلمون: فإن طلقها الأب فإنه يؤدي لها أجرة الرضاع على قدر حاله في العسر واليسر، فإن لم ترض بما فرض لها كان للأب أخذه يدفعه لمن ترضعه، فإن لم يقبل غيرها أو كان الأب معسراً لا يقدر على أجرة كان عليها إرضاعه باطلاً، وإن كان موسراً ووجد من ترضعه بأقل من الأجرة المفروضة عليه فهل عليه أخذه أم لا في ذلك قولان اهـ. يعني كما تقدم فإن كانت الأم مطلقة فلا يلزمها إرضاعه لخروجها عن عصمة الزوج أبي الولد إلا إن لا يجد الأب من لا ترضع له ولده، أو لا يقبل ثدي غير أمه فتجبر وعليها إرضاعه بأجرة من مال الولد إن كان له مال، أو من مال الأب كذلك، أو من بيت مال المسلمين إن كان. قال ابن سلمون: وإن مات الأب فإنها ترضعه بأجرة تأخذها من مال الطفل، فإن لم يكن له مال لزمها إرضاعه باطلاً كما تقدم اهـ. قال في الرسالة: وللمطلقة إرضاع ولدها على أبيه، ولها أن تأخذ أجرة رضاعه إن شاءت اهـ انظر جواهر المعاني في جواب الثالث من السؤالات الواردة للشيخ أبي الفيض أحمد بن محمد التجاني عليه رضى الرحماني أنه قد أطال الإنكار وأطنب فيمن استثنى الشريفة في عدم إرضاعها ولدها لشرفها، وقد نقلنا جوابه برمته إلى كتابنا بدر الزوجين فراجعه إن شئت والله الموفق للصواب. ثم انتقل رحمه الله تعالى يتكلم عن الحضانة فقال: " وهي أحق بحضانته ما لم تنكح ويدخل بها ولو أمة أو مستولدة " يعني أن الأم أحق بحضانة ولدها بعد الطلاق أو الموت ما لم تتزوج، فإن تزوجت ودخل بها الزوج سقط حقها من الحضانة.

والحضانة حفظ الولد والقيام بمؤونته ومصالحه إلى أن يستغني عنها بالبلوغ أو يدخل بزوجته، وكذا الأنثى وحتى يدخل الزوج بها. وهي فرض على الكفاية لا يحل أن يترك الطفل بغير كفالة، فإذا قام به قائم سقط عن الباقين وإلا فهم عاصون الله ورسوله ويعاقبون في ترك القيام بها اهـ العدوي. والمعنى: الأم أحق بحضانة ولدها ولو كانت أمة أو مستولدة ما لم تنكح. قال خليل: ولو أمة عتق ولدها أو أم ولد اهـ. هذا إشارة لما في المدونة من قول مالك: إذا أعتق ولد الأمة وزوجها حر فطلقها فهي أحق بحضانة ولدها إلا أن تباع فتظعن إلى غير بلد الأب فالأب أحق به أو يريد الأب انتقالاً عن بلد الأم فله أخذه. والعتق نص على المتوهم وأولى إن لم يعتق، وكذا أم الولد هي أحق بحضانة ولدها من زوجها بعد طلاقها، وكذا ولد الأمة أو أم الولد من سيدهما فلهما حضانته إذا عتقا أو مات سيدهما، لكن يشترط في استحقاق الأمة حضانة ابنها من زوجها أن لا يتسررها السيد أي لا يتخذها للوطء لأن تسرر السيد بمنزلة دخول الزوج الأجنبي بالحاضنة اهـ ومثله في الخرشي. قال رحمه الله تعالى: " واختلف في الكتابية " يعني هل لها حق في حضانة ولدها الذي ولد على فراش أبيه المسلم أم لا؟ المشهور أن لها حضانة ولدها بعد فراق زوجها بموت أو طلاق، ولا يشترط الإسلام في الحاضن. قال خليل: لا إسلام، وضمت إن خيف للمسلمين، وإن مجوسية أسلم زوجها. قال الخرشي: يعني أن الحاضن لا يشترط أم يكون مسلماً، بل يصح أن يكون كافراً. قال في المدونة: وللذمية إذا طلقت أو المجوسية يسلم زوجها وتأبى هي من الإسلام فيفرق بينهما ولهما من الحضانة ما للمسلمة إن كانت كل واحدة منهما في حرز وتمنع أن تغذيهم بخمر أو خنزير، وإن خيف أن تفعل معهم ذلك ضمت إلى ناس من المسلمين، ولا ينتزعون منها إلا أن تبلغ الجارية وتكون عندها في غير حرز اهـ ومثله في المواق. وفي المدونة أيضاً: اليهودية والنصرانية والمجوسية في هذا سواء مثل المسلمة اهـ.

قال رحمه الله تعالى: " ولا تعود لخلوها كتركه مقتاً " والضمير في ولا تعود عائد إلى الحضانة، وفي خلوها عائد إلى الأم ومن انتقل الحق إليه بعدها. والمقت البغض. قال في المصباح: مقته مقتاً من باب قتل أبغضه أشد البغض عن أمر قبيح. والمعنى لا تعود الحضانة لمن ردها بغضاً سواء كانت أماً أو غيرها. وفي نسخة كتركه وقتاً أي زمناً أو أياماً كشهرين مثلاً، وعن مالك فيمن تأيمت وتركت أولادها أشهراً ثم قيل لها أنت أحق بهم فقالت ما علمت، قال الشأن في هذا قريب. وقد تجهل السنة اهـ المواق. وما تقدم من معنى المقت هو الأصح لأن المقت بمعنى البغض يقع على المرأة ناشئاً من حرارة فراق زوجها حتى تبغض ولده. وفي الحطاب نقلاً عن ابن القاسم عن مالك أنه قال في امرأة طلقها زوجها، وله منها ولد فردته عليه استثقالاً له ثم طلبته لم يكن ذلك لها. قال ابن رشد: وهذا كما قال إنها إذا ردته إليه استثقالاً له فليس لها أن تأخذه لأنها أسقطت حقها في حضانته إلا على القول بأن الحضانة من حق المحضون، وهو قول ابن الماجشون. قلت: وما نقل عن مالك هو المشهور كما في الدردير ومثله في القوانين. قال رحمه الله تعالى: " لا لضرورة " يعني إن كان سقوط الحضانة لضرورة ثم زالت فإن الحضانة تعود. وعبارة الخرشي أي إلا أن يكون السقوط لعذر كمرض لا تقدر معه على القيام بالمحضون أو عدم لبن أو حج الفرض أو سافر زوجها بها غير طائعة أو رجع الولي من سفر النقلة فلها أخذه ممن هو بيده بعد زوال هذه الأعذار؛ بأن صحت أو رجعت من سفرها أو عاد لبنها بقرب زوالها إلا أن تتركه بعد السنة ونحوها فلا تأخذه ممن هو بيده إلا بعد موته وانتقاله إلى غيره اهـ. وقال اللخمي: وكذلك ما لم يألف الولد من هو عندها ويشق عليه نقله من عندها اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ثم أمها الخالة، ثم أم الأب، ثم الأخت، ثم العمة، ثم بنت الأخ فإن عدمن فعصباته " هذا الترتيب هكذا بالاختصار مثله

لابن جزي في القوانين. وأما عبارة العلامة الجزيري في الفقه: قال المالكية يستحق الحضانة أقارب الصغير من إناث وذكور على الترتيب الآتي ذكره. قال فأحق الناس به أمه ثم أمها يعني جدته لأمه وإن علت، ثم الخالة الشقيقة، ثم الخالة لأم، ثم خالة الأم، ثم عمة الأم، ثم أم الأب، ثم أم أمه، وأم أبيه، والقربى منهن تقدم على البعدى، والتي من جهة أمه تقدم على التي من جهة أبيه. ثم بعد الجدة من جهة الأب تنتقل الحضانة إلى الأب، ثم إلى الأخت، ثم إلى عمة الصغير أخت أبيه، ثم إلى عمة أبيه أخت جده، ثم إلى خالة أبيه، ثم بنت الأخ الشقيق، ثم لأم ثم لأب، ثم إلى بنت الأخت كذلك. وإن اجتمع هؤلاء يقدم منهن الأصلح للحضانة. وبعضهم رجح تقديم بنات الأخ على بنات الأخت. ثم بعد هؤلاء تنتقل الحضانة إلى الوصي سواء كان ذكراً أو أنثى، ثم لأخ الصغير، ثم ابن الأخ ويقدم عليه الجد من جهة الأم، ثم العم ثم ابنه. ويقدم الأقرب على الأبعد. ثم المعتق أو عصبته نسباً اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويشترط في الحاضنة خلوها أو كونها زوجة لولي الطفل أو محرمه " قال الجزيري في الفقه: يشترط في الحاضن ذكراً كان أو أنثى شروط: الأول: العقل فلا حضانة لمجنون ولو يفيق في بعض الأحيان، ولا لمن به خفة عقل وطيش. الثاني: القدرة على القيام بشأن المحضون لا حضانة للعاجز كامرأة بلغت من الشيخوخة أو رجل هرم إلا يكون عندهما من يمكنه القيام بالحضانة تحت إشرافهما، ومثلهما الأعمى والأصم والأخرس والمريض والمقعد. الثالث: أن يكون للحاضن مكان يمكن حفظ البنت فيه التي بلغت حد الشهوة من الفساد، فإذا كان في جهة غير مأمونة فإن حضانته تسقط. الرابع: الأمانة في الدين فلا حضانة لفاسق يشرب الخمر ومشتهر بالزنا ونحو ذلك. الخامس: أن يكون الحاضن مصاب بمرض معد يخشى على الطفل منه كجذام وبرص. السادس: أن يكون الحاضن رشيداً فلا حضانة لسفيه مبذر لئلا يتلف مال المحضون إن كان له مال.

الشرط السابع: الخلو عن زوج دخل بها إلا إذا تزوجت بمحرم أو علم من له حق الحضانة بعدها بتزوجها وسكت مدة عام بلا عذر فإن حضانته تسقط بذلك. وتقدم أنه لا يشترط أن يكون الحاضن مسلماً، ويشترط إن كان ذكراً أن يكون عنده من يحضن الطفل من الإناث كزوجة أو سرية أو خادمة ولا يصح أن يحضن غير محرم بنتاً مطيقة للوطء كابن عمها إلا إذا تزوج بأمها ولو كان مأموناً اهـ مع حذف. قال رحمه الله تعالى: " والوصي أحق بحضانة الذكر من عصبته فأما الأنثى فإن كان مأموناً وله أهل وإلا فلا " يعني كما قال الخرشي: أن مرتبة الوصي في الحضانة مقدمة على مرتبة العصبة في الإناث الصغار وفي الذكور مطلقاً، وله حضانة الإناث الكبار ذوات المحارم، فإن لم يكن ذوات محارم فهل له حق في حضانتهن خلاف إلى أن قال: فإن ظهرت فيه أمارات الشفقة فهو أحق وإلا فلا اهـ. قال المواق نقلاً عن اللخمي: الوصي مقدم على سائر العصبة والموالي. وفي المدونة: الوصي أحق بالولد إذا نكحت الأم وليس له جدة ولا خالة. وقال ابن المواز: لا يأخذ الوصي الأنثى إذ ليس بينه وبينها محرم. وقد قال مالك: كونها مع زوج أمها أحب إلي من أن تجعل عند وصيها، لأن زوج أمها محرم لها بخلاف الوصي اهـ بحذف. وبعبارة: إن كان المحضون ذكراً فللوصي حضانته فإن كان أنثى لا تطيق الوطء فكذلك، وإن كان المحضون أنثى مطيقاً للوطء والوصي ذكر فشرط استحقاقه الحضانه كونه محرماً لها بنسب أو صهر أو رضاع، وإلا فليس له حضانة. قاله عبد السميع في الجواهر اهـ. فتحصل أن شرط حضانة الوصي الذكر في الأنثى المطيقة للوطء أن يكون الحاضن محرماً لها مأموناً، له أهل فتجوز حضانته كما هو مفهوم من كلام المصنف. قال رحمه الله تعالى: " ولوليه الرحلة به في سفر النقلة لا غيره لا لها " يعني كما قال الصاوي على الدردير: حاصله أن شرط ثبوت الحضانة للحاضن ألا يسافر ولي

حر عن محضون حر سفر نقلة ستة برد فأكثر فإن أراد الولي السفر المذكور كان له أخذ المحضون من حضانته ويقال لها: اتبعي محضونك إن شئت، وأما إن كان سفره سفراً لتجارة فلا يأخذه الولي منها ولها سفر منه ولو مسافة أكثر من ستة برد. واعلم أنها إذا سافرت لتجارة وأخذت الولد معها فحقه في النفقة باق على الولي ولا تسقط نفقته عنه بسفره معها على ظاهر المذهب كما في عبد الباقي اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وحضانة الصبي إلى البلوغ. وقيل إلى الإثغار، والصبية حتى يدخل بها الزوج " يعني: مدة انتهاء حضانة الصبي تنتهي إلى بلوغه على المشهور. وقيل إلى الإثغار. والأنثى حتى يدخل بها الزوج كما تقدم عند قوله: وهي أحق بحضانته فراجعه إن شئت. وحكى ابن رشد خلافاً. وقال في المقدمات: واختلف في حد الحضانة فقيل إلى البلوغ وقيل إلى الإثغار وهي رواية ابن وهب عن مالك اهـ. قال ابن جزي: تستمر الحضانة في الذكر إلى البلوغ على المشهور. وقيل إلى الإثغار وفي الأنثى إلى دخول الزوج بها. قال الشافعي: إذا بلغ الولد سبع سنين خير بين أبويه فمن اختار منهما كانت الحضانة له اهـ قلت: ورد في الموطأ أن عمر ابن الخطاب تزوج امرأة اسمها جميلة بنت ثابت الأنصارية فولدت له عاصم بن عمر ثم إنه فارقها فجاء عمر قباء فوجد ابنه عاصماً يلعب بفناء المسجد فأخذ بعضده فوضعه بين يديه على الدابة فأدركته جدة الغلام فنازعته إياه حتى أتيا أبا بكر الصديق فقال عمر: ابني وقالت المرأة: ابني، فقال أبو بكر: خل بينها وبينه. قال الراوي: فما راجعه عمر الكلام. قال: وسمعت مالكاً يقول: وهذا الأمر الذي آخذ به في ذلك اهـ. ولما أنهى الكلام على الحضانة وما يتعلق بها ناسب أم يتكلم في أحكام الرضاع وما يتعلق بذلك من التحريم باللبن وغيره فقال رحمه الله تعالى:

فَصْلٌ أي في بيان ما يتعلق بأحكام الرضاع. قال بعضهم: للرضاع حقيقتان لغوية وشرعية، فاللغوية: اسم لمص الثدي وشرب لبنه، والشرعية: وصول لبن امرأة أو ما حصل منه الغذاء في جوف طفل في الحولين اهـ. قال العلامة المحقق السيد مطهر بن مهدي الغرباني الحسني في خطبة كتابه المسمى بكشف القناع عن أحكام الرضاع: لقد انتشر الجهل في أمر الرضاع إلى أقصى حد بعيد وصار الناس في البوادي والأمصار يجهلون جل أحكامه، وعمت البلوى في جميع البلدان باجتماع النساء في مجالس شتى فترضع كل واحدة أطفال الأخرى بكثرة وقاية لهم من البكاء بدون ضبط وبغير تفكير فيما ينشأ عنه من الحرمة الكبرى، وما يفضي إليه مع الاستحلال والعياذ بالله من الوقوع في الردة فأصبح عادة سهلة لا أثر لها ولا اعتبار من الناحية الشرعية، ولا يخبرون به الرجال أو يثبتن ذلك في مذكرات خاصة، وربما ارتضع الطفل الواحد من عدة نساء لا تعلم واحدة منهن، وربما أرضعت الجدة بني بنيها وبني بناتها، ومثلها العمة والخالة وغيرهن من الأقارب فضلاً عن الأجانب فينسى الرضاع ويكبر الأولاد فيتزوجون بأخواتهم أو بناتهم من الرضاع، أو بالعمات أو الخالات أو بنات الأخوة أو بنات الأخوات. وقد يجمع الواحد بين محرمتين فأكثر فيحملن ويلدن له وهم لا يشعرون. قال: والمسئولية الكبرى بالدرجة الأولى على عواتق العلماء حيث أهملوا نشر العلم والتعليم ولا سيما في أحكام الرضاع وبالدرجة الثانية على الآباء والأمهات لإهمالهم أمر الرضاع الذي يجب إشهاره وإعلامه كالنسب تماماً فيتعين الوجوب على المرضعات قاطبة أن لا يرضعن كل صبي من غير ضرورة، وإذا أرضعن فليحفظن ذلك عندهن أو يخبرن رجالهن بأن يسجلوا ذلك الرضاع بمذكرات خاصة، وإلا فإعطاء الطفل اللبن الصناعي أو لبن النعم أولى من إرضاعه من غير أمه عند عدم القدرة على التحفظ بتلك

الوقائع دفعاً لاحتمال الوقوع في المحرم إذا نسي الإرضاع أو لم يعلم اهـ كشف القناع بحذف. والأصل في ذلك الكتاب والسنة والإجماع. فمن الكتاب قوله تعالى: {وأمهاتكم الاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} [النساء: 23] ومن السنة: ما في الموطأ عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة) وفي رواية الصحيحين: (ما يحرم من النسب) وفي رواية أخرى (ما يحرم من الرحم) وفي أخرى (حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب) وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أريد على ابنة حمزة فقال: (إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة، ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب) اهـ رواه البخاري ومسلم. وأما الإجماع فلا خلاف بين أهل العلم سلفاً وخلفاً في إجراء الرضاع مجرى النسب في تحريم النكاح غلا من استثنى كما سيأتي إن شاء الله تعالى. قال رحمه الله تعالى: " الرضاع ما وصل من اللبن إلى جوف الرضيع في الحولين قبل فصاله، وإن قل من أي منفذ كان، وإن خلط بما لا يستهلكه نشر الحرمة بينه وبين المرضعة ولو ميتة وجميع أصولها وفروعها، وبينه وبين الزوج وأصوله وفروعه " يعني كما قال النفراوي في الفواكه: واعلم أن أصول التحريم بالرضاع ثلاثة: الرضيع والمرضعة وفحلها، فإن كان الرضيع ذكراً حرمت عليه لأنها أمه من الرضاع وجميع أقاربها إلا بنات إخواتها وأخواتها، لأنهن بنات خالات وبنات أخوال. وكذلك يحرم عليه جميع أقارب الزوج صاحب اللبن إلا بنات إخوته وأخواته لأنهن بنات أعمام وعمات. وإن كان الرضيع أنثى حرمت على أقارب المرضعة إلا بني إخوتها وأخواتها، وكذا تحرم على أقارب الزوج إلا على بني إخوته وأخواته. وتحرم الرضيعة على صاحب اللبن وما تناسل منها لأنها بنته، وما يتناسل منها حفدة، ومن الأصول الثلاثة تنتشر الحرمة إلى

الأطراف، ثم يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، بيانه: إذا حرمت المرضعة على الرضيع حرمت عليه أمهاتها نسباً ورضاعاً لأنهن جدات وأخواتها نسباً ورضاعاً وأولادها من الجهتين إخوة، وكذلك أولاد الإخوة وكذلك أولاد الرضيع أحفاد المرضعة، ولا تحرم المرضعة على أبي الرضيع ولا على أخيه وكذلك زوج المرضعة أبو المرتضع وأبوه جد وأخوه عم وولده أخ، وعلى هذا القياس. ولا يعتبر في لبن الفحل أن يكون من وطء حلال ولو من حرام لا يلحق الولد منه بصاحبه خلافاً لظاهر كلام خليل اهـ قال ابن جزي في القوانين: وأما الرضاع فتحرم به الأصناف السبعة التي حرمت بالولادة، فإذا أرضعت امرأة طفلاً أو أرضعت من أرضعته أو أرضعت من له على الطفل ولادة بمباشرة أو وساطة صارت هي أمه وزوجها أباه، لأن اللبن للفحل عند الجمهور فحرمت عليه هي وأمهاتها نسباً ورضاعاً وإن علون لأنهن أمهاته، وحرمت عليه أخواتها وعماتها وخالاتها نسباً ورضاعاً لأنهن خالاته، وبناتها نسباً ورضاعاً، لأنهن أخواته. وحرمت عليه أيضاً أمهات زوجها نسباً ورضاعاً وإن علون؛ لأنهن أمهاته، وبناته نسباً ورضاعاً لأنهن أخواته، وعماته وخالاته نسباً ورضاعاً، لأنهن بنات إخوته، وبنات بناتها وبنات زوجها نسباً ورضاعاً، لأنهن بنات أخواته. وكل طفل رضع ثدياً رضعته طفلة حرمت عليه سواء كان رضاعهما في زمن واحد أو كان بينهما سنون، وكذلك إن أرضعا لبن امرأتين زوجتين لرجل واحد اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والزوج الثاني مع بقاء اللبن كالأول " يعني أن الزوج الثاني حكمه كالأول في انتشار التحريم بالرضاع ما دام اللبن جارياً من المرضعة، فإن انقطع ولم يبق من الأول شيء في ثديها فلا يكون الولد للثاني. قال خليل: وقدر الطفل خاصة ولداً لصاحبة اللبن ولصاحبه من وطئه لانقطاعه ولو بعد سنين، وأما لو لم ينقطع لكان

الزوج الثاني شريكاً للأول فيكون الولد ابنهما من الرضاعة وينتشر التحريم في أصولهما وفروعهما. قال في الرسالة: ومن أرضعت صبياً فبنات تلك المرأة وبنات فحلها ما تقدم أو تأخر إخوة له ولأخيه نكاح بناتها اهـ. ثم بالغ في التحريم بالرضاع فقال رحمه الله تعالى: " ولو درا لبكر أو يائسة " هذا للمبالغة في انتشار الحرمة بلبن المرأة. قال في المدونة: وإذا درت بكر لا زوج لها ويائسة من المحيض فأرضعت صبياً فهي أم له. قال ابن ناجي: ظاهره في البكر وإن كان لا يوطأ مثلها وهو كذلك على ظاهر المذهب. ثم قال: وما ذكره من اعتبار لبن اليائسة ظاهره وإن كانت لا توطأ وهو كذلك على المعروف اهـ انظر الحطاب. قال خليل: وإن ميتة وصغيرة. قال الخرشي: معطوف على ميتة وتقييد بمن لا تطيق الوطء حتى تكون داخلة في حيز المبالغة لأنها محل خلاف، إذ لبن المطيقة للوطء ينشرها اتفاقاً اهـ ومثله في القوانين لابن جزي. ثم ذكر ما يوجب به الحرمة فقال رحمه الله تعالى: " لا لرجل أو بهيمة ولا ما رضعه بعد فصاله " قال ابن جزي: ولا يوجب التحريم رضاع رجل ولا بهيمة وفاقاً لهما أي فيما اتفق عليه مالك والشافعي وأبو حنيفة اهـ. وفي الرسالة: ولا يحرم ما أرضع بعد الحولين إلا ما قرب منهما كشهر ونحوه قيل والشهرين، ولو فصل قبل الحولين فصالاً استغنى فيه بالطعام لم يحرم ما أرضع بعد ذلك اهـ. قال العلامة خليل: إن حصل في الحولين أو زيادة الشهرين إلا أن يستغني ولو فيهما فلا تحريم بالرضاع بعد الاستغناء إلا أن يكون زمن الرضاع قريباً من زمن الفطام بنحو اليومين والثلاثة فإنه يحرم لأنه لو أعيد للرضاع لكان قوة في غذائه اهـ. نقله النفراوي. قال رحمه الله تعالى: " ومحارم الرضاع كالنسب والله أعلم " يعني ختم هذا الباب بما في الحديث من قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)

رواه الشيخان كما تقدم. قال العلامة السيد مطهر بن مهدي الغرباني الحسني في رسالته " كشف القناع عن أحكام الرضاع ": تتمة: في بيان ما يحل بالرضاع ولا يحل بالنسب، وذلك المستثنى من عموم حديث: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وذلك ينحصر في أربع صور الأولى: أم مرضعة ولدك، أي جدته من الرضاع لا تحرم عليك، ولو كانت جدته من النسب لحرمت عليك لأنها إما أم زوجتك، أو أم أمتك، أو أم موطوءتك بشبهة. الثانية: بنت مرضعة ولد صلبك أي أخته من الرضاع لا تحرم عليك لأنها أجنبية عنك، ولو كانت أخت ولدك من النسب لحرمت عليك لأنها إما بنتك أو ربيبتك. الثالثة: مرضعة أخيك أو أختك لأبيك أو لأمك لا تحرو عليك لأنها أجنبية عنك، ولو كانت من النسب لحرمت عليك لأنها إما أمك أو موطوءة أبيك. الرابعة: مرضعة ولد ولدك أي أم الرضاع لحفيدك لا تحرم عليك لأنها أجنبية عنك، ولو كانت من النسب لحرمت عليك لأنها إما بنت صلبك أو زوجة ابنك. وقد ذكر بعض العلماء لهذه الأربع الصور ضابطاً بهذين البيتين فقال: أربع هن في الرضاع ... وإذا ما نسبتهن حرام جدة ابن وأخته ثم أم ... لأخيه وحافد والسلام ويزاد عليها خمس صور أخرى تحل في الرضاع وتحرم في النسب. وهي هذه: الأولى: أم عمك من الرضاع يحل لك نكاحها بخلاف أم عمك من النسب فإنها تحرم عليك؛ لأنها إما جدتك أو موطوءة جدك. الثانية: أم عمتك من الرضاع يحل لك نكاحها بخلاف أم عمتك نسباً فإنها تحرم عليك؛ لأنها جدتك أو زوجة جدك. الثالثة: أم خالك من الرضاع يحل لك نكاحها بخلاف أم خالك نسباً فتحرم عليك لأنها جدتك. الرابعة: أم خالتك من الرضاع يحل لك نكاحها بخلاف أم خالتك نسباً فتحرم عليك لأنها جدتك. الخامسة: أخو ابن المرأة من الرضاع يحل لها الزواج به بخلاف أخي ابنها من النسب فإنه حرام.

وصورتها: امرأة لها ابن ارتضع من أجنبية لها ابن فهما أخوان في الرضاع، ولا يحرم على تلك المرأة أن تتزوج على ذلك الابن الذي هو أخو ولدها من الرضاع. ثم قال: وإليك أي وهاك ما لا يحرم في الرضاع ولا في النسب بل يحل نكاحهن مما يشكل على كثير من الناس محصورة في اثنتي عشرة صورة: الأولى: بنت زوج أمك من الرضاع أو النسب لا تحرم عليك لأنها أجنبية عنك. الثانية: زوجة زوج أمك من الرضاع أو النسب لا تحرم عليك لأنها أجنبية عنك. الثالثة: أم زوج أمك من الرضاعه أو النسب لا تحرم عليك لأنها أجنبية عنك. الرابعة: بنت زوج بنتك من الرضاع أو النسب لا تحرم عليك لأنها أجنبية عنك. الخامسة: أم زوجة ابنك من الرضاع أو النسب لا تحرم عليك لأنها أجنبية عنك. السادسة: بنت زوجة ابنك من الرضاع أو النسب لا تحرم عليك لأنها أجنبية عنك. السابعة: أم زوجة أبيك من الرضاع أو النسب لا تحرم عليك لأنها أجنبية عنك. الثامنة: زوجة ابن زوجتك رضاعاً ونسباً لا تحرم عليك لأنها أجنبية عنك. التاسعة: أخت أختك لأبيك لأمه نسباً لا تحرم عليك لأنها أجنبية عنك. العاشرة: أخت أخيك لأمك لأبيه نسباً لا تحرم عليك كذلك. الحادية عشرة: أخت الرضاع لأخيك من امرأة أجنبية لا تحرم عليك لأنها أجنبية عنك. الثانية عشرة: أختك من الرضاع لا تحرم على أخيك من النسب لأنها أجنبية عنه اهـ فتأمل. قال النفراوي. تنبيه: قد ذكرنا أن تحريم الرضاع مثل تحريم الولادة، ويحرم به مثل ما يحرم من النسب إلا ما استثنى من نحو أم أخيك المشار إليها بقول خليل: إلا أم أخيك وأختك، أو أم ولد ولدك، وأخت ولدك، وأم عمك وعمتك، وأم خالك وخالتك، فقد لا يحرمن من الرضاع اهـ. وعبارة الخرشي في ذلك أنه قال: هذه المسائل تحرم من النسب ولا تحرم من الرضاع: الأولى: أم أخيك وأختك من النسب هي أمك أو زوجة أبيك وكلتاهما حرام عليك، ولو أرضعت أجنبية أخاك أو أختك لم تحرم عليك، لأنها ليست أمك ولا زوجة أبيك. الثانية: أم ولد ولدك

ذكراً كان أو أنثى، لأنها أم بنتك نسباً أو زوجة ابنك، وكلتاهما حرام عليك. ولو أرضعت أجنبية ولد ولدك لم تحرم عليك لفقد الوصف المحرم لها نسباً. الثالثة: جدة ولدك، لأنها نسباً إما أمك أو أم زوجتك، فما حرمت إلا بوصف النسب لك أو لزوجتك. ولو أرضعت امرأة ولدك لم تحرم عليك أمها، لأنها ليست أماً لك ولا أماً لزوجتك. الرابعة: أخت ولدك لأنها نسباً بنتك أو بنت زوجتك، وكلتاهما حرام عليك، لكن بوصف النسب منك أو من زوجتك. ولو أرضعت امرأة ولدك لم تحرم بنتها التي هي أخت ولدك من الرضاع عليك، لفقد الوصف المحرم لها نسباً. وخامستها: أم عمك وعمتك؛ لأنها نسباً إما جدتك لأبيك أو حليلة جدك وكلتاهما حرام عليك. ولو أرضعت امرأة عمك أو عمتك لم تحرم عليك لفقد الصف المحرم في النسب وهو الجدودة. سادستهما: أم خالك وخالتك؛ لأنها إما جدتك لأمك أو زوجة جدك لها، وكلتاهما حرام عليك لما قلنا فيما قبلها. ولو أرضعت امرأة خالك أو خالتك لم تحرم لفقد ذلك منها. ويجوز للرجل أن يتزوج بأم حفدته من الرضاع، ولا يجوز ذلك من النسب لأنها حليلة ابنه أو ابنته، بخلاف الرضاع، لأنها أجنبية عنه. وكذا يحل له التزويج بجدة ولده من الرضاع ولا يحل ذلك من النسب، لأنها أمه أو أم امرأته بخلاف الرضاع. وكذلك يجوز له أن يتزوج بعمة ابنه من الرضاع، ولا يجوز ذلك من النسب؛ لأنها أخته بخلاف الرضاع، وكذلك المرأة يحل لها أن تتزوج بأبي أخيها من الرضاع، وبأخي ولدها من الرضاع، وبأبي حفدتها من الرضاع، وبجد ولدها من الرضاع. ولا يجوز ذلك من النسب كما مر في حق الرجل اهـ.

خاتمة

خاتمة فيما يثبت به الرضاع. قال العلامة خليل: ويثبت برجل وامرأة، وبامرأتين إن فشا قبل العقد. قال الخرشي: يعني أن الرضاع يثبت بين الزوجين بشهادة رجلين عدلين، ولا خلاف في ذلك، ويثبت أيضاً بشهادة رجل وامرأة، يريد إذا كان ذلك فاشياً قبل العقد من قولهما، ويثبت أيضاً بشهادة امرأتين، يريد إن كان فاشياً قبل العقد، وسواء كانتا أميهما أو أجنبيتين، قاله أبو الحسن شارح المدونة. قال: لأن هذا من الأمر الذي لا يطلع عليه غالباً إلا النساء، فإن لم يكن ذلك فاشياً قبل العقد فإنه لا يثبت، فشرط الفشو قيد في المسألتين. وأما الرجل مع المرأتين فلا يشترط الفشو في ذلك. ثم قال: لا بامرأة ولو فشا، يعني لا يثبت بشهادة امرأة واحدة ولو فشا قبل العقد، ولو كانت عدلة، وإذا شهدت المرأة بالرضاع بين الزوجين ندب للزوج التنزه ولو فشا. قال خليل: وندب التنزه مطلقاً، يعني أنه يستحب التنزه في كل شهادة لا توجب فراقاً بأن كانت شهادة امرأة واحدة سواء كانت أم أحدهما أو أجنبية، أو كانت شهادة رجل وحده ولو كان عدلاً، أو كانت شهادة امرأتين ولم يكن فشو قبل العقد. ومعنى التنزه: ألا يتزوجها إن لم تكن زوجة أو يطلقها إن كانت له زوجة اهـ. وفي القوانين لابن جزي: ويثبت باعتراف الزوجين معاً واعتراف أبويهما. واختلف في اعتراف أم أحد الزوجين أو أبيه، ويثبت أيضاً باعتراف الزوج وحده لا باعترافها وحدها، إلا أن يشهد بسماع ذلك منها قبل العقد. وحيث لا يثبت فينبغي التنزه عنه أي لما في الحديث الشريف: (ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) وفي الحديث أيضاً: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) وفي الحديث أيضاً: (إن رجلاً اسمه

عقبة بن الحارث تزوج امرأة فأخبرته امرأة أخرى أنها أرضعتهما - أي الزوجين - جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله فقال له صلى الله عليه وسلم: كيف وقد قيل؟) يعني كيف تباشرها وتفضي إليها وقد قيل: إنك أخوها من الرضاع، فإنه بعيد من المروءة والورع اهـ مع طرف من الصاوي. يثبت التحريم والفرقة إن قامت البينة، عند الأئمة الأربعة. وحيث لا بينة يحلف منكر الرضاع على نفي علمه، ويحلف مدعيه على البت إذا ردت اليمين عليه، لقوله عليه الصلاة والسلام: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) لا فرق في ذلك بين كون الرضاع حصل في زمن إسلام المرأة أو كفرها. قال خليل: ورضاع الكفر معتبر، فلا يحل لمن رضع على كافرة أن يتزوج بأولادها ولو بعد إسلامهن. وكذلك الرضاع على الخنثى المشكل أنه معتبر محرماً وإن كان لا ينكح ولا ينكح شرعاً، ومثل ذلك الشك في وصول اللبن إلى جوف الرضيع محرم على المعتمد. والله تعالى أعلم بحقائق الأمور. هذا وقد تمت لنا مسألة الرضاع على الاختصار. وزال إشكالها وصعبها. ولما أنهى المصنف الكلام على المسائل الدينية والعبادات، وعلى مسائل الزواج وغيره بقدر الحاجة انتقل يتكلم على المعاملات. وبدأ رحمه الله بمسائل البيع وما شاكله اهتماماً به؛ لأن الإنسان لا يستغني عنه غالباً. فقال رحمه الله تعالى:

كتاب البيوع

كتاب البيوع أي هذا ما يتعلق بمسائل البيوع، وهو جمع، ويطلق على الشراء كما يأتي، أي ما يشتمل على أحكامه من معرفة أركانه وشروطه ولوازمه، وشروط العاقد من البائع والمشتري، وما يتعلق بالثمن والمثمن، وما يتعلق ببيع المرابحة والمساومة والخيار والعهدة، ومسائل الصرف والبدل والمراطلة، وما يتعلق بذلك من أحكام الربا في النقود والمطعومات، وما يتعلق بأحكام الكراء والإجازة والجعل، وأحكام السلف والسلم والديون مما يجوز من ذلك وما لا يجوز منها، وستقف على جميع ذلك إن شاء الله تعالى. قال سبحانه وتعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا} [البقرة: 275] البيع لغة: المبادلة، وشرعاً: مقابلة مال بمال مع إيجاب وقبول، وحكمته: تمام نظام الحياة فإن الإنسان لا يمكنه الانفراد بما يحتاج إليه، وربما لا يسمح له به من هو في يده، فشرع البيع لبلوغ المراد بسلام، قاله في غاية المأمول. وقال الصاوي في بلغة السالك: وهو ما يتعين الاهتمام به وبمعرفة أحكامه، لعموم الحاجة إليه والبلوى به، إذ لا يخلو المكلف غالباً من بيع أو شراء، فيجب أن يعلم حكم الله فيه قبل التلبس به. والبيع والنكاح عقدان يتعلق بهما قوام العالم؛ لأن الله خلق الإنسان محتاجاً إلى الغذاء مفتقراً للنساء، وخلق له ما في الأرض جميعاً، ولم يتركه سدى يتصرف كيف شاء باختيار، فيجب على كل أحد أن يتعلم ما يحتاج إليه، ثم يجب على كل شخص العمل بما علمه الله من أحكامه ويجتهد في ذلك ويحترز عن إهماله له فيتولى أمر بيعه وشرائه بنفسه إن قدر، وإلا فغيره بمشاورته، ولا يتكل في ذلك على من لا يعرف الأحكام، أو يعرفها ويتساهل في العمل بمقتضاها، لغلبة الفساد وعمومه في هذا الزمان كما في المدخل. وحكمة مشروعيته: الوصول إلى ما في يد الغير على وجه الرضا، وذلك مفض إلى

عدم المنازعة والمقاتلة والسرقة والخيانة والحيل وغير ذلك. وهو لغة: مصدر باع الشيء أخرجه عن ملكه أو أدخله فيه بعوض، فهو من أسماء الأضداد يطلق على البيع والشراء، كالقرء للطهر والحيض. وأما شرى فيستعمل بمعنى باع كما في قوله تعالى: {وشروه بثمن بخس} [يوسف: 20] أي باعوه ففرق بين شرى واشترى. وأما معناه شرعاً فوقوعه ووجوده كما اصطلح عليها العلماء تقريباً للفهم اهـ بحذف. ثم اعلم أنه اتفق الأئمة الأربعة على جواز البيع وتحريم الربا، وعلى أنه ينعقد بما يدل على الرضا بإيجاب وقبول، كقول البائع: بعت وقول المشتري: اشتريت، وإليه أشار المصنف رحمه الله بقوله: " وهو يلزم بالقول الدال على الرضا الباطن وبالاستيجاب والمعاطاة " يعني أن البيع ينعقد ويلزم بالقول الذي يدل على الرضا كما يلزم بالإيجاب والقبول، وبالمعاطاة عند الجمهور خلافاً للشافعي. قال الدردير معرفاً عليه: البيع عقد معاوضة على غير منافع، وركنه عاقد ومعقود عليه وما دل على الرضا وإن معاطاة، كاشتريتها منك بكذا، أو بعتها ويرضى الآخر، وكأبيعها أو أشتريها، أو بعني، أو اشتر مني فرضي، فإن قال: لم أرده صدق أي في صيغتي الأمر والمضارع فيصدق بيمين فيهما، كأن تسوق بها فقال بكم فقال بكذا فقال أخذتها به، فقال لم أرده اهـ. قال العلامة أحمد النفراوي في الفواكه: تنبيه: لم يتعرض المصنف هنا لأركان البيع ولا لشروط عاقده ولا المعقود عليه. وأركانه ثلاثة: العاقد والمعقود عليه والصيغة. وشرط صحة عقد العاقد من بائع أو مشتر التمييز بأن يفهم السؤال ويرد جوابه ولو صبياً أو عبداً. وشرط اللزوم التكليف بمعنى الرشد والطوع، فلا يلزم بيع الصبي ولا السفيه ولا المكره إكراهاً حراماً، وإن لزم من جهة المشتري حيث كان رشيداً. قال خليل: وشرط عاقده تمييز، ولزومه تكليف، لا إن أجبر عليه جبراً حراماً، ورد عليه بلا ثمن. ولا يشترط إسلام العاقد ولو كان المعقود عليه مسلماً أو مصحفاً، بل يقع العقد لازماً ويجبر غير المسلم على

إخراجه من تحت يده، وإنما الإسلام شرط في جواز إدامة الملك. وشرط المعقود عليه ثمناً أو مثمناً الطهارة الأصلية، والقدرة على تسليمه، والعلم بالمعقود عليه كمية وكيفية حيث وقع العقد على اللزوم، وإلا جاز ولو لم يذكر جنسه ولا نوعه، وعدم النهي عن بيعه، وأن يكون منتفعاً به ولو في المستقبل، والركن الثالث: الصيغة، ويكفي فيها كل ما يدل على الرضا ولو معاطاة اهـ. قال الباجي: البيع يفتقر إلى إيجاب وقبول، ويلزم بوجودهما بلفظ الماضي، وإذا قال بعني فيقول البائع بعتك لزم البيع، وإليه ذهب الإمام وأكثر أصحابه، انظره في الحطاب. قال رحمه الله تعالى: " غير موقوف على قبض ولا خيار مجلس، فما كان فيه حق توفيه أجبر البائع على إقباضه، وغيره على التخلية بينه وبينه متمكناً منه " يعني أنه إذا تم البيع بما تقدم ذكره من الصيغة انعقد ولزم على كل من البائع والمشتري دفع ما لزمه من العوض إن لم يكن البيع على الخيار بأن كان بتاً صحيحاً غير مؤجل ولا موقوف لقبض الثمن، أما لو كان موقوفاً للثمن فكالرهن كما سيأتي. قال ابن جزي في القوانين الفقهية: يجب على المشتري تسليم الثمن، وعلى البائع تسليم المثمن. فإن قال أحدهما: لا أسلم ما بيدي حتى أقبض ما عاوضت عليه أجبر المشتري على تسليم الثمن ثم أخذ المثمن من البائع وفاقاً لأبي حنيفة. وقال الشافعي: يجبر البائع ثم المشتري. وقال مالك: للبائع أن يتمسك بالمبيع حتى يقبض الثمن اهـ. وقوله فما كان فيه حق توفية إلخ أي من مكيل أو موزون أو معدود أجبر البائع على لإقباضه لوجوب التوفية فيه. وأما غير الذي فيه حق التوفية كالحيوان والعقار فيجبر عليه أيضاً على التخلية بينه وبين مشتريه إذا كان البيع صحيحاً باتاً؛ لأنه بمجرد العقد ينتقل الضمان فيه إلى المشتري، لا إن وقع على الخيار فيكون الضمان من البائع مدة الخيار كما سيأتي اهـ. ومعنى التخلية: التمكين من القبض والتصرف وإنزاله منزلته. قال في مختصر المتيطة: ويلزم البائع إنزال المبتاع

في البيع فيقول: أنزله في منزلته، فإن تأخر إنزاله عن وقت البيع أنزله بعد ذلك، ومعناه مكنه من قبضه وحوزه إياه اهـ الحطاب. قال رحمه الله تعالى: " وله حبسه رهناً بالثمن " وتقدم قول مالك: إن للبائع أن يتمسك بالمبيع حتى يقبض الثمن. قال ابن رشد: المشهور من قول ابن القاسم أن السلعة المبيعة المحبوسة بالثمن رهن به تكون مصيبتها من المشتري إن قامت بينة بتلفها، وإن لم تقم بينة لم يصدق البائع في ذلك ولزمه قيمتها اهـ. وعبارة الخرشي: والمعنى أن السلعة الحبوسة لإتيان المشتري بثمنها الحال، أو المحبوسة لأجل أن يشهد البائع على تسليم المبيع للمبتاع، أو على أن الثمن حال في ذمته ولم يقبضه منه. أو مؤجل فإن ضمان ذلك على بائعه، ويضمنه ضمان الرهان، فيفرق فيه بين ما يغاب عليه وما لا يغاب عليه، فما لا يغاب عليه لا ضمان عليه فيه إذا ادعى تلفه أو هلاكه إلا أن يظهر كذبه، وما يغاب عليه هو في ضمانه إلا أن يقيم بينة أنه تلف بغير سببه فإنه لا ضمان عليه حينئذ اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وتلفه قبل قبضه منه، فإن قبضه وتركه عنده فهو وديعة " الضمير في قوله: وتلفه راجع إلى المبيع، وفي منه راجع إلى البائع، والمعنى إذا تلف المبيع قبل أن يقبضه المشتري فضمانه على البائع، وإن قبضه المشتري وتركه وديعة عند البائع فحكمه حكم الوديعة فيصدق بلا يمين في تلفه إلا أن يتهم فيستحلف، وإلا ضمن كما يضمن بالتعدي، وإن لم يقبضه المشتري أصلاً فضمانه على البائع كما تقدم سواء مما كان فيه حق التوفية أو غيره بشرط أن يكون بيعاً صحيحاً بتاً، وسواء أتلفه البائع عمداً أم لا، حبسه للثمن أم لا، وأما إن قبضه المشتري فالضمان عليه إن كان لازماً، قال العلامة الدردير على أقرب المسالك: وانتقل الضمان إلى المشتري بالعقد الصحيح اللازم إلا فيما فيه حق توفية من مكيل أو موزون أو معدود فعلى البائع لقبضه. واستمر بمعياره ولو تولاه المشتري والأجرة عليه، بخلاف القرض فعلى المقترض، وإلا المحبوسة للثمن أو الغائب فبالقبض

كالفاسد، وإلا المواضعة فبرؤية الدم، وإلا الثمار فللأمن من الجائحة، وإلا عهدة الثلاث فبانتهائها اهـ. قوله كالفاسد قال في الرسالة: وكل بيع فاسد فضمانه من البائع، فإن قبضه المبتاع فضمانه من المبتاع من يوم قبضه، فإن حال سوقه أو تغير في بدنه فعليه قيمته يوم قبضه اهـ. ثم انتقل يتكلم في الصرف وأحكامه ونحوه كالمبادلة والمراطلة. فقال رحمه الله تعالى: " ويشترط في الصرف المناجزة وإن اختلف الجنس، والمماثلة في الجنس مراطلة أو بصنجة " والصنجة بفتح الصاد والسين وهو معروف، يعني يشترط في جواز الصرف شيئان: المناجزة والمماثلة في الجنس الواحد، سواء طعاماً أو نقوداً، أما إذا اختلقت الأجناس وجبت المناجزة دون المماثلة. قال الشرنوبي في الكواكب الدرية: وعند اختلاف الجنسين يجوز التفاضل إذا كان يداً بيد اهـ. قال ابن جزي: تحرم النسئية إجماعاً في بيع الذهب بالفضة وهو الصرف، وفي بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة، سواء كان ذلك مبادلة في المسكوك أو مرطلة في المسكوك أو المصوغ أو النقار، فلا يجوز التأخير في شيء من ذلك كله، بل يجب أن يكون يداً بيد، فيتصور في ذلك ثلاث أحوال: حالة الكمال وهي أن يبرز كل واحد من المتعاقدين ما عنده من ذهب أو فضة ثم يعقدا عليه ثم يتقابضا، وحالة الجواز وهي أن يعقدا والذهب أو الفضة في الكم أو في التابوت الحاضر ثم يخرجاه ويتقابضا، وحالة لا تجوز هي أن يعقدا عليه وهو غائب في الدار أو غيرها فلا يجوز، وكذلك لا يجوز أن يعقدا عليه ويتأخر التقابض ولو ساعة، هذا مذهب الإمام مالك، وأجاز أبو حنيفة والشافعي تأخير القبض ما لم يتفرقا من المجلس اهـ. قال العلامة عبد الرحمن الجزيري على المذاهب الأربعة: فإذا اختلف الجنس فإنه يصح فيه البيع والشراء بالزيادة على قيمته وبنقصها. فيصح أن يشتري الجنية الذي قيمته مائة قرش بمائة وعشرين مثلاً، كما يصح أن يصرفه بخمسة وتسعين قرشاً وهكذا، ويسمى هذا صرفاً ولكن يشترط فيه التقابض،

فلا يصح صرف جنيه بفضة إلا إذا كان كل واحد يأخذ ماله في المجلس، فإذا أخذ تسعين قرشاً وأجل عشرة قروش مثلاً حرم، وكذلك في الطعام أعني البر والشعير إلخ ما يذكر في الحديث؛ فإنه يشترط فيه التقابض إذا كان البدلان طعامين، كما إذا باع قمحاً بأرز، أما إذا كان أحد البدلين نقداً والآخر طعاماً فإنه يصح فيه التأخير سواء كان الطعام مبيعاً كما إذا اشترى قمحاً بجنيهات لأجل، أو كان الطعام ثمناً كما إذا اشترى خمسة جنيهات بخمسة أرادب من القمح يدفعها في وقت كذا، وهذا هو السلم. ثم قال: ولا خلاف بين أئمة المسلمين في تحريم ربا النسيئة وربا الفضل، وهي كبيرة بلا نزاع لقول الله عز وجل: {وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} [البقرة: 275 - 279] وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) وفي رواية: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائباً بناجز) متفق عليه. قوله: ولا تشفوا بضم التاء وكسر الشين أي لا تزيدوا اهـ بتصرف. ثم قال رحمه الله تعالى: " وتمنع فيه الحوالة والحمالة والرهن والخيار " يعني كما قال ابن جزي في الفروع: الفرع الأول، لا يجوز أن يؤخذ في الصرف والمبادلة والمراطلة ضامن ولا رهن لما يؤدي إليه من التأخير اهـ. قال ابن رشد في المقدمات: ولا يجوز في

الصرف ولا في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة مواعدة ولا خيار ولا كفالة ولا حوالة، ولا يصح إلا بالمناجزة لا يفارق صاحبه وبينه وبينه عمل، ثم ذكر الحديث المتقدم. وقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره إني أخاف عليكم الرماء، والرماء هو الربا ومثله في الموطأ اهـ. قال مالك في المدونة: ولا يصلح أن تدفع إليه الدينار فيخلطه بدنانيره ثم يخرج الدراهم فيدفعها إليك اهـ. قال أبو محمد في الرسالة: فيجوز ولو اختلفا في الوزن والعدد لما تقدم من قوله عليه الصلاة والسلام، فإذا اختلف الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد اهـ النفراوي. ثم بالغ في وجوب المماثلة وعدم التأخير في النقدين فقال رحمه الله تعالى: " جيد الجنس ورديه وتبره ومضروبه وصحيحه ومكسوره سواء " يعني أن الجيد والردئ من الذهب والفضة تبره ومضروبه، صحيحه ومكسوره سواء لا يجوز فيه التفاضل في صرفه بجنسه كما لا يجوز فيه التأخير بل وجب فيه المناجزة والمماثلة كما في الحديث، وتقدم في الزكاة مثل هذه المبالغة بقوله: إنها تجب في أوانيهما وحلي التجارة، وآنية ما لا تجوز تحليته، والمتخذ ذخيرة إلى أن قال: جيد الجنس ورديئة، تبره ومضروبه، صحيحه ومغشوشه ومكسوره سواء فراجعه إن شئت. قال رحمه الله: " ويجوز تطارح ما في ذمتيهما صرفاً بشرط حلولهما وتماثلهما واقتضاء أحدهما من الآخر بشرط الحلول وقبض الجميع في الفور " يعني أنه يجوز قضاء ما في الذمة بمثله إذا كملت الشروط الآتية، وهذه المسألة تسمى بالمقاصات أي المتاركات. قال العلامة الدردير في أقرب المسالك: المقاصة متاركة مدينين بمتماثلين عليهما كل ماله ما عليه أي كل واحد منهما يترك حقه في نظير الحق الذي عليه،

وتجوز في ديني العين مطلقاً إن اتحدا قدراً وصفة، حلا أو أحدهما أو لا، أو اختلفا صفة أو نوعاً إن حلا، أو قدراً وهماً من بيع وحلا وإلا فلا. والطعامان من قرض كذلك، ومنعا من بيع مطلقاً كأن اختلفا من بيع وقرض إن اختلفا صفة أو قدراً أو لم يحلا وإلا بأن حلا معاً واتفقا جازت، وفي العرضين مطلقاً إن اتحدا نوعاً وصفة أو اختلفا وحلا، أو اتفقا أجلا اهـ. انظر حاشية الصاوي عليه. وبيان ذلك كما في عبارة ابن جزي في القوانين أنه قال: فإذا كان لرجل على آخر دين وكان لذلك الآخر عليه دين فأراد اقتطاع أحد الدينين من الآخر لتقع البراءة بذلك ففي ذلك تفصيل، وذلك أنه لا يخلو أن يتفق جنس الدينين أو يختلفا، فإن اختلفا جازت المقاصة مثل أن يكون أحد الدينين عيناً والآخر طعاماً أو عرضاً، أو يكون أحدهما عرضاً واآخر طعاماً، وإن اتفق جنس الدينين فلا يخلو أن يكون كل واحد من الدينين عيناً أو طعاماً أو عروضاً، فإن كان الدينان عيناً فلا يخلو أن يكونا ذهبين أو فضتين أو أحدهما ذهباً والآخر فضة، فإن كان أحدهما ذهباً والآخر فضة جازت المقاصة إن كانا قد حلا معاً، ولم يجز إن لم يحلا أو حل أحدهما دون الآخر، لأنه صرف مستأجر، وإن كانا ذهبين أو فضتين جازت المقاصة إذا كان أجل الدينين قد حل، فإن لم يحل أجلهما أو حل أجل الواحد منهما دون الآخر ففي ذلك قولان، والمشهور الجواز بناء على أنها متاركة تبرأ بها الذمم، ونظراً إلى بعد التهمة. وقيل: تمنع لأنها مبادلة مستأخرة، وإن كان الدينان طعاماً فلا يخلو أو يكونا من بيع أو قرض، فإن كانا من بيع لم تجز المقاصة سواء حل الأجل أو لم يحل لأنه من بيع الطعام قبل قبضه، وإن كانا من قرض جاز حل الأجل أو لم يحل، وإن كان الدينان عرضين فتجوز المقاصة إذا اتفقا في الجنس والصفة سواء حل الأجل أو لم يحل اهـ. قال رحمه الله تعالى عاطفاً على ما يجوز: " وبيع الحلي جزافاً بخلاف جنسه كتراب المعادن لا الدراهم والدنانير " يعني ويجوز بيع الحلي جزافاً كالخلخال والقرط

والسوار وغيرها مما يتزين به النساء سواء كان ذلك ذهباً أو فضة أو غيرهما، صحيحاً او مكسوراً، جيداً أو رديئاً فغنه يجوز بيعه جزافاً بغير جنسه وبشرط المناجزة. والجزاف مثلث الجيم وهو ما جهل قدره أو وزنه أو كيله أو عدده، وبعبارة: وهو المبيع من غير وزن ولا كيل ولا عد سواء من جنس ما يوزن أو يكال أم لا. قال في الرسالة: ولا بأس بشراء الجزاف فيما يكال أو يوزن سوى الدنانير والدراهم ما كان مسكوكاً، وأما نقار الذهب والفضة فذلك فيهما جائز اهـ. والمعنى لا يجوز بيع الذهب والفضة جزافاً ما دامت مسكوكة، أما نقار الذهب والفضة أي قطعة من أحدهما فجائز بيعه جزافاً. من المدونة قلت: أيصلح أن أبيع الذهب جزافاً بالفضة جزافاً؟ قال مالك: لا بأس بذلك ما لم تكن سكة مضروبة، فإن كانت سكة مضروبة دراهم ودنانير فلا خير في ذلك؛ لأن ذلك يصير مخاطرة وقماراً إذا كان ذلك سكة مضروبة دراهم ودنانير اهـ. وفيها أيضاً: من اشترى فلوساً أي من نحاس بدراهم أو بخاتم فضة أو ذهب أو تبر ذهب أو فضة فافترقا قبل أن يتقابضا لم يجز لأن الفلوس لا خير فيها نظرة أي تأخيراً بالذهب ولا بالورق. قال مالك: وليست بحرام بين وو لكن أكره التأخير. وقال فيها أيضاً: ولا يصلح الفلوس بالفلوس جزافاً ولا وزناً ولا كيلاً مثلاً بمثل يداً بيد، ولا إلى أجل، ولا يجوز إلا عدداً فلساً بفلس يداً بيد، ولا يصلح فلس بفلسين، ولا يداً بيدين إلى أجل. والفلوس في العدد بمنزلة الدنانير والدراهم في الوزن، وإنما كره ذلك مالك في الفلوس ولم يحرمه كتحريم الدنانير والدراهم اهـ. قرة العين. قال رحمه الله تعالى عاطفاً على ما يجوز: " وإبدال الناقص بالوازن معروفاً لا صرفاً " يعني يجوز مبادلة الناقص بالوازن إذا كان على وجه المعروف لا على وجه الصرف ولا وجه البيع كما يأتي، فإنه لا يجوز. قال العلامة ابن جزي: لا يجوز إبدال الدراهم الوازن بالناقص إلا على وجه المعروف إن تساويا في الجودة أو كان الوازن

أطيب، ولا يجوز إن كان الناقص أطيب لأنه خرج من المعروف. ومنعه الظاهرية مطلقاً اهـ. قال في أقرب المسالك: فشرط الجواز القلة ستة فأقل والعدد، وأن تكون الزيادة في الوزن فقط، وأن تكون السدس فأقل في كل دينار أو درهم، وأن يكون أي عقد المبادلة على وجه المعروف، وأن يكون بلفظ البدل دون البيع اهـ بإيضاح. قال رحمه الله تعالى: " فإن وجد أحدهما زائفاً فرضي به وإلا بطل إلا أن يسميا لكل دينار ثمناً فيبطل فيه، فإن زاد المردود عليه ففي ثان. وقيل يبطل فيما قابل الزائف فقط " يعني كما في قرة العين نقلاً عن الدردير " مسألة " إن وجد أحد المتصارفين عيباً في دراهمه أو دنانيره من نقص عدد أو وزن أو غش بأن وجدها مخلوطة بنحاس مثلاً أو وجدها رصاصاً أو نحاساً خالصين، فإن كان ذلك بحضرة الصرف من غير مفارقة ولا طول في المجلس جاز له الرضا بما وجده مما ذكر وصح الصرف، وله عدم الرضا وطلب الإتمام في الناقص عدداً ووزناً، أو طلب البدل فيما وجد مغشوشاً، أو وجد رصاصاً أو نحاساً خالصين، ويجبر على الإتمام أو رد البدل من أباه إن لم تعين الدراهم والدنانير، فإن عينت من الجانبين كهذه الدنانير في هذه الدراهم فلا جبر، بل إما أن يرضى وإما أن يرد المعيب ويأخذ ما خرج من يده، وإن كان وجود العيب بعد مفارقة أو طول في مجلس، فإن رضي واجد الغش أو من وجدها نحو رصاص خالص صح الصرف، وإلا يرضى نقض الصرف وأخذ كل منهما ما خرج من يده، وأما إن وجدها ناقصة وزناً أو عدداً بعد مفارقة أو طول فإن الصرف ينقض مطلقاً رضي واجد النقص به أم لا، ومتى قلنا بنقض الصرف فالذي يتعلق به النقض أصغر الدنانير لا جميعاً إلا أن يتعدى النقص أصغر الدنانير فالأكبر هو الذي ينقض دون الأصغر، وأما إن تساوت في الصغر والكبر والجودة والرداءة فينقض واحد منهما ما لم يزد عليه موجب النقض فإن زاد فينقض دينار آخر وإن لم يستغرق المعيب جميعه، وإذا كان فيها أعلى وأدنى فيفسخ

الجميع على الأرجح ويأخذ كل واحد منهما ما خرج من يده، ثم إذا وجد أحد المتصارفين الغش فيما أخذه، أو وجده نحو رصاص وأراد البدل فيشترط فيه التعجيل لأنه إذا لم يعجل البدل يلزم عليه ربا النساء. ويشترط أيضاً أن يكون البدل من نوع المبدل فلا يجوز أن يأخذ بدل المعيب عرضاً لئلا يلزم عليه اجتماع البيع والصرف إلا أن يجتمعا في دينار فيجوز اهـ. قال رحمه الله تعالى: " لا بيعهما بأحدهما ولا أعلى وأدنى بدينارين وسطاً " الضمير في بيعهما راجع إلى الناقص والوازن من النقدين، المعنى: لا يجوز بيع الدينار الناقص بالوازن ولا الدرهم الناقص بالوازن لما فيه من دوران الفضل من الجانبين. قال خليل: والأجود أنقص أو أجود سكة ممتنع. قال الخرشي: أي والنقد الأجود جوهرية حالة كونه أنقص وزناً ممتنع إبداله بأردأ جوهرية كاملاً وزناً اتفاقاً لدوران الفضل من الجانبين؛ لأن صاحب الأجود يرغب للأدنى لكماله وصاحب الأردأ الكامل يرغب للناقص لجودته، وكذلك يمتنع النقد الأجود سكة الأنقص وزناً برديء السكة الكامل الوزن لدوران الفضل من الجانبين لكن هذا مع الخلاف. قال الصاوي: تنبيه: هل الأجود سكة أو صياغة كالأجود جوهرية فيدور الفضل بسببهما أو لا، الأكثر من أهل العلم عدم اعتبارهما، وأنهما ليسا كالجودة في الجوهرية فلا يدور بهما فضل خلافاً لما مشى عليه خليل اهـ. وقوله: ولا أعلى وأدنى بدينارين وسطاً، يعني لا يجوز بيع أعلى الدينار وأدناه في مقابل الدينارين أحدهما متوسط في الجودة والآخر دونه. وعبارة الدردير عند قول خليل لا أدنى وأجود أي بعضه أدنى من مقابله وبعضه الآخر أجود منه كمصري وبندقي يقابلان بمغربي فالمغربي متوسط والمصري أدنى والبندقي أعلى فيمنع لدوران الفضل من الجانبين اهـ وعبارة الخرشي: أي لا إن كان أحدهما أدنى والآخر أجود كدراهم

مغربية وسكندرية تراطل بمصري لأنه في فرضهم - أي عرفهم كما في الحاشية - أن في المغربية أجود والسكندرية أدنى والمصرية متوسطة فرب المصرية تغتفر جودتها بالنسبة لرداءة السكندرية نظراً لجودة المغربية، ورب المغربية تغتفر جودة بعضها لجودة المصرية بالنسبة للسكندرية، فلا يجوز لدوران الفضل من جانبين والظاهر ولو قل الرديء الذي مع الجيد وهو ما عليه ابن رشد والأكثر اهـ بحذف. قال الصاوي: والحاصل أن القواعد تقتضي منع المبادلة ولو تمحض الفضل من جهة واحدة لكن الشارع أباحها حينئذ بشروطها ما لم يخرجا عن المعروف بدوران الفضل من الجانبين اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولا درهم وصاع بدرهمين وصاعين " يعني لا يجوز دفع درهم وصاع ليأخذ بدلهما درهمين أو يأخذ بدلهما صاعين قال العلامة الدردير: لا يجوز ذهب وفضة من جانب بمثلهما من الجانب الآخر ولو تساويا، إلى أن قال أو أحدهما وعرض من جانب، كدينار وثوب بمثلهما، أو درهم وشاه بمثلهما. ثم قال: اعلم أن قاعدة المذهب سد الذرائع فالفضل المتوهم كالمحقق، فتوهم الربا كتحقيقه فلا يجوز أن يكون مع أحد النقدين أو مع واحد منهما غير نوعه أو سلعة لأن ذلك يوهم القصد إلى التفاضل كما قاله ابن شاش، إذ ربما كان أحد الثوبين أقل قيمة من الدينار الآخر أو أكثر فتأتي المفاضلة. قال الصاوي: حاصله أن ما صاحب أحد النقدين من العرض يقدر من جنس التقد المصاحب له فيأتي الشك في التماثل، والمنع في هذه مطلق ولو تحقق تماثل الدينارين وتماثل قيمة العرضين. ثم قال: واعلم أن مالكاً منع الصورتين وأبا حنيفة أجازهما، وفرق الشافعي بينهما فأجاز الأولى ومنع الثانية، وتسمى عند الشافعية بمسألة درهم ومد عجوة اهـ. قال ابن جزي: الفرع السادس لا يجوز زيادة غير الجنس كبيع مد بمد من صنفه ودرهم، فإن الدرهم تفاضل بينهما خلافاً لأبي حنيفة اهـ. فهذه النصوص دلت على عدم الجواز في المذهب في بيع درهم وصاع بدرهمين أو بصاعين. قال رحمه الله تعالى: " ولا يضم إلى أحدهما غيره إلا أن يعجز يسيراً ولا كسور

لهم ولا يمكن كسر السكة فيدفع عوضه عرضاً " هذا صريح في عدم الجواز في المسألة التي قبلها مع زيادة الشروط في هذه عند العجز وعدم القدرة على أي حيلة شرعية. فيجوز حينئذ دفع العوض من غير جنس المبيع للضرورة؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات فافهم هذا. وأصل قول مالك في المدونة أن الفضة بالفضة مع إحدى الفضتين سلعة أو مع الفضتين جميعاً مع كل واحدة منهما سلعة من السلع إن ذلك باطل ولا يجوز اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ومن ثبت في ذمته نقد معين فبطل التعامل به لزمه مثله فإن عدم فقيمته " يعني كما قال خليل: وإن بطلت فلوس فالمثل، أو عدمت فالقيمة وقت اجتماع الاستحقاق والعدم. قال العلامة الشيخ حسين بن إبراهيم المغربي مفتي السادة المالكية بمكة سابقاً في فتاويه المسمى بقرة العين: " ما قولكم " في الدراهم أو الدنانير أو الفلوس وهي الجدد النحاس ومثلها الخمسات والعشرات والعشرينات والقروش النحاس الموجودة في زماننا الآن إذا ترتب شيء من تلك المذكورات على آخر من قرض أو بيع ثم بطلت المعاملة بها أو تغير التعامل بها بزيادة أو نقص فأي شيء يجب في قضائها؟ ثم قال: " الجواب " الواجب قضاء المثل على من ترتبت في ذمته إن كانت موجودة في بلد المعاملة، ويجب المثل ولو كانت مائة بدرهم ثم صارت ألفاً بدرهم، أو بالعكس، وكذا لو كان الريال حين العقد بتسعين ثم صار بمائة وسبعين وبالعكس، وكذا لو كان المحبوب بمائة وعشرين ثم صار بمائتين، أو بالعكس. وهكذا. وإن لم تكن موجودة في بلد المعاملة. وإن وجدت في غيرها. فالواجب القيمة وتعتبر يوم الحكم، والظاهر أن طلبها بمنزلة التحاكم وحينئذ فتعتبر القيمة يوم طلبها فيدفع له قيمتها بعين مما تجدد وظهر، فيقال: ما قيمة العشرة دراهم التي عدمت بهذه الدراهم التي جددت؟ فيقال: ثمانية دراهم مثلاً، فيدفع المدين الثمانية مما تجدد، وإن قيل: اثنا عشر دفعها مما تجدد. وتعتبر القيمة في بلد المعاملة وإن كان القبض في غيرها. وهذا مقيد بما إذا لم يحصل من المدين مطل وإلا وجب

عليه ما آل إليه من المعاملة الجديدة الزائدة على القيمة، وإلا فالقيمة، فله الأحوط، كمن عليه طعام امتنع ربه من أخذه حتى غلا فليس لربه إلا قيمته يوم امتناعه. اهـ ملخصاً من شرح خليل. قال رحمه الله تعالى: " ومن دفع درهماً ليأخذ ببعضه سلعة ويأخذ باقية جاز في نصفه فدونه إذا لم يمكن كسره، فإن كان يتعامل بالفلوس فالأولى التنزه " يعني كما قال ابن جزي في الفرع الرابع في رد البعض، وذلك أن يدفع للبائع درهماً فيشتري منه سلعة ببعضه ويرد عليه بعضه فيجوز ذلك بأربعة شروط، وهي: أن تدعوه لذلك ضرورة، وأن يكون ذلك في درهم واحد، وأن يكون المردود نصف الدرهم فأقل، وأن يقع التقابض في الدرهم وفي البعض المقبوض وفي السلعة، فإن تأخر أحد الثلاثة لم يجز. وقيل: لا يجوز مطلقاً اهـ. قال في قرة العين: مسألة، يجوز للشخص أن يدفع لآخر درهماً شرعياً أو ما يروج رواجه، سواء زاد وزن ذلك الرائج عن الشرعي أو نقص، فالزائد في الوزن كثمن ريال، والناقص كزلاطة بثمانية أي يدفع ما ذكر ليأخذ منه بنصف تلك الدراهم طعاماً أو فلوساً ويأخذ النصف الآخر فضة، وجواز هذه المسألة بشروط سبعة، أولها: أن يكون ذلك في درهم واحد، فلو اشترى بدرهم ونصف درهم لم يجز أن يدفع درهمين ويأخذ نصفاً. ثانيهما: أن يكون المردود النصف فدونه ليعلم أن الشراء هو المقصود. ثالثهما: أن يكون ذلك في بيع أو منفعة كإجارة أو كراء، وأما في غيره كقرض وصدقة فلا يجوز، مثاله في القرض عند الاقتضاء أي عند دفع ما عليه أن يدفع المقترض عن الدرهم الذي اقترضه نصف درهم وعرضاً فلا يجوز، ومثاله عند دفع المقرض للمقترض أن يدفع المقرض للمقترض درهماً والمقترض لا يريد إلا نصفه ويرد للمقرض الآن نصفه أو غير ذلك فلا يجوز. ومثاله في الصدقة أن يدفع شخص لآخر درهماً على أن يكون له نصفه صدقة ويرد للمتصدق النصف الآخر فضة فلا يجوز. ومثال الإجازة الجائزة أن تستأجر صانعاً على أن يصلح لك

دلواً مثلاً فتدفع له الدلو وبعد إصلاحه تدفع له درهماً كبيراً نصفه في مقابلة أجرته ويرد عليك الصانع النصف الآخر حالاً. وأما لو دفعت له الدرهم وأخذت منه نصفه وتركت دلوك عنده ليصلحه لم يجز؛ لأن من شروط الجواز انتقاد الجميع، ولا يكون ذلك إلا بعد تمام العمل. رابعهما: أن يكون المأخوذ والمدفوع مسكوكين. خامسها: أن يتعامل بالدرهم والنصف وإن كان التعامل بأحدهما أكثر من الآخر. سادسها: أن يكون الدرهم والنصف قد عرف الوزن فيهما بأن يكونا في الرواج هذا درهم وهذا نصفه ولو كان الوزن مختلفاً لأن أصل الجواز في المسألة الضرورة. سابعها: أن يعجل الدرهم والنصف والسلعة المشتراة بنصف الدرهم الآخر لئلا يلزم البدل المؤخر. ويستفاد من هذه الشروط عدم الجواز إذا كان بدل الدرهم ريالاً أو نصف ريال أو ربع ريال، ولكن أجاز بعضهم ذلك في الريال الواحد أو نصفه أو ربعه للضرورة كما أجيز صرف الريال الواحد بالفضة العديدة كما تقدم اهـ ملخصاً من الدردير والدسوقي بتوضيح، انظر الحطاب. قال رحمه الله تعالى: " والمنصوص كراهة التفاضل والنساء في الفلوس " أي في بعضها ببعض وحينئذ لا يحرم فيها التفاضل والنسيئة لأن الكراهة لا تنافي الجواز، لكن حمل بعض أئمة المذهب الكراهة على التحريم وأرجو أن يكون هو الراجح لقول مالك في المدونة: لا يجوز فلس بفلسين، ولا تجوز الفلوس بالذهب والفضة، ولا بالدنانير نظرة أي تأخيراً، وفيها أيضاً عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال: الفلوس بالفلوس بينهما فضل فهو لا يصلح في عاجل بآجل ولا عاجل بعاجل، ولا يصلح بعض ذلك ببعض إلا هاء وهات. وفيها أيضاً عن يحيى بن سعيد وربيعة أنهما كرها الفلوس بالفلوس وبينهما فضل أو نظرة، وقالا: إنها صارت سكة مثل سكة الدنانير والدراهم. وعن يزيد بن أبي حبيب وعبيد الله بن أبي جعفر قالا: وشيوخنا كلهم أنهم كانوا يكرهون صرف الفلوس بالدنانير والدراهم إلا يداً بيد وقال يحيى بن سعيد: إذا صرفت درهماً فلوساً فلا

تفارقه حتى تأخذه كله اهـ. وتقدم نحوه عند قوله: وبيع الحلي جزافاً إلخ فراجعه إن شئت. ولما أنهى الكلام على ربا النقدين وما يتعلق بهما من أحكام الصرف والمبادلة انتقل يتكلم على أحكام الربا في المطعومات وغيرها، فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ أي في بيان ما يتعلق بأحكام الربا في المطعومات، أي في بيان جميع ما يتخذه الآدمي طعاماً ويطعمه من الربوي وغيره على الجملة، فتخل الفواكه والخضر والبقول والحلبة ولو يابسة فيمنع بعضه ببعض إلى أجل كما سينص عليه. ويجوز التفاضل ولو بالجنس الواحد في غير الربوي يداً بيد. وأما الربوي فلا يجوز فيه التفاضل في الجنس. قال رحمه الله تعالى: " يحرم الربا في جميع المطعومات حتى الملح والأبازيز إلا ما يتداوى به كالصبر والسقمونيا ونحوهما. ويشترط في بيع بعضها ببعض من التماثل والتناجز ما تقدم في النقد " يعني أن ربا الفضل والنساء يدخل في جميع المطعومات الربوية كالقمح والشعير والسلت والذرة والدخن والأرز والعلس وجميع القطاني السبعة، والتمر والزبيب والتين على المشهور، كذوات الزيوت نحو زيتون كلها ربوية. ولا يجوز فيها النسيئة ولا التفاضل في الجنس الواحد كما يأتي ذلك في محله على التفضيل. قال الدردير: وعلة ربا الفضل فيه أي الربوي اقتيات وادخار، كبر وشعير وسلت وهي جنس. وعلس وذرة ودخن وأرز، وهي أجناس. والقطاني، وهي أجناس. وتمر وزبيب وتين وهي أجناس. وذوات الزيت ومنها بزر الكتان، وهي أجناس كزيوتها، والعسول، بخلاف الخلول والأنبذة فجنس. والأخبار ولو بعضها من قطنية جنس إلا بإبزار وبيض وهو جنس، فتتحرى المساواة، ويستثنى قشر بيض النعام فإنه عرض، وسكر وهو جنس، ومطلق لبن وهو جنس. ولحم طير وهو جنس ولو اختلفت

مرقته، ودواب الماء وهي جنس، كمطلق ذوات الأربع وإن وحشياً. والجراد وفي جنسية المطبوخ من جنسين بإبزار خلاف. والمرق والعظم والجلد كاللحم، ومصلحه كملح وبصل وثوم وتابل من فلفل وكزبرة وكرويا وشمار وكمونين وآنيسون، وهي أجناس. وخردل. لا فواكه ولو أدخرت بقطر كتفاح ولوز وبندق ودواء وحلبة وبلح أصفر وماء. وجازا بطعام لأجل كالأدوية اهـ. وقوله رحمه الله: حتى ملح والأبازير جمع أبزار وهو من مصلحات الطعام كالتوابل. وقوله: إلا ما يتدواى به كالصبر. قال في المصباح: والصبر الدواء المر بكسر الباء في الأشهر وسكونها للتخفيف وقوله: والسقمونيا وهو اسم للدواء أيضاً. وفي المصباح والسقمونيا بفتح السين والقاف والمد معروفة، قيل يونانية وقيل سريانية. قال رحمه الله تعالى: " والصحيح أن الماء ليس ربوياً " يعني أن الصحيح من أقوال الأئمة في المذهب أن الماء ليس بربوي بل ولا طعام سواء كان عذباً أو ملحاً وهما جنسان. قال الصاوي في حاشيته على أقرب المسالك: وأما بيع المالح بالحلو وعكسه فيجوز بأي حال لاختلاف الأجناس وعدم كونه ربوياً وطعاماً اهـ. قال النفراوي عند قول صاحب الرسالة إلا الماء وحده فيجوز بيع بعضه ببعض ولو متفاضلاً، كما يجوز بيعه بالطعام لأجل ولو ماء زمزم لأنه ليس من الطعام، ثم قال: واعلم أن الماء على قسمين: أحدهما: العذب وهو ما يمكن شربه ولو عند الضرورة، وهو جنس واحد. وثانيهما: الأجاج وهو ما لا يشرب لمرارته كالبحر المالح وهو جنس آخر فيجوز بيع أحد الجنسين بالآخر ولو متفاضلاً إلى أجل. وأما بيع الماء بماء من جنسه فإن كانا متساويين جاز ولو إلى أجل وأما عند اختلافهما بالقلة والكثرة فلا يجوز إلا يداً بيد، ويمتنع إلى أجل لأن القليل إن كان هو المعجل ففيه سلف جر نفعاً، وإن كان المعجل هو الكثير ففيه تهمة ضمان بجعل، وهكذا يقال في كل ما اتحد جنسه وهو غير ربوي اهـ.

ثم ذكر الربوي وما هو جنس منه أو أجناس، فقال رحمه الله تعالى: " فالبر والشعير والسلت جنس، كالقطاني، والتوابل والدخن والذرة والأرز أجناس. والتمر جنس، كالزبيب. ولحوم ذوات الأربع جنس، إنسيها ووحشيها كالطير، ودواب الماء والجراد جنس. والأخباز كلها جنس. كالألبان والخلول والزيوت أجناس كأصولها " يعني كما تقدم أن الربوي بعضه متحد الجنس فلا يجوز التفاضل فيه، وبعضه أجناس يجوز فيه التفاضل إذا كان يداً بيد. وفي الحديث (فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) وفي الرسالة: وما اختلفت أجناسه من ذلك ومن سائر الحبوب والثمار والطعام فلا بأس بالتفاضل فيه يداً بيد. ولا يجوز التفاضل في الجنس الواحد منه إلا في الخضر والفواكه. ثم قال: والقمح والشعير والسلت كجنس واحد فيما يحل منه ويحرم. والزبيب كله صنف. والقطنية أصناف في البيوع. واختلف فيها قول مالك، ولم يختلف قوله في الزكاة أنها صنف واحد. ولحوم ذوات الأربع من الأنعام والوحش صنف. ولحوم الطير كله صنف. ولحوم دواب الماء كلها صنف. وما تولد من لحوم الجنس الواحد من شحم فهو كلحمه. وألبان ذلك الصنف وجبنه وسمنه صنف اهـ. ومثله في القوانين بزيادة إيضاح. قال رحمه الله تعالى: " ويجوز التفاضل في البقول إلا البصل والثوم " يعني أنه يجوز التفاضل في جميع البقول إلا في البصل والثوم فلا يجوز التفاضل في كل واحد من جنسيهما. قال في جواهر الإكليل: لا خلاف في ربوية الثوم والبصل وهما جنسان عند الإمام، ولم يظهر خلاف في الملح وهو جنس آخر اهـ. قال زروق في شرح الرسالة: ومن الإدام البصل والثوم، والمشهور ربويتهما اهـ. قال في المواق: قال ابن المواز: قال مالك: الثوم والبصل ك أي هما ربويان، بخلاف البقول، والغالب فيهما أن ذلك ييبس ويدخر فلا يصلح التفاضل في رطبه ولا يابسه. قال ابن حبيب: وهما جنسان مختلفان. اهـ قال الخرشي: البصل والثوم الأخضر واليابس يمتنع فيه التفاضل اهـ.

قال رحمه الله تعالى: " والمشهور منع الدقيق متفاضلاً، وجوازه متماثلاً وزناً لا كيلاً، ويعتبر التماثل بمعيار الشرع كالمكيال والميزان " يعني أن المشهور في المذهب منع بيع الدقيق بالدقيق متفاضلاً ويجوز متماثلاً وزناً يداً بيد، ويكون ذلك بمعيار الشرع كالمكيال والميزان المعروفين شرعاً، وكذلك يجوز بيع قمح ودقيق متماثلاً. قال خليل: وجاز قمح بدقيق، وهل إن وزنا تردد، واعتبر المماثلة بمعيار الشرع وإلا فبالعادة، فإن عسر الوزن جاز التحري إن لم يقدر على تحريه لكثرته اهـ. وعبارة الدردير على أقرب المسالك: وجاز قمح بدقيق وتعتبر المماثلة بالكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن، وبالتحري في غيرهما وزناً كالبيض اهـ. قال ابن جزي في الفرع الثاني: يجوز بيع الدقيق من صنف واحد إذا استويا في صفة الطحن، ومنعه الشافعي، وقال في الفرع الثالث: يجوز بيع الخبز بالخبز بالتحري من غير وزن، ومنعه الشافعي بالوزن والتحري اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويجوز قسمة الخبز واللحم تحرياً عند تعذر الميزان ويسهم عليه " يعني كما تقدم آنفاً قول خليل، فإن عسر الوزن جاز التحري. ونقل الحطاب عن المصنف أنه قال في العمدة: ويجوز قسمة الخبز. واللحم ونحو ذلك على التحري عند تعذر الموازين ويسهم عليه اهـ. قال في أقرب المسالك: وجاز التحري فيما يوزن، فإن تعذر منع، أي فإن تعذر التحري فيما يجوز فيه التحري منع لكثرته جداً. قال أي الدردير: وحاصل النقل عن ابن القاسم أن كل ما يباع وزناً ولا يباع كيلاً مما هو ربوي تجوز فيه المبادلة والقسمة على التحري، وهو في المدونة في السلم الثاني منها، وكل ما يباع كيلاً لا وزناً مما هو ربوي فلا تجوز فيه المبادلة ولا القسمة بالتحري بلا خلاف. وأما غير الربوي فاختلف في جواز القسمة فيه والمبادلة على التحري على ثلاثة أقوال، الأول: الجواز فيما يباع وزناً لا كيلاً وهو لابن القاسم، والثاني: الجواز مطلقاً وهو لأشهب، والثالث: المنع مطلقاً أي وهو

الذي في كتاب السلم الثالث من المدونة اهـ منقول من الدردير والصاوي. قال رحمه الله تعالى: " ويجوز بيع المطعومات كيلاً أو وزناً وجزافاً لا ملء غرارة فارغة حباً أو قارورة زيتاً بخلافها مملوءة " يعني يجوز بيع جميع المطعومات مطلقاً، أي سواء كان ربوياً أم لا، كان مما يكال أو مما يوزن، كان البيع جزافاً ولو لم يكن في الكيل أو الوزن مشقة؛ لأن الكيل والوزن مظنة المشقة، وبعبارة: لأن العد متيسر لكل أحد بخلاف الكيل والوزن الشرعيين اهـ. أما الجزاف فعرفه الدردير بقوله: وهو بيع ما يكال أو يوزن أو يعد جملة بلا كيل ولا وزن ولا عد. والأصل فيه المنع للجهل، لكن أجازه الشارع للضرورة والمشقة، فيجوز بشروط سبعة وهي إن رئي ولم يكثر جداً، وجهلاه، وحزراه، أي خمنا قدره، واستوت أرضه، وشق عده، ولم يقصد أفراده إلا أن يقل ثمنهما كرمان فيجوز، وإلا أن يكون مكيالاً معلوماً حاضراً مرئياً مملوءاً فيجوز، لكن هذا لا يسمى بيع الجزاف. وأما قوله: لا ملء غرارة فارغة حباً إلخ فهذا مما اختلف فيه في الجواز وعدمه إذا كان جزافاً، والأرجح عدم الجواز في الغرارة الفارغة وجوازه في القارورة كما نص عليه بعض الأئمة. قال خليل: لا غير مرئي وإن ملء ظرف ولو ثانياً بعد تفريغه إلا في كسلة تين أي وكسلة زبيب مما جرى العرف بجعله كالمكيال المعلوم فيجوز بيع ملئه فارغاً وبيع ملئه الحاضر مع ملئه ثانياً بعد تفريغه لأنه بمنزلة المكيال المعلوم. وفي المواق: سمع أبو زيد: لو واحد عنده سلة مملوءة تيناً فقال أنا آخذها منك بكذا وأملؤها ثانية بدرهم فهو خفيف، بخلاف غرارة القمح. وقال ابن يونس: وكذا عندي هذه القارورة المملوءة بدرهم ويملؤها له ثانية بدرهم فهو خفيف لأنه كالمرئي المقدر. ولو قال قائل في الغرارة ما بعد، ولكنه في القارورة أبين لأنه لا يختلف ملؤها فليس فيه كبير خطر، والغرر اليسير إذا

انضاف إلى أصل جائز جاز، بخلافه إذا انفرد اهـ انظر الحطاب. قال رحمه الله تعالى: " ومن ملك طعاماً وزناً أو كيلاً بمعاوضة لم يجز أن يعاوض عليه قبل قبضه، ويجوز هبته وصدقته وقرضه ودفعه بدل مقترض كالإقالة والشركة والتولية بمثل الثمن " يعني كما في الرسالة ومن ابتاع طعاماً فلا يجوز بيعه قبل أن يستوفيه إذا كان شراؤه ذلك على وزن أو كيل أو عدد بخلاف الجزاف. ثم قال: ولا بأس بالشركة والتولية والإقالة في الطعام المكيل قبل قبضه. قال الشارح: وإنما جازت تلك المذكورات في طعام المعاوضة قبل قبضه لشبهها بالقرض في المعروف، لخبر أبي داود وغيره عنه عليه الصلاة والسلام: (من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه إلا ما كان من شركة وتولية وإقالة) وهي ترك المبيع لبائعه بثمنه، لكن شرط أهل المذهب لجواز الإقالة من طعام المعاوضة قبل قبضه أن تقع من جميعه، وأما لو وقعت الإقالة من بعضه فلا تجوز إلا إذا كان رأس المال عرضاً يعرف بعينه مطلقاً أو كان عيناً أو طعاماً لم يقبض أو قبض ولم يغب عليه، أو غاب غيبة لم يمكن الانتفاع به فيها. وأما لو غاب به غيبة يمكنه الانتفاع به فيها لم تجز من البعض والطعام وغيره في ذلك سواء اهـ انظر النفراوي. قال رحمه الله تعالى: " وصفة عقده كالموروث بعد استيفائه " يعني وصفة عقد بيع طعام المعاوضة كصفة العقد في بيع شيء موروث في أنه لا يتم ولا يلزم المشتري ضمانه إلا بعد الاستيفاء بالقبض. قال ابن جزي: فإن هلك المكيل أو الموزون بعد امتلاء الكيل واستواء الميزان وقبل التفريغ في وعاء المشتري فاختلف هل يضمنه البائع أو المشتري؟ فأجاب الشيخ أحمد الدردير بقوله: واعلم أن الصور هنا أربع: الأولى: أن يتولى البائع أو نائبه الوزن أو الكيل ثم يأخذ الموزون أو المكيل ليفرغه في ظرف المشتري فيسقط من يده أو يتلف فضمانه من البائع. الثانية: مثلها ولكن الذي تولى تفريغه في الظرف هو المشتري فضمانه من المشتري لأنه حين أخذه من الميزان أو المكيال ليفرغه في ظرفه فقد

تولى قبضه فضمانه منه. قال ابن رشد باتفاق فيهما. ونازعه ابن عرفه في الأولى بوجود الخلاف فيها. الثالثة: أن يتولى المشتري الوزن أو الكيل والتفريغ فيسقط من يده فقال مالك وابن القاسم مصيبته من البائع ولم يقبض لنفسه حتى يصل لظرفه، وقال سحنون من المشتري. الرابعة: أن لا يحضر ظرف المشتري وإنما يحصل ذلك في ظرف البائع بعد وزنه أو كيله ليفرغه في ظرفه ببيته مثلاً فيسقط منه أو يتلف فضمانه من المشتري لأن قبضه بعد الفراغ من وزنه قبض لنفسه في ظرف البائع، ويجوز له بيعه بذلك قبل وصوله لداره وليس فيه بيع الطعام قبل قبضه لأنه قد وجد القبض منه. هذا تحرير الفقه. قاله بعض المحققين اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ومستثنى معلوم من ثمرة " معطوف على ما بعد كاف التشبيه وهو الموروث المشبه به في جواز عقد بيعه بعد استيفائه، والمعنى يجوز لمستثن لشيء معلوم من ثمره كائنة في حائطه أن يقضي ما عليه من قرض، أو أن يدفعه قرضاً، أو يبيعه لغيره ولو لمشتري الحائط لأن المستثنى شيء معلوم لم يدخل في بيع الحائط وليس في ذلك توالي عقدتي بيع لم يتخللهما قبض، فلم يؤد إلى بيع الطعام قبل قبضه، ولأن البائع ما باع ذلك الشيء المستثنى المعلوم بل تركه لنفسه، فله أن يفعل به ما شاء. قال مالك في الموطأ: الأمر المجتمع عليه عندنا أن الرجل إذا باع ثمر حائطه أن له أن يستثني من ثمر حائطه ما بينه وبين ثلث الثمر لا يجاوز ذلك، وما كان دون الثلث فلا بأس بذلك اهـ. انظر المنتقى للباجي. قال رحمه الله تعالى: " وينزل من صار إليه منزلة المنتقل عنه " هذا ظاهر شامل لكل من انتقل إله التصرف سواء كان الانتقال بالإقالة أو التولية أو بالشراء أو القرض أو بغير ذلك فينزل من صار إليه منزلة المنتقل عنه في التصرف بالتمكن في ذلك كما تقدم.

قال رحمه الله تعالى: " ويجوز بيع المبتاع جزافاً قبل نقله " يعني يجوز بيع الشيء المشترى جزافاً قبل نقله عن محل الشراء لأنه بالعقد دخل في ضمان المبتاع فيجوز له بيعه قبل نقله على المشهور، بخلاف المكيل أو الموزون فلا يجوز بيعه قبل قبضه كما تقدم في طعام المعاوضة إلا فيما استثنى فراجعه إن شئت. قال رحمه الله تعالى: " وما كانت آحاده مقصودة فلا يجوز بيعه جزافاً " يعني إذا كانت آحاد المبيع جزافاً هو المقصود بالشراء فلا يجوز بيعه جزافاً. قال العدوي على حاشية الخرشي: فإذا قصدت أفراده فلا يجوز إلا إن قل ثمنه. وقال الخرشي فإن قصدت الأفراد كالثياب والعبيد فلا يجوز بيعه جزافاً إلا أن يقل ثمن أفراد الشيء الجزاف أي كالبطيخ والأترج والرمان والقثاء والموز فلا يضر فيه قصد قال رحمه الله تعالى: " بخلاف المقصود جملة " فيجوز بيعه جزافاً. قال رحمه الله تعالى: " بشرط جهلهما بكميته " كما قال خليل في شروط بيع الجزاف: وجهلاه، أي جهل العاقدان كيله أو وزنه أو عده. قال رحمه الله تعالى: " فما علمه البائع فإن كتمه ثبت الخيار وإن أخبره فصدقه ثم وجد نقصاً فإن كان يسيراً فلا مقال له وإن كان كثير وثبت فله الرجوع " وقوله: وإن كان كثير إلخ كما في بيع الخيار. وعبارة مالك في الموطأ: ومن صبر صبرة طعام وقد علم كيلها ثم باعها جزافاً وكتم على المشتري كيلها فإن ذلك لا يصلح، فإن أحب المشتري أن يرد ذلك الطعام على البائع رده بما كتمه كيله وغره، وكذلك كل ما علم البائع كيله وعدده من الطعام وغيره ثم باعه جزافاً ولم يعلم المشتري بذلك فإن المشتري إن أحب أن يرد ذلك على البائع رده، ولم يزل أهل العلم ينهون عن ذلك اهـ.

فصل فيما يتعلق ببيع المزابنة

قال رحمه الله تعالى: " واشتراط عدم إخباره مبطل " يعني إذا اشترط البائع على المشتري في بيع الجزاف بأن لا يخبره بكمية كيله أو وزنه أو عدده فإن شرط ذلك مبطل للبيع، أما إن لم يشترط عليه ذلك مع علمه هو فللمشتري الخيار إذا علم أن البائع عالم بمقداره وكتم عنه، وإن أعلمه أولاً ثم وقع البيع جزافاً بعد علمهما فإنه يكون فاسداً للغرر. قال خليل: فإن علم أحدهما بعلم الآخر بقدره خير، وإن أعلمه أولاً فسد اهـ. قال الحطاب فيفسخ البيع إن كان قائماً وإن فات ففيه القيمة ما بلغت كالبيع الفاسد. قاله في التوضيح عن ابن رشد اهـ. بيع المزابنة ولما أنهى الكلام على أحكام ربا المطعومات انتقل يتكلم في ما يتعلق بالمزابنة وهي من المنهيات لما فيها من الغرر المنهي عنه شرعاً وطبعاً. قال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ فيما يتعلق ببيع المزابنة أي في بيان ما يتعلق بأحكام بيع المزابنة وما يضارعها من البيوع الفاسدة، وعرفها المصنف كغيره بقوله: " لا تجوز المزابنة وهي بيع مجهول بمجهول أو معلوم من جنس " أي واحد، يعني أنه لا يجوز بيع المزابنة لحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن المزابنة، والمزابنة بيع التمر بالتمر كيلاً وبيع الكرم بالزبيب كيلاً. رواه مالك في الموطأ. قال الباجي: المزابنة اسم لبيع التمر بالتمر، والزبيب بالكرم، ورطب كل جنس بيابسه، ومجهول منه بمعلوم اهـ قلت قد فسر الإمام حقيقة المزابنة وكيفيتها في كل شيء من المبيع ذكر ذلك في موطأه في باب ما جاء في المزابنة والمحاقلة فراجعه هناك إن شئت. قال ابن جزي في القوانين: لا تجوز المزابنة وهي بيع شيء رطب بيابس من جنسه

سواء كان ربوياً أو غير ربوي، فتمتنع بالربوي لتوقع التفاضل والغرر، وتمتنع في غير الربوي للنهي الوارد عنها في الحديث وللغرر. فمنها بيع التمر بالرطب، وبيع الزبيب بالعنب، وبيع القمح بالعجين النيئ، وبيع اللبن بالجبن، وبيع القديد باللحم، وبيع القمح المبلول باليابس، وأجاز أبو حنيفة ذلك كله. ويجوز أيضاً في المذهب إذا تحقق التفاضل في غير الربوي، ويجوز بيع الرطب بالرطب بالوزن في المشهور خلافاً للشافعي اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ومنها رطب كل جنس بيابسه وحب بدهنه، ولبن بجبن أو زبد أو سمن إلا المخيض ولبن الإبل، ودقيق بعجين " يعني كل ذلك لا يجوز فيه التفاضل إلا ما استثني. قال رحمه الله تعالى: " وحيوان بلحم من جنسه " قال في الرسالة: ولا يجوز بيع اللحم بالحيوان من جنسه، قال شارحها: ولو كان الحيوان يراد للقنية للمزابنة، وهي بيع معلوم بمجهول. قال خليل: وفسد منهي عنه إلا بدليل، كحيوان بلحم جنسه إن لم يطبخ، وأما بيع اللحم بحيوان من غير جنسه فيجوز كبيع لحم طير بحيوان من ذوات الأربع؛ لما مر من أن ذوات الأربع جنس، والطير كله جنس آخر. وقيد أهل المذهب منع بيع اللحم بحيوان من جنسه بما إذا لم يطبخ اللحم، وإلا جاز بيعه بحيوان من جنسه، وظاهر كلام أهل المذهب لو كان الطبخ بغير أبزار، واشتراط الأبزار في انتقال اللحم إنما ذلك في انتقاله عن اللحم لا عن الحيوان، وإذا بيع المطبوخ بالحيوان من جنسه فشرط جوازه التعجيل، وأما إلى أجل فيحرم إلا إذا كان الحيوان يراد للقنية كجمل أو ثور، ومثل اللحم في منع البيع بالحيوان الحيوان الذي لا تطول حياته أو لا منفعة فيه إلا اللحم، أو قلت لا يجوز بيع واحد منها بالآخر لأنه يقدر أحدها لحماً. وأما حيوان يراد للقنية مثلاً فيجوز ولو

لأجل كجواز بيع حيوان القنية بلحم من غير جنسه ولو لأجل، بخلاف حيوان غير القنية فيشترط في جواز بيعه بلحم من غير جنسه التعجيل. وأما بيع اللحم باللحم فيجوز مثلاً بمثل يداً بيد حيث كانا من جنس واحد اهـ. انظر حاصل المسألة في النفراوي. ثم قال رحمه الله تعالى عاطفاً على رطب كل جنس: " وطري حوت بمالح إلا ما نقلته صنعة كالمطبوخ بالنيئ، وحنطة مقلوة بنيئة، أو سويق أو عجين بخبز " يعني أن هذه الأشياء لا يجوز منها رطب بيابسه لا متماثلاً ولا متفاضلاً، ولا جنساً منها بجنس متفاضلاً للمزابنة ما لم تنقله عن أصله صنعة معتبرة فيجوز التفاضل في الجنس يداً بيد. قال الدردير في أقرب المسالك: ولا ينقل طحن وعجن وصلق لغير ترمس، أو تقديد أي بلا أبزار وتسمين ونبذ لكتمر عن أصل، أي لا تنقل واحدة منها عن أصله، ولا يجوز فيها التفاضل، بخلاف خبز فإنه ناقل عن الدقيق، كالعجين وتخليل، أي لنبيذ وقلي وسويق، أي إنه ناقل، وطبخ غير لحم، أو لحم بأبزار وشيته أي بالنار مع الأبزار فإنه ناقل، وتجفيفه بها أي بأبزار فيجوز التفاضل بأصلها يداً بيد. وجاز تمر أي بتمر ولو قدم، وحليب، ورطب، ومشوي، وقديد، وعفن، وزبد، وسمن، وجبن، وأقط، ومغلوث قل غلثه، وزيتون ولحم مثلها، أي كيلاً أو وزناً مناجزة، أي يداً بيد راجع للجميع اهـ بإيضاح. قال رحمه الله تعالى: " والملامسة، وهي لزوم البيع باللمس، والمنابذة وهي لزومه بالنبذ، وبيع الحصاة وهو لزومه بسقوطها من يده أو فيما تسقط عليه " يعني كما في الدردير عاطفاً على المنهي عنه: وكمنابذة الثوب أو لمسه. قال الصاوي عليه إنما كان منهياً عنه لما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الملامسة والمنابذة، فكان الرجلان في الجاهلية يساومان السلعة فغذا لمسها المشتري أو نبذها إليه البائع لزم البيع. قال مالك: والملامسة شراؤك الثوب لا تنشره ولا تعلم ما فيه، أو تبتاعه ليلاً ولا تتأمله، أو

ثوباً مدرجاً لا ينشر من جرابه - بكسر الجيم - اسم وعاء من جلد. والمنابذة أن تبيعه ثوبك فتنبذه إليه، وينبذه إليك من غير تأمل منكما على الإلزام. وأما لو كان على الخيار لجاز اهـ. ومن المنهي عنه بيع الحصاة، وحقيقته - كما قال المصنف - لزومه بسقوط الحصى من يده أو فيما تسقط عليه فيلزم البيع بذلك، وكل ذلك باطل لا ينعقد البيع بتلك الصفات، ولا عبرة بها شرعاً، وهو بيع فاسد اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وبيعتان في بيعة واحدة، وهو لزومه بأحد الثمنين مختلفتين في مثمن واحد، أو أحد مثمنين مختلفين بثمن واحد " يعني كما في القوانين لابن جزي في بيع الغرر أنه قال: النوع السادس بيعتان في بيعة، وهو أن يبيع مثموناً واحداً بأحد ثمنين مختلفين، أو بيع أحد مثمونين بثمن واحد، فالأول: أن يقول بعتك هذا الثوب بعشرة نقداً أو بعشرين إلى أجل على أن البيع قد لزم في أحدهما، أي أحد الثمنين. والثاني: أن يقول بعتك أحد هذين الثوبين بكذا على أن البيع قد لزم في أحدهما، أي أحد الثوبين اهـ. وقد اقتصر صاحب الرسالة على أحد المثالين، ونصها: ولا بيعتان في بيعة وذلك أن يشتري سلعة إما بخمسة نقداً أو عشرة إلى أجل قد لزمته بأحد الثمنين اهـ. قال خليل مشبهاً بالمنهي عنه: وكبيعتين في بيعة يبيعها بالإلزام بعشرة نقداً أو أكثر لأجل، أو سلعتين مختلفتين إلا بجودة ورداءة وإن اختلفت قيمتهما، لا طعام وإن مع غيره اهـ. انظر في جميع ذلك الموطأ وشراح خليل. ثم قال عاطفاً على المنهي عنه: " ودين بدين " أي كالئ بكالئ، من الكلاءة بكسر الكاف أي الحفظ وفي الحديث: (اللهم كلاءة ككلاءة الوليد) أي اللهم إنا نسألك حفظاً منك لأنفسنا كحفظ والدي المولود للمولود. فوليد بمعنى مولود قاله الصاوي. قال الله تعالى: {قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن} [الأنبياء: 42] وقال اللغويون:

الكالئ بالكالئ وهو النسيئة بالنسيئة أي الدين بالدين، وهو عند الفقهاء عبارة عن ثلاثة أشياء: بيع الدين بالدين، وابتداء الدين بالدين، وفسخ الدين في الدين: فأول الثلاثة وهو بيع الدين بالدين لا يتصور في أقل من ثلاثة أشخاص أو أربعة؛ لأنه لا بد فيه من تقدم عمارة ذمة أو ذمتين على البيع. مثاله أن يكون لك على شخص مائة شقة مثلاً إلى أجل، فتبيعها من شخص آخر بمائة إلى أجل. ومثاله في أربعة أشخاص: أن يكون لشخص منهم على آخر دين، والثالث على رابع دين، فباع كل من صاحبي الدينين ما يملكه من الدين بالدين الذي هو للآخر، قال بعضهم: مثاله بكر له دين على زيد، وخال له دين على عمرو، فيبيع خالد دينه الذي على عمرو بدين بكر الذي على زيد، وهذه الصورة تأتي في مواضعها زيادة على ما تقدم، وكلها ممتنعة، ولو كان كل من الدينين حالاً لعدم تأتي الحوالة هنا فتأمل اهـ قاله الصاوي مع طرف من النفراوي. قال رحمه الله تعالى: " وبيع وشرط مناقض " يعني من المنهي عنه البيع مع شرط يناقض المقصود من البيع، كأن يبيعها بشرط ألا يركبها، أو لا يبيعها، أو لا يلبسها، أو لا يسكنها، أو لا يتخذها أم ولد، فهذه الأشياء إذا شرط البائع واحده منها يفسخ البيع على الأصح. قال المواق: اختلف فيه إذا وقع، فقيل إنه يفسخ ما دام البائع متمسكاً بشرطه، فإن ترك الشرط صح البيع، وهذا هو المشهور في المذهب إلا في مسألة واحدة وهي شراء الرجل السلعة على أنه فيها خيار على أجل بعيد فإنه يفسخ فيها البيع على كل حال ولا يمضي إن رضي مشترط الخيار بترك الشرط؛ لأن رضاه بذلك ليس بترك منه للشرط، وإنما هو مختار للبيع على الخيار الفاسد الذي اشترط اهـ. وقد ذكر ابن جزي في القوانين ككلام بعض أئمة المذاهب ثم قال: وفي المذهب تفصيل: فإن كان الشرط يقتضي التحجير على المشتري بطل الشرط والبيع إلا أن يسقط عن المشتري شرطه فيجوز البيع، وذلك مثل أن يشترط عليه أن لا يبيع ولا يهب، أو يشترط في الأمة أن

لا يتخذها أم ولد، أو ألا يسافر بها، فإن اشترط منفعة لنفسه كركوب الدابة أو سكنى الدار مدة معلومة جاز البيع والشرط، وإن شرط ما لا يجوز إلا أنه خفيف جاز البيع والشرط. مثل أن يشترط غاية النهاية لم يأته بالثمن إلى ثلاثة أيام فلا بيع بينهما، فإن قال البائع: متى جئتك بالثمن رددت إلي المبيع لم يجز، واختلف في من شرط على المشتري ألا يبيع حتى ينصف من الثمن، ومن هذا النوع البيع باشتراط السلف من أحد المتنايعين، وهو لا يجوز بإجماع إذا عزم مشترطه عليه، فإن أسقطه جاز البيع خلافاً لهم أي للأئمة الثلاثة اهـ. قال رحمه الله تعالى ك " وبيع وسلف، فإن رد السلف قبل فسخه مضى " تقدم الكلام عن هذه الجملة فيما قبلها في آخر كلام ابن جزي المتقدم آنفاً من قوله: ومن هذا النوع البيع باشتراط السلف إلخ، وهو مما نهى عنه؛ لأنه لا يجوز لأحد المتبايعين أن يشترط على صاحبه سلفاً؛ لأن اشتراط السلف عند البيع يخل بالثمن وهو منهي. قال النفراوي: ومعنى إخلاله بالثمن أنه يقتضي إما كثرته إن كان الشرط من المشتري، أو نقصه إن كان الشرط من البائع. وأما اجتماع البيع والسلف من غير شرط فلا يمتنع على المعتمد، ولو اتهما عليه، خلافاً لما جرى عليه خليل في بيوع الآجال اهـ. قال مالك في المدونة في البيع والسلف: إذا ترك الذي اشترط أخذ السلف ما اشترط صحت العقدة. قال وهو مخالف لبعض البيوع الفاسدة كلها اهـ. قال الدردير في أقرب المسالك: أو يخل بالثمن، كبيع بشرط سلف، وصح إن حذف الشرط ولو غاب عليه. وفيه إن فات الأكثر من الثمن والقيمة يوم قبضه إن أسلف المشتري، أي إن كان المشتري هو الدافع للسلف وإلا فالعكس، يعني بأن أسلف البائع للمشتري فينعكس الحكم فيلزم المشتري أقل من الثمن والقيمةاهـ بتصرف. قال رحمه الله تعالى: " وبيع العربان وهو دفع بعض الثمن على أنه إن لم

يتم البيع لم يرجع به " يعني أن بيع العربان من البيوع المنهي عنها. عن مالك في الموطأ بإسناده " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العربان " قال مالك: وذلك فيما نرى - والله أعلم - أن يشتري الرجل العبد أو الوليدة، أو يتكارى الدابة ثم يقول للذي اشترى منه أو تكارى منه: أعطيك ديناراً أو درهماً أو أكثر من ذلك أو أقل على أني إن أخذت السلعة أو ركبت ما تكاريت منك فالذي أعطيتك هو من ثمن السلعة أو من كراء الدابة، وإن تركت ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطيتك لك باطل بغير شيء اهـ قال ابن جزي: النوع الثالث بيع العربان وهو ممنوع إن كان على ألا يرد البائع العربان إلى المشتري إذا لم يتم البيع بينهما، فإن كان على أن يرده إليه إذا لم يتم البيع فهو جائز اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والنجش وهو أن يزيد ليغر غيره " يعني من المنهي عنه النجش، يقال نجش الرجل نجشاً - قال في المصباح: من باب قتل - إذا زاد في سلعة أكثر من ثمنها وليس قصده أن يشتريها بل ليغر غيره فيوقعه فيه، وكذلك في النكاح وغيره. والاسم النجش بفتحتين، والفاعل ناجش ونجاش مبالغة. وفي الحديث (لا تناشجوا) أي لا تفعلوا ذلك. وأصل النجش الاستتار لأنه يستر قصده. ومنه يقال للصائد ناجش لاستتاره اهـ. قال ابن جزي: ويحرم النجش في المزايدة، وهو أن يزيد الرجل في السلعة وليس له حاجة بها إلا ليغلي ثمنها ولينفع صاحبها اهـ. قال العلامة الجزيري في الفقه: البيوع المنهي عنها نهياً لا يستلزم بطلانها كثيرة، ومنها بيع النجش بفتح النون وسكون الجيم، وهو الزيادة في البيع، بأن يزيد الشخص في السلعة على قيمتها من غير أن يكون له حاجة إليها، ولكنه يريد أن يوقع غيره في شرائها، وهو حرام نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى في الموطأ عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نهى عن بيع النجش " فإن كان البائع متواطئاً مع الناجش كما يفعل بعض التجار فإن

الإثم يكون عليهما معاً، وإلا فإن الإثم يكون على الناجش وحده، أما إذا لم تزد السلعة على قيمتها فإنه لا يكون حراماً. قال المالكية: إذا علم البائع بالناجش ورضي عن فعله فسكت حتى تم البيع كان البيع صحيحاً، ولكن للمشتري الخيار في أن يمسك المبيع أو يرده، فإن ضاع المبيع وهو عنده قبل أن يرده للبائع فإنه يلزمه أن يدفع الأقل من الثمن والقيمة، وتعتبر القيمة يوم العقد لا يوم القبض، أما إذا لم يكن البائع عالماً فإنه لا خيار للمشتري على أي حال اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والسوم على سوم أخيه بعد الركون إلى الأول " يعني من المنهي عنه السوم على سوم أخيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يسوم الرجل على سوم أخيه) رواه الشيخان. وفي رواية في الموطأ: (لا يبع بعضكم على بيع بعض ولا يسم على سومه) قال مالك: وتفسير قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما نرى والله أعلم لا يبع بعضكم على بيع بعض أنه إنما نهى عن أن يسوم الرجل على سوم أخيه إذا ركن البائع إلى السائم وجعل يشترط وزن الدراهم ويتبرأ من العيوب وما أشبه ذلك مما يعرف به أن البائع ركن إلى المشتري، فهذا الذي نهى عنه. والله أعلم. أما قبل التراكن والتقارب فجائز لأنه لو ترك لدخل الضرر على الباعة في سلعهم؛ لأنه يؤدي إلى بخسها وبيعها بالنقص اهـ. قال العلامة عبد الرحمن الجزيري في الفقه: السوم على السوم المنهي عنه هو أن يتفق المتبايعان على بيع سلعة بثمن ويتراضيا عليه مبدئياً فيأتي رجل آخر فيساوم المالك بسعر أكثر من السعر الذي رضي به، كأن يقول له: لا تبعه وأنا أشتريه منك بأكثر من السعر الذي رضيت به. ومثله ما إذا رضي المشتري بالبيع مبدئياً فجاء آخر وقال له رده وأنا أعطيك أحسن منه، أو أعطيك بثمن أقل، وهذا هو المنهي عنه. قال النفراوي: ومثاله أيضاً أن يحضر شخص لصاحب سلعة يريد شراءها منه، فيأتي شخص آخر بسلعة ويقول لمن يريد الشراء المذكور: سلعتي هذه خير لك من سلعة فلان التي أردت شراءها، وأنا أرضى منك بما أعطيت في

سلعة فلان. ولا شك في حرمة هذا لأنه يؤدي إلى التباغض. وكل ذلك إذا ركنا وتقاربا لا في أول التساوم فتأمل اهـ. قال ابن جزي في القوانين: وأما المزايدة فهي أن ينادى على السلعة ويزيد الناس فيها بعضهم على بعض حتى تقف على أخر زائد فيها فيأخذها، وليس هذا مما نهى عنه من مساومة الرجل على سوم أخيه؛ لأنه لم يقع هنا ركون ولا تقارب. ثم قال: فإن أعطى رجلان في سلعة ثمناً واحداً تشاركا فيها. وقيل إنها للأول اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والساج مدرجاً والثوب مطوياً " يعني من البيع المنهي عنه بيع الساج مدرجاً والثوب مطوياً. قال في الرسالة: ولا يجوز شراء ثوب لا ينشر ولا يوصف أو في ليل مظلم اهـ. والمضر اشتراط لزوم البيع بمجرد حضور السلعة عند المشتري بدون نشرها ولا تأمل، ولا على خيار، أما لو وقع العقد على الخيار بالرؤية والتأمل لجاز ولو لم يذكر نوعه ولا جنسه. قوله: مطوياً أما لو نشر لجاز الشراء بلا خلاف ولو على اللزوم. أما الوصف فقط فلا يجوز على أحد قولين لمالك في الشيرج المدرج في جرابه اهـ. وفي شرح ابن ناجي على الرسالة نقلاً عن ابن المواز قال: اختلف قول مالك هل يجوز بيع الساج المدرج في جرابه على الصفة أم لا على قولين، قال ابن عبد البر: بيع الثوب في طيه دون أن ينظر إليه لا يجوز عند الجميع لأنه من معنى بيع الملامسة، فإن عرف ذرعه طولاً وعرضاً ونظر إلى الشيء منه واشترى على ذلك جاز، فإذا خالف كان له القيام كالعيب لأنها مسألة أخرى، ولذلك لم يحك فيه خلافاً، وعرضت هذه على بعض من لقيناه فأقره واستحسنه اهـ. قال ابن جزي: يجوز بيع ما في الأعدال من الثياب على وصف البرنامج، بخلاف الثوب المطوي دون تقليب ونشر اهـ. قال زروق في شرحه على الرسالة: وفي الموطأ جواز بيع البرنامج، بخلاف الساج المدرج، قال وفرق بينهما عمل الماضين ومعرفته في صدور الناس. وعن ابن حبيب فرق

بينهما كثرة الثياب وعظم المؤونة في الفتح. قال أبو عمر: إذا خرج طرف الثوب أجزأه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " بخلاف أعدال البز على البرنامج " فيجوز. قال خليل: وجاز برؤية بعض المثلي والصوان، وعلى البرنامج، ثم قال: وحلف مدع لبيع برنامج أنه موافق للمكتوب. قال مالك في الموطأ في الرجل يقدم له أصناف من البز ويحضره السوام، ويقرأ عليهم برنامجه ويقول: في كل عدل كذا وكذا ملحفة بصرية، وكذا وكذا ريطة سابرية ذرعها كذا وكذا، ويسمي لهم أصنافاً من البز بأجناسه، ويقول اشتروا مني على هذه الصفة فيشترون الأعدال على ما وصف لهم، ثم يفتحونها فيستغلونها ويندمون، قال مالك: وهذا الأمر الذي لم يزل عليه الناس عندما يجيزونه بينهم إذا كان المتاع موافقاً للبرنامج ولم يكن مخالفاً له اهـ. ومثله في المدونة. وفيها: فكفى بقول مالك حجة، فكيف وقد أخبر أنه فعل الناس مع ما ذكرنا من الآثار أي من حديث أبي هريرة اهـ. ثم ذكر جملة من بيوع الغرر فقال رحمه الله تعالى: " ولا بيع الغرر وهو ما يتعذر تسليمه أو لا ينتفع به كالمشرف، ولا مجهول كشاه من شياه، وعبد من عبيد، ولحم في جلده، وحب في سنبله، أو مختلط بتبنه " يعني مما نهى عنه واتفق على منعه أهل العلم بيع الغرر إلا إذا كان الغرر يسيراً جداً فيغتفر، وتقدم كثير من أحكامه. وعن مالك في الموطأ بإسناده عن سعيد بن المسيب " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر " قال مالك: ومن الغرر والمخاطرة أن يعمد الرجل قد ضلت دابته أو أبق غلامه، وثمن الشيء من ذلك خمسون ديناراً، فيقول رجل أنا آخذه منك بعشرين ديناراً، فإن وجده المبتاع ذهب من البائع ثلاثون ديناراً، وإن لم

يجده ذهب البائع من المبتاع بعشرين ديناراً، قال مالك: وفي ذلك عيب آخر أن تلك الضالة غاية النهاية وجدت لم يدر أزادت أم نقصت أم ما حدث بها من العيوب، فهذا أعظم ما في المخاطرة. قال مالك: والأمر عندنا أن من المخاطرة والغرر اشتراء ما في بطون الإناث من النساء والدواب؛ لأنه لا يدري أيخرج أم لا يخرج، وإن خرج لم يدر أيكون حسناً أم قبيحاً، أم تاماً أم ناقصاً، أم ذكراً أم أنثى، وذلك كله يتفاضل إن كان على كذا فقيمته كذا، وإن كان على كذا فقيمته كذا اهـ. ومن الغرر بيع ما يتعذر تسليمه كالبعير الشارد، والعبد الآبق كما تقدم، والطير في الهواء، والسمك في الماء. ومن ذلك ما لا ترجى سلامته ولا ينتفع به بعد الشراء، وذلك كالمريض المشرف. ومن الغرر المنهي عنه الجهل بعين المثمون كبيع شاة من شياه غير معينة أو عبد من عبيد غير معين، أو بيع لحم في جلده قبل سلخ الشاة، وكل ذلك ممنوع للغرر. وتقدم الكلام في بيع الحيوان باللحم فراجعه إن شئت في الكلام على المزابنة. وكذلك من الغرر المنهي عنه الجهل بالثمن، أي كما لا يجوز البيع لجهل المثمون كذلك لا يجوز إذا جهل مقدار الثمن، وذلك كقول البائع للمشتري: بعتك سلعتي هذه بسعر اليوم، أو بما يبيع الناس، أو بما يقول فلان، إلا بيع الجزاف، وقد تقدم حكمه. قال ابن جزي وغيره: ولا يجوز بيع القمح في سنبله للجهل به. ويجوز بيعه مع سنبله، وكذلك لا يجوز بيعه في تبنه ويجوز بيعه مع تبنه، ولا يجوز بيع تراب الصاغة، ولا يجوز بيعه بعد تصفيته لنفي علة الجهل بالمثمون فيها. ومن المنهي عنه الجهل بالأجل، ولا يجوز البيع لأجل مجهول كما تقدم، وذلك مثل قدوم زيد، أو يوم موت عمرو، أو حتى تمطر السماء، كل ذلك مما لا يجوز للجهل

والغرر، ويجوز أن يقول إلى الحصاد، أو إلى معظم الدراس، أو إلى شهر كذا ونحوه، ويحمل على وسطه اهـ بتصرف وإيضاح. قال رحمه الله تعالى: " ويجوز أذرع من ثوب أو قفيز من صبرة معينة " يعني يجوز بيع أذرع من جملة الثياب أو بيع قفيز أو صاع من صبرة معينة. قال الدردير في أقرب المسالك عاطفاً على الجائزات: وصاع، أو كل صاع من صبرة، أو كل ذراع من شقة، أو كل رطل من زيت إن أريد الكل أو عين قدر وإلا فلا اهـ. وقد تبع في اشتراط الكل خليلاً: إلا أنه لما عين القدر المعلوم من الصبرة المعينة كما قال المصنف، أو من الشقة المعينة، أو من الزيت المعين جاز البيع بالتعيين وانتفت العلة المانعة وهي الجهل بالثمن والمثمون. ولا فرق في ذلك بين المكيلات والموزونات والمقيسات، فيجوز شراء ذلك من الصبرة المعيينة، أو الشقة المعينة إذا عين قدراً معلوماً كصاع، أو عشرة أصوع بكذا، أو ذراع أو عشرة أذرع، أو رطل أو عشرة أرطال، أو نحو ذلك اهـ بحذف. وفي المواق: قال ابن عرفه: الروايات معها جواز بيع عدد آصع أو أقفزة من صبرة أو كلها على الكيل كل صاع أو قفيز بكذا اهـ. قال الخرشي يعني أنه يجوز بيع عدد أصوع من صبرة معلومة الصيعان أو مجهولتها، وكذا شراء كل صاع بكذا من هذه الصبرة والمشتري جميعها، سواء كانت معلومة الصيعان أو مجهولتها على المذهب اهـ. قال رحمه الله تعالى ك " ولا بيع حاضر لباد بخلاف شرائه " يعني من المنهي عنه أن بيع الحاضر لباد، بخلاف شراء الحاضر له فيجوز كما يأتي. وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد " وعن طاوس عن ابن عباس بلفظ " ولا بيع حاضر لباد، قلت لابن عباس: ما قوله ولا بيع حاضر لباد؟ قال لا يكون له سمساراً " متفق عليه. قال ابن جزي في القوانين: النوع الرابع: بيع حاضر لباد من الذين لا يعرفون الأسعار. وقيل لكل وارد على مكان وإن كان

من مدينة، وتعريفه بالسعر كالبيع فلا يجوز، واختلف في شرائه له اهـ. قال العلامة الشيخ عبد الرحمن الجزيري في الفقه: منها أي من البيوع المنهي عنها بيع الحاضر للبادي، وهو أن يتولى شخص من سكان الحضر السلعة التي يأتي بها البدوي من البادية بقصد بيعتها دفعة واحدة، فبيعها الحضري على مثله تدرجاً، فيضيق على الناس ويرفع ثمن السلعة. وعند السادة المالكية: لا يجوز أن يتولى أحد من سكان الحضر بيع السلع التي يأتي بها سكان البادية بشرطين: أحدهما: أن يكون البيع لحاضر، فإذا باع لبدوي مثله فإنه يجوز. ثانيهما: أن يكون ثمن السلعة غير معروف بالحاضرة، فإن كان معروفاً فإنه يصح، وذلك لأن علة النهي تركهم يبيعون للناس برخص فينتفع الناس منهم، فغذا كانوا عارفين بالأسعار فإنه لا فرق حينئذ بين أن يبيعوا بأنفسهم وبين أن يبيع لهم السماسرة. وقيل لا يجوز مطلقاً. أما شراء ساكن الحاضرة لأهل البادية فإنه يجوز وهل سكان القرى الصغيرة مثل سكان البوادي؟ قولان، أظهرهما أنه يجوز أن يتولى سكان الحاضرة بيع السلع التي يأتي بها سكان البادية مع وجود الشرطين المذكورين فإن البيع يفسخ ويرد المبيع لبائعه ما لم يكن قد استهلكه فإنه ينفذ بالثمن، ويكون كل من البائع والمشتري والسمسار قد ارتكب معصية يؤدب عليها، ويعذر فاعلها بالجهل بالتحريم اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولا يتلقى الأقوياء الركب ليختصوا بشراء ما جلبوه، ويخير أهل البلد في مشاركتهم، وفي فسخها خلاف " يعني من المنهي عنه الخروج لتلقي الركبان. وفي الموطأ عن مالك بإسناده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلقوا الركبان للبيع) الحديث. قال ابن جزي في القوانين:

النوع الخامس: أي من البيوع المنهي عنه تلقي السلعة على ميل، وقيل على فرسخين، وقيل على مسيرة يوم فأكثر قبل أن تصل إلى الأسواق، وهو لا يجوز لحق أهل الأسواق، فإن وقع اختلف في تأديب المتلقي وفي اشتراك أهل السوق معه. قال الشافعي: إنما يمنع لحق صاحب السلعة فهو بالخيار، وأجازه أبو حنيفة اهـ. وحاصل فقه المسألة على المشهور في المذهب أنه: لا يجوز تلقي السلع التي ترد إلى بلد من البلدان لتباع فيها، فلا يحل لشخص أن يقف خارج البلدة ويتلقى البائعين الذين يحضرون بسلعهم فيشتريها منهم؛ لأن في ذلك إضراراً بأهل البلدة وتضييقاً عليهم، فإذا ابتعد عن البلدة مسافة ستة أميال فإنه يصح له حينئذ أن يشتري من تلك السلع ما يشاء، سواء كان لتجارة أو لقوت، وسواء كانت البلدة الواردة إليها السلع لها سوق أو لا على المعتمد. أما من كان على مسافة أقل من ستة أميال فإن كان للبلد سوق فإنه لا يجوز له أن يشتري للتجارة، أما للقوت فإنه يجوز، وإن لم يكن لها سوق فإنه يجوز أن يشتري للتجارة والقوت، فإذا وصلت السلع إلى البلد فإن كان لها سوق فلا يجوز الأخذ منها مطلقاً إلا إذا وصلت إلى السوق، وإن لم يكن لها سوق جاز الأخذ منها مطلقاً للتجارة والقوت. وإذا كان صاحب السلعة في البلد والسلعة في بلد آخر وكان يريد أن يأتي بها ليبيعها في سوق البلدة الموجود فيها فإنه لا يجوز شراؤها منه بالوصف قبل وصولها أيضاً. وشراء السلعة الممنوع تلقيها صحيح، ويضمن المشتري بعد شرائها أو يلزم بعرضها على أهل السوق ليشاركه فيها من يشاء؟ قولان مشهوران. ويستثنى من هذه السلع الثمار والخبز وحمال الساقيين اهـ. قاله الجزيري فراجعه إن شئت. ثم ذكر العينة، وهو من المنهي عنه. قال رحمه الله تعالى: " وتمنع العينة وهو أن يقول اشتر لي من مالك بعشرة وهي لي باثني عشرة إلى أجل كذا، فإن فاتت في يده لزمه ما اشتريت به وسقط الزائد والأجل " يعني كما قال الدردير،

وإنما تمنع العينة لما فيها من تهمة سلف جر نفعاً؛ لأنه كأنه سلفه عشرة ثمن السلعة يأخذ عنها بعد الأجل اثني عشر. قال ابن جزي في القوانين: النوع الثاني: - أي من المنهي عنه -: العينة، وهو أن يظهرا فعل ما يجوز ليتوصلا به إلى ما لا يجوز، فيمنع للتهمة سداً للذرائع، خلافاً لهم. وهي ثلاثة أقسام: الأول: أن يقول رجل لآخر اشتر لي سلعة بكذا وأربحك فيها كذا، مثل أن يقول اشترها بعشرة وأعطيك فيها خمسة عشر إلى أجل، فإن هذا يؤول إلى الربا؛ لأن مذهب مالك أن ينظر ما خرج من اليد ودخل فيها ويلغي الوسائط، فكأن هذا الرجل أعطى لأحد عشرة دنانير وأخذ منه خمسة عشر ديناراً إلى أجل، والسلعة واسطة فتلغى. الثاني: لو قال له اشتر لي سلعة وأنا أربحك فيها، ولم يسم الثمن، فهذا مكروه وليس بحرام. الثالث: أن يطلب السلعة عنده فلا يجدها، ثم يشتريها الآخر من غير أمره، ويقول قد اشتريت السلعة التي طلبت مني فاشتر مني إن شئت فيجوز أن يبيعها منه نقداً أو نسيئة بمثل ما اشتراها به أقل أو أكثر اهـ. وإلى هذا القسم أشار خليل بقوله: جاز لمطلوب منه سلعة أن يشتريها ليبيعها بمال ولو بمؤجل بعضه، وكره خذ بمائة ما بثمانين إلخ. وفي الرسالة: ولا يجوز بيع ما ليس عندك على أن يكون عليك حالاً، وأصله ما في الموطأ من قول عبد الله بن عمر للمبتاع: لا تبتع منه ما ليس عنده، وقال للبائع: لا تبع ما ليس عندك فراجعه إن شئت. ثم نذكر هنا بعض ما تقدم من الغرر وما سيأتي مما ذكره صاحب الرسالة من قوله: وكل عقد بيع أو إجارة أو كراء يخطر أو غرر في ثمن أو مثمون أو أجل فلا يجوز. ولا يجوز بيع الغرر، ولا بيع شيء مجهول، ولا إلى أجل مجهول ولا يجوز في البيوع التدليس، ولا الغش، ولا الخلابة، ولا الخديعة، ولا كتمان العيوب، ولا خلط دنيء بجديد، ولا أن يكتم من أمر سلعته ما إذا ذكره كرهه المبتاع، أو كان ذكره أبخس له في الثمن اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ومن باع سلعة إلى أجل لم يجز له شراؤها بأقل من

الثمن، نقداً أو إلى أجل أدنى، أو بأكثر إلى أبعد، بخلافة بمثله أو أكثر نقداً " يعني كما في الرسالة، ونصها: وإذا بعت سلعة بثمن مؤجل فلا تشترها بأقل منه نقداً، أو إلى أجل دون الأجل الأول، ولا بأكثر منه على أبعد من أجله. وأما إلى الأجل نفسه فذلك كله جائز وتكون مقاصة اهـ. انظر تفصيل ذلك في الباب الحادي عشر من كتاب القوانين الفقهية لابن جزي، وفيه غنية لهذه المسألة. قال رحمه الله تعالى: " ويمنع البيع يوم الجمعة ما بين النداء وانقضائها ممن تلزمه " يعني لا يجوز عقد البيع ما بين النداء والصلاة يوم الجمعة لمن تلزمه الجمعة، للنهي الوارد في ذلك. قال سبحانه وتعالى: {يأيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذالكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون} [الجمعة: 9، 10] أي تفوزون بالجنة، قد أمر الله تعالى بترك عقد البيع عند النداء في يوم الجمعة، وأمر أيضاً بالسعي إلى الصلاة اعتناء بشأنها، حتى إن من عقد البيع وقت النهي يعاقب عليه بفسخه عند إمامنا مالك، خلافاً للشافعي، إلا أنه فعل ما حرم الله تعالى، ولا يفسخ عنده. قال العلامة الصاوي في حاشيته على الجلالين: فالمراد بالبيع العقد بتمامه، فهو خطاب لكل من البائع والمشتري. ومثل البيع والشراء الإجازة والشفعة، والتولية، والإقالة، فإن وقعت حرمت وفسخت عند مالك. وعند الشافعي تحرم ولا تفسخ اهـ. وفي تفسير ابن جزي عند قوله تعالى: {وذروا البيع} [الجمعة: 9] أمر بترك البيع يوم الجمعة إذا أخذ المؤذنون في الأذان، وذلك على الوجوب، فيقتضي تحريم البيع. واختلف في البيع الذي يعقد في ذلك الوقت هل يفسخ أم لا؟ واختلف في بيع من لا تلزمهم الجمعة من النساء والعبيد هل يجوز في ذلك الوقت أم لا؟ والأظهر

جوازه لأنه إنما منع منه من يدعى إلى الجمعة، ويجري النكاح في ذلك الوقت مجرى البيع في المنع اهـ. قوله: ويجري النكاح إلخ، قال الدردير في المسالك: وفسخ بيع ونحوه بأذان ثان، فإن فات فالقيمة حين القبض. قال: ومفهوم بيع ونحوه أن النكاح والهبة والصدقة والكتابة لا تفسخ إن وقعت عند الأذان الثاني وإن حرم اهـ. وفي القوانين أيضاً لابن جزي أنه قال: النوع السابع - أي من البيوع المنهي عنها - البيع يوم الجمعة من حين يصعد الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة، ويفسخ في المشهور خلافاً لهما اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وبيع الملاهي وآلات القمار " يعني من المنهي عنه بيع الملاهي فلا يجوز بيع آلة اللهو كالعود والمزمار وجميع آلات اللهو التي تشغل عن ذكر الله وعن الصلاة. ولا يجوز بيع آلة القمار وهو ما يأخذه الشخص من غيره بسبب المغالبة عند اللعب بنحو الشطرنج أو النرد أو الطاب أو المسابقة على غير الوجه الشرعي. ولا يجوز بيع آلة الغناء، ولا جارية مغنية. وقال بهرام في الشامل: وترد شهادة المغني والمغنية، والنائح والنائحة. وسماع العود حرام على الأصح إلا في عرس أو صنيع ليس فيه شراب مسكر فإنه يكره فقط، وغير العود من بقية الآلات التي يلعب بها يجري فيها ما في العود اهـ. نقله النفراوي. قال في الرسالة: ولا يحل لك أن تتعمد سماع الباطل كله، ولا أن تتلذذ بسماع كلام امرأة لا تحل لك، ولا سماع شيء من الملاهي والغناء، ولا قراءة القرآن باللحون المرجعة كترجيع الغناء، وليجل كتاب الله العزيز أن يتلى إلا بسكينة ووقار اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وأعيان النجس " وفي نسخة النجسة بالتاء المكفوفة والأولى حذفها هنا. والمعنى من البيوع المنهي عنها بيع أعيان النجس. قال الجزيري: لا يصح بيع النجس عند المالكية، كعظم الميتة، وجلدها ولو دبغ لأنه لا يطهر بالدبغ:

كالخمر والخنزير، وزبل ما لا يؤكل لحمه سواء كان أكله محرماً كالخيل والبغال والحمير، أو مكروهاً كالسبع والضبع والثعلب والذئب والهر؛ فإن فضلات هذه الحيوانات ونحوها لا يصح بيعها، وكذلك لا يصح بيع المتنجس الذي لا يمكن تطهيره كزيت وعسل وسمن وقعت فيه نجاسة على المشهور، فإن الزيت لا يطهر بالغسل، وبعضهم يقول: إن بيع الزيت المتنجس ونحوه صحيح؛ لأن نجاسته لا توجب إتلافه؛ فإن بعضهم يقول: إن الزيت يمكن تطهيره بالغسل. أما المتنجس الذي يمكن تطهيره كالثوب فإنه يجوز بيعه، ويجب على البائع أن يبين ما فيه من النجاسة فإن لم يبين كان للمشتري حق الخيار اهـ. بحذف. وإلى ذلك أشار الدردير بقوله: فلا يباع كزبل وجلد ميتة ولو دبغ، وخمر وزيت تنجس اهـ. انظر شراح خليل. وأما قول ابن عاصم في تحفة الحكام: ونجس صفقته محظورة ... ورخصوا الزبل للضرورة انظر الصاوي وغيره تجد فيه أقوال أئمة المذهب. والله أعلم بالصواب. قال رحمه الله تعالى: " وما لا منفعة فيه " يعني من المبيع المنهي عنه بيع ما لا منفعة فيه، وتقدم الكلام فيما لا ينتفع به بعد وقوع البيع فيه كالمريض المشرف على الموت فإنه لا يجوز بيعه لعدم الانتفاع به. قال الدردير عاطفاً على ما لا يجوز بيعه: ولا يصح أن يباع ما بلغ السياق: أي نزع الروح بحيث لا يدرك بزكاة لو كان مباح الأكل، لعدم الانتفاع به. وفي الحطاب: أما إذا بيع قبل أن يشرف فإنه يجوز بيعه ولو كان مرضه مخوفاً على الأصح اهـ. ومما لا يجوز بيعه القرد؛ لأنه لا ينتفع به انتفاعاً شرعياً. قال الحطاب في الفرع الثالث: القرد مما لا منفعة فيه، فلا يصح بيعه ولا تملكه. قال في أول البيوع من المتيطية: ما لا يصح ملكه ولا يصح بيعه إجماعاً كالحر، والخمر، والخنزير، والقرد، والدم، والميتة، وما أشبه ذلك اهـ. وفي المسائل الملقوطة: لا يجوز بيع الحر والخنزير والقرد والخمر والدم، والميتة والنجاسة وما لا منفعة فيه كخشاش الأرض والحيات

والكلاب غير المأذون في اتخاذها، وتراب الصواغين، وآلة اللاهي والأحباس، ولحوم الضحايا، والمدبر والمكاتب، والحيوان المريض مرضاً مخوفاً، والأمة الحامل بعد ستة أشهر، والحيوان بشرط الحمل، وما في بطون الحيوان واستثناؤه، والطير في الهواء، والسمك في الماء، والعبد الآبق، والجمل الشارد، والغائب على غير صفة، والبيع بغير تقليب، وملك الغير، والمغضوب، وكل ما فيه خصومة، والدين على الميت والغائب، وما لم يبد صلاحه، والدار بشرط سكناها أكثر من سنة، والدابة بشرط ركوبها أياماً كثيرة، والبيع بثمن مجهول، وإلى أجل مجهول، وفي وقت صلاة الجمعة. اختصرت ذلك من وثائق الغرناطي. انتهى كلامه. والمقصود منه الكلام على منع بيع القرد وبقية ذلك أو أكثر اهـ. قال رحمه الله تعالى: " أو فيه ضرر من الخشاش والحيوانات " يعني من المنهي عنه بيع ما فيه ضرر كالحيوانات ذات السم كالعقرب، والحيات، وجميع الخشاش التي تضر الإنسان يتألم بلدغها ويتأذى بها في جسده أو عقله فإنه لا يجوز بيعها لضررها وعدم نفعها بل وجب اجتنابها لحفظ النفس الذي هو واجب على الإنسان، كما يجب عليه دفع الصائل وقتل كل مؤذ إن قدر عليه لدفع أذيته. قال رحمه الله تعالى: " بخلاف الهر " بكسر الهاء وتشديد الراء، يعني أنه يجوز بيع الهر، قال ابن ناجي: ولا أعلم فيه خلافاً. قال خليل: وجاز هر وسبع للجلد. وقال الجزولي في شرح الرسالة: وأما السنور فقيل: يكره بيعه وهو الصحيح اهـ. قال المواق في المدونة: قال مالك: يجوز بيع الهر اهـ. قال ابن القاسم في المدونة: أما بيع السباع أحياء، والفهود، والنمور، والذئاب وشبهها، فإن كانت إنما تشترى وتذكى لجلدها فلا بأس بذلك؛ لأن مالكاً قال: إذا ذكيت السباع جاز لباس جلودها والصلاة عليها. قال ابن القاسم: وجاز بيعها اهـ. ومثله في الرسالة. ونصها:

ولا بأس بالصلاة على جلود السباع إذا ذكيت وبيعها اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وفي الكلب خلاف " يعني اختلف أئمة المذهب في بيع الكلب. قال ابن عرفة: الكلب المنهي عن اتخاذه لا يجوز بيعه اتفاقاً، وفي غيره سبعة أقوال انظره في المواق. قال مالك في الموطأ: أكره ثمن الكلب الضاري وغير الضاري، لنهي رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم عن ثمن الكلب. قال بعضهم: وينبغي أن يلحق بيع الكلب بالممنوع اهـ. ثم إن المأذون في اتخاذه يجوز أخذه لزرع أو ماشية أو لصيد؛ لما ورد في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: (من اقتنى كلباً لا لصيد أو زرع أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراط) وفي رواية: " قيراطان " فلذا قال أبو محمد عبد الله بن أبي زيد في الرسالة: ولا يتخذ كلب في الدور في الحضر ولا في دور البادية إلا لزرع أو ماشية يصحبها في الصحراء، ثم يروح معها أو لصيد يصطاده لعيشه. قال شارحها النفراوي: ولا حرج في اتخاذه لواحد من هذه الثلاثة. ثم قال: تنبيهات: الأول: ما ذكره المصنف من عدم جواز اتخاذ الكلاب في غير المسائل الثلاث مقيد بما إذا لم يضطر إلى اتخاذها لحفظ محله أو حفظ نفسه وإلا جاز، كما وقع للمصنف، يعني به صاحب الرسالة حين سقط حائط داره وكان يخاف على نفسه من الشيعة، فاتخذ كلباً، ولما قيل له: كيف تتخذه ومالك نهى عن اتخاذ الكلاب في غير المواضع الثلاثة؟ فقال: لو أدرك مالك زماننا لاتخذ أسداً ضارياً. ولا ضمان على صاحب المأذون في اتخاذه فيما أتلفه إلا أن يصير أن يصير عقوراً وينذر صاحبه على يد بينة. وقيل: لا بد من الإنذار على يد القاضي على قولين في المسألة فيضمن جميع ما يتلفه بعد الإنذار. وجناية غير العقور من فعل العجماء وهو جبار، قاله الأجهوري: وأما غير المأذون في اتخاذه فيضمن متخذه جميع ما أتلفه ولو لم يتقدم لمتخذه إنذار. والثاني: أي من التنبيهات لم يتكلم المصنف على حكم قتل الكلاب، ومحصله أن المأذون في اتخاذه لا يجوز قتله على مذهب

مالك وأصحابه وكثير من العلماء، وعلى قاتله غرم قيمته لصحة ملكه وإن حرم بيعه؛ لأنه لا تلازم بين حرمة البيع وعدم غرم القيمة كأم الولد ولحم الضحية فيحرم بيعهما وتلزم قيمتهما من أتلفهما. وأما غير المأذون في اتخاذه فلا غرم على قاتله لعدم صحة تملكه وجوازه، بل ندب قتله اهـ. قال الصاوي في حاشيته على الجلالين في سورة المائدة عند ورد الحديث المتقدم: ويؤخذ من هذا الحديث أن قتل غير النافع من الكلاب مندوب إن لم يكن عقوراً يخشى منه الضرر ولا يندفع إلا بالقتل، وإلا وجب قتله عند مالك اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويمنع الكافر شراء المصحف أو عبد مسلم، ويجبر على إزالة ملكه عنه " يعني كما قال خليل في المختصر: ومنع بيع مسلم ومصحف وصغير لكافر، وأجبر على إخراجه أي عن ملكه، ولا يفسخ ولو كان المبيع قائماً اهـ. وعبارة الدردير في أقرب المسالك أنه قال: ومنع بيع مسلم وصغير ومجوسي ومصحف وحديث لكافر، وأجبر على إخراجه عن ملكه ببيع أو عتق ناجز، أو هبة ولو لولد صغير، وجاز رده عليه بعيب كأن أسلم عنده، وباعه الحاكم إن بعدت غيبة السيد اهـ. قال الحطاب: وأما المسلم والمصحف فلا يصح تقرر ملك الكافر عليهما، فلا يجوز بيعهما منه بلا خلاف، فإن وقع ذلك فاختلف فيه، فمذهب المدونة أن البيع يمضي ويجبر الكافر إخراج ذلك عن ملكه. قال في المدونة في كتاب التجارة لأرض الحرب: فإن ابتاع الذمي أو المعاهد مسلماً أو مصحفاً أجبر على بيعه من مسلم ولم ينقص شراؤه اهـ. ثم قال: ولو كان الكافر المشتري له عبداً لمسلم فإنه يجبر على بيعه؛ لأنه له حتى ينزعه سيده. وصرح المأزري بأنه المشهور كما قال المأزري، وهو مذهب المدونة، ومقابله أنه يفسخ إذا كان المبيع قائماً، ونسبه سحنون لأكثر أصحاب

مالك. قال ابن رشد: والخلاف مقيد بما إذا علم البائع أن المشتري كافر، أما إذا ظن أنه مسلم فإنه لا يفسخ بلا خلاف ويجبر على إخراجه من ملكه بالبيع ونحوه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولا يفرق بين أمة وولدها، ولو مسبية أو من زنا، ويقبل قولها إنه ولدها، قيل إلى الإثغار، وقيل إلى البلوغ " يعني أنه من المنهي عنه تفريق الأمة بينها وبين ولدها في البيع؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من فرق بين والة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) اهـ. رواه أحمد. قال ابن جزي في القوانين: النوع الثامن، أي من البيوع المنهي عنها بيع الأم دون ولدها الصغير، أو بيعه دونها، فلا يجوز التفريق بينهما حتى يثغر الولد، ما لم يعجل الإثغار. ويجوز التفريق بينه وبين والده اهـ. وفي الرسالة: ولا يفرق بين الأم وولدها في البيع حتى يثغر اهـ. وحاصل فقه المسألة - على ما في الفواكه للنفراوي - أنه يحرم أن يفرق بين الأم العاقلة وبين ولدها الصغير في البيع ونحوه من كل عقد معاوضة، فيشمل أنه لو دفع الولد أو الأم أجرة أو صداقاً، أو وهب أحدهما للثواب. والمراد الأم دنية. وقيد بالمعاوضة احترازاً من غير المعاوضة كدفع أحدهما صدقة أو هبة لغير ثواب بل لوجه المعطي فلا حرمة، ويجبران على جمعهما في ملك واحد. وقيل يكتفى بجمعهما في حوز. ويجوز التفريق بالعتق ويكتفى بجمعهما في حوز اتفاقاً. فإذا أعتق الولد وباع الأم فيشترط على المشتري الإنفاق على الولد وكسوته إلى حصول الإثغار، وإن أعتق الأم وباع الولد اشترط على مشتريه جمعه مع أمه ونفقة الأم على نفسها. وإن دبر أحدهما لم يجز له بيع الآخر وحده ولا مع الآخر. قاله في المدونة، بخلاف ما لو كاتب أحدهما ثم باع كتابته وجب عليه بيع غير المكاتب مع كتابة المكاتب، ويشترط على المشتري ألا يفرق بينمها إذا عتق المكاتب حتى يحصل الإثغار. وقيدنا بدنية لأنه لا تحرم

التفرقة بين الجدة وولد ولدها، كما لا تحرم بين الأب وو لده، ولا بين الأم وولدها من الرضاع؛ لأن المراد بالأم من النسب. وقلنا العاقلة لأن حرمة التفرقة مختصة بالعقلاء دون غيرها على المشهور. وبالغ خليل في حرمة التفرقة بقوله: وإن بقسمة للإشارة إلى أن من مات عن جارية وأولادها الصغار لا يجوز لورثته أن يأخذ واحد الأم والآخر الولد. وتستمر الحرمة حتى يثغر الولد، فإن أثغر أي سقطت رواضعه ونبت غيرها ولو لم يتكامل نباتها جازت التفرقة. ويكتفي ببلوغ زمنه المعتاد وهو بعد السبع ولو لم يثغر بالفعل، بناء على المشهور من أن عدم التفرقة حق للأم، ومشى عليه خليل حيث قال: ما لم ترض الأم وإلا جازت، ولو لم يحصل زمن الإثغار. وتقدم الحديث على حرمة التفرقة على أول المسألة، وظاهره سواء كانت الأم مسلمة أو كافرة، لكن غير حربية، وسواء كان ولدها من زوجها أو من زنا، ولو كان مجنوناً وأمه كذلك إلا أن يخاف من أحدهما على الآخر، وأما الحربية فلا تحرم التفرقة بينها وبين ولدها، فيجوز لبعض المجاهدين أخذ الأم دون ولدها أو الولد دون أمه. والمسبية مع صغير تدعي أنه ولدها فيقبل قولها حيث قامت قرينة على صدقها. قال ابن عرفة: وتثبت البنوة المانعة للتفرقة بالبينة أو بإقرار مالكيها أو دعوى الأم مع قرينة صدقها. وتصديق المسبية إنما هو من جهة التفرقة فقط، لا في غيرها من أحكام البنوة، فلا يختلي بها إن كبر، ولا ترث من أقرت به، وأما هو فيرثها إن لم يكن لها وارث يحوز جميع المال. وأما لو حصلت التفرقة على وجه الممنوع فالحكم فيه الفسخ إن لم يجمعاهما في ملك، إلا أن يمضي زمن الحرمة بأن لم يطلع على ذلك حتى حصل اإثغار المعتاد وإلا مضى البيع. وأما لو حصلت التفرقة بغير معاوضة فقيل لا بد من جمعهما في ملك. وقيل يكفى

فصل فيما يتعلق بالثمن والمثمن

جمعهما في حوز ولا سبيل إلى الفسخ. ويضرب بائع التفرقة ومبتاعها كما قاله مالك وجميع أصحابه ولو لم يعتاداه. ومحل ضربهما إن علما حرمة التفرقة وإلا عذرا بالجهل اهـ بحذف وتصرف. ولما أنهى الكلام على المزابنة وحقيقتها، وذكر بعض الممنوعات في البيوع انتقل يتكلم في مسائل الثمن والمثمن، ويعبر عنهما بالعوضين لأن كل واحد من المتبايعين يأخذ ما بيد صاحبه عوضاً عما بيده ليحصل كل واحد منهما مراده بنيل ما بيد صاحبه على وجه الشرع كما في أول الكتاب. ولذا قال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ فيما يتعلق بالثمن والمثمن أي في بيان ما يتعلق بمسائل الثمن والمثمن، وما فيهما من اختلاف المتبايعين، وبدأ بالكلام على الثمن والمثمن فقال رحمه الله تعالى: " الثمن أحد العوضين، فيشترط نفي الغرر والجهالة عنه كالآخر " والمراد بالآخر: هو المثمن الذي هو أحد العوضين. والمعنى أنه يشترط في الثمن والمثمن نفي الغرر ونفي الجهالة عن كل واحد منهما كما تقدم في بيع المزابنة. قال ابن جزي في الممنوعات من بيوع الغرر: النوع الثاني: الجهل بجنس الثمن أو المثمن، كقوله بعتك ما في كمي فإنه لا يجوز. النوع الثالث: الجهل بصفة أحدهما كقوله: بعتك ثوباً من منزلي، أو بيع شيء من غير تقليب ولا وصف فلا يجوز كما تقدم. وقال في بيع الجزاف: غاية النهاية اشتراط عدم الإخبار أي بكمية كيله أو وزنه أو عدده مبطل للبيع. قال أبو الحسن الأزهري: الثالث - أي من أركان البيع - المعقود عليه وهو الثمن والمثمن، ويشترط فيهما خمسة شروط إلى أن قال: والعلم بكل من الثمن والمثمن: فالجهل بهما أو بأحدهما مبطل، مثل أن يشتري بزنة حجر مجهول، وتراب الصواغين، وكذا تراب حانوت العطار لشدة الغرر، فإنه لا يدري ما يخرج منه اهـ مع طرف من الشرنوبي.

قال رحمه الله تعالى: " ويلزم بإطلاقه نقد البلد، فإن اختلف فالغالب، فإن لم يكن لزمه تعيينه " يعني إذا وقع البيع بين المتبايعين ولم يذكرا النقد المضروب بعينه، بل وقع البيع على الإطلاق، كأن يقول البائع بعتك هذه السلعة بعشرين ريالاً مثلاً، ويقول المشتري اشتريت، فالعبرة بنقد البلد الذي وقع فيه البيع، فإن كانت في تلك البلدة أنواع مضروبات وكلها تروج ويتعاملون بها فالعبرة حينئذ بالغالب تعاملاً، فإن لم يكن الغالب لزم عليهما البيان وتعيين النقد الذي وقع به البيع، وإلا فسخ للجهل والغرر. قال خليل: وجهل بثمن أو مثمن ولو تفصيلاً. قال الحطاب: يعني أن من شرط صحة البيع أن يكون معلوم العوضين، فإن جهل الثمن أو المثمن لم يصح البيع. وظاهر كلامه أنه متى حصل الجهل بأحد العوضين من المتبايعين أو من أحدهما فسد البيع، وصرح بذلك الشارح في الكبير، وهو ظاهر التوضيح أيضاً اهـ انظر فيه كلام ابن رشد. قال الخرشي: ومما يشترط في البيع عدم الجهل بالمثمن والثمن، فلا بد من كونهما معلومين للبائع والمبتاع وإلا فسد البيع. وجهل أحدهما كجهلهما على المذهب. وقيل يخير الجاهل اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فإن اختلفا في جنسه تحالفا وتفاسخا، وأيهما نكل لزمه ما ادعاه الآخر " يعني كما في الرسالة، ونصها: وإذا اختلف المتبايعان استحلف البائع ثم يأخذ المبتاع، أو يحلف ويبرأ. قال شارحها: استحلف البائع أولاً جبراً عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (فالقول ما قاله البائع) وفي رواية عن ابن مسعود قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بينة فالقول ما يقول رب السلعة أو يتتاركا) رواه الخمسة. ثم إن حلف لزم البيع بما حلف عليه من جنس، أو نوع، أو قدر ثمن أو مثمن أو رهن، أو حميل فيأخذ المبتاع السلعة بما حلف عليه البائع، أو يحلف المبتاع إن نكل البائع ليبرأ مما ادعاه البائع، وحينئذ لكل الخيار بين

التمسك بما ادعاه خصمه والفسخ لكن بحكم حاكم، فلو نكل المبتاع أيضاً فإن العقد يفسخ أيضاً إن حكم به، ولا ينظر لشبه ولا عدمه، ولا لقيام السلعة وفواتها إذا كان الاختلاف في جنس الثمن أو المثمن، أو نوعهما، وإليه الإشارة بقول خليل: إن اختلف المتبايعان في جنس الثمن أو نوعه حلفا وفسخ، وترد السلعة مع القيام، وقيمتها أو مثلها مع الفوات اهـ النفراوي. قال رحمه الله تعالى: " أو في قدره كذلك ما لم يفت المبيع بيد المشتري فيقبل قوله مع يمينه، وإن نكلا ترادا. وقيل يلزم ما ادعاه البائع " قال النفراوي: وأما لو كان الاختلاف في قدر الثمن أو المثمن أو الرهن، أو الأجل، أو الحميل فكذلك إن كانت السلعة قائمة، ولا ينظر لسبه ولا عدمه. وأما بعد فواتها فالقول للمشتري إن أشبه، فإن انفرد البائع بالشبه فالقول قوله بيمينه، وإن لم يشبها فالفسخ إن حلفا أو نكلا. قال خليل: وفي قدره كمثمونة، أو قدر أجل، أو رهن، أو حميل حلفاً وفسخ إن حكم به، ويكون الفسخ في الظاهر والباطن في جميع مسائل الفسخ، ثم قال أي خليل: وصدق مشتر ادعى الأشبه، وحلف إن فات، وإن لم يشبها حلفا وفسخ، وترد قيمة السلعة يوم فواتها، فتلخص أن الفسخ في الاختلاف في جنس المعقود عليه أو نوعه مطلق. وفي الاختلاف في قدره أو في قدر الرهن أو لأجل مقيد بعدم فوات السلعة، وإلا صدق المشتري إن أشبه وحلف، فإن انفرد البائع بالشبه فالقول قوله بيمينه، فإن لم يوجد الشبه منهما فالفسخ إن حلفا أو نكلا اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وإن اختلفا في صفة العقد ففي الخيار قول منكره، وفي الصحة قول مدعيها، وفي التأجيل يرجع إلى عرف المبيع. ولا يجوز البيع إلى أجل مجهول " قال النفراوي: فروع: الأول: لو اختلفا في الصحة والفساد فالقول قول مدعي الصحة، إلا عند غلبة الفساد فيكون القول لمدعيه، كادعاء أحدهما صحة الصرف

والآخر فساده؛ لأن الغالب فساد الصرف، ومثله السلم. الثاني: إذا اختلفا في الخيار والبت فالقول لمدعي البت ولو مع قيام السلعة إلا لعرف بالخيار. الثالث: لو ختلفا في قبض الثمن أو المثمن فالأصل البقاء، إلا لعرف كلحم أو بقل بان به. الرابع: لو اختلفا في انقضاء الأجل المضروب لقبض الثمن فالقول لمن ادعى البقاء حيث فاتت السلعة وأشبه مدعيه، وأما مع قيامها فإنهما يتحالفان ويتفاسخان اهـ. وأما قوله: ولا يحوز البيع على أجل مجهول، وهو كذلك نحو قول أحدهما إلى المسيرة أو قدوم زيد، أو إلى موت عمرو، هذا أجل مجهول، فالجهل بالأجل مبطل للعقد في البيع كما تقدم. قال رحمه الله تعالى: " والفاسد لا ينقل الملك، فإن فات بيد المشتري ضمن المثلي بمثله، والمقوم بقيمته، ولا يلزمه رد غلته " يعني أن المبيع بيعاً فاسداً لا ينقل عن ملك صاحبه، كما لا ينقل الملك عن البائع في بيع الخيار قبل مضي مدته. قال ابن جزي: والفاسد ما أخل فيه شرط من شروط الصحة فيفسخ وترد السلعة إن كانت قائمة، فإن فاتت رد مثلها فيما له مثل، وهو المكيل والمعدود والموزون، ورد قيمتها فيما لا مثل له. ويحصل الفوات بالأشياء الآتية: كتغير الذات، وتلفها كالموت، والعتق وهدم الدار، وغرس الأرض، وقلع غرسها، وفناء الشيء كأكل الطعام، وحوالة الأسواق في غير الرباع. قال في الرسالة: ولا تفيت الرباع حوالة الأسواق. قال شارحها ولا بد من ردها لفساد بيعها. فالحاصل أن المثليات والعقارات لا تفوت بحوالة الأسواق. قال خليل في تصوير الفوات بتغير سوق غير مثلي وعقار، وبطول زمان حيوان، وفيها شهر وشهران، واختار أنه خلاف: وقال بل في شهادة، وبنقل عرض ومثلي لبلد بكلفة، وبتغير ذات غير مثلي كالهدم والبناء وكبر صغير الحيوان، وهزاله، وبالخروج عن يد

مشتريه بأن باع ما اشتراه، أو وهبه، أو وقفه، وبتعلق حق الغير به بأن رهنه أو آجره. قال النفراوي: قد قدمنا أن المبيع بيعاً فاسداً باق على ملك بائعه؛ لأن العقد الفاسد لا ينقل الملك على الصحيح لوجوب فسخه شرعاً قبل الفوات. قال الفاكهاني: جعل الضمان من البائع صريحاً في أن الفاسد لا ينقل الملك، وجعل الضمان بعد القبض من المشتري يقتضي أن الفاسد ينقل، وهو مشكل، فأجيب بأنه لا ملازمة بين نقل الملك والضمان، إذ قد يوجد الضمان من غير تقدم ملك، كمن أتلف شيء غيره من غير تقدم سبب ملك، فإنه يضمن لتعديه، والمشتري هنا متعد بقبض المشتري شراء فاسداً، فمحصل الجواب أن ضمان المشتري إنما هو لتعديه بالقبض لما يجب فسخ عقده قبل فواته، ويدلك على ما قلنا أنه يضمن بعد القبض ولو بأمر سماوي، ولا حاجة إلى بناء الضمان بعد القبض على القول بأن الفاسد ينقل الملك لما ذكرنا. ثم قال: إذا ردت السلعة بسبب الفساد يفوز مشتريها بغلتها. قال خليل بعد قوله وإنما ينتقل ضمان الفاسد بالقبض: ورد ولا غلة، أي لا تصحبه الغلة في الرد، بل يفوز بها المشتري؛ لأن الضمان كان منه، والخراج بالضمان كما قدمنا في الرد بالعيب. وظاهر كلام أهل المذهب ولو علم المشتري بالفساد، وبوجوب الفسخ، ولو في الثنيا الممنوعة على الراجح، إلا في مسألة: وهي من اشترى شيئاً موقوفاً شراء فاسداً مع علمه بأنه وقف فإنه لا يفوز بالغلة بل يجب ردها حيث كان على غير معين، أو على معين غير رشيد، وأما لو كان موقوفاً على معين وباعه ذلك المعين فإنه يفوز المشتري بغلته ولو علم بأنه وقف حيث كان ذلك البائع رشيداً. واعلم أن المشتري كما يفوز بالغلة لا يرجع على البائع بكلفة الحيوان إذا كانت الغلة قدر الكلفة أو أكثر، وأما لو زادت الكلفة على الغلة، أو كان لا غلة فإنه يرجع على البائع بالكلفة؛ لأنه قام عن البائع بما لا بد له منه. وأشار إلى هذا بعض الفضلاء بقوله: واعلم

فصل في بيع العقار وما يتبعها

أن كل من أنفق على ما اشتراه وله غلة تبتغي كالغنم والدواب والعبيد، ثم رده بعيب أو استحقاق، أو فساد لا يرجع بنفقته، بخلاف ما ليس له غلة تبتغي كالنخل إذا ردت مع ثمارها فإنه يرجع بقيمة سقيها وعلاجها، وهذا كله في غير ماله عين قائمة، وأما النفقة فيما له عين قائمة كالبناء والصباغ فإنه يرجع بها وله الغلة، كسكنى الدار، نقل جميعه الأجهوري اهـ. ولما أنهى الكلام على البحث في الثمن والمثمن وما في ذلك من اختلاف المتبايعين انتقل يتكلم فيما يتبع العقار وهي الأرض وما عليها من البناء والأشجار. فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في بيع العقار وما يتبعها أي في بيان ما يتعلق بالعقار وما يتبعه بعد العقد وغيره. قال رحمه الله تعالى: " يتبع العقار كل ما هو ثابت من مرافقه كالأبواب، والرفوف، والسلالم المؤبدة، والأخصاص والميازيب " الرفوف جمع رف، وهو خشب أو غيره يسمر في جدار البيت يوضع عليه متاع البيت. والسلالم جمع سلم وهو معروف. والأخصاص جمع خص قال في المصباح: الخص: البيت من القصب، والجمع أخصاص، مثل قفل وأقفال. والميازيب جمع ميزاب وهو مجرى الماء والمعنى أنه يتبع العقار كل ما هو ثابت من تلك المذكورات وغيرها. قال الدردير: والدار الثابت، كباب ورف وسلم سمر، ورحى مبنية. قال الجزيري في الفقه: وإذا اشترى داراً فإن العقد يتناول الشيء الأبواب المركبة والشبابيك والسلالم المثبتة سواء كانت حجراً أو خشباً، أما السلالم الخشب التي لم تسمر فقيل يتناولها إن كان لا بد منها في الوصول إلى غرف الدار. وقيل لا يتناولها إلا بالشرط، وكذلك يتناول السقف والمجاري وغير ذلك من الأشياء المثبتة في حيطانه أو أرضه ببناء أو تسمير اهـ.

قال رحمه الله تعالى: " لا منقول إلا المفاتيح " يعني لا يتناول العقد الأشياء المنقولة إلا ما لا بد منه كالمفاتيح التي يفتح بها الأبواب فإن العقد يتناولها وإن لم يشترطها؛ لأنها مما لا بد منه. قال الجزيري في الفقه: أما المنقولات التي لم تثبت فإنه لا يتناولها، فلو كان بالدار أبواب وشبابيك مهيئة للتركيب ولكنها لم تركب فإن العقد لا يتناولها إلا بالنص عليها، ومثلها الأحجار والبلاط والمونة وغير ذلك مما هو لازم لعمارة الدار، فإنه لا يدخل في المبيع بدون ذكر ما دام غير مثبت اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والرقيق ثيابه المعتادة لا ماله إلا أن يشترطه " يعني أن العقد على العبد أو الأمة يتناول ثياب الخلقة، وأم ثياب الزينة فلا تدخل إلا بشرط أو عرف. قاله الخرشي. ومثله في الدردير اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويصح استثناء جلد الشاة، وأكارعها، وسواقطها، ما لم تكثر قيمتها، وأرطال معلومة لا تزيد على الثلث " والأكارع قوائم الدابة، والسواقط فسروها بالرأس والأكارع. قال الحطاب عند قول خليل وجلد وساقط: الساقط هو الرأس والأكارع فقط، ولا يدخل في ذلك الكرش والفؤاد كما تقدم عن المدونة أنه لا يجوز أن يستثنى البطن أو الكبد، وإنما نبهت على ذلك لدخول هذه الأشياء في السقط في العرف، بل هي المتبادر، خصوصاً وقد استدل ابن يونس للمدونة بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر اشتريا شاة في مسيرهما إلى المدينة من راع وشرطا له سلبها، والسلب في اللغة يطلق على ذلك كما قاله في القاموس اهـ. ومعنى تلك الجملة أنه يجوز للبائع أن يستثنى الجلد عند العقد، ومثل الجلد الأكارع، وأرطال يسيرة معلومة من اللحم ما لم تكثر قيمة ذلك ولم يجاوز ثلث الشاة. قال خليل عاطفاً على الجائزات: وشاة واستثناء أربعة أرطال، قال الشارح: أي جاز بيع شاة حية أو مذبوحة قبل سلخها واستثناء أربعة أرطال ونحوها مما لم يبلغ الثالث، فإن بيعت بعد سلخها جاز استثناء قدر

الثلث فقط، قال الحطاب: التحديد بأربعة أي من الأرطال هو الذي في أكثر الروايات، وفي بعضها ثلاثة، وبعضها خمسة أو ستة أو أكثر مما دون الثلث اهـ الخليل. تنبيه: لا يجوز بيع شاة للجزار بدراهم، ثم يأخذ بدل الدراهم لحماً أو طعاماً لإلغاء الدراهم المتوسطة بين العقد والقبض، فكأنه من أول الأمر باع الشاة باللحم أو الطعام، وهذا بخلاف الحيوان الذي يراد للقنية لكثرة منفعته فإنه يجوز بيعه بطعام ولو لأجل، ويجوز كراء الأرض به، وأخذه قضاء عما أكريت به الأرض، وأخذ الطعام قضاء عن ثمنه لأنه ليس طعاماً حقيقة ولا حكماً اهـ من حاشية الصاوي على الدردير. قال رحمه الله تعالى: " وركوب الدابة إلى موضع معين، وسكنى شهر أو نحوه " يعني يصح استثناء ركوب الدابة وسكنى البيت بعد انعقاد البيع. قال ابن جزي في القوانين: فإن اشترط منفعة لنفسه كركوب الدابة أو سكنى الدار مدة معلومة جاز البيع والشرط اهـ. قال العلامة ابن رشد في المقدمات: والثالث يجوز فيه البيع والشرط، وذلك إذا كان الشرط صحيحاً ولم يؤل البيع به إلى غرر ولا فساد في ثمن ولا مثمن، ولا إلى ما أشبه ذلك من الإخلال بشرط من الشرائط المشترطة في صحة البيع، وذلك مثل أن يبيع الرجل الدار ويشترط سكناها أشهراً معلومة، أو يبيع الدابة ويشترط ركوبها أياماً يسيرة أو إلى مكان قريب، أو يشترط شرطاً يوجبه الحكم وما أشبه ذلك اهـ. قال في المدونة: أرأيت الدار يشتريها الرجل على أن للبائع سكناها سنة أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: قال مالك: ذلك جائز إذا اشترط البائع سكناها الأشهر أو السنة ليست ببعيدة، وكره ما يتباعد من ذلك. وفيها أيضاً: أرأيت إن بعت دابتي هذه واشترطت ركوبها شهراً أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: قال مالك: لا خير فيه، وإنما يجوز ذلك في قول مالك اليوم واليومين وما أشبهها، وأما الشهر والأمر المتباعد فلا خير فيه اهـ. ولما أنهى الكلام على ما يتعلق بالعقار مما هو ثابت عليها انتقل يتكلم على صحة بيع المميز،

فصل في بيان بيع المميز والعبد المأذون وغيره

وغير المالك، والعبد بعد الإجازة والإذن. قال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في بيان بيع المميز والعبد المأذون وغيره أي في بيان ما يتعلق ببيع المميز والعبد غير المأذون سواء كان صبياً أو كبيراً، وحكم المأذون في التجارة، وبيع غير المالك كالسمسار، وغير المأذون له في بيع السلعة وهو المعبر عنه بالفضولي. وهؤلاء بيعهم موقوف على الإجازة. قال رحمه الله تعالى: " يصح بيع مميز موقوفاً على إجازة وليه، وبيع الفضولي وابتياعه موقوفاً على إجازة المالك " يعني أن غير المميز لا يصح بيعه ولا شراؤه. قال ابن بزيزة: ولم يختلف العلماء أن بيع الصغير والمجنون باطل لعدم التمييز ولتوقف انتقال الملك على الرضا وهو مفقود من غير المميز. قال الدردير: شرط صحة العاقد تمييز فلا يصح من غير مميز لصغر أو جنون أو إغماء أو سكر ليس بحرام، وكذا بحرام، إما اتفاقاً أو على المشهور. وتقدم الكلام على التمييز عند ذكر شروط العاقد فراجعه إن شئت. وأما بيع الفضولي فيتوقف على إجازة المالك. قال ابن جزي: ينعقد بيع الفضولي ويتوقف على إذن ربه. وقال الشافعي: لا ينعقد اهـ. قال في " قرة العين بفتاوى علماء الحرمين ": ما قولكم في رجل فضولي باع سلعة رجل آخر بغير إذنه، وصاحب السلعة حاضر ساكت، هل يكون البيع لازماً أم لا؟ الجواب: في أقرب المسالك، وصح بيع غير المالك للسلعة وهو المسمى بالفضولي، ولو علم المشتري أن البائع لا يملك المبتاع، والبيع لازم من جهة الفضولي منحل من جهة المالك، ووقف البيع على رضاه ما لم يقع البيع بحضرته وهو ساكت فيكون لازماً من جهته أيضاً، وصار الفضولي كالوكيل، وكذا

يكون البيع لازماً إذا بلغ المالك بيع الفضولي وسكت سنة كاملة من حين علمه من غير مانع يمنعه من القيام، ولا يعذر بجهل في سكوته اهـ. وإذا أمضى المالك بيع الفضولي فإن المالك يطالب الفضولي بالثمن ما لم يمض عام، فإن مضى وهو ساكت سقط حقه. هذا إن بيع بحضرته، وأما إن بيع بغير حضرته فلا يسقط ما لم تمض مدة الحيازة، وهي عشرة أعوام. وظاهر كلامهم كان المبيع عقاراً أو غيره، ومحل كون المالك ينقض بيع الفضولي إن لم يفت المبيع، فإن فات بذهاب عينه فقط كان على الفضولي الأكثر من ثمنه وقيمته، ولا فرق بين كون الفضولي غاضباً أو غير غاضب. اهـ. ملخصاً من الدسوقي والدردير. قال رحمه الله تعالى: " فإن جمع ملكه وملك غيره وملك الغير هو المقصود لم يجز، وثبت للمشتري الخيار، وإلا لزم في ملكه بسقطه " يعني أن من باع ملكه وملك غيره في صفقة واحدة والحال أم ملك الغير هو المقصود بالبيع فهذا مما لا يجوز شرعاً، فللمشتري الخيار في الأخذ والترك؛ لأن البائع مدلس وهو فضولي أيضاً في ملك الغير. وأما إن كان المقصود بيع ملكه فيلزمه في ملكه بقدر قسطه فقط. قال في الرسالة: وإن باع الوديعة وهي عرض فربها مخير في الثمن أو القيمة يوم التعدي. قال شارحها: أي مخير في إجازة البيع وأخذ الثمن الذي بيعت به، وعند فواتها يجب له الأكثر من الثمن أو القيمة لأنه فضولي وتقدم حكمه. فالحاصل أنه عند قيام السلعة لربها إجازة البيع وأخذ الثمن، وله رد البيع وأخذ سلعته، وأما عند فواتها فيقضي له بأخذ الأكثر من الثمن أو قيمتها يوم التعدي، ومثله كل متعد بالبيع على سلعة غيره ولو غاضباً، وهكذا حكم بيع الوديعة من غير اتجار في ثمنها، وأما لو باعها على وجه التجارة ففي بيعها تفصيل اهـ. بتصرف انظر النفراوي.

قال رحمه الله تعالى: " وغير المأذون على إجازة سيده، فإن أذن له جازت تصرفاته غير موقوفة، لكن ليس له فعل ما لا مصلحة للمال فيه، وأجاز ابن القاسم قراضه " يعني يتوقف لزوم بيع غير المأذون على إجازة السيد قال ابن رشد في المقدمات: ولا يجوز له أن يتجر إلا أن يأذن له سيده في التجارة، فإن أذن له فيها جاز أن يتجر بالدين والنقد، وإن لم يأذن له في التجارة بالدين لزمه ما داين به في جميع أنواع التجارات، وإن لم يأذن له إلا في نوع واحد منها على مذهب ابن القاسم في المدونة، إذ لا فرق بين أن يحجر عليه في التجارة بالدين أو يحجر عليه في التجارة في نوع من الأنواع، وهو قول أصبغ في التحجير في الدين. وذهب سحنون إلى أنه ليس له أن يتجر بالدين إذا حجر عليه في التجارة به، وكذلك يلزم على قوله إذا حجر عليه في التجارة في نوع من الأنواع، إلا أن يشهر ذلك ويعلنه في الوجهين جميعاً فلا يلزمه، وهو صحيح في المعنى اهـ. بحذف. وعبارة الدردير على أقرب المسالك: وحجر على رقيق مطلقاً إلا بأذن في تجارة ولو في نوع. قوله: إلا بأذن في تجارة ولو في نوع. قوله: إلا بأذن في تجارة أي فتصرفه ماض ولو ضمنا، ككتابة فإنها إذن حكماً في التصرف. والمأذون من أذن له سيده أن يتجر في مال نفسه والربح له أو لسيده، أو في مال السيد والربح للعبد. وأما جعل الربح للسيد فهو وكيل حقيقة. ثم قال: كوكيل مفوض. وله أن يضع ويؤخر، ويضيف إن استألف، ويعتق برضى سيده، وأخذ قراض ودفعه، وتصرف فيه كهبة لا تبرع، ولغير مأذون قبول بلا إذن ولا يتصرف، والحجر على المأذون كالحر، وأخذ مما بيده وإن مستولدة أو هبة ونحوها، لا غلة وأرش جرحه ورقبته اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وما ادانه فهو فيما بيده وذمته، لا رقبته ولا على سيده إلا أن يتحمله، فإن عامله فهو أسوة غرمائه " يعني كما في القوانين لابن جزي

ونصه: المسألة الثالثة كل ما على المأذون له من ديون يؤديها من ماله، فإن لم يكن له مال يفي بها تعلقت بذمته، ولا يلزم السيد أداؤها عنه، ولا يباع فيها خلافاً لقوم اهـ. ومحل عدم اتباع السيد بما على المأذون ما لم يكن قال للغرماء عاملوه وجميع ما عاملتموه به علي وإلا اتبع لكونه يصير ضامناً. تنبيه: كما لا تباع رقبة المأذون فيما عليه من الدين لأنها مملوكة لسيده كذلك ولده من أمته لا يباع لأنه ملك لسيده، كرقبة أبيه، ولا حق للغرماء فيها، ولذا لو قامت الغرماء علي قبل وضع أمته أخر بيعها حتى تضع؛ لأنه لا يجوز استثناؤه في البيع. وعجز المأذون عن وفائه من الدين يتبع به إن عتق لأن السيد ليس له إسقاطه عنه، بخلاف غير المأذون إن أخذ من أحد شيئاً من غير إذن سيده واطلع عليه قبل عتقه فله أن يسقطه عنه ولا يتبع به إن عتق، كالمأذون يأخذ شيئاً غير المأذون فيه فإن لسيده إسقاطه عنه، وما لم يسقطه السيد مما له إسقاطه يتبع به الرقيق بعد عتقه اهـ. النفراوي. قال رحمه الله تعالى: " وليس له انتزاع ماله، وله حجره بعد إذنه " يعني ليس للسيد انتزاع مال المأذون في التجارة بعد الإذن؛ لأنه كالمكاتب في تصرفاته بالمال، لكن السيد حجره بعد الإذن بخلاف المكاتب إلا إن عجز عن أداء الكتابة فللحاكم تعجيزه كما يأتي في العتق. قال ابن جزي في معاملة العبيد: الفرع الثاني للسيد أن يحجر على عبده بعد إذنه له. ويعرف السلطان بذلك ويوقفه للناس اهـ. وفي المدونة: ومن أراد أن يحجر على من له عليه ولاية فلا يحجر عليه إلا عند السلطان فيوقفه السلطان للناس ويسمع به في محله ويشهد على ذلك، فمن باع منه أو ابتاع بعد ذلك فهو مردود، وكذلك العبد المأذون له في التجارة، ولا ينبغي لسيده أن يحجر عليه إلا عند السلطان فيوقفه للناس ويأمر به فيطاف به حتى يعلم ذلك اهـ. نقله الصاوي في الحاشية.

فصل في بيان بيع الغائب عن مجلس العقد

بيع الغائب ولما أنهى الكلام على ما يتعلق ببيع المميز والعبد المأذون وغيره انتقل يتكلم على بيع الغائب فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في بيان بيع الغائب عن مجلس العقد أي في بيان ما يتعلق ببيع الشيء الغائب وهو ضد الحاضر. واعلم أن بيع الغائب على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يباع بالصفة على اللزوم، وجوازه مشروط بغيبته، ويكفي غيبته ولو عن مجلس العقد، ولا يشترط أن يكون في رؤيته مشقة، ولا غيبته عن البلد المأخوذ من المدونة. ثانيها: ألا يبعد مكانه جداً كخراسان من الأندلس، كما يشترط ذلك في كل مبيع على اللزوم، ومثل غيبته عن مجلس العقد حضوره به حيث كان في رؤيته مشقة أو فساد، وأما الحاضر بمجلس العقد ولا مشقة ولا فساد في رؤيته فلا بد في صحة العقد عليه من رؤيته حيث كان البيع على اللزوم. وثالثها: أن يكون بوصف غير البائع إن اشترط نقد الثمن فيه وإلا جاز ولو بوصفه على المعتمد، وأن يكون المشتري يعرف ما وصف له معرفة تامة اهـ. قاله النفراوي. قال رحمه الله تعالى: " يجوز بيع الغائب على رؤية متقدمة. فيما يؤمن تغيره، وعلى رؤية البعض، فإن خالف الباقي ثبت الخيار " يعني كما قال في الرسالة: ولا بأس ببيع الشيء الغائب على الصفة، ولا ينقد فيه بشرط إلا أن يقرب مكانه، أو يكون مما يؤمن تغيره من دار أو أرض أو شجر فيجوز النقد فيه اهـ. قال ابن جزي: يجوز في المذهب بيع الشيء الغائب على الصفة أو رؤية متقدمة، وأجازه أبو حنيفة من غير صفة ولا رؤية، ومنعه الشافعي مطلقاً. ويشترط في المذهب في المبيع على الصفة خمسة شروط:

الأول: أن يكون بعيداً جداً كالأندلس وأفريقية. الثاني: ألا يكون قريباً جداً كالحاضر في البلد. الثالث: أن يصفه غير البائع. الرابع: أن يحضر بالأوصاف المقصودة كلها. الخامس: ألا ينقد ثمنه بشرط إلا في المأمون كالعقار، ويجوز النقد من غير شرط، ثم إن خرج المبيع على حسب الصفة والرؤية لزم البيع، وإن خرج على خلاف ذلك فللمشتري الخيار اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وكالعسل ونحوه في وعائه وما له صوان برؤيته كالبطيخ والرمان والجوز واللوز ونحوه " تشبيه على الرؤية. والمعنى أنه يجوز بيع الشيء برؤية بعضه كالعسل والسمن في وعائه، سواء كان البيع بتاً أو على الخيار، ولو جزافاً لما مر أن رؤية البعض كافية فيه، كرؤية السمن في حلق الجرة مثلاً، ويشترط في رؤية ذلك البعض في الجزاف أن يكون متصلاً كالمثال، أي كالباقي المبيع. قاله الصاوي في حاشيته على الدردير اهـ. قوله وما له صوان إلخ، الصوان بكسر الصاد المهملة وضمها وتخفيف الواو: ما يصون الشيء كقشر الرمان والجوز واللوز، فلا يشترط كسر بعضه ليرى ما في داخله، ومن ذلك البطيخ ونحوه اهـ. الصاوي. قال رحمه الله تعالى: " والغائب على الصفة فيما يغلب مصادفته عليها، ولا يمكن الاطلاع عليه حال العقد، فيذكر منها ما يميزه عن غيره وتختلف الأغراض والأثمان بها، فإن وافق لزم وإلا ثبت للمبتاع الخيار " يعني الشيء المبيع على الصفة يكون غالباً موافقاً على الصفة التي وصف بها، وكانوا يذكرون في حال العقد صفة السلع، كأن يقول البائع: إن فيه من الخز كذا، ومن الغوطة كذا وكذا، ومن الدبلان كذا وكذا، والفسطاطي كذا وكذا، ومن المروى كذا وكذا، كما في المدونة، كانوا يتبايعون على الصفة ويميزون كل سلعة على صفتها بنوعها، يصدقون ويأمنون بعضهم على بعض في ذلك، ويعرفون قيمة كل موصوف غلاء ورخصاً. وتختلف فيه الأغراض

والأثمان، فإن وافق الموصوف لزم البيع وإلا بأن خالف ذلك فللمشتري الخيار. وأم لو وجد زيادة فالحكم كما قال مالك في المدونة فيمن اشترى مائة ثوب من رجل في عدل على برنامج موصوف، أو على صفة كل ثوب بعشرة دراهم، على أن فيه من الخز كذا وكذا، ومن الفسطاطي كذا وكذا، ومن المروى كذا وكذا، فأصاب في العدل تسعة وتسعين ثوباً، وكان النقصان من الخز، قال أرى أن تحسب قيمة الثياب كلها، فينظر كم قيمة الخز منها فإن كان الربع أو الثلث من الثمن وعدة الخز عشرة وضع عنه عشر ربع الثمن، أو عشر ثلث الثمن؛ لأن القيمة تكون أكثر من الثمن أو أقل، وإنما يقسم الثمن على الأجزاء كلها ثم ينظر إلى ذلك الجزء الذي وجد فيه ذلك النقصان منه فإن كان جزءاً وضع عنه من الثمن قدر الذي أصابه من ذلك الجزء من الثمن اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والتلف قبل مجيئه من البائع، إلا أن يعلم أن العقد صادف الصفة فيكون من المبتاع كالمأمون تغيره " قال ابن القاسم في كتاب الغرر من المدونة: وما ثبت هلاكه من السلع الغائبة بعد الصفقة وقد كان يوم الصفقة على ما وصف المبتاع، أو على ما كان رأى فهي من البائع إلا أن يشترط أنها من المبتاع، وهو آخر قولي مالك، وكان مالك يقول: إنها من المبتاع إلا أن يشترط أنها من البائع حتى يقبضها ثم رجع إلى هذا. والنقص والنماء كالهلاك في القولين. وهذا في كل سلعة غائبة بعيدة الغيبة، أو قريبة الغيبة خلاف الدور والأرضين والعقار فإنها من المبتاع من يوم العقد في القولين وإن بعدت اهـ. انظر الحطاب. وعبارة الدردير على أقرب المسالك: وضمانه من المشتري إن كان عقاراً وأدركته الصفقة سالماً وإلا فمن البائع إلا لشرط فيهما، وقبضه على المشتري والنقد فيه تطوعاً كبشرط إن كان عقاراً أو قرب كيوم ونحوه اهـ. قال في حاشية الصاوي عليه: حاصله أن المبيع الغائب بالصفة على اللزوم يجوز النقد فيه تطوعاً، سواء كان عقاراً أو غيره، وإن كان على الخيار

منع النقد مطلقاً عقاراً أو غيره. وهل يشترط في جواز النقد ولو تطوعاً إذا بيع على الصفة على اللزوم كون الواصف له غير البائع؛ لأن وصفه يمنع من جواز النقد ولو تطوعاً، وهو الذي ارتضاه في الحاشية كما تقدم، أو لا يشترط ذلك وهو المأخوذ من كلام البناني فإنه نازع في كون وصف البائع يمنع من جواز النقد تطوعاً. وأما النقد بشرط فإن كان المبيع عقاراً فيجوز بثلاثة شروط: أن يكون على اللزوم، والواصف له غير بائعه، وألا يبعد جداً، وإن كان غير عقار فيجوز بأربعة شروط: أن تقرب غيبته كيومين، والبيع على اللزوم، والواصف له غير البائع، وليس فيه حق توفية، فإن تخلف شرط منها منع شرط النقد اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فإن اختلفا في وجودها حال العقد فالقول قول البائع وفيها القول قول المشتري " يعني إن اختلفا المتبايعان في المبيع الغائب هل هو موجود حين العقد أم لا فقولان لمالك في المدونة: الأول: القول قول البائع، والثاني: القول قول المبتاع. قال ابن رشد في المقدمات: وبيع الغائب على مذهب ابن القاسم جائز ما لم يتفاحش بعده، والعقد عليه صحيح وإن لم يعلم إن كان حين العقد قائماً أو تالفاً، فإن تلف قبل العقد انتقض البيع باتفاق، وإن تلف بعد العقد وقبل القبض، فاختلف قول مالك في ذلك، فمرة قال إن مصيبته من البائع وينتقض البيع اهـ. وأما إذا اختلفا في المبيع تقدمت رؤيته فقال المشتري إن صفته التي اشتريته عليها تغيرت، وقال البائع لم تتغير فإنه يسأل في ذلك أهل الخبرة هل المدة التي بين رؤيته قبل البيع ورؤيته بعده يتغير فيها المبيع عادة أو لا؟ فإن جزم بأنه يتغير كان القول للمشتري، وإن جزم بأنه لا يتغير كان القول للبائع، ولا يمين على واحد منهما: ومثل ذلك ما إذا رجح التغيير أو عدمه فإنه يكون القول للمشتري إذا قال أهل الخبرة إنه يظن أنه يتغير، ويكون القول للبائع إذا قال إنه يظن أنه لا يتغير، ولكن يحلف من رجح له في هذه الحالة. وأما إذا شك أهل

الخبرة فلم يجزم بشيء ولم يرجحوا شيئاً كان على البائع أن يحلف بأن المبيع باق على الصفة التي رآها بها المشتري ويتم البيع. وإن اختلفا أيضاً فيما اشتراه على وصفه على البرنامج فقال المشتري بعد غيبته به إنه وجده على غير المكتوب في الدفتر، وقال البائع إن المبيع موافق لما كتبه في الدفتر وأن المشتري جاءه بغير المبيع كان القول للبائع بيمينه فيحلف بأن الذي باعه موافق للمكتوب، فإن حلف فلا شيء، وإن نكل حلف المشتري أنه لم يغير ما وجده، فإن حلف فله رده إلى البائع، وإن أبى لزمه ما أتى به ولا شيء له على البائع اهـ. ذكره الجزيري في الفقه. وأصله في المدونة في الدعوى على بيع البرنامج، وإليه أشار خليل بقوله: وحلف مدع لبيع برنامج أن موافقته للمكتوب اهـ كما تقدم. قال رحمه الله تعالى: " ويوكل الأعمى إلا أن يعرف الصفة " يعني ما ذكرناه من الرؤية إنما ذلك بالنسبة للبصير، وأما الأعمى فإنه يوكل البصير في بيعه وشرائه وجميع ما يشترط فيه الرؤية، إلا إن سبق منه معرفة ذلك سواء مبيعاً أو غيره في ما لا يتغير مثله فيعمل به ويعتمد برؤيته السابقة. قال خليل: ومن الأعمى، قال الخرشي: أي وجاز البيع والشراء وجميع المعاملات - إلا بيع الجزاف وشراؤه - من الأعمى غير الأصم للضرورة على المذهب، وسواء ولد أعمى، أو طرأ عماه في صغره، أو بعد كبره، خلافاً للأبهري في منعه بيع من ولد أعمى، وفي معناه من تقدم إبصاره في صغره بحيث لا يتخيل الألوان، والخلاف فيما لا يدرك إلا بحاسة البصر، ولا مانع فيما يدرك بغيرها من الحواس ولا تجوز معاملة الأعمى الأصم، بخلاف الأبكم الأصم. اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويجوز بيع المشاع " يعني يجوز بيع المشاع وهو غير المتميز على حدة كالنصف أو الثلث أو الربع، سواء كان عقاراً كالدار والأرض أو غيره كالعروض والحيوان مما هو شائع في جنسه أو نوعه. وكما لا يجوز بيعه يجوز ارتهانه في حق، قال خليل: وصح مشاع وحيز بجميعه إن بقي فيه للراهن اهـ. قال ابن جزي في القوانين:

فصل في أحكام بيع المرابحة

ويجوز رهن المشاع خلافاً لأبي حنيفة القائل لا يصح رهن المشاع لا هبته كما سيأتي في الرهن، وكذا يأتي في باب الإجازة قول المصنف وتجوز إجازة المشاع كبيعه. بيع المرابحة ولما أنهى الكلام على ما يتعلق ببيع الغائب انتقل يتكلم على بيع المرابحة وأحكامه فقال رحمه تعالى: فَصْلٌ في أحكام بيع المرابحة أي في بيان ما يتعلق ببيع المرابحة، وهو بيع ما اشترى بثمنه مع زيادة ربح معلوم للبائع وللمشتري على ما اتفق عليه، لكن بيع المزايدة والمساومة أحب إلى أهل العلم. قال أبو الحسن شارح الرسالة في متن العزية: وبيع المرابحة جائز، لكن الأحب خلافه لكثرة البيان على البائع فيه، فربما ينسى ما يضر أو يسهو فينتقل ذهنه من شيء إلى غيره اهـ. وعبارة ابن جزي: أما المرابحة فهي أن يعرف صاحب السلعة المشتري بكم اشتراها، ويأخذ منه ربحاً إما على الجملة مثل أن يقول اشتريتها بعشرة وتربحني ديناراً أو دينارين، وإما على التفصيل وهو أن يقول تربحني درهماً لكل دينار أو غير ذلك اهـ. قال رحمه الله تعالى: " يشترط في المرابحة صدق البائع في إخباره ويلزم من الربح ما يتفقان عليه، وما له عين قائمة كالصبغ والطرز ونحوهما كرأس المال، وما ليس له عين فله ضمه، ولا يشترط الربح له ولا نفقته ومسكنه " يعني يشترط على البائع في بيع المرابحة أن يكون صادقاً في إخباره للمشتري في شأن سلعته، كما يجب عليه الصدق في جميع المعاملة، ويلزم المشتري دفع ما يتفقان عليه من الربح فيما له

عين قائمة، كما يلزمه رأس المال. وأما الشيء الذي ليس له عين قائمة فيحسبه البائع في رأس ماله مجرداً عن الربح، كما لا يحسب ما فعله بنفسه. وعبارة ابن جزي في الفروع: الأول إذا كان قد ناب صاحب السلعة زيادة على ثمنها، فإن كانت الزيادة مما لها عين قائمة حسبها صاحب السلعة مع الثمن، وجعل لها قسطاً من الربح، وذلك كالخياطة والصباغة والقصارة، وإن لم يكن لها عين قائمة وعملها بنفسه كالطي والنشر لم يحسبها في الثمن ولم يجعل لها قسطاً من الربح، فإن استأجر عليها حسبها في الثمن ولم يجعل لها قسطاً من الربح، ككراء نفس المتاع وشده. ويجوز له أن يحسب ذلك كله إذا بينه للمشتري. قال الدردير على أقرب المسالك: وحسب إن أطلق ربح ما له عين قائمة كصبغ وطرز وقصر وخياطة وفتل وكمد وتطرية وأصل ما زاد في الثمن كأجرة حمل وشد وطي اعتيد أجرتها وكراء بيت للسلعة فقط، وإلا فلا إن بين أو قال علي ربح العشرة أحد عشر ولم يبين ما له الربح من غيره من غيره وزيد عشر الأصل، أو قال في ربع العشرة اثني عشر وزيد خمس الأصل اهـ بتصرف. قال رحمه الله تعالى: " فإن ظهر كذبه ففي قيام السلعة يثبت الخيار إلا أن يحط الزائد، وفي فواتها تلزم قيمته ما لم تزد على الكذب وربحه " يعني كما قال ابن جزي في الفروع: الثاني: لا يجوز الكذب في التعريف بالثمن، فإن كذب ثم أطلع المشتري على الزيادة في الثمن فالمشتري مخير بين أن يتمسك بجميع الثمن أو يرده، إلا أن يشاء البائع أن يحط عنه الزيادة وما ينويها من الربح فيلزمه الشراء. قال أبو حنيفة: لا يلزمه اهـ. وفي " قرة العين بفتاوى الحرمين " مسألة: إن باع مرابحة وزاد في الثمن ولو خطأ لزم المشتري إن حط البائع ما زاده وربحه، وإلا خير المشتري في التماسك والرد، كما أنه يخير في التماسك والرد إن غشه البائع، كأن وضع في يد العبد مداداً ليوهم أنه يكتب وإن فاتت السلعة ولو بحوالة سوق ففي الغش يلزم المشتري الأقل من الثمن

الذي وقع به البيع والقيمة، وفي الكذب يخير بين دفع الثمن الصحيح وربحه، أو القيمة يوم قبضه ولا ربح لها، ما لم تزد القيمة على الكذب وربحه وإلا لم يلزمه الزائد اهـ. قال رحمه الله تعالى: " كما لو ثبت غلطه في نقص رأس ماله إلا أن يكون مثلياً فيضمن بالمثل " قال في قرة العين بفتاوى علماء الحرمين ": ما قولكم: في شخص باع سلعة على آخر مرابحة بخمسين على أن العشرة أحد عشرة، ثم ادعى الغلط وقال بل ثمنها الأصلي مائة وأتى ببينة تشهد له بذلك فهل للمشتري الرد؟ الجواب في أقرب المسالك: وإن غلط من باع مرابحة بنقص في الثمن بأن قال للمشتري منه مرابحة اشتريته بخمسين ثم ادعى الغلط وقال بل ثمنه الأصلي مائة وصدقه المشتري في ذلك أو لم يصدقه فأثبت ما ادعاه بالبينة فللمشتري الخيار إما أن يرد السلعة أو يدفع ما ادعاه البائع وربحه، وإن فاتت السلعة بيد المشتري لا بحوالة سوق خير بين دفع الثمن الذي ثبت بعد البيع وربحه، ودفع قيمة السلعة يوم البيع. ومحل تخييره بين دفع الثمن الصحيح وربحه ودفع القيمة ما لم تنقص القيمة عن الغلط وربحه، وإلا فلا ينقص عن الغلط وربحه؛ لأنه قد رضي بدفعهما حين قال له بخمسين والعشرة أحد عشر. ومعلوم أن الغلط وربحه أقل من الصحيح وربحه، والعاقل إذا خير بين دفع أحد أمرين إنما يختار دفع أقلهما، وحينئذ فتعين دفعه للغلط وربحه حيث نقصت القيمة عنهما، وأما حوالة السوق فلا يعد في الغلط فوتاً وحينئذ فللمشتري الرد أو دفع ما تبين وربحه كما تقدم صدر الجواب اهـ بتصرف من الدسوقي والصاوي ومثله في الموطأ. وأما قوله: إلا أن يكون مثلياً إلخ قد تقدم الكلام في المثلي عند قوله رحمه الله: فإن فات بيد المشتري ضمن المثلي بمثله والمقوم بقيمته فراجعه إن شئت.

فصل في مسائل الخيار

بيع الخيار ولما أنهى الكلام على بيع المرابحة وما يتعلق به انتقل يتكلم على أحكام بيع الخيار وما يتعلق به فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في مسائل الخيار أي في بيان بيع الخيار وأحكامه وشروطه. اعلم أن الخيار ينقسم إلى قسمين: الأول خيار الشرط ويسمى خيار التروي وهو النظر والتفكير في إمضاء العقد ورده. الثاني خيار النقيصة ويسمى خيار الحكمي، وسببه ظهور عيب في المبيع لتعلق حق الغير كالرهن والاستحقاق أو غيرهما، وحكمه الجواز قال في الرسالة: والبيع على الخيار جائز إذا ضربا لذلك أجلاً قريباً إلى ما تختبر فيه تلك السلعة أو ما تكون فيه المشهورة اهـ. قال رحمه الله تعالى: " يجوز اشتراط الخيار لكل من البائعين، ولا يتعين له مدة بل بحسب ما يختبر المبيع فيه أو يتفقان عليه فيثبت لمشترطه الرد، فإن اختلفا قدم الفسخ " وما ذكره من عدم التعيين لمدة الخيار مع قوله، بل بحسب ما يختبر المبيع فيه، هذا إشارة على وجوب التعيين كما عليه جمهور أهل المذهب. قال الجزيري في الفقه: تنقسم مدة خيار الشرك بالنسبة للمبيع إلى أربعة أقسام: الأول: الخيار في بيع العقار وهو الأرض وما يتصل بها من بناء أو شجر، والخيار في هذا يمتد إلى ستة وثلاثين يوماً أو ثمانية وثلاثين يوماً على الأكثر، فإن زاد على ذلك فسد العقد، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الخيار لاختيار حال المبيع أو للتروي في الثمن، وذلك فهو ثلاثة أيام.

الثاني: الخيار في عروض التجارة كالثياب ونحوها، والخيار في هذه من ثلاثة أيام إلى خمسة، فإن زاد عليها فسد العقد. الثالث: الدواب وفيها تفصيل؛ لأنها إما أن تكون من الدواب التي ليس من شأنها أن تركب فإن كان الخيار فيها لمعرفة رخصها وغلائها وسمنها مع معرفة ركوبها أيضاً ونحو ذلك فهو من ثلاثة أيام إلى خمسة أيضاً، وإن كان الخيار فيها لمعرفة حال ركوبها فلا يخلو إما أن يكون ذلك في البلد أو خارج البلد، فإن كان من البلد فالخيار فيها مسافة بريدين لا أكثر، وبعضهم يقول: إن الخيار في الدواب ثلاثة أيام وما يقرب من الثلاثة مطلقاً سواء كان الخيار للركوب أو لغيره، أما اليوم والبريد فهو مخصوص بالركوب. الرابع: الخيار في الرقيق وهو من ثمانية أيام إلى عشرة اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويسقط بإسقاطه ومضي مدته وتصرفه اختياراً لا اعتباراً " والمعنى أنه يسقط الخيار بإسقاط من شرطه من المتابعين أم بأحد ثلاثة أمور، وهو قول أو فعل أو ترك، والترك هو عدم القول وعدم الفعل، كانقضاء مدة الخيار، فالقول نحو أسقطت خياري أو رددته. والفعل ما أشار إليه خليل: ورضي مشتر كاتب أو زوج ولو لعبداً أو قصد تلذذاً، أو رهن أو آجر أو أسلم للصنعة، أو تسوق، أو جنى إن تعمد، أو نظر الفرج، أو عرب دابة، أو ودجها، لا إن جرد جارية، وهو رد من البائع إلا الإجارة، ولا يقبل منه أنه اختار أو رد بعده إلا ببينة اهـ.

قال رحمه الله تعالى: " واشتراط النقد فيه مبطل، لا التبرع به " قال الدردير عاطفاً على مفسدات بيع الخيار: وبشرط النقد، أي المتردد بين السليفة والثمينة، وإن لم ينقد بالفعل، بخلاف التطوع به بعد العقد، أي فإنه جائز كما في الحطاب، ولفظه: وفهم من قوله بشرط النقد جائز اهـ. قال في الرسالة: ولا يجوز النقد في الخيار، ولا في عدة الثلاث، ولا في المواضعة بشرط اهـ. قال ابن عرفة: شرط النقد في بيع الخيار مفسد اهـ نقله المواق. قال رحمه الله تعالى: " والمبيع في مدته على ملك البائع، وما غاب المشتري عليه ضمنه كالتعدي في غيره " قال ابن رشد في المقدمات: والمبيع بالخيار في أمد الخيار على ملك البائع كان الخيار له أو للمبتاع أو لهما، فإن تلف فمصيبته منه، كان بيده أو بيد المبتاع، إلا أن يكون بيد المبتاع ويغيب عليه وهو مما يغاب عليه، ويدعي تلفه ولا يعرف ذلك إلا بقوله فلا يصدق في ذلك، ويكون عليه قيمة الثمن؛ لأنه يتهم أن يكون غيبه وحبسه عن صاحبه فذلك رضاً منه بالثمن. وقد روي عن مالك أن الضمان من المشتري فيما بيع على الخيار إن كان الخيار له، ومن البائع إن كان الخيار له، وهو قول ابن كنانة اهـ. وقد بسط الجزيري بيان هذه المسألة في الفقه فراجعه إن شئت. وأما عبارة ابن جزي في القوانين فهي: المسألة الرابعة المبيع في مدة الخيار على ملك البائع، فإن تلف فمصيبته منه إلا أن يقبضه المشتري فمصيبته منه إن كان مما يغاب عليه ولم تقم على تلفه بينة، وإن حدثت له علة في أمد الخيار فهي على البائع، وإن ولدت الأمة في أمد الخيار فولدها للمشتري عند ابن القاسم، وقال غيره للبائع كالغلة فهي له. ولا يجوز للمشتري اشتراط الانتفاع بالمبيع في مدة الخيار إلا بقدر الاختيار، فإنه إن لم يتم البيع بينهما كان انتفاعه باطلاً من غير شيء، كما لا يجوز للبائع اشتراط النقد فإنه إن لم يتم البيع بينهما كان سلفاً، وإن تم كان ثمناً، فإن وقع على ذلك فسخ البيع سواء تمسك بشرطه أو أسقطه. ويجوز النقد من غير شرط اهـ.

قال رحمه الله تعالى: " ومن ابتاع من رجلين ثوبين بالخيار فالتبسا سقط " أي سقط الخيار. ومثل التباسهما في إسقاط الخيار ضياعهما أو أحدهما، فيلزمه ثمن أحد الثوبين أو نصف أحدهما في ضياع الواحد. قال خليل: وإن اشترى أحد ثوبين وقبضهما ليختار فادعى ضياعهما ضمن واحد بالثمن فقط، ولو سأل في إقباضهما أو ضياع واحد ضمن نصفه، وله اختيار الباقي اهـ انظر شراحه. قال رحمه الله تعالى: " ويثبت الرد بالغبن الفاحش كالجهل بالعيب حال العقد، وله الإمساك بجميع الثمن دون الأرش إلا أن يفوت بيده أو يبذل البائع " يعني يثبت رد المبيع بالغبن الفاحش وهو الثلث فأكثر، وكذلك يثبت الرد بالجهل بالعيب حال العقد. قال ابن جزي أما عيب الرد فهو الفاحش الذي ينقص حظاً من الثمن ونقص العشر يوجب الرد عند ابن رشد، وقيل الثلث، فللمشتري في عيب الرد بالخيار بين أن يرده على بائعه أو يمسكه ولا أرش له على العيب. وليس له أن يمسكه ويرجع بقيمة العيب إلا أن يفوت في يده اهـ. قال في الرسالة: ومن ابتاع عبداً فوجد به عيباً فله أن يحبسه ولا شيء له، أو يرده ويأخذ ثمنه، إلا أن يدخله عنده عيب مفسد فله أن يرجع بقيمة العيب القديم من الثمن، أو يرده ويرد ما نقصه العيب عنده اهـ. قال رحمه الله تعالى: " والتأريش أن يقوم سليماً ثم معيباً فيلزم ما نقصه العيب " قال ابن جزي: والأرش قيمة العيب. والتأريش يعرف بتقويم المبيع. وقال الصاوي فالقيمة ميزان يعرف بها نسبة النقص في الثمن. قال الدردير: فيقوم المبيع سالماً عن العيب بعشرة مثلاً، ثم يقوم معيباً بثمانية مثلاً، ويؤخذ من الثمن الذي وقع به البيع النسبة، أي نسبة ما بين القيمتين، فنسبة الثمانية للعشرة أربعة أخماس فقد نقصت قيمته معيباً الخمس، فيرجع المشتري على البائع بخمس الثمن، فإذا كان الثمن مائة مثلاً رجع عليه بعشرين، هذا فيما خرج من يده بلا عوض وذلك في غير البيع، أما لو خرج من يده بعوض كما

لو باعه لأجنبي فلا يرجع بالأرش وكذا إذا باعه لبائعه اهـ الدردير. قال رحمه الله تعالى: " وتصرفه مختاراً بعد علمه كرضاه " يعني إن تصرف المشتري بالمعيب مختاراً يعد رضاً منه به. قال ابن جزي في مسقطات القيام بالعيب: أو تصرف في المبيع بعد الاطلاع على العيب كوطء الجارية، أو ركوب الدابة، ولبس الثوب، وحرث الفدان، وبنيان الدار إلى آخر ما قال من المسقطات. وقال الخرشي: وأما لبس الثوب ووطء الأمة فرضاً باتفاق اهـ باختصار. قال رحمه الله تعالى: " وفي بقائه مضطراً روايتان " قال المواق نقلاً عن ابن يونس: اختلف قول مالك في الدابة يسافر بها ثم يجد بها عيباً في سفره، فروى أشهب: إن حمل عليها بعد علمه بعيبها لزمته. وروي عن ابن القاسم أن له ردها ولا شيء عليه في ركوبها بعد علمه، ولا عليه أن يكري غيرها ويسوقها وليركبها، فإن وصلت بحال ردها، وإن عجفت ردها وما نقصها، أو يحبسها ويأخذ قيمة العيب. قاله ابن القاسم. وقال ابن يونس: وبه أقول. ووجهه أن المضطر في حكم المكره، ولو تعرف مكرها لم يسقط خياره فكذلك مع الاضطرار، ألا ترى أن يحل له أكل مال غيره مع الاضطرار ففي هذا أحرى اهـ. ومثله في الخرشي انظره إن شئت. قال رحمه الله تعالى: " وللشريك رد ما يخصه " يعني للشريك في شراء السلعة أن يرد ما يخصه منها على البائع ولو لم يرض البائع ولو بغير إذن صاحبه كما في الصاوي على

الدردير قال: وحاصله أنه لو اشترى شخصان سلعة واحدة كعبد لخدمتهما أو سلعاً متعددة كل واحد يأخذ نصفها في صفقة واحدة لا على سبيل الشركة، ثم اطلع على عيب قديم فأراد أحد الشخصين أن يرد نصيبه ولو قال البائع لا أقبل إلا جميعه بناء على تعدد العقد بتعدد متعلقه، وإلى هذا رجع مالك واختاره ابن القاسم، وكان مالك يقول أولاً إنما لهما الرد معاً أو التماسك معاً، وليس لأحدهما أن يرد دون الآخر. والقولان في المدونة. وإلى ذلك أشار ابن جزي في القوانين: إذا اشترى رجلان شيئاً في صفقة واحدة فوجدا به عيباً فأراد أحدهما الرد والآخر الإمساك، فلمن أراد الرد أن يرد وفاقاً للشافعي. وقيل ليس له الرد وفاقاً لأبي حنيفة. وهذا في غير الشريكين في التجارة. وأما الشريكان في التجارة إذا اشتريا معيباً في صفقة وأراد أحدهما الرد فلصاحبه منعه وقبول الجميع كما يأتي في الشركة، فإن كلاهما وكيل عن الآخر اهـ بحذف وإيضاح. ثم قال رحمه الله تعالى: " ودعوى عيب ظاهر لا يحدث مثله عنده يثبت له الرد إلا أن يقيم البائع بينة برضاه، فإن تعذرت أحلفه أنه لم يرض، فإن نكل ردت، فإن نكل أيضاً ثبت الرد " يعني إذا كانت الدعوى في عيب ظاهر لا يحدث مثله عند المشتري يثبت له الرد بلا يمين، إلا أن يقيم البائع بينة على رضا المشتري بالعيب، فإن لم تكن البينة بأن تعذرت أحلف البائع المشتري على عدم الرضا بالمبيع، فإن حلف ثبت له الرد، وإن نكل ردت اليمين على البائع، فإن نكل أيضاً ثبت الرد. قال العلامة الجزيري: في مثل هذه الدعوى إذا قال البائع للمشتري إنك رأيت العيب وعلمت به ورضيت من قبل العقد، وقال المشتري لم أرده ولم أعلم به ولم أرض فالقول في هذه الحالة يكون للمشتري فله رد المبيع بدون يمين عليه إلا إذا ادعى البائع أنه أطلعه على العيب وبينه له فإن في هذه الحالة تكون اليمين على المشتري، فإن حلف كان له

الحق في رد المبيع، وإن امتنع عن الحلف حلف البائع أن المشتري اطلع على العيب حين البيع، ولا يكون للمشتري الحق في الرد بعد حلف البائع. ومثل ذلك ما إذا أشهد المشتري على نفسه أنه عاين المبيع وبحثه قبل العقد ولكنه لم يطلع على العيب الذي يريد رده به، وقال له البائع: بل اطلعت عليه ورأيته حين العقد. وفي هذه الحالة فعلى المشتري أن يحلف بأنه ما رآه وله رده بعد الحلف، فإن لم يرض بالحلف حلف البائع بذلك ولزم المشتري المبيع اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وإن أمكن حدوثه عنده وأنكره البائع حلف أنه لم يكن به في حال العقد، فإن نكل حلف المشتري وله الرد " يعني كما قال الخرشي أنه إذا تنازع البائع والمشتري في وجود العيب في المبيع وعدمه فقال المشتري به عيب، وقال البائع لا عيب به، فالقول في ذلك قول البائع ولا يمين عليه لأنه متمسك بالأصل وهو السلامة في الأشياء. قال خليل: أو قدمه إلخ، يعني أو كان التنازع في حدوث العيب وقدمه بعد اتفاقهما على وجوده بأن يدعي البائع أيضاً إن شهدت له الع 8 ادة قطعاً أو رجحاناً أو شكاً، فإن شهدت العادة قطعاً أو رجحاناً للمشتري بالقدم فالقول قوله، لكن لا يمين على من قطعت العادة بصدقه من المتبايعين، وعلى من رجحت له اليمين، وإذا شكت فالقول للبائع بيمين اهـ بحذف واختصار. قال رحمه الله تعالى: " وغير الظاهر لا يقبل إلا ببينة، فإن لم تكن حلف البائع في الظاهر على البت، والباطن على العلم " يعني أن هذه الحالة شبيهة بالتي قبلها لكن هذه لا تقبل دعوى المشتري إلا ببينة على قدم العيب الخفي وأن البائع علم به، فإن شهدت البينة بذلك فله الرد، وإلا حلف البائع في العيب الظاهر على البت، وفي الخفي على نفي العلم، ولا حق للمشتري في الرد بعد يمين البائع، بل ثبت البيع، وكان المشتري في هذه الحالة هو المدعي ولذا لزمته البينة، والبائع هو المدعي عليه ولذا لزمته اليمين لما في الحديث

(البينة على من المدعي واليمين على من أنكر) قال ابن رشد في المقدمات: فالعيوب تنقسم إلى ثلاثة أقسام: عيب قديم يعلم قدمه عند البائع ببينة تقوم على ذلك، أو بإقرار البائع به، أو بدليل العيان وعيب يعلم حدوثه عند المشتري ببينة تعلم ذلك، أو بإقرار المشتري بحدوثه عنده، أو بدليل العيان على ذلك. وعيب مشكوك فيه يحتمل أن يكون قديماً عند البائع ويحتمل أن يكون حدث عند المشتري. فأما العيب القديم فيجب الرد به في القيام والرجوع بقيمته في الفوات على التقسيم الذي ذكرناه. وأما الحادث فلا حجة للمبتاع فيه على البائع. وأما المشكوك فيه فليس على البائع فيه إلا اليمين، قيل على البت وهو قول ابن نافع، وهي رواية يحيى عن ابن القاسم. وقال أشهب يحلف على العلم في الظاهر والخفي. وقال ابن القاسم أيضاً يحلف في الظاهر على البت وفي الخفي على العلم، فإن نكل عن اليمين رجعت على المبتاع في الوجهين جميعاً على العلم أنه ما حدث عنده. ثم قال: وهذا في العيوب التي تكون ظاهرة في البدن. وأما ما لا يظهر من الإباق والسرقة وما أشبه ذلك فادعى المبتاع أنه كان بالعبد قديماً، فقال ابن القاسم: يحلف البائع. وقال أشهب لا يمين عليه اهـ بحذف واختصار. قال رحمه الله تعالى: " فلو حدث آخر فله رده مع أرش الحادث والإمساك وأرش القديم إلا أن يدلس البائع فيرد بغير أرش، فإن تلف بمثل ما دلس به فهو منه وإن أمكن حدوث الثاني عنده فله الرد بالقديم ويحلف أن الثاني لم يحدث عنده ". يعني كما في القوانين. قال ابن جزي: حدوث عيب آخر عند المشتري فهو بالخيار إن رده ورد أرش العيب الحادث عنده، وإن شاء تمسك به وأخذ أرش العيب القديم. والأرش قيمة العيب. وقال الشافعي وأبو حنيفة ليس له الرد، وإنما يأخذ أرش العيب القديم اهـ وتقدم كلام صاحب الرسالة من قوله ومن ابتاع عبداً فوجد به عيباً فله أن يحبسه ولا شيء له، أو يرده ويأخذ ثمنه إلا أن يدخله عنده

عيب مفسد فله أن يرجع بقيمة العيب القديم من الثمن، أو يرده ويرد ما نقصه العيب عنده اهـ. قال النفراوي وهذا التخيير ثابت للمشتري سواء كان البائع مدلساً أو غير مدلس. قال خليل: فله أخذ القديم ورده ودفع الحادث، وقوَّما بتقويم المبيع يوم ضمان المشتري، فيقوم سالماً من العيبين بعشرة مثلاً وبالقديم بثمانية، وبالحادث بستة، فإن رد دفع للبائع اثنين، وإن تماسك أخذ اثنين، وإن زاد الثمن أو نقص فبنسبة ذلك منه. والحاصل أن أرش العيب القديم ينسب إلى ثمنه سليماً من العيبين وأرش الحادث إلى ثمنه معيباً بالقديم، ومحل هذا التخيير ما لم يقبله بالحادث، وإلا نزل الحادث عند المشتري بمنزلة العدم، فيخير المبتاع بين أن يتماسك ولا شيء له في القديم، أو يرد ولا شيء عليه في الحادث كما قال خليل: إلا أن يقبله بالحادث أو يقل فكالعدم اهـ بحذف. انظر المقدمات في التدليس. قال رحمه الله تعالى: " ثم العيب كل ما نقص الثمن أو المنفعة، او كان علاقة، أو مخوف العاقبة. وما اختلفا فيه نظره أرباب الخبرة وزواله قبل الرد يسقطه إلا ألا يؤمن عوده " يعني أنه لما ذكر أحكام العيوب أراد أن يبينها بأنواعها. قال ابن جزي في القوانين: المسألة الثالثة في أنواع العيوب، وهي ثلاثة: عيب ليس فيه شيء، وعيب فيه قيمة، وعيب رد، فأما الذي ليس فيه شيء فهو اليسير الذي لا ينقص من الثمن، وأما عيب القيمة فهو اليسير الذي ينقص من الثمن فيحط عن المشتري من الثمن بقدر نقص العيب، وذلك كالخرق في الثوب والصدع في حائط الدار. وقيل إنه يوجب الرد في العروض بخلاف الأصول. وأما عيب الرد فهو الفاحش الذي ينقص حظاً من الثمن، ونقص العشر يوجب الرد عند ابن رشد: وقيل الثلث. فالمشتري في عيب الرد بالخيار بين أن يرده على بائعه أو يمسكه ولا أرش له على العيب،

وليس له أن يمسكه ويرجع بقيمة العيب إلا أن يفوت في يده اهـ كما تقدم. قال الدردير في أقرب المسالك: وإن حدث بالمبيع عيب متوسط كعجف وعمى وعور وعرج وشلل وتزويج رقيق وافتضاض بكر فله التماسك وأخذ القديم، والرد ودفع الحادث، يقوم صحيحاً ثم بكل، إلا أن يقبله البائع بالحادث فكالعدم، كالقليل كوعك ورمد وصداع وقطع ظفر وخفيف حمى ووطء ثيب وقطع شقة كنصفين أو كقميص إن دلس. والمخرج عن المقصود مفيت، كتقطيع غير معتاد، وكبر صغير، وهرم إلا أن يهلك بعيب التدليس أو بسماوي زمنه كموته في إباقه فالثمن. وقوله: وما اختلفا فيه نظره أرباب الخبرة، يعني إذا اختلف البائع والمشتري في كون العيب قديماً أو حادثاً فإنه ينظر فيه أهل المعرفة. قال ابن جزي يعرف حدوثه أو قدمه بالبينة أو باعتراف المحكوم عليه أو بالعيان، فإن لم يعرف بشيء من ذلك واختلف البائع والمشتري في قدمه وحدوثه نظر إليه أهل البصر ونفذ الحكم بما يقتضي قولهم، سواء كانوا مسلمين أو نصارى إذا لم يوجد غيرهم، وإلا حلف البائع على البت في الظاهر من العيوب، وعلى نفي العلم في الخفي. وقيل على نفي العلم فيهما، وله رد اليمين على المشتري، وهل يحلف على البت أو على العلم قولان اهـ. وقوله: كانوا مسلمين إلخ وعبارة الجزيري في الفقه أنه قال: ولا يشترط في شهود قدم العيب أو حدوثه الإسلام ولا العدالة، ويكفي في الشهادة بهما شاهد واحد لأنهما خبر لا شهادة، إنما يشترط فيها عدم التجريح بالكذب اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولا يلزمه رد غلة " يعني أنه تقدم في بيع الفاسد عند قول المصنف: ولا يلزمه رد غلة كما نقل عن الأجهوري. ونصه: واعلم أن كل من أنفق على ما اشتراه وله غلة تبتغى كالغنم والدواب والعبد، ثم رده بعيب أو استحقاق أو فساد لا يرجع بنفقته، بخلاف ما ليس له غلة تبتغى كالنخل إذا ردت مع ثمارها فإنه يرجع بقيمة سقيها وعلاجها، وهذا كله في غير ما له عين قائمة. وأما النفقة فيما له عين قائمة

كالبناء والصباغ فإنه يرجع بها وله الغلة كسكنى الدار اهـ. قال ابن جزي (فرع) من اشترى شيئاً فاستعمله ثم رد بعيب فالغلة له بالضمان، وكذلك إذا استحق من يده بعد أن استغله له اهـ. قال الدردير على أقرب المسالك: والغلة للمشتري للفسخ لا الولد، والثمر المؤثرة، والصوف التام، كشفعة واستحقاق وتغليس وفساد أي فهؤلاء الخمسة يفوزون بالغلة. قال بعضهم: والفائزون بغلة هم خمسة ... لا يطلبون بها على الإطلاق الرد في عيب وبيع فاسد ... وشفعة فلس مع استحقاق فالأولان بزهوها فاز بها ... والجد في فلس ويبس الباقي وما أنفقوا قد ضاع تحت هلاكها ... وإذا انتفت رجعوا بكالإنفاق اهـ. قال رحمه الله تعالى: (بخلاف الأولاد ومال العبد والصوف الكائن حال العقد) قال الخرشي والمعنى أن من اشترى إبلاً أو غنماً فولدت عنده ثم وجد بها عيباً فلا يردها إلا مع ولدها، ولا شيء عليه في الولادة إلا أن ينقصها ذلك فيرد معها ما نقصها. قال ابن يونس: إن كان في الولد ما يجبر النقص جبره على قول ابن القاسم. وسواء اشتراها حاملاً أو حملت عنده، خلافاً للسيوري في جعله الولد غلة اهـ. وقوله ومال العبد والصوف والكائن حال العقد، هما معطوفان على الأولاد. وتقدم أن مال الرقيق للبائع إلا بشرط. وفي الموطأ عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال: " من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع ". قال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا أن المبتاع إذا اشترط مال العبد فهو له نقداً كان أو ديناً أو عرضاً يعلم أو لا يعلم. وإن كان للعبد من المال أكثر مما اشتُرِي به كان ثمنه نقداً أو ديناً أو عرضاً، وذلك أن مال العبد ليس على سيده فيه ذكاة اهـ. وإذا رُد العبد أو الغنم بعيب فإن المشروط عند العقد من مال العبد يرد كالصوف

الكائن عند العقد والناشئ بعد العقد فمن الغلة يفوز بها المشتري. وتقدم الكلام في النفقة والعلاج فراجعه إن شئت. ثم انتقل يتكلم على بيان حكم الرد في عهدة الثلاث وعهدة السنة، فقال رحمه الله تعالى: " ويحكم بالعهدتين في الرقيق إن كانت عرفاً أو اشترطت في العقد، فعهدة الثلاث من سائر العيوب، والسنة من الجنون والجذام والبرص، ويثبت خيار الرد " معنى العهدة في الأصل: العهد وهو الإلزام والالتزام، وفي العرف تعلق ضمان المبيع بالبائع في زمن معين، وهي قسمان: عهدة سنة وهي قليلة الضمان طويلة الزمان، وعهدة ثلاث، أي ثلاثة أيام، وهي قليلة الزمان كثيرة الضمان عكس الأولى، وهما خاصتان بالرقيق بالشرط أو العادة اهـ الدردير. قال النفراوي في الفواكه: والدليل على مشروعية العهدتين عمل أهل المدينة. وفي المدونة عن سحنون بإسناده عن عقبة بن عامر الجهني أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عهدة الرقيق أربعة أيام أو ثلاثة ". وفي الموطأ أن أبان بن عثمان وهشام بن إسماعيل كانا يذكران في خطبتهما عهدة الرقيق في الأيام الثلاثة حين يشترى العبد أو الوليدة، وعهدة السنة. ونقل ابن عبد البر أن عمر بن عبد العزيز قضى بها، وبها قال الفقهاء السبعة، وابن شعاب. والقضاة ممن أدركنا يقضون بها وغير ذلك من الأحاديث اهـ. قال أبو محمد في الرسالة: والعهدة جائزة في الرقيق إن اشترطت أو كانت جارية بالبلد، فعهدة الثلاث الضمان فيها من البائع من كل شيء، وعهدة السنة من الجنون والجذام والبرص اهـ. قال خليل: ورد في عهدة الثلاث بكل حادث إلا أن يبيع ببراءة، ودخلت في الاستبراء، والنفقة عليه وله الأرش كالموهوب له إلا المستثنى ماله، وفي عهدة السنة بجذام وبرص وجنون بطبع أو مس جن، لا بكضربة إن شرطا، أو اعتيدا،

وللمشتري إسقاطهما، والمحتمل بعدهما منه أي من المشتري. ثم قال: وسقطتا بكعتق فيهما. وعبارة الدردير على أقرب المسالك: وله الرد في عهدة الثلاث بكل حادث إلا أن يستثنى عيب معين، وعلى البائع فيها النفقة وله الأرش كالموهوب إلا أن يستثنى ماله. وفي عهدة السنة بجذام أو برص أو جنون طبع أو مس جن لا بكضربة إن شرطا أو اعتيدا. وسقطتا بكعتق وبإسقاطهما زمنهما وابتداؤهما أو النهار من المستقبل لا من العقد اهـ. قال ابن جزي في القوانين: " المسألة الرابعة " في العهدتين، وهما عهدة الثلاث من جميع الأدواء التي تطرأ على الرقيق، فما كان منها داخل ثلاثة أيام فهو من البائع وعليه النفقة والكسوة فيها والغلة ليست له. وعهدة السنة من الجنون والجذام والبرص، فما حدث منها في السنة فهو من البائع وتدخل عهدة الثلاث في عهدة السنة، ويقضى بهما في كل بلد، وقيل لا يقضى بهما إلا حيث جرت العادة بهما، وتسقط العهدتان على البائع في بيع البراءة. وانفرد مالك وأهل المدينة بالحكم بالعهدتين خلافاً لسائر العلماء اهـ. ثم ذكر المصراة. قال رحمه الله تعالى: " والتصرية عيب، فمن ابتاع مصراة جاهلاً فاحتلبها فله إمساكها، أو ردها وصاعاً من تمر أو غيره من غالب قوت البلد، لا يزاد لكثرة اللبن ولا ينقص لقلته، فإن علم تصريتها فاحتلبها ليختبرها أو احتلبها ثانية لذلك فهو على خياره، فإن عاود سقط " يعني كأن سائلاً سأل ما التصرية وما حكمها إذا وقع؟ فقال: والتصرية عيب، وفي المدونة المصراة هي التي يترك اللبن في ضرعها ثم تباع وقد ردت لحلابها فلا يحلبوها، فهذه المصراة لأنهم تركوها حتى عظم ضرعها وحسن درها فأنفقوها بذلك، فالمشتري إذا حلبها إن رضي حلابها، وإلا ردها ورد معها مكان حلابها صاعاً من تمر أو من غالب قوت أهل البلد اهـ. قال الجزيري في الفقه على المذاهب الأربعة: مسألة المصراة هي التي أشرنا إليها في أول مبحث الرد بالعيب، وهي مأخوذة من التصرية، ومعناها جمع اللبن

وحبسه في ضرع الحيوان بفعل البائع ليكبر الضرع فيغتر المشتري ويشتريها ظناً منه أن عظم الضرع لسبب كثرة اللبن كثرة طبيعية، ويسمى هذا خيار التغرير الفعلي، وهو منهي عنه شرعاً فقد روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء ردها وصاعاً من تمر) متفق عليه اهـ. قال الدردير في أقرب المسالك عاطفاً على العيوب التي يرد بها المبيع: وتصرية حيوان، ويرد إن حلبه بصاع من غالب القوت، وحرم رد اللبن كغيره بدلاً عنه لا إن ردها بغير عيب التصرية أو قبل حلبها، وإن حلبت ثالثة فإن حصل الاختيار بالثانية فرضاً وإلا فله الثالثة، وحلف إن ادعى عليه الرضا ولا رد إن علم اهـ. وحاصله أن المشتري إذا حلب المصراة أول مرة فلم يتبين له أمرها فحلبها ثانية ليختبرها فوجد لبنها ناقصاً فله ردها اتفاقاً فلو حلبها في اليوم الثالث فهو رضاً بها ولا رد له، ولا حجة عليه في الحلبة الثانية إذا بها يختبر أمرها، كذا لمالك في المدونة. وفي الموازية عن مالك له حلبها ثالثة ويردها بعد حلفه أنه لم يرض بها، ولم يصرح في الموازية بأنه حصل له الاختيار بالحلبة الثانية اهـ قاله الصاوي في الحاشية. بيع الثمار ولما أنهى الكلام على ما يتعلق ببيع الخيار وشروطه وأحكامه انتقل يتكلم على أحكام بيع الثمار والأشجار والنبات وما يتعلق بها من الأزهار، وبيع البقولات والمقثئة وما أشبه ذلك فقال رحمه الله تعالى:

فصل فيما يتعلق بأحكام بيع الثمار

فَصْلٌ فيما يتعلق بأحكام بيع الثمار أي في بيان بيع الثمار وشروطه وما يتعلق بذلك من الأحكام. قال رحمه الله تعالى: " لا تباع الثمرة قبل زهوها إلا مع أصلها، أو على القطع، والإطلاق مبطل، كاشتراط التبقية، فزهو النخل الحمرة والصفرة، وغيرها طيب أكلة، فيباع الجنس بطيب بعضه ولو في أصل واحد إذا كان متلاحقاً، لا بطيب مبكره، ولا شتوي بطيب صيفي " يعني أنه لا يجوز بيع الثمرة قبل زهوها إلا مع أصلها للنهي الوارد، وفي الموطأ عن مالك بإسناده " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها. نهى البائع والمشتري " وعن أنس بن مالك " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهى فقيل له يا رسول الله وما تزهى؟ فقال: " حين تخمر " وفي رواية: " وعن بيع السنبل حتى يشتد ويطيب ويبيض ويأمن العاهة، وعن بيع العنب حتى يسود " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا منع الله الثمرة فلم يستحل أحدكم مال أخيه) وعن عمرة بنت عبد الرحمن " أن رسوا الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تنجو من العاهة " قال مالك: وبيع الثما قبل أن يبدو صلاحها من بيع الغرار اهـ. قال في الرسالة: ولا يجوز بيع ثمر أو حب لم يبد صلاحه، ويجوز بيعه إذا بدا صلاح بعضه، وإن نخلة من نخيل كثيرة. قال الشارح: إذا لم تكن باكورة. قال خليل: وبدوه في بعض حائط كاف في جنسه إن لم تبكر، وأما الباكورة إذا بدا صلاحها وحدها فلا يجوز بيع غيرها ببدو صلاحها. ويجوز بيع ثمرها وحدها اهـ النفراوي. وعبارة الجزيري أنه قال: ولا يشترط في صحة بيع الثمار على شجرة أن يظهر صلاحه في جميع الشجر، فإذا كان عنده حديقة بها أشجار مختلفة من نخل ورمان وعنب وتين ومانجو وجوافة وغير ذلك إذا كانت في حديقة واحدة وظهر صلاح ثمر نوع منها ولو في شجرة واحدة فإنه يصح أن يبيع

باقي ثمار ذلك النوع وإن لم يبد صلاحها، فإذا ظهر صلاح الرمان في شجرة واحدة صح له أن يبيع جميع الرمان وإن لم يبد صلاحه إذا كان لا يفرغ رمان الشجرة التي ظهر صلاحها قبل ظهور صلاح ما يجاورها. وأما إذا أثمرت شجرة مبكرة بحيث يستوي ثمرها قبل ظهور صلاح ثمر غيرها فإنه لا يجوز، وهكذا سائر الأجناس اهـ. قال ابن جزي في القوانين: ولا يجوز بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، ويستوي في ذلك العنب والتمر وجميع الفواكه والمقاثي والخضراوات وجميع البقول والزروع. وبدو الصلاح مختلف، ففي التمر أن يحمر ويصفر، وفي العنب أن يسود وتبدو فيه الحلاوة، وفي سائر الفواكه والبقول أن تطيب للأكل، وفي الزرع أن ييبس ويشتد، فإذا بدا الصلاح في صنف من ذلك جاز بيع جميع ما في البساتين منه اتفاقاً، ويجوز بيع ما يجاوره من البساتين خلافاً للشافعي، ولا يجوز بيع صنف لم يبد صلاحه ببدو صلاح صنف آخر كالبستان يكون فيه عنب ورمان فلا يجوز بيع الرمان حتى يبدو صلاحه خلافاً لبعضهم اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " والورد ونحوه من النور بظهور بعضه، وله إلى آخر إبانه، والمقاثئ والمطابخ والمغيب كالجزر والفجل إذا أطعم، والموز إلى أجل معلوم كالقصب، ويجوز جزءاً معلوماً أو حزماً، والبقل إذا أمكن جزه " يعني يجوز بيع الورد ونحوه كالزعفران وجميع ما له نور بظهور النور في بعضه. والورد نبت معروف مشموم فيه رائحة طيبة. والنور بفتح النون وهو الزهر، يقال أزهر النبات إذا ظهر نورها وانفتح. قال خليل: وبدوه في بعض حائط كاف في جنسه إن لم تبكر لا بطن ثان بأول، وهو الزهو وظهور الحلاوة والتهيؤ للنضج، وفي ذي النور بانفتاحه، والبقول بإطعامها، وهل في البطيخ الاصفرار، أو التهيؤ للتبطخ قولان. وللمشتري بطون كياسمين ومقثأة ولا يجوز بكشهر. ووجب ضرب الأجل إن استمر كالموز. ومضى بيع حب أفرك قبل يبسه بقبضه اهـ.

وحاصل ما نقله النفراوي عن شراح خليل في بدو الصلاح الذي يحل البيع في جميع الثمار والنباتات أنه قال: في البلح والزهو بضم الزاي والواو المشددة، وهو احمراره أو اصفراره، ويقوم مقام الزهو ظهور الحلاوة في البلح الخضاري، وأما بدوه في نحو الحب والتين والمشمش فظهور الحلاوة، وفي الموز بالتهيؤ للنضج، وفي ذي النور - بفتح النون - بانفتاحه كالورد والياسمين، وفي البقول واللفت والجزر والفجل والبصل بإطعامها واستقلال ورقها بحيث لا تفسد عند قلعها. وأما البطيخ المعروف بالعبدلاوي والقاوون فاختلف فيه على قولين: أحدهما: أن يصفر، والثاني: يكتفى بتهيئه للاصفرار. وأما البطيخ الأخضر فبدو صلاحه بتلون لبه بالسواد أو الحمرة. وأما قصب السكر فبظهور حلاوته. وأما الجوز واللوز وما شابههما فبأخذه في اليبس، وأما نحو القمح والفول والعدس ونحوها من بقية الحبوب فبدو صلاحه يبسه على المعتمد، فلو عقد عليه فريكاً فسخ إلا أن يفوت بقبضه بعد جزه. قال خليل: ومضى بيع حب أفرك قبل يبسه بقبضه. وأما الذي يطرح بطوناً ففيه تفصيل: محصله أن ما لا تتميز بطونه مما يخلف كالياسمين والمقاثي كالخيار فللمشتري جميع البطون ولو لم يشترط ذلك، لأنه لا يجوز شراء ما تطرحه المقثأة مدة نحو جمعة أو نصف شهر لعدم ضبط ذلك، وأما ما تتميز بطونه بأن تقطع البطن ثم تخلفها أخرى فحكمه أن تباع كل بطن على حدتها، ولا يكفي في حل بيع بطن بدو صلاح أخرى. قال خليل: لا بطن ثان بأول. . . هذا حكم البطون التي تأتي وتنقطع أصلاً وبقي حكم ما تستمر ثمرته زمناً طويلاً فهذا يجب عند بيعه ضرب الأجل. قال خليل: ووجب ضرب الأجل إن استمر كالموز. وأقول: الضابط الشامل لكل ما سبق أن يبلغ المعقود عليه الحالة التي ينتفع به فيها على الوجه الكامل من غير غرر ولا ضرر اهـ مع تصرف وإيضاح. قال رحمه الله تعالى: " والقصيل حزماً أو مع الأرض أو بشرط القطع، لا على

التبقية، ولا الحب قبل يبسه واستغنائه عن الماء " والقصيل - كما في المصباح - هو الشعير يجذ أخضر لعلف الدواب، سمي قصيلاً لأنه يقصل وهو رطب، أو لسرعة انقصاله وهو رطب، ومعنى انقصاله أي انقطاعه. والمعنى أن القصيل يجوز بيعه حزماً، أو مع الأرض، أو بشرط القطع، ولا يجوز بيعه على التبقية، وكذا لا يجوز بيع الحب قبل يبسه، فإن وقع فسخ إلا إذغ أفرك فيمضي بقبضه بعد الحصاد. قال الدردير في أقرب المسالك: وفي الحب بيبسه، ومضى بيعه إن أفرك بقبضه. قال في المدونة: أكرهه، فإن وقع وفات فلا أرى أن يفسخ. قال الصاوي: يعني أن الحب إذا بيع قائماً مع سنبله جزافاً بعد إفراكه وقبل يبسه على التبقية، أو كان العرف ذلك فإن بيعه لا يجوز ابتداء، وإن وقع مضى بقبضه بحصاده اهـ كما تقدم. قال رحمه الله تعالى: " والثمرة المؤبرة للبائع كالزرع الظاهر، وغيرهما تابع. والتأبير تشقيق الطلع وتلقيحه، وغيره ظهور الثمرة من أكمامها " قد عقد ابن جزي فصلاً في القوانين في بيع الأرض وفيها زرع، والأشجار والبساتين وفيها ثمر، ثم قال: فمن باع أصول الأشجار وفيها ثمر فإن كان مأبوراً فهو للبائع سواء شرطه أو سكت عنه، ويكون للمشتري إن اشترطه، وإن كان لم يؤبر فهو للمشتري اشترطه أو لم يشترطه. ولا يجوز أن يكون للبائع فإن أبر بعضه فالمأبور للبائع، وغير المأبور للمشتري. والإبار في الثمر هو التذكير، وكذلك في كل ما يذكر. والإبار فيما لا يذكر هو انعقاد الثمرة. وإبار الزرع خروجه من الأرض. ومن باع أرضاً وفيها زرع فإن لم يظهر فهو للمشتري شرطه أو لم يشترطه. ولا يجوز أن يشترطه البائع لأنه كالجنين في بطن الجارية، وإن كان صغيراً قد ظهر فهو لمن اشترطه منهما، وإن سكتا عنه فقيل يكون للبائع، وقيل للمشتري. وإن كان الزرع كبيراً قد بدا صلاحه فهو للبائع سواء شرطه أو سكت عنه، وإن اشترطه المشتري فهو له اهـ. وعبارة صاحب الرسالة

أنه قال: ومن باع نخلاً قد أبرت فثمرها للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، وكذلك غيرها من الثمار، وأصله في الموطأ عن مالك. والإبار التذكير. وإبار الزرع خروجه من الأرض اهـ. يعني بالتذكير تعليق طلع الذكر على الأنثى لئلا تسقط ثمرتها. ويقال له اللقاح. وقيل شق الطلع عن الثمر. وفي غير النخل كالخوخ والتين أن تبرز الثمرة عن موضعها وتتميز بحيث تظهر للناظر، وأما إبار الزرع فخروجه من الأرض، فمن ابتاع أرضاً ذات زرع ظاهر للناظر يكون زرعها لبائعها إلا أن يشترطه المشتري، كمن اشترى نخلاً مؤبراً كله أو جله، ومن اشترى أرضاً مبذورة لم يبرز زرعها فإنها للمشتري كما تقدم اهـ النفراوي بحذف. قال رحمه الله تعالى: " ويجوز بيعها على أصولها جزافاً لا خرصاً، واستثناء جزء معلوم ما كان، وفي كيل أو أرطال أو نخلات ما لا يزيد على الثلث " يعني أنه يجوز بيع الثمر على رؤوس الأشجار جزافاً لا خرصاً، ويجوز لرب الحائط أن يستثني جزءاً معلوماً في حائطه ما لم يزد على الثلث، وفي الموطأ: " أن عمرة بنت عبد الرحمن كانت تبيع ثمارها وتستثني منها " قال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا أن الرجل إذا باع ثمر حائطه أن له أن يستثني من ثمر حائطه ما بينه وبين ثلث الثمر ولا يجاوز ذلك، وما كان دون الثلث فلا بأس بذلك. قال مالك: فأما الرجل يبيع ثمر حائطه ويستثني من ثمر حائطه نخلة أو نخلات يختارها ويسمي عددها فلا أرى بذلك بأساً، لأن رب الحائط إنما استثنى شيئاً من حائط نفسه، وإنما ذلك شيء احتبسه من حائطه وأمسكه ولم يبعه، وباع من حائطه ما سوى ذلك اهـ. وكذلك يجوز له أن يستثني في المكيلات والموزونات شيئاً معلوماً ما لم يزد على ثلث المبيع كما تقدم في الثمار. قال رحمه الله تعالى: " وبيع قدر معلوم من حائط معين فإن نقدت ثمرته قبل استيفائه فهو مخير بين الرجوع ببقية رأس ماله، ويكون إقالة في البعض،

والتراضي على شيء عوضاً عنه لا عن الثمرة " يعني يجوز لصاحب الحائط أن يبيع قدراً معلوماً من حائطه المعين بعد بدو صلاحه، فإن نفدت ثمرته قبل أن يأخذ المشتري حقه فهو مخير بين رأس ماله وبين التراضي في شيء آخر يأخذه من صاحب الحائط معجلاً لا مؤخراً. هذا وقد سئل مالك عن الرجل يشتري الرطب من صاحب الحائط فيسلفه الدينار ماذا له إذا ذهب رطب ذلك الحائط؟ قال مالك: يحاسب صاحب الحائط ثم يأخذ ما بقي له من ديناره، إن كان أخذ ثلثي ديناره رطباً أخذ ثلث الدينار والذي بقي له، وإن كان أخذ ثلاثة أرباع ديناره رطباً أخذ الربع الذي بقي له، أو يتراضيان بينهما فيأخذ بما بقي له من ديناره عند صاحب الحائط ما بدا له إن أحب أن يأخذ تمراً أو سلعة سوى التمر أخذها بما فضل له، فإن أخذ تمراً أو سلعة أخرى فلا يفارقه حتى يستوفي ذلك منه اهـ انظر نظائره في الموطأ. قال رحمه الله تعالى: " ولا يجوز استثناء ما لا يجوز بيعه كالمجهول صفة وقدراً، والمحرم منفعة وعيناً " يعني أنه لا يجوز لمن باع شيئاً مما يجوز له بيعه أن يستثني منه شيئاً مما لا يجوز له بيعه كالأجنة في بطون الأمهات، سواء كان ذلك آدمياً أو غير الآدمي للنهي في ذلك، لأنه بيع الغرر. قال مالك في الموطأ: ولا ينبغي بيع الإناث واستثناء ما في بطونها، وذلك أن يقول الرجل للرجل: ثمن شاتي الغريرة ثلاثة دنانير فهي لك بدينارين ولي ما في بطنها، فهذا مكروه، أي حرام، لأنه غرر ومخاطرة اهـ. قال ابن رشد في المقدمات: والأشياء الموجودة بأيدي الناس تنقسم على قسمين: أحدهما ما لا يصح ملكه، والثاني ما يصح ملكه، فأما ما لا يصح ملكه لا يجوز بيعه بإجماع كالحر والخنزير والخمر والقرد والدم والميتة وما أشبه ذلك. وأما ما يصح ملكه فإنه ينقسم على قسمين: أحدهما لا يصح بيعه إما لأنه على صفة لا يجوز بيعه عليها كالعبد

الآبق، والجمل الشارد، وتراب الصواغين وما أشبه ذلك، وإما لأن الشرع حرم بيعه كالأوقاف، ولحوم الضحايا عند جماعة العلماء، والمصحف عند بعضهم، والكلب المأذون في اتخاذه عند بعض أصحابنا. والثاني يصح بيعه ما لم يقع على وجه يمنع الشرع منه اهـ. وتقدم كلام الجزيري في بيوع المنهيات عنها عند قول المصنف: والأعيان النجسة، فراجعه إن شئت. وتلك الأشياء المذكورة مما لا يجوز بيعها، فاستثناؤها في البيع لغو، لأنها كالمعدوم في نظر الشارع، والمعدوم شرعاً كالمعدوم حساً. ثم قال رحمه الله تعالى: " ولا احتكار ما يضر احتكاره " يعني أنه لا يجوز احتكار ما يضر الناس في احتكاره. قال ابن جزي في القوانين: ولا يجوز احتكار الطعام إذا أضر بأهل البلد. واختلف هل يجبر الناس في الغلاء على إخراج الطعام أم لا؟ ولا يخرج الطعام من بلد إلى غيره إذا أضر بأهل البلد. ومن جلب طعاماً خلي بينه وبينه، فإن شاء باعه وإن شاء احتكره اهـ. عن مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال: " لا حكرة في سوقنا، لا يعمد رجال بأيديهم فضول من أذهاب إلى رزق الله نزل بساحتنا فيحتكروه علينا، ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده في الشتاء والصيف فذلك ضيف عمر فليبع كيف شاء الله وليمسك كيف شاء الله " رواه مالك في الموطأ. قال رحمه الله تعالى: " ولا يسعر على الناس، ومن نقص سعراً أمر أن يلحق بالناس أو يقام من السوق " يعني أنه لا يجوز التسعير، لما في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يكره التسعير إذا غلا القوت، ويقول لهم إذا قالوا سعر لنا: «إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله عز وجل ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال» اهـ. وقد قال عمر بن الخطاب لرجل وجده في السوق

فصل في العرايا

يطفف: إما أن تزيد السعر وإما أن ترفع من سوقنا اهـ. رواه مالك بإسناده عن ابن المسيب. قال ابن جزي في القوانين: لا يجوز التسعير على أهل الأسواق، ومن زاد في سعر أو نقص منه أمر بإلحاقه بسعر الناس، فإن أبى أخرج من السوق اهـ. بيع العرية ولما أنهى الكلام على بيع الثمار وما يتعلق بذلك انتقل يتكلم على العرية وأحكامها وشروطها فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في العرايا أي في بيان ما يتعلق بالعرايا وأحكامها. قال بعضهم: العرية هي أن يعري صاحب النخلة غيره نخلة ذات رطبة ليؤديها تمراً، ولها شروط وأحكام سنقف عليها إن شاء الله. قال رحمه الله تعالى: " وتجوز العرية من كل ما يبس ويدخر من الثمار، وللموهوب له بيعها بعد زهوها من معريها بخرصها من متناهي جنسها، وفي خمسة أوسق فدونها يأخذه عند الجذاذ لا معجلاً، ومن غيره بما شاء من غير جنسها " يعني كما في الحديث، عن مالك بإسناده عن زيد بن ثابت " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها " اهـ. قال في الرسالة: ومن أعري ثمر نخلات لرجل من جنانه فلا بأس أن يشتريها إذا أزهت بخرصها تمراً يعطيه ذلك عند الجذاذ إن كان فيها خمسة أوسق فأقل، ولا يجوز شراء أكثر من خمسة أوسق إلا بالعين والعروض اهـ. قال ابن جزي في القوانين: وأما العرية فهي أن يهب له نخلة أو ثمر شجرة دون أصلها، ويجوز للمعري شراؤها منه بخرصها تمراً بأربعة شروط وهي: أن يبدو

صلاحها، وأن يكون خمسة أوسق فأقل، وأن يكون الثمن من نوع ثمر العرية، وأن يعطيه الثمر عند الجذاذ لا نقداً، وذلك مستثنًى من المزابنة. وأجاز الشافعي بيعها من المعري وغيره ولم يجزها إلا في الثمر والعنب اهـ. قال الدردير: وجاز لمعرٍ وقائم مقامه اشتراء ثمرة أعراها تيبس بخرصها من نوعها، وفي الذمة لا على التخيل إن لفظ بالعرية، وبدا صلاحها، والمشتري خمسة أوسق فدون، وقصد المعروف أو دفع الضرر. ولك شراء ثمر أصل لغيرك في حائطك بخرصه لقصد المعروف فقط. وبطلت بمانع قبل حوزها بعد ظهور الثمر، وزكاتها وسقيها على المعري، وكملت أي إن نقصت عن النصاب اهـ بإيضاح. قال رحمه الله تعالى: " ومعري جماعة يشتري من كلٍّ خمسةَ أوسق كالجماعة الواحدة " واعلم أن ما تقدم من عدم الزيادة على شراء أكثر من خمسة أوسق محله إذا كان في العرية الواحدة أو في الحائط الواحد، وأما لو أعراه عرايا في حوائط في أوقات متعددة لجاز له شراء من كل حائط خمسة أوسق، كما لو كان أعرى للجماعة المتعددة فإن له أن يشتري من كلٍّ خمسة أوسق، ما لم تكن العرايا في عقد واحد فتكون حينئذ كعرية واحدة، فلا يشتري منها إلا خمسة أوسق كما هو مفهوم في أول العبارة. ولا فرق في هذا كله بين تعدد المعرى بالفتح واتحاده اهـ النفراوي بتصرف وإيضاح. قال الخرشي عند قول خليل: ولا يجوز أخذ زائد إلى قوله إلا لمن أعرى عرايا في حوائط وكل خمسة إلخ: هذا مستثنى من قوله خمسة أوسق فأقل، والواو من قوله وكل واو الحال. وفي بعض النسخ فمن كل خمسة وهي أولى لموافقة قولها - أي المدونة -: ومن أعرى أناساً شتى من حائط أو من حوائط له في بلد أو بلدان شتى خمسة أوسق لكل واحد أو أقل أو أكثر جاز له أن يشتري من كل واحد خمسة أوسق فأدنى اهـ المدونة، ثم إن محل جواز الأخذ من كل عرية خمسة أوسق فأقل إن كان بألفاظ لا بلفظ واحد

على ما رجحه ابن الكاتب ونقله عنه ابن يونس، وظاهره أنه لا فرق بين تعدد المعرى بالفتح واتحاده ولكنه خلاف ما للرجراجى من أنه لا فرق بين تعدد المعرى بالفتح واتحاده ولكنه خلاف ما للرجراجي من أنه إذا أعرى عرايا في حوائط لجماعة يجوز له أن يأخذ من كل حائط خمسة أوسق ولو وقعت بلفظ واحد اهـ الخرشي بحذف. وقد عمت ما قدمناه في أول العبارة. انظر ما حكاه القابسي في المواق وهو وجيه. قال رحمه الله تعالى: " وسقيها وزكاتها على معريها " يعني كما في الخرشي، أي زكاة العرية إن بلغت نصاباً على المعري، وسقيها أي سقي شجر العرية أي إيصال الماء إليها على أي وجه كان بآلة أم لا على المعري، وما عداه من تقليم وتنقية وحراسة ونحو ذلك فهو على المعرى بالفتح، وإن قصرت العرية على النصاب وكان عند المعري بالكسر في حائطه ثمن يكملها نصاباً ضمت إليه وأخرج زكاة الجميع من ماله، ولا ينقص المعرى بالفتح عن عريته شيئاً اهـ. عبارة الحطاب أنه قال: يعني أن من أعرى شخصاً نخلاً أو نخلات من حائطه فإن على رب الحائط سقي تلك النخلة أو النخلات، وعليه زكاة ثمرتها، وسواء أعراه إياها قبل الزهو أو بعده، فإن كانت العرية دون خمسة أوسق فإن رب الحائط يضمها إلى باقي حائطه، فإن كان المجموع خمسة أوسق زكى ذلك. قال في المدونة: وزكاة العرية وسقيها على رب الحائط، وإن لم تبع خمسة أوسق إلا مع بقية حائطه أعراه جزءاً شائعاً أو نخلاً معينة أو جميع حائطه. قال أبو محمد: يريد يعطيه جميع ثمرة الحائط ويكون عليه أن يزكيه من غيره هذا بخلاف الواهب. يعني أن من وهب لشخص ثمرة حائطه فإن سقيها وزكاتها على الموهوب له، يريد إلا أن تكون الهبة بعد الإزهاء فإن ذلك يكون على الواهب قاله في التوضيح اهـ بحذف.

فصل في أحكام الجائحة في الثمار والزروع وغيرها

أحكام الجائحة ولما أنهى الكلام على العرايا وأحكامها انتقل يتكلم على ما يتعلق بالجائحة، وهي العاهة التي تصيب الثمار قبل بدو صلاحها. فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في أحكام الجائحة في الثمار والزروع وغيرها أي في بيان ما يتعلق بالجائحة في الثمار والزروع والبقول وغيرها مما يوضع عن المشتري قدر ما أجيح من الثمن. قال رحمه الله تعالى: " الجائحة: الآفة السماوية، وفي الجيش قولان " يعني أن الجائحة أمر سماوي. قال الدردير: وهي ما لا يستطاع دفعه من سماوي أو جيش، وفي السارق خلاف. والسماوي هو الذي لا قدرة لأحد على دفعه، كبرد وثلج وغبار، وسموم أي ريح حار وجراد، وفأر ونار وجليد، ودود وطير، وغرق وغير ذلك من كل ما لا يستطاع دفعه. والمشهور أن الجيش أمر سماوي توضع جائحته. وعن مالك أنه بلغه أن عمر بن عبد العزيز قضى بوضع الجائحة. قال مالك: وعلى ذلك الأمر عندنا. قال مالك: والجائحة التي توضع عن المشتري الثلث فصاعداً، ولا يكون ما دون ذلك جائحة قاله في الموطأ اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فإذا أتت على ثلث الثمر أو الزرع فصاعداً وجب وضع ما يقابله لا دونه، إلا أن يتلفها عطشاً فيوضع قليلها وكثيرها " يعني كما في الرسالة: فإن أجيح قدر الثلث فأكثر وضع عن المشتري قدر ذلك من الثمن، وما نقص عن الثلث فمن المبتاع اهـ. قال الدردير: وتوضع من العطش وإن قل، كالبقول على المعتمد والزعفران والريحان والقضب وهو علف الدواب، وورق التوت والفجل ونحوها قال الصاوي: والحاصل أن المقاثئ والباذنجان والقرع والفجل والجزر

والموز والياسمين، والعصفر والفول الأخضر، والجلبان حكمها حكم الثمار يراعى فيها ذهاب الثلث. وعن أشهب أن المقاثئ كالبقول يوضع قليلها وكثيرها، والأول أشهر، وبه القضاء اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولا وضع بعد الجفاف " يعني لا توضع الجائحة بعد جفاف الزرع والثمار. قال الشارح: كالقمح والفول وغيرهما من أنواع الحبوب، لأن ما ذكر لا يحل بيعه إلا بعد يبسه واستحصاده، فتأخيره محض تفريط من المشتري فلا يوضع عنه شيء من الثمن، ومثل الحبوب الثمار بعد تناهي طيبها، وفوات أوان قطعه على المعتاد. قال خليل: وإن تناهت الثمرة فلا جائحة كالقصب الحلو ويابس الحب، لأن تأخير ما ذكر بعد زمان قطعه على العادة محض تفريط، فيجب على المشتري جميع الثمن ولو أذهبت الجائحة جميعه. وأما لو أصابته الجائحة؛ في الزمان الذي تقطع فيه على العادة لحطت عنه؛ لأن تأخيرها على هذا الوجه بمنزلة تأخيرها اتناهي طيبها اهـ. النفراوي. وعبار ابن جزي في القوانين أنه قال: إذا بيع زرع بعد أن يبس واشتد، أو ثمر بعد تمام صلاح جميعه واستحقاقه للقطع ولم يكن في تبقيته فائدة ثم أصابته جائحة لم يوضع منها شيء اهـ. وعبارة الدردير: وإن انتهى طيبها فلا جائحة كالقصب الحلو ويابس الحب، وإن اختلفا فيها فقول البائع، وفي قدر المجاح فالمشتري اهـ. أحكام السلم ولما أنهى الكلام على ما يتعلق بالجائحة انتقل يتكلم على السَّلَم وما يتعلق بأحكامه وشروطه وأركانه وغير ذلك مما هو لازم فيه. قال رحمه الله تعالى:

فصل في السلم وأحكامه

فَصْلٌ في السلم وأحكامه أي في بيان ما يتعلق بالسلم، وهو السلف وأحكامه. والسلم بيع شيء موصوف في الذمة بغير جنسهمؤجلاً. قال الخرشي: هو والسلف واحدفي أن كلا منهما إثبات مال في الذمة مبذول في الحال. ولذا قال القرافي: سمي سلماً لتسليم الثمن دون عوض، ولذلك سمي سلفاً اهـ. ويعني بقوله: دون عوض أي في الحال، فلا ينافي أن عوضه مؤجل كما في الصاوي، وحكمه الجواز، ودليل جوازه الكتاب والسنة والإجماع. فأما الكتاب فقوله: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} [البقرة:282] وأما السنة فمنها ما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» وقد أجمع أئمة المسلمين على أن السلم جائز، ولذا قال رحمه الله تعالى: " ويجوز السلم في كل ما يضبط بالصفات التي تختلف الأغراض والأثمان باختلافها " يعني يجوز السلم في كل ما يمكن ضبطه كالأشياء التي تباع بالكيل أو بالوزن أو بالعد أو بالذرع، لأنها محدودة يمكن ضبطها بما ذكر وبصفة معلومة على اختلاف الأعراض والأغراض والأثمان، وكل منها بشرطها المعلوم في محله. قال رحمه الله تعالى: " وشروطه الوصف وتقدير كميته وكونه في الذمة إلى أجل معلوم، والقدرة على تسليمه عند حلوله ونقد الثمن ويلزم تسليمه بسوقه إلا أن يعينا غيره " يعني أن شروط السلم سبعة: الأول تعجيل رأس المال، والثاني ألا يكون الثمن والمثمن طعامين ولا نقدين، الثالث أن يؤجل المسلم فيه بأجل معلوم كنصف شهر فأكثر لا أقل، الرابع أن يكون المسلم فيه في الذمة، الخامس أن يضبط المسلم فيه بعادته التي جرى بها العرف في كيل أو وزن أو عد، السادس أن تبين الأوصاف التي

تختلف بها الأغراض عادة بياناً شافياً، السابع أن يوجد المسلم فيه عند حلوله غالباً اهـ بقرة العين، ملخصاً من أقرب المسالك والصاوي بتصرف وتوضيح قوله ويلزم تسليمه إلخ قال ابن جزي: الأحسن اشتراط مكان الدفع، وأوجبه أبو حنيفة، فإن لم يعينا في العقد مكاناً فمكان العقد، وإن عيناه تعين، ولا يجوز أن يقبضه بغير المكان المعين ويأخذ كراء مسافة ما بين المكانين لأنهما بمنزلة الأجلين اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ومن أسلم طعاماً جاز أن يأخذ عند الحلول من جنسه معجلاً لا من غيره وقبل حلوله وفي غير المطعومات يأخذ ما شاء معجلاً " يعني من أسلم طعاماً جاز له أن يأخذ عند حلول الأجل من جنس ما أسلم معجلاً لا من غيره وقبل حلوله. وفي غير المطعومات يأخذ ما شاء معجلاً، هذا معنى ما قاله المصنف. انظر تفصيل ذلك في المقدمات. وأما نص المدونة، قال مالك: كل من سلف طعاماً في طعام إلى أجل فلا يجوز إلا أن يقرض رجل رجلاً طعاماً في طعام مثله من نوعه لا يكون أجود منه ولا دونه، وإنما أراد بذلك المنفعة للذي أسلف، فهذا يجوز إذا أقرضه إلى أجله، وما سوى ذلك من الطعام قال لا يصلح أن يسلف بعضه في بعض إذا كان مما يؤكل أو يشرب، أو كان مما يكال أو يوزن أو يعد عداً، فإنه سواء لا يصلح الأجل فيما بين ذلك اهـ. قال في الرسالة: ولا يجوز أن يكون رأس المال من جنس ما أسلم فيه، ولا يسلم شيء في جنسه إلا أن يقرضه شيئاً في مثله صفة ومقداراً، والنفع للمستلف، ولا يجوز دين بدين وتأخير رأس المال بشرط إلى محل السلم، أو ما بعد من العقد من ذلك اهـ. قال شارحها: أما الطعامان والنقدان فيمتنع إذا وقع العقد بلفظ السلم أو البيع أو الإطلاق، وأما إن وقع بلفظ القرض فيجوز حيث تمحض النفع للمقترض اهـ ومثله في الخرشي. وعبارة ابن جزي في القوانين أنه قال: من أسلم في طعام لم يجز له أن يأخذ عنه غير طعام، ولا أن يأخذ طعاماً من جنس آخر سواء كان ذلك قبل الأجل أو بعده، لأنه من بيع الطعام قبل قبضه، فإن أسلم في غير

طعام جاز أن يأخذ غيره إذا قبض الجنس الآخر مكانه، فإن تأخر القبض عن العقد لم يجز لمصيره إلى الدين بالدين، ويجوز أن يأخذ طعاماً من نوع آخر مع اتفاق الجنس كزبيب أبيض عن أسود إلا إن كان أحدهما أجود من الآخر أو أدنى فيجوز بعد الأجل، لأنه من الرفق والمسامحة، ولا يجوز قبله لأنه غب الدون وضع على التعجيل، وفي الأجود عوض عن الضمان اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وإن أتى بالمسلم فيه قبل حلوله لم يلزم بل يجوز قبضه ولا مطالبة له قبل حلوله " وفي نسخة: ولا مطالبته قبل حلوله، والمعنى كما في الدردير أنه لا يلزم دفعه ولا قبوله بغير محله ولو خف حمله كجوهر وثوب لطيف إلا أن يرضيا بذلك فيجوز إن حل الأجل انظر حاشية الصاوي عليه اهـ. وتقدم الكلام في نحو هذه المسألة عند قول المصنف: ويلزم تسليمه بسوقه فراجعه إن شئت. ثم قال رحمه الله تعالى: " ولا يجوز في زرع قرية أو ثمرة قرام بعينه إلا أن لا تختلف عن مثله غالباً " وفي نسخة: إلا أن يختلف عن مثله غالباً. والقرام - بضم القاف -: المزرعة، وفي نسخة: القراح بالحاء بدل الميم، وهي المزرعة أيضاً. قال في المصباح والقراح أيضاً المزرعة التي ليس فيها بناء ولا شجر، والجمع أقرحة. فالمعنى كما في المدونة قال مالك: من سلف في ثمر هذه القرى العظام مثل خيبر ووادي القرى وذي المروة وما أشبهها من القرى فلا بأس أن يسلف قبل إبان الثمر، ويشترط أن يأخذ ذلك تمراً في أي الإبان شاء. ويشترط أن يأخذ ذلك رطباً في إبان الرطب أو بسراً في إبان البسر، وكذلك القرى المأمونة التي لا ينقطع ثمرها من أيدي الناس أبداً، والقرى العظام التي لا ينقطع طعامها من أيدي الناس أبداً لا تخلو القرية من أن يكون فيها الطعام والثمر لكثرة نخيلها وزروعها فهذه مأمونة لا بأس أن يسلف فيها في أي إبان شاء، ويشترط أخذ ذلك تمراً أو حنطة أو شعيراً أو حبوباً أي الإبان شاء، وإن اشترط رطباً أو بسراً فليشترطه

في إبانه. قال: وإنما هذه القرى العظام إذا سلف في طعامها أو في تمرها بمنزلة ما لو سلف في طعام مصر أو في تمر المدينة فهذا مأمون لا ينقطع من البلدة التي سلف فيها، وكذلك هذا في القرى العظام إذا كانت لا ينقطع الثمر منها لكثرة حيطانها، والقرى العظام التي لا تخلو من الحنطة والشعير والقطاني، فإن كانت قرى صغاراً أو قرى ينقطع طعامها منها في بعض السنة أو تمرها في بعض السنة فلا يصلح أن يسلف في هذه إلا أن يسلف في تمرها إذا أزهى. ويشترط أخذ ذلك رطباً أو بسراً، ولا يؤخر الشرط حتى يكون تمراً ويأخذه تمراً، لأنه إذا كان بهذه المنزلة في صغار الحيطان وقلتها وصغار القرى وقلة الأرض فليس ذلك بمأمون قال ابن القاسم: سمعت مالكاً يقول: بلغني أن ابن عباس كان يقول: لا بأس بالسلف المضمون إلى أجل معلوم اهـ المدونة. وقد ذكر الصاوي في حاشيته على الدردير عند قوله: وإن انقطع ماله إبان خير المشتري إلخ أي من السلم الحقيقي بأن كان غير محصور في قرية أو في قرية مأمونة، وأما إن انقطع ثمر الحائط المعين الذي أسلم في كيل معلوم منه أو ثمر القرية غير المأمونة الذي أسلم في كيل معلوم منها، فإنه يرجع المسلم بحصة ما بقي له من السلم عاجلاً اتفاقاً، ولا يجوز التأخير لأنه فسخ دين في دين، وله أخذ بدله ولو طعاماً، وهل يرجع على حسب القيمة فينظر لقيمة كل مما قبض ومما لم يقبض في وقته ويقبض الثمن على ذلك، فإذا أسلم مائة دينار في مائة وسق من ثمر الحائط المعين ثم قبض من ذلك خمسين وسقاً وانقطع، فإذا كان قيمة المأخوذ مائة وقيمة الباقي خمسين فنسبة الباقي للمأخوذ الثلث فيرجع بثلث الثمن قل أو كثر وعليه الأكثر، أو يرجع على حسب الملكية فيرجع بنسبة ما بقي منها من غير تقويم فيرجع بنصف الثمن في المثال تأويلان اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويجوز إسلام ما عدا النقد والمطعومات من العروض بعضها في بعض متفاضلاً إلى أجل بشرط اختلاف الجنس واختلاف الأغراض والمنافع، كالخلق والألوان، فيجوز عبد تاجر أو حاسب في أعبد سذج ونحو

ذلك، فإن اتحد الجنس منع التفاضل " قوله ما عدا النقد والمطعومات، وفي نسخة ما عدم التقدير والمطعومات، فالمعنى على ما في النسخة الأولى وهي الصحيحة أنه يجوز دفع رأس مال السلم من جميع أنواع العروض بعضها في بعض ما عدا النقد والمطعومات، ولا يجوز تسليم الذهب في الذهب ولا تسليم الفضة في الفضة ولا العكس، ولا تسليم الطعام في الطعام ولو اختلفا جنساً، لما في ذلك من الربا، وأما غيرهما فجائز تسليم العروض في غير جنسها أو في جنسها بشرط اختلاف الأغراض والمنافع حتى الحيوان بعضها في بعض إذا اختلفت المنافع والأغراض اختلافاً بيناً. قال الدردير كما في المختصر: ولا يكونا طعامين ولا نقدين ولا شيئاً في أكثر منه أو أجود كالعكس، إلا أن تختلف المنفعة، كفاره الحمر في الأعرابية، وسابق الخيل في الحواشي، وجمل كثير الحمل أو سابق في غيره، وقوة البقرة وكثرة لبن الشاة إلا الضأن على الأصح اهـ قال ابن جزي في الشرط الثاني من شروط السلم: وأن يكونا مختلفين تجوز فيه النسيئة بينهما، فلا يجوز تسليم الذهب والفضة أحدهما في الآخر لأن ذلك رباً، وكذلك تسليم الطعام بعضه في بعض ممنوع على الإطلاق لأنه رباً، ويجوز تسليم الذهب والفضة في الحيوان والعروض والطعام، ويجوز تسليم العروض بعضها في بعض، وتسليم الحيوان بعضه في بعض بشرط أن تختلف الأغراض والمنافع، فلا يجوز مع اتفاق الأغراض والمنافع، لأنه يؤول إلى سلف جر منفعة. ومنع أبو حنيفة السلم في الحيوان اهـ بحذف. وهذا أصح وأبين مما يأتي في معنى عدم التقدير كما ستقف عليه عن قريب إن شاء الله. وأما الكلام على ما في النسخة الثانية وهي قوله ويجوز إسلام ما عدم التقدير قلت: الشيء الذي عدم التقدير لا يجوز تسليمه بأن يكون رأس المال في السلم ولا في المسلم فيه، لأن بالتقدير يعلم قدر كل شيء، إما بالكيل في المكيل، وإما بالوزن في الموزون وإما بالعد في المعدود أو بالذرع في المذروع، وأيضاً عدم التقدير في رأس المال يؤدي إلى عدم الضبط في المسلم إليه، وإن كان الضبط يحصل بالوصف في الأشياء المذكورة

إلا أنه يؤدي إلى الجهل بالمقدار في تلك الأشياء كالجهل بالمعيار. قال الدردير: وفسد بمعيار مجهول أي كزنة هذا الحجر أو ملء هذا الوعاء. اللهم إذا قصد بعدم التقدير التحري عند عدم آلة الوزن أو الكيل في إسلام رأس مال السلم فيجوز حينئذ أن يضبط ذلك بالتحري لعدم آلة الكيل أو الوزن أو الذرع. وحاصل ما ذكره الصاوي في حاشيته على أقرب المسالك أنه قال: إذا فقدت آلة الوزن وكنا نعلم قدرها واحتجنا للسلم في اللحم مثلاً فيجوز أن يسلم الجزار في مائة قطعة مثلاً كل قطعة لو وزنت كانت رطلاً أو رطلين مثلاً، وكذلك إذا عدمت آلة الكيل وعلم قدرها واحتيج للسلم في الطعام فيقول المسلم للمسلم إليه: أسلمك ديناراً في قمح ملء زكيبتين مثلاً كل زكيبة لو كيلت كانت إردباً مثلاً آخذه منك في شهر كذا. هذا معنى ضبط السلم بالتحري على أحد التأويلين. والتأويل الثاني يقول: المراد أن تأتي للجزار بحجر أو بقطعة لحم مثلاً وتقول له: أسلمك في مائة قطعة من اللحم كل قطعة لو وزنت كانت قدر هذا الحجر أو قدر هذه القطعة، والفرض أنه لا يوزن اللحم بعد حضوره بهذا الحجر أصلاً بل إذا جاء أعطى المسلم إليه للمسلم مائة قطعة مماثلة لذلك الحجر تحرياً بدون أن توزن وإلا فسد. ومن ذلك لو أتى لصاحب القمح بقفة لا يعلم قدرها ويقول له أسلمك ديناراً في قمح لو كيل بهذه لكان ملأها مرة أو مرتين آخذه في يوم كذا. ولا يكال بها عند حضوره بل تتحرى المماثلة كملئها مرة أو مرتين وإلا فسد للجهل. فالتأويل الأول لابن أبي زمنين. والثاني لابن زرب اهـ قال الجزيري: ويصح السلم في الخضر والحشائش كالبرسيم ويضبط بالحمل بكسر الحاء، كأن يقول له: أسلمك جنيهاً في مائة حمل برسيم كل حمل ملء هذا الحبل، ويوضع الحبل تحت يد أمين أو يقاس طوله وسمكه بمقياس مخصوص ويكتب في ورقة، ومثل ذلك الكراث والكزبرة، ولا بد من تكون آلة الكيل أو الوزن معلومة، فإذا ضبط بشيء مجهول كملء هذه القطعة مثلاً أو وزن هذا الحجر ولم يكن مقدراً

فصل في بيان ما يتعلق بالقرض وهو بمعنى السلف

بمعيار مخصوص فإن السلم يفسد اهـ بحروفه. أحكام القرض ولما أنهى الكلام على السلم انتقل يتكلم على ما يتعلق بالقرض وأحكامه، وهو شبيه بالسلم لما فيهما من دفع معجل في غيره، ولذا ذيله به فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في بيان ما يتعلق بالقرض وهو بمعنى السلف أي في بيان ما يتعلق بالقرض وأحكامه، ويسمى سلفاً أيضاً وهو لغة أهل العراق، ويطلق على القرض فيما لا منفعة فيه للمقترض سوى الثواب من الله تعالى، وعلى المقترض رده كما أخذه. وعرفه ابن عرفة بقوله: هو دفع متمول في عوض غير مخالف له لا عاجلاً تفضلاً فقط، لا يوجب إمكان عارية لا تحل متعلقاً بذمة اهـ. وبدأ المصنف بحكم القرض ولم يبدأ بتعريفه كما فعل غيره كالدردير في أقرب المسالك. فإنه قال: القرض إعطاء متمول في عوض مماثل في الذمة لنفع المعطي فقط، وهو مندوب اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويجوز قرض ما سوى الإماء، وأجازه ابن عبد الحكم من محرم وتلزم قيمتها بالوطء " يعني كما قال في الرسالة: والسلف جائز في كل شيء إلا في الجواري. قال شارحها قوله: إلا في الجواري أي لمن تحل له على تقدير ملكها، فلا يجوز سلفها له، لما في ذلك من عارية الفروج، لأن المقترض يجوز له أن يرد نفس الذات المقترضة، وربما يكون ردها بعد التلذذ بها ولذا لا يحرم إقراضها لمن لا يتأتى منه الاستمتاع كصغير وشيخ فان، أو كان المقترض امرأة أو كانت الجارية لا تُشتهى، ولذا قال خليل: إلا جارية تحل للمستقرض، وردت إلا أن تفوت بمفوت البيع الفاسد فالقيمة ولا ترد كاستيلادها اهـ.

قال رحمه الله تعالى: " ويحرم اشتراط منفعة أو زيادة لا التبرع بها " يعني أنه يحرم للمقرض والمقترض اشتراط المنفعة والزيادة للنهي عنه، وأما لو حصلت زيادة غير مشروطة ولا وأي في ذلك بل تبرعاً لجاز وقيل مع الكراهة. قال في الرسالة: ومن رد في القرض أكثر عدداً في مجلس القضاء فقد اختلف في ذلك إذا لم يكن فيه شرط ولا وأي ولا عادة، فأجازه أشهب وكرهه ابن القاسم ولم يجزه اهـ. قال ابن جزي: السلف هو القرض، فحكمه الجواز، وهو فعل المعروف سواء كان بالحلول أو مؤخراً إلى أجل معلوم، وإنما يجوز بشرطين: أحدهما ألا يجر نفعاً، فإن كانت المنفعة للدافع منع اتفاقاً للنهي عنه وخروجه عن باب المعروف، وإن كانت للقابض جاز، وإن كانت بينهما لم يجز لغير ضرورة. واختلف في الضرورة كمسألة السفاتج وسلف طعام مسوس أو معفون ليأخذ سالماً، أو مبلول ليأخذ يابساً فيمنع في غير المسغبة اتفاقاً، ويختلف معها، والمشهور المنع، وكذلك من أسلف ليأخذه في موضع آخر يمنع في ما فيه مؤونة حمل، ويجوز أن يصطلحا على ذلك بعد الحلول لا قبله. الشرط الثاني: ألا ينضم إلى السلف عقد آخر كالبيع وغيره اهـ. قال الدردير في أقرب المسالك: وحرم هديته، أي لمقرضه، كرب القراض، وعامله، والقاضي، وذي الجاه، إلا أن يتقدم مثلها أو يحدث موجب. وكما تحرم هدية المقترض للمقرض يحرم بيعه مسامحة لذلك اهـ بإيضاح. قال رحمه الله تعالى: " ويصح تأجيله ويلزم قبوله قبله بموضع القضاء فلو لقيه بغيره لم يلزمه الدفع، بل يخرج معه أو يوكل من يقضيه " وفي نسخة أو يوكل من يقبضه، فالمعنى يصح تأجيل القرض ويلزم على المقترض قبوله إذا دفعه له المقترض عند حلوله في موضع القضاء، ولا يلزم المقترض دفعه إذا لقيه بغير محل القضاء. قال النفراوي: ويجوز ضرب الأجل في القرض عند مالك دون غيره من الأئمة، وإذا دفعه المقترض لزم المقرض قبوله ولو كان غير عين حيث دفعه له بمحله لا بغيره فلا يلزمه، بخلاف

العين فيلزمه القبول مطلقاً، إلا أن يكون المحل مخوفاً فلا يلزمه القبول قبل المحل كسائر الديون هذا هو الذي ينبغي اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويمنع الوضع على التعجيل " يعني لا يجوز وضع بعض الدين المؤجل لتعجيل الباقي منه لأن ذلك منهي عنه. قال في الرسالة: ولا تجوز الوضيعة من الدين على تعجيله، قال شارحها: أي لا تجوز الحطيطة من الدين سواء كان من بيع أو من قرض على شرط تعجيله قبل حلوله، كأن يكون لشخص على آخر دين عرض أو عين أو طعام لأجل كشهر مثلاً ويتفق مع من عليه الدين على إسقاط بعضه، ويعجل له الباقي قبل انتهاء الشهر فهذا حرام، وتسمى هذه الصورة بضع من حقك وتعجل، أي حط عني حصة منه وأعجل لك باقيه وحرمة ضع وتعجل عامة في دين البيع والقرض كما بينا وإنما امتنع لأدائه إلى سلف جر نفعاً، بيانه: أن من عجل شيئاً قبل وجوبه يعد مسلفاً لما عجله ليأخذ عنه بعد الأجل ما كان في ذمته وهو جميع الدين، فإن وقع ونزل رد إليه ما أخذه ويستحق جميع دينه عند حلول الأجل وإن لم نطلع عليه حتى انقضى الأجل وجب على من عليه الدين أن يدفع له الباقي الذي كان أسقطه عنه صاحب الدين اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وكره العمل بالسفاتج إلا أن يكون النفع للمقترض والله أعلم " يعني أنه يكره العمل بالسفاتج، وعبر بعضهم بالمنع إلا عند الضرورة فيجوز العمل بها. والسفاتج جمع سفتجة قال في المصباح: فارسي معرب، أي اسم فارسي، وفسرها لعضهم فقال: هي كتاب صاحب المال لوكيله أن يدفع مالاً قراضاً يأمن به من خطر الطريق، والجمع السفاتج اهـ. قال ابن جزي في الفروع: السادس مسألة السفاتج وهي سلف الخائف من غرر الطريق، يعطي بموضع ويأخذ حيث يكون متاع الآخر فينتفع الدافع والقابض في ذلك قولان اهـ. قال خليل عاطفاً على الممنوعات: أو عين عظم حملها

كسفتجة. قال شراحه: السفتجة بفتح السين المهملة وسكون الفاء وفتح الفوقية والجيم- لفظ أعجمي، أي فارسي معرب -: ورقة يكتبها مقترض ببلد كمصر لوكيله ببلد آخر كمكة ليقضي عنه بها ما اقترضه بمصر مثلاً فيمنع لانتفاع المقرض بدفع كلفة ما أقرضه عن نفسه من مصر إلى مكة وغرره براً وبحراً إلا أن يعم الخوف في البر والبحر فيجوز للضرورة. قال الدردير: كعموم الخوف على المالفي الطريق فيجوز أن يسلفه لمن علم أنه يسلم معه. قال الصاوي: بل يجب، لأن حفظ المال واجب بأي وجه تيسر حفظه به، وكذلك يجب دفعه إن قام دليل على نفع المقترض فقط كمحاقة، أو كان بيع المسوس الآن أحظ للمسلف - بالفتح - لغلائه ورخص الجديد في إبانه فيجوز، بل يجب لوجود المواساة حينئذ اهـ بتوضيح. ولما أنهى الكلام على ما يتعلق بالقرض انتقل يتكلم على أحكام الإجارة وما يتعلق بها، فقال رحمه الله تعالى:

كتاب الإجارة

كتاب الإجارة أي في بيان ما يتعلق بأحكامها، وحقيقتها، وأركانها، وشروطها، وموانعها، ومفسداتها. الإجارة لغة هي مصدر سماعي لفعل أجر، وشرعاً: عقد يفيد تمليك منافع شيء مباح مدة معلومة بعوض غير ناشئ عن المنفعة، ومثلها الكراء، لأن الإجارة والكراء شيء واحد، وإنما اختلفا في التسمية عرفاً، فالإجارة هي التعاقد على منفعة الآدمي وبعض المنقولات كالأثاث، وفي بعضها تسمى بالكراء خاصة كمنفعة الحيوان وجميع الأشياء الثابتة كالدور والأراضي وغيرها فإن العقد على منافعها يسمى كراء على معنى الإجارة، وبالعكس عرفاً، ولذلك كانت الإجارة والكراء في معنى واحد اهـ ملخصاً من الفقه. قال رحمه الله تعالى: " وهي عقد لازم على المنافع المباحة ولا تنفسخ بالموت، بل يقوم وارث كلٍّ مقامَه " وفي أقرب المسالك: الإجارة: عقد معاوضة على تمليك منفعة بعوض بما يدل أي على تمليك المنفعة. وفي الرسالة: والإجارة جائزة إذا ضربا لها أجلاً وسميا الثمن. قال شارحها: وما تقدم من أن الإجارة جائزة بيان لحكمها الأصلي. وقد تكون مكروهة مثل أن يؤجر نفسه للإمامة أو للحج أو غيرهما من أنواع الطاعات، أو لذمي لا يناله من ذلك مذلة. وقد تكون محرمة مثل أن يؤجر نفسه لذمي يناله بذلك مذلة أو يؤجر نفسه لمعروف بالغصب. وكذا كل إجارة يترتب عليها فعل محرم اهـ. قال ابن جزي: وأما المنفعة فيشترط فيها شرطان: الأول: أن تكون معلومة إما بالزمان كالمياومة والمشاهرة وإما بغاية العمل كخياطة الثوب، ولا يجوز أن يجمع بينهما، لأنه قد يتم العمل قبل الأجل أو بعده، وإذا استأجره

على رعاية غنم بأعيانها لزمه رعاية الخلف عند ابن القاسم. الثاني: أن تكون المنفعة مباحة لا محرمة ولا واجبة، أما المحرم فلا يجوز إجماعاً، وأما الواجب كالصلاة والصيام فلا تجوز الإجارة عليه، وتجوز الإجارة على الإمامة مع الأذان والقيام بالمسجد لا على الصلاة بانفرادها، ومنعها ابن حبيب متفرقة ومجتمعة، وأجازها ابن عبد الحكم مافرقة ومجتمعة اهـ. وقوله: ولا تنفسخ بالموت إلخ، وهو كذلك إن كانت الإجازة مضمونة، وعبارة أبي محمد في الرسالة: ولا ينتقض الكراء بموت الراكب أو الساكن، ولا بموت غنم الرعاية، وليأت بمثلها. ومن اكترى كراء مضموناً فماتت الدابة فليأت بغيرها، وإن مات الراكب لم ينفسخ الكراء وليكتروا مكانه غيره اهـ. أما إذا كانت غير مضمونة بأن كانت معينة فإنها تنفسخ. وفي الرسالة أيضاً: ومن اكترى دابة بعينها إلى بلد فماتت انفسخ الكراء فيما بقي، وكذلك الأجير يموت والدار تهدم قبل تمام مدة الكراء اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويلزم تعيين المنفعة بالعمل كالخياطة والبناء والصياغة ونحو ذلك أو منتهى مسافة الركوب أو الحمولة أو ما يكتريها له، وتعيين المحمول مشاهدة أو قدراً " يعني كما في عبارة النفراوي أنه قال: واعلم أن الإجارة لا تصح إلا بشروط ثلاثة: أحدها أن يكون أجلها معلوماً بشهر أو سنة، أو تكون محدودة بعمل كخياطة ثوب أو كتابة كراس. وثانيها أن يكون الأجر معلوماً للمتعاقدين ولو بالعرف كأجرة الخياطة أو صبغ الثوب أو غيرهما مما لا تختلف أجرته عرفاً. وثالثها أن يكون العمل المستأجر عليه معلوماً للمتعاقدين، كما يشترط تعيين الذات المعقود عليها لتعليمها أو لركوبها. قال خليل: وعين متعلم ورضيع ودار وحانوت وبناء على جدار، ومحمل إن لم توصف، ودابة لركوب، وإن ضمنت فجنس ونوع وذكورة وأنوثة اهـ. قال ابن جزي في القوانين: وأما الدواب فتكرى لأربعة أوجه: للركوب فيتعين

بالمسافة أو الزمان، ولا يجمع بينهما، ولا يشترط وصف الراكب خلافاً للشافعي، ويجب أن يركبه مثله لا أضر منه. وللحمل فيجب أن يصف ما يحمل عليها ويعين المسافة أو الزمان، فإن زاد في حملها وعطبت، فإن كان ما زاده مما يعطب بمثله فربها مخير بين أخذ قيمة كراء ما زاد عليها مع الكراء أو قيمة الدابة، وإن كانت الزيادة مما لا يعطب بمثله فله كراء الزيادة مع الكراء الأول ولا خيار له، ولهذا الحكم أشار رحمه الله تعالى بقوله: " وحمل الأضر، وارتكاب غير المماثل، وسلوك الأشق أو الأبعد اختياراً يوجب ضمانها إلا أن يختار أخذ الأجرة مع أجرة المثل للتفاوت، فإن سلمت فله أجرة المثل للتفاوت " هذا كما قال خليل: وضمن إن أكرى لغير أمين، أو عطبت بزيادة مسافة أو حمل تعطب به، وإلا فالكراء إلخ وهذا ظاهر كما بينه ابن جزي. واعلم أنه لا يشترط تعيين الراكب عند العقد في الكراء بل يصح على حمل آدمي. قال خليل عاطفاً على الجائزات: وعلى حمل آدمي لم يره ولم يلزمه الفادح وهو العظيم الثقيل، ومثله المريض والمعروف بكثرة النوم أو بعقر الدواب، وإن لم يكن ثقيلاً، والأنثى ليست من الفادح مطلقاً، فإن وقع العقد على حمل آدمي وأتاه بامرأة لزمه حملها حيث لم تكن ثقيلة بخلاف ما لو وقع العقد على حمل رجل فأتى له بامرأة فله الامتناع من حملها، بخلاف عكسه. قال النفراوي اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وعلى الكري ما تفتقر الدابة إليه من آلة وإعانة المكتري في العكم والحطب والركوب، وتعيين مدة الخدمة والسكنى، ويجب بيان مبدئها، وتلزم الأجرة على جميعها، لا تعجيلها بل بحسب الاستيفاء أو العرف أو الشرط، أو كونها عرضاً معيناً، أو يفسد ببقائهأو بتراخي مبدأ المدة على العقد، وله الاستيفاء بنفسه أو بغيره، وإجارتها من مؤجرها وغيره " يعني أنه يجب على

الكري أن يأتي بما جرت العادة بإتيانه من الآلة التي لا بد منها في حالة السير كجمل. وتلزم المعاونة لكل بقدر الطاقة والعادة عند العقبات والمنازل، وعند الآكام والهبوط والركوب، ويجوز أن يتفقا على أن يكون طعام أحدهما على الآخر. قال خليل: وجاز على أن عليك علفها وطعام ربها، أو عليه طعامك، أو ليركبها في حوائجه. قال الخرشي: أي جاز كراء الدابة على أن عليك يا مكتري طعام رب الدابة، أو كراءها بدراهم، على أن على ربها طعام المكتري وإن لم توصف النفقة لأنه معروف اهـ. انظر المواق. قال ابن جزي في القوانين: ويجوز استئجار الأجير للخدمة والظهر بطعامه وكسوته على المتعارف. وقال أيضاً ولا يجب تقديم الأجرة بمجرد العقد، وإنما يستحب تقديم جزء من الأجرة باستيفاء ما يقابله من المنفعة إلا إن كان هناك شرط أو عادة، أو يقترن بالعقد ما يوجب التقديم، مثل أن تكون الأجرة عرضاً معيناً، أو طعاماً رطباً، وما أشبه ذلك، أو تكون الإجارة ثابتة في ذمة الأجير، فيجب تقديم الأجرة، لأنها بمنزلة رأس المال في السلم. قال الشافعي: تجب الأجرة بنفس العقد اهـ. قال العلامة الجزيري في الفقه على مذهب المالكية: يشترط في الأجر أن يدفع عاجلاً في مسائل بحيث لو أخر دفعه فيها لم يصح العقد: المسألة الأولى: أن يكون الأجر شيئاً معيناً كما إذا استأجر أحد شخصاً لخدمته سنة في نظير جمل معين يعطيه إياه فإنه يجب أن يسلمه الجمل عاجلاً بحيث لا يجوز له أن يؤخره أكثر من ثلاثة أيام فإن أخره فسد العقد لأن في ذك غرراً، فإن الجمل قابل للتغيير، فيصح أن تكون قيمته الآن عشرة وأن خدمة الرجل تساويها، فإذا قبضه فقد أخذ قيمة أجره كاملة، أما إذا تأخر فإنه قد يهزل أو يعرض له عارض آخر تنخفض به قيمته وفي ذلك ضرر بالعامل، أو تعرض له زيادة وفي ذلك ضرر بصاحبه، فدفعاً لهذا الغرر يجب تقديم الأجرة ومثل ذلك كل سلعة معينة كهذا الثوب، فإنها قابلة للنقص والزيادة وفي ذلك غرر

يوجب النزاع، فمتى كان الأجر معيناً فإنه يجب تعجيله حتى ولو كان العرف جارياً على التأجيل في مثله، فإذا كان العرف جارياً على التأجيل فإنه يجب اشتراط التعجيل وإلا فسد العقد. ثم قال: المسألة الثانية: أن يكون الأجر غير معين كما إذا استأجره على أن يعطيه جملاً ما لا جملاً معيناً، أو ثوباً ما، مثاله: أن يقول شخص لآخر استأجرتك لتخدمني سنة وأعطيك جملاً أجرة لك في نظير خدمتي، وهذه الحالة تشتمل على ثلاث صور: الصورة الأولى أن يشترطا دفع الأجرة مقدماً، وحكمها أنه يجب الدفع عملاً بالشرط وإلا فسدت. الصورة الثانية لم يشترطا التعجيل ولكن العادة بين الناس في مثل ذلك التعجيل فيجب التعجيل عملاً بالعادة. الصورة الثالثة لم يقع شرط ولم تكن عادة وهذه تشتمل على صورتين: الصورة الأولى أن يكون عقد الإجارة على منفعة في الذمة لا على منفعة شيء معين، كأن يقول له: استأجرتك على أن تخيط هذا الثوب في ذمتك إن شئت فعلته بنفسك أو بغيرك، فإنه في هذه الحالة استأجره على أن يؤدي له منفعة مضمونة في ذمته. الصورة الثانية أن يستأجر منفعة شيء معين كأن يستأجر شخصاً لخدمته أو داراً لسكناه، ففي الصورة الأولى يجب تعجيل دفع الأجرة وإلا كان مقابلة دين بدين، لأن العامل في هذه الحالة مدين بالمنفعة والمستأجر مدين بالأجر، وهذا غير جائز. نعم إذا شرع العامل في العمل فإن تعجيل الأجر لا يجب، لأن الذي يصنعه العامل يكون مقبوضاً إنما يجب أن يشرع بدون تأخير، كأن يكون الليلة أو لغد وإلا فلا يصح، فإذا لم يكن الأجر معيناً ولم يشترط تعجيله، ولم يجر العرف بتعجيله، ولم تكن المنافع المعقود عليها في الذمة فإنه لا يجب التعجيل. وحكم هذه الحالة يختلف باختلاف حال عقد الإجارة، وذلك لأنك قد عرفت أن العقد إما أن يكون على منفعة آدمي، وهو ثلاثة أقسام: أجير وصانع وخادم، والفرق بين الأجير والصانع أن الأجير هو الذي يعمل بدون أن يكون شيء مما يعمل فيه في

حيازته كالبناء فإنه يبني وينصرف ويترك ما عمله تحت يد المستأجر، ومثله كل صانع يعمل فيما ليس في حيازته كالنجار الذي يصلح الأبواب أو الشبابيك. وأما الصانع فهو الذي يعمل فيما هو تحت يده كالخياط والحداد والصائغ. ثم الصانع ينقسم إلى قسمين: صانع فقط، وصانع بائع، فالصانع فقط هو الذي لا يعمل شيئاً سوى الصنعة بدون زيادة عليها من عنده، والصانع البائع هو الذي يزيد على الصنعة شيئاً كالصباغ فإنه يزيد الصبغة. وأما الخادم فهو الذي يستأجر لخدمة الغير. وإما أن يكون عقد الإجارة على منفعة دار أو عقار أو حيوان أو آنية، فإن كان على منفعة آدمي صانع أو أجير فحكمه أنه ليس لهما المطالبة بأخذ الأجر إلا بعد الفراغ من عملهما، ما لم يكن هناك عرف يقضي بالتعجيل فإنهما يعاملان به، فإذا عمل النجار جزءاً من عمله مثلاً وأراد أخذ أجرته وامتنع المستأجر فليس له جبره على الدفع إلا بعد تمام العمل، إلا إذا كانت العادة تقديم الدفع فيعمل بها، فإذا أراد أن ينفصل عن العمل ولا يتمه فإن له أن يحاسب على ذلك الجزء الذي عمله. أما إذا كان العقد على منفعة دار أو عقار أو راحلة أو آدمي للخدمة أو آنية - كآنية الفراشين - فإنه يصح فيها الاتفاق على تقديم الأجرة. وتأخيرها يشترط ألا يتأخر الشروع في العمل أكثر من عشرة أيام، وإلا فلا يصح تعجيل الدفع، فإذا لم يحصل اتفاق تدفع الأجرة يوماً بيوم وبذلك نعرف أقسام الإجارة اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويجوز كل سنة بكذا، ولكل الترك، ويلزم من الأجر بحسابه " يعني كما في القوانين، وقال: وأما الرباع فتكون مياومة ومشاهرة ومسانهة إلى سنة أو سنين لا تتغير في مثلها. ويقع الكراء فيها على وجهين: أحدهما تعيين المدة فيلزمهما وليس لأحدهما حل الكراء إلا برضا الآخر. والثاني إبهام المدة، كقوله: أكري بكذا وكذا للشهر، فلكل واحد منهما حل الكراء متى شاء، ويؤدي من الكراء بحسب ما سكن، ومثل ذلك قال ابن الماجشون، إلا أنه قال يلزمهما الشهر

الأول، فإن انهدم جميعاً انتقض الكراء وإن انهدم بعضها لم يلزم ربها إصلاحها عند ابن القاسم خلافاً لغيره، ويجوز كراؤها من ذمي إذا لم يشترط فيها بيع الخمر والخنزير اهـ. قال الدردير عاطفاً على الجائزات: ومشاهرة ولا تلزمهما إلا بنقد أي من المكترى فقدره كالوجيبة بشهر كذا، أو هذا الشهر، أو شهراً، أو سنة، أو إلى كذا، فالمعنى أنه جاز الكراء مشاهرة وهو ما عبر فيه بلفظ كل، نحو كل يوم، أو كل جمعة أو كل شهر، أو كل سنة بكذا. ولا يلزمهما عقدها فلكطل منهما حله عن نفسه متى شاء ولا كلام للآخر، وهو قول ابن القاسم في المدونة، وهو أحد أقوال ثلاثة، حاصلهما: أن القول الأول لا يلزم الكراء في الشهر الأول ولا فيما بعده، وللمكتري أن يخرج متى شاء، ويلزمه من الكراء بحساب ما سكن، وهذا القول هو الذي ذهب إليه كثير من أهل المذهب كالمصنف. والقول الثاني: يلزمهما المحقق الأقل كالشهر الأول لا ما بعده. والقول الثالث: يلزم الشهر إن سكن بعضه. قال الشيخ مياره، وبهذا الأخير جرى العمل عندنا أي بفارس وهذه الأقوال الثلاثة داخلة في الكراء مساناة اهـ. نقله الصاوي عن البناني. قال رحمه الله تعالى: " وتمكن الاستيفاء يوجب الأجرة وإن لم يستوف حتى انقضت، إلا أن تكون مضمونة فعليه أجرة المثل للماضي والإجازة بحالها " يعني إذا اكترى شيئاً معيناً كهذا البيت فلا يستحق الأجرة بمجرد العقد، بل بالتمكن من الاستيفاء في حصول المنفعة، وإذا تمكن من الاستيفاء ولم يستوف بنفسه ولا بغير حتى انقضت مدة الكراء فإن المكري يطالبه بدفع ما مضى من الكراء من وقت التمكن ولو لم يسكن إن كان داراً أو غيرها من المعينات، كهذه الدابة وهذه الأرض، أي أرض الزراعة مثلاً. وأما لو كان الكراء مضموناً فإنه يلزم المكتري دفع أجرة المثل للماضي من يوم التمكن للاستيفاء والإجارة بحالها كما هي، وإليه أشار خليل بقوله: ولزم الكراء بالتمكن وإن فسد لجائحة أو غرق بعد وقت الحرث أو عدمه بذراً، أو

سجنه، أو انهدمت شرفات البيت، أو سكن أجنبي بعضه، لا إن نقص من قيمة الكراء، وإن قل أو انهدم بيت فيها، أو سكنه مكريها، أو لم يأت بسلم للأعلى، أو عطش بعض الأرض، أو غرق فبحصته اهـ. قوله: لا إن نقص يريد إذا قام بذلك، فإن سكت وسكن ولم يقم به فلا شيء له قاله في المدونة. وحاصل مذهب المدونة في ذلك أنه إذا انهدم شيء من الدار قليلاً كان أو كثيراً لم يجبر ربها على إصلاحه مطلقاً كما في التوضيح، ثم ينظر فيه، فإن كان فيه مضرة على الساكن فله الخيار بين أن يسكن بجميع الكراء أو يخرج، فإن خرج ثم عمرها ربها لم يلزمه الرجوع إليها، وإن عمرها وهو فيها لزمه بقية الكراء، وإن سكن الدار مهدومة لزمه جميع الكراء، وإن كان لا ضرر على المكتري في السكنى فالكراء له لازم، وينظر إلى المتهدم فإن نقص من قيمة الكراء حط ذلك النقص إذا قام به المكتري ولم يصلحه رب الدار، فإن سكت وسكن فلا شيء له، وإن لم ينقص من قيمة الكراء شيئاً فلا كراء له والله أعلم اهـ. قاله الحطاب. قال ابن جزي: ويوجب الفسخ وجود عيب أو ذهاب محل المنفعة كانهدام الدار كلها أو غصبها، فإن انهدم بعضها لم ينفسخ الكراء ولم يجبر رب الدار على إصلاحها، وحط عن المكتري ما ينوب المنهدم عند ابن القاسم. وقال غيره: يجبر على إصلاحها ولا ينفسخ بموت أحد المتعاقدين ولا بعذر طارئ على المكتري، مثل أن يكتري حانوتاً فيحرق متاعه أو يسرق، خلافاً لأبي حنيفة في المسألتين. وإن ظهر من مكتري الدار فسوق أو سرقة لم ينفسخ الكراء ولكن السلطان يكف أذاه، وإن رأى أن يخرجه أخرجه وأكراها عليه ويبيعها على مالكها إن ظهر ذلك منه ويعاقبه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وكري الحج إن أخلف اكترى الحاكم عليه، وإن أخلف المكتري اكتري مكانه والزيادة والنقص له وعليه، فإن فات الوقت

قبل الحكم انفسخت " يعني - كما في المدونة - أنه قال: أرأيت إن رفعت إلى السلطان أمري حين هرب المكري أيكترى لي عليه أم لا؟ قال نعم يكترى لك عليه، وقلت: وكذلك لو ذهب المكتري فرفع الجمال ذلك إلى السلطان أيكري الإبل على المكتري إلى مكة كان الكراء أو غير ذلك؟ قال: نعم. وما ذكرت لك من الرفع إلى السلطان في الهرب وكراء السلطان عليهما فهو قول مالك. وقال قبل ذلك: كل كراء مضمون فإنه يلزم صاحبه الكراء وإن فر عنه المكري، وليس له على المكري إلا حمولته عليه والكراء لازم له إلا كراء الحاج وحده فإنه يفسخ عنه ويرد كراؤه إن كان قبضه، لأن الحج إذا ذهب إبانه فات اهـ. وعن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: من تكارى وشرط البلاغ ثم قصرت الدابة استكرى عليه بما قام، وإن لم يشترط البلاغ فمن حيث قصرت الدابة حسب لصاحبها بقدره اهـ المدونة. ثم قال رحمه الله تعالى: " وتنفسخ بتعذر الاستيفاء كتلف العين، وامتناع المؤجر من التسليم، وموت الأجير والرضيع والعليل، وانسلاخ السن، وغرق أرض الزرع في إبانه، وانقطاع شربها، وتلف زرعها لفسادها " يعني تنفسخ الإجارة بالأشياء المذكورة، وتقدم ذكر بعضها عن قريب، وهي أنها تنفسخ بوجود العيب وذهاب محل المنفعة كانهدام الدار كلها وغصبها، وكذلك تنفسخ بتعذر الاستيفاء كامتناع الؤجر من تسليمها، وموت الأجير كما تقدم، وبموت الرضيع قبل تمام مدة الرضاع، ومثله موت العليل الذي استأجر الطبيب فمات قبل استعمال ذلك عليه قال الحطاب في المستثنيات التي تنفسخ الإجارة بها: والطبيب يوافق على معافاة العليل مدة فيموت قبلها اهـ. ومما تنفسخ به انسلاخ السن أو سكونه، قال خليل: وسن القلع فسكنت أي أن الإجارة تنفسخ بسكون ألم السن المستأجرعلى قلعها اهـ نقله المواق.

ومما تنفسخ به ما ذكره المصنف من تغريق الزرع وانقطاع الماء في إبانه. وكل ذلك مما تنفسخ به الإجارة. قال الجريري: أما الأرض التي غمرها الماء فإن كان يمكن أن ينكشف عنها ولو نادراً فإنه يصح إجارتها من غير نقد، فإذا انكشف عنها الماء نقده إجارتها وإلا فلا، أما التي لا أمل في انكشاف الماء عنها فإن إجارتها لا تصح على أي حال، أي إن وقعت فسخ. وحاصل ما ذكره الجريري مما تنفسخ به الإجارة على المذهب أنه قال: ينفسخ عقد الإجارة بأمور: أحدها: أن تتلف العين المتعلقة بها المنفعة المطلوبة بحيث لا يمكن للمستأجر أن يستوفيها كما إذا استأجر سخص من آخر داراً فانهدمت، أو اكترى دابة فماتت فإن العقد في هذه الحالة ينفسخ، لأن المستأجر لا يمكنه أن يستوفي المنفعة التي عقد من أجلها. ثانيها: أن يستأجر شخص آخر على قلع ضرس فيسكن ألم الضرس قبل قلعه، أو على عملية جراحية فيزول الألم قبل عملها، فإنه في هذه الحالة ينفسخ العقد. أما إذا لم يسكن الألم فإن المستأجر يلزمه دفع الأجرة وإن لم يعمل من غير أن يجبر على قلع ضرسه أو شق دمله مثلاً. ثالثها: أن تغصب الدار المستأجرة مثلاً أو تغصب منفعتها ولا يمكن تخليصها منه بالحاكم أو بشيء آخر. رابعها: أن يأمر الحاكم بإغلاق الدكاكين أو هدمها مثلاً فإن الإجارة تنفسخ بذلك. خامسها: تنفسخ إجارة المرضع بظهور حملها أو حصول مرض لها لا تقدر معه على إرضاع الطفل كما تقدم. سادسها: تنفسخ بمرض خادم عجز عن عمل ما استؤجر عليه، فإن عوفي بعد ذلك قبل انقضاء المدة فإن الإجارة تعود ويكمل باقي العمل، أما إذا استأجر دابة فمرضت ثم صحت أثناء المدة فإن الإجارة لا ترجع لما يلحق المستأجر من الضرر في السفر بالانتظار. سابعهما: تنفسخ الإجارة ببلوغ الصبي وهو رشيد. ويأتي تفصيله إن شاء الله. ثامنهما: ينفسخ عقد إجارة الوقف إذا مات

مستحقه الذي أجره قبل موته مدة قبل انقضاء تلك المدة، أما إذا مات المؤجر المالك أو المستأجر فإن العقد لا ينفسخ بموتهما ولا بموت أحدهما ويحل الوارث محلهما في استيفاء المنفعة، انظر بقية كلامه في الفقه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " لا بجائحة وعدم نباته " قال ابن جزي في القوانين: ولا يحط الكراء بما يصيب الزرع من جائحة غير القحط، ولا يجوز النقد إلا في الأرض المأمونة اهـ. يعني أن الإجارة والكراء لا ينفسخان بجائحة ولا بعدم إنبات البذر من الأرض، ونقل المواق عن سحنون أنه قال: الجائحة من المكتري، وقال ابن حبيب: في ذلك تفصيل. قال ابن يونس: ليس هذا كله بشيء لأن كل ما منع المكتري من السكنى من أمر غالب لا يستطيع دفعه من سلطان أو غاصب فهو بمنزلة ما لو منعه أمر من الله كانهدام الدار أو امتناع ماء السماء، حتى منعه حرث الأرض فلا كراء عليه في ذلك كله، لأنه لم يصل إلى ما اكترى. وقال أضبغ: من اكترى رحا سنة فأصاب أهل ذلك المكان فتنة جلوا بها من منازلهم وجلا معهم المكتري أو بقي آمناً إلا أنه لا يأتيه الطعام لجلاء الناس فهو كبطلان الرحا بنقص الماء أو كثرته، ويوضع عنه قدر المدة التي جلوا عنها، وكذلك الفنادق التي تكرى لأيام الموسم إذا أخطأها ذلك لفتنة نزلت أو غيرها، بخلاف الدار تكرى ثم ينجلون لفتنة وأقام المكتري آمناً، أو رحل للوحشة وهو آمن، فإن هذا لا يلزمه الكراء كله، ولو انجلى للخوف سقط عنه الكراء مدة الجلاء اهـ. وفي المدونة فيمن اكترى الأرض ومنعه عن الزرع مانع قال مالك: إذا اكتراها الرجل فجاءه من الماء ما يمنعه الزرع أنه لا كراء عليه فإن كان قد زرعها ثم جاءه الماء فغرق زرعه في أيام الحرث وهو لو أن الماء انكشف عن الأرض كان يقدر على الحرث، لأن إبان الحرث لم يذهب، فمنعه الماء من أن يعيد زرعه فلا كراء عليه، وإن كان أصابها في زمان الحرث فهلك زرعه ثم انكشف الماء في إبان يدركه فيه

الحرث فالكراء له لازم لأنه يدرك أن يزرع، وليس هذا بمنزلة ما أصابها بعد ذهاب أيام الحرث، وذلك مثل الجراد والجليد والبرد، والكراء لازم اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وفي انقضاء مدة الغرس يخير ربها بين خلعه وأخذه بقيمته مقلوعاً أو تركه بأجرتها " يعني أنه إذا انقضت مدة الغرس يخير رب الأرض بين أن يدفع لصاحب الغرس قيمة غرسه مقلوعاً أو يتركه ويأخذ كراء السنة، ومثله من استحق الأرض بعد الغرس أو البناء من ذي شبهة، قال في المدونة: من اكترى أرضاً سنين للبناء أو الغرس فبنى أو غرس ثم قام مستحق قبل تمام المدة فللمستحق أن يجيز كراء بقية المدة أو يفسخ، فإن أجاز فله حصة الكراء من يومئذ، ثم له بعد تمام المدة أن يدفع إلى المكتري قيمة البناء والغرس مقلوعاً، قال ابن المواز: بعد طرح أجر القلع، إذ على ذلك المكتري، وإن فسخ الكراء قبل تمام المدة لم يكن له قلع ذلك ولا أخذه بقيمته مقلوعاً، ولكن يقال له: ادفع قيمة البناء والغرس قائماً يريد على أن يقلع إلى وقته، فإن أبى قيل للمكتري: أعطه قيمة أرضه، فإن أبى كانا شريكين اهـ. نقله المواق، وفيها أيضاً: أرأيت إن استأجرت أرضاً سنين مسماة فغرست فيها شجراً فانقضت السنون وفيها شجري فاكتريتها كراء مستقبلاً سنين أيضاً أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: قال مالك: نعم لا بأس بذلك اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وتجوز إجارة المشاع كبيعه " يعني أنه يجوز إجارة الشيء المشاع قبل القسم، قال في المدونة: سمعت مالكاً سئل عن رجل اكترى نصف دار مشاعاً غير مقسوم، قال لا بأس بذلك قلت: هل يجوز أن يكري نصف دار أو سدس دار مشاعاً غير مقسوم؟ قال: هو جائز. قال ابن القاسم: ولقد سألت مالكاً عن الرجلين يكتريان داراً فيريد أحدهما أن يكري نصيبه منها من رجل

من غير شريكه أترى لشريكه فيها شفعة؟ فقال: لا شفعة له، ولا يشبه هذا عندي البيع، فهذا من قول مالك يدلك على أن الكراء في نصف الدار إن كان غير مقسوم أنه جائز وكذلك بلغني عن مالك اهـ. وتقدم الكلام على جواز بيع المشاع في آخر الكلام على بيع الغائب عند قول المصنف: ويجوز بيع المشاع فراجعه إن شئت. قال رحمه الله تعالى: " ولا ضمان على رب السفينة والحمام إلا بالتعدي. وهل يلزم من أجرتها بحسب الماضي؟ قولان " يعني كما في الرسالة، ونصها: ولا ضمان على صاحب الحمام ولا ضمان على صاحب السفينة ولا كراء له إلا على البلاغ. قال شارحها: والمعنى أن حارس الحمام لا ضمان عليه في الثياب التي تضيع، وكذا غير الثياب ولو أخذ على ذلك أجرة، لأنه أجير والأجير أمين. وظاهره أنه يستحق الأجرة ولو ضاعت الثياب. ومحل عدم الضمان إذا لم يحصل منه تفريط وإلا ضمن. ومثل حارس الحمام غيره من حراس البساتين وغيرها لا فرق بين كون المحروس طعاماً أو غيره، وسواء مما يغاب عليه أو غيره. وأيضاً إن محل عدم الضمان للثياب وغيرها إن لم يجعلها ربها رهناً تحت الأجرة، و \غلا ضمنها ضمان الرهان. وأما صاحب السفينة كذلك فإنه لا ضمان عليه أيضاً في جميع ما كان فيها من مثال أو نفس إذا غرقت بفعل سائغ فعله فيها من علاج أو موج أو ريح، وأما إن غرقت بفعل غير سائغ فإنه يضمن المال والدية في ماله على المذهب وقيل: الدية على عاقلته. وهذا كله حيث لم يقصد قتل الأنفس وإلا قتل بهم اهـ. بحذف واختصار كما يأتي عند قول المصنف: وإلقاء الأمتعة خوف الغرق. وعبارة الدردير في أقرب المسالك أنه قال: وهو أمين فلا ضمان عليه ولو شرط إثباته أو عثر بدهن أو غيره أو بآنية فانكسرت، أو انقطع الخيل ما لم يتعد أو يغر بفعل. حكارس ولو حمامياً وأجير لصانع، وسمسار خير، ونوتي غرقت سفينته بفعل سائغ وإلا ضمن، كراعٍ خالف مرعى شرط، أو أنزى بلا إذن اهـ. قوله: وهل يلزم من أجرتها إلخ قال ابن جزي:

وكراء السفن من الجعل فلا تلزم الأجرة إلا بالبلوغ خلافاً لابن نافع اهـ. وتقدم مثله في الرسالة قال الدردير فقرب المسالك: والأصح أن كراء السفن بالبلاغ إلا أن يتم العمل غيره فللأول بحسب كرائه يعني كما إذا كان كراء الأول عشرة وغرقت في نصف الطريق فاستأجر عليها بعشرين فليس للأول إلا خمسة اهـ بطرف من الصاوي. قال رحمه الله تعالى: " كتلف الدابة بالمتاع في بعض المسافة، ولا الراعي فيما تلف، أو ذبحه خوف موته، بخلاف أكله " يعني أنه لا ضمان على المكتري بتلف الدابة بما عليها من المتاع. وكذلك لا ضمان على الراعي بموت غنم الرعية على ما يأتي من التفصيل في ذلك. قال العلامة الشيخ أحمد النفراوي في الفواكه: تلخص مما ذكرناه في الكلام على الراعي وعلى المكتري التصديق في الهلاك أو الضياع بعد حلف المتهم دون غير ولا فرق بين كون الذات المكتراة مما يغاب عليها كالثوب والوعاء، أو لا يغاب عليها كالدابة. وأما لو ذبح واحد الذات التي تحت يده فتقدم أنه يصدق الراعي في ذبحه لخوف موت ما ذبحه، بخلاف المكتري لنحو ثور فإنه لا يصدق أنه ذبحه لخوف موته إلا بلطخ أو بينة. ومثله المستعير والمرتهن والشريك والمودع وإن كانوا يصدقون في دعوى التلف أو الضياع، ولعل الفرق بين هؤلاء وبين الراعي - مع كون الجميع مؤتمنين - تعذر الإشهاد من الراعي غالباً بخلاف هؤلاء ف\غنهم لا مشقة عليهم في الإشهاد غالباً. وأحرى من هؤلاء في الضمان من مر على دابة شخص فذكاها وادعى أنه إنما فعل ذلك خوف موتها، أو سلخ دابة غيره وادعى أنه وجدها ميتة فلا يصدق إلا ببينة أو لطخ. وكل من ترك الذبح من هؤلاء حتى ماتت الدابة فلا ضمان عليه إلا إذا كان عنده من يشهد على ذبحهما خوف الموت، كما يضمن الراعي بترك ذكاتها وشهادة البينة عليه بتفريط اهـ. قال العلامة الجزيري: الأصل فيمن استولى على شيء بإجارة أو كراء أن يكون أميناً

ولا ضمان على الأمين فيما يتلف أو يضيع منه، بشرط ألا يتعدى على ما بيده أو يهمل في صيانته، ويصدق في دعوى التلف أو الضياع سواء كان بيده من الأشياء التي لا يمكن إخفاؤها بسهولة كالجمال والبقر ونحوها. ويعبرون عنها بما لا يغاب عليه، أو كان من الأشياء التي يمكن إخفاؤها كالنقود والثياب ونحوها. ويعبرون عنها بما يغاب عليه. ويستثنى من هذه القاعدة أمران: أحدهما الأكرياء على حمل الطعام والشراب بخصوصه. ثانيهما: الصناع، فأما الأكرياء: كالحمالين أي الشيالين والعربجية ونحوهما فإنهم يضمنون ما تلف منهم أو ضاع من الطعام خاصة كالقمح والأرز والعسل والسمن والفواكه الرطبة والجافة وغير ذلك من كل ما يؤكل. وكذلك ما يشرب كالزجاجة التي فيها أشربة، وذلك لأن الطمع في مثل هذه الأشياء كثير، والأيدي تمتد إليها بسهولة، فمن اللمصلحة أن يضمنها الحمالون صيانة لأموال الناس، إنما يضمنون بشرطين: الأول أن يكون التلف أو الهلاك حاصلاً بسببهم كما إذا أهمل أحد في حفظها بأن ربطها بحبل واه فانقطع الحبل فانكسرت أو طرحها بعنف فسقطت فانكسرت أو نحو ذلك. وأما إذا حصل ذلك لأسباب قهرية كأن عثرت رجله أو رجل دابته فانكسر الإناء وتلف ما فيه من سمن أو عسل أو غيره فإنه لا يضمن، إلا إذا ساق دابته بشدة غير معتادة، أو سار سيراً سريعاً غير معتاد فإنه في هذه الحالة يكون متسبباً فعليه الضمان. الشرط الثاني ألا يكون صاحب الطعام المحمول معه، فمن أجر حمالاً ليحمل له فاكهة وصاحبه في سيره إلى منزله فتلفت الفاكهة من الحمال فإنه لا يكون مسؤولاً عنها في هذه الحالة، لأنه لم يسلمها للحمال ويتركه وشأنه، بل لازمه في سيرها وحفظها فلا ضمان على الحمال سواء كان حاملاً على سفينة أو دابة أة عربة، أو كان حاملاً بنفسه أي على رأسه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ومن استعان عبداً أو صبياً بغير إذن ضمنه، فإن سلم فلوليه أجرة مثله لا في غير متلف كمناولة ثوب ونحوه " بمعنى كما في المدونة،

ونصها: أرأيت لو أن صبياً أجر نفسه وهو صغير بغير إذن وليه أتجوز هذه الإجارة أم لا؟ قال: لا تجوز الإجارة له، فإن عمل فله ما سمي، إلا أن تكون إجارة مثله أكثر فيكون له إجارة مثله أي لوليه وكذلك العبد. قال: فإن عطب الصبي أو الغلام ماذا على المستأجر؟ قال: إذا استعملهما عملاً يعطبان فيه فهو ضامن لقيمة العبد يوم استعمله، أو الكراء، وسيد العبد مخير في ذلك إن شاء أخذ الكراء ولا شيء له من قيمة العبد، وإن شاء أخذ قيمة العبد بالغة ما بلغت ولا شيء له من الكراء. وأما في الصبي الحر فعلى المتكاري أجر ما عمل الصبي الأجر الذي سميا إلا أن يكون أجر مثله أكثر مما سميا، وتكون على عاقلته الدية، لأن الحر في هذا ليس بمنزلة العبد، لأن الحر لا تخير ورثته كما يخير سيد العبد، لأن العبد سلعة من السلع والحر ليس بسلعة من السلع، لأن الدية لازمة في الحر على كل حال، وهي السنة أن الدية لازمة. قال مالك: ومن استعمل عبداً عملاً شديداً فيه غرر بغير إذن أهله فعمله فعليه فيه الضمان إن أصيب، وإن كان العبد قد أرسل في الإجارة وذلك أنه إنما أذن له من الإجارة فيما تجري فيه الأعمال وتؤمن فيه البلايا ولم يؤذن له في الإغرار كالبئر التي قتلت أهلها حمأة وأشباه ذلك، وإن خرج به سفراً بغير إذن سيده فهو ضامن له. وعن ربيعة أنه قال: يضمن العبد فيما استعين عليه من أمر ينبغي في مثله الإجارة فهو لما أصابه ضامن. وما كان من صبي أو عبد استعين بهما لا ينبغي فيه الإجارة، كالرجل يقول: ناولني نعلي، أو ناولني قدحاً أو كأشباه ذلك فليس في هذا عقل اهـ. ثم ذكر الصناع فقال رحمه الله تعالى: " ويضمن الصانع ما غاب عليه وإن عمل بغير أجر لا ما عمله بحضرة

ربه أو صدقه أو قامت به بينة ولا أجرة له، وأوجبها ابن المواز " يعني كما في الرسالة ونصها: والصناع ضامنون لما غابوا عليه عملوه بأجر أو بغير أجر اهـ. يعني أن الضمان لازم على الصناع سواء صنعوا بأجرة أو بغير أجرة، وسواء صنعوه في الحوانيت أو البيوت، تلف بصنعهم أو بغير صنعهم. قال النفراوي في الفواكه: ولضمان الصانع شروط منها أن ينصب نفسه للصنعة لعامة الناس، فلا ضمان على الصانع الخاص بجماعة. ومنها أن يغيب على الذات المصنوعة، لا إن صنعها ببيت ربها ولو بغير حضرته أو بحضرته ولو في محل الصانع فلا ضمان. ومنها أن يكون المصنوع مما يغاب عليه بأن يكون ثوباً أو حلية، فلا ضمان على معلم الأطفال أو البيطار إذا ادعى الأول هروب الولد والثاني هروب أو تلف الدابة. ومنها ألا يكون في الصنعة تغرير وإلا فلا ضمان كنقش الفصوص، وثقب اللؤلؤ، وتقويم السيف، وحرق الخبز عند الفران، وتلف الثوب في قدر الصباغ وما أشبه ذلك، كالبيطار يطرح الدابة لكيها مثلاً فتموت، وكالخاتن لصبي يموت عند ختنه، والطبيب للمريض يموت تحت يده، والحاجم يستأجر لقلع الضرس فلا ضمان على واحد من هؤلاء لا في ماله ولا على عاقلته حيث لم يحصل تقصير ولا خطأ في الصنعة، فإن كان من أهل المعرفة ولكن أخطأ فخطؤه على العاقلة إن بلغت الجناية الثلث، وإلا كانت في ماله، كما لو لم يكن من أهل المعرفة وغر من نفسه فإن عليه الدية من ماله، والعقوبة من الإمام في بدنه. ومنها ألا تقوم بينة على ما ادعاه من تلف أو ضياع وإلا فلا ضمان، وتسقط الأجرة عن رب المصنوع حيث لم يحصل منه تفريط في حفظه. ومنها ألا يكون الصانع أحضره لربه مصنوعاً على الصفة المطلوبة ويتركه ربه اختياراً فيضيع وإلا فلا ضمان حيث كان إحضاره بعد دفع الأجرة، لأنه صار كالوديعة، بخلاف ما لو أحضره على غير الصفة أو دعاه لأخذه من غير إحضار، أو

أبقاه عنده حتى يقبض الأجرة ثم يدعي ضياعه بعد ذلك فإنه يضمنه اهـ باختصار وأما قوله ولا أجرة إلخ وهو كذلك على المشهور. وقيل: له أجرته وإليه ذهب محمد بن المواز القائل بوجوبها مع تلف المصنوع. وعبارة ابن جزي في موجبات الضمان أنه قال: (السابع) تضمين الصانع فيضمنون ما غابوا عليه سواء عملوه بأجرة أو بغير أجرة، ولا يضمنون ما لم يغيبوا عليه، ولا يضمن الصانع الخاص الذي لم ينصب نفسه للناس. وقال أبو حنيفة: لا يضمن من عمل بغير أجرة. وللشافعي في ضمان الصانع قولان، فإن قامت بينة على التلف سقط عنهم الضمان. واختلف هل تجب لهم أجرة إذا كان هلاكه بعد تمام العمل أم لا؟ قولان في المذهب. وكذلك يضمنون كل ما جاء على أيديهم من حرق أو كسر أو قطع إذا عمله في حانوته، إلا في الأعمال التي فيها تغرير كاحتراق الثوب في قدر الصانع، واحتراق الخبز في الفرن، وتقويم السيوف فلا ضمان عليهم فيها إلا أن يعلم أنهم تعدوا، ومثل ذلك الطبيب يسقي المريض أو يكويه فيموت، والبيطار يطرح الدابة فتموت، والحجام يختن الصبي أو يقلع الضرس فيموت صاحبه، فلا ضمان على هؤلاء لأنه مما فيه التغرير. وهذا إذا لم يخطئ في فعله فإن أخطأ فالدية على عاقلته وينظر فإن كان عارفاً فلا يعاقب على خطئه، وإن كان غير عارف وعرض نفسه فيؤدب بالضرب والسجن، ولا ضمان على صاحب السفينة والحمام بغير تقصير كما تقدم اهـ انظر القوانين لابن جزي. قال رحمه الله تعالى: " وإذا ادعى الإيداع والصانع والاستصناع أوالعمل بغيرأجرة، والصانع الأجرة؛ أو صفة والصانع غيرها، فالقول قول الصانع مع يمينه " يعني إذا اختلف الصانع ورب المتاع بأن قال: أودعته عندك فقال الصانع: بل للاستصناع فها هو مصنوع خالصاً كما أمرتني فالقول قول الصانع بيمينه، أو اختلفا في أصل الأجرة وعدمها فالقول قول الصانع بيمينه، أو اختلفا في صفة المصنوع

فالقول في جميع ذلك للصانع مع يمينه. قال في المدونة: أرأيت لو أن رجلاً دبغ جلداً لرجل، أو خاط ثوباً لرجل، أو صاغ حلياً لرجل، أو عمل قلنسوة لرجل، أو عمل بعض ما يعمل أهل الأسواق لرجل، فأتى رب الجلد والثوب والفضة والذهب وهذه الأشياء التي وصفت لك، فقالوا للعامل: إنما استودعناك هذه الأشياء ولم نستعملك، قال: القول قول العامل ولا يلتفت إلى قول أرباب تلك السلع في إنما استودعوها. وقال غيره العامل مدع، قلت: لابن القاسم: ولم جعل مالك القول قول الصانع؟ قال: لأنهم يأخذون ولا يشهدون، وهذا أمرهم فيما بينهم وبين الناس، فلو جاز هذا القول لهم لذهبوا بما يعملون له باطلاً فلا يكون القول قول رب المتاع. قال ابن القاسم: ولقد سألت مالكاً عما يدفع إلى الصناع ليعملوه فيقروا أنهم قد قبضوه وعملوه وردوه إلى أربابه بعد الفراغ منه والقبض له، قال مالك: إذا أقر أنه قد قبض المتاع فهو ضامن إلا أن يقيم البينة أنه قد رده. قال: ولو جاز هذا للصناع لذهبوا بمتاع الناس اهـ ونقل القاضي إبراهيم ابن فرحون عن مختصر الواضحة قال: وما أصاب الثياب عند القصار أو الصباغ أو الخياط من قرض الفأر أو لحس السوس فعرف ذلك وبين للناظر إليه فلا ضمان عليهم فيه، وإن ادعى صاحب الثياب أن الصانع أضاع الثوب وفرط حتى أصاب ذلك وزعم الصناع أنهم لم يفرطوا ولم يضيعوا فالقول قولهم، وعلى أصحاب الثياب البينة أنهم ضيعوا؛ لأن قرض الفأر أو لحس السوس أمر غالب، ولا يلزم أحداً دعوى التعدي إلا ببينة تشهد عليه. قال: فظل ابن القاسم يقول: القول قول أصحاب الثياب. وإن أشكل أنه قرض فأر فالصانع ضامن حتى تقوم البينة أنه قرض فأر أو لحس سوس وكله قول مالك اهـ تبصرة. قال رحمه الله تعالى: " والأجرة كالثمن وتجوز عيناً ومنفعة، ويلزم بالفساد أجرة المثل " يعني أنه يشترط في الأجرة شروط كشروط الثمن؛ لأنها لا تصح إلا

بالطاهر المنتفع به المقدور على تسليمه المعلوم كما تقدم في البيع. ويجوز أن تكون عيناً ومنفعة، ثم إذا وقعت اإجارة أو الكراء فاسداً لزم الرجوع إلى أجرة المثل أو كراء المثل بعد الفسخ أو الفوات كالبيع. قال ابن جزي في القوانين: المسألة السادسة إذا وقع الكراء والإجارة على وجه فاسد فسخ، فإن كانت المنفعة قد استوفيت رجع إلى كراء المثل أو أجرة المثل اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وتجوز إجارة الخادم والظئر بطعام وكسوته ويلزم المشبه " يعني كما تقدم لابن جزي أنه قال: ويجوز استئجار الأجير للخدمة والظهر بطعامه وكسوته على المتعارف اهـ. قال مالك: لا بأس أن يؤاجر الحر العبد أجلاً معلوماً بطعام في الأجل أو بكسوته. وكذلك إن كان مع الكسوة أو الطعام دنانير أو دراهم أو عروض بعينها معجلة فلا بأس به، وإن كانت عروضاً مضمونة بغير عينها جاز تأخيرها إن ضربا لذلك أجلاً كأجل السلم اهـ نقله المواق. قال رحمه الله تعالى: " ويلزم من خدمة الطفل مقتضى العرف " يعني إذا عقد الإجارة لخدمة الطفل فإنما يعتبر في ذلك بالعرف، ومثل العرف الشرط وذلك كغسل خروقه وثيابه وبدنه ومسح قذراته وغير ذلك من قيام بشأنه كما تقدم ذلك في الحضانة. قال رحمه الله تعالى: " ويجوز كراء الدابة إلى موضع معين على إن وجد حاجته دونها لزمه بحسابه " يعني كما قال الجزيري في فقه المذاهب: أنه يجوز أن يستأجر دابة أو داراً إلى مدة معينة بأجرة معلومة بشرط أنه إن استغنى عنها أثناء هذه المدة سلمها لصاحبها وحاسبه بقدر المدة التي سكن فيها إن كانت داراً أو المسافة التي قطعها بها إن كانت دابة، وهذا وإن كانت المنفعة التي باعها المالك مجهولة فيه لعدم بيان المدة إلا أن الجهالة فيها يسيرة، فإن المعتاد أن الذي يستأجر شيئاً من ذلك إنما يعمل حسابه فلا يستغني عنه غالباً، وإن استغنى عنه فإنما يستغني عنه في أخريات المدة فيغتفر تسهيلاً

للعامل، ولكن يشترط ألا يدفع المستأجر للمالك الأجرة؛ لأنه إن دفعها له يحتمل أن يرجع بعضها إن لم يستوف المدة، ويحتمل ألا يرجع إن استوفاها فيكون تارة أجرة وتارة سلفاً وهو ممنوع اهـ. قال رر: " ولا يجوز كراء أرض الزرع بمطعوم ولا ببعض ما تنبته من المزروعات " أي لا يجوز بمعنى يمنع كراء الأرض بالمطعومات، ولا بما تنبته الأرض من المزروع إلا ما استثنى مما يطول مقامه فيها كالعود والصندل ونحوهما، كما في الزرقاني على الموطأ. قال خليل عاطفاً على الإجارة الفاسدة وكراء أرض بطعام أو بما تنبته، إلا كخشب. قال الدردير: أو لم تنبته كلبن وسمن وعسل. وكذلك الشاة المذبوحة والحيوان الذي لا يرى إلا للذبح كخصي المعز والسمك وطير الماء، وكذلك الحيوان الذي يراد للبن كل ذلك مما لا يجوز كراء الأرض به. بخلاف كرائها بالحيوان الذي يراد للقنية لغير اللبن فيجوز، كجوازها بالماء ولو ماء زمزم، ومثله كراؤها لغي الزراعة بطعام، وكذا يجوز بيعها ولو بطعام. قال الصاوي في البيوع. تنبيه: يجوز بيع أرض الزراعة بالطعام لحماً أو غيره، لأن المنهي عنه إنما هو كراؤها به، أي وعلة المنع في كرائها بطعام أنه يؤدي إلى بيع الطعام بطعام إلى أجل وهو ممنوع اهـ مع طرف من الدردير. قال رحمه الله تعالى: " ويجوز اشتراط ثمرة شجرة الدار بشرط كون قيمتها ثلث الأجرة فدونها " يعني كما في عبارة خليل: واغتفر ما في الأرض ما لم يزد على الثلث بالتقويم. قال المواق: المعنى أن من اكترى أرضاً أو داراً فيها شجر مثمر فاشتراط المكتري إدخال الشجر المذكور في عقد الكراء فإن ذلك جائز حيث كانت قيمته الثلث فأقل. قال ابن القاسم في المدونة: ومن اكترى داراً أو أرضاً فيها سدرة أو دالية، أو كان في الأرض نبت من نخل أو شجر ولا ثمرة فيها حينئذ أو فيها ثمرة لم تزه

فالثمرة للمكري. إلا أنه إن اشترط المكتري ثمرة ذلك فإن كانت تبعاً مثل الثلث فأقل فذلك جائز. ومعرفة ذلك أن يقوم كراء الأرض أو الدار بغير شرط الثمرة، فإن قيل: عشرة قيل: ما قيمة الثمرة فيما عرف مما تطعم كل عام بعد طرح قيمة المؤونة والعمل فيعلم الوسط من ذلك. فإن قيل خمسة فأقل جاز. قال أصبغ: وهذا إذا علم أن الثمرة تطيب قبل مدة الكراء وإلا لم يجز أن يعقداه اهـ ومثله في الخرشي بتوضيح. قال رحمه الله تعالى: " ولا تجوز لمسلم إجازة نفسه أو عبده أو دابته أو داره في عمل معصية " يعني أنه لا يجوز لمسلم أن يؤجر نفسه أو عبده أو دابته أو داره فيما فيه معصية الله تعالى، فإن فعل شيئاً من ذلك فقد ظلم نفسه، وللحاكم الشرعي رده وأدبه في ذلك، كما ينبغي أن يؤدبه إذا أجر نفسه لكافر فيما لا يجوز له فعله كعمل خمر، أو رعي خنزير، أو كنس كنيسة ونحو ذلك مما لا يجوز لمسلم شرعاً، لخبر:: إن الله تعالى إذا حرم شيئاً حرم ثمنه " ولا خلاف أن الخمر والخنزير حرام. وأما لو أجر المسلم نفسه أو عبده أو داره أو دابته لكافر في عمل مما يجوز للمسلم عمله كبناء وخياطة بدون إهانة فإنه يجوز مع الكراهة. قال ابن جزي في القوانين: ويجوز كراؤها من ذمي إذا لم يشترط فيها بيع الخمر والخنزير اهـ. وقال خليل عاطفاً على المكروهات: وكراء كعبد أي مسلم لشخص كافر. قال الشارح: يعني أنه يكره للمسلم أن يؤجر نفسه أو ولده أو عبده المسلم أو دابته لكافر، ومحلها إذا كان للمسلم فعله لنفسه كعصر الخمر ورعي الخنازير وما أشبه ذلك، فإنه لا يجوز له أن يؤجر نفسه وما ذكر معه لكافر، فإن فعل فإن الإجارة ترد قبل العمل، فإن فاتت بالعمل فإن الأجرة تؤخذ من الكافر ويتصدق بها على الفقراء أدباً للمسلم، إلا أن يعذر لأجل جهل ونحوه فإنها لا تؤخذ منه اهـ الخرشي. وفي الحطاب: واختلف هل يتصدق بالأجرة أم لا؟ قال ابن القاسم: التصدق بها أحب إلينا. قاله في التوضيح اهـ.

فصل في بيان ما يتعلق بأحكام الجعل وشروطه

أحكام الجعل ولما أنهى الكلام على ما يتعلق بالإجارة انتقل يتكلم على الجعل وما يتعلق بأحكامه التي تختص به فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في بيان ما يتعلق بأحكام الجعل وشروطه أي في بيان أحكام الجعل بالجيم المثلث، أفرده المصنف عن الإجارة لاختصاصه ببعض الأحكام، وهو رخصة، قال رحمه الله تعالى: " الجعل جائز " الجعل لغة: هو ما جعل على العمل، أي المال المجعول. أما في العرف فهو التزام أهل الإجارة عوضاً علم، أي معلوماً لتحصيل أمر يستحقه السامع بالتمام، أي بإتمام العمل المطلوب، وبه تحصل ثمرته، قاله الدردير كما في المختصر، وحكمه الجواز. قال رحمه الله تعالى: " ويلزم بالشروع من جهة الجاعل " يعني يلزم الجاعل بالسروع ما التزمه من المال المجعول في طلب الضالة مثلاً قال رحمه الله تعالى: " ويجب تعيينه لا العمل ولا العامل " الضمير في تعيينه عائد إلى الجعل، فالمعنى أنه يجب على الجاعل أن يعين المال المجعول ولا يلزمه تعيين العمل أي تحديده بالزمان ولا تعيين العامل، ولا يشترط إيقاع العقد من الجانبين، بل يستحق العامل الجعل وإن لم يعاقد رب الشيء. قال رحمه الله تعالى: " ولا يجوز إلى أجل " يعني كما قال في الرسالة: ولا يضرب

في الجعل أجل في رد آبق أو بغير شارد أو حفر بئر أو بيع ثوب ونحوه، ولا شيء له إلا بتمام العمل اهـ. قال ابن جزي: إنما يجوز الجعل بثلاثة شروط: أحدها أن تكون الأجرة معلومة، الثاني: ألا يضرب للعمل أجل، الثالث: أن يكون يسيراً عند عبد الوهاب خلافاً لابن رشد اهـ. وما ذكروه من عدم ضرب الأجل في الجعل هو كذلك لأن الأجل يفسده، بخلاف الإجارة أنها لا تصح إلا به، فلو عين زمناً في الجعل لفسد، وذلك لأن العامل لا يستحق الجعل إلا بتمام العمل فقد ينقضي الزمن قبل التمام فيذهب عمله باطلاً، أو يتم العمل قبل انقضائه فيأخذ ما لا يستحقه، لأنه يأخذ الجعل كاملاً لتمام العمل ويسقط عنه العمل في بقية الأجل، إلا أن يكون العامل شرط على الجاعل الترك متى شاء فإنه يجوز ضرب الأجل حينئذ: قال خليل بلا تقدير زمن إلا بشرط تركه متى شاء ففيه زيادة غرر مع أن الأصل فيها الغرر، وإنما أجيزت لإذن الشارع بها اهـ النفراوي بتوضيح من بعض تقريرات. قال رحمه الله تعالى: " فمن قال من جاءني بضالتي فله كذا لزمه لمن جاء بها ولا شيء له إلا بتمام العمل " يعني أن من قال: من جاءني بضالتي فله عشرة دراهم مثلاً فجاءه بها رجل لزم الجاعل ما سمى. قال خليل: يستحقه السامع بالتمام. وقال ابن القاسم: ومن جعل في عبد له عشرة دنانير لمن جاء به، فجاء به من لم يسمع بالجعل فإن كان يأتي بالآبق فله جعل مثله وإلا فليس له نفقته، وإن جاء به من سمعه فله العشرة، وإن كان مما لا يأخذ الآبق. وقال ابن الماجشون وأصبغ: إن له الجعل المسمى وإن لم يعلم به، وحكاه ابن خبيب عن مالك. قال ابن رشد: وقول ابن القاسم أظهر لأن الجاعل إنما أراد بقوله تحريض من سمع قوله على طلبه، فوجب ألا يجب ما سمى من الجعل إلا لمن سمعه فطلبه بعد ذلك اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فلو قال لرجل إن جئتني بها فلك مائة ولآخر

فلك خمسون فجاءا بها، فقيل يقتسمان الأكثر بحسبهما. وقيل لكل نصف جعله " يعني كما في المختصر: وإن جاء به ذو درهم وذو أقل اشتركا فيه. قال شارحه: والمعنى أن رب الآبق إذا جعل لرجل يأتي بعبده الآبق درهماً ثم جعل لآخر نصف درهم على ذلك ثم أتيا به جميعاً فإنهما يشتركان في الدرهم فيأخذ الأول ثلثيه ويأخذ الثاني ثلثه لأن نسبة نصف الدرهم إلى الدرهم والنصف ثلث، ونسبة الدرهم لذلك ثلثان، هذا هو المشهور. قاله الخرشي. وفي المواق عن المدونة: قال مالك من جعل لرجلين في عبد آبق منه جعلين مختلفين لواحد إن أتى به عشرة وللآخر إن أتى به عشرة وللآخر إن أتى به خمسة فأتيا به فالعشرة بينهما على الثلث والثلثين. قال ابن يونس: لأن جعل أحدهما مثلاً جعل الآخر. وقال ابن نافع وابن عبد الحكم: لكل واحد منهما نصف ما جعل له اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ومن جاء بضالة ابتداء فله أجرة مثله " وعبارة الدردير في أقرب المسالك: ولمن لم يسمع جعل مثله إن اعتاده. فالمعنى أن من اعتاد جلب ما ضل إذا أتى بشيءمنها فله جعل مثله إذا لم يسمع ربها، فإن سمعه فله ما سمى، ولربه تركه للعامل الذي شأنه طلب الضوال إن لم يلتزم ربه له جعل المثل، فإن التزمه لزمه، ولا كلام للعامل حيث لم يسمع قول ربه، بخلاف ما إذا سمعه سمى شيئاً ولو بواسطة فله ما سماه، ولو زاد على قيمة العبد مثلاً؛ لأن ربه ورطه أي أوقعه في التعب. وأما إن لم يكن معتاداً لطلب الضوال ولم يسمع قول ربه وجاء به فإنه في هذه الحالة لم يلزم ربه إلا نفقته فقط. قال الصاوي في حاشيته عليه: واختلف إذا التزم ربه جعلاً ولم يسمعه الآتي به فهل كذلك لربه تركه لمن جاء به عوضاً عما يستحقه، وهو ما قاله الأجهوري، ونازعه رأي الشيخ الرماصي في شرحه على خليل. قال: إن له في هذه الحالة جعل مثله إن اعتاد طلب الآباق وإلا فالنفقة، وليس لربه أن يتركه له في هذه الحالة كما يؤخذ من بن اهـ بحروفه. قال رحمه الله تعالى: " ويجوز في الحصاد والجذاذ ونفض الزيتون بجزء معين

منه، لا ما يعلمه اليوم " يعني يجوز لرب الشجر أن يجعل للعامل جزءاً معيناً مما يحصده أو يجذه أو ينفضه في مقابلة عمله، لا ما يعمله في يومه للجهل بمقداره كما هو في المدونة، ونصها: أرأيت إن قلت لرجل احصد زرعي هذا، أو التقط زيتوني هذا، فما لقطت أو حصدت منه من شيء فلك نصفه، ففعل ذلك أيكون له أن يترك ذلك فلا يعمله في قول مالك؟ قال: نعم. قلت: فإن قال له احصد زرعي هذا كله ولك نصفه فقال: نعم. قلت: فإن قال له احصد زرعي هذا كله ولك نصفه فقال نعم، أو التقط زيتوني هذا كله ولك نصفه فقال نعم، ثم بدا له بعد أن يتركه، أيكون ذلك له أم لا؟ قال: لا يكون له أن يتركه، وذلك لازم له، وكذلك قال لنا مالك. قلت: لم ألزمه مالك إذا قال له احصده كله ولك نصفه؟ فقال: لأنه يصير أجيراً له بنصف هذا الزرع لأنه لو باع نصف هذا الزرع كان جائزاً، فلما جعل له نصف جميع الزرع على حصاده جاز وصارت إجارة، قلت هذا خلاف ما قرره الجزيري من أنها إجارة فاسدة للعامل أجرة مثله كما يأتي. وأما إذا قال له: ما حصدت من شيء فلك نصفه فهذا جعل، وهو متى شاء خرج؛ لأنه لم يجب له شيء يعرفه. وسأل ابن القاسم مالكاً: لو قال له احصد لي اليوم أو التقط فما حصدت أو التقطت اليوم فلك نصفه، فقال مالك: لا خير فيه، فقلت: لم؟ قال من أجل أن الرجل لو قال للرجل: أبيعك ما ألقطه اليوم بكذا وكذا لم يكن في ذلك خير، فلما لم يجز بيعه لم يجز أن يستأجره به، ولا يجعله له جعلاً في عمل يعمله له في يوم، ولا يجوز في الجعل وقت موقت إلا أن يقول: متى ما شئت تركته فيكون ذلك جائزاً اهـ المدونة. وحاصل ما فهم من النصوص أن بين الإجارة والجعالة خصوصاً وعموماً، وكل موضع جاز فيه الجعل تجوز فيه الإجارة، وليس موضع جازت فيه الإجارة يجوز فيه الجعل، كخياطة ثوب، فالإجارة أعم منه، والجعل أخص منها. وصور بعضهم ما يصح في الجعل ولا يصح في الإجارة، مثال ذلك - كما في الجزيري - تأجير العامل الذي يجني

الزيتون أو النبق ونحوهما أو يعصره زيتاً بجزء مما يخرج منه، قال: فلو قلت لرجل: انفض لي هذه الشجرة ولك سدس ما ينزل منها أو ثمنه أو نحو ذلك فإنه لا يصح إجارة؛ لأن الشجر يختلف في ذلك فمنه ما يسقط من ثمرة بالهز كثير ومنه ما يسقط قليل، فيكون القدر الذي ينزل منه مجهولاً فلا تجوز الإجارة بالشيء المجهول، فهي إجارة فاسدة، فالعامل له أجرة مثله، ويكون ذلك صحيحاً إن كان جعلاً على ما قرروه في كتب المذهب اهـ الخرشي مع طرف من الجزيري في الفقه. قال رحمه الله تعالى: " ويجوز على علاج المريض على البرء، والتعليم على الحذاق " ومما يجوز أن يكون إجارة وجعالة علاج المريض على البرء من الطبيب، وتعليم التلميذ القرآن على الحذاق أو على الحفظ. قال ابن جزي في القوانين: ويتردد بين الجعل والإجارة مشارطة الطبيب على برء المريض، والمعلم على تعليم القرآن اهـ. قال أبو محمد في الرسالة: ولا بأس بتعليم المعلم على الحذاق ومشارطة الطبيب على البرء قال شارحها: والمعنى أنه تجوز الإجارة على حفظ القرآن كله أو بعضه وهو المراد بالحذاق. ولا فرق بين الحفظ غيباً أو معرفة قراءته بالحاضركما يقع للأعاجم الذين يقرؤون في المصحف. قال خليل: وعلى تعليم قرآن مشاهرة أو على الحذاق. والدليل على جواز ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله تعالى) وإجماع أهل المدينة على ذلك، ولذلك قال مالك رضي الله عنه: لم يبلغني أن أحداً كره تعليم القرآن والكتابة بأجرة. واحترز بالقرآن عن الفقه وغيره من العلوم كالنحو والأصول والفرائض؛ فإن الإجارة على تعليم ما ذكر مكروهة. وفرق أهل المذهب بين جوازها على القرآن وكراهتها على تعليم غيره بأن القرآن كله حق لا شك فيه بخلاف ما عداه مما هو ثابت بالاجتهاد فإن فيه الحق والباطل. وأيضاً أخذ الأجرة على تعليمه يؤدي إلى تقليل طالبه اهـ. النفراوي انظره.

قال رحمه الله تعالى: " واستخراج المياه بشرط معرفة العامل شدة الأرض وبعد الماء والله أعلم " ومما يجوز أن يكون عقده إجارة أو جعلاً استخراج المياه، جمع ماء بشرط معرفة العامل والجاعل شدة الأرض وليونتها ومعرفتهما قرب الماء وبعده عادة. قال العلامة أحمد زروق في شرحه على الرسالة: ويشترط في الجعل على حفر البئر ثلاثة: اختبار الأرض في لينها وقساوتها؛ ونص عليه في المدونة. واستواء الجاعل والمجعول في العلم بها والجهل، قال في العتبية: فلو كان أحدهما عالماً بها فقط منع، وكونها في غير أرض المجاعل لئلا ينتفع بما فعل عند العجز أو الفسخ اهـ. واعلم أن العامل في حفر البئر يشرع في عمله، وتقدم أنه يضرب له أجل ولا يشترط فيه معرفة عدد القامة، بل لا يلزمه العمل بالشروع لما تقدم من أن العقد منحل من جهته بخلاف الجاعل بعد الشروع كما تقدم، ولا يستحق العامل الجعل إلا بعد تمام العمل كوصوله إلى الماء. قال الدردير عاطفاً من لا يستحق الأجرة إلا بتمام العمل: وحافر بئر لاستخراج الماء، أي فلا يستحق الحافر ما سماه الجاعل إلا بالتمام، أي إلا بإلحاق الماء إن كان في عمل البئر، هذا إن لم ينتفع الجاعل بما عمله العامل، فإن انتفع بما حفره فإنه يلزم الجاعل أن يدفع له بعض ما سمى بحسب العمل في ذلك والله أعلم. ولما أنهى الكلام على الجعل وما يتعلق به من الأحكام انتقل يتكلم على القراض وأحكامه وما عطف عليه. فقال رحمه الله تعالى:

كتاب القراض والشركة والمساقاة

كتاب القراض والشركة والمساقاة يعني أن هذا الكتاب مشتمل على ثلاثة أحكام متفرقة، وهو القراض، والشركة والمساقاة، ولذا جعل لكل حكم منها فصلاً مستقلاً. وبدأ بالقراض اهتماماً به فقال رحمه الله تعالى: " القراض تنمية العامل المال بالتجارة على جزء من الربح يتفقان عليه " يعني القراض، وهو لغة: لأن المالك قطع للعامل قطعة من ماله يتصرف فيها بقطعة من الربح. قال ابن عرفة: هو تمكين مال لمن يتجر به من ربحه. وكان أهل العراق يسمون القراض مضاربة وحكم القراض الجواز؛ والمعنى أن القراض جائز إجماعاً لأجل تنمية المال بالتجارة بها من العامل على جزء من الربح الذي اتفق عليه رب المال والعامل من النصف أو الثلث أو الربع أو غير ذلك بعد إخراج رأس المال. وله أحكام وشروط ولوازم كما يأتي. قال في الرسالة: والقراض جائز بالدنانير والدراهم وقد أرخص فيه بنقار الذهب والفضة أي إذا كانوا يتعاملون بها. والنقار بكسر النون القطع الخالص من الذهب والفضة، ومثلها التبر والحلي، فإن حكم الجميع واحد في الجواز إن تعومل بها في بلد العمل ولم يكن فيها مسكوك، وأما لم يتعامل بها، أو وجد المسكوك فلا يجوز على المعتمد، أي لا يجوز ابتداء، فإن وقع يمضي بالعمل عند ابن القاسم، وعند أصبغ يمضي مطلقاً ولا يفسخ. والحاصل أن غير المضروب من تبر ونقار وحلي لا يجوز جعله رأس مال إلا بشرطين: التعامل به في بلد العمل، وعدم وجود المسكوك، وإن وقع شيء من ذلك رأس مال مع فقد الشرطين أو أحدهما مضى بالعمل، وقيل بمجرد تمام العقد اهـ النفراوي بحذف.

قال رحمه الله تعالى: " ويلزم بشغله المال، وهو أمين ما لم يتعد " يعني يلزم عامل القراض بشغله المال بأن تهيأ بشراء السلع بالمال، وهو أمين. قال الدردير: والعامل أمين، فالقول له في تلفه وخسره، ورده إن قبضه بلا بينة توثق، أو قال أخذت منك قراضاً، وقال رب المال بضاعة بأجر وعكسه، أو قال أنفقت من غيره، وكذلك القول قوله في تنازعهما في جزء الربح إن أشبه، ولرب المال إن انفرد بأشبه، أو قال قرض أو وديعة فالقول له أي لرب المال إن أشبه. قال رحمه الله تعالى: " والتلف والخسارة من ربه. واشتراطه على التعامل مفسد، كتأجيله، وقسره على ما لا يغلب وجوده وقراضه بعروض " يعني إن وقع التلف والخسارة في مال القراض. وذلك على رب المال. قال ابن جزي والخسران والضياع على رب المال دون العامل، إلا أن يكون منه تفريط اهـ. قال الدردير عاطفاً ما يشترط عليه ألا يفعله وإن فعل فعليه الضمان: وضمن إن خالف أي إن خالف ما اشترط جميع ما ذكر وتلف المال أو بعضه قال الصاوي: قوله المال أو بعضه أي زمن المخالفة، وأما لو اتجر أو اقتحم النهي وسلم ثم حصل تلف بعد ذلك من غير الأمر الذي خالف فيه فلا ضمان، وكذا لو خالف اضطراراً بأن مشى في الوادي الذي نهي عنه، أو سافر بالليل، أو في البحر اضطراراً لعدم المندوحة فلا ضمان ولو حصل تلف. وإذا تنازع العامل ورب المال في أن التلف وقع زمن المخالفة أو بعدها صدق العامل في دعواه بيمين اهـ. وأما قوله: وقراضه بعروض أي من مفسدات القراض جعل رأس المال عروضاً، قال في الرسالة: ولا يجوز بالعروض ويكون إن نزل أجيراً في بيعها وعلى قراض مثله اهـ. قال ابن جزي: إذا وقع القراض فاسداً فسخ فإن فات بالعمل أعطي العامل قراض المثل عند أشهب. وقيل أجرة المثل مطلقاً وفاقاً لهما أي للشافعي وأبي حنيفة وقال ابن القاسم أجرة المثل إلا في أربعة مواضع، وهي قراض بعرض، أو لأجل، أو بضمان، أو

بحظ مجهول اهـ. وحاصل المعنى أنه إن وقع عقد القراض بعرض فإنه يكون فاسداً يجب فسخه فإن لم نطلع عليه حتى باع العامل العرض فإنه يجب فسخه وله أجرة مثله في تولية البيع، وأما لو لم نطلع عليه حتى أتجر بثمن العرض فإنه يستحق في تولية بيع العرض أجرة مثله، وله قراض مثله في الاتجار بالثمن فيجمع بين الأمرين، هذا إذا دخلا على أن رأس المال هو الثمن الذي باع به العرض. فإن قال له: خذ هذا العرض اجعله رأس مال أو قيمته الآن أو يوم المفاصلة فإنه يكون كأجير في بيعها، ويعطى أجرة مثله في الاتجار بالثمن. والفرق بين قراض المثل وأجرة المثل أن قراض المثل في الربح فإن لم يحصل ربح لا شيء له، وأجرة المثل في الذمة فتلزم رب المال ولو لم يحصل ربح. قاله تلنفراوي اهـ بحذف. قال رحمه الله تعالى: " ولا يسافر، ولا يشارك، ولا يقارض، ولا يقارض، ولا يبيع بدين إلا بإذنه، فإن قارض فلربه بشرطه وحصته بينه وبين عامله، وله في السفر نفقة مثله " يعني أنه لا يسافر بمال القراض إلا بإذن رب المال، وكذل لا يشارك العامل في مال القراض غيره ولو عاملاً آخر، وكذلك لا يدفع مال القراض لغيره قراضاً بغير إذن رب المال، فإن فعل شيئاً من ذلك بغير إذن ضمن إن تلف المال لتفريطه. قال الدردير: لأن ربه لم يستأمن غيره فيه. قال الصاوي في حاشيته عليه: أي فقد عرضه للضياع، ومحل الضمان إذا غاب شريكه العامل الذي شاركه بلا إذن على شيء من المال وحصل خسر أو تلف، وسواء كان الشريك صاحب مال أو عاملاً، وأما إن لم يغب على شيء لم يضمن إذا تلف كما قاله ابن القاسم، واعتمده أبو الحسن. وقوله فإن قارض إلخ قال الصاوي أيضاً: حاصله أن عامل القراض إذا دفع المال لعامل لآخر قراضاً بغير إذن رب المال فإن حصل تلف أو خسر فالضمان من العامل الأول، وإن حصل ربح فلا شيء للعامل الأول منه، وإنما الربح للعامل الثاني ورب المال، ثم إن دخل العامل الثاني مع الأول على مثل ما دخل عليه الأول مع رب المال فظاهر، وإن دخل معه على أكثر مما دخل عليه فإن

العامل الأول يغرم للثاني الزيادة، وإن دخل معه على أقل فالزائد لرب المال لا للعامل الأول، فإن لم يحصل للعامل الثاني ربح فلا شيء له، ولا يلزم العامل الأول لذلك الثاني شيء كما هو القاعدة أن العامل لا شيء له إذا لم يربح المال اهـ. قوله وله في السفر نفقة مثله. قال في الرسالة: وللعامل كسوته وطعامه إذا سافر في المال الذي له بال، وإنما يكتسي في السفر البعيد. قال خليل: واكتسى إن بعد، ولا بد من مراعاة الشروط في الإنفاق في السفر، وكونه للتجر فقط لا لأهل ولا لحج أو غزو أو قربة، واحتمال المال وكونه بالمعروف اهـ شارحها باختصار. ثم قال رحمه الله تعالى: " وإذا طالبه بالتنضيض لزمه " يعني أن رب المال إذا طالب العامل بالتنضيض لزمه ذلك. قال في الرسالة: ولا يقتسمان الربح حتى ينض رأس المال أو يتراضيا على قسمة، فإن طلب أحدهما نضوضه نظر أهل البصيرة في ذلك. قال خليل: وإن استنضه فالحاكم ينظر في ذلك من تعجيل أو تأخير، فما كان صواباً فعله. وتجوز قسمة العروض إذا تراضوا عليها، وتكون بيعاً، وإنما لم تجز قسمة قبل نضوضه إلا برضاهما؛ لأنه إذا قسم قد تهلك السلع أو تتحول أسواقها فينقص رأس المال، فيحصل الضرر لرب المال بعدم جبر رأس المال بالربح اهـ النفراوي. قال رحمه الله تعالى: " ولا ينفسخ بموت أحدهما، ويلزم ورثة العامل التنضيض إن ائتمنتهم أو أتوا بأمين، وإلا سلموا المال " قال مالك في الموطأ: الأمر المجتمع عليه عندنا في رجل دفع إلى رجل مالاً قراضاً فاشترى به سلعة ثم باع السلعة بدين فربح في المال، ثم هلك الذي أخذ المال قبل أن يقبض المال، قال إن أراد ورثته أن يقبضوا ذلك المال وهم على شرط أبيهم من الربح فذلك لهم إذا كانوا أمناء على ذلك، وإن كرهوا أن يقتضوه وخلوا بين صاحب المال وبينه لم يكلفوا أن يقتضوه ولا شيء عليهم، ولا شيء لهم إذا أسلموه إلى رب المال، فإن اقتضوه فلهم فيه الشرط والنفقة مثل

ما كان لأبيهم في ذلك، وهم فيه بمنزلة أبيهم، فإن لم يكونوا أمناء على ذلك فإن لهم أن يأتوا بأمين ثقة فيقتضي ذلك المال، فإذا اقتضى جميع المال وجميع الربح كانوا في ذلك بمنزلة أبيهم اهـ. وعبارة النفراوي على الرسالة أنه قال: إذا مات العامل قبل نضوض المال فلوارثه الأمين إتمام العمل ولو كان أقل أمانة من مورثه، ويستحق الجزء، وإن لم يكن أميناً فله الإتيان بأمين كمورثه فيها وإلا سلم المال لربه هدراً. وظاهر كلام أهل المذهب أنه لا شيءلوارث العامل حينئذ ولو اتخذ رب المال من يتمم العمل، فليس كالجعل في هذه، ولعل الفرق أن الشارع لما مكن الوارث من الإتيان بأمين بغيره فهو مغلوب فجعل له نسبة الثاني، واستحسن شيوخنا هذا الفرق اهـ. قال ابن جزي في القوانين: الفرع الثالث: لا ينفسخ القراض بموت أحد المتقارضين ولورثة العامل القيام به إن كانوا أمناء أو يأتوا بأمين اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وتجبر وضيعته من ربحه ثانية، فإن تفاضلا عليها ثم عمل فرأس المال ما بقي، وإن اقتسما ربحا قبل تنضيضه ثم حدثت وضيعة جبراها منه " يعني إن حصلت الوضيعة في مال القراض وهي بيد العامل وإن قبل العمل يجب جبرها من الربح بعدها. والوضيعة بوزن النقيصة لفظاً ومعنى. فالمعنى إن نقص شيئاً من رأس المال وجب جبره بما حصل بعد ذلك من الربح. قال النفراوي في الفواكه: إذا حصل في رأس مال القراض خسر وحمل فيه بعد ذلك ربح فإنه يجب الخسر بالربح، ولو شرط العامل على رب المال خلاف ذلك ما دام المال تحت يد العامل، لا إن قبضه ربه بعد الخسر ورده للعامل بعد ذلك فإنه يصير قراضاً مؤتنفاً اهـ. وإلى ما تقدم أشار خليل بقوله: وجبر خسره وما تلف وإن قبل عمله إلا أن يقبض، أي إلا أن يقبض رب المال ماله من يد العامل ثم يرده له فيربح فيه فلا يجبر ربحه خسر الأول ولا تلفه؛ لأن هذا قراض

مؤتنف، وكذلك إن قسما الربح بعد النضوض والانفصال ثم ردها للعامل فإنه لا تجبر وضيعة الأول بربح الثاني؛ لأنه قد حصل القبض والانفصال فصار هذا قراضاً مؤتنفاً، بخلاف ما إذا لم ينفصلا ولو قسما الربح فتجبر بما يحصل من الربح ثانية. قال مالك في المدونة: وإذا ضاع بعض المال بيد العامل قبل العمل أو بعده أو خسره أو أخذه لص أو العاشر ظلماً لم يضمنه العامل، إلا أنه إن عمل ببقية المال جبر بما ربح فيه أصل المال، فما بقي بعد تمام رأس المال كان بينهما على ما شرطا، ولو كان العاقل قد قال لرب المال لا أعمل حتى تجعل ما بقي رأس المال ففعل وأسقط الخسارة فهو أبداً على القراض الأول، وإن حاسبه وأحضره ما لم يقبضه منه ثم يرده منه على باب الصحة والبراءة اهـ. نقله المواق. قال مالك في الموطأ في رجل دفع إلى رجل مالاً قراضاً فعما فيه فربح، ثم اشترى من ربح المال أو من جملته جارية فوطئها فحملت، ثم نقص المال، قال مالك: إن كان له مال أخذت قيمة الجارية من ماله فيجبر به المال، فإن كان فضل بعد وفاء المال فهو بينهما على القراض الأول، وإن لم يكن له وفاء بيعت الجارية ختى يجبر المال من ثمنها اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولكل اشتراط جميع الربح لنفسه " يعني كما قال خليل عاطفاً على ما يجوز: والربح لأحدهما أو لغيرهما. قال الباجي: يجوز شرط كل الربح لأحدهما في مشهور مذهب مالك، أو لغيرهما من المدونة. قال ابن القاسم: إذا اشترط المتقارضان عند معاملتهما ثلث الربح للمساكين جاز ذلك، ولا أحب لهما أن يرجعا فيه، ولا يقضي بذلك عليهما اهـ نقله المواق. وعبارة الخرشي: يعني أنه يجوز اشتراط ربح القراض كله لرب المال أو للعامل أو لغيرهما لأنه من باب التبرع، وإطلاق القراض عليه حينئذ مجاز كما مر في تعريف ابن عرفه للقراض، ويلزمهما الوفاء بذلك إن كان المشترط عليه معيناً. وقيل ويقضي به إن امتنع الملتزم منهما، فإن لم يقبل المعين فإن كان هناك

عرف بقدر ما للعامل من الربح في مثل ذلك القراض عمل به، وإلا فهل يقسم الربح بينهما بالتساوي، أو يكون كقراض وقع بجزء مبهم. وأما إن كان لغير معين كالفقراء فإنه يجب من غير قضاء اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ويلزم بفساده قراض المثل. وقيل أجرة المثل " تقدم بيان هذه الجملة عند قوله: " وقراضه بعروض " فراجعه إن شئت. قال رحمه الله تعالى: " والربح تابع للأصل في الزكاة، ولكل اشتراط زكاة الربح على الآخر للأصل، فإن لم يكن العامل أهلاً سقطت عن حصته، وأوجبها عبد الملك تبعاً " قال ابن جزي في القوانين: واختلف في اشتراط أحدهما على الآخر زكاة نصيبه من الربح اهـ. قال خليل عاطفاً على ما يجوز: وزكاته على أحدهما. قال الخرشي: الضمير في زكاته يرجع للربح، والمعنى أن زكاة ربح المال يجوز اشتراطهما على العامل أو على رب المال على المشهور، وأما رأس المال فلا يجوز اشتراط زكاته على العامل اتفاقاً اهـ بحذف. ونقل المواق عن ابن رشد ما نصه: لا يجوز اشتراط زكاة رأس المال على العامل، ويجوز أن يشترطها العامل على رب المال لأنها واجبة عليه. واختلف إذا اشترط أحد المتقارضين زكاة ربح المال على صاحبه على أربعة أقوال: أحدها أن ذلك جائز لكل واحد منهما على صاحبه، وهو قول ابن القاسم في المدونة، وروايته عن مالك. لأنه لا يرجع إلى جزء مسمى، فإن اشترطت الزكاة على العامل صار عمله على أربعة أعشار الربح وثلاثة أرباع عشره، وإن اشترطت الزكاة على رب المال صار عمله على نصف الربح كاملاً اهـ. قوله فإن لم يكن العامل أهلاً سقطت، يعني كأن كان العامل رقيقاً أو مديناً ليس عنده وفاء، أو كان كافراً فهؤلاء تسقط عن حصة واحد منهم لعدم الأهلية، وأوجبها عبد الملك تبعاً للأصل اهـ. تنبيه: ليس لعامل هبة لغير ثواب في مال القراض ولا تولية، بأن يعطي السلعة

فصل فيما يتعلق بالشركة وشروطها

لغيره بمثل ما اشتراها، هذه إذا لم يخف رخصها وإلا جاز. وقال في القوانين: لا يجوز أن يهدي رب المال إلى العامل ولا العامل إلى رب المال؛ لأنه يؤدي إلى سلف جر منفعة اهـ. أحكام الشركة ولما أنهى الكلام على ما يتعلق بالقراض وأحكامه انتقل يتكلم على الشركة وما يتعلق بأحكامها فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ فيما يتعلق بالشركة وشروطها أي في بيان ما يتعلق بالشركة، وهي لغة الاختلاط، وعرفاً عقد مالكي مالين فأكثر على التجر فيهما معاً، أو على عمل والربح بينهما بما يدل عرفاً، أي على ما يدل على الإذن والرضا من جانبين فيما جرى به العرف. قال رحمه الله تعالى: " تجوز الشركة بالنقد والعروض، ويجعل رأس المال قيمتها " يعني أن الشركة جائزة بالنقود والعروض. قال ابن جزي في القوانين: وهي على ثلاثة أنواع: الأولى شركة الأموال فتجوز في الدنانير والدراهم، واختلف في جعل أحدهما دنانير والآخر دراهم، فمنعه ابن القاسم لأنه شركة وصرف، وتجوز في العروض بالقيمة، واختلف في جوازها بالطعام، وعلى القول بالجواز يشترط اتفاق الطعامين في الجودة. والشركة في الأموال على نوعين: شركة عنان وشركة مفاوضة. فشركة العنان أن يجعل كل واحد من الشريكين مالاً ثم يخلطاه أو يجعلاه في صندوق واحد ويتجرا به معاً ولا يستبد أحدهما بالتصرف دون الآخر. والنوع الثاني شركة المفاوضة وهي أن يفوض كل واحد منهما التصرف للآخر في حضوره وغيبته،

ويلزمه كل ما يعلمه شريكه. ومنع الشافعي شركة المفاوضة واشترط أبو حنيفة فيها تساوي رؤوس الأموال. ويجب في شركة الأموال في المذهب أن يكون الربح بينهما على حسب نصيب كل واحد منهما من المال، ولا يجوز أن يشترط أحدهما من الربح أكثر من نصيبه من المال، وما فعله أحد الشريكين من معروف فهو في نصيبه خاصة إلا أن يكون مما ترجى به منفعة في التجارة كضيافة التجار وشبه ذلك. وإلى ما تقدم أشار رحمه الله تعالى بقوله: " ويشترط خلطهما حقيقة أو حكماً وهي عنان. وهي ألا ينفرد أحدهما بالتصرف، ومفاوضة وهي أن يمضي تصرف كل صاحبه، والربح والخسران والعمل توابع، فإن زاد أحدهما في العمل فله أجرة مثله إلا أن يتبرع " يعني كما قال الجزيري في الفقه ونصه: وأما شركة العنان فهي أن يشتركا على ألا يتصرف أحدهماإلا بإذن صاحبه فإن كل واحد منهما آخذ بعنان صاحبه يمنعه إذا أراد، حتى لو تصرف أحدهما بدون إذن الآخر كان له رده. وإذا اشترطا أن يكون لأحدهما التصرف المطلق دون الآخر فقيل إنها تكون عناناً في المقيد ومفاوضة في المطلق. وقيل تفسد وهو الظاهر. فأما شركة المفاوضة فهي اشتراك اثنين فأكثر في الاتجار بمالين على أن يكون لكل منهما نصيب في الربح بقدر رأس ماله بدون تفاوت، وأن يطلق كل من الشركاء حرية التصرف للآخر في البيع والشراء والكراء والاكتراء، وأن يشتري ويبيع في غيبته وفي حضوره سواء اتفقا على أن يتجرا في نوع واحد كالقمح أو الشعير أو في جميع الأنواع. وبعض أئمتنا في المذهب يقول إنها إذا كانت في نوع واحد تكون عناناً لا مفاوضة؛ لأن شركة المفاوضة يجب أن تكون عامة في كل الأنواع، ولا تفسد شركة العنان بانفراد أحد الشريكين بمال غير مال الشركة، فيصح أن تكون عامة في كل الأنواع، ولا تفسد شركة العنان بانفراد أحد الشريكين بمال غير مال الشركة، فيصح أن تكون الشركة على ألف لكل منهما خمسمائة وعلى أحدهما زيادة على الخمسمائة اهـ بالتقديم.

قال رحمه الله تعالى: " وتجوز بالأبدان بشرط اتحاد الصنعة والمكان، لا مال وبدن " يعني أن الشركة تجوز بالأبدان بشرط أن تتحد الصنعة والمكان. ولا يجوز أن تكون بمال من جانب وبدن أي عمل من جانب آخر. قال في المدونة: لا تجوز الشركة إلا بالأموال. أو على عمل الأبدان إذا كانت الصنعة واحدة. وفيها أيضاً عن ربيعة في رجلين اشتركا في بيع بنقد أحدهما، قال ربيعة: لا يصلح هذا. وقال الليث مثله لما فيه من الغرر اهـ بتوضيح. قال رحمه الله تعالى: " وما يفتقران إليه من آلة فبينهما " قال الجزيري: وإذا كان لكل منهما آلة للبرادة أو الحدادة أو النجارة فإنه لا يجوز أن يعمل بها قبل أن يشتري كل منهما نصفه بنصف الآخر حتى يكون لكل منهما نصف إحداهما ملكاً أصلياً والنصف الآخر بالشراء. وقيل يجوز. والأول هو المعتمد اهـ. قال خليل: وفي جواز إخراج كل آلة واستئجاره من الآخر، أو لا بد من ملك أو كراء تأويلان اهـ. وقد علمت المعتمد منهما فتأمل. وعبارة الجزيري في فقه المذاهب أنه قال: أما شركة العمل وهي المعروفة بشركة الأبدان فهي أن يشترك صانعان فأكثر على أن يعملا معاً ويقتسمان أجرة عملهما بنسبة العمل بشرط أن تكون الصنعة متحدة كحدادين أو نجارين أو خياطين أو نساجين، فلا يصح حداد ونجار، ولا اشتراك صائغ ونساج. نعم يصح اشتراك صانعين تتوقف صنعة أحدهما على صنعة الآخر، كأن يشترك الذي يغوص في البحر لاستخراج اللؤلؤ مع صاحبه الذي حمله ويمسك له ونحو ذلك. وأن يتساويا في العمل بأن يأخذ كل واحد بقدر عمله من الغلة، ويصح أن يزيد أحدهما على الآخر شيئاً يتعارفه الناس ويحصل التعاون بينهما ولو كانا بمحلين مختلفين كدكانين متقاربين اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " وشركة الذمم باطلة " يعني هذه هي الشركة الثالثة المتقدم ذكرها كما في القوانين لابن جزي، نصه: وأما شركة الوجوه فهي أن يشتركا

على غير مال ولا عمل، وهي الشركة على الذمم، بحيث إذا اشتريا شيئاً كان في ذمتهما، وإذا باعاه اقتسما ربحه، وهي غير جائزة خلافاً لأبي حنيفة. تلخيص: أجاز مالك شركة العنان والمفاوضة والأبدان، ومنع شركة الوجوه، وأجاز أبو حنيفة الأربعة وأجاز الشافعي العنان خاصة اهـ. ثم انتقل يتكلم على الشركة في الزرع لأنها من جملة شركة الأبدان فقال رحمه الله تعالى: " وتجوز الشركة في الزرع بشرط التساوي في البذر والعمل والمؤونة والأرض كانت ملكاً أو مكتراة أو حبساً، فلو كانت لأحدهما وللآخر البذر للزم ربه نصف أجرتها وربها نصف المكيلة، فإن انفرد بالعمل فالزرع له، وعليه مكيلة البذر، وبالعكس " يعني كما في الرسالة: والشركة في الزرع جائزة إذا كانت الزريعة منهما جميعاً والربح بينهما، كانت الأرض لأحدهما والعمل على الآخر، أو العمل بينهما واكتريا الأرض، أو كانت بينهما، أما إن كان البذر من عند أحدهما ومن عند الآخر الأرض والعمل عليه أو عليهما والربح بينهما لم يجز. ولو كانا اكتريا الأرض والبذر من عند واحد وعلى الآخر العمل جاز إذا تقاربت قيمة ذلك اهـ. قال شارحها: تلخص مما تقدم أن شرط صحة الشركة في الزرع السلامة من كراء الأرض بممنوع، أو يتساويا في الخارج والمخرج، وليس المراد بالتساوي المناصفة. ويجوز أن يتبرع أحدهما لصاحبه بعد العقد اللازم بشيء من العمل أو غيره. ومن الشروط اللازمة أن يخلطا البذر ولو حكماً بأن يخرج كل واحد البذر من عنده ولم يخلطاه حتى يصلا إلى الفدان، ويبذر كل واحد بذره بحيث لا يتميز عن بذر صاحبه، فإن تميز بأن بذر كل في ناحية فلا تصح، ولكل ما نبته حبه. وقيل لا يشترط خلط البذر، وعليه اتفق الإمام وابن القاسم. ومن الشروط أن تقع بلفظ الشركة، لا إن وقعت بلفظ الإجارة أو طلاق اهـ النفراوي بحذف. قوله فلو كانت لأحدهما إلخ. قال خليل: وإن فسدت وتكافآ عملاً

فبينهما وترادا غيره، أي غير العمل، كما لو كانت الأرض من أحدهما والبذر من الآخر فيرجع صاحب البذر على صاحب الأرض بمثل نصف بذره، ويرجع صاحب الأرض على صاحب البذر بأجرة نصف أرضه. ولا خفاء في فساد هذه الصورة لمقابلة الأرض البذر كما في الخرشي. والمراد بالتكافؤ في العمل وقوعه من كل منهما وإن لم يتساويا في قدره، وإنما يكون الزرع بينهما إذا انضم لعمل يد كل منهما غيره من أرض أو بذر أو عمل بقر أو بعض ذلك، وأما لو وقع من أحد الشريكين فقط فالزرع كله له لأنه نشأ عن عمله وعليه للآخر أجرة الأرض. فشرط اختصاص المنفرد بالعمل بالزرع أن يكون له مع عمله إما بذر أو أرض، أو تكون الأرض والبذر منهما والعمل من واحد، ولا بد أيضاً أن ينضم إلى عمل يده آلة من بقر أو محراث وإلا فليس له إلا أجرة مثله اهـ النفراوي. قال الخرشي: هذه المسألة تعرف بمسألة الخماس، وصورتها أن يخرج أحدهما البذر والأرض والبقر وعلى الآخر عمل يده فقط وله من الزرع جزء كربع أو غيره من الأجزاء. وحاصل القول فيها أنه إن عقدها بلفظ الشركة جازت اتفاقاً، وإن عقدها بلفظ الإجارة لم تجز لأنها إجارة بجزء مجهول، وإن عرى عن ذلك بأن أطلقا القول عند العقد فحملها ابن القاسم على الإجارة فمنعها، وحملها سحنون على الشركة فأجازها. والمشهور الأول اهـ انظره وتأمل. قال رحمه الله تعالى: " ومن احتمل السيل بذره إلى أرض غيره فالزرع له ولا غرم عليه وقيل لربه وعليه أجرة الأرض " يعني من ألقى بذره في الأرض فجاء السيل فحمل البذر وذهب به إلى أرض غيره ونبت هناك فالزرع لصاحب الأرض ولا غرم عليه من قيمة البذر. وقيل فالزرع لرب البذر وعليه دفع أجرة الأرض لصاحبها، ولم أقف على نص لهذه المسألة بعد البحث ومن وجد فيها نصاً فليعلقه هنا لنفع المسلمين. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.

فصل في المساقاة وأحكامها

أحكام المساقاة ولما أنهى الكلام على الشركة وما يتعلق بها انتقل يتكلم على المساقاة وأحكامها فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في المساقاة وأحكامها أي في بيان ما يتعلق بالمساقاة. وهي عقد بين اثنين على القيام بمؤونة شجر أو نبات بجزء من غلته بصيغة نحو ساقيت، أو لفظ عاملت وهي مستثناه مما نهي عنه وحكمها الجواز. قال رحمه الله تعالى: " تجوز المساقاة على أصول الثمرة ولو قبل ظهورها إلا بعد بدو الصلاح " يعني أن المساقاة جائزة على أصول الأشجار الثابتة. قال ابن جزي: تجوز في الأصول الثابتة كالكرم والنخل والتفاح والرمان وغير ذلك بشرطين: الأول أن تعقد المساقاة قبل بدو صلاح الثمرة والثاني أن تعقد إلى أجل معلوم. وتجوز في الأصول غير الثابتة كالمقاثي والزروع بأربعة شروط: الشرطان المذكوران، والثالث أن تنعقد بعد ظهوره من الأرض، والرابع أن يعجز عنه ربه اهـ. قال في الرسالة: والمساقاة جائزة في الأصول على ما تراضيا عليه من الأجزاء. والعمل كله على المساقي، ولا يشترط عليه عملاً غير عمل المساقاة، ولا عمل شيء ينشئه في الحائط إلا ما لا بال له من شد الحظيرة وإصلاح الضفيرة وهي مجتمع الماء، من غير أن ينشئ بناءها، والتذكير على العامل، وإصلاح مسقط الماء من الغرب وتنقية مناقع الشجر، وتنقية العين وشبه ذلك جائز أن يشترط على العامل. ولا تجوز المساقاة على إخراج ما في الحائط من الدواب، وما مات منها فعلى ربه خلفه ونفقة الدواب والأجزاء على العامل، وعليه ذريعة البياض اليسير، ولا بأس أن يلغى ذلك للعامل وهو أحله، وإن كان البياض كثيراً لم يجز أن يدخل في مساقاة النخل إلا أن يكون قدر الثلث من الجميع فأقل اهـ.

قال رحمه الله تعالى: " وعلى الزروع والبقول بعد ظهورها " يعني ويشترط في جواز المساقاة على الزروع والبقول أن تكون بعد ظهورها من الأرض لا قبل ذلك كما تقدم بيان ذلك لابن جزي. قال مالك في الموطأ: والمساقاة أيضاً تجوز في الزرع إذا خرج واستقل فعجز صاحبه عن سقيه وعمله وعلاجه. فالمساقاة في ذلك جائزة اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وهي أن يعمل العامل على جزء من الثمرة، وعليه السقي والإبار والجذاذ، وقطع الجريدة، ونفقة العمال، وعلوفة الدواب، وإصلاح القف ومناقع الشجر " والقف ما ارتفع وغلظ من الأرض وهو دون الجبل، والجمع قفاف كما في المصباح. وينبغي أن يراد به هنا القفة التي تصنع بالخوص كالزنبيل الذي يطرح به القمامة، وأما القف الذي بمعنى ما ارتفع من الأرض فإصلاحه من الأعمال التي لا يشترط على العامل، فتأمل. وقوله ومناقع الشجر، وفي نسخة ومنافع الشجر بالفاء وهي ثابتة في جميع النسخ التي بأيدينا، لكن الأصح أنها بالقاف كما في الرسالة. قال زروق في شرحه على الرسالة: ومنقع الماء مجتمعه في أصول الشجر. وقال النفراوي في الفواكه: والمناقع جمع منقع بفتح القاف: موضع يستنقع فيه الماء. والمراد كنس أماكن الماء الكائن في أصول الشجر بأن يحفر حول الشجر ليحبس فيه الماء اهـ. وحاصل ما في المقام كما قال مالك في الموطأ: والسنة في المساقاة عندنا أنها تكون في أصل كل نخل أو كرم أو زيتون أو رمان أو فرسك أو ما أشبه ذلك من الأصول، جائز لا بأس به على أن لرب المال نصف الثمر من ذلك أو ثلثه أو ربعه أو أكثر من ذلك أو أقل. وقال قبل هذا أيضاً: والسنة في المساقاة التي يجوز لرب الحائط أن يشترطها على

المساقي شد الحظار، وخم العين، وسرو الشرب، وإبار النخل، وقطع الجريد، وجذ الثمر، هذا وأشباهه على أن للمساقي شطر الثمر أو أقل من ذلك أو أكثر إذا تراضيا عليه، غير أن صاحب الأصل لا يشترط ابتداء عملاً جديداً يحدثه العامل فيها من بئر يحتفرها، أو عين يرفع رأسها، أو غراس يغرسه فيهايأتي بأصل ذلك من عنده، أو ضفيرة يبنيها تعظم فيها نفقته، وإنما ذلك بمنزلة أن يقول رب الحائط لرجل من الناس ابنِ لي ها هنا بيتاً أو احفر لي بئراً، أو أجر لي عيناً أو اعمل لي عملاً بنصف ثمر حائطي هذا قبل أن يطيب ثمر الحائط ويحل بيعه، فهذا بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها اهـ. قال رحمه الله تعالى: " لا بناء حائط، وحفر بئر، وغرس شجر، وخلف دابة " يعني لا يلزم على العامل بناء الحائط ولا حفر البئر ولا غرس الشجر، ولا خلف الدابة إذا ماتت، ومثل الدابة الرقيق. قال مالك في الموطأ: ومن مات من الرقيق أو غاب أو مرض فعلى رب المال أن يخلفه اهـ. قال ابن جزي: المسألة الثالثة: العمل في الحائط على ثلاثة أقسام: أحدها ما لا يتعلق بالثمرة فلا يلزم العامل بالعقد، ولا يجوز أن يشترط عليه. الثاني: ما يتعلق بالثمرة ويبقى بعدها كإنشاء حفر بئر أو عين أو ساقية أو بناء بيت يخزن فيه التمر أو غرس فلا يلزمه أيضاً، ولا يجوز أن يشترط عليه. الثالث: ما يتعلق بالثمرة ولا يبقى فهو عليه بالعقد كالحفر والزبر والتقليم والسقي والتذكير والجذاذ وشبه ذلك. وأما سد الحظار وهو تحصين الجدار وإصلاح الضفير وهو مجرى الماء إلى الصهريج فلا يلزمه، ويجوز اشتراطها عليه لأنه يسير، وعليه جمع المؤن من الآلات والأجزاء والدواب ونفقتهم اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وتجوز سنين، وتنتهي السنة بالجذاذ، ولا تنفسخ

بالموت " يعني أن المساقاة جائزة في مدة السنين بشرط أن تكون المدة معلومة، وأن لا تكثر جداً. قال مالك في الموطأ: والأمر عندنا في النخل أيضاً أنها للساقي السنين الثلاث والأربع وأقل من ذلك وأكثر. قال: وذلك الذي سمعت، وكل شيء مثل ذلك من الأصول بمنزلة النخل ويجوز فيه لمن ساقى من السنين مثل ما يجوز في النخل اهـ. وقال في المدونة: وإنما المساقاة إلى الجذاذ، والمعنى - والله أعلم - أن المساقاة تجوز سنين، وتنتهي السنة بالجذاذ. وإذا تم الجذاذ بعد السنة وقبل انقضاء المساقاة أنها لم تنفسخ ما لم تكثر المدة جداً فتنفسخ للغرر كما هو مفهوم من المدونة. قال ابن القاسم: لا تنقض المساقاة بموت واحد منهما. قال وهو قول مالك اهـ. المدونة، أي لا تنفسخ بموت أحد العاقدين، بل قام مقام الميت كل من ورثته كما في القراض. قال رحمه الله تعالى: " والبياض لربه وللعامل اشتراطه إن كان أجرته مثل ثلث الثمرة فدونه ولربه أن يشترط من زرعه جزءاً موافقاً لحصته من الثمرةو الله أعلم " يعني كما تقدم نص عليه صاحب الرسالة بقوله: وعليه زريعة البياض اليسير إلخ. قال ابن جزي: المسألة الخامسة إن كان مع الشجر أرض بيضاء فإن كان البياض أكثر من الثلث لم يجز أن يدخل في المساقاة ولا أن يلغى للعامل، بل يبقى لربه، وإن كان أقل جاز أن يلغى للعامل وأن يدخل في المساقاة. وأجاز ابن حنبل دخوله في المساقاة مطلقاً اهـ. قال مالك: إذا كان البياض تبعاً للأصل وكان الأصل أعظم ذلك أو أكثره فلا بأس بمساقاته، وذلك أن تكون النخل الثلثين أو أكثر ويكون البياض الثلث أو أقل من ذلك. وذلك أن البياض حينئذ تبع للأصل. وإذا كانت الأرض البيضاء فيها نخل أو كرم أو ما يشبه ذلك من الأصول فكان الأصل الثلث أو أقل والبياض الثلثين

أو أكثر جاز في ذلك الكراء وحرمت فيه المساقاة، وذلك أن من أمر الناس أن يساقوا الأصل وفيه البياض، وتكرى الأرض وفيها الشيء اليسير من الأصل اهـ. انظر نظائره في الموطأ. تتمة: إذا وقعت المساقاة فاسدة وجب فسخها قبل العمل مطلقاً وإن لم نطلع على فسادها إلا بعد الشروع في العمل فيفسخ أيضاً في باقي المدة إن كان الواجب أجرة المثل وذلك فيما إذا كان الفساد بسبب زيادة عين أو عرض لأحدهما على الآخر. وأما لو كان الواجب فيها مساقاة المثل فتمضي بالشروع في العمل، وذلك فيما إذا كان فسادها لحصول غرر أو نحوه من كل ما يفسدها ولا يخرجها عن المساقاة كمساقاة حائط حل بيعه ما لم يحل بيعه، أو حائط بلغ أو أن الإثمار مع ما لم يبلغا ولا تبعية في الصورتين اهـ. النفراوي. ومثله لابن جزي. ولما أنهى الكلام على ما يتعلق بالمساقاة انتقل يتكلم على الرهن والوكالة وما يتعلق بهما. فقال رحمه الله تعالى:

كتاب الرهن والوكالة

كتاب الرهن والوكالة أي هذا الكتاب مشتمل على أحكام الرهن والوكالة. والمراد بالأحكام المسائل المتعلقة بهما من الأركان والشروط والصحة والبطلان وغيرها من المسائل. وبدأ بالرهن اهتماماً به فقال رحمه الله تعالى: " الرهن عقد لازم " يعني أن الرهن يلزم بالعقد كالبيع، وهو لغة اللزوم والحبس، وعرفاً متمول أخذ توثقاً به في دين لازم أو صائر إلى اللزوم، ويعرف أيضاً بأنه عقد لازم لا ينقل الملك قصد به التوثق في الحقوق. قال ابن جزي: الرهن محتبس بالحق ما بقي منه درهم، ولا ينحل بعضه بأداء بعض الحق اهـ. قال رحمه الله تعالى: " واشتراط غلته مبطل " وما ذكره المصنف من بطلان الرهن باشتراط الغلة فيه تفصيل قال ابن جزي: المنفعة في الرهن وهي للراهن، فإذا اشترطها المرتهن جاز إن كان الدين من بيع أو شبهه، ولم يجز إن كان سلفاً، لأنه سلف جر منفعة، فإن لم يشترطها المرتهن ثم تطوع له الراهن بها لم يجز، لأنها هدية مديان. وقال ابن حنبل: ينتفع المرتهن بالحيوان بنفقته اهـ. قال الدردير في أقرب المسالك: وجاز شرط منفعة عينت ببيع فقط، وعلى أن تحسب من الدين مطلقاً. قال الصاوي عليه: حاصله أن منفعة الرهن إما أن تكون مدتها معينة أو غير معينة، وفي كل إما أن يشترطها المرتهن أو يتطوع بها الراهن عليه، وفي كل إما أن يكون الرهن في عقد بيع فأخذ المرتهن لها في رهن القرض ممنوع في صوره الأربع، وهي معينة أم لا، مشترطة أو متطوع بها، وفي رهن البيع في ثلاث إذا كان متطوعاً بها معينة أم لا، أو مشترطة ولم يتعين، والجواز في واحدة وهي ما إذا اشترطت وكانت معينة اهـ. هذا بيان ما في المدونة انظر المواق. قال الجزيري في فقه المذاهب: أما ثمرة المرهون وما ينتج منه من حقوق الراهن فهي له ما لم يشترط المرتهن ذلك فإنها تكون له بثلاثة شروط: الأول أن يكون

الدين بسبب البيع لا بسبب القرض، وذلك كما إذا باع شخص لآخر عقاراً أو عروض تجارة أو غير ذلك بثمن مؤجل ثم ارتهن به عيناً مقابل دينه. الشرط الثاني أن يشترط المرتهن أن تكون المنفعة له، فإن تطوع بها الراهن له لا يصح له أخذها. الشرط الثالث أن تكون مدة المنفعة التي يشترطها معينة، فإذا كانت مجهولة فإنه لا يصح، فإذا تحققت هذه الشروط الثلاثة صح للمرتهن أن يستولي على منفعة المرهون ويأخذها له، أما إذا كان بسبب القرض فإنه لا يصح له أن يأخذ المنفعة على أي حال سواء اشترطها أو لم يشترطها، أباحها له الراهن أو لم يبحها، عين مدتها أو لم يعينها، وذلك لأنه يكون قرضاً جر نفعاً للمقرض فيكون رباً حراماً. ولا يلزم من كون المنفعة للراهن أن يتصرف في المرهون أو يكون المرهون تحت يده كلاً، فإن الرهن يكون تحت يد المرتهن ولكنه يعطي منفعته للراهن إذا لم يشترطها بالكيفية المتقدمة، فإذا راهن داراً فإن المرتهن هو الذي يؤجرها، ولكن يعطي أجرتها للراهن، فإذا أذن المرتهن الراهن في إجارتها بطل الرهن ولو لم يؤجرها بالفعل. ومثل ذلك ما إذا أذنه بالسكنى. أما إذا كان الرهن يمكن نقله كأدوات الفراش فإن مجرد الإذن بإجارتها لا يبطل الرهن، بل لا بد في بطلانه من تأجيرها بالفعل، وكذلك إذا أذن الراهن المرتهن في بيع الرهن وسلمه له، فإن الرهن يبطل بذلك ويبقى دينه بلا رهن اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فيصح بالقول، ويتم بالقبض، ويجبر الراهن عليه " الضمير في عليه راجع إلا بالقبض، فالمعنى أن الرهن يصح بالقول كما يتم بالقبض، وانعقاده كالبيع بالإيجاب والقبول، وهي تسمى بالصيغة، وهي ركن من أركانه، وهل يفتقر الرهن إلى التصريح بالرهنية أو لا يفتقر إلى ذلك؟ فلو دفع رجل إلى آخر سلعة قائلاً له: أمسكها حتى أدفع لك حقك هل تكون رهناً بذلك أم لا؟ قال بالأول أشهب، وقال بالثاني ابن القاسم اهـ. من تقييد بعض الأفاضل. وأما القبض فهو شرط كمال على

المذهب. قال في أقرب المسالك: ولا يتم إلا بالقبض. وقال ابن جزي في القوانين: وهو الحوز فهو شرط تمام في العقد. وقال الشافعي وأبو حنيفة: شرط صحة. وعلى المذهب فإذا عقد الرهن بالقول لزم وأجبر الراهن على إقباضه للمرتهن في المطالبة به، فإن تراخى المرتهن في المطالبة به أو رضي بتركه في يد الراهن بطل الرهن. ولا يكفي في القبض الإقرار به، ولا بد فيه من معاينة البينة، وإذا قبض الرهن ثم أفلس الراهن أو مات فالمرتهن أحق به من سائر الغرماء. ويصح أن يقبض الرهن المرتهن أو أمين يتفقان عليه اهـ. قال رحمه الله تعالى: " واستدامة شرط، فإن عاد إليه اختياراً ولو بإعارة أو إجارة أو وديعة بطل، كتراخيه عن قبضه حتى مات الراهن أو أفلس، لا بامتناع الراهن مع إقامته على الطلب " يعني كما في القوانين لابن جزي أنه قال: ويشترط دوام القبض، فإذا قبض الرهن ثم رده إلى الراهن بعارية أو وديعة أو كراء أو استخدام العبد أو روكوب الدابة بطل الرهن. ومهما احتيج إلى استعمال الرهن أو إجارته فليتول ذلك المرتهن بإذن الراهن اهـ. بحذف. وفي الرسالة: والرهن جائز، ولا يتم إلا بالحيازة، ولا تنفع الشهادة في حيازته إلا بمعاينة البينة اهـ. وعبارة الدردير في أقرب المسالك عاطفاً على ما يبطل الرهن، قال: ويمانع كموت الراهن أو فلسه قبل حوزه، ولو وجد المرتهن فيه وبإذنه في وطء أو سكنى أو إجارة ولو لم يفعل إن فات بنحو عتق أو بيع أو أذن المرتهن الراهن في بيع وسلمه أي دفعه المراهن، وبإعارة مطلقة أي غير مقيدة بشرط، وإلا فله أخذه كأن عاد لراهنه اختياراً إلا أن يفوت بعتق أو تدبير أو حبس أو قيام الغرماء اهـ. بتوضيح. قال رحمه الله تعالى: " والمال الباطن مضمون ما لم تقم بينة بالتلف، أو يكن على يد أمين لا الظاهر إلا بالتعدي " قال في الرسالة: وضمان الرهن من المرتهن

فيما يغاب عليه، ولا يضمن ما لا يغاب عليه. وثمرة النخل الرهن للراهن، وكذلك غلة الدور والولد رهن مع الأمة الرهن تلده بعد الرهن، ولا يكون مال العبد رهناً إلا بشرط وما هلك بيد أمين فهو من الرهن اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: " فإن اختلفا في قيمته واتفقا على صفته قوم عليها؛ فإن اختلفا أيضاً حلف المرتهن، فإن نكل حلف الراهن وقوم عليها، فإن جهلاها حلف المرتهن على قيمته وقاصه " يعني فإن اختلف الراهن والمرتهن في قيمة الرهن التالف واتفقا على صفته قوم عليها أي على الصفة التي اتفقا عليها، وإن لم يتفقا على الصفة بأن اختلفا فيها أيضاً حلف المرتهن على ما ادعاه، فإن نكل حلف الراهن كذلك، وقوم على ما وصفه الحالف، وقضى للحالف على الناكل، فإن جهلا وصفه معاً حلف المرتهن على القيمة وقاص الراهن عليها اهـ. بمعناه. وعبارة الدردير في أقرب المسالك عاطفاً على ما اختلفا فيه كما في المختصر. وفي قيمة تالف تواصفاه ثم قوم، فإن اختلفا أي في وصفه فالقول للمرتهن، فإن تجاهلا أي فإن ادعى كل منهما جهل حقيقة صفته فالرهن بما فيه، أي فلا يرجع أحدهما على صاحبه بشيء، لأن كل واحد منهما لا يدري هل يفضل له عند صاحبه شيء أم لا اهـ. بطرف من المواق. قال رحمه الله تعالى: " فإن اتفقا واختلفا في قدر الحق فالرهن شاهد بقدر قيمته. ويحلف الراهن لنفي الزائد " يعني أنهما إذا اتفقا على صفة الرهن واختلفا في قدر الحق فالرهن شاهد بقدر قيمته، فيحلف الراهن لنفي الزائد. قال ابن جزي في القوانين: المسألة العاشرة إذا اختلفا في مقدار الحق الذي رهن فيه، فالقول قول الراهن عندهما، أي عند الشافعي وأبي حنيفة. وقال مالك: القول قول المرتهن، إلا فيما زاد على الرهن فالقول قول الراهن اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وفي عين الرهن القول قول المرتهن " يعني إذا اختلف

المتراهنان في عين الرهن فالقول قول المرتهن. وسيأتي قول المصنف: ولا تقبل دعوى المديان رهناً عند غريم إلا ببينة على قبضه رهناً. قال رحمه الله تعالى: " وفي كون المقتضي ما به الرهن يحلفان وتحسب منهما " يعني كما قال خليل: وإن اختلفا في مقبوض فقال الراهن عن دين الرهن وزع بعد حلفهما، ومثله في أقرب المسالك، فالمعنى كما في الحطاب فهي مسألة صاحب الدينين على رجل: أحدهما برهن والآخر بلا رهن، قال في المدونة: إذا كان لك على رجل مائتان فرهنك بمائة منها رهناً، ثم قضاك مائة وقال هي التي فيها الرهن، وقلت أنت هي التي لا رهن فيها، وقام الغرماء أو لم يقوموا، فإن المائة يكون نصفها بمائة الرهن ونصفها للمائة الأخرى بعد أن يتحالفا إن ادعيا البيان. وقال أشهب: القول قول المقتضي اهـ. انظر شراح خليل. قال رحمه الله تعالى: " وفي مال العبد القول قول الراهن " يعني إذا اختلفا أي المتراهنان في مال العبد بأن قال المرتهن هو وماله رهن، وقال الراهن هو فقط بغير ماله فالقول قول الراهن. قال في الرسالة: ولا يكون مال العبد رهناً إلا بشرط دخوله في الرهن فيدخل، لقوله في المدونة: ولا يكون مال العبد رهناً إلا أن يشترطه المرتهن، كان ماله معلوماً أو مجهولاً. ومثل مال العبد بيض الطير لا يدخل في الرهن إلا بالشرط اهـ. النفراوي. قال رحمه الله تعالى: " ولا يصح رهن ما لا يجوز بيعه بحال " يعني أنه لا يصح أن يرهن ما لا يجوز بيعه بحال من الأحوال، وأما لو كان يجوز بيعه في بعض الأحوال ولو بغرر فيجوز ارتهانه حينئذ ما لم يكن الغرر شديداً، وفي بعض الأحوال يصح الرهن مع يسير الغرر. قال الدردير في أقرب المسالك: ولو بغرر كآبق وثمرة لم يبد صلاحها، أو كتابة مكاتب وخدمة مدبر، واستوفى منهما، فإن رق فمنه أو غلة نحو دار أو جزء

مشاع اهـ. قال ابن جزي في القوانين: (المسألة الأولى) في المرهون، ويجوز رهن كل شيء يصح تملكه من العروض والحيوان والعقار، ويجوز رهن المشاع خلافاً لأبي حنيفة، ويجوز رهن الدنانير إذا طبع عليها، ويجوز رهن الدَّين خلافاً للشافعي، ويجوز رهن الثمر قبل بدو صلاحه، ويجوز الرهن قبل حلول الحق خلافاً للشافعي، وبعد حلوله اتفاقاً، والرهن محتبس بالحق ما بقي منه درهم ولا ينحل بعضه بأداء بعض الحق اهـ. كما تقدم. قال رحمه الله تعالى: " ولا تقبل دعوى المديان رهناً عند غريم إلا ببينة على قبضه رهناً " يعني لو ادعى الراهن دفع الرهن عند المرتهن ولا بينة بينهما فإنه لا تقبل دعواه، بل لا تنفع شهادة البينة إلا بمعاينتهم الحوز. قال ابن جزي: ولا يكفي في القبض الإقرار به ولا بد فيه من معاينة البينة اهـ. ومثله في الرسالة. نعم وفي المسألة قولان، ولذا قال خليل: وهل تكفي بينة على الحوز قبله؟ وبه عمل، أو التحويز وفيها دليلهما. قال العلامة الخرشي: لما قدم أن مجرد دعوى الحوز من المرتهن لا تقبل بين هنا أنها لو لم تتجرد عن البينة ما كيفية الشهادة؟ هل يكفي أن تشهد البينة له بالحوز للرهن قبل وجود المانع ويكون أحق به من الغرماء ولو لم تحضر البينة الحيازة ولا عاينتها؟ لأنه قد صار مقبوضاً، وكذلك الصدقة، وهو قول ابن عتاب والباجي وبه العمل، أو لا يكتفى في ذلك إلا بشهادة البينة على التحويز، أي تشهد أنها عاينت الراهن سلم الرهن للمرتهن وهو قول اللخمي اهـ. وعبارة الحطاب أنه قال: أشار بذلك لظاهر كلام المدونة في كتاب الهبة، ونصه: ولا يقضي بالحيازة إلا بمعاينة البينة لحوزه في حبس أو رهن أو هبة أو صدقة، ولو أقر المعطي في صحته أن المعطى قد حاز وقبض وشهدت عليه بإقراره بينة ثم مات لم يقضَ بذلك إن أنكر ورثته حتى تعاين البينة الحوز اهـ. انظر وجه كون كلام المدونة دالاً على القولين في الحطاب كما ذكره خليل.

ثم قال رحمه الله تعالى: " ويصح رهن المشاع، فإن كان باقيه له لزمه تسليمه، وإن كان لغيره نزل المرتهن معه منزلة الراهن " يعني كما في أقرب المسالك عاطفاً على ما يجوز: أو جزء مشاع وحاز المرتهن الجميع أي جميع المشاع ما رهن، وما لم يرهن بالقضاء ليتم الرهن، وإلا لجالت يد الراهن فيه مع المرتهن فيبطل الرهن. هذا إن كان الباقي للراهن. وأما إن كان الباقي لغير الراهن كفى حوز الجزء المرهون من ذلك المشاع، لأن جولان يد غير الراهن لا يضر في الحوز. وللراهن استئجار جزء شريكه ويتولى قبض أجرته المرتهن له أي للراهن المستأجر لجزء شريكه، وذلك لئلا يبطل حوزه بجولان يد الراهن عليه. وجاز للراهن أن يرهن فضلته أي الجزء الباقي من المشاع في دين آخر برضا المرتهن الأول ويكون الأول حائزاً لمرتهن الثاني فيكون أميناً فيه، ولذا لا ضمان عليه إن ضاع بلا بينة ولا تفريط، وهو مما يغاب عليه ولا يضمن إلا ما يخصه كحالته قبل الرهنية كما يأتي جميع ذلك عند قول المصنف: فإن أراد رهن فائضه عند غير المرتهن وقف على إذنه، ثم إن حل أحد الدَّينين قبل الآخر قسم الرهن لإعطاء من حل دينه منابه إن أمكن قسمه بلا ضرر وإلا بيع الرهن جميعه وقضيا الدَّينين معاً اهـ بزيادة توضيح منه. وإلى ذلك كله أشار خليل بقوله: وصح مشاع وحيز بجميعه إن بقي فيه للراهن، ولا يستأذن شريكه، وله أن يقسم ويبيع ويسلم، وله استئجار جزء غيره ويقبضه المرتهن له ولو أمنا شريكاً فرهن حصته للمرتهن وأمنا الراهن الأول بطل حوزهما اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ومن رهن على قدر معين ثم أخذ زيادة عليه صار رهناً بالجميع " يعني ومن رهن شيئاً معيناً كالثوب قدر ثمنه عشرة مثلاً وقبل حلول الأجل أخذ من المرتهن شيئاً آخر ديناً أقل من الأول فصار الرهن في جميع الدينين ولا يأخذ رهنه ما بقي عليه درهم. قال خليل: وإذا قضى بعض الدين أو سقط فجميع

الرهن فبما بقي، قال الشارح يعني أن الراهن المتحد إذا قضى بعض الدين للمرتهن المتحد أو سقط عن الراهن بعض الدين بهبة وما أشبه ذلك فإن جميع الرهن يكون رهناً فيما بقي من الدين، وسواء كان الرهن متحداً كدار أو متعدداً كثياب، وليس للراهن أخذ شيء منه لأنه قد تتحول عليه الأسواق. وأما إن تعدد الراهن والمرتهن أو أحدهما فإنه يقضي لمن وفَّى حصته من الدين بأخذ حصته من الرهن اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فلو أراد رهن فائضه " وفي نسخة فاضله " عند غير المرتهن وقف على إذنه " أي على إذن المرتهن الأول. قال الصاوي: قوله برضا المرتهن الأول ويلزم من رضاه علمه، فلا بد من علمه ورضاه وهذا إذا رهن الفضلة لغير المرتهن الأول، أما لو رهنها له فلا بد أن يكون أجل الدين الثاني مساوياً للأول لا أقل ولا أكثر، وإلا منع، إلى أن قال: فتحصل أن الفضلة إما أن ترهن للأول أو لغيره، فإن رهنت للأول فلا بد من تساوي الدينين أجلاً، وإن رهنت لغيره جاز مطلقاً تساوي الأجلان أم لا بشرط علم الحائز لها ورضاه سواء كان هو المرتهن الأول أو أميناً غيره، وإنما اشترط رضا الحائز كان هو المرتهن أو غيره لأجل أن يصير حائزاً للثاني اهـ حذف. قال رحمه الله تعالى: " ويقدم الأول في الاستيفاء " هذه تمام مسألة رهن الجزء المشاع كما هو مفهوم عند قولنا ثم إن حل أحد الدينين قبل الآخر قسم الرهن لإعطاء من حل دينه منابه إن أمكن قسمه بلا ضرر وإلا بيع الرهن جميعه وقضيا الدينين معاً، ولذا قال ويقدم الأول في الاستيفاء. قال الصاوي: وصفة القضاء أن يقضي الدين الأول كله أولاً لتقدم الحق ثم ما بقي للثاني اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ونماؤه لربه، ونفقته عليه ونتاجه رهن معه كفراخ النحل " الضمير في نماؤه عائد إلى الرهن، وكذلك ما عطف عليه، فالمعنى أن ما حدث

من الزيادة في الرهن بعد العقد فهو للراهن، وتقدم نص الرسالة من قولها: وثمرة النخل الرهن للراهن، وكذلك غلة الدور والولد رهن مع الأمة الرهن تلده بعد الرهن، ولا يكون مال العبد رهناً إلا بشرط كما علمت اهـ. وقوله كفراخ النحل تشبيه في كون فراخ النحل رهناً تابع للنحل. قال الحطاب: المعنى صحيح سواء قرئ بالحاء أو بالخاء. قال في القاموس: الفرخ ولد الطائر وكل صغير من الحيوان أو النبات، والجمع أفراخ وأفرخ وفراخ وفروخ وأفرخة وفرخان، والزرع المتهيئ للاشتقاق، وفرخ الزرع نبت أفراخه اهـ. ثم استثنى ما لا يكون تابعاً للرهن إلا بشرط فقال رحمه الله تعالى: " لا الصوف واللبن ومال العبد إلا أن يشترطه " يعني أن الصوف الكائن على ظهر الغنم أو الإبل لا يكون رهناً مع ما ذكر إلا بشرط كمال العبد، فإن اشترطت دخلت اتفاقاً وإلا ففي ذلك تفصيل في المذهب. وستقف إن شاء الله على نصوص أئمة المذهب تقييداً وإطلاقاً، مجملاً وتفصيلاً، فهاك نص المدونة بحروفها قلت: أرأيت أصواف الغنم وألبانها وسمونها وأولادها أيكون ذلك رهناً قال: أما أولادها فهي رهن مع الأمهات عند مالك، وأما الأصواف والألبان والسمون فلا تكون رهناً معها إلا أن يكون صوفاً كان عليها يوم ارتهنها فأراه رهناً معها إذا كان يومئذ قد تم، ألا ترى لو أن رجلاً ارتهن داراً أن غلتها لا تكون رهناً معها، وإذا ارتهن غلاماً أن خراجه لا يكون رهناً معه، ولو اشتراهما كانت غلتهما له فالرهن لا يشبه البيوع اهـ. وفيها أيضاً عن مالك أنه قال: كراء الدور وإجارة العبيد كل ذلك للراهن، لأنه غلة ولا يكون في الرهن إلا أن يشترطه المرتهن، وكذلك صوف الغنم. قال ابن القاسم: إلا صوف كمل نباته يوم الرهن فإنه يكون رهناً معها اهـ. وفي القوانين لابن جزي المسألة السابعة فيما يتبع الرهن فأما ما لا يتميز منه كسمن الحيوان فهو تابع له إجماعاً وإن كان متناسلاً عنه كالولادة والنتاج فيكون

تابعاً له خلافاً للشافعي، بخلاف غير ذلك كصوف الغنم ولبنها أو ثمار الأشجار وسائر الغلات فلا تتبعها في الرهن خلافاً لأبي حنيفة اهـ. قال خليل: واندرج صوف تم وجنين. قال المواق وانظر الصوف التام فإنه يدخل كما تقدم والفرق بينهما القياس على البيع. بعض القرويين فلو كانت الثمرة يوم الرهن يابسة دخلت فيه كالصوف التام اهـ. قال الخرشي يعني أنه إذا رهن غنماً وعليها صوف فإن كان حين الرهن تاماً اندرج لأنه سلعة مستقلة، وأما غير التام فلا يندرج اتفاقاً، وكذلك يندرج في الرهن الجنين الموجود حين الرهن وأحرى ما وجد بعده، وهذا كله مع عدم الاشتراط، أما معه فيندرج ما لا يندرج، ولا يندرج ما يندرج اهـ. بحذف. وعبارة الدردير في أقرب المسالك: واندرج في الرهن صوف تم على الغنم المرهونة يوم رهنها تبعاً لها لا إن لم يتم. قال الصاوي عليه: قوله لا إن لم يتم أي فلا يندرج في عقد الرهينة، وللراهن أخذه بعد تمامه، وذلك أن غير التام بمنزلة الغلة وهي لا تندرج اهـ. وهذا كالخلاصة على ما تقدم فتأمل. ثم قال رحمه الله تعالى: " ولا يتبغض بتبغض القضاء بل ما بقي فهو محبوس به " قد تقدم البيان على مثل هذه الجملة عند قوله: ومن رهن على قدر معين ثم أخذ زيادة عليه صار رهناً للجميع، فراجعه إن شئت. قال رحمه الله تعالى: " ويجوز اشتراط الانتفاع به في البيع لا في القرض " الضمير في به راجع إلى الصوف وما عطف عليه، فالمعنى يجوز للمرتهن أن يشترط الانتفاع بالصوف وغيره من الغلات والمنفعة كما تقدم ذكر بيان ذلك في أول هذا الكتاب عند قوله: واشتراط غلته مبطل، فراجعه إن شئت، وقد بسطنا بيانه بما يغني عن إعادته هنا إلا أن هناك صدر باسم الغلة وهي المنفعة، وهنا بجواز اشتراط الانتفاع بها، فافهم ذلك وتأمل. قال رحمه الله تعالى: " فإن وكله ببيعه صح ولم يكن له عزله " يعني

إذا وكل الراهن المرتهن في بيع الرهن وهي وكالة صحيحة، وليس للراهن عزل وكيله الذي هو المرتهن لتعلق الحق في هذه الوكالة. قال العلامة العدوي في حاشيته على الخرشي: ثم إن المرتهن إذا وكل على البيع فليس للراهن عزله كالأمين اهـ. ونقل المواق عن ابن رشد أنه قال: لو طاع الراهن المرتهن بعد البيع وقبل حلول الأجل بالبيع دون مؤامرة سلطان، جاز اتفاقاً لأنه معروف منه، ولو شرط المرتهن على الراهن في عقد البيع أنه موكل على بيعه دون مؤامرة سلطان فقيل إن ذلك جائز لازم، وقاله القاضي اسماعيل وابن القصار وعبد الوهاب وأشهب، وكره ذلك في المدونة اهـ. انظر الحطاب. قال رحمه الله تعالى: " فإن باعه ربه وقف على إجازة المرتهن، فإن ادعى أنه أذن ليتعجل حلف ويعجل " ويعني كما قال خليل عاطفاً على مبطلات الرهن: أو في بيع وسلم وإلا حلف وبقي الثمن إن لم يأت برهن كالأول اهـ. قال شارحه من المدونة قال مالك: إذا باع الراهن الرهن بغير إذن المرتهن لم يجز بيعه، فإن أجازه المرتهن جاز البيع وعجل للمرتهن حقه شاء الراهن أو أبى، وإن باعه بإذن المرتهن فقال المرتهن لم آذن في البيع ليأخذ الراهن الثمن حلف على ذلك، فإن آتى الراهن برهن وثيقة يشبه المبيع وأخذ الثمن وإلا بقي الثمن رهناً إلى محل الأجل ولم يعجل المرتهن حقه اهـ. نقله المواق. وأما عبارة الخرشي أنه قال والمعنى أن المرتهن إذا أذن للراهن في بيع الرهن وسلمه له أي وباعه فإنه يبطل ولا يقبل قول المرتهن إني لم آذن له إلا لإحيائه بثمنه وإن لم يسلمه إليه أي وباعه وهو باق تحت يد المرتهن، وقال المرتهن إنما أذنت له في بيعه لإحيائه بثمنه لا ليأخذ ثمنه حلف على ذلك ويبقى الثمن رهناً إلى الأجل إن لم يأت الراهن برهن كالأول في قيمته يوم رهن لا يوم البيع؛ لاحتمال حوالة الأسواق بزيادة أو نقص، وهو مماثل الأول في كونه يغاب عليه أو لا يغاب عليه اهـ. ومثله في حاشية الصاوي على الدردير.

ثم قال رحمه الله تعالى: " وفي عتقه موسراً ينفذ ويتعجل، وفي عسره يوقف، فإن أفاد مالاً أنفذ وإلا بيع في الدين كاستيلاده الأمة " يعني كما في المختصر: ومضى عتق الموسر وكتابته وعجل والمعسر يبقى، فإذا تعذر بيع بعضه بيع كله والباقي للراهن اهـ. قال المواق نقلاً عن المدونة: قال مالك من رهن عبد ثم أعتقه قال ابن القاسم أو كاتبه جاز ذلك إن كان ملياً وعجل الدين، أما إن كان معسراً وعتقه قبل محل الأجل فإن العبد يبقى كما هو رهناً، فإن أفاد السيد قبل الأجل مالاً أخذ منه الدين وأنفذ العتق، وإن لم يفد السيد شيئاً بيع في الدين عنده - أي عند مالك - إن لم يكن في ثمنه فضل، وإن كان فيه فضل بيع منه ما يفي بالدين وعتق الباقي، فإن تعذر بيع البعض بيع كله والباقي للراهن اهـ. وفيها أيضاً فيمن رهن جارية فأعتقها أو دبرها أو كاتبها فقال مالك: إن أعتقها وله مال أخذ المال منه فدفع إلى المرتهن وعتقت الجارية والتدبير جائز، وتكون رهناً بمالها لأن الرجل يرهن مدبره عند مالك إن أحب، وأما الكتابة فهي عندي بمنزلة العتق إن كان للسيد مال أخذ منه ومضت الكتابة. قال سحنون: فالتدبير بمنزلة العتق سواء ويعجل له حقه، كذلك قال مالك، ذكره ابن وهب عن مالك وكذلك الكتابة إن كان له مال إلا أن يكون في ثمن الكتابة إذا بيعت وفاء للدين فتكون الكتابة جائزة اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ووطء المرتهن بغير إذن زنى " يعني إن وطئ المرتهن جارية بلا إذن من الراهن حد لأنه زان. قال العلامة الدردير في أقرب المسالك: وحد مرتهن وطئ بلا إذن، وإلا فلا، وقومت عليه بلا ولد حملت أو لا اهـ. ومثله في المختصر. قال في المدونة: وإن وطئها يعني الأمة الرهن المرتهن فولدت منه حد ولم يلحق به الولد، وكان مع الأمة رهناً وعليه للراهن ما نقصها الوطء بكراً أو ثيباً إذا أكرهها لا إن طاوعته وهي بكر، فإن كانت ثيباً فلا شيء عليه، والمرتهن وغيره في ذلك سواء.

فصل في الوكالة

قال ابن يونس: والصواب أن عليه ما نقصها وإن طاوعته بكراً كانت أو ثيباً، وهو أشد من الإكراه لأنها لا تعد مع الإكراه زانية وفي الطوع هي زانية، فقد أدخل على سيدها عيباً فوجب عليه غرم قيمته، ونحو هذا في كتاب المكاتب إن على الأجنبي ما نقصها بكل حال وقال إن طاوعته فلا شيء عليه مما نقصها بكراً كانت أو ثيباً، وهو في كتاب المكاتب من المدونة اهـ. نقله الحطاب، ومثله في المواق. قال رحمه الله تعالى: " وبإذنه يبطل ويقاصه بقيمتها وتصير أم ولد " يعني فإن وطئها المرتهن بإذن سيدها فإنه لا حد عليه للشبهة لقوله عليه الصلاة والسلام: «ادرؤوا الشبهات» وإنما عليه الأدب. وحيث أذن الراهن للمرتهن أو لغيره في وطئها فإنها تقوَّم على واطئها سواء حملت أم لا فيغرم قيمتها يوم الوطء، ولا يغرم لولدها شيئاً لا قيمة ولا ثمناً لانعقاده على الحرية ولحوقه بالواطئ اهـ. قاله الخرشي. ولما أنهى الكلام على ما تعلق بأحكام الرهن انتقل يتكلم على ما يتعلق بأحكام الوكالة كما هو مذكور أول الكتاب. فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في الوكالة أي في بيان ما يتعلق بالوكالة وأحكامها: الوكالة - بفتح الواو وكسرها - لغة: الحفظ والكفالة والضمان والتفويض. يقال: وكَّلت أمري لفلان: فوضته إليه. وعُرفاً: نيابة في حقٍّ غير مشروطة بموته ولا إمارة بما يدل عرفاً. وأركانها أربعة: موكِّل، ووكيل، وموكَّل فيه، وصيغة. قاله بعض الأفاضل في تقييداته: وحكم الوكالة الجواز، ولذا قال رحمه الله تعالى: " وتجوز الوكالة في مل ما يقبل النيابة من غير اعتبار برضا الموكل عليه وحضوره " يعني الوكالة جائزة في كل ما يقبل النيابة من الحقوق المالية وغيرها كالعقد والفسخ. والدليل على جوازها فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وثبت أنه وكل حكيم بن حزام بشراء أضحية،

ووكل أبا رافع في تزويج ميمونة، ووكل عمرو بن أمية الصمري في تزوُّج أم حبيبة. قال الجزيري: فإن إجماع المسلمين عليها من غير أن يخالف فيها أحد من أئمتهم دليل على جوازها من غير نزاع اهـ. قال الدردير: الوكالة نيابة في حق غير مشروطة بموته ولا إمارة، كعقد، وفسخ، وأداء، واقتضاء، وعقوبة، وحوالة، وإبراء، وإن جهله الثلاث، وحج، أي وإن كان الحج مجهولاً من الثلاثة: الموكل والوكيل ومن عليه الحق، كأن يوكل إنساناً في إبراء ذمة من عليه حق من مال أو غيره، والإبراء هية وهي تجوز بالمجهول. ومما يقبل النيابة الوكالة في الحج، بأن يوكل من يحج عنه غير الفريضة. قال الصاوي: فتصح النيابة فيه وإن كان مكروهاً لقول خليل في باب الحج ومنع استنابة صحيح في فرض وإلا كُره. ومما يقبل النيابة والوكالة تفريق الزكاة على مستحقها، ومثلها صدقة التطوع والهبة والوقف، وقبض الديون، واقتضاؤها، وإقباضها، ورد العواري والودائع والأمانات والمغصوبات وغير ذلك مما يقبل النيابة، فالوكالة في الجميع صحيحة لأن المقصود في هذه الأشياء إيصال الحقوق لأهلها إما بنفسه أو بغيره فيتحصل المقصود بذلك، بخلاف ما لا يقبل النيابة فلا تصح منه الوكالة فيه قطعاً، وذلك كالدخول في الإسلام، والصلاة، والصيام، ولو نفلاً، والأيمان في الحقوق، والعقائد، ووطء الزوجة لأن مصلحة وطء الزوجة الإعفاف وتحصيل ولد ينسب إليه، وذلك لا يحصل بفعل غيره. ومما يلزم أكل ما يقيم به صلبه ويتقوى به بدنه ليتقوى على العبادة وغيرها، فإن ذلك يعين على القيام بالواجب وهو فرض من فروض العين، فواجب على الشخص أن يتولى جميع ذلك بنفسه بالمباشرة، فلا يكفيه فيها فعل غيره، لأنها - أي هذه الأشياء - لا تقبل النيابة اهـ. بتوضيح. قال ابن جزي في القوانين: وتجوز الوكالة في كل ما تصح النيابة فيه من الأمور المالية وغيرها والعبادات والقربات إلا العبادة المتعلقة بالأموال كالزكاة. واختلف في صحتها في الحج اهـ.

قال رحمه الله تعالى: " وله عزله إلا وكيل الخصومة بعد شروعه " يعني للموكل عزل وكيله متى شاء إلا إذا كان وكيل الخصومة بعد الشروع فيها فليس له عزله حينئذ. قال خليل: وليس له حينئذ عزله ولا له عزل نفسه اهـ. ومثله في المواق. قال ابن جزي: وإذا ابتدأ الوكيل الخصام في مجلس أو مجلسين لم يكن لموكله أن يعزله إلا بإذن خصمه. قال ابن رشد في المقدمات: المرتان كالثلاث على المشهور في المذهب. قال الدردير في أقرب المسالك: ولا يجوز أكثر من واحد في خصومة إلا برضا الخصم كأن قاعده ثلاثاً، أي ثلاثة مجالس ولو في يوم واحد فليس له عزل وكيله الأول لوكالة غيره، ولا يعزل الوكيل نفسه بعد ذلك لأن شأن الثلاثة مجالس انعقاد المقالات بينهما وظهور الحق وانعزال الوكيل حينئذ وتوكيل غيره يوجبه تجديد المنازعة وتطويلها إلا لعذر يقتضي ذلك من مرض أو سفر أو يمين، كأن يحلف الوكيل أن لا يخاصمه لكونه ألد الخصام فله حينئذ عزل نفسه، وللموكل أن يوكل غيره. وسيأتي عن المصنف أن الوكيل ينعزل بموت موكله أو بعزله إن علم الوكيل بذلك اهـ بتوضيح. قال رحمه الله تعالى: " ولا يملك الإقرار والصلح والمبارأة إلا بإذنه " يعني أن وكيل الخصومة لا يصح له الإقرار، والصلح، والمبارأة إلا بإذن الموكل، فإن فعل لم يلزمه شيء من ذلك. قال الجزيري في الفقه نقلاً عن كتب المذهب: ولا يملك وكيل الخصومة الخاصة الإقرار عن موكله إلا إذا نص عليه في عقد التوكيل، فإن أقر بشيء لم يلزم الموكل، ويكون الوكيل في هذه الحالة كشاهد. أما الوكيل وكالة مفوضة فإنه يملك الإقرار عن موكله. ويشترط لنفاذ الإقرار على الموكل في الحالتين شروط بحيث لا يتعدى وكيل الخصومة الخاصة المنصوص فيها علىأن له الإقرار، ولا من الوكيل المفوض إلا إذا تحققت هذه الشروط: الأول أن يقر بشيء من معقول يناسب الدعوة، فلا يقر بشيء زائد عن المناسب. الثاني أن يقر بما هو من نوع الخصومة كأن يوكله في دين فيقر بأنه قبض بعضه أو أبرأه عن بعضه، أما إذا وكله بدين له عند خصمه فأقر له بأنه أتلف له وديعة

عنده ونحو ذلك فإن الإقرار لا ينفذ. الثالث ألا يقر لشخص بينه وبينه ما يوجب التهمة كصديقه أو قريبه أو نحو ذلك. وإذا قال الموكل لوكيله: أقر عني بألف. يكون ذلك إقراراً من الموكل فلا يحتاج لإنشاء الوكيل إقراراً بها، وليس للموكل الرجوع بعد ذلك ولا عزل الوكيل عن الإقرار، ويكون شاهداً عليه بها. اهـ. بحروفه. قال رحمه الله تعالى: " والإطلاق بالبيع يقتضي الحلول وثمن المثل " يعني إذا أطلق الموكل للوكيل بالبيع، فإن ذلك يقتضي حلول البيع وثمن المثل، ولا يجوز له أن يبيع بدين ولا بأقل من ثمن المثل. قال ابن جزي في القوانين: فإذا وكله على البيع وعين له ثمناً فم يجز له أن يبيع بأقل منه، وإن وكله على البيع مطلقاً لم يجز له أن يبيع بعرض ولا نسيئة ولا بما دون ثمن المثل خلافاً لأبي حنيفة، وإن أذن له أن يبيع بما يرى وكيفما يرى جاز له ذلك كله اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وبشراء أمة أو ثوب ونحوه المناسب " يعني إذا وكله في شراء الأمة أو الثوب أو غيرهما من السلع لزم الوكيل أن يشتري ما يناسب الموكل، فإن خالف في ذلك خير الموكل في رده وإمضائه فإن رده لزمت الوكيل السلعة. قال في أقرب المسالك: وفعل المصلحة فيتعين نقد البلد، ولائق، وثمن المثل وإلا خير كصرف ذهب بفضة إلا أن يكون الشأن، ومخالفة مشتري عين أو سوق أو رمان، أو باع بأقل ما سمى، أو اشترى بأكثر إلا كدينارين في أربعين. ولزمه ما اشترى إن رده موكله اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وهو أمين يقبل قوله في الرد والتلف " يعني كما في أقرب المسالك، وصدق في دعوى التلف والدفع أي يصدق الوكيل بيمينه في دعوى التلف لما وكل عليه لأنه أمين، وكذا في دعوى الدفع لثمن أو مثمن أو دفع ذات ما وكل عليه لموكله. قال الصاوي في حاشيته عليه: يعني أن الوكيل غير المفوض إذا وكل على قبض حق فقال قبضته وتلف مني فإنه يبرأ لموكله من ذلك لأنه أمين، وأما الغريم الذي عليه الدين فإنه لا يبرأ من الدين إلا إذا أقام بينة تشهد له أنه دفع الدين إلى الوكيل المذكور،

ولا تنفعه شهادة الوكيل، لأنها شهادة على فعل نفسه، وإذا غرم الغريم فإنه يرجع على الوكيل إلا أن يتحقق تلفه من غير تفريط منه. وقولنا غير المفوض، أما لو كان مفوضاً ومثله الوصي إذا أقر كل منهما بأنه قبض الحق لموكله أو ليتيمه وتلف منه فإنه يبرأ من ذلك، وكذلك الغريم ولا يحتاج إلى إقامة بينة، لأن المفوض والوصي جعل لكل منهما الإقرار اهـ. قال ابن جزي: فإذا قال الوكيل قد دفعت إليك وأنكر ذلك الموكل فالقول قول الوكيل مع يمينه، وإن طال الزمان فلا يمين عليه. وإذا قبض الوكيل شيئاً فادعى تلفه بعد قبضه لم يبرأ الدافع إليه إلا ببينة على الدفع، وإذا اختلفا هل وكله أم لا فقال وكلتني، وقال الآخر ما وكلتك، فالقول قول الموكل اهـ. قال رحمه الله تعالى: " فأما قبضه من غريم أو قضاؤه فلا يقبل إلا ببينة أو تصديقه وللغريم تحليفه أنه لم يقبض ولم يعلم قبض وكيله " يعني فأما إذا وكل وكيله في قبض الدين على غريم أو دفعه لمن له حق عليه فلا تقبل دعوى الوكيل أنه قبضه، ولا دعواه في الدفع إلا بأحد الأمرين إما البينة تشهد على أنه قبض الدين وتلف، وإما التصديق بدفع ما وكله موكله من قضاء الدين الذي على الموكل، وإن لم يشهد عليه بينة بالقبض أو لم تشهد له بالدفع ولم يصدق في كلا الأمرين لزم عليه الغرم، وللغريم تحليفه أنه لم يقبض ولم يعلم الموكل قبضه. قال الدردير: وضمن إن أقبض ولم يشهد أو أنكر القبض فشهد عليه به فشهدت له بينة بتلفه كالمديان. وعبارة الخرشي أنه قال: يعني أن الوكيل إذا قبض الدين الذي على موكله ولم يشهد على القابض وأنكر القابض فإن الوكيل يضمن ذلك لتفريطه بعدم الإشهاد. ومثل الدين في ذلك البيع كما لو وكل على بيع شيء ولم يشهد على المشتري أنه قبض أو رهن أو وديعة وما أشبه ذلك اهـ. ونقل المواق عن التلقين أنه قال: إذا وكله بأن يقضي عنه ديناً، أو يودع له مالاً ولم يكن له أن يدفع ذلك إلا ببينة فإن دفعه بغير بينة ضمن. ومن المدونة قال ابن القاسم: إن باع الوكيل ولم يشهد على المتاع فجحده فإنه ضامن، كقول مالك في

الرسول يقول دفعت البضاعة وينكر المبعوث إليه أن الرسول ضامن، إلا أن تقوم له بينة أنه دفعها إليه اهـ. انظر جميع ذلك في المدونة في حكم الوكيل والرسول بالقبض إلخ. قال رحمه الله تعالى: " وينعزل بموت موكله وعزله وبيع ما أمره ببيعه واستهلاكه وعتقه " يعني أنه ينعزل الوكيل بموت من وكله، كذلك عزل من وكله عن وكالته أو ولايته كوكيل الوكيل بموت الموكل الأصلي، ومثل الموت بيع ما أمره ببيعه، أو استهلاك عين الشيء الذي وكله عليه أو عتق رقيق. قال الدردير: والعزل الوكيل مفوضاً أو لا بموت موكله أو بعزله إن علم الوكيل بالموت أو العفو، وليس له التصرف بعد العلم بما ذكر وإلا كان ضامناً، وما تصرف فيه قبل العلم فهو ماض على المذهب، وكذا ينعزل غير المفوض بتمام ما وكل فيه والله أعلم اهـ. وعبارة الخرشي: أن الوكيل إذا علم بموت موكله فإنه ينعزل بمجرد علمه بذلك ولو مفوضاً، لأن ماله انتقل لغيره ولا يتصرف أحد في مال الغير إلا بإذنه، وإن لم يعلم الوكيل بموت موكله فهل ينعزل بمجرد الموت أو حتى يبلغه الموت؟ تأويلان، الثاني هو الراجح عند الأشياخ. والله أعلم اهـ. بتوضيح من حاشية العدوي. قال رحمه الله تعالى: " ولكل من الوكلاء الاستقلال إلا أن يشترط الاجتماع " يعني كما قال خليل: ولأحد الموكلين الاستبداد إلا لشرط، وإن بعت وباع فالأول إلا بقبض ومثله في أقرب المسالك، ونصه: ولأحد الوكيلين الاستبداد إلا لشرط إن رتبا، فإن باع كل فالأول. وإن بعت وباع فكالوليين، وإن جهل الزمن اشتركا اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وللمفوض التوكيل والتصرف على وجه المصلحة وإذا اشترى في الذمة بإذنه ثم تلف الثمن فعلى ربه خلفه ولو مراراً " يعني للوكيل المفوض توكيل غيره وله التصرف بالمال على وجه المصلحة، وله أن يشتري سلعة في ذمته بإذن موكله، ثم إن تلف الثمن بيد الوكيل فعلى الموكل خلف الثمن التالف ولو

كان ذلك مراراً، لأنه أمين، هذا ما لم يدفع له الثمن قبل الشراء فإن دفع له الثمن قبل شرائه وضاع فلا يلزم الموكل شيء، لأنه وكله على الشراء بمال معين فذهب وذمة الموكل لم تشتغل بشيء من ذلك. قال خليل: ولزم الموكل غرم الثمن إلا أن يصل لربه إن لم يدفعه له. قال شارحه: يعني أنه إذا وكله على شراء سلعة ولم يدفع ثمناً فاشتراها له بما أمره ثم أخذ الوكيل الثمن من الموكل ليدفعه للبائع فضاع فإن ثمنها يلزم الموكل ولو ضاع مراراً إلى أن يصل إلى ربه، لأن الوكيل إنما اشترى السلعة على ذمة الموكل فالثمن في ذمته إلى أن يصل إلى ربه إلا أن يكون الموكل دفع لوكيله ثمن السلعة قبل أن يشتريها فإنه إذا ضاع من الوكيل لا يلزم الموكل أن يغرم الثمن ثانية، لأنه مال بعينه لا يلزمه غيره إلا إن شاء الموكل أن يدفع إليه الثمن ثانية ويأخذ السلعة فله ذلك سواء كان تلف الثمن قبل قبض السلعة أو بعده، وتلزم السلعة الوكيل بالثمن الذي اشتراها به إن لم يأخذها الموكل، وهذا كله إذا لم يكن بحضرة ربه أي رب الثمن الذي ضاع بيد الوكيل وإلا لزم الموكل غرمه، فقوله إن لم يدفعه له أي قبل الشراء، فإن دفعه له قبله لم يلزمه غرمه حيث لم يأمره بأن يشتري له في الذمة ثم يقبضه وفعل كذلك فإنه حينئذ يلزمه غرمه إلى أن يصل إلى ربه اهـ. الخرشي بتوضيح من حاشية العدوي والمواق. قال رحمه الله تعالى: " ولو دفع من ماله وقبض العوض فتلفه منه والله أعلم " يعني أنه لو أن الوكيل سواء مفوضاً أو غيره اشترى شيئاً ودفع الثمن من ماله وقبض المبيع وبعد ذلك تلف من يده فتلفه منه لا يلزم الموكل من ثمنه شيء، لأن الوكيل التزم شراءه لنفسه بماله اهـ. بمعناه. والله أعلم. ولما أنهى الكلام على الوكالة وما يتعلق بها انتقل يتكلم على الحَجْر وما عطف عليه فقال رحمه الله تعالى. انتهى الجزء الثاني، ويليه الجزء الثالث وأوله (كتاب الحجر والصلح والحمالة والحوالة)

كتاب الحجر والصلح والحمالة والحوالة

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الحَجْرِ والصُّلْح والحَمَالة والحَوالة يعي أن هذا الكتاب مشتمل على بيان ما يتعلَّق بأحكام الأشياء الأربعة وهي الحَجْرُ والصُّلْح والحَمَالة والحَوَالة، وفي كل منها أحكام ومسائلُ مستقلّة تتعلق بها، وستقف على جميع ذلك إن شاء الله تعالى فبدأ بما يتعلَّق بالحَجْرِ اهتمامًا بشأنه لأنه ضروري فقال رحمه الله تعالى: "يَحْجُرُ عَلَى الصَّغيرِ أَبُوهُ أَو وَصِيُّهُ أوِ الْحَاكِمُ" الحَجْرُ لغة المَنْع، وشَرْعًا صفة حُكمية توجِب مَنْعَ موصوفها من نفوذ تصرُّفه فيما زاد على قوته، كما توجب مَنْعَه من نفوذ تصرُّفه في تبرُّعه بزائد على ثُلُث مالِه. ثم إن الولِيَّ الذي له حَقُّ الحَجْرِ والولاية هو الأبُ في وَلَدِهِ الصغير سواء كان ذكرًا أو أنثى. ثم بعد الأبِ وصيُّه يقوم بولاية المحجور، ثم لِمَنُ أوْصَى به الوصِيّ؛ لأن وَصِيَّ الوَصِيَّ كالوَصِيّ، فإن لم يكن الأب كأن مات أو غاب غيبة بعيدة ولم يُوصٍ كانت الولاية في شؤون الصغير للحاكم الشرعي أو من يقوم مقامه في مصلحة الصغير، وإن لم يوجد حاكم شرعي فالولاية واجبة لجماعة المسلمين. قال رحمه الله تعالى: "حَتَّى يَبْلُغَ أَوْ يُؤْنَسَ رُشْدُهُ بِإِصْلاَحِهِ الْمَالَ والأُنثَى مَدْخُولاً بها" يعني أن غاية الحَجْرِ في الصغير إلى بلوغه رشيدًا أو يؤنس رشده بإصلاح المال. قال الدردير في أقرب المسالك: والصبي لبلوغه رشيدًا في ذي الأب، وفَكُّ الوصِيَّ والمقدَّم، وزيد في الأنثى دخول زوْج بها وشهادة العدول بحِفْظِها. والحاصل أن الصبي إذا رشد بِحِفْظ مالهِ لا يحتاج إلى فَكَّ الحَجْرِ عنه من أبيه، بخلاف المقدَّم

والوَصِي فيحتاج بأن يقول للعدول: اشهدوا أني فَكَكْتُ الحَجْرَ عن فلان وأطْلَقت له التصرُّف لِما قام عندي من رُشدِهِ وحُسْنِ تصرُّفه، فتصرُّفه بعد الفَّ لازم لا يُرَدُّ ولا يحتاج لإذْن الحاكم في الفَكّ، وزِيد على البلوغ والرُشْد وفَكَّ الوصي والمقدَّم في الأنثى دخول زوج بها بالفعل وشهادة العدول بحِفْظِها مالَها، وإنَّما احتيج للإشهاد لأن شأن النساء الإسراف، فمدار الرُّشد عندنا على صَوْن المال فقط دون صَوْن الدّيْن اهـ. انظر حاشية الصاوي عليه. قال رحمه الله تعالى: "ولا تُشْتَرَطُ العَدَالَةُ" المراد بالعدالة هنا حُسْن التصرُّف كما في حاشية الصاوي، وبعبارة أخرى: لا تُشْتَرَط العدالة في دعوى البلوغ وعدمها لأنها لا اعتبار بها هنا؛ لأنها تارة تُقْبَل وأخرى تُرَدّ. قال العلاّمة الجزيري في فِقْهِ المذاهب: وإذا ادَّعى الصغير البلوغ أو عدمه فإن له حالتَيْن: الحالة الأولى أن يشكَّ في صِدْقِه، وفي هذه الحالة ثلاث صُوَر: الصورة الأولى أن يدَّعي البلوغ ليأخذ مالاً أو ليثُثبت عليه مالاً للغير، فالأول كأن يدَّعي البلوغ ليأخذ سَهْمَه في الجهاد، والثاني كأن يدَّعي عليه شخص بأنه أتلف له مالاً اوؤئمن عليه وأنه بالغ فأقرَّ بذلك وخالفه الولي. وفي هذه الصورة لا تسمع دعواه مع الشكّ فيها. الصورة الثانية أن يدَّعي البلوغ ليثبت طلاقه من امرأته، أو يدَّعي عدم البلوغ ليفرَّ من إثبات طلاقها، وفي هذه الصورة تُقْبَل دعواه إثباتًا ونَفْيًا. الصورة الثالثة أن يدَّعي البلوغ ليفرّ من عقاب جناية ارتكبها، وفي هذه الصورة تُقْبَل دعواه مع الشكَّك في صِدْقِه، لأن الحدود تدرأ بالشبهات. أمَّا إذا ادَّعى البلوغ ليثبت على نفسه مع الشك في صِدْقِه، لأن الحدود تدرأ بالشبهات. أمَّا إذا ادَّعى البلوغ ليثبت على نفسه جناية فإنه لا يَصْدُق مع الشكّ لهذه العلة. الحالة الثانية ألاَّ يُشَكّ في صِدْقه، وفي هذه الحالة تُقْبَل دعواه في الأموال أيضًا إثباتًا ونفيًا. فإذا ادَّعى أنه بلغ ليأخذ سهمه في الجهاد أو ليأخذ مالاً مشروطًا ببلوغه أو نحو ذلك فإن دعواه تُقْبَلأ حيث لم يشك في صِدْقه،

وكذلك تُقْبَل في الأمور الدينية المتوقفة على البلوغ كالإمامة وتكملة عدد جماعة الجمعة. قال رحمه اللَّه تعالى: "وَاْبُلُوغُ بالإِنْباتِ أَوْ بُلُوغ ثَمَانِي عَشرَةَ سَنة. وقال ابْنُ وهْبٍ: خَمْسً عَشَرَةَ وَيُزَادُ في الأُنْثني الْحَيْضُ والْحَمْلُ" يعني أن علامة البلوغ تكون بالأشياء المعلومة، منها خروج المني من الذَّكَر يقظة أو منامًا، ومنها ظهور الحَمْل والحيض في الأنثى. ومنها بلوغ ثماني عشرة سنة على المشهور، وقيل خمس عشرة وهو قول ابن وهب، لحديث ابن عمر، وهو مشهور مذهب الشافعي. ومنها إنبات شعر العانة الخشن غير الزغب؛ فإنه ليس بلعامة البلوغ، ومتى نَبَتَ شعر العانة الخشن كان ذلك علامة على التكليف بالنسبة لحقوق الله تعالى من صلاة وصوم ونحوهما، وحقوق عباد اللَّه على التحقيق. ومنها نَتَنُ الإبط. ومنها فرق أرنبة الأنف. وأمَّا إنبات شعر اللحية والشارب فإنهما ليسا بعلامة، فقد يبلغ الإنسان قبل أن ينبت له شيئ من ذلك بزمن طويل. ومنها غِلْظُ الصوت قال المأزري: البلوغ هو قوّة تحدث في الصبي يخرج بها عن حالة الطفولية إلى حالة الرجولية، وتلك القوة لا يكاد يعْرفها أحد، فجعل الشارع لها علامات يُسْتَدَلُّ بها على حصولها اهـ. قال الشيخ يوسف بن عمر في كتاب الصيام في شرح الرسالة: ولا قائل باعتبار التنهيد خلاف ما في حاشية الصاوي على الجلاَلَيْن من قوله: ومن علامات البلوغ الحيض وكِبَرُ الثَّدي للإناث، ونبات العانة ونَتَنُ الإبط وفرق الأرنبة وغِلْظُ الحنجرة، فإذا وُجِدَتْ تلك العلامات حُكِمَ ببلوغه عند مالك، وأمَّا عند الشافعي فلا يُحْكَمُ بالبلوغ إلاَّ بالاحتلام أو الحيض أو بلوغ خمس عشرة سنة وما عدا ذلك علامة على البلوغ ولا يُحْكَمُ عليه به اهـ. قال رحمه الله تعالى: "وَيُخْتَبَر بِحُسْنِ تَصَرُّفِهِ" يعني أن المحجور يختبر بحُسْن تصرُّفه في ماله، فإذا حَسُن تصرُّفه وعُدِم تبذيره في المال فحينئذٍ ينفكُّ عنه ويدفع له ماله

بالبيَّنة وهو معنى قوله تعالى: " وابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ إلى قوله: فَإذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ [النساء: 6] الآية قال ابن رشد: حدُّ الرشد حُسْنُ النظر في المال ووَضْعُ الأمور في مواضعها اهـ. قال رحنه اللَّه تعالى: "وَلاَ يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَصِيَّ في دَفْع الْمالِ إلَيْهِ إِلاَّ بِبينَّةٍ، كَدَعْواهُ دَفْعَ نَفَقَتِهِ إِلَى حَاضِنَتِهِ" قال في الرسالة: وكذلك على وَلَيَّ الأيتام البيَّنة أنه أنفق عليهم أو دفع إليهم، وإ، كانوا في حضانته صَدَقَ في النفقة فيما يشبه، ونحو في المدوَّنة. وقال فيها: ويَصْدُق في الأنفاق عليهم إن كانوا في حَجْرِه ما لم يأتِ بسرف. قال عياض قال مالك وابن القاسم وأشهب: بعد يمينه، قال: هذا لا يختلف فيه. قال أبو عمر: ولو أراد الوصيُّ أن يحاسب بما لا بدَّ منه ولا يُشَكُّ فيه ويسقط مازاد فلا يمين عليه. قال عياض: لابدَّ من يمينه لاحتمال استغناء اليتيم عن مثل تلك النفقة التي لا شكَّ فيها أيَّامًا متفرَّقة أو متوالية لمرض أو صِلة من أحد. ومفهوم ما هنا أنه إذا ادَّعى ما لا يشبه لا يُقْبَل، ونحوه عن الموازية اهـ نَقَلَه الشيخ زروق في شرحه على الرسالة فالواجب على وَلِيَّ الأيتام البيَّنة عند الدفع للآية المذكورة. قال رحمه الله تعالى: "وَيُوَسَّعُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ مَالِهِ وَمَأْلُوفِهِ" يعني على الوَصِيَّ أن يُوَسَّعَ لمحجوره الحال والمال في نفقته وكِسْوَتِه على حَسَبِ المالوف في طبيعة بمراعاة المعروف والمصلحة في شأنه بدون إسراف ولا تقتير في ذلك، لأن خَيْرَ الأمور أوسطها كما وَرَدَ. قال الدردير في أقرب المسلاك: وللوصِيَّ اقتضاء الدَّيْن وتأخيرُ لنظره والنفقة عليه باملعروف كخضتْنِه وعُرسه وعيدِه ودَفْعِ نفقة له قَلّت، وإخراج فِطْرَتِه وزكاتِه، ودَفْع مالهِ قِراضًا وإيضاعًا، ولا يعمل به ولا يشتري من التركة، وتعقب بالنظر إلاَّ ما قلَّ وانتهت فيه الرغبات، والقول له في النفقة وقدرها إن أشبه بيمين لا في تاريخ الموت ولا في الدفع بعد الرُّشد إلاَّ لبيَّنة اهـ.

قال رحمه الله تعالى: "ولَهُ تَنْمِيَةُ مَالِهِ فَإنْ كَانَ فَقِير فَلَهُ أُحجْرَةُ مِثْلِهِ" يعني للوصي تنمية مال اليتيم الذي في حَجره بالتجارة فيها بنفسه. أو يدفعها قراضًا لغيره لمصلحة لليتيم في الربح، لكن ذلك ليس بواجب على الوصِيّ. قال الصاوي في حاشيته على أقرب المسالك: بل يندي له ذلك. وقول عائشة: "اتجِروا في مال اليتامى لا تأكلها الزكاة" حَمَلَه ابن رشد على الندب. وقال الشاعبي بوجوب التنمية على حَسَبِ الطاقة أخْذًا بظاهر الحديث اهـ. قوله: فإن كان فقيرًا فَلَهُ أجْرة مِثْلِه: أي لقوله سبحانه وتعالى: طوَمَن كَانَ فَقِيرًا فَليَأكُل بِالمَعروفِ" [النساء: 6] قال الحافظ السيوطي: بقدر أجْرة عمله، أي ما لم تَزِدْ على كفايته وإلاَّ فَلَهُ كفايته فقط، وهذا مذهب الشافعي. وعند مالك له أجرة مِثْلِه مطلقًا زادت على كفايته أو لا اهـ بطرف من الصاوي عليه. قال ي أقرب المسالك: ويتصرَّف الوَلِي بالصملحة؛ فَلَهُ تَرْكُ شُفعةٍ وقِصاص فيسقطان، ولا يعفو مجانًا، ولا يبيع عقار يَتيم إلاَّ لحاجة بينةٍ أو غبطة، أو لِخَوْفٍ عليه من ظالم، أو لكونه موظفًا أو حصةٍ أو قلَّةِ غلَّتِه، أو بين ذِمَّييَّن، أو جيران سوء، أو في محل خوف، أو لإرادة شركيه بيعًا ولا مال له، أو لخشية انتقال العمارة، أو الخراب ولا ما له، أو له مال والبيع أوْلى فيستبدل له خلافَهُ اهـ. قال رحمه اللَّه: "وَالسَّفيهِ الْحَكِمُ" بكسر الهاء المكفوفة معطوف على الصغير في قوله: يَحْجُرُ على الصغير أبوه أو وصيّه أو الحاكم. والمعنى يتولى الحَجْر على السفيه الحاكم. قال ابن جزي: فإذا ثبت سَفْهُه حَجَرَ عليه القاضي وإن كان كبيرًا خلافًا لأبي حنيفة اهـ. قال الدردير: والسَّفْ: التبذير بصرف المال في

معصية كخمر وقمار، وفي معاملة بِغُبْن فاحش بلا مصلحة أو في شهواتٍ على خلاف عادة مثله، أو بإتلافه هدرًا اهـ. قال رحمه اللَّ تعالى: "وَيُفَكُّ حَجْرُهُ بإِصْلاحِهِ الْمَالَ كَالْمَجْنُونِ" يعني كما قال ابن جزي: للقاضي ترشيد المحجور إذا ثبت عنده رُشدُه سواء كان بوصِي أو بغير وَصِيّ، وتقدَّم لنا أن المحجور يختبر بحُسْن تصرُّفِه في مالِه، فإذا تحقَّق حُسْنُ تصرُّفه وعدم تبذيره ف يالمال بعد إثبات بلوغه ورُشْدِه فحينئذٍ ينفكُّ حَجْرُه. قال الجزيري: وصورة الفك أن يقول الوصي لعدلين أو أكثر: اشهدوا أني فَكَكْتُ الحَجْرَ عن فلان محجور، وأطلقت له التصرف، وملكت له أمره لما قام عندي من رشده وحِفظه لمَالِه اهـ. وما تقدَّم من صفة الفكَّ عن السفيه ومثله المجنون كما في المصنَّف. قال رحمه الله تعالى: "وَلاَ يُتَّبَعُ بِمَا اْتَدَانَهُ حَالَ حَجْرِهِ بِغَيْرِه إِذْنٍ" قال التلقين: من استدان من المحجور عليه دَيْنًا بغير إذْن وَليَّه ثم فُك حَجْرُه لم يلزمه ذلك فيمن حُجِرَ عليه لِحَقَّ نفسه كالسَّفيه والصغير، ولزم فيمَن حُجِرَ عليه لِحَق غيره كالعبد يُعْتَق إلاَّ أن يفسخه عند السيد قبل عَتْقِه اهـ نَقَلَهُما الحطاب. وأمَّا تصرفات المحجور قبل الحَجْر ففيه قولان. قال في أقرب المسالك: وتصرُّف الذكر قبل الحجر عليه ماض أي لازم لا يُرَدّ، ولو تصرَّف بغي رعِوَض كعَتْقٍ؛ لأن علّة الرّدّ الحَجْ عليه وهو مفقود، وهذا هو قول مالك وكبراء أصحابه. وقال ابن القاسم: لا يمضي، فلِمَنْ يتولى عليه من حاكطم أو مقدَّم الدرُ أو الإجازة، وله إن رشد، والمعتمد الأول اهـ. انظر حاصله في حاشية الصاوي عليه. قال رحمه الله تعالى: " بِخِلافِ الْعَبْدِ بَعْدَ عَتْقِهِ مَا لَمْ يُسْقِطهُ سَيَّدُهُ وَهوَ يَمْلِكُ مِلْكًا مُزَلْزَلاً وَلِسَيدِهِ انْتِزَاعُهُ" يعني أن العبد إذا عَتَقَهُ سيَّده يتبع في

ذمَّته بما استدانه بغير إذْن إلاَّ أن يسقطه السيَّ قبل العَتْق فيسقط: وقوله: وهو يملك مِلكصا مزلزلاً يعني غير عام. قال شارح الرسالة: وما ذكره من أن ما بيد العبد له إلخ مبني على أه يملك لكن ملكه غير تام. وقيل لا يملك وبنوا على ملكه جواز وطء السيد لجارية عبده وعدم وجوب الزكاة في مال العبد لعدم كمال الملك، وبنوا على عدو الملك أيضًا أه إذا اشترى العبد من يعتق على سيده فإنه يعتق على السيد أهـ. ويؤيد القول بعدم الملك التام قوله: ولسيده انتزاعه، ويدل على أنّ له ملكًا إلا أن ينزع السيد منه قول أبي محمد في الرسالة وغيرها: ومال العبد له إلا أن ينتزعه السيد، فإن أعتقه أو كاتبه ولم يَسْتَثْنِ مالَه فليس له أن ينتزعه، هذا يدلُّ على أن ماله ملك له، وهو نص المدونة وهو المشهور في المذهب اهـ بمعناه. قال رحمه الله تعالى: "وَتَبَرُّعَاتُ الزَّوْجَةِ في ثُلُثِها، ولِلزّوجح رَدُّ الزَّائد، فَإنْ لَمْ يَعْلَمْ إلا بعد موتها أو إبانتها مَضَى" يعني إذا تبرَّعت المرأة بأكثر من ثُلُث ماتلِها فلزوجها رَدُّ الزائد ما دامت في عصمته، وإن حصلت الفرقة بموت أو طلاق بائن ولم يعلم بذلك مضي ما فعلت من التبرُّع. قال ابن جزي: وأمَّا المرأة فإنَّما يُحْجَ ر عليها إذا كانت ذات زوج أن تتصرَّف بغير عِوَض كالهبة والعَتْق فيما زاد على ثُلثُ مالِها، خلافًا لهما أي للشافعي وأبي حنيفة، وإذا تصرَّفت في أكثر من الثُّلُث فقيل: تبطل الزيادة على خاصة. وقيل: يبطل الجميع. ولها التصرُّف بِعوَض في جميع مالِها وبغير عِوَض في الثلث فما دون إلاَّ أن تكون قد أضمْمتعت زوجها في مالِها فليس لها التصرُّ في شيئ مما أمتعته فيه لا بِعِوَضٍ ولا بغير عِوَض إلاَّ بإذنه اهـ. قال رحمه الله تعالى: "ولِلمَرِيضِ نَفَقَتُهُ مِنْ رَأس مَالِهِ، وَيُمْنَعُ مِنَ التَّبرع بِما زَاد عَلَى الثلثِ" يعني للمريض المحجور عليه نفقته من رأس ماله. ومثل النفقة ما يشتري به الدواء وأجْرة الطبيب، وما يحتاج إليه في مرضه كل ذلك من رأس مالِه

وَيُمْنَع تبرُّعه بما زاد على الثُّلُث كالزوجة. قال الصاوي في حاشيته على الدردير: حاصلة أن المريض مرضًا مخوفًا إذا تبَّرع في مَرَضِه بشيئ من مالِه با، أعْتَقَ أو تَصَدَّق أو وَقَفَ إن ذلك يوقَف لموته كثيرًا كان أوقليلأن وبعد موته يقوم ويخرج كله من ثُلُثِه إن وَسِعه وإلاَّ خرج ما وَسِعَه الثُّلُث فقط، وقُدم الأهمُّ فالأهم كما يأتي في الوصايا، فإن صحَّ ولم يَمُتْ مضى جميع تبرُّعاته، هذا إذا كان مالُه الباقي بعد التبرُّع غير مأمون كالحيوان والعُروض، وأمَّا لو كان الباقي مأمونًا وهو الأرض وما اتصل بها من بناء أو شجر فإن ما بتله من عَتْقٍ أو صَدَقة لم يوقَف وينفذ ما حِمْلُهُ الثُّلُث عاجلاً ووُقِفَ منه ما زاد، فإ، صحَّ نفذ الجميع، وإن مات لم يمض غير ما نفذ اهـ. قال رحمه الله تعالى: "وَالزَّحِفُ فِي الصَّف، وَالرَّاكب اللُّجَّة فِي الْهَوْلِ والْحَاملُ تَبْلُغُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ كَالْمَرِيضِ. وَحُكْمُ غَيْرِ الْمَخُوفِ كَالْجُنُونِ والْجُذام وَالْبَرَص حُكْمُ الصَّحَّةِ" يعني يلحق بالمريض في استحقاق الحَجْر كل مرض ينشأ الموت فيه غالبًا، بخلاف المرض الخفيف فلا يُحْجَرُ به، وعبارة ابن جزي في القوانين أنه قال: وأمَّا المريض فهو نوعان: مريض لا يُخاف عليه الموتُ غالبًا كالأبرص والمجذوم والأرمد وغير ذلك فلا حَجْرَ عليه أصلأن ومريض يخاف عليه في العادة كالحُمّى والسُّل وذات الجنب وشبه ذلك فهذا هو الذي يُحْجَرُ عليه، فيُمْنَعُ ممَّا زاد على قدر الحاجة من الأكل والشرب والكِسْوة والتداوي. وممَّا يخرج من ماله بغير عِوَض كالهِبَة والعَتْق وال يُمْنَع من المفاوضةإلاَّ إن كان فيها محاباة، فإن مات كان ما فعل ممَّا يُمْنَع منه في ثُلْثِه، وإن عاش كان في رأس ماله، وإنما الحَجْرُ عليه لحِحقَّ وَرَثَتِه. ويُلْحَقُ به من يخاف عليه الموت، كالمقاتل في الصف، والمحبوسللقتل، والحامِل إذا بلغت ستة أشهر. واختلف في راكب البحر وقت الهول اهـ إلى جميع ذلك أشار الدردير في أقرب المسالك عاطفًا على

فصل في التفليس

مَنْ يُحْجَرُ عليه فقال: وحُجَّرَ على مريض مرضًا ينشأ الموت عنه عادة وإن لم يغب، كَسُلَّ وقُلَنْج، وحُمّى قويّةٍ، وحامل ست، ومحبوس لِقَتْل أو لِقَطْع خِيفَ الموتُ منه، وحاضرٌ صفّ القتال، لا نحو رَمَد وجَرَب وملّجَّج ببحر، ولو حصل الهولُ في تبرُّع زاد على ثُلُثِه، كنِكاح وخُلْع، لا تداويه ومعاوضّة ماليّة. ووَقَفَ تبرُّعُهُ إلاَّ بمال مأمون وهو العقار، فغ، مات فمن الثُّلُث، وإلاَّ مضى الجميع، ونجز في المأمون الثُّلُث فإن صحَّ فالباقي أي يأخذه الذي وَقَف له اهـ. ولمَّا أنهى الكلام على المحجور عليه لعدم حُسْن تصرفته المالية وكان الدَّين من أسباب الحضجْر أتبعه بِما يتعلَّق بأحكام مَنْ أحاط الدَّيْن بماله، ويُسَمَّى المفلس والمدْيان وهو من جملة المحاجير السبعة فقال رحمة الله تعالى: فَصْلٌ في التفليس أي في بيان ما يتعلَّق بأحكام المفلس. الفَلَسَ: هو عدم المال والتفليس: هو خَلْعُ الرجل من ماله للغرماء. قال رحمه الله تعالى: "إِذَا ادَّعى الْمِديَانُ الْفَلَسَ وَطَلَبَ غُرَما} هُ حَبْسَهُ حُبِسَ، فإنْ ثَبَت عُسْرُهُ أَنْظَرَهُ الْحَكِمُ، فَإنْ ظَهَرَ لَدَدُهُ أُدِيمَ حَبْسُهُ، فَإِن سألُوا حَجْرَه حُجِر عَلَيهِ وانتزع لهم ماله وقُسِمَ بَيْنهم بَالحِصَاص ويَحِلُّ الْمؤَجَّلَ عَليهِ لاَ لَهُ" يعني كما في القوانين لابن جزي أنه قال: فإذا أحاط الدَّيْن بِمال أحد ولم يكن في مالِه وفاء بديونه وقام الغرماء عند القاضي فإنه يجري في ذلك على المِدْيان أحكام التفليس وهي خمسة: الأول أن يسجن استبراء لأمْرِه. الثاني: أن تَحِل عليه الديون المؤجَّلة والمعجَّلةفي المذهب بعد سَجْنِه أو استتارة كما تَحِلُّ على الإنسانإذا مات اتفاقًا. الثالثُ ألاَّ يقبل إقراره بدَيْن وشِبهِهِ، وإن كان إقراره بعد الديون وقبلَ التفليس

قُبِلَ فيمن لا يُتَّهضم عليه ولا يُقْبَل فيمن يُتَّهَم بالميل إليه من قريب أو صديق، فإذا كان إقراره بعد التفليس لم يقبل أصلاً ولكن يجب في ذِمَّتِه متى استفاد مالأن واختلف في إقراره بمال معيَّن كالوديعة والقِراض، فقيل يُقْبَل، وقيل لا يُقْبَل، وقيل يُقْبَل إن كان على أصل القِراض والوديعة بينَّة. الرابع أن يُحْجَرَ عليه فلا ينفذ تصرُّفه في مالَه، فإن تصرَّف فيه بعد الديون وقيل التفليس نفذ ما كان من تصرُّفه بعِوَض كالبيع، ولم ينفذ ما كان بغير عِوَض كالهِبَة والعَتْق. واختلف في جواز رَهْنِه وقضائه بعض غرمائه دون بعض، وأمّا بعد التفليس فلا ينفذ شيئ من أفعاله سواء كان بعِوَضٍ أو بغير عِوَض. الخامس قُسمَ مالُه على الغرماء بعد أن يُتْرَكُ له منه كِسْوَتُه وما يأكله أيامًا هو وأهله. وفي الواضحة: الشهر ونحوه. واختلف هل تُتْرَكُ كِسْوَة زوجته؟ وهل تُباع علهي كُتُبُ العِلْم؟ ثم يُجْمَع كل ما وجد له من أصول وعروض وغير ذلك، وتُباع الاصول والعُروض ويُقْسَم المجموع على الغرماء فإن وفى بدَيْنِه سُرَّحَ من السجن، وبرِئ من الديون، وإن كان مالُه لا يقوم بالديون قُسِمَ قسمة المحاصة. والعمل في المحاصة أن ينظر نسبة مالِه من جميع الديون ويعطي كل واحد من الغرماء بتلك النسبة من دَيْنِه، مثال ذلك: إذا كان مالُه عشرةدنانير والديون عشرين دينارًا فيعطي كل واحد منهم نِصْف دَيْنِهن وكذلك لو كان مالُه عشرة والديون ثلاثين أعطى كل واحد منهم ثُلثُ دَيْنِه، ويحلف المفلس أنه ليس له مال ظاهر ولا باطن يؤدّي منه بقية دَيْنِه، وحينئذٍ يُسَرَّحُ من السجن اهـ باختصار. قال رحمه الله تعالى: "وَمَنْ وَجَدَ عَيْنَ سِلْعَتِهِ أَخَذَهَا فَإنْ قَبَضَ بَعْضَ ثَمَنِها خُيَّرَ بيْنَ ردَّهْ وَأَخْذِهَا، أو الحِصَاص بَبَاقيهِ" يعني كما في الرسالة ونصُّها: ومَنُ وَجَدَ سِلْعَته في التفليس فإمَّا حاصَصَ وإلاَّ أخذ سِلْعَتَه إن كانت تُعرف بِعَيْنها، وهو في الموت أسوة الغرماء اهـ. قال خليل: وللغريم أخْذُ ماله المحاز عنه في الفَلَس لا الموت ولو مسكوكًا أو إبقاء، ولزمه إن لم يجده إن لم يَفِدْه غرماؤه ولو بمالِهم وأمكن، لا بضع

وعصمة وقصاص، ولم ينقل إلاَّ إن طحنت الحنطة أو خلط بغير مِثْلٍ أو سَمْن زبده، أو فصل ثوبه، أو ذبح كبشه، أو تتمَّر رُطْبُه. والاصل في ذلك ما في الموطَّأ والمدوَّنة عن مالك عن ابن شهادب بإسناده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل باع متاعًا فأفلس الذي ابتاعه منه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئًا فوجده بعينه فهو أحق به، وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء، وإذا وجد المشتري قد باع بعضه وفرَّقه فصاحب المتاع أحقُّ به من الغرماء لا يمنعه ما فرق المتاع منه أن يأخذ من وجد بعينه، وإن قضى من ثمن المتاع شيئًا فأحبَّ أن يَرُدَّهُ ويقبض ما وجد من متاعه، ويكون فيما لم يجده أسوة الغرمناء فذلك له". قال خليل: وله رَدُّ بعض ثمن قُبِضَ وأخْذُها وأخْذُ بعضه وحاصَّ بالفائت اهـ. نَقَلَه النفراوي: وفي القوانين مسألة من باع سِلْعة ثم أفلس المشتري أو مات قبل أداء الثمن فَلَهُ ثلاث أحوال: الأولى: يكون البائع أحقَّ بسِلْعَتِهِ في فَلَسِ المشتري وموته وذلك إذا كانت السلعة باقية بيد البائع، وكذلك الصناع إذا افلس ربُّ المتاع أو مات والمتاع بِيَد الصناع، وكذلك الأرض أحقُّ بالزرع في الكِراء. الثانية: يكون البائع أحقَّ بالسَّلْعة في فَلَسِ المشتري دون موته، وهو إذا كانت السلْعة باقية بِيَدِ المشتري. وقال الشافعي: هو أحقُّ بها في الموت والفَلَس، وعكس أبو حنيفة. الثالثة: يكون البائع فيها سواء مع سائر الغرماء في الموت والفلس. وهذا إذا كانت السَّلْعة قد فاتت أو ذهبت اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: "وَتُتْرِكُ لَهُ ثِيَابُهُ المُعْتَادَةُ وَقُوتُهُ الأَيَّامَ وَيُبَاعُ عَلَيهِ مَا سِوى ذَلِكَ مِنْ رَبْع وَغَيْرِهِ" يعني كما في المختصر. قال: وتُركَ له قُوتُهُ والنَّفقة الواجبة عليه لظنَّ يُسْرَته، وكِسْوَتُهُم كل دَسْتًات معتادًا. قال شارحه: والمعنى أن الحاكم يبيع على المفلس مالَه ويُقْسِمُه بين غرمائه على مرَّ ويَتْرُك له منه قُوتَ نفسه وقُتَ مَنْ تلزمه نفقته شرعًا من زوجاته وولده رقيقه وأمهات أولاده ومدبريه إلى ظن

يُسْرَتِه؛ لأنهم على ذلك عاملوه، بخلاف مستغرق الذَّمة بالمظالم والتبعات إذا فَلَّسَ فإنه يَتْرُك له إلاّّ ما يسدُّ به جوعته؛ لأن أهل الأموال لم يُعَاَملوا على ذلك اهـ. الخرشي بحذف. قال رحمه الله تعالى: "وَالتَّلَفُ قَبْلَ الْبَيْع مِنْهُ وَبَعْدَهُ مِن الْغُرَمَاءِ" يعني إذا تلف مال المفلس بعد تفليسه ومَنعه من التصرُّف فيه وضقضبْلَ بَيْعِ الحاكم عليه للغراماء فالخسارة فيه من المفلس. أمَّا لو كان التَّلَفُ بعد البيع وقبل القسْم فمصيبته على الغرماء. قال ابن القاسم: في تَلَفِ مال موقوف للغائب ما يحتاج لبيعه فهو من المَدِين؛ لأنه على مِلْكِه يُباع، وما لا يحتاج إلى بَيْعِه فَمِنَ الغراماء. وعبارة الخرشي عند قول خليل: فإن تُلِفَ نصيب غائب، إلى أن قال: كعَيْنِ وَقْفٍ للغراماء لا عَرْض، يعني أن الحاكم إذا وَقَفَ مال المفلس أو مال الميت كلّه ليقضي منه ديونه فَتُلِفَ ذلك المال فالمشهور أنه إن كان عينًا ذهبًا أو فضّة فضمانه من الغرماء الحاضرين لتفريطهم في قسمة العين، إذ لا كلفة في قسْمِها؛ لأنها مهيّأة للقسْم. وأمَّا العَرْض إذا تَلَفَ فضمانه من المفلس أو من الميت لا من الغرماء. قال قبل ذلك: يعني أن الحاكم إذا قَسَمَ مال المفلس أو الميت بين غرمائه ثم إنه عَزَلَ نصيب شخص غائب فتُلِفَ بعد ذلك فإن مصيبته من الغائب اتفاقًا، والقاضي أو نائبه أمين فيه اهـ بتقديمز انظر حاشية العدوي في تعليل الشارح بتفريطهم في قسمة العين فراجِعْه إن شئت. قال رحمه اللَّه تعالى: "وَلْيسّ لَهُم مُلازَمَتُهُ عَلَى الْبَاقي وَلاَ إجَارَتُهُ" يعني إذا أخذ الغراماء ما بِيَدِ الغريم من المال ولم يَفِ بما عليه من الديون لا يلزمه أن يؤاجر نفسه ولا أن يكتسب ليؤدّي ما بقي عليه. قال الدردير في أقرب المسالك: ولا يلزم بتكسُّب وتسلّف، واستشفاع وعفو للدَّيَة، وانتزاع مال رقيقه، وما وهَبَه لولد اهـ. ومثله في المختصر قال مالك في المدوَّنة: الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أن الحرَّ إذا فلسَ لا يؤاجَر. قال ابن القاسم: ولا يستعمل لقوله تعالى: "وَإِن كَانَ ذُو عُسرَةٍ فَنَظرَة إلى مَيسَرَةٍ" [البقرة: 280] قال الصاوي في حاشية على الدردير: قوله: ولا يلزم المفلس بتكسُّب، أي ولو عامله الغرماء على

فصل في الصلح وأحكامه

التكسُّب وشرطوا عليه ذلك إذا فلَّس فلا يعمل بذلك الشرط، وسواء كان صانعًا أو تاجرًا، خلافًا لما في الحطاب نَقْلاً عن اللخمي مَنْ جَبَرَهُ على التكسّب إذا كان صانعًا وشرط عليه التكسُّب ف يعَقْدِ الدَّيْن اهـ. والأول أصحّ. قال الخرشي: وتقييد اللخمي ضعيف. وفي حاشية العدوي عليه: والحاصل أنه لا يلزم بالتكسُّب ليدفعه لغرمائه في ديونهم، وأمَّا كونه يكتسب وينفق على نفسه فهذا يلزمه، ولا يُتْرَك له قُوته حيث كان كَسْبُه يكفيه، إلاَّ أنك خبير بأن اللخمي لم يقيد، بل قال لأن الغرماء عاملوه، أي داخلون معه على ذلك اهـ. ولمَّا أنهى الكلام على ما يتعلَّق بأحكام تفليس المَدِين انتقل يتكلم على أحكام الصُّلْح وما يتعلَّق به فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في الصلح وأحكامه أي في بيان ما يتعلَّق بأحكام الصُّلْح بين المتداعين في شيئ أو في حق. والصُّلْح لغة: قَطْعُ المنازعة، وعُرْفًا: انتقال من حق أو دعوى بعوضَ لِرَفْع نزاع أو خوف وقوعه. قال ابن رشد في المقدمات: روي أن كعب بن مالك تقاضي من سمعهما النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج حتى كشف سِجْفَ حُجْرَتِه، فنادى كعب بن مالك فقال يا كعب، فقال لبيَّك يا رسول اللَّه، فأشار بيده أن ضّعْ عنه الشطر، فقال كعب: قد فعلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قم فاقضِه" اهـ نَقَلَه الحطاب. ثم اعلَم أن الصُّلْح ينقسم إلى ثلاثة أقسام: تارة يكون بَيْعًا، وتارة يكون إجارة وأخرى يكون هِبة، وذلك أن المصالح به إن كان ذاتًا فبيع، وإن كان منفعة فإجارة، وإن كان ببعض المدعى به فهبة. أمَّا حُكْمُه فالجواز مرجَّحًا إلى جانب الندب وقيل إنه مندوب.

قال رحمه الله تعالى: "الصُّلْحُ جَائِزٌ عَلَى الإِقْرارِ والإِنْكَارِ إلاَّ مَا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلالاً" يعني كما في الرسالة، ونصُّها: والصُّلْح جائز إلاَّ ما جرَّ إلى حرام. ويجوز على الإقرار والإنكار. قال شارحها: هذا بعض حديث، ولفظه قال صلى الله عليه وسلم "الصُّلْح جائز بين المسلمين إلاَّ صلحًا حرَّم حَلالاً أو أحَلَّ حرامًا، والمسلمون شروطهم إلاَّ شَرْطًا حرَّم حَلالاً أو أحَلَّ حرامًا" اهـ حديث حسن رواه الترمذي وإن كان عينًا جاز الصُّلْح عنه بعَرْض ورواه ابن حبان وصحّحه. قال النفراوي مثال الصُّلْح الذي جرَّ إلى حرام، الصُّلْح عن الدَّين الشرعي بخمر أو خنزير، وكالصُّلْح عن الذهب المؤجَّل بالورق ولو على الحلول. ومثال الذي حرَّم حَلالاً الصُّلْح عن ثوب بسِلْعة بشرط أن لا ينتفع بها، أو بثمر قبل بُدُوَّ صلاحه على شرط الجذّ. ويجوز على الإقرار ويكون تارة بَيْعًا إن وقع على أخذ غير المقِرَّ به، كأن يكون له عليه عَرْض أو حيوان ويُصَالح عنه بدراهم، وتارة يكون إجارة وذلك كأن يكون له عليه ذات معينة كثَوْبٍ أو عبد فيصالحه عن ذلك بمنافع دار مدّة من الزمان، وتارة يكون هبة وذلك كما إذا كان له عليه مائة] [14] [15] فثصالحه عنها بخمسين، وهذا في الحقيقة إبراء. قال خليل مشيرًا إلى تلك الأحوال بقوله: الصُلْح على غير المدَّعى به بَيْعٌ أو إجارة، وعلى بعضه هبة. ويجوز عن الدَّين بِما يُباع به، فإن كان عَرْضًا جاز الصُّلْح عنه ولو بعين حالة وعن الذهب الورق وعكسه حيث حلاَّ وعُجَّ المُصَالَح به. ويجوز الصُّلْح أيضًا على الإنكار وعلى مقتضى السكوت. قال خليل: وعلى الافتداء من يمين أو السكوت أو الإنكار. والمعنى أنه إذا توجهت يمين على شخص فإنه يجوز له أن يُفْتَدَى منها بالمال ولو عَلِمَ براءة نفسهعلى ظاهر المدوَّنة، وهو المعتمد خِلافًا لِمَن أثمه من أربعة أوجه. وجواز الصُّلْح عن هذه المذكورات إنَّما هو بالنظر إلى العقد وأمَّا باعتبار الباطن بحيث يحِلُّ تناول ما وقع به الصُّلْح فإن كان الصادق المنكر فالمأخوذ منه حرام وإلاّّ فحلال اهـ. النفراوي.

قال رحمه الله تعالى: "فَمَنْ عَمِمَ أَنَّنهُ لاَ حَقَّ لَهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ ما أَخَذَهُ" يعني إذا تحقَّ شخص أنه ليس له حقٌّ على غيره لا يَحِلٌّ له أن يأخذ من ماله شيئًا على وجه الباطل. فالصُّلْح لا يَحِلُّ حرامًا، ومثله حكم الحاكم فإنه لا يَحِلُّ حرامًا وإن قلَّ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحِلُّ لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه" اهـ. رواه ابن حبان والحاكم. الحديث دليل على تحريم مال المسلم إلاَّ بطيبٍ من نفسه وإن قلَّ، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدًا. قال رحمه اللَّه تعالى: "وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْن مَعَاوَضَةٍ وَغَيْرِ مَعَاوَضةٍ، وَالمُعَاوَضَةُ كَاْبَيْع فِيمَما يَجُوزُ وَيَمْتَنِعُ. الثاني تَعْجِيلُ الْبَعْضِ وَإسْقَاطُ الْبَاقي" يعني كما في القوانين لابن جزي أنه قال: والصُّلْح على نوعَيْن: الأول إسقاط إبراء وهو جائز مطلقًا. الثاني صُلْحٌ على عِوَض فهذا يجوز إلاَّ إِن أدّى إلى حرام، وحُكْمُه حُكْمُ البيع سواء كان في عين أو دين فيقدر المدَّعى به والمقبوض عن الصُّلْح كالعِوَضَيْن فيما يجوز بينهما ويمتنع، فيمتنع فيه الجهالة والغَرَر والرَّبا والوضع على التعجيل وما أشبه ذلك. ويجوز الصُّلْح على الذهب والفضّة وعلى الفضّة بالذهب بشرط حلول الجميع وتعجيل القبض. ويجوز الصُّلْح على الإقرار اتفاقًا، وعلى الإنكار خلافًا للشافعي وهو أن يصالح مَنْ وَجَبَتْ عليه اليمين على أن يُفْتَدَى منها. ويَحِلُّ لِمَنْ بذل له شيئ في الصُّلْح أن يأخذه إن عَلِمَ أنه مطالب بالحقَّ، فإن عَلِمَ أنه مطالب بالباطل لم يُزْ له أخْذُه اهـ. قال رحمه الله تعالى: "فَمَنْ وَضَعَ بَعْضَ حَقَّهِ فَلاَ رُجُوع لَله" يعني أ، من أسقط بعض حقَّ وأخذ بعضه بغير إجبار عليه فلا رجوع له إلى ما أسقطه اختياراً لأنه متبرَّ بالبعض. [15] [16] قال رحمه الله تعالى: وَمَنْ لَهُ بَيَّنَةٌ فَتَرَكَ القِيَامَ بِهَا سَقَطَتْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ

خاتمة

نَقْضُ الصُّلْجِ بِخِلاَفِ كَوْنِهَا غَائِبةً، أَوْ لاَ يَعْلَمُها: يعني ومَنُ كانت له بيَّنة في حقَّ ولم يَقمْ بها وصالح صاحبه لم يكن لن نَقْضُ الصُّلْح إلاَّ إذا كان بينته غائبة فَلَهُ الرجوع عن الصُّلْح. قال خليل: فلو أقرَّ بعده، أو شهدن بيَّنة لم يَعْلَمْها، أو أشهد وأعلن أنه يقوم بها، أو وجد وثيقته بعده فَلَه نَقْضُه، كَمَنْ لم يعلن، أو يقرُّ سرًّ فقط على الأحسن فيهما لا إن عَلِمَ ببيَّنته ولم يشهد، أو ادَّعى ضياع الصَّك، فقيل له حقُّكَ ثابت فأتِ به فصَلَح ثم وَجَدَه اهـ قال الشارح: يعني أن مَنِ ادّضعى على رجلين بدَيْن فأنْكَرَه ثم صالَحَه عليه وهو عالم ببينته ولم يشهد بأنه يقوم بها فإنه لا قيام له بها، ولا ينقضي صُلْحُه سواء كانت بيَّنته حاضرة أو غائبة غيبة قريبة أو بعيدة، ولو لم يصرَّح بإسقاطها، فلو أشهد وكل هذا ممَّا لا قيام له ولا ينقضي الصُّلْح. انظر حُكْمَ مَنْ ضاعت عنه صك في الخرشي وغيره من الشراح اهـ. قال ابن جزي في القوانين: فرعان الأول: مَنِ ادَّعى على رجل حقًّا فأنكره فصالحه ثم ثبت الحقُّ بعد الصُّلْح باعتراف أو ببيَّنة فَلَهُ الرجوع عن الصُّلْح، إلا إن كان عالِمًا بالبيَّنة وهي حاضرة ولم يَقُمْ بها فالصُّلْح له لازم، الفرع الثاني: إذا كان أحد المتصالحين قد أشهد قبل الصُّلْح إشهاد تقية أن صُلْحَه إنَّما هو لِما يتوقعه من إنكار صاحبه أو غير ذلك، فإن الصُّلْح لا يلزمه إذا ثبت أصل حقَّه اهـ. وقال النفراوي في الفواكه: خاتمة: إذا وقع الصُّلْح مستوفيًا لشروطه كان لازمًا، ولا يجوز تعقُّبه ولو ظهر المصالح عنه ويملكه المدَّعى عليه إلاَّ أن يكون متهمًا بسرقته ويوجد عنده فإنه يأخذه مالِكُه وينقضي الصُّلْح، كما ينقضي إذا أقرَّ الظالم ببطلان دعواه بعد وقوع الصُّلْح فإن للمظلوم نَقْضَه بلا خِلاف، أو شهدن بَيَّنة للمظلوم لم يكن يَعْلَم بها أو أشهدوا على أنه يقوم بها، أو وجد وثيقة بعده فَلَهُ نَقْضُه، كَمَنْ لم يعلن، أو يقرُّ سرًّا فقط على الأحسن كخما تقدَّم نصُّ خليل آنفًا. والشيئ المصالح به يَحِلُّ لِمَنْ أخذه إن كان محقًّا في دعواه، ولا يَحِلُّ له إن كان ظالمًا اهـ.

فصل في بيان ما يتعلق بأحكام الحمالة والكفالة والزعامة والضمان

ولمَّا أنهى الكلام على ما يتعلَّق بالصُّلْح انتقل يتكلم على ما يتعلَّق بأحكام الحَمَالة فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في بيان ما يتعلَّق بأحكام الحَمَالة والكَفَالة والزَّعَامة والضمان وهذه الأشياء الأربعة كلها بمعنى شيئ واحد، أي بمنزلة شيئ واحد. قال تعالى في قصة يوسف عليه السلام: "وَمِمَن جَآءَ ربِهِ حِملُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعيمُ" [يوسف: 72] أي كفيل وضامن. قال ابن جزي: يقال للضامن حميل وكفيل وزعيم. وهي لغةً: [16] [17] الحفظ، وعُرْفًا: الْتزام مكلَّف غير سفيه دَيْناً على ذِمّة غيره، أو التزام طلبه مَنْ عليه لِمَنْ له بما يدلُّ عليه، أي من الصيغة اهـ. ولِما تقدَّم. قال رحمه اللَّه تعالى: "الْحَمَالَةُ وَالْكَفَالَةُ وَالزَّعَامَةُ بِمَعْنَى" أي بمنزلة معنّى واحد، قال رحمه الله تعالى: فَيَجُوزُ بِكُلَّ دَيْنٍ ثَابِتْ أَوْ آيِلٍ إِلَى الثُّبُوتِ" يعني يجوز الضمان في كل دَيْن ثابت على الذَّمَّة أو ما سكيون ثابتًا كجُعْل. قال في أقرب المسلاك: وشَرْطُ الدَّيْن لزومه ولو في المآل كجُمعْل فإنه يؤُول للزوم، كما لو قال شخص لآخر: إن أتيت لي بعبدي الآبِق مثلاً فَلَكَ دينار، فيصحُّ ضمان القائل، فغ، أتى المخاطب بالعبد لزم الضامنَ الدينارُ إن لم يدفعه ربُّ العبد للعامل، وكذا دَايِنْ فلانًا وأنا أضمنه. أو إنِن ثبت لك عليه دَيْنٌ فأنا ضامِن اهـ. قال رحمه اللَّ تعالى: "لاَ فِيمَا لاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُوه مِنَ الْكَفِيل" يعني لا تصحٌّ الحَمَالة فيما لا يمكن استيفاؤه من الحميل كالقصاص، وجميع ما لا يقبل النيابة من الحدود. قال ابن القاسم: لا كفالة في الحدود ولا في التعرزيز. وعن ابن وهب: لا تُقْبَلأ حَمَالة في دم ولا في زناً، ولا سرقة، ولا في شرب خمر، ولا في شيئ من حدود اللَّ، وتُقْبَل فيما سوى ذلك اهـ. المدوَّنة. قال ابن جزي في المسائل: المسألة الأولى في المضمون وهو

كل حقَّ تصحُّ النيابة فيه وذلك في الأموال وما يؤول إليها، فلا يصحُّ الضمان فيالحدود ولا في القصاص؛ لأنها لا تصحُّ النيابة فيها، وإنَّما الحُكْمُ فيها بالسجن حتى يثبت الحقُّ ويستوفى. وأجاز قوم الضمان فيها بالوجهاهـ. باختصار. قال الخرشي: يعني أنه يُشْتَرَط في صِحّة الضمان أن يكون المضمون فيه يمكن أن يُستوفى من الضامن، احترز بذلك من مثل الحدود والتعازير والقتل والجراح وما أشبه ذلك فإنه لا يصحُّ الضمان فيه إذ لا يجوز أن يستوفى ذلك من الضامن. ويجوز الضمان وإن جهل قدر المضمون حالاً ومآلاً أو جهل مَنْ له الدَّيْن. قال ابن عرفة: جهل قدر المحتمل به غير مانع اتفاقًا اهـ. قال رحمه اللَّه تعالى: "وَلاَ يُشْتَرَطُ رِضَا الْمَكْفُولِ عَنْهُ" يعني كماف ي الدردير عاطفًا على جائزات: وجاز ضمان بغير إذن المضمون، أي ف لا يُشْتَرَطُ إذْنه، هذا هو نصُّ المدوَّنة وغيرها، وما ذهب إليه المتَّيطي عن بعض العلماء ضعي. قال خليل: وبغير إذْنه كأدائه رِفْقًا لا عَنتًا فيُرَدُّ، كشرائه. قال شارحه: يصحُّ الضمان بغير إذْن المضمون عنه. واستدلَّ على صِحَّة الضمان بغير إذْن المضمون عنه قوله كأدائه رِفْقًا لا عَنتًا فيُرَدُّ أي كأداء الشخص الدَّيْن، كان ضامنًا أو غيره رِفقًا بِمَنْ عليه وبِمَنْ له، ويلزم ربُّ الدَّيْن قبوله ولا كلام له ولا لِمَنْ عليه إذا دُعِيَ أحدهما إلى القضاء، فإن امتنعَا فالظاهر لا يلزمهما قاله بعضهم، لا إن أدّاة عَنتًا: أي ليَتْعَبَ مَنْ عليه لِقَصْدِ سِجْنِهِ لعداوة بينهما فيُرَدُّ الأداء من أصله اهـ الخرشي. قال رحمه الله تعالى: "وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لاَ يُطالَبُ الْكَفيلُ إلاَّ أَنْ يَتَعَذَّر الاسْتيفَاءُ مِنَ الأَصيل وَيَبْرأُ بِبَرَاءَة الأصيل لا بِالْعَكْسِ" يعني كما في الرسالة، ونصُّها: ولا يغرَم الحميل إلاَّ في عُدِم الغريم أو غيبته. وفي أقرب المسالك: ولا يُطالَبُ إن تيسَّر الأخذ من مالِ المَدِين ولو غائبًا إلاّض أن يَشترط أخْذَ أيهما شاء أو تقديمه أو ضمن

في الحالات السّتَّ، وهي: الحياة، والموت، والحضور، والغيبة، واليُسْر، والعُسْر، فَلَهُ مطالبته ولو تيسَّر الأخْذُ من مال الغريم، هذا هو المعتمد اهـ. بطرف من الصاوي وعليه. قوله إلاَّ أن يتعذَّر، قال شارح الرسالة يعني أن ممَّا يفرّق بين الحَمَالة والحَوَالة أن الحَوَالة يغرَم على كل حال، والحَمَالة إنَّما يغرَم في عُدِم الغريم أي كان حميلاً بالمال أو بغيبته إن كغان حميلاً بالوجه أو بالمال وقد تعذّر الاستيفاء منه، أو كان حميلاً في جميع الأحوال اهـ قاله زروق. وقوله: ويبرأ إلخ قال الخرشي: والمعنى أن الأصل إذا برِئ من الدَّيْن بوجْهٍ من هِبَة ونحوها، أو كون المَدِين مات مليئًا، والطالب وارثه بَرِئَ الحَميل لأنه إذا غرَّم الضامن شيئًا رجع به في تركة الميت المَدِين والتَّرْك في يد الطالب فصارت مقاصة، وإن مات المَدين معدمًا ضَمِنَ الكفيل. وقوله لا بالعكس يعني أنه إذا بَرِئ الضامن لا يَبْرَأ الأصل وكذا إن وَهَبَ ربُّ الدَّيْن الدَّيْن للضامن فعلى مَنْ عليه الدَّيْن دَفْعُه للضامن اهـ. قال في المدوَّنة وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحميل غارم" وقال أيضًا: "الزعيم غارم" والزعيم هو الحميل، فإذا قال أنا ضامن لك، أو حميل لك، أو قبيل لك، أو زعيم لك، أو هو لك عندي، أو هو لك عليَّ، أو هو إليَّ، أو هو لك قبلي فهذا كلُّه ضامن لازم. والضمان حمالة والحمالة لازمة كالذَّيْن وإن كان في هذه الوجوه كلها يريد الحق فهو لازم، وإن كان يريد الرجل فهو لازم، فَخُذْ هذا على هذا اهـ. قال رحمه الله تعالى: "وَيَجُوزُ بِالْوَجْهِ، وَيَبْرَأُ بِتَسْلِيمِهِ مُتَمَكَّنًا منْه وَيَلْزَمُهُ الْمَالُ إلاَّ أن يَمُوتَ الْمَكْفُولُ أَوْ يَشْتَرطَ الْبَرِاءَةَ" يعني كماف ي أقرب المسالك: وضمانُ الوجه التزام الإتيان بالغريم عند الأجَل، وبرِئ بتسليمه له، وإن عَدِيمًا، أو بسجن، أو بغير البلدان إن كا به حاكم، أي يقضي بالحقَّق وبتسليمه نفسه إن أمَرَه به، وحلَّ الحقُّ وإلاَّ أُغْرِمَ بعد تلوُّم خفَّ إن قربت غَيبتُه كاليومَيْن، ولا ينفعه إحضارُه بعد الحُكْم، لا إن أثبت عدمه في غيْبته، أو موتَه. وللزوج ردُّه أي ضمان الوجه اهـ.

ثم اعلم أن الضمان على ثلاث أقسام: ضمان مال، وضمان وجه، وضمان طلب، فضمان المال التزام دَيْن لا يسقطه عمَّن هو عليه، وضمان الوجه عبارة عن إحضار الغريم وقت الحاجة إليه، وإنَّما يَبْرَأ فيه الضامن بتسليم المضمون. قال خليل: ورَرِئ بتسليمه وإن بسجن، أو بتسليمه نفسه إن أمَرَه به إن حلَّ الحقُّ كما تقدَّم آنفًا. وضمان الطلب عبارة عن التفتيش على الغريم الذي عليه الذّديْ، ثم يخبر صاحب الدّيْن به ولا يلزمه إحضاره ولا غُرْمَ عليه إلاّ إن قصّر أو فرَّط. قال خليل وغُرْمٌ إن فرَّط أو هرب وعُوقِب اهـ. قال رحمه الله تعالى: "وَعَنِ الْمَيَّتِ وَبِالُمَجْهُولِ وَيَلْزَمُ مَا ثَبَت، وَفِي قَوْلِهِ عَامِلْ فُلانًا وأَنَا كَفيلُه يّلزَمُهُ الْمُشْبِهُ" يعني يجوز الضمان عن الميت. قال ابن جزي في القوانين: ويجوز الضمان عن الحي والميت ومَنَعَ أبو حنيفة الضمان عن الميت إذا لم يترك وفاء بدَيْنِه، وعن الغائب ويجوز عن الموسِر والمعدَم، ويجوز الضمان بإذن المضمون وبغير إذنه اهـ. قوله وبالمجهول، تقدَّم الكلام فيه أنه يجوز الضمان بإذن المضمون وبغير إذنه اهـ. قوله وبالمجهول، تقدَّم الكلام فيه أنه يجوز الضمان وإن جهل قدر المضمون حالاً ومآلاً أو جهل مَنْ له الدَّيْن فراجِعْه إن شئت عند قول المصنَّف لا فيما لاي مكن استيفاؤه من الكفيل. وقوله عامِل فلانًا وأنا كفيله إلخ يعني أن من قاللغيره عامِل فلانًا وأنا كفيله ففعل يلزم الآمر ما أشبه من المال. قال مالك في المدوَّنة: مَنْ قال لرجل: بايع فلانًا أو دايِنْه فمَا بايعته به من شيئ أو داينته به فأنا ضامن لزمه ذلك إذا ثبت مبلغه. وقال غيره: إنَّما يلزمه من ذلك ما كان يشبه أن يداين مثله المحمول عنه ويبايع به. قال ابن يونس: وليس ذلك بخلاف اهـ نَقَلَه الموّاق. قال رحمه اللَّه تعالى: "فَإِن مَاتَ قَبْلَ الْحُلُولِ وُقِفَ مِنْ تَرِكَتِهِ قَدْرُ الدَّيْنِ فَإذَا حَلَّ واسْتَوْفَى الحقَّ أخِذَهُ الْوَرَثَةُ وَإِلا أَخَذَهُ الْغَرِيمُ" يعني إن مات

الكفيل قبل حلول الأجَل وُقِفَ من تَرِكَتِهِ قدْر الدَّيْن الذي تكفل، فإ، حَلَّ الأجَلُ استوفى الحق منه ورجع به ورثة الكفيل أي على المَدج/ين، وإن مات المضدِين ولم يترك وفاءّ سقط حقُّ ورثة الكفيل. قال الحطاب: ولو مات الحميل قبل موت فلان وَجَبَ أن يُقَفَ من ماله بقَدْرِ الدَّيْن، فإن مات المحمول عنه عديمًا أخذ المحمول له ذلك المال الموقوف اهـ انظره وفيه توقَّفَ أبو إسحاق في هذه المسألة. قال العلاّمة الدردير: وعُجل الدَّين بموت الضامن قبل الأجل من تَرِكَتِه إن كان له تَرِكَة، ورجع وارثه على الغريم بعد الأجَل أو بعد موت الغريم على تَرِكَتِه إِن تَرَكَه، أي إن تَرَك ما يؤخذ منه الدَّيْ، وإلاَّ سَقَطَ. قال الصاوي: قوله أي الضامن، مفهومه لو مات المَدِين، فإن الحقَّ يُعَجَّل أيضًا من تَرِكَتِه، فإن لم يترك شيئاً فلا طَلَبَ على الضامن حتى يَحِلَّ الأجَلُ، إذا لا يلزم من حلول الدَّيْن على المَدِين حلوله على الكفيل لبقاء ذِمَّتِه كذا ف يالأصل. قوله وإلاَّ سقط أي بأن مات الغريم وهو معسِر سقط ما عليه وضاع على ورثة الضامن حقُّهم اهـ. قال رحمه الله تعالى: "وَإِذَا حُطَّ عَنْهُ شَيئٌ رَجَعَ بِمَا أَدَّاهُ، وَلَوُ صَالَحَ رَجَعَ بِلاَقَل" يعني إذا حطَّ عن الكفيل شيئ من الدَّيْن الذي تكفَّل ودفع لربَّه عند الأجَل باقية فإنه يجرع على المَدِين بما دفع فقط ولو صالح ربُّ الدَّيْن بشيئ من المقوَّمات أ, المثليات فإنه يرجع عليه بالأقل من ذلك ولا يرجع عليه بَما حطَّ عنه من ذلك: قال الدردير في أقرب المسالك: ورجع بما أدَّى ولو مقوَّمًا إن ثبت الدفع، وإليه أشار خليل بقوله: ورجع بِما أدَّى ولو مقوَّمًا إن ثبت الدفع، وجاز صُلْحُه عنه بِما جاز للغريم على الأصح ورجع بالأقلَّ منه أو قيمته اهـ. قال رحمه اللَّه تعالى: "وَيَصِحُّ مِنَ الْجَمَاعَةِ بَعْضُهُمْ عَن بَعْضٍ، وَمَنْ أدَّى بَرِئَ البَاقُونَ، ورَجَعَ عَلَى كُلَّ بِمَا يَنُبُه" وعبارة الدردير في أقرب المسالك أنه قال: وإن تعدَّد حملاً ولم يشترط حَمَاله بعضهم عن بعض أتبعَ كل بحصَّته فقط إلاَّ أن يقول

أيُكُم شئت آخُذ بحقّي فَلَه أخْذُ جميع الحقّ ممَّن شاء منمهم، ورجع الدافعُ على كل بِما يخصُّهُ إن كانوا غرماء وإلاَّ ... فَعَلى الغريم، كتَرَتبهم، فإن اشترط ذلك أُخذ كُلٌّ به ورجع بغير ما أدَّى عن نفسه بكُلَّ ما على المَلْقِي ثم يساواه ولو كان الحقٌ على غيرهم، كثلاثة حُمَّلاتَت بثلاث مائة لَقِيَ ربُّ الحقَّ أحدهم أخذ منه الجميعَ، فغ، لَقِيَ أحدهما أخذه بمائة ثم بخمسين اهـ انظر بلغة السالك وشراح خليل. تتمة: نَقَلَ الصاوي في حاشية على الدردير مسألة المدونة المشهورة التي أفردها بعضهم بالتأليف، وهي أن ستة أشخاص اشتروا سِلْعة بستمائة درهم من شخص على كل واحد منهم مائة بالأصالة والباقي بالحَمَالة. وقد جمع بعضهم كيفية الترادع فيها على وَجْهٍ يسهل تناوله على المبتدئ فقال: إذا لَقِيَ ربُّ الدَّيْن الأول أخذ منه ستمائة مائة أصالة ومائةين حَمَالة عن أصحابه الأربعة، عن كل واحد خمسون. فإذا لَقِيَ الأول والثاني والثالث غَرِمَ للأول خمسين أصالة وخمسة وسبعين حمالة عن أصحابه الثلاثة، عن كل واحد خمسة وعشرون، وغَرِمَ أيضًا للثاني خمسين أصالة وسبعة وثلاثين ونِصْفًا حَمَالة عن أصحابه الثلاثة عن كل واحد اثنا عشر ونِصف. وغرم أيضًا للثالث سبعة وثلاثين ونِصْفًا أصالة، واثنى عشر ونِصْفًا حَمَالة عن صاحبَيْه عن كل واحد ستة ورُبُع. فإذا لَقِيَ الأول والثاني والثالث والرابع والخامس غَرِمَ للأول اثنى عشر ونِصْفًا أصالة، وستة ورُبْعًا حضمَالة عن صاحبه، وغَرمَ للثاين أيضًا خمسة وعشرية أصالة، وتسعة وثلاثمائة أثمان حَمَالة عن صاحبه، وغَرِمَ أيضاً للثالث واحدًا وثلاثين وربعًا أصالة، وسبعة وستة أثمان ونِصْفَ ثُمْن حَمَالة عن

فصل في الحوالة

صاحبه، وغَرِمَ للرابع أيضًا واحدًا وثلاثين ورُبْعًا أصَالة، وثلاثة وسبعة أثمان، ورُبْع ثُمْن حَمَالة عن صاحبه. فإذا لَقِيَ الأول والثاني والثالث والرابع والخامس والسادس غَرِمَ للأول ستة ورُبْعًا اصالة، وغَرِمَ للثاني خمسة عشر وخمسة أثمان أصَالة، وغَرِمَ للثالث ثلاثة وعشرين وثلاثمائة أثمان ونِصْفَ ثُمْن أصَالة، وغَرِمَ للرابع سبعة وعشرين ورُبعًا وثلاثة أربع ثُمْن أصَالة، وغَرِمَ للخامس سبعة وعشرين ورُبْعًا وثلاثة أرباع ثُمْن أصَالة ف قد وصل لكلَّ ذي حق حقه. والسلام، وقد ضَبَطَه العلامة الشبرخيتي على هذا الوجه في جدول مخصوص فراجِعْه إن شئت اهـ. ولمَّا أنهى الكلام على ما تعلَّق بأحكام الحَمَالة انتقل يتكلم على ما يتعلَّق بالحَوَالة وأحكامها فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في الحَوَالة أي في بيان ما يختصُّ بأحكام الحَوَالة. وهي مأخوذة من التحوُّل. يقال حَّل الشيئ من مكانه: نَقَلَه منه إلى مكان آخر. وحوَّل وَجْهَه: لَفَتَهُ. هذا معناها اللغوي. قال العلاّمة الشيخ عبد الرحمن الجزيري في الفِقْه: والمعنى اللغوي عام يشمل نَقْلَ العين، كنَقْل الزجاجة من مكان إلى مكان آخر، كما يشمل نَقْلَ الدَّيْن من ذِمة إلى ذمة. وأمَّا معناها ف يالشرع فهو نَقْلُ الدَّيْن من ذِمة إلى ذِمة أخرى بدّيْنٍ مماثل له فتَبْرَأ بذلك النقل الذمة الأولى، فإذا كان لِزَيْدٍ مائة جنيه على عمرو يَحِلُّ موعد دَفْعِها بعد ثلاثة أشهر مثلأن ولعمرو مثل هذه المائة على خالد يحِحلُّ موعدها في ذلك الوقت، فأحال عمرو زيدًا على خالد بالشرائط الآتية فإن ذِمة عمرو تَبْرَأ من دَيْنِ زيد وتشغل ذِمّة خالد به بدل عمرو اهـ. أمَّا حُكْمُ الحَوَالة فالجواز وقيل الندب. قال رحمه الله تعالى: "الْحَوَالَةُ تَحْوِيلُ الْحَقَّ إِلَى ذِمَّة تَبْرَأُ بِهَا الأُولَى" قد

تقدمَّ آنفًا معنى الحَوَالة في الشَّرْع، فلا حاجة إلى إعادتها هنا كما لا يَخفى. وأمَّا شروط صِحَّتها فقد قال رحمه الله تعالى: "بِشَرْطِ رِضَاهُمَا لاض رِضَا المُحَالِ عَلَيْهِ إلاَّا أَنْ يَكُونَ لاَ حَقَّ عَلَيْهِ" يعني من شروط صِحّة الحَوَالة رضا المُحيل والمُحال عليه، إذ هو محل للتصرُّف باعتبار الدَّيْن الذي عنده على المشهور، ما لم يكن بينه وبين المُحال عداوة فإنه لا تصحُّ الحَوَالة عليه حينئذ على المشهور من المذهب، وهو قول مالك اهـ. قوله إلاَّ أن يكون لا حقَّ عليه يعني إلاَّ أن يكون ليس على المُحال عليه دَيْن. قال في الرسالة: وإنما الحَوَالةُ على أصل دَيْن وإلاَّ فهي حَمَالة اهـ. قال رحمه الله تعالى: "وَلاَ رُجُوعَ لِلْمُحَالِ لِتَعَذُّرِ الاسْتِيفَاءِ إلاَّ أَنْ يَغُرَّهُ لاً إِنْ عَلِمَ فَقْرَهُ فَرَضِي" قال في الموطأ قال يحيي: سمعتُ مالكِاً يقول: الأمر عندنا في الرجل يحيل الرجل على الرجل بدَيْن له عَلَيْه أنه إن أفلس الذي احتيل عليه أو مات فلم يضدَّع وفاءً فليس للمحتال على الذي أحاله شيئ وأنه لا يرجع على صاحبه الأول. قال مالك: وهذا الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا اهـ. وفي الرسالة: ومَنْ أحِيلَ بِدَيْن فَرَشِيَ فلا رجوعَ له على الأول وإن أفلس، هذا إلاَّ أن يَغُرَّه منه أي إلاَّ أن يكون المُحيل عالمِاً بإفلاس المُحال عليه فَلَهُ الرجوع عليه اهـ. النفراوي. قال خليل: ويتحوَّل حقُّ المُحال على المُحال عليه وإن أفْلَسَ أو جَحَدَ إلاّض أن يعلم المُحيل بإفلاسه فقط وحَلَفَ على نَفْيِهِ إن ظنَّ به العِلْم لأن الأصل عدم الغَرَر وعدم العِلْم اهـ. قال رحمه الله تعالى: "وَيُشْتَرِطُ حُلُولُ الْمُحَالِ بِهِ لاَ عَلَيْهِ: يعني من شروط صحة الحَوَالة حلول الدَّيْن المُحال به لا المُحال عليه. قال ابن جزي في القوانين: والحَوَالة

على نوعَيْن: إحالة قَطْع وإحالة إذْن، فأمَّا إحالة القطع فلا تجوز في المذهب إلاَّ بثلاثة شروط: الشرط الأول أن يكون الدَّيْن المُحال به قد حَلَّ سواء كان المُحال فيه قد حلّ أو لم يَحِلَّ، ولا يجوز بما لم يَحِلَّ سواء كان المُحال فيه قد حَلّ أم لا لأنه بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْن. الشرط الثاين أن يكون الدَّيْن المُحال به مساوياً للمُحال فيه في الصفة والمقدار، فلا يجوز أن يكون أحدهما أقل أو أكثر أو أدنى أو أعلى؛ لأنه يخرج عن الإحالة إلى البيع فيدخله الدَّيْن بالدَّيْن. الشرط الثالث أن لا يكون الدَّيْنان أحدهما طعامًا من سَلَم لأنه من بَيْع الطعام قبل قَبْضِه، فإذا وقعت الإحالة بَرِئَتْ بها ذِمة المُحيل من الدَّيْن الذي كان عليه للمُحال، وانتقل إلى طَلَب المُحال عليه، ولا رجوعَ للمُحال على المُحيل إن أفْلَسَ المُحال عليه أو أنكر إلاَّ أن يكون المُحيل قد غَرَّ المُحال لكونه يضعْلَمُ فَلَسَ المُحال أو بطلان حقَّه قبله ولم يَعْلَم المُحال بذلك اهـ كما تقدَّم. قال رحمه اللَّه تعالى: "وَكوْنُهُمَا مِنْ جِنْسٍ" يعني أن من شروطه صِحّة الحَوَالة أن يكون الدَّيْنان من جنس واحد لا إن كانا من جنسَيْن كالطعامَيْن من بَيْع فلا تجوز الحَوَالة في ذلك لِمَا يلزم من بَيْع الطعام قبل قضبْضِه كما تقدَّم، فإن كان أحدهما من بَيْعٍ والآخر من قَرْضٍ جاز إذاَ حَلَّ المُحال به عند الأصحاب إلاَّ ابن القاسم فاشترط حلولهما معًا. وقال ابن رشد: يُمْنَعُ مطلَقًا لوجود العِلّة. وأجيب بأن قضاء القَرْض بطعام البيع جائز كما تقدَّم اهـ. الدردير انظر أمثلة ذلك في الشرط السادس ممَّ شَرَطَهُ المالِكية من شروط الحَوَالة في فِقْهِ المذاهب الأربعة للعلاّمة الشيخ عبد الرحمن الجزيري، وفيه غنية راجعْ هناك إن شئت. قال رحمه الله تعالى: وَلاَ يُحَالُ عَلَى غَائِبٍ لاَ يُعْلَمُ حَالُهُ وَلاَ عَلَى مَيتٍ وَاللَّه أَعْلَمُ" يعني لا تجوز الحوالة على غائب الذي لا يمكن الاطلاع على حاله، وكذلك لا تجوز على ميت بعد موته ليأخذ من تركته. هذه المسألة أخرها المصنف تنبيهًا للخلاف

الواقع فيها، ولذا أعقبها بقوله والله أعلم؛ لأن فيها قولين مرجحين بعد أن ذكر المشهور فيها بقوله: لا رضا المحال عليه. قال الدردير وصحتها رضا الأولين فقط دون المُحال عليه، وإنما يشترط حضوره، وإقراره على الأرجح. وعبارة العدوي في حاشيته على الخشرشي أنه قال: لا يُشْتَرَطُ حضوره ولا إقراره الدَّيْن كما هو ظاهر المصنف وهو أحد قولين مرجحين اهـ. هذه العبارة تدل على صحة الحوالة على الغائب وهي المشهورة بخلاف ما ختم به المصنف مسألة الحوالة بقوله ولا يحال على غائب إلخ إشعارًا بالخلاف الواقع في هذه المسألة. قال الصاوي في حاشية على الدردير: والحاصل أن الفقهاء من الأندلسيين اختلفوا هل يُشْتَرطُ في صحة الحوالة حضوره وإقراره أو لا يُشترط ذلك؟ رُجَّح كل من القولين، وإن كان الأول أرجح كما قال الشارح اهـ. ثم ذكر مبنى الخلاف من القولين كلاهما: وفي الحطاب قال ابن سلمون: ولا يُشْتَرَطُ ذلك؟ رُجَّح كل من القولين، وإن كان الأول أرجح كما قال الشارح اهـ. ذم ذكر مبنى الخلاف من القولين كلاهما: وفي الحطاب قال ابن سلمون: ولا يُشْتَرَطُ رِضا المُحال عليه عند جميع العلماء، وكذلك لا يُشْتَرَطُ عِلْمُه وحضورُه على المشهور، وفي الاستغناء: لا تجوز الحوالة على الغائب، وإن وقع ذلك فُسِخ حتى يحضر، وإن كانت له بيَّنة لأنه قد تكون للغائب براءة من ذلك. وفي المشتمل لا تجوز الحوالة إلا على حاضر مقر اهـ. وعلى قول ابن القاسم اقتصر الوقار في مختصره، ونصُّه: ولا يجدوز أن يُحال أحد بحق قد حل على غائب لأنه لا يدري ما حاله في ماله، ولا يجوز أن يُحَال به على ميّّت بعد موته، وهو بخلاف الحي الحاضر لأن ذمة الميت قد فاتت وذمة الحي موجودة، وعليه أيضًا اقتصر صاحب الإرشاد (يعني في هذا الكتاب) وصاحب الكافي وكذلك أيضًا المتّيطي وابن فتوح، وقبله ابن عرفة اهـ كلام ابن سلمون والله أعلم بالصواب. ولمَّا أنهى الكلام على ما يتعلَّق بالحَوَالة وما فيها من بيان تحويل الحق من ذِمة إلى ذِمة أخرى انتقل يتكلم على ما يتعلق بالعارية والوديعة وما يحتويان من المسائل الهامة. قال رحمه اللَّه تعالى:

كتاب العارية والوديعة

كتاب العارية والوديعة أي في بيان ما يتعلَّق بأحكامها وقد جعل رحمه الله تعالى لكل واحدة منهما فَصْلاً مستقلاً يختص بما يخصها من الأحكام كما ستقف عليه فيما يأتي إن شاء الله تعالى. قال رحمه الله تعالى: "الْعَارِيَةُ" أي بالمعنى اللغوي، أي هي الشيئ المُعَار كالإناء، ومعناها عُرْفًا فكما قال المصنف هي "تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ الْمُبَاحَةِ" قال في أقرب المسلاك الإارة تمليك منفعة مؤقتة بلا عوض، وهي مندوبة. ورُكْنُها مُعيرٌ وهو مالك المنفعة بلا حَجْرٍ وإن بإعارة أو إاجارة، ومستعيرٌ وهو مَنْ تأهل للتبرع عليه، لا مسلم أو مِصْحَف لكافر. ومستعار وهو ذو منفعة مباحة مع بقاء عينه لا جارية لاستمتاع بها، والعينُ والطعامُ قَرْضٌ وما يدلُّ عليها اهـ وعبارة أبي محمد في الرسالة أه قال: والعارية مُؤداةٌ. قال شارحها: واعلم أن الكلام على العارية من وجوه: الأول في حُكْمِها. وهو الندب هذا حُكْمُها الأصلي لأنها إحسان، وتتأكَّد في الأقارب والجيران والأصحاب، وقد يعرض لها الوجوب لِمَن معه شيئ مستغنّى عنه وطلبه مَنْ يُخْشَى عليه الهلاك بتَرْكِه ككسَاء في شدّة بَرْدٍ، والحُرْمَة إذا كانت تعين على معصية، والكراهة إذا كانت تعين على فِعْل مكروه، والإباحة إذا أعهان بها عنيًّا، دل على الإذْن فيها الكتاب والسنّة وإجماع الأمة، أمَّا الكتاب فقوله تعالى: "وافعلوا الخير" [الحج: 77] وأمّا السنّة فَلِمَا في الصحيحَيْن من أنّ رسول الَّه صلى الله عليه وسلم استعار فَرَسًا من أبي طلحة، واستعار من صفوان بن أمية دِرْعه يوم حنين، فقال له أغَصْبٌ يا محمد؟ قال بل عارية مضمونة. وفي أبي داود والترمذي وابن ماجه من حديث أمامة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

يقول: "العارِية مؤدَّاةٌ، والمِنْحَة مردودةٌ، والدَّيْن مَقْضِي، والزعيم غارمٌ" قال الترمذي حسن صحيح. والمِنْحَة: الشاة أو نحوها تُعار لأخْذ لَبَنِها. وأمَّا الإجماع فقد حكاه شيوخ المذهب. الثاني من الوجوه من أركانها الأربعة المعير، وشَرْطُه أن يكون من أهل التبرُّع وملاكِاً للمنفعة التي يريد الإعانة بها، ولو بإجارة أو استعارة لأنّ للمُعِير ان يُعِيرَ إن لم يَحْجُرْ عليه المُعِيرُ له ولو بلِسَان الحال، كأن يُفْهَمُ منه أنه لا يَسْمَحُ بإعارتها لغير اهذا المستعير. والمستعير، وشَرطْطه أن يكون ممَّن يجوز شَرْعًا انتفاعه بالعَارِية، فلا تصحُّ إعارة المصحَف للكافر، أو الغلام المسلم لِخدْمَة الكافر. والشيئ المُعار، وشرطه أن يكون يمكن الانتفاع به من بقاء ذاته كالكتاب والثوب والبيت، بخلاف الطعام والنقد فلا يُعاران؛ لأنهما يستهلكان عند الانتفاع بهما، وإنما يقرضان، وأن تكون منفعته مباحة لمستعير فلا تعار الأمة أو الزوجة للاستمتاع بهما، ولا الأمَة لخدمة بالَغ غير محرَمٍ أو لِمَن تُعْتَقُ عليه لأنّ الخدمة فرع الملك، ومِلْكُها لا يستقرُّ لِمَن تُعْتَقُ عليه. وإن أعِيرت الأمَة أو العبد لِمَن يُعتقان علهي لم تصحَّ العارية، ويملكان خدمتهما تلك المدّة، ولا يملكها السيد ولا المستعير. وما به العارية وهي الصيغة من قول أو فعل تُفْهَمُ منه العارية. ثم إن قُيدت بزمن فلا إشكال في لزومها لأنها معروف وهو يلزم بالقول، وإن لم تُقَيَّدْ بزمن فاللازم ما تُعار لِمِثْلِه. قال خليل: ولزمت المقيَّدةُ بعمل أو أجلٍ لانقضائه وإلا فالمعتادة اهـ النفراوي. قال رحمه الله تعالى: "وَضَمَانُهَا كالرَّهْنِ" يعني أنّ ضمان العارية كضمان الرهن. يضمن ما يُغاب عليه ولا يضمن ما لا يُغاب عليه نحو عَبْدٍ أو دابة، إلاَّ أن يتعدَّى فَيَضْمَن. قال في الرسالة: والعارية لا يصدق في هلاكها فيما يُغاب عليه كما تقدَّم فراجِعْه إن شئت. قال بعضه: العارية مندوبة، وهي تميلك منفعة عين مباحة بلا عِوَض، إلاَّ البُضْع، وأمَة شابة لغير امرأة ومحرَمخ، وعَبْدًا مسلِمًا لكافر فلا تصح إعارتهم مَنْ يصحُّ

تبرُّعُه مع بقاء عين العارية إذا كان المستعير ممَّنْ يصحُّ أن يتبرَّع عليه وضمن المستعير ما يثغاب عليه إلاَّ ا، يقيم بيَّنة على التَّلَفِ أو الضياع لا غيره ولو بِشَرْط، وإن حمَّل الدابة ما تُعْطَبُ به وعُطِبَتْ أُلزِم بدَفْع قيمتها لربَّها، وصَدقَ المستعير في رَدَّ ما لم يضمن إن لم يقبضه ببينة مقصودة للتوثق اهـ. قاله الشيخ محمد بن أحمد الشنقيطفي في الآيات المحكمات. قال رحمه الله تعالى: "فَإِنْ أَعَارَ إِلَى أَجَلٍ فَلاَ رُجُوعَ قَبْلَهُ وَإِنْ أَطْلَقَ فَحَتَّى يَنْتَفِع بِها انْتِفَاعَ مِثْلِها: يعني كما تقدم إن قيَّده بزمن فلا إشكال، وإن لم يقيّد بأن أطلق فالعبرة حينئذ بالعادة في مثلها. قال ابن جزي في القوانين الثالث أي من أحكام العارية اللزوم، فإن كانت إلى أجَل معلوم أو قَدْرٍ معلوم كعارةي الدابة موضع كذا لم يُجزظْ لِرَبَّها أخْذُها قبل ذلك ذلك، وإلا لزمه إبقاؤها قَدْر ما ينتفع بها الانتفاع المعتادز قال أشهب: له أن يأخذها متى شاء اهـ. قال رحمه الله تعالى: "وَلِمْمُسْتَعِيرِ أَن يُعيرَ وَإذّا عيَّن مَنْفَعَة لَمْ يَكُنْ لهُ مُجَاوَزَاتُها" يعني للمستعير أن يعِيرَ لغيره، إلاَّ إذا اشترط له المُعِير عَدَم الإعارة للغير فيمتنع. قال ابن جزي: الانتفاع حسبما يؤذَن له. قال خليل: وفَعَلَ المأذونَ، ومثلَه، ودونه، لا أضرَّ. قال في المدوَّنة: مَنِ استعار دابة ليحمَّل عليها حِنْطة [25] [26] فحمَّل عليها حجارة فكلُّ ما حَمَّل ممَّا هو أضرَّ بها ممَّا استعارها له فعُطِبَتْ به فهو ضامن، وإن كان مثله في الضَّرَر لم يَضْمَنْ، كحِمْلِه عدسًا في مكان حِنطة، أو كتّانًا أو قطنًا في مكان برّ، وكذلك من اكتراها لحِمْل أو ركوب فأكراها من غيره في مثل ما اكتراها له فُعطِبتْ لم يَضْمَنْ، وإن اكتراها لحِمْل حنطة فرَكِبَها فَعُطِبَتُ فإن كان ذلك أضرَّ وأثقل ضمن وإلاَّ لم يضمن اهـ. وتقدَّم لنا مثل هذه المسألة في كتاب الإجارة عند قراءة: وحمل الأضرّ، وارتكابُ غير المماثل، وسلوكُ الأشقّ أو الأبعد اختيارًا يوجب ضمانها، فراجِعْه إن شئت.

فصل في الوديعة

ولمَّا أنهى الكلام على ما تعلَّق بالعارية على اختصار انتقل يتكلم على الوديعة فقال رحمه اللهَّ تعالى: فَصْلٌ في الوديعة أي في بيان ما يتعلَّق بأحكام الوديعة، وهي لغة: الأمانة. واصطلاحًا: هي مالٌ وُكَّلَ على حِفْظِه. وحُكْمُها كالعارية على ما تقدَّم بيانه في ذلك، أي على الوجه الذي تقدَّم بيانه في العارية. والأصل في مشروعيتها قوله تعالى: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمنت إلى أهلها" [النساء: 58] وقوله تعالى: "فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤد الذي أؤتمن أمنتهُ" [البقرة: 382] وخبر: "أدّ الأمانة إلى مَنِ ائتمنك، ولا تَخُنْ مَنُ خانك" وأداء الأمانة من علاماتالإيمان، ومن عمل المؤمنين. وأمَّا الخيانة فهي من علامات النفاق وعمل الفساق، وأجمعت الأمّة علىحُسْن الإيداع. قال رحمه اللَّه تعالى: "الْمُودِعُ أَمِينٌ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي التَّلَفِ وَالرَّدَّ، فَإِنْ قَبَضَها بِبَيَّنَةْ لَمْ يُقْبَلْ رَدُّهَا بِغَيْرِها: يعني كما ف يالرسالة: والمودع إن قال رَدَدْتُ الوديعة إليك صُدَّق، إلاَّ أن يكون قَبَضَها بإشهاد، وإن قال ذهبت فهو مُصَدَّق، أي لأنه أمين والأمين مصدَّق في التّلَفَ والرَّدَّ؛ لأن الأصل في الأمانة عدم الضمان لِما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضمان على مؤتَمَن" رواه الدارقطني، هذا إذا لم يكن متمًا، وإلاَّ فيَصْدُق بيمينه، فإن نَكَلَ ضَمِنَه. قوله فإن قَبَضَها ببيَّنة إلخ أي إذا أخذها ببينة مقصودة فلا يَصْدُق في دعوى الرَّدَّة إلاَّ ببيَّنة تشهد على الرَّدَّ للقاعدة المشهورة، وهي أن كلَّ مَنْ دُفِعَ إليه شيئ من قِراض أو وديعة على يد بيَّنة بقَصْدِ التوثق لا يَصْدُقُ في دعوى ردَّه إلاَّ ببيَّنة. والمراد بالبيَّنة المقصودة للتوثُّق هي التي يقول مُشهدها اشهدوا أني إنَّما أشهدت خوف دعوى الردَّ أو الجَحْد. وأمَّا إشهادها خوف الموت أو خوف

دعوى التَّلَفِ وما أشبهه ممَّا يعلم أنه لم يقصد به التوثق فإنه يَصْدُقُ في دعواه الرد اهـ النفراوي. قال رحمه الله تعالى: "وَلَهُ إِيدَاعُهَا عِنْدَ زَوْجَتِهِ وَخادِمِهِ، وَيَضمَنُ لِغَيْرهِمَا" قال في الفواكه: لا يجوز لِمَنْ عنده الوديعة إيداعها عند غيره؛ لأن ربَّ الوديعة لم يَرْضَ إلا بأمانته عنده أي المودَع، إلاَّ أن يكون ذلك الغير ممَّن اعتاد الإيداع عنده كزوجته أو أمَتِه، أو إلاَّ أن يحصل عذر يقتضي الإيداع عند الغير. ويجب عليه الإشهاد على العُذْر؛ لأنه لا يكفي أن يقول: أودعتها لعُذْر، كما لا يكفي أن يقول للشهود: اشهدوا أني إنَّما أودتها لعُذْر، بل يجب عليه أن يشهدهم على عين العُذْر اهـ. قال ابن جزي في أسباب ضمان الوديعة: وهي ستة: الأول أن يودع عند غيره لغير عُذْر، فإن فعل ذلك ثم استردَّها فضاعت ضَمِنَ، وإن فَعَلَه لُعذْر كالخوف على منزله أو لسفره لم يَضْمَن الثاني نَقْلَ الوديعة، فإن نَقَلَها من بلد إلى بلد ضَمِنَ بخلاف نَقْلِها من منزل إلى منزل اهـ. انظر بقية الأسباب في الكتاب المذكور. قال رحمه اللَّه تعالى: "كَالسَّفَرِ بِهَا إلاَّ أَنْ يَتَعَذَّرَ رَدُّهَا وَلاَ يَجِدُ ثِقَةً" يعني أنه إن سافر بها بغير عُذْر فضاعت ضَمِنَها، وإن كَان سفره بهد لعُذْر لم يَضْمَن. قال الدردير: ويضمن بانتفاعه بها أوس فره، أي إذا سافر فأخذ الوديعة معه فضاعت أو تلفت فغنه يضمن إن وجد أمينًا يرتكها عنده؛ لأنه حينئذٍ صار مُفرَّطًا بأخْذِها معه، فإن لم يجد أمينًا يتركها عنده بأن لم يجد أمينًا أصلاً أو وجده ولم يَرْضَ بأخْذِها عنده فلا ضمان عليه إذا سافر بها فتُلِفَتْ؛ لأنه أمْرٌ تعيَّن عليه. هذا إن أمكن حَمْلُها معه بأن كانت الوديعة خفيفة، وإلاَّ وَجَبَ إيداعها عند من يحفظها ولو بالأجْرة حِفظًا للأمانة التي أبَتِ السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها لثقلها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولاً.

وإذا تعذَّر تَرْكُها عند الغير إلاَّ مع الأجْر فهل تلزم ربّ الوديعة أو المودع؟ قال ابن جزي في القوانين: إذا طلب المودع أجْرة على حفظ الوديعة لم يكن له، إلاَّ أن تكون مما يشغل منزله فَلَهُ كِراؤه، وإن احتاجت إلى إلاق أو إقفال ذلك على ربَّها اهـ. قال رحمه اللَّه تعالى: "فَإِنِ اسْتَوْدَعَهَا فِيه فَعَرَضَتْ لَهُ إِقَامَةق فَلَهُ إرْسَالُها مَعَ ثِقَةٍ وَلاَ ضَمَانَ كَنَقْلِهَا إِلَى حِرْزٍ" يعني فإن استودعها في حال العُذْ والسفر ولم يجد ثقة يتركها عنده ولم يقدر على ردَّها لصاحبها وسافر بها وعرضت له إقامة فس فره فَلَهُ إرسالها لربِّها مع ثقة ولا ضمان إن تُلِفَتْ بِلا تفريط، لا على المودِع ولا على المُرْسَل بها، كما لا ضمان عليه بِنَقْلِها إلى حِرْز مِثْلِها. وهذه المسألة مستثناه من قولهم: ويَضْمَنُ بإرسالها لربَّها بلا إذْنٍ منه فضاعت. قال الصاوي: يُسْتَيْنَى من كلامه من أدوعِعَتْ معه وديعة يوصِلها لبلد فعرضت له إقامة طويلة في الطريق كالسّنة فَلَهُ أن يبعثها مع غيره ولا ضمان عليه إذا تُلِفَتْ؛ لأن بَعْثَهَا في هذه الحالة واجِبّ، [27] [28] ويضمنها إن حَبِسَها، وأمَّا إن كانت الإقامة التي عرضت له قصيرة كالأيام فالواجب إبقاؤها معه، فإن بَعَثَها ضَمِنَها إن تُلِفَتْ، فإن كانت الإقامة متوسطة كالشهرَيْن خير في إرسالها وإبقائها ولا ضمان عليه في كل حال. هذا ما ارتضاه ابن رشد كما في الحطاب. وكذا في البناتي اهـ. قال رحمه اللَّه تعالى: "وَلاَ يَجُوزُ لِلْمُعْدِم التَّصَرُّفُ فيهَا وَيُكْرَهُ لِلْمَلِيَّ" يعني أنه لا يجوز للمُعْدِم أن يتصرَّف ف يالوديعة بغير إذن، أي يحرُم عليه ذلك. قال بعضهم: وإنما حَرُمَتْ على المُعْدِم وجازت مع الكراهة للمليئ لأن المليئ مظنَّة الوفاء بخلاف المُعْدِم. ومحل الكراهة في المليئ إذالم يكن سيئ القضاء ولا ظلامًا وإلاَّ حرُم. قال الدردير: وحرُم سَلَفُ مقوَّم ومُعدِم. وكُرِهَ النقد ولو مليئًا، والمثلى كالتجارة والربح له وبرئ إن رد المثلى لمحله، وصدق في رده إن حلف إلا بإذن أو يقول: إن احتجت فخذ فيردها

لربها كالمقوم، وضمن المأخوذ فقط اهـ. قال الخرشي يعني أ، المودع إذا تسلف الوديعة ثم ادعى رد ما تسلفه إلى محله، ثم ضاعت بعد ذلك، وحافه صاحبها فإن المودع يبرأ منها ويَصْدُقُ فيما ادَّعاه بيمينه حيث كان تسلّفُه مكروهًا، وهو تسلف المثلى والنقد للملئ، وسواء أخذ الوديعة من ربها ببينة أم لا. وأما التسلف المحرم وهو المقوم فإنه إذا تسلفه المليئ أو غيره وأذهب عينه ثم رُدَّ مثله إلى موضعه فإنه لا يبرأ؛ لاختلاف الأغراض فيه؛ لان القيمة لزمته بمجرَّد هلاكه، ولابدَّ من الشهادة على الرَّد لربَّه، ولا تكفي الشهادة على رده لمحل الوديعة. هذا في رصد صنف ما تسلفه، أما إن ادعى رد غير صنفه لم يبرأ. قال ابن عرفة: ولو أودعه دنانير فتسلفها وردها دراهم لم يبرأ اتفاقًا. انظر تت اهـ. قال ابن جزي في حُكْم تسلف الوديعة: فإن كانت عينًا كُرِهَ، وأجاز أشهب إن كان له وفاء بها، وإن كانت عروضًا لم يجز، وإن كانت مما يُكال أو يوزن كالطعام فاختلف هل يلحق بالنقد أو بالعروض على قولين. وإذا طولب المودع بالوديعة فادعى التلف فالقول قوله مع يمينه، وكذلك إذا ادعى الرد، إلا أن يكون قبضها ببينة فلا يُقْبَلأ قوله في الردّ إلاَّ ببينة كما تقدَّم. ورُوِيَ عن ابن القاسم ا، القول قوله وإن قَبَضَها ببينة وفاقًا للشافعي وأبي حنيفة اهـ. بتوضيح. وإلىجميع ذلك أشار رحمه الله تعالى بقول: "ويقبل قوله في رد المثل وتلفه لا رد القيمة" المدوَّنة، قال ابن القاسم: سمعت مالكِاً يقول في الذي يستودع الدنانير والدراهم فيتسلف منها بعضها أو كلها بغير أمر صاحبها، ثم يرد في موضع الوديعة مثلها، أنه يسقط الضمان عنه، فكذلك الحنطة. قلت: وكذلك كل شيئ يُكال أو يوزن، [28] [29] قال: نعم كل شيئ أتلفه الرجل للرجل فإنما عليه مثله، فهذا إذا رد مثلها في الوديعة سقط عنه الضمان. وإذاكان شيئ إذا أتلفه ضمن قيمته، فإن هذا إذا تسلفه من الوديعة بغير أمر صاحبها فهو لقيمته ضامن ولا يبرئه من تلك القيمة إلا أن يردها على صاحبها ولا يبرئه منها أن يخرج القيمة فيردها في الوديعة اهـ. تقدم بقية الكلام لهذا المقام في الجملة التي قبلها فراجعه في ذلك إن شئت.

قال رحمه الله تعالى: "وتلزم المكيلة في خلطها بمثلها والتلف منهما" يعني تلزم على المودع المكيلة في خلط الوديعة بمثلها وفي المدوَّنة: وإن أودته حنطة فخلطها بحنطة فإن كان مِثْلَها وفعل ذلك بها على الإحراز والدفع فهلك الجميع لم يَضْمَن، وإن كانت مختلفة ضَمِنَ، وكذلك إن خلط حنطتك بشعير ثم ضاع الجميع فهو ضامن لأنه قد أفاتها بالخلط قبل هلاكها اهـ نَقَلَه الحطا. انظر المواق. وعبارة الخرشي أنه قال: إذا خلط المودع بالفتح قمحًا أو نحوه بمثله أو دراهم أو شبهها بمثلها للإحراز وتلف بعض ذلك، فإ، التالف بينهما على قدر نصيب كل واحد منهما، فإذا كان الذاهب واحدًا من ثلاثة لأحدهما واحد وللآخر اثنان فعلى صاحب الواحد ثُلُثه وعلى صاحب الاثنين ثُلُثاه على المعتمد، إلاَّ أن يتميَّز التالِف ويعرف أنه لشخص معيَّن منكما فمصيبته من ربَّه اهـ بحذف. قال رحمه الله تعالى: "فإن سقطت فانكسرت لم يضمن بخلاف سقوط شيئ من يده عليها. والله أعلم" يعني أ، سقوط الوديعة وانكسارها بلا تفريط لا ضمان فيه، بخلاف سقوط شيئ عليها ففيه ضمان، لأنه فيه نوع من التفريط. والله أعلم. قال الدردير في اقرب المسالك: فتضمن بسقوط شيئ، أي من يد المودع عليها ولو خطأ منه، لا إن انكسرت في نقل مثلها المحتاج إليه. قال الصاوي عليه: والحاصل أن الصور أربع، ولا ضمان في صورة المصنف وهي ما إذا احتيج للنقل ونقلها نقل مثلها فانكسرت، والضمان فيما عداها، وهو ما إذا لم تحتج لنقل ونقلها فانكسرت، كان نقل مثلها أم لأن أو احتاجت للنقل ونقلها غير نقل أمثالها فانكسرت اهـ. أما سقوط شيئ على غيره، قال الصاوي أيضًا: كمن أذن له في تقليب شيئ فسقط من يده فكسر غيره فلا يضمن الساقط؛ لأنه مأذون له فيه، ويضمن الأسفل بجنايته عليه خطأ، والعمل والخطأ في أموال الناس سواء اهـ باختصار. ولمَّا أنهى الكلام على ما تعلَّ بأحكام الوديعة انتقل يتكلم على الشفعة والقسمة وما يتعلَّق بأحكامهما فقال رحمه الله تعالى:

كتاب الشفعة والقسمة

كتاب الشفعة والقسمة أي في بيان ما يتعلق بحكم كل منهما على حدته في جميع الأحكام. والشفعةلغة: الضم. وعُرْفًا: استحقاق شريك أخذ ما عاوض به شريكه من عقار بثمنه أو قيمة بصيغة. قال رحمه اللَّه تعالى: "وَهِيَ وَاجِبَةٌ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ فِي الْعَقَار وَالرَّبَاع دُونَ الْمَنْقُولاتِ عَلَى قَدرِ حِصَصِهِمْ يعني كما في الدردير: فللشريك أو وكيله الأخذ جبرًا ولو ذميًا أو محبسًا ليحبس، والولي لمحجوره، والسلطان لبيت المال اهـ. قال في الرسالة: وإنما الشفعةفي المشاع، ولا شفعة فيما قد قُسِم، ولا لِجَارن ولا في طريقن ولا عرصة دار قد قسمت بيوتها، ولا في فحل نخل أو بئر إذا قسمت النخل أو الأرض. ولا شفعة إلا في الأرض وما يتصل بها من البناء والشجر اهـ. وفي ذلك قال رحمه الله تعالى: "وقارعة الدار والبئر وفحل النخل توابع، وفي الثمار المعلق روايتان كالحمام وبيت الرحى، لا بجوار ومسيل ماء، واستطراق ونحو ذلك" يعني الشفعة لا تكون في قارعة الدار أي ساحتها التي بين بيوتها، أو على جهة من جهاتها وهو المعروف بالحوض، ولا في بئر إذا قسمت الأرض، ومثلها فحل النخل؛ لأنها توابع. وفي الوقانين لابن جزي: واختلف في المذهب في الشفعة في الأشجار والثمار، فروي عن مالك روايتان: (قلت والأصح ثبوت الشفعة فيهما) وبالمنع قال الشافعي وأبو حنيفة. واختلف أيضًاغ فيما لا يقسم من العقار كالحمام وشبهه، وفي الدين والكراء. ولا شفعة في الحيوان والعروض عند الجمهور. اهـ. قال رحمه الله تعالى: "ويستقل أهل الخير من الورثة بالشركة، فإذا باع أحدهم فلأهل حيزه، فإن باعوا فللحيز الآخر، فإن باعوا فللعصبة، فإن باع بعضهم للجميع دون الشركاء الأجانب" يعني أنه أشار بمراتب الشركاء

الورثة الذين استحقوا الأخذ بالشفعة على قدر مراتبهم. قال خليل: وقدم مشاركه في السهم، وإن كانت لأب أخذت سدسًا. قال الشارح: المشهور كما في المدونة أن الشريك الأخص وهو المشارك في السهم يقدم على الشريك الأعم، ويختص بالشفعة. فإذا مات إنسان وترك ورثة كزوجتين، وجدتين، وأختين لغير أم، أو عاصبًا وزوجتين، وما أشبه ذلك، فإن باعت إحدى الزوجتين أو إحدى الجدتين نصيبها من العقار فإ، الزوجة أو الجدة تختص بالشفعة دون غيرها، لأنها هي المشاركة في السهم، [30] [31] وكذلك إذا باعت إحدى الأختين، فإن الأخت تختص بالشفعة دون غيرها، لأنها هي المشاركة في السهم، وإن كان المشارك في السهم أختًا لأب أو بنت ابْن أخذت كلّ منهما السُّدْس، فيقدَّمان على غير المشارك حيث باعت الشقيقة أو البنت. قال فيها: ومَنْ مات وترك أختًا شقيقة، وأختَيْن لأبٍ، فأخذت الشقيقة النَصْف، والأختان للأبِ السُّدس تكملة الثُّلُثَيْن، فباعت إحدى الأختَيْن للأب فإن الشُّفْعة بين الأخت التي للأبد وبين الشقيقة، إذ هما أهل سهم واحد، ولا دخول لبقية الوَرَثَة معهما. وعن أشهب: أن التي للأب أَوْلى به قال اللخمي: وهذا أحسن، ولو كانت التي للأب واحدة فباعت الشقيقة فإن التي للأب تختصُ بنصيبها، وإنَّما بالغ على الأخت للأب دون الأخت الشقيقة والأختَيْن للأبِ إذا باعت إحداهما مع أنه يتوهَّم هنا أيضًا عدم دخول الشقيقة على التي للأب؛ لأن الشقيقة هي الأصل فلا يتوهَّم فيها عدم دخول الشقيقة على التي للأب؛ لأن الشقيقة هي الأصل فلا يتوهَّم فيها عدم الدخول كما في الأخت للأبِ؛ لأنها مكملة فهي أضعف، فلذلك اعتنى بشأن ما ذَكَرَه وتَرَكَ هذا اهـ. الخرشي. وفي الموّاق: قال ابن شاس: إن كان في الشركاء مَنْ له شِرْكٌ أخصُّ من غيره من الأشراك فهو أحقُّ بالشُّفْعة وأَوْلَى من غير ممَّن له شِرْكٌ أعمّ، وذلك كأهل المورث الواحد يتشافعون بينهم دون الشركاء الأجانب، ثم أهل السهم الواحد أَوْلَى من بقية أهل الميراث. وبالجملة فكلُّ صاحب شِرْكٍ أخصُّ فهو أحقُّ بالشُّفْعة إلاَّ أن يسلم فيشفع صاحب الَّرْكِ الذي يَليه، أعني الذي هنو أعمُّ منه، فإن سلَّم

الآخر شَفَعَ مَنْ هو أبعد منه. وانظر لو باع الشفيع شُفعته من المبتاع أو وَهَبَها له على مذهب المذوَّنة أنه لا فرقَ بين ذلك وبين التسليم في كل الأوجه. الشُّفْعة ثابتة للأبعد اهـ. قال الحطاب: تنبيه: أمَّا العصبة فكلُّهم سواء ولو كان بعضهم شقيقًا لبعض. قال في أوَّل الشُّفْعة أي من المدوَّنة: ومَنْ هلك وترك ثلاثة بنين اثنان منهم شقيقان والآخر لأب وترك بينهم دارًا فباع أحد الشقيقَيْن حِصَّته قبل القسمة فالشُّفْعة بين الشقيق الأخ للأب سواء؛ إذ بالنبوّة ورثوا، ولا ينظر إلى الأقعد بالبائع، ولو وُلِدَ وَوَدّ لأحدهم ثم مات فباع بعضه ولده حصته فبقية ولده أحقُّ بالشُّفْعة من أعمامهم: لأنهم أهل مورث ثانٍ، فإذا سلَّموا فالشُّفْعة لأعمامهم، وإن باع أحد الأعمام فالشُّفعة لبقية الأعمام مع بني أخيهم لدخولهم مدخل أبيهم. وإن ترك ابنتَيْن وعصبة فباعت إحدى الابنتَيْن فأختها أحقُّ بالشُّفْعة من العصبة؛ لأنهما أهل سهم، فإذا سلمت فالعصبة أحقُّ مِمَّنْ شركهم بمِلْك. ولو باع أحد العصبة فالشُّفْعة لبقية العصبة والبنات كذلك الأخوات مع البنات حُكْمُ العصبة؛ لأن العصبة ليس لهم فَرْضٌ مسمّى اهـ راجع المدوَّنة إن شئت. قال رحمه الله تعالى: "فَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ بمِثْل الْمثْلي، فَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلاً فإلَى مِثلِ أجَلِهِ إِنْ كَانَ مَليًّا أَوُ مُخَالِعًا بِهِ وَعوِضِ دّم عَمْدٍ وأَرْش حَيَاتِهِ، وَفِي الخَطْأ بِالدَّيَة" يعني كما قال ابن القاسم في المدونة: مَن نَكَح أو خَالَعَ أَو صَاَلَحَ من دمٍ عَمْد على شِقْص فيه الشُّفْعة بقيمته يوم العقد؛ إذ لا ثَمَنَ معلوم لِعَوضِه يريد، ولا يجوز الاستشفاع إلا بعد المعرفة بقيمته. قال ابن القاسم: وإن أخذ الشَّقْص عن دم خطأ ففيه الشُّفْعة بالدَّية، فإن كانت العاقلة أهل إبل أخذه بقيمة الإبل، وإن كانت أهل ذهب أخذه بذهب ينجم ذلك على الشفيع كالتنجيم على العاقلة اهـ. نَقَلَه الموّاق. وعبارة ابن جزي في القواني أنه قال: فإذا وجبت الشُّفْعة لشريك وقام بها فإنه

يأخذ الحظ المشفوع فيه بالثمن الذي صار به للمشفوع عليه، فإِن كان حالاً على المشفوع عليه حلَّ على الشفيع، وإن كان مؤجَّلاً على المشفوع عليه أجَّل على الشفيع، وإن لم يأخذه المشفوع عليه بثمن معلوم كدَفْعِه في مَهْرٍ أو صُلْح أخذه الشفيع بقيمته اهـ. انظر شراح خليل. قال رحمه اللَّه تعالى: "وَلاَ شُفْعَةَ فِي مَوْرُوثٍ" يعني لا شفعة في شيئ موروث بعد القِسْم، فإذا وقعت الحدود بينهم فلا شفعة فيه، وتقدَّم قول صاحب الرسالة: وإنَّما الشفعة في المشاع ولا شُفْعة فيما قد قُسِم. قال مالك في الموطأ: والشُّفْعة ثابتة في مال الميت كما هي في مال الحيّ، فإن خَشِيَ أهل الميت أن ينكسر مال الميت قَسَموه ثم باعوه فليس عليهم فيه شُفْعة اهـ. قال خليل عاطفًا على ما لا شُفْعة فيه: وإرثٌ وهِبَةٌ بلا ثواب، أي لا شُفْعة في شِقْص موروث وال بِهبَة بِلا ثواب. قال ابن عرفة: نَقَلَ غير واحد الاتفاق على نَفْيِ الشُّفْعّة في الميراث اهـ. نَقَلَه الموّاق، انظر الخرشي. ثم قال رحمه الله تعالى: "وَالظَّاهِرُ إِلْحَاقُ المَوْهُوبِ وَالْمُتَصَدَّق بِه" قال مالك: مَنْ وهب شِقْصًا في دار أو أرض مشتركة فأثاب الموهوب له بهذا نَقْدًا أو عَرْضًا فإن الشركاء يأخذونها بالشُّفْعة إن شاؤوا ويدفعون إلى الموهوب له قيمة مثوبته دنانير أو دراهم. قال مالك: مَنْ وَهَبَ هِبَة في دار أو أرض مشتركة فلم يثبت منها ولم يطلبها فأراد شريكه أن يأخذها بقيمتها فليس ذلك له ما لم يُثَبْ عليها، فإن أثيب فهو للشفيع بقيمة الثواب اهـ. قاله في الموطَّأ. قال رحمه اللَّه تعالى: "وَإِذَا تَرَكَ الشُّرَكَاءُ شُفْعَتَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِلْبَاقِي أَخْذُ مَا يَخُصُّهُ بَلْ يَأْخُذُ الْكُلَّ أَوْ يَتْرُكُ، كَتَعَددِ المشفوع وَاتَّحَاد الشَّفيع" يعني كما قال مالك في الموطَّا في نَفَرٍ شركاء في دار واحدة فباع أحدهم حِصَّته وشركاؤه غُيَّب كلُّهم إلاَّ رجلاً فعرض على الحاضر أن يأخذ بالشفعة أو يترك فقال: أنا آخذ بحِصَّتي وأترك حِصَصَ شركائي

حتى يُقدِموا، فإن أخذوا فذلك، وإن تركوا أخذت جميع الشفعة قال مالك: ليس له إلاَّ أن يأخذ ذلك كلَّه أو يترك، فإن جاء شركاؤه أخذوا منه أن يتركون إن شاؤوا، فإذا عرض هذا عليه فلم يقبله فلا أرى له شُفْعة اهـ. قال رحمه اللَّه تعالى: "وَإِذَا قَدِمَ غَائِبٌ فَلَهُ الأَخذُ" قال مالك: لا تقطع شُفْعة الغائب غيبتُه وإن طالت غيبته، وليس في ذلك عندنا حدُّ تقطع إليه الشُّفْعة اهـ. وسيأتي قول المصنَّف: والغائب على شُفْعته حتى يُعلَم تَركْه وإن طال. قال في الرسالة: والغائب على شُفْعَتِه وإن طالت غيبته. قال شارحها: أو عَلِمَ ببيع شريكه زمن غيبته، ومثل ذلك لو لم يعلم ببيع حِصَّة شريكه حتى غاب فإنه يستمر على شفعته ولو طالت غيبته، فإذا رجع بعد غيبته كان حُكْمُه حُكْمَ الحاضر العالم بالبيع فتسقط شُفْعَته بعد سنة وما قاربها من يوم قدومه. قال الصاوي في حاشيته على الدردير: فالحاضر يُحْسَبُ له سنة بعد العِلْم، والغائب يُحْسَبُ له سنة بعد القدوم والعِلْم. والظاهر كان على مسافة بعيدة أو قريبة على ظاهر كلام ابن القاسم، وقيَّدها أشهب بالبعيدة، وأمَّ القريبة التي لا كلفة عليه فيها فكالحاضر وهو الجاري على قولهم: والقريب كالحاضر، وأمَّا لو كان حضرًا بالبلد يوم البيع وعَلِمَ ببَيْع شريكه وغاب بعد علمه وقَبْلَ أخْذِهِ بالشُّفْعة فإنه بمنزلة الحاضر الذي لم يَغِبْ تسقط شفعته بمضيَّ السنة وما قاربها، إلاَّ أن يحلف أنه لم يَغِبْ إلاَّ لِظَنَّه الرجوع قبل انقضاء السنة فإنه يستمر على شُفْعَته ولو طالت غيبته. قال خليل: كأن عَلِمَ فغاب إلاَّ أن يظنَّ الأوْبَة قبلها فعِيقَ وحَلَفَ إن بعد. فتلخَّص أن غيبة الشفيع على ثلاثة أقسام: قبل البيع، وبعده من غير عِلْ، فهو على شُفْعَته فيهما مطلقًا بعد البيع والعِلْم يكون كالحاضر، إلاَّ أن يدَّعي أنه سافر ليرجع سريعًا فعِيقَ اهـ النفراوي. قال رحمه الله تعالى: "وَفِي تَعَدُّدِ الصَّفَقَاتِ يَأْخُذُ بِأيَّهَا شَاءَ ويَبْطُلُ مَا بَعْدَهَا وَيُنَزَّلُ الْوَارِثُ مَنْزلَةَ مَوْرُوثِهِ" يعني أن الشفيع يأخذ بأي صفقة شاء إذا تعددت ويبطل

ما بعد مأخوذه بشرطين: عدم حضوره للبيع وعدم علمه به، فإن حضر ذلك أو علم لا يأخذ إلا الأخيرة كما في الخرشي، قال الصاوي في حاشيته على الدردير: حاصله أن محل كون الشفيع يأخذ بأي بيع شاء إذا تعددت البياعات إذا لم يَعْلَم بتعددِها، أو عَلِمَ وهو غائب. وأمَّا إذا عَلِمَ بها وكان حاضرًا فإنَّما يأخذ بالأخير؛ لأن سكوته مع عِلْمِه بتعدُّد البيع دليل على رضاه بشركة ما عدا الأخير، لكن يفوز المشتري بالغَلّة كالكِراء اهـ. بتوضيح. ومثله في الدردير. قال خليل: ويأخذ بأي بَيْعٍ شاء وعُهْدَتُه عليه، ونَقَضَ ما بعده وله غَلَّته. قال شارحه: يعني أن [3/ 33/] البيع إذا تكرر في الشقص فإن الشفيع يأخذ بأي بَيْع شاء وعُهْدَتُه وهي ضمان الشقص من العيب والاستحقاق على مَنْ أخذ بِبيْعِهِ من المشترين، ويدفع الثمن لِمَنْ بيَده الشقص، فغ، اتفق الثمان فلا إشكال، وإن اختلفا فإن كان الأول أكثر كما إذا كان عشرين مثلاً والأخيرة عشرة فإن أخذ بالأول دَفَعَ للأخير عشرة ويدفع العشرة الأخرى للأول، وإن كان بالعكس دفع له عشرة ويجرع على بائعه اهـ الخرشي بحذف. قوله: وينزل الوارث منزلة موروثه، يعني إذا مات الموروث نزل وارثه منزلته في الأخْذِ بالشُّفْعة أن التَّرْك، أو دَفْعِها للشفيع أو غير ذلك من الحقوق، إلاَّ ما استُثْنِيَ من ذلك في بعض الأحوال فلا يكون الوارث بمنزلة الموروث فتأمَّل. قال رحمه اللَّه تعالى: "وَالْعُهْدَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي فَيَرْجِعُ فِي الاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِ" يعني كما في الرسالة، ونصُّها: وعُهْدَةُ الشفيع على المشتري. والمعنى أن الشَّقْص إذا استحقَّ من يَدِ الشفيع، أو ظهر به عيب يوجب الرَّدَ، فإنه يرجع بثمنه على المشتري كما يردُّه بالعيب عليه، كمشتري سِلْعة لم يعْلَم صِحّة مِلكِ بائعها فتستحقُّ منه، فإنه يرجع بثمنها على بائعها ويردُّها عليه بالعيب الذي لم يَعْلَم به حين الشراء، فالمراد بالعُهْدَة رجوع الشفيع على المشتري بالثمن عند الردّّ بالعيب ودَرْكِ الاستحقاق، أي لُحُوقِهِ؛ لأن الدَّرْك هو اللحوق، اهـ. النفراوي باختصار.

قال رحمه الله تعالى: "وَتَسْقُطُ بإِسْقَاطِهَا بَعْدَ استِحْقَاقِهَا لاَ قَبْلَهُ وَبِشِرَائِهِ واسْتئْجاره لا بِشَهَادَتِهِ فِي الْعَقْدِ وعالإِقَالَةِ وَبَيْع الشَّقْصِ المُسْتَشْفَع بِهِ بَعْدَ ثُبُتِهَا" هذا شروع فميا تسقط به الشفعة، وذكر بعض ما لا تسقط به الذي يُظَنُّ به الإسقاط، من ذلك أن الشُّفْعة تسقط بإسقاطها، وبشراء الشقْص المشفوع فيه واستئجاره، وبتنازعهما في سَبْقِ المِلْك، كادَّعاء كلَّ استحقاق الشُّفْعة ولم يكن لأحدهما بيَنة، وحلفًا معًا أو نَكلا إلاَّ أَن أن يحْلِفَ أحدهما مع نكول الآخر فالقول للحالف وله الشُّفْعة، ومن ذلك طلب المقاسمة ولو لم يَقْسِمْ بالفعل، وإذا طلب الشفيع المقاسمة من المشتري سقطت شُفْعَتُه، وأحرى إذا قسم بالفعل. قال خليل: وسقطت إن قَاسَمَ أو اشترى أو ساوَمَ أو ساقى أو استأجر أو باع حصَّته أو سكت بهدم أو بناء، أو شهرَيْن إن حضر العقد وإلاَّ سنة لا أقل، ولو حضر وكتب شهادة على الأرجح اهـ. بتوضيح من الدردير. تنبيه: وقول خليل: إن حضر العقد وإلاَّ سنة قال الموّاق: انظر هذه العبارة ما ما يتقرر من المدوَّنة. قال مالك: الشفيع على شُفْعَتِه حتى يترك أو يأتي من طول الزمان ما يُعْلَم أنه تارك لشُفْعَتِه، وإذا عَلِم بالشراء فلم يطلب شُفْعضتَه سنة فلا يقطع ذلك شُفْعَتَه، وإن كان قد كتب شهادته في الشراء، ولم يَرَ مالك التسعة الأشهر ولا السنة بكثير إن تباعد هكذا يحْلِفُ ما كان وقوفه تَرْكًا لشُفْعَتِه. قال ابن المواز عن مالك: يَخْلِف في خمسة أشهر فأكثر، ولا يَحِلُّ في شهرَيْن. وأمَّا إذا حضر الشراء وكَتَبَ شهادته ثم قام بعد عشرة أيام فأشدّ ما عليه أن يَحْلِفَ ما كان ذلك منه تَرْكًا لشُفْعَتِه ويأخذها. قال مالك: إذا جاوز السنة بما يعد تاركًا فلا شُفْعَة له انتهى نصُّ ابن يونس، نَقَلَه الموّاق، انظر بقية المسقطات للشُّفْعة وغير المسقطات في شراح خليل وغيرها. قال رحمه الله تعالى: "وَالصَّحِيحُ أنَّ الْحَاضِرَ عَلَى شُفْعَتِهِ إِلى سَنَةٍ والمُشْتَرِي مُرَافَعَتُهُ لِيَأْخُذ أَوْ يَتْرُكَ" يعني أن الحاضر الساكت على شُفْعَتِهِ على الصحيح من

الأقوال إلى تمام السنة بعد العِلْم. قال الصاوي: قال في الأصل والمعوَّل عليه وهو مذهب المدوَّنة أنها أي الشُّفْعة لا ستقط إلاَّ بمضيَّ سنة وما قاربها كشَهْرٍ بعدها مطلقًا ولو كتب شهادته في الوثيقة اهـ. قال في الرسالة: ولا شُفْعَة للحاضر بعد السنة اهـ. قال مالك في الموطأ: ومَن اشترى أرضًا فيها شُفْعَة لناس حضور فليرفعهم إلى السلطان فإمّا أن يستحقّوا وإمَّا أن يسلم له السلطان، فإن تَرَكَهُم فلَمْ يَرْفَعْ أمْرَهُم إلى السلطان وقد عَلِموا باشترائه فتركوا ذلك حتى طال زمانه ثم جاؤوا يطلبون شُفْعَتَهم فلا أرى ذلك لهم اهز قال الزرقاني في شرحه على الموطأ: والطول بسنة وما قاربها كما في المدوَّنة. وفي أنه الشهر والشهران أو ثلاثة أشهر أو أربعة خِلاف واللَّه سبحانه وتعالى أعْلَم اهـ. قد عَلِمْتَ ممَّ تقدَّم أن الرفع إلى السلطان إنَّما يكون قبل تمام السنة، وأمَّا بعدها فليس له قيام بذلك إلاَّ ما قَرُبَ منها كشَهْر كما هو المنصوص. قال رحمه الله تعالى: "وَالْغَائِبُ عَلَى شُفْعَتِهِ حتَّى يُعْلَمَ تَرْكُهُ وَإِنْ طَال" يعني أن الغائب على شُفْعَتِه حتى يَعْلَمَ أنه ترك الأخذ وإن طالت غيبته كما تقدَّم الكلام فيه عند قوله: وإذا قَدِم غائب فَلَهُ الأخْذُ فراجِعْه إن شئت. قال رحمه الله تعالى: "وَلَه أَخْذُ الْغَرسِ والْبِنَاءِ بِقيمَتِهِ قَائمًا" يعني أن الغائب إذا رجع من سفره فوجد شريكه قد باع الشَّقْص المشترك فيه وغرس فيه المشتري غَرْسًا أو بنى عليه بناء وثبتت شُفْعَتُه فإنه يأخذ ذلك الغَرْس أو البنا بقيمته قائمًا. قال الخرشي: يعني أن المشتري إذا هدم الشَّقْص وبناه ثم قام الشفيع فإنه يأخذه بالشُّفْعة بقيمة البناء قائمًا يوم الأخذ بالشفعة؛ لأن المبتاع هو الذي أحدث البناء وهو غير متعدَّ به، والأخذ بالشُّفْعة كالشتراء، ويدفع أيضًا للمشتري ما يخصُ العَرْصَة من الثمن الذي دفعه المشتري للبائع، وبوضع عن الشفيع ما يقابل النُّقض من الثمن يوم الشراء، بأن يقال: ما قيمة العَرْصَة بال بناء؟ وما قيمة النقض مهدومًا؟ ويفضُّ الثمن عليهما، فما قابل العَرْصَة من ذلك فإنه يدفعه

فصل في القسمة

للمشتري، وما قابل النقض من ذلك فإنه يحطُّ عنه، فإ، لم يفعل ذلك فلا شُفْعة له اهـ باختصار. وأصله في المدوَّنة. ولمَّا أنهى الكلام على ما يتعلَّق بالشُّفْعة وأحكامها انتقل يتكلم على القسمة وأحكامها فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في القسمة أي في بيان ما يتعلَّق بأحكام القسمة. وهي لغة: تمييز الأنصباء، وعُرْفًا: تعيين نصيب كل شريك في مشاع ولو باختصاص تصرّف. قال ابن عرفة: هي اختصاص كل شريك بمشترك فيه عن شريكه زمنًا معيَّنًا من متَّحِد أو متعدَّد، ويجوز في نفس منفعته لا في غَلَّته. فتلخَّص أن القسمة إمَّا قرعة، أو مهايأة، أو مراضاة، وإلى ذلك أشار رحمه الله تعالى بقوله: "الْقِسْمَةُ ثَلاَثَةُ أَضْرُبٍ: مُهَايأةٌ وَهِيَ اخْتِصَاصُ كُلَّ بِمَنْفَعَةٍ مَعَ بَقَاءِ الرقَاب مُشْتَرِكَةً" يعني أن القسمة على ثلاثة أقسام: الأول المهايأة، قال النفراوي: والمهايأة بالمثناة التحتية أو النون أو الباء الموحدة كالإجارة؛ لأنها إنما تكون في المنافع كعَبْدٍ يخدم أحدهما زيدًا والآخر عَمْرًا على طريق ابن الحاجب. وأمَّا ابن عرفة فشَرَط في صِحَّتها تعيين الزمن، فلا يجوز عند أن يتفقا على أن كل واحد يستخدم عَبْدًا أو يسكن دارًا من غير تحديد بمدّة اهـ. وعبارة الدردير في اقرب المسالك أنه قال: وهي اختصاص كل شريك على شريكه بمنفعة متَّحد أو متعدَّد في زمن، كخدمة عَبْدٍ وركوب دابة ولو كشَهْر، وسُكنى دار، وزرع أرض ولو سنين، ولزمت كالإجارة، لا غَلّة وإن يومًا اهـ. قال رحمه اللَّه تعالى: "الثَّانِي بَيْعٌ وَهِيَ رِضَا كُلٍّ بموضِع مُقَابِلٍ لِمَا يَأْخُذُهُ الآخَرُ" يعني الثاني من أقسام القسمة المراضاة، قال الدردير عاطفًا على مهايأة: ومراضاة

فكالبيع اتحد الجنس أو اختلف، فتجوز صوف على ظهر إن جُزَّ بقرب أي دخلوا على جَزَّه بقرب كنِصْفِ شَهْر، وجاز أخْذُ أحدهما عَرْضًا وأخر دَيْنصا وأخْذُه قطنية كفول والآخر قمحًا أي جاز ذلك كما يجوز خياره كالبيع وأخَذَ كلُّ واحد مزدوجَيْن كخُفًّ ونعل للرضى والتسامح اهـ. بتوضيح قال الحطاب: هذا هو القسم الثاني من أقسام القسمة وهي قسمة المراضاة، وبعضهم يسمَّميها قسمة بَيْع. قال ابن عرفة: وهي أخْذُ بعضهم بعض ما بينهم على أخْذِ كل واحد منهم ما يعدله بتراض مِلْكًا للجميع. وهو على قسمَيْن بعد تقويم وتعديل. قال في معين الحكام وغيره واللفظ للمعين: فهذه لا يقضي بها مَنْ أباها، ويُجْمَعُ فيها بين حظَّين في القِسْم، وبين الأجناس والأصناف والمَكِيل والموزون، خَشْيشَ ما يدَّخر من الطعام ممَّا لا يجوز فيه التفاضل، ويُقام فيها بالغُبْن إذا ظهر. والأظهر أنها بَيْعٌ من البيوع. وقسمة المراضاة بلا تعديل ولا تقويم حُكْمُها حُكْمُ التي بعد التعديل والتقويم إلاَّ في القيام بالغُبْن، وهي بَيع من البيوع بَلا خِلاف اهـ. ونحوه ابن جزي انظر الموّاق. قال رحمه الله تعالى: "الثَّلِثُ قِسْمَةُ تَعْدِيل" أي وتقويم، وتسمّى أيضًا قسمة قُرعة لِمَا فيها من القُرعة بين أهل السهام في الشيئ المرغوب فيه إذا انفرد. قال رحمه اللَّه تعالى: "فَيَضُمُّ مَا تُقارَبَتْ مَنَافِعُهُ وَالرَّغَبَاتُ فِيهِ إِلاَّ أَنْ لاَ يُمْكِن قِسْمَةُ كلَّ مَوْضِع عَلَى حِيَالٍ يُعدَّلُ بِالْقِيمَةِ عَلَى اَقَل السَّهَام وَيُسْهَمُ عَلَيْهِ" هذا شروع في صفة قسمة القُرعة. قال في الرسالة: وقسم القرعة لاَ يكون إلا في صنف واحد. قال شارحها: لأنها ليست بَيْعًا على المشهور بل تمييز حق، فلا تكون إلاَّ فيما تماثل أو تجانس ولا يُجْمَعُ فيها حظُّ اثنَيْن وتُرَدُّ بالغُبْن، ولذلك لا بدَّ فيها من التعديل والتقويم، ويُجْبَر عليها مَنْ أباها. واختَلَفَ أهل المذهب في دخولها المِثْليات، وهي المَكِيلت والموزونات والمعدودات المتفقة الصفة على قولَيْن، الذي أفتى به الشبيبي وعليه ابن رشد عدم جواز القُرعة فيها، وإنَّما تُقْسَمُ كَيْلاً أو وَزْنًا (قُلْتُ وعليه مصنَّفًا) والذي أفتى به ابن عرفة

وعزاه للباجي الجواز، كالمقوَّمت. ثم اعلم أن المشترك فيه إن كان عقاراً أو غيره من أنواع الحيوان أو العروض فلابدَّ فيه من التقويم، ولا ينظر إلى مساحته إن كان عقارًا، ولا عدده لأن كان عَرْضًا أو حيوانًا، قال خليل: وقُسِمَ العقار وغيره بالقيمة، وأُفْرِدَ كل نوع من أنواع المقسوم، فلا تُجْمَعُ الدور مع الحوائط، ولا أنواع الثمار إلى بعضها، بل كل نوع يُقْسَمُ على حِدَتِه إن احتمل القِسْم، وأمَّا عند عدم الإمكان ففي الثمار يَضَمُّ ما لا يحتمل إلى غيره، وفي نحو العقار والحيوان يُباع ما لا يمكن قسمه من الأنواع ويُقْسَمُ ثمنه ولا يَضَمُّ إلى غيره. والفرق بين العقار والحيوان وأنواع الثمار أن العقار والحيوان تقصد ذاته، فلابدَّ من بَيْعِ ما لا يحتمل قِسْمُه على انفراده بخِلاف الثمار اهـ قاله النفراوي في الفواكه. ثم ذكر رحمه الله تعالى كيفيات القِسْم بالقُرعة فقال: "تُكْتَبُ أَسْمَاؤُهُمْ وَتُجْعَلُ في بَنَادِقَ، فَمَنْ خَرَجَ اسْمُهُ عَلَى سَهْمٍ أَخَذَ وَمَا يَلِيهِ إِلى مُنْتَهَى حَقه، فَإِنْ طَلَبَ أَهْلُ حيَّز جَمْعَ سِهَامِهِمْ جُمِعُتْ" يعني كما قال النفراوي في صفة القُرعةن، وهي أن يعدّل المقسوم ويجزَّ على حَسَبَ أدقَّهم نصيبًا، فإذا كانت دار لثلاثة لأحدهم سُدُسُها، ولآخر نِصْفُها فإنها تعمل ستة أجزاء، ثم تُكْتَبُ أسماء الشركاء في ثلاث أوراق وتوضع في شمع أو طين، تُرْمى واحدة على سهم مطرف وتُفْتَح، فإذا ظهرت لصاحب النَّصْفِ أخَذَ ما وقعت علهي وما يليه، ثم تُرْمى أخرى وتُفْتَح فإذا ظهرت لصاحب السُّدْسِ اقتصر عليه وهكذا (قلت ولم يذكر صاحب الثُّلُث اكتفاء بذكر صاحب النَّصْلإ والسُّدْس) وعبارة الصاوي في هذه الصفة بعينها أنه قال: حاصل ذلك أن القاسم يعدل المقسوم من دار أو غيرها بالقيمة بعد تجزئته على قدر مقام أقلهم جزءًا فإذا كان لأحدهم نِصْفُ دار وللآخر ثُلُثُها وللآخر سُدُسُها فتجعل ستة أجزاء متساوية القيمة، ويُكْتَبُ أسماء الشركاء في ثلاث أوراق كل اسم في ورقة، وتُجْعَل في كشَمْعِ، ثم يُرْمى بواحدة على طرف قسم

معيَّن من طرفَي المقسوم، ثم يكمل لصاحبها ممَّا يلي ما رُميَتْ عليه إن بقى له شيئ، ثم يُرْمى الآخر على أوَّله ما بقي ممَّا يلي حِصّة الأول، ثم يكمل له ممَّا يلي ما وقعت عليه ثم يتعيَّن الباقي للثالث، فكل واحد يأخذ جميع نصيبه متصلاً بعضه ببعض، وتبيَّن أن رَمْيَ الورقة الأخيرة غير محتاج إليه في تمييز نصيب مَنْ هي له لحصول التمييز بِرَمْي ما قبلها، فكتابتها إنَّما هي لاحتمال أنتقع أوَّلأن إذ لا يُعْلَم أنها الأخيرة إلاَّ بعد. فتأمَّل اهـ. وللقُرعة صفة أخرى: أن تكْتَبَ أسماء الجهات في أوراق بعدد الأجزاء ويُعطى لصاحب السُّدْس ورقة، ولصاحب النَّصْف ثلاث، ولصاحب الثُّلُث اثنتان، وفي هذه قد تحصل التفرقة في نصيب صاحب النَّصْف والثُّلُث. قال خليل مشيرًا لهاتَيْن الصَّفَتَيْن: وكَتَبَ الشركاء ثم رَمَى أو كَتَبَ المقسوم وأعْطَى كلاً لكلّ اهـ. قال الخرشي: وهناك صفة ثالثة وهو أن القاسم يكتب أسماء الشركاء ويجعلها تحت ساتر على حِدَة، ثم يكتب أسماء الجهات، ويجعلها أيضًا تحت ساتر آخر على حِدَة، ثم يأخذ واحداً من أسماء الشركاء وواحدًا من أسماء الجهات فَمَنْ ظهر اسمه في جهة أخَذَ حظَّه في تلك الجهة اهـ. وفي أخرى قِيل تُكْتَبُ الأسماء والجهات ثم تُخْرَج أوَّل بندقة من الأسماء أوَّله بندقة من الجهات، فيُعْطَى مَنْ خرج اسمه نصيبه في تلك الجهة اهـ نَقَلَه الموّاق عن ابن شاس. وفي حاشية الصاوي نضشقْلاص عن البناني ما حاصله أنه إذا كَتَبَ الشركاء في أوراق بعددهم إمَّا أن يرمي أسماؤهم التي كتَبَهَا على أجزاء المقسوم، أو يقوم مقام رمي أسماء الشركاء على الأجزاء وكمل لصاحبه ممَّا يلي إن بقي له شيئ كالعمل الأوّل سواء بلا تفريق ولا إعادة قِسْم اهـ. فروع: الأول: اعلَم أن الذي يعدل المقسوم هو القاسم، ويكفي الواحد بخِلاف المقسوم، الثاني: يجوز للقاسم أخْذُ الأجْة على القِسْم إن كانت من بيت المال أو من الشركاء الرشداء. قال خليل: وجاز ارتزاقه من بيت المال. وعبارة الدردير:

وأجْرُه بالعدد وكُرِهَ أي أخْذُه، ومُنِعَ إن رُزِقَ عليه في بيت المال، ومفهومه فإن لم يُرْزَق عليه من بيت المال جاز له الأخذ من الشركاء إن كانوا كبارًا بل وإن كانوا صغارًا أو طلبوا ذلك، انظر حاشية الصاويى عليه. الثالث: الأجرة المذكورة على قدر الأنصباء لا على الرؤوس اهـ. النفراوي هذا خِلاف ما لابن جزي ونصَّه في القِسْمَة. الفرع الثاني: أجْرة القسَّام على عدد الرؤوس لا على مقدار السهام، وكذلك أجْرة كاتب الوثيقة، وكذلك أجْرة كَنْسِ مراحيض الديار أهـ انظر الموّاق تَقِف على قول الباجي في أصل الاختلاف، وتوجيهه عند قول خليل وأجْرة بالعدد. قال رحمه الله تعالى: "وَمَنْ أَبَى قِسْمَةَ مَا لاَ ضَرَرَ فِي قِسْمَتِهِ أُجْبِرَ، وَفي قِسْمَةِ مَا تَبْطُلُ مَنْفعَتُهُ رِوَايَتَانِ" قال ابن جزير: إن كل الشيئ المشترك ممَّا يحتمل القسمة بلا ضرر كالأرضين وغيرهما، فأراد أحد الوَرَثَة القسمة وأباها بعضهم أجُبِرَ مَنْ أبى على القسمة، وإن كان ممَّ لا يُقْسَمُ أجْبِرَ على بَيْعِ حظه ثم يقتسمون الثمن، واختُلِفَ فيما تتغير صِفَتُه بالقسمة كالحمَّام هل يقْسَم أوَ يُبَاع. فالجواب كما في المدوَّنة يُنْظَر فيه إلى المضرّة ونقصان الثمن، فإن كا فيه نقصان الثمن ومضرّة على أحدهما فلا يُقْسَم إلاّض أن يجتمعا. ثم اعلَم أن الشيئ الذي يفسد بالقشِسْم كالعَبْدِ والفَّ لا يجوز قِسْمُه لا قُرعة ولا مراضاة، وما تنقص قيمته بِقِسْم ذاته كالمصراعين والخفَّيْن والسفرَيْن فإنَّما يمتنع قسمته قُرعة لا مراضاة، وأمَّا قسمة جميع ما ذكر مهايأة فتجوز لانتفاء الضرر، قاله النفراوي اهـ. قال رحمه الله تعالى: "فَإِنْ طَلَبَ بَعْضُهُمْ الْبَيْعَ أُجْبِرَ مَنْ أَبَاهُ كَالشُّرَكَاءِ في العَبْدِ وَالسَّفِينَةِ وَالْحَيَوَانِ" يعني كما في الرسالة وما انسم بلا ضررٍ قُسَّمَ من ربع وعقار، وما لم ينقسم بغير ضَرَر، فَمَنْ دعا إلى البيع أجْبِرَ علهي مَنْ أباه. قال الدردير: وأججْبِرَ على البيع مَنْ أباه فيما لا ينقسممن عقار وغيره إن نقصت حِصّة شريكة مفردة، ولا يلزم النقص ولم تملك منفردة، ولم يكن الكلّ للغَلّة كرُبْع غَلّة وحانوت، ولا للتجارة. قال

النفراوي: والحاصل أن البيع لا يجبر عليه الشريك فيما لا ينقسم إلاَّ بشروط أحدها أن يكون غير متخذ للغلة ولا للتجارة، وأن يكون اشترى جملة لا مفرقًا، وأن لا يلتزم الآبي النقص للطالب للبيع اهـ. فقال خليل: وإن دعا إليه أحدهم قال ابن القاسم في المدونة: إذا دعا أحد الشركاء إلى قِسْمِ ما يُقْسَم من رُبْع أو حيوان أو رقيق أو عروض أو غيرها، وشركتهم بإرث أو شراءَ أو غيره أُجْبِرَ على القِسْم مَنْ أباه، انظر ما اشترى للتجارة. قال اللخمي: لا يُقْسَم، وكذلك لو اشترى أحدهما جزءًا والآخر كذلك، أو بعضهم بعد بعض لم يُخْبَرْ منهم على البيع مع صاحبه. وقد ذهب ابن رشد إلى هذا في رباع الغلات أن الشريك فيها لا يُجْبَر على مقاومات وعلى على بَيْع اهـ نَقَلَه الموّاق. قال رحمه الله تعالى: "وَمَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ يُقْسَمُ كَيْلاً أَوْ وزْنًا، وَتُقْسَمُ العُرُوضَ أَثْمَاناً إلاّ أن يتراضوا عَلَ غَيْر ذلِك" يعني أنه يجب قِسْمُ ما يُكال بالمكيال الشرعي، وما يوزن بالميزان الشرعي خيفة أن يدخل في ذلك التفاضل في المطعومات وغيرها مما لا يجوز التفاضل فيه من جنس واحد كما في البيوع، وكذلك يجب قسم العروض أثمانًا إلاَّ أن يتراضوا بينهم على قسمها بغير بيضع فيجوز لهم ذلك إذا كانوا كبارًا رشداء، وإلا أن وجب البيع واقتسام أثمانها. وتقدَّم أن نحو العقار والحيوان يباع ما لاي مكن قسمه من الأنواع، ويقسم ثمنه ولا يضم إلى غيره، كما قال خليل: وقُسِمَ العقارُ وغيره بالقيمة. قال الخرشي: يعني أن العقار وما أشبهه من المقومات يُقْسَمُ بالقيمة لا بالعدد ولا بالمساحة، وسواء اختلف البنيان أو اتفق، وسواء اتفق الغرس أو اختلف إذ لا يُعْرَف تساويه إلاَّ بمعرفة قيمته، فلا بدَّ من التقويم، وأمَّا ما يُكال أو يوزَن واتفقت صفته فإنه يُقْسَم كَيْلاً أو وزْنًا كما عند ابن رشد وفتوى الشبيبي وفتوى ابن عرفة وغزوه للباجي أن المِثليات كالمقوَّمات اهـ. قال رحمه الله تعالى: "وَتَنْتَقِضُ لِطُرُوَّ وَارثٍ أَوْ دَيْن، إلاَّ أنَنْ يَلْتَزِمُوا وَفَاءَهُ، أَوْ يَرْضى الوَارثُ بِمُشَارَكَتِهِمْ، أَوْ تَكُونَ التَّرِكَةُ عَيْنًا فَيَرْجِعُ عَلَى كُلًّ بِقِسْطِهِ

وَاللَّهُ أَعْلَمُ" يعني إذا قسمت الوَرَثَة التركةَ ثم طرأ عليها وارث آخر أو دَيْن انتقض القِسْمُ لحقَّ الوارث الذي طرأ أو لحقَّ الغريم. قال ابن جزي: الفرع الثالث إذا طرأ دَيْنٌ على التركة بعد قسمة التركة انفسخت القِسْمَة.؟ وقال سحنون لا تنفسخ، ولكن صاحب الدَّيْن يأخذ من كل وارث قدر حصّته اهـ قلت ويؤيد قول سحنون ما في الخرشي كما هو في المدونة من أنه إذا دفع جميع الورثة للغريم ماله من الد ... ين فإن القِسْمة تمضي إذ ليس له حقٌّ إلاَّ في ذلك. فإن امتنعوا أو بعضُهم فُسِخَتْ حينئذٍ؛ لأن الدَّيْن مقدَّم على الميراث فلا مِلْكَ للوَرَثَة إلاَّ بعد أدائه اهـ باختصار. قال الموّاق عند قول خليل: وإن طرأ غريم أو وارث إلخ أمَّا مسألة طُرُوَّ الغريم أو الوارث أو المُوصَي له على مِثْلِه، فقال ابن رشد: المسألة الأولى من الإحدى عشرة مسألة طُرُودَّ الغريم على الغرماء، الثانية طُرُوّ الوارث على الوَرَثة، الثالثة طُرُوّ المُصَى له على المُوصِي له، حُكْمُ هذه المسائل الثلاث سواء وهو أن يتبع الطارئ كل واحد منهم بِما ينوبه ولا يأخذ افلملئ منهم بالمُعْدِم، فإن وجد بأيديهم ما قبضوا قائمًا لم يفت أُخِذَ من كل واحد منهم ما يجب ولم تُنقض القسمة إن كان ذلك مَكِيلاً أو موزونًا، وإن كان ذلك عُروضًا أو حيوانًا انتقضت القِسْمَة لِما يدخل عليه من الضَّرَر في تبعيض حقَّه. واختُلِفَ هل يضمن كل واحد منهم للطارئ ما ينوبهممَّا قَبَضَ إن قامت له بيَّنة على هلاكه من غير سببه، راجع المقدَّمات معما تقدَّم عند قول خليل أو ثُلُث خُيِّر لأربع. وأمَّا مسألة طُرُوَّ المُوصَى له بجزء على وارث فقال ابن رشد: المسألة التاسعة طُرُوّ المُصَى له بجزء على الوَرَثَة، ذهب ابن القاسم إلى أن ذلك بمنزلة طُرُوَّ الوارث على الوَرَثة اهـ. واللَّه أعلَم. ولمَّا أنهى الكلام على ما يتعلَّ بالقِسْمة وأحكامها انتقل يتكلم على المسائل التي تتعلق بأحكام إحياء الأرض الموات والارتفاق، وما يتعلَّ بأحكام الغصب والمغصوب، وحُكْم الاستحقاق فقال رحمه اللَّه تعالى:

كتاب الإحياء والارتفاق والغصب والاستحقاق

كتاب الإحياء والارتفاق والغصب والاستحقاق أي في بيان ما يتعلَّق بأحكام إحياء الأرض الموات وما عطف عليها ممَّا ستقف عليه إن شاء اللَّه مفصَّلاً في مواضعه: وبدأ بالكلام على الإحياء كما صدر به اهتمامًا بشأنه، فقال رحمه اللَّه تعالى: "مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا غَيْرَ مُمْلُوكَةٍ فَهُوَ لَهُ، فَإِن عَادَ دَاثِرًا فَلِغَيْرِهِ إِحْيَاؤُهُ" يعني من عَمَّر الأرض الموات فهي مِلْكٌ له، والمَوات بفتح الميم، وهي الأرض لغا مالك لها ولا يُنْتَفَع بها، والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أحيا أرضًا مَيِتًّ فهي له وليس بِعرقٍ ظالم حَقٌّ" قال مالك والعِرقُ الظالِمُ ما احتفر أَو أُخِذ أو غُرِسَ بغير حقًّ اهـ. الموطَّأ. قال الدردير في أقرب المسالك: إحياء الموات، مضواتُ الأرض ما سَلِمَ من اختصاص بإحياء، ومَلَكها به ولو اندرست إلاَّ لإحياءٍ من غيره بعد طول، والطول بالعُرْف بأن يرى أن من أحياها أوّلاًّ قد أعرض عنها فإنها تكون للثاني، ولا كلام للأوَّل بخلاف إحيائها بقرب، لكن إن عمَّرها الثاني جاهلاً بالأوّل فَلَهُ قيمة عمارته قائمًا للشبهة، وإن كان عالِمًا فَلَه قيمتها منقوضًا، وهذا ما لم يسكت الأوّل بعد عِلمِه بالثاني بِلا عُذر، وإلاَّ كان سكوته وهو حاضر بلا عُذْر دليلاً على تَرْكِها له. وقولنا بعد طول، هذا هو المعتمد، وقيل تكون للثاني ولو لم يطل وهو ظاهر قول ابن القاسم، وعليه درج الشيخ أي سيدي خليل. وقيل لا تكون للثاني أبدًا بل هي لِمَنْ أحياها ولو طال الزمن قياسًا على مَنْ مَلِكَها بشراء أو إرْث أو هِبَة أو صَدَقة فاندرست، فإنها لا تخرج عن مِلْكِه لا كلام لِمَنْ أحياها ثانيًا اتفاقًا، إِلاَّ لحيازة بشروطها كما يأتي اهـ. قال رحمه اللَّه تعالى: "وَيَقِفُ مَا قَارَبَ الْعِمَارَةَ عَلَى إِذْنِ الإِمَامِ" يعني كما قال مالك في المدوَّنة: ولا يكون له أن يحيي ما قَرُبَ من العمران: وإنَّما تفسير الحديث مَنْ أحيا

أرضاً مواتًا إنَّما ذلك في الصحاري والبراري، وأمَّا ما قَرُبَ من العمران ما يتشاحّ الناس فيه فإن ذلك لا يكون له أن يُحْيِيَه إلاَّ بقطيعة من الإمام اهـ. قال ابن جزي فإن كانت قريبة من العمران افتقر إحياؤها إلى إذْن الإمام، بخلاف البعيدة من العمران اهـ. وفي الدردير: وافتقر إن قَرُبَ لإذْنٍ، وإلاَّ فللإمام إمضاؤُه وجعلَهُ متعديَّا، بخلاف البعيد ولو ذَمِيًّا بغير جزيرة العرب، أي يفتقر الإحياء إلى إذنْ الإمام إن كان قريبًا من العمران بأ، كان حريم بلد. قال الحطاب: والقريب هو حريم العمارة ممَّا يلحقونه غدوًا ورواحًا. قال ابن رشد: وحدُّ البعيد من العمران ما لم يَنْتَهِ إليه مسرح العمران واحتطاب المحتطبين إذا رجعوا إلى المبيت في مواضعهم، فإذا كانت قريبة وأحياها بغير إذْنٍ من الإمام فللإمام ردُّه وله إمضاؤه، يخلاف البعيدة فلا يفتقر إلى إذْنٍ من الإمام فهو مِلْكٌ له، سواء كان المُحْيي مسلِمًا أو ذمَّيًا ويُشْتَرِطُ في الذَّمَّي أن لا يكون إحياؤه في جزيرة العرب وإلأن فلا لأنها ممنوعة للَّمَّي، لقوله عليه الصلاة السلام: "لا يبقين دينان بجزيرة العرب" وفي رواية "هي مكة والمدينة واليمن وما والاها" اهز بتوضيح. وعبارة الخرشي: فإن كان المكان الذي يقع الإحياء فيه بعيدًا من العمران فإن المُحْيي لا يفتقر في إحيائه فيه لإذْن ولو كافرًا حيث كان الموضع المُحْيَا بغير جزيرة العرب المتقدَّم تفسيرها في باب الجِزْية للحديث المتقدَّم اهـ انظر المنتقى لأبي الوليد الباجي. ثم ذكر رحمه الله تعالى ما يكون به إحياء المَوات فقال: "بِشَقَّ الأْنْهَارِ، وَاستخرَاج العُيُونِ وَالآبَارِ، والغَرِسِ والتَّحْجِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ" يعني كما قال الدردير: والإحياء بتفجير ماء وبإزالته وببناء وغرس، وتحريك أرض، وقطع شجر، وكسر حجرها مع تسويتها، لا بتحويط ورعي كلأ وحفر بئر ماشية إلاَّ أن يُبين المِلكية. قال الصاوي في حاشيته عليه: السبعة المتقدمة متفق على كونها إحياء، وهذه الثلاثة مختلف فيها، والصحيح أنها ليست إحياء. وانظر لو فعل في الأرض تلك الأمور الثلاثة

جميعها هل يكون إحياء لها لأنه لا يلزم من كون كل واحد من هذه لا يحصل به إحياء أن يكون مجموعها كذلك، لقوة الهيئة المجتمعة عن حالة الانفراد كما هو ظاهر كلامهم. ومقتضى ما في الحاشية (أي حاشية العدوي الخرشي) أن يكون إحياء اهـ. قال رحمه الله تعالى: "وَلاَ يَحْفِرُ بِئْرًا حَيْثُ يَضُرُّ بِئْرَ غَيْرِهِ، وَيُعْتَبَرُ ذلِكَ بِشِدَّةِ الأأرْضِ وَرَخَوَتِهَا، فإن حَفررَ في ملْكِهِ فَلَهُ مَنْعُ مَائِهَا وَبَيْعُهُ إلاَّ بِئْرَ الزَّرْع فَعَلَيْهِ بَذْلُ فَضْلِهَا لجارِهِ الزَّارع عَلَى ماءٍ مَا دَامَ مُتَشاغِلاً بإصْلاَح بِئْرِهِ" هذا شروع في مَنْع إحداث ما يَضُرُّ بالجار أو الشريك. قال مالك في الموطَّأ بإسناده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضَرَرَ ولا ضِرار". ولذا قال في الرسالة: فلا يفعل ما يَضُرُّ بِجَاره من فَتْحِ كَوَّو ة قريبة يكشف جارَه منها، أو فَتْحِ بابٍ قبالة بابه أو حَفْرِ ما يَضُرُّ بِجَاره في حَفْرِه وإن ك ان في مِلْكِه. قال شارحَها كحَفْر بئر ملتصقة بِجَاره، أو حاصل لمرحاضه قال خليل: وقضى بِمَنْعِ داخانٍ كحمَّام، أو رائحة كدباغ، وأندر قبل بيت، ومضر بجدار واصطبل أو حانوت قبالة باب. واختُلِفَ في إحداث ما يحطُّ من الثمن ولا يَضُرُّ بِجِدار كإحداث فرن بقرب فرن، أو حمَّام بقرب حمَّام فإنه لا يمنع الجار من إحداث شيئ من ذلك، واختُلِفَ البئر بقرب بئر الجار فبعضهم أجازها. وقال أشهب إن كان يلزم على حَفْرِها استفراغ مائها مُنِعَ وإلاَّ فلا اهـ النفراوي. قال ابن القاسم في المدوَّنة: إذا غارت بئر جداره بحَفْرِ بئر في داره لزم هَدْمُ بئر، وقد عَلِمْتَ فيه قول أشهب. انظر تفصيل ذلك في الفصل الثاني من الباب الخامس عشر في ابن جزي وأمَّا قوله فإن حَفَرَ في مِلْكِه إلخ قد ذكر ابن جزي في القوانين أن المياه تنقسم إلى أربعة أقسام: الأول: ماء خاص وهو الماء الممتلّك في الأرض الممتلكة كالبئر والعين فينتفع به صاحبه، وله أن يمنع غيره من الانتفاع به، وأن يبيعه، ويستحبُّ له أن يبذله بغير ثمن ولا يُجْبَر على ذلك إلاَّ أن يكون قوم اشتدَّ بهم العطش فخافوا الموت فيجب عليه سَقْيُهُم، فإن مَنَعَهُم،

فَلَهُم أن يقاتلوه على ذلك، وكذلك إن انهارت بئر جاره وله زَرْعٌ يخاف عليه التَّلَف فَعَلَيْه أن يبذل له فَضْلَ مائِه ما دام متشاغلاً بإصلاح بئره اهـ انظر باقي الأقسام في الكتاب المذكور، وإلى ذلك أشار الشيخ خليل بقوله: ولذي مأجَل وبئرٍ ومرسالِ مطرٍ كماءٍ يملكه مَنْعُه وبَيْعُه إلاَّ مَنْ خِيفَ عليه، ولا ثمن معه، والأرجح بالثمن كفضل بئر زرع خِيفَ على زرع جاره بهدم بئره وأخذ يصلح وأُجْبِرَ عليه كفضل بئر ماشية بصحراء هدرًا إن لم يبيَّن المِلكية اهـ. وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله: "وضفِي الصَّحْرَاءِ هُوَ أَحَقُّ بِكِفَايَتِهِ كالسّابِقِ إِلَى كلأٍ أَوْ حَطَبٍ" قال ابن جزير: القِسْم الرابع الآبار التي تحفر في البوادي لسَقْي المواشي، فَمَنْ حفرها يبدأ بالانتفاع بها ويأخذ الناس ما فضل لهم، وليس له أن يمنعهم من ذلك. قال وفي الكلأ وهو المرعى، فإ، كان في أرض غير ممتلَّكة فالناس فيه سواء، وإن كان في أرض متملَّكة فلصاحب الأرض الانتفاع به. واختُلِفَ هل يجوز له بَيْعُه ومَنْعُ الناس منه أم لا اهـ. وعن مالك بإسناده عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُمْنَعُ فَضْلُ الماء ليُمْنَعَ به الكلا". قال مالك: معنى ذلك في آبار الماشية التي في الفلوات، لأنه إذا مُنِعَ فَضْلُ المار لم يرع ذلك الكلأ الذي بذلك الوادي لعدم الماء، فصار مَنْعًا للكلأن وفي المدوَّنة: لا يُباع بئر الماشية ما حُفِرَ منها في جاهلية ولا إسلام وإن حُفِرَت في قرب أي قرب المنازل إذا كان إنَّما احتفر للصدقة. قال أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي الأندلسي بعد كلام طويل: فتقرَّررمن هذا أن ما احتفره في أرضه فالظاهر أنه على المِلْك وإباحة البَيْع حتى يببيَّن أنها للصَّدَقة، وما احتفر في غير أرضه للماشية أو لشرب فقط ولم يحفرها لإحياء زرع أوغَرْس فالظاهر أنه احتفرها ليكون المقدَّم في منفعتها وللناس فَضْلُها؛ لأنه إنَّما يحفرها بحيث لا يُباع ماؤها ولا جرت به

العادة إلاَّ ببذلها، فإنَّما ينصرف عملهادون شرط إلى المعتاد من حالها، وعلى ذلك يحمل، وبهذا الحُكْمِ يُحْكَم لها اهز وقوله كالسابق تشبيه في كونه أحقَّ. يعني أن مَنْ سبق إلى شيئ مُباح يكون هو أحقَّ به نحو كلأ في الصحراء، ومثله حطب. قال الدردير: عاطفًا فيما يقضي به لِمَنْ سبق، وقضى للسابق كمسجد إلاَّ أن يعتاده غيره أي غير السابق فيُقْضى له بالجلوس لتعليم عِلْم أو إقراء أو فتوى، لِمَا في صحيح مسلم عنه صلى اللهعليهوسلم قال: "إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحقُّ به" اهـ. قال رحمه اللَّه تعالى: "ولاَ يُحْدِثُ مَا يَضُرُّر بِجَارِهِ كَالْمَسْبَكِ وَالْحَمَّام وَنَحْو ذَلِكَ" يعين أن لا يجوز لشخص أن يحدث شيئًا يَضُرُّ بجاره كالمِسْبَكَة والحمام والمدبغة والمجزرة وغيرها ممّا يتأذى به الجار، لقوله عليهالصلاة والسلام: "مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره" وفي آخر: "مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُحْسِن إلى جاره" وفي آخر "والله لا يؤمن" كرَّرها ثلاث مرات، قيل" مَنْ يا رسول الله قال: "الذي لا يأمن جاره بوائقه" والمراد ببوائقه شرُّه. وفي الحديث أيضًا "مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" وغير ذلك من الأحاديث الواردة في حقَّ الجار نسأل الله التوفيق في ذلك. وحاصل ما في المقال كما ذكر ابن جزي في القوانين من أن مَنْ أحدث ضَرَرًا أمرَ بقطعه، ولا ضَرَرَ ولا ضَرار. وينقسم الضرَرُ المحدث قسمَيْن: أحدهما متفق عليه والآخر مختَلَفٌ فيه. فالمتفق عليه أنواع، فمِنْه فَتْحُ كوّة أو طاق يكشف منها على جاره فيؤْمَر بسدَّها أو سَتْرِها، ومنه أن يبني في داره فرنًا أو حمَّامًا أو كير حداد أو صائغ ممّا يَضُرُّ بجاره دخانه فيُمْنَعُ منه إلاَّ إن احتال في إزالة الدخان، ومنه أن يصرف ماءه على دار جاره أو على سقفه أو يجري في داره ماء فيَضُرُّ بحيطان جاره. وأمَّا المختَلَفُ فيه فمثل أن يعلّي بنيانًا يمنع جاره الضوء والشمس، فالمشهور أنه لا يُمْنَعُ منه، وقيل يُمْنَع. ومنه أن يبني بنيانًا يمنع الريح

فصل في الارتفاق

للأندر فالمشهور مَنْعُه منه، ومن ذلك أن يجعل في داره رحى يَضُرُّ دَوِيُّها بجاره فاختُلِفَ هل يُمْنَع من ذلك، وأمَّا فَتْحُ الباب في الزقاق فإن كان الزقاق غير نافذ فليس له أن يفتحه إلاَّ بإذْن أرباب الزقاق، وإن كان نفذًا جاز له فَتْحُه بغير إذْنهم إلاَّ أن يكشف على دار أحد جيرانه فيُمْنَع من ذلك. ومَنْ بني في طريق المسلمين أو أضاف إلى مِلْكظه شيئًا من الطريق مُنِعَ من ذلك باتفاق، وله أن يبني غرفة على الطريق إذا كانت الحيطان له من جانبَي الطريق. وإن كان بين شريكَيْن نهر أو عين أو بئر فمَنْ أنفق منهم فَلَهُ أن يَمْنَعَ شريكه الانتفاع حتى يعطيه قسطه من النفقة اهـ. ولمَّا أنهى الكلام على ما تعلَّق بإحياء الأرض ... المَوات وما يتبع ذلك من الأحكام في إزالة الضَّرر انتقل يتكلم على ما يتعلَّق بالارتفاق فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في الارتفاق أي في بيان ما يتعلق بما ينبغي للإنسان من فعل البِرَّ والإحسان والرفق بعباد الله وهو المُسمّى بالارتفاق. فقال رحمه الله تعالى: "يُنْدَبُ إِلَى إِعَانَةِ الجَار بإعَارَةِ مَغْرَزِ خَشَبَةٍ أَوْ طَرْحجِهَا مِنْ جِدَارِهِ، فَإنْ أَطءلَقَ لَمْ يَكُن لَهُ قَلْعُها إلاَّ لإصْلَ جِدَارِهِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ إِعَادَتُهَا بِخِلاَفِ تَعْيِين مُدَّةً" يعني مما ينبغي للإنسان إعانة جاره بإعارته مَغْرِز خشبة وإعانته في طرحها من جداره، وإذا أذن له في غرزها فإن حدد له مدة معينة فله ذلك، فإن أطلق لم يكن له قلعها إلاَّ بعد الانتفاع في مثلها أو إرادة إصلاح جداره، ثم لا يلزمه إعادة تلك الخشبة في موضعها، بخلاف ما إذا عين له مدة محددة فيلزم عليه إعادتها إلى المدة المعينة. قال في الرسالة: ويبغي أن لا يمنع الرجل جاره أن يغرز خشبة في جداره ولا يقضي عليه. قال الشارح لما فيه من الإرفاق وجلب المودة. قال خليل: وندب إعارة جداره لغرز خشبة وإرفاق بماء وفتح باب، والنهي في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يمنع أحدكم جاره

أن يغرز خشبة" للكراهة، وسواء كان محل الجار ملكًا له أو موقوفًا عليه. وأما ناظر المسجد أو نائبه فاختلف هل يندب له إعارة الجار موضعًا لغرز خشبة فيه أو يُمْنَعُ على قولَيْن؟ الراجح منهما المضنْع اهـ النفراوي. قال رحمه الله تعالى: "وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الدُّخُولِ لإصْلاَح جِدارِهِ منُ جِهَتِهِ" يعني وَجَبَ على الجار أن يأذَن لجاره في مِلْكه من الجهة التي يريد إصلاح حائطة أو جداره. قال خليل عاطفًا فيما يقضي به: وبالإذن في دخول جاره لإصلاح جدار ونحوه. يعني أنه يقضي على الجار بأن يأذن لجاره في الدخول لداره لأجْل إصلاح جدار أو غَرْزِ خشبة أو نحو ذلك، ويكون هذا من باب ارتكاب أخف الضررين. وإذا سقطت لك ثياب في دار جارك فإنه يقضي لك بالدخول لأخذها، إلا أن يخرجها لك اهـ الخرشي باختصار. قال الدردير في أقرب المسالك: وندب للإنسان إرفاق لغيره من جار أو قريب أو أجنبي، ويتأكد في القريب والجار، قال الله تعالى: وبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وبِذِي القُرْبَى والْيَتَامَى والْمَسَاكِينِ والْجَارِ ذِي القُرْبَى والْجَارِ الجُنُبِ والصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وابْنِ السَّبِيلِ ومَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء: 36] قلت هذه الآية اشتملت على أصناف من يندب له الإرفاق من جميع الناس من الصغير والكبير، سواء حرَّا أو عبدًا ذكرًا أو أنثى، قريبًا أو بعيدًا، حاضرًا أو غائبًا، صحيحًا أو مريضًا، جاراً أو غيره، إذا تأملت تفهم أن هذه الآية تشتمل جميع ما ذكره اهـ. قال مطرف وابن الماجشون: وكل ما طلبه جاره من فتح باب، وإرفاق بماء، أو مختلف في طريق، أو فتح طريق في غير موضعه وشبه ذلك، فهو مثل ذلك لا ينبغي في الترغيب أن يمنعه مما لا يضره ولا ينفعه ولا يحكم به عليه اهـ. "وَلَهُ فَتْحُ رَوْزَنَةٍ لَمصْلَحَةٍ حَيْثُ لاَ يطَّلِعُ مِنْهُ عَلَى جَارِهِ" يعني للجار فَتْحُ رَوْزَنَة، وهي الكوّة الكبيرة، والكوّة هي الطاقة التي تُفْتَحُ أو تُغْلَقُ عند الحاجة، فيجوز فَتْحُها لمصلحة حيث لا يطلع منه وينكشف على جاره وإلا مُنِع، وتقدم نص الرسالة

في فتح الكوّة. قال الشيخ زروق في شَرْحِه على الرسالة نَقْلاً عن ابن رشد في الكلام على فتح الباب في السكة غير النافذة ثلاثة أقوال المعمول به منها المنع مطلقًا إلا أن يأذَنَ فيه جميع أهل الزقاق، وقاله ابن زرب، واقتصر عليه المتّيطي اهـ. وقد مر أقسام ما يحصل به الضرر كما في القوانين فراجعه إن شئت. ثم ذكر حكم المتداعيَيْن في الجدار فقال رحمه الله تعالى: "وَإِذَا تَدَعَيَا جِدَارًا وَلاَ بَيَّنَةِ فَهْوَ لِمَنْ إِلَيْهِ وُجُوُ الآجر والطكاقات فإِنِ اسْتَوَيَا فَهْو مُشْترك فَلا يتَصَرَّفلُ فِيهِ إلا بإذن الشريك، فَمَنْ هَدَمَهُ لِغَير ضَرُورة لزمه إعادته، وإن انهدم فإم أمكن قسمة عرصته وإلا أجبر على البناء معه، فإن أبى وبنى أحدهما فله منع الآخر من الانتفاع ليؤدي ما ينوبه" يعني كما في الرسالة وغيرها. حاصل ما قال ابن جزي في القوانين إذا تنازعا في مِلْكِه أي الجدار فيُحْكَمُ به لِمَنْ يشهد العُرْف بأنه له وهو لِمَنْ كانت إليه القمط والعقود، فالقمط هي ما تشدُّ به الحيطان من الجص وشبهه، والعقود هي الخشب التي تجعل في أركان الحيطان لتشدَّها، فإن لم يشهد العُرْف لأحدهما حُكِمَ بأحكام المتداعي. وقال الشافعي: لا دليل في الخشب على ملك الحائط، بينهما مع أيمانهما. وإذا انهدم حائط بستان مشترك فأراد بعضم بناءه وأبى بعضهم فإن كان مقسومًا إلا أن الحيطان تضمه فلا حجّة لبعضهم على بعض، ومَنْ أراد أن يحرز متاعه أحرزه، ومَنْ أراد الترك تركه، وإن كان غير مقسوم قُسِم، وإن كان لم تمكن قسمته أنفق من أحب في صيانته وأخذ نفقته من نصيب صاحبه. وإن انهدمت رحى مشتركة فأقامها أحدهم بعد امتناع الباقين فالعلة كلها للذي أقامها عند ابن القاسم. وقال ابن الماجشون: الغلة بينهم على حَسَب الأنصباء ويأخذ المنفق من أنصبائهم ما أنفق اهـ. [48] قال رحمه الله تعالى: "وَالسَّقْفُ تَابعٌ لِلسُّفْلِ وَعَلَيْهِ إِصْلاَحُهُ لِيَنتَفِعَ الأعْلى" يعني أن يقف البيت تابع للبيت، وإصلاحه لصاحب السُّفْل. قال في الرسالة:

وإصلاح السفل على صاحب السُّفْل، والخشب المسقف عليه، وتعليق الغرف عليه إذا وَهَى السُّفل وهدم حتى يصلح، ويُجْبَر على أن يصلح أو يبيع مِمَّنْ يصلح ولا ضَرَر ولا ضَرار اهـ. قال ابن جزي المسألة الثالثة إذا كان عُلُوُّ الدار لرجل وأسفلها للآخر فالسقف الذي بينهما لصاحب السُّفْل، وعليه إصلاحه وبناؤه إن انهدم، ولصاحب العُلُوَّ الجلسو عليه، وإن كان فوقه عُلُوٌّ آخر فسقفه لصاحب العُلو الأول، بوبناء العُلُوًّ على صاحبه، وبناء السُّفْل على صاحبه. وقال الشافعي: السقف مشترك بين صاحب العُلُوَّ والسُّفْل، وإن كان مرحاض الأعلى منصوبًا على الأسفل فكنسه بينهما على قدر الرؤوس عندج ابن وهب وأصبغ. وقال أشهب: لصاحب السُّفْل وليس لصاحب العُلُوَّ أن يزيد في بنيانه شيئًا إلاَّ بإذن صاحب السُّفْل اهـ. قال رحمه الله تعالى: "ولذي جدارين على جانبي الطريق اتخاذ ساباط، وإشراع أجنحة لا تضر باملارة، وتعلية جداره ما شاء بشرط الامتناع من الإطلاع" بعني أنه رحمه الله تعالى تكلَّم على ثلاثة أشياء يُباح فِعْلُها لأرباب المنازل وهي إحداث ساباط لصاحب الجانبين وبناء الإشراع المسمى بروشن، وارتفاع بنائه ما شاء بشرط عدم الاطلاع في بيوت الجيران. أما الساباط وهو سقف في السَّكة لِمَن له الجانبان من الجدار، ولا يمنع من إحداثه، وأمَّا الرَّوْشَنُ وهو الجناح الذي يخرج به جهة السكة في عُلُو الحائط لتوسعة العُلُوّ، ولا يُمْنَعُ من إحداثه كذلك. قال الموّاق: فَرَوى ابن القاسم عن مالك لا بأس به إلا أن يكون الجناح بأسفل الجدار حيث يضر بأهل الطريق فيمنع اهز قال الدردير عاطفًا على ما يجوز ولا يمنع إلا الضرر: وروشن وساباط لمن له الجانبان ولو بغير النافذة. ومحل جواز الروشن والساباط ما لم يضر بالمارة في النافذة وغيرها، فأن رفعا رفعًا بيناً عن رؤوس الناس والإبل المحملة وإلا منعا. قال الصاوي في حاشيته عليه: حاصله أن المعتمد في الروشن والساباط جواز إحداثهما مطلقًا، كانت السكة نافذة

أو غير نافذة، ولا يحتاج لإذن أحد وحيث رفع عن رؤوس الركبان رفعًا بينًا ولم يضر بضوء المارة اهـ. وأما تعلية الجدار وهو ارتفاع بناء بيته ما شاء فيشترط فيه عدم التطلع لبيوت الجيران وإلا مُنِع. قال الدردير في أقرب المسالك: ومنع الجار إذا علا ببنائه من الضرر كالتطلع على جاره بالشراف من العلو الذي بناه اهـ. قال رحمه الله تعالى: "ولا يجوز أخذ شيئ من السابلة، والناس مشرتكون فيها في الاستطراق والجلوس" يعني لا يجوز لأحد أخذ شيئ من الطريق قال [48] [49] خليل عاطفًا على ما يقضي به: ويهدم بناء بطريق ولو لم يضر. قال شارحه: يعني ا، من بنى في طريق المسلمين بنيانًا يضر بهم في مرورهم فإنه يؤمر بهدمه بلا خلاف، وإن كان لا يضر بهم فكذلك يهدم على المشهور، وهذا ما لم تكن الطريق ملكًا لأحد بأن يكون أصلهاداراً ملكًا له مثلاً وانهدمت حتى صارت طريقًا فإنه لا يزول ملكه عنها بذلك، وقيد هذا بعضهم بما إذا لم يطل الزمان وهو حاضر ساكت وإلا قضى عليه بهدمه فليس له فيهاكلام اهـ الخرشي بطرف من حاشية الصاوي. قال رحمه الله تعالى: "وفي المسجد للعبادات. ومن سبق إلى موضع لم يقم منه إلا للاحتراف وجعله مسكنًا" يعني الناس مشتركون في موضع البادات كالمسجد، ومن سبق وجلس لم يقم لغيره إلا للاحتراف وجعله مسكنًا كالمعتكف فيترك له إحسانًا. انظر الحطاب عند قول خليل: وللسابق كمسجد. وتقدم لنا الكلام في هذه المسأةل عند قول المصنف، وفي الصحراء وهو أحق بكفايته كالسابق إلى كلأ أو حطب فراجعه إن شئت. ولما أنهى الكلام على ما تعلق بالارتفاق انتقل يتكلم على أحكام الغصب فقال رحمه الله تعالى:

فصل في الغصب

فَصْلٌ في الغصب أي في بيان ما يتعلق بأحكام الغصب والمغصوب. وهو لغة: أخذ الشيئ ظلمًا، أما عرفًا: فهو الاستيلاء على ملك الغير بغير حق شرعي قال خليل: الغصب أخذ مال قهرًا تعديًا بلا حرابة. الدردير: أصل هذا التعريف لابن الحاجب رحمه الله والغصب مما حرمه الله تعالى على عباده كسائر المحرمات. وذلك بأن أخذ أموال النسا بالباطل على عشرة أوجه بالإجمال كلها حرام، والحُكْمُ فيها مختلف: الأول الحرابة، والثاني الغصب، والثالث السرقة، والرابع الاختلاس، والخامس الخيانة، والسادس الإذلال، والسابع الفجور في الخصام بإنكار الحق أو دعوى الباطل، والثامن القمار كالشطرنج والنرد، والتاسع الرشوة فلا يحل أخذها ولا إعطاؤها، والعاشر الغش والخلابة في البيوع. قاله ابن جزي اهـ. قال رحمه الله تعالى: "يَجِبُ رَدُّ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ، فضإن فاتَ ضَمِنَ المِثْليَّ بالمثْل، والمقوم بقيمته يوم الغصب" يعني كما قال في القوانين: المسألة الثانية فيما يجب على الغاصب وذلك حقان: أحدهما حقُّ الله تعالى، وهو أن يُضرب ويُسجن زجرًا له ولأمثاله على حَسَبِ اجتهاد الحكِم، والثاني حقّ المغصوب منه وهو أن يرد إليه ما غصبه، فإن كان المغصوب قائمًا رده بعينه إليه، وإن كان قد فات رد إليه مثله أو قيمته، فيرد المثل فيما له مثل، وذلك كل مكيل وموزون ومعدود من الطعام والدنانير والدراهم وغير ذلك، ويرد القيمة فيما لا مثل له كالعروض والحيوان والعقار، وتعتبر قيمة ذلك يوم الغصب لا يوم الرد اهـ. قال رحمه الله تعالى: "وفي نقصه يخير ربه بين أخذه ناقصًا وتضمينه، وفي بيعه بين إجازته وأخذ الثمن واستعادته" يعني إذا نقص المغصوب عند الغاصب فصاحبه مخير بين أن يأخذ قيمته يوم الغصب ويتركه للغاصب، وبين أن

يأخذه ويأخذ أرْشَ النقص إن كان من فِعْلِ الغاصب، وإن كان من فعل الله لم يأخذ قيمة النقص. قال ابن جزي: أما إن باع الغاصب الشيئ المغصوب فإن صاحبه يُخَيَّر بين إجازة البيع وأخذ الثمن أو رد البيع وأخذ شيئه. قال في المدوَّنة. ومَنْ غصب عَبْدًا أو أمَة ثم باعها ثم استحقها رجل وهي بحالها فليس له تضمين الغاصب القيمة وإن حالت أسواقها، وإنما له أن يأخذها أو يأخذ الثمن من الغاصب، كما لو وجدها بيد الغاصب وقد حالت أسواقها، فإن أجاز ربها البيع بعد أن هلك الثمن بيد الغاصب فإن الغاصب يغرمه، وليس الرضا ببيعه يوجب حكم الامانة في الثمن اهـ. نَقَلَه الحطاب. قال رحمه الله تعالى: "وفي جناية الغاصب بين أخذه مع الأرض وتضمينه وجناية أجنبي بين تضمين الغاصب وأخذه الأرش" يعني أ، الغاصب إذا جنى على المغصوب خير صاحبه بين أخذه مع الأرْش وبين تضمينه، وإن كان الجاني أجنبيًا يُخَيَّر صاحبه أيضًا بين تضمين الغاصب أو الجاني. قال خليل: أو جنى هو أو أجنبي خُيَّرَ فيه وقال قبله بقليل: وخُيَّرَ في الأجنبي، فإن تبعه تبع هو الجاني، فإن أخذ ربه أقل فله الزائد من الغاصب فقط اهـ. قال الدردير: أو أجنبي فإن أتبع الغاصب بقيمته يوم الغصب رجع على الجاني بقيمته يوم الجناية، وإن أتبع الجاني فأخذ أقل رجع بالزائد على الغاصب اهـ. قال رحمه الله تعالى: "ولو بنى على الساحَة أو رقع بالخرقة لزمه الردُ، لا اللوح في السفينة إلا أن يؤمن غرقها" يعني لو بنى الغاصب على الساحة - هي برحة خالية عن البناء - ثم استحقها المغصوب منه فلزم الغاصب ردها لصاحبها. قال الدردير في أقرب المسالك: وخير ربه إن بنى أو غرس في أخذه، ودفع قيمة نقضه بعد سقوط كلفة لم يتولها، وأمره بتسوية ارضه، وإليه أشار خليل بقوله: لوله هدم بناء عليه أي على المغصوب. قال في الإكليل: ويُهْدَم البناء ولو عَظُمَ كالقصورن وله تركه للغاصب، وأخذ

قيمته منه يوم غصبه. وقال أشهب: لا يُهْدَم البناء العظيم. قال الدردير: معنى قوله وله هَدْمُ بناء عليه أي على المغصوب إذا كان عمودًا أو خشبة أو حجرًا فيأخذ عين شيئه بعد هَدْم ما عليه، وله تركه وأخذ قيمته، فهذا في غير الأرض، فجعله شاملاً للأرض كما في بعض الشراح غير [50] [51] صحيح، لأن غاصب الأرضش إذا بنى أو غرس فيها قدمنا حكمه في أنه إنما يخير ربه في أخذه ودفع قيمة نقضه فراجعه إن شئت قوله أو رقع بالخرقة: الرقع بالقاف الفوقية المثناة، وفي نسخة بالفاء من الرفع، والأول أصح لأنه من الرَّقع قال في المصباح رقعت الثوب رَقْعًا من باب نفع إذا جعلت مكان القطع خرقة، فالمعنى أن من غصب خرقة أو ثوبًا فرقع ثوبه به لزمه عليه رد عن خرقته أو قيمته. وفي الخرشي: وكذلك إن غصب ثوبًا فجعله ظهارة لجبة فلربه أخذه أو تضمينه قيمته. قال أبو محمد: تفتق الجبة ويُهدم البناء، والفَتق والهدم على الغاصب. وكان إفاتته ذلك رضا منه بالتزام قيمة اهـ. وقوله لا اللوح إلاخ اعلم أنه اختلف في المذهب فيمن غصب اللوح وسمره في سفينته هل لربه أخذه من الغاصب؟ أو إلا أن يؤمن غرقها. قال الموّاق: وانظر لو أنشأ سفينته على لوح مغصوب، أو غصب خيطًا خاط به جرحًا يتخرج تهوين أخف الضررين، في ذلك خلاف انظر نظائره في الموّاق اهـ. قال رحمه الله تعالى: "وإن وطئ فهو زان" قال ابن جزي: فمن اغتصب امرأة وزنى بها فعليه حد الزنا، وإن كانت حرة فله صداق مثلها، وإن كانت أمَة فعليه ما نقص من ثمنها بكرصا كانت أوثيبًّا، ولا يلحق به الولد، ويكون الولد من الأمَة التي اغتصبها أو زنى بها عبدًا لسيد الأمة، وهذا كله إذا ثبت عليه ذلك باعترافه أو بمعاينة أربعة شهود، أو ادعت ذلك مع قيام البينة على غيبته عليها، فإ، ادعت عليه أنه استكرهها فغاب عليها ووطئها وأنكر هو ولم يكن لها بيَّنة فلا يجب عليه حد الزنا، وإنما النظر هل يجب عليه يمين على نفي دعواها؟ أو هل لها عليه صدق؟ وهل تحدث هي حد القذف

أو الزنا؟ ففي ذلك تفصيل، انظره في القوانين اهـ. وأما الأمَة فقد قال في الرسالة: ومن غصب أمَة ثم وطئها فولدُه رقيق وعليه الحد؛ لأنه وطء محرم بلا شبهة. انظر النفراوي. ثم قال رحمه الله تعالى: "فلو غرم القيمة ثم وجدت العين عنده فهي له، إلا أن يكون أخفاها فلربها أخذها" يعني كما قال خليل:" وملكه إن اشتراه ولو غاب، أو غرم قيمته إن لم يموه. قال الشارح يعني أن الغاصب يملك الشيئ المغصوب إذا اشتراه من ربه أو من يقوم مقامه وسواء كان الشيئ المغصوب حاضرًا أو غائبًا، وكذلك يملكه الغاصب إذا غرم قيمته للمالك إن لم يكذب في دعواهالتلف، فإن ظهر كذبه بأن تبين عدم تلفه بعد ادعائه التلف وغرم قيمته فإنه لا يملكه وهو لصاحبه. وعبارة النفراوي في المستعير: إذا غرم المستعير القيمة ثم وجدت بعد ذلك عند اللص فإنها تكون حقًا للمستعير لأنه ملكها لغرم قيمتها. ومثل المستعير الحياك والخياط والصباغ يدعون الضياع يغرمون ما ضاع ثم يوجد فإنه يكون حقًا لهم. وأما لو وجد عندهم فإنه يكون لصاحبه كالغاصب يدعي ضياع أوتلف الذات المقصودة ويغرم قيمتها ثم توجد عنده فإنه لا يملكها اهـ. قال رحمه اللهتعالى: "وهل يلزمه رد غلته" أي التي استغلها الغاصب قبل تملكه بالشراء، أو لا يرده فالجواب فيه خلاف في المذهب وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله: "قال ابن القاسم يلزم في العقار لا الحيوان، وقيل بل في الجميع، وقيل لا شيئ فيما اغتل أو انتفع" قال في الرسالة: ولا غلّة للغاصب ويرد ما أكل من غلة أو انتفع، وعليه الحد إن وطئ، وولده رقيق لرب الأمَة اهـ كما تقدم. قال خليل: وله غلة. قال الصاوي: الضمير يعود على المغصوب منه. وحاصل ما في الدردير أنه قال: إذا

استعمله الغاصب أو أكراه سواء كان عبدًا أو دابة أو أرضًا أو غير ذلك على المشهور. فإذا لم يستعمله فلا شئ عليه ولو فوت على ربه استعماله، إلا إذا نشأ من غير استعمال كلبن وصوف وثمر. قال في المدونة: وما أثمر عند الغاصب من نخل أو شجر أو تناسل مثل الحيوان أو جز الصوف أو حلب اللبن فإنه يرد ذلك كله مع ما غصب، وما أكله رد المثل فيما له مثل، والقيمة فيما لا يقضي فيه بالمثل، فإن ماتت الأمهات وبقيت الأولاد وما جُزَّ وما حُلِبَ خُيَّرَ ربها إن شاء أخذ قيمة الأمهاتولا الشيئ فيما بقي من ولده وصوف ولبن ولا من ثمنهإن بيع، وإن شاء أخذ الولد إن كان أو ثمن ما بيع من صوف ولبن ونحوه. وما أكل الغاصب أو انتفع به من ذلك فعليه المثل فيما له مثل، والقيمة فيما يقوم، ولا شيئ عليه في الأمهات، ألا ترى أن من غصب أمَة فباعها فولدت عند المبتاع ولا شيئ عليه ولا على الغاصب في قيمة الأم، ثم يرجع المبتاع على الغاصب بالثمن اهـ. هذا هو المعتمد والمعول عليه. قال رحمه الله تعالى: "ويؤخذ غرسه وبناؤه بقيمته مقلوعًا، وما لا قيمة لمقلوعه مجانًا، ويؤمر بقلع زرعه في إبانه، وبعده يتركه بأجرة المثل" يعني كما في الرسالة. ونصُّها: والغاصب يؤمر بقلع بنائه وزرعه وشجره، وإن شاء أعطاه ربها قيمة ذلك النقض والشجر بعد قيمة أجر من يقلع ذلك، ولا شيئ عليه فيما لا قيمة له بعد القلع والهدم، ويرد الغاصب الغلة ولا يردها غير الغاصب اهـ. انظر الفواكه. وقوله رحمه الله ويؤمر بقلع زرعه فإن أخذها صاحبها في إبان جزي في القوانين: فإن زرع في الأرض المغصوبة زرعًا فإ أخذها صاحبها في إبان الزراعة فهو مخير بين أن يقلع الزرع أو يتركه للزارع ويأخذ الكِراء، وإن أخذها بعد إبان الزراعة فقيل هو مخير كما ذكرنا، وقيل ليس له قعلة وله الكراء ويكون الزرع لزراعة اهـ.

فصل فيما يلزم الإنسان من المواسات في بعض الحالات

ولما أنهى الكلام على ما يتعلق بأحكام الغصب انتقل يتكلم على ما يلزم على الشخص من المواساة، وإنقاذ المستهلك من نفس ومال وغير ذلك مما وَجَبَ على الإنسان وهي أحكام شتّى. قال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ فيما يلزم الإنسان من المواسات في بعض الحالات أي في بيان ما يلزم على الإنسان من المواساة والمحافظة من أمور الدين والدنيأن والدفع عن النفس والمال والدين والعرض والنسب كما تقدم، ويجب عليه حفظ الحقوق وعدم التعدي والاعتداء على حق الغير؛ لأنه يلزم بذلك من الأحكام ما لا يدخل تحت الحصر فبدأ رحمه الله تعالى بما هو أهم من إنقاذ نفس أو مال فقال: "من أمكنه إنقاذ نفس أو مال من مهلكة فلم يفعل ضمن، كإتلافه عمدًا أو خطأ، والمنفعة المقصودة كالعين، وفي اليسير يلزم ما نقص" يعني أن من أمكنه إنقاذ النفس أو المال ولم يفعل مع القدرة على ذلك وجب عليه الضمان، كأن أتلف ذلك عمدًا أو خطأ؛ لأن الخطأ والعمد في أموال الناس سواء. قال ابن جزي: الثالث أي من أقسام التعدي الاستهلاك بإتلاف الشيئ، كثتل الحيوان أو تحريق الثوب كله أو تخريقه، وقطع الشجر وكسر الفخار، وإتلاف الطعام والدنانير والدراهم وشبه ذلك، ويجري مجراه التسبب في التلف كمن فتح حانوتًا لرجل فتركه مفتوحً فسرق، أو فتح قفص طائر فطار، أو حل دابة فهربت، أو حل عبدًا موثوقًا بأبق، أو أوقد ناراً ي يوم ريح فأحرقت شيئًا، أو حفر بئرًا بحيث يكون حفره تعديًا فسقط فيه إنسان أو بهيمة، أو قطع وثيقة فضاع ما فيها من الحقوق، فمن فعل شيئًا من ذلك فهو ضامن لما استهلكه، أو أتلفه، أو تسبب في إتلافه سواء فعل ذلك كله عمدًا أو خطأ، وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله: "وفاتح القفص، وإن تراخى الطيران، كقيد عبد أو دابة، وتحريق وثيقة وكتم شهادة يتوي بها

المال أي يهلك، وراكب الدابة، وقائدها وسائقها وموقفها حيث سهل له، وإمساك الكلب العقور، وذو الجدار المخوف سقوطه" قوله وراكب الدابة إلخ قال في الرسالة: والسائق والقائد والراكب ضامنون لما وطئت الدابة اهـ انظزر الفواكه. وأما قوله وإمساك الكلب العقور فقد تقدم الكلام فيه عند قوله رحمه الله وفي الكلب خلاف في البيوع فراجعه إن شئت وقوله وذو الجدار المخوف سقوطه وتقدم الحُكْمُ فيه أيضًا أنه يلزم عليه أن يصلح أو يبيع ممَّنْ يصلح لا ضَرَرَ ولا ضَرار. ثم ذكر ما لا ضمان فيه فقال رحمه الله تعالى: "والعجماء والمعدن والبئر بغير صنع جبار، كدفع الصائل" يعني كما في الرسالة، ونصها: وما مات في بئر أو معدن من غير فعل أحد هدر. قال شارحها: الأصل في جميع ذلك قوله صلى اله عليه وسلم لآ"فعل العجماء جُبار، والبئر جُبار، والمعدن جُبار، وفي الرَّكاز الخمس". والعجماء بالمد كل حيوان غير الآدمي. وسميت البهيمة بالعجماء لأنها لا تتكلم والجُبار بضم الجيم وتخفيف الموحدة. وسميت البهيمة بالعجماء لأنها لا تتكلم والجُبار بضم الجيم وتخفيف الموحدة: الذي لا شيئ فيه اهـ باختصار. وقوله كدفع الصائل أي مما لا ضمان فيه دفع الصائل كما تقدم. قال رحمه الله تعالى: "وإذا اصطدم فارسان فدية كل على عاقلة الآخر، وفرسه في ماله، لا المركبان، وحل أحدهما من الآخر" قال مالك: إذا اصطدم فارسان فمات الفرسان والراكبان فدية كل واحد على عاقلة الآخر، وقيمة فرس كل واحد في مال الآخر، قال ولو أن حُرًا وعبدًا اصطدما فماتا جميعًا فقيمة العبد في مال الحر ودية الحر في رقبة العبد يتقاصان، فإن كان ثمن العبد أكثر من دية الحر كان الزائد لسيد العبد في مال الحر، وإن كانت دية الحر أكثر لم يكن على السيد من ذلك شيئ. وقال في رجلين اصطدما وهما يحملان جرتين فانكسرتا غرم كل واحد ما كان على صاحبه، وإن انكسرت إحدجاهما غرم ذلك صاحبه. وقال في السفينتين تصطدمان فتغرق إحداهما بما

فيها فلا شيئ في ذلك على أحد، لأن الريح تغلبهم إلا أن يعلم أن النواتية لو أرادوا صرفها قدروا فيضمنوا، وإلا فلا شيئ عليهم. قال ابن القاسم: ولو قدروا على حبسها إلا أن فيهم هلاكهم وغرقهم فلم يفعلوا فليضمن عواقلهم دياتهم، ويضمنوا الأموال في أموالهم، فليس لهم أن يطلبوا نجاتهم أي نجاة أنفسهم بغرق غيرهم، وكذلك لو لم يروهم في ظلمة الليل، وهم لو رأوهم لقدروا على صرفها فهم ضامنون لما في السفينة. ودية من مات على عواقلهم، ولكن لو غلبتهم الريح أو غففلوا لم يكن عليهم شيئ اهـ. انظر الموّاق عند قول خليل وإن تصادما أو تجاذبا مطلقًا قصدًا فماتا أو أحدهما فالقود. وعبارة المجموع أوضح، ونصها: وإن تصادما أو تجاذبا عمدًا فماتا أو أحدهما فأحكام القود. وحُمِلا على العضمْد. والسفينتان على العجز وبابه هدر، وليس منه خوف كالغرق، ودية كل من المخطئين على عاقلة الآخر وغيرها كالفرس في مال صاحبه اهـ. قال الصاوي على الدردير مسألة إن تصادم المكلفان أو تجاذبا حبلاً أو غير فسقطا راكبين أو ماشيين أو مختلفين قصدًا فماتا معًا فلا قصاص لفوات محله، وإن مات أحدهما فحكم القود يجري بينهما، وحملا على القصد عند جهل الحال لا على الخطأ عكس السفينتين إذا تصادمتا وجهل الحال فيحملان [ / ب ] [/] على عدم القصد من رؤسائهما فلا قود ولا ضمان؛ لأن جريهما بالريح ليس من عمل أربابهما كالعجز الحقيقي بحيث لا يستطيع كل منهما أن يصرف دابته أو سفينته عن الآخر فلا ضمان بل هو هدر، لكن الراجح أن العجز الحقيقي في المتصادمين فيه ضمان الدية في النفس، والقيمة في الأموال، بخلاف السفينتين فهدر، وحملا عليه عند جهل الحال. وأما لو قدر أهل السفينتين على الصرف ومنعهم خوف الغرق أو النهب أو الأسر حتى أهلكت إحدى السفينتين الأخرى فضمان الأموال في أموالهم، والدية على عواقلهم، لأنه لا يجوز لهم أن يسلموا بهلاك غيرهم اهـ. ملخصًا من خليل وشراحه. وهنا فائدة ذكرها الشبرخيتي كما ي الصاوي فراجعها إن شئت. قال رحمه الله تعالى: "وغلقاء الأمتعة خوف الغرق، وتوزع بحسب الأموال"

يعني يجوز لصاحب السفينة إذا ثقلت وخاف الغرق أن يلقي بعض الأمتعة إذا رجى بذلك نجاة النفوس. قال ابن جزي في القوانين: إذا خيف على المركب الغرق جاز طرح ما فيه من المتاع أذن أربابه أو لم يأذنوا إذا رجى بذلك نجاته، وكان المطروح بينهم على قدر أموالهم ولا غرم على من طرحه اهـ قال الدردير في أقرب المسالك: وجاز إن خيف الغرق طرح ما به النجاة غير آدمي، وبدئ بما ثقل أو عظم جرمه، ووزع على مال التجارة فقط، طرح أو لا بقيمته يوم التلف، والقول للمطروح متاعه فيما يشبه اهز مثال التوزيع في ذلك، يقال كم قيمة المطروح يوم طرحه؟ فإذا قيل مائة وما قيمة ما لم يطرح فإذا قيل مائتان فصار قيمة الجميع ثلثمائة فقد ضاع ثلث المال. فيرجع على من لم يطرح ماله بثلث قيمته، ولو قيل بعكس ما تقدم رجع على من لم يطرح ماله بالثلثين. ولو كان اثنان لأحدهما ما يساوي ثلاثمائة وللثاني ما يساوي ستمائة وطرح من الأول ما يساوي مائة ومن الثاني ما يساوي مائتين فلا رجوع لأحدهما على الآخر؛ لأن ما طرح ثلث الجميع، وعلى كل ثلث ما بيده وقد حصل، ولو كان الطرحخ بالعكس بأن طرح لذي الستمائة ما يساوي مائة، ولذي الثلاثمائة ما يساوي مائتين لرجع على ذي الستمائة بمائة اهـ. قاله الدردير. قال رحمه الله تعالى: "ويضمن مؤجج النار في الريح، كمرسل الماء وحافر البئر حيث يمنع. وماله الذميّ كالمسلم، ويُضمن خمره إلا أن يظهرها" يعني أن من أجج النار في يوم الريح لزمه غرم ما تلف من مال أو نفس، كحافر البئر تعديًا فسقط فيها إنسان أو بهيمة كما تقدم وكذلفك مرسل الماء فتلف شيئًا من المال لزمه ضمانه، وإن للذمي، ولو خمرة إلا أن يظهر بأ، يبيعها في سوق المسلمين فإنها تراق ويؤدب في ذلك، وفي كسر إنائها خلاف حسبما تقدم ذكرناه إياه فراجعه إن شئت. قال رحمه الله تعالى" وجناية الصبي والمجنون في ماله" يعني أن جناية الصبي والمجنون في مالهما إن كان لهما مال، وإلا ففي ذلك تفصيل. قال ابن جزي في القوانين:

فصل في الإستحقاق وأحكامه

فإن كان غير بالغ فيحكم عليه في التعدي في الأموال بحكم البالغ إذا كان يعقل، فيغرم ما أتلفه إن كان له ماله، فإن لم يكن له مال أتبع به، وأما الصبي الذي لا يعقل فلا شيئ عليه فيما أتلفه من نفس أو مال كالعجماء. وقيل الماء هدر والدماء على العاقلة كالمجنون. وقيل المال في ماله والدماء على عاقلته إن بلغ الثلث اهـ. قال في الرسالة: والسكران إن قتل قُتِل، وإن قتل مجنون رجلاً فالدية على عاقلته. وعَمَدَ الصبي كالخطأ وذلك على عاقلته إن كان ثُلُث الدية فأكثر، وإلا ففي ماله اهـ. انظر الفواكه. ولما أنهى الكلام على ما تعلق بما يجب على الشخص من المحافظة وما يلزمه من الضمان بإتلاف حق الغير بالتفريط انتقل يتكلم على بعض ما يجب عليه رده من الحقوق بعد الاستحقاق فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في الإستحقاق وأحكامه أي في بيان ما يلزم من استحق من يده شيئ فإنه يلزمه رده، أي هذا من الملحقات لما تقدم من وجوب رد الحقوق لأربابها، كوجوب رد الأمانات. وأما حقيقة الاستحقاق فكما في الدردير أنه قال: الاستحقاق وهو رفع ملك شيئ بثبوت ملك قبله أو حرية، وحكمه الوجوب إن توافرت أسبابه في الحر أو غيره إن ترتب على عدم القيام به مفسدة كالوطء الحرام، وإلاجاز، وسببه قيام البينة على عين الشيئ المستحق أنه ملك للمدعي لا يعلمون خروجه ولا خروج شيئ منه عن ملكه غلا الآن، ويمنعه عدم قيم المدعي بلا عُذْر مدّة أمد الحيازة، أو اشتراؤه من حائزه من غير بينة يشهدها سرًا قبل الشراء بأن إنما قصدت شراءً ظاهرًا خوف أن يُفيتَه علي بوجه لو ادعيت به عليه اهـ. قال رحمه الله تعالى: "من استحق من يده شيئ لزمه رده، وله الرجوع على بائعه بالثمن، ولربه أخذ البناء والغرس بقيمته قائمًا، فإن أبى دفع الآخر قيمة الأرض

براحًا، فإن أبيا اشتركا بالقيمتين" يعني أن من استحق من يده شيئسواء عقارًا أو حيوانًا أو عروضًا أو رقيقًا لزمه رده لربه بعد الإثبات على وجه الشرع، وإن كان عقارًا وقد بنى به داراً فللمستحق أخذه بقيمته قائمًا. قال في الرسالة: ومستحق الأرض بعد أن عمرت يدفع قيمة العمار قائمًا، فإن أبى دفع إليه المشتري قيمة البقعة براحًا، فإن أبى كانا شريكين بقيمة ما لكل واحد اهـ. قال شارحها: المراد منهما فالمستحق بقيمة أرضه خربة وصاحب الشبهة بقيمة عمارته، وتعتبر قيمة كل يوم الحكم، فإن كانت قيمة الأرض مائة وقيمة البناء أو الغرس كذلك كانا شريكين بالمناصفة وقد أشار خليل إلى هذه المسألة بقوله: وإن غرس أو بنى قيل للمالك أعطه قيمته قائمًا، فإن أبى فله دفع قيمة الأرض، فإن أبى فشريكان بالقيمة يوم الحكم كما تقدم. ويقال مثل ذلك فيمن اشترى ثوبصا فرقعه، أو سفينة خربة وأصلحها، أو ثوبًا وصبغة اهـ. قاله النفراوي باختصار. قال رحمه الله تعالى: "ومستولد الأمَة إن ابتاعها من غاصب عالمًا فهو كهو، وإلا أخذها ربها وقيمة الولد، وهو حر، وقيل بل قيمتها وهي أم ولد. والله أعلم" يعني أن هذه المسألة اختلف فيها قول مالك على ثلاثة أقوال. أي فيمن يستحق أمَة على يدٍ ذي شبهة بشراء أو هبة أو غيرها، ولم يختلف قوله في استحقاقها على يد غاصب أو عالم بالغصب فحكمه كالغاصب، قال في الرسالة: ومن استحق أمَة قد ولدت فله قيمتها وقيمة الولد يوم الحُم. وقيل يأخذها وقيمة الولد. وقيل له قيمتها فقط إلا أن يختار الثمن فيأخذه من الغاصب الذي باعها، ولو كانت بيد غاصب فعليه الحد وولده رقيق معها لربها اهـ. قال شارحها: قوله ومن استحق أمَة أي من يد حر صاحب شبهة هو الذي لم يعلم كونها مغصوبة سواء كان مشتريًا أو موهوبًا له أو غيرهما والحال أنها قد ولدت عنده واستمر ولدها فله أخذ قيمتها وقيمة الولد لأنه حر على جميع الأقوال، وتعتبر تلك القيمة يوم الحُكْم. قال خليل: وضمن قيمة المستحقة وولدها يوم الحكم، هذا هو المعول

عليه ولذا اقتصر عليه خليل لأن مالكًا رجع إليه، وعليه جماعة، وأخذ به ابن القاسم، وعلى هذا القول لا تكون أُم ولد لمن استحقت من يده وله الرجوع بثمنها على بائعه ولو كانغاصبًا سواء ساوى ما غرمه لسمتحقها أو زاد أو نقص، ولكن ما قبضه ربها إن كان أقل من ثمنها فإنه يجرع بما بقي له من الثمن كما هو قاعدة بيع الفضولي إذا فات يجب فيه الأكثر من الثمن والقيمة. وقيل يقضي لمستحقها بأن يأخذها وقيمة الولد، ونسب هذا القول لمالك ايضًا، وعلى هذا لو وقع الصلح على أخذ قيمتها لكانت أُمّ ولد. وقيل له قيمتها فقط يوم وطئها ولا شيئ له في ولدها، إلا أن يختار الثمن دون القيمة فأخذه من الغاصب الذي باعها، هذا هو ثالث الأقوال، وكلها عن الإمام، وأرجحها أولها كما تقدم. وأما لو كان الاستحقاق من يد رقيق لقضى لسيدها بأخذها مع ولدها من غير خلاف، كما لو كان الولد من زنا اهـ النفراوي باختصار: والله تعالى أعلم. ولما أنهى المصنف الكلام على مسائل الاستحقاق وغيرها من المسائل انتقل رحمه الله يتكلم على ما يتعلق باللقطة لأن صاحبها يستحقها بمجرد وصفها وعلى الملتقط دفعها إليه ولذا ناسب وضع أحكامها عقب أحكام الاستحقاق لأنها من لواحقه إلا أن المصنف وضع لها كتابًا مستقلاً اعتناء بشأنها فقال رحمه الله تعالى:

كتاب اللقطة

كتاب اللقطة أي في بيان ما يتعلق بمسائل اللقطة بضم اللام وفتح القاف، وأما في اللغة: فهي وجود الشيئ على غير طلب قاله الصاوي، ومثله في الفواكه. وعرفها ابن عرفة بقوله: مال وجد بغير حرز محترمًا، ليس حيوانًا ناطقًا ولا نعما، بل عينًا أو عرضًا أو رقيقًا صغيرًا، وسواء وجدت في العمار أو الخراب أو بساحل البحر وعليها علامة المسلمين، لا نحو عنبر وعقيق فلواجده اهـ. وعرفها خليل بقوله: اللقطة مال معصوم عرض للضياع وإن كلبًا وفرسًا وحمارًا، ومثله في أقرب المسالك. ثم شرع رحمه الله تعالى في بيان أحكامها فقال: "من التقط ما تشح به الأنفس عادة لزمه تعريفه سنة بحسب إمكانه من غير ملازمة، أو رفعة إلى المام، فإن أعدادها ضمن، إلا أن يرفعها ليتبينها ولا يخاف عليها" يعني كما في الرسالة: ومن وجد لقطة فليعرفها سنة بموضع يرجو التعريف بها، فإن تمَّت سنة ولم يأت لها أحد فإن شاء حبسها وإن شاء تصدق بها وضمنها لربها إن جاء، وإن انتفع بها ضمنها، وإن هلكت قبل السنة أو بعدها بغير تحريك لم يضمنها، وإذا عرف طالبها العفاص والوكاء أخذها، ولا يأخذ الرجل ضالة الإبل من الصحراء، ول أخذ الشاة وأكلها إن كانت بفيفاء لا عمارة فيها اهـ. قال خليل كما في الدردير ولفظه: ووجب أخذها لخوف خائن إلا أن يعلم خيانته هو فيحرم وإلا كُرِهَ. وتعريفها سنة إن كان له بال، ونحو الدلو والدينار الأيام بمظان طلبها، وبباب المسجد في كل يومين أو ثلاثة بنفسه أو بمن يثق به، أو بأجرة منها إن لم يلق بمثله، وبالبلدين إن وجدت بينهما، ولا يذكر جنسها، ولا يعرف تافه، وله حبسها بعدها أو التصدق بها أو التملك ولو بمكة، وضمن فيهما، كنية أخذها قبلهاوردها لموضعها بعد أخذها للحفظ. والرقيق كالحر. وقيل السنة في رقبته، وله أكل

ما يفسد ولو بقرية ولا ضمان كغيره إن لم يكن له ثمن، وأكل شاة بفيفاء، فإن حملها حية، عرفت وبقرة بمحل خوف عُسْرِ سوقهما، وبأمن تُرِكَتْ كإبل مطلقًا، فإن أخذت عُرفت ثم تُركت بمحلها، وله كراء دابة لعلفها كراء مأمونًا، وركوبها لموضعه وإلا ضمن وغلتها لا نسلها اهـ. الدردير وإلى بعض ما تقدم أشار رحمه الله تعالى بقوله: "فإذا جاء من يعرف عفاصها ووكاءها دفعها إليه" يعني كما تقدم، وإذا عرف طالبها العفاص والوكاء أخذها. وفي أقرب المسالك: وردت بمعرفة العفاص والوكاء، وقضى له على ذي العدد والوزن بيمين، وإن وصف ثان وصف الأول ولم ينفصل بها حلفا وقسمت بينهما، كنكولهما، كبينتين لم يؤرخا وإلا فللأقدم تاريخًا لا للأعدل. قال الصاوي: حاصله أن القطة إذا وصفها شخص وصفًا يستحقها به ولم ينفصل بها انفصالاً لا يمكن معه إشاعة الخبر، بأن لم ينصل أصلأن أو انفصل بها لكنلا يمكنه معه إشاعة الخبر، ثم جاء شخص آخر ووصفها بوصف مثل الأول في كونه موجبًا لاستحقاقها سواء كان عين وصف الأول أو غيره، فإن على كلواحد منهما أن يحلف أنها له، وتقسم بينهما إن حلفا أو نكلًا، ويقضى للحالف على الناكل، أما لو انفصل بها الأول انفصالاً يمكن معه إشاعة الخبر فلا شيئ للثاني لاحتمال أن يكون سمعوصف الأول أو رآها معه فعرف أوصافها اهـ، ومثله في النفراوي. قال رحمه الله تعالى: "فإن انقضت المدة حفظها أمانة، فإن استهلكها أو تصدق بها ضمنها إلا ما يسرع إليه الفساد" يعني كما في الرسالة فإن تمت سنة ولم يأت لها أحد فإن شاء حبسها وإن شاء تصدق بها وضمنها لربها إن شاء، وإن انتفع بها ضمنها، وإن هلكت قبل السنة أو بعدها بغير تحريك لم يضمنها اهـ. قال ابن جزي المسألة السادسة إذا عرف بها سنة فلم يأت صاحبها فهو مخير بين ثلاثة أشياء: أن يمسكها في يده أمانة أو يتصدق بها ويضمنها، أو يتملكها وينتفع بها ويضمنها على كراهة لذلك.

وأجازه أبو حنيفة للفقير. ومنعه الشافعي مطلقًا. هذا حُكْمُها في كل بلد إلا في مكة فقال ابن رشد وابن العربي: لا تتملك لقطتها بل تعرف على الدوام. قال صاحب الجواهر: المذهب أنها كغيرها. وقال ابن رشد أيضًا لا ينبغي أن تلتقط لقطة الحاج للنهي عن ذلك اهـ. والحاصل أن في لقطة مكة خلافًا حتى في المذهب، والمشهور أنها كغيرها كما قال خليل وغيره اهـ. بتوضح. قوله إلا ما يسرع إليه الفساد، والمعنى لا ضمان عليه في أكل ما يفسد لو تركه كثريد ولحم وفاكهة وخضر بعد الاستيناء بقدر ما يخاف عليه الفساد، سواء قل ثمنه أو كثر، ولكن صرح ابن رشد بأنه إن كان له ثمن بيعَ ووقف منه. وقال في المجموع: له أكل ما يفسد، وضمن ما له ثمن اهـ. الدردير مع طرف من الصاوي. وقال الخرشي: يعني أن من وجد شيئًا من الفواكه واللحم وما أشبه ذلك مما يفسد إذا أقام فإنه يجوز له أن يأكله ولا ضمان عليه فيه لربه، وسواء وجده في عامر البلد أو غامرها، وظاهره من غير تعريف أصلأن وهو ظاهر كلام ابن رشد وابن الحاجب، وما يؤخذ من ظاهر المدونة من التعريف ضعيف، وأما ما لا يفسد فليس له أكله، فإذا أكله ضمنه إن ك ان له ثمن اهـ. قال خليل مستثنيًا على ما وجب تعريفه: لا تافهصا. قال الآبي في جواهر الإكليل هو الذي لا تلتفت إليه النفوس كقوله وتمرة وكسرة، وهو لواجده إن شاء أكله وإن شاء تصدق به، والتصدق به أحب عند مالك. قال من التقط ما لا يبقى من الطعام فأحب إلي أن يتصدق به كثر أو قل. قال ابن رشد: فإن أكله لم يضمنه لربه، كالشاة يجدها في الفلاة، إلا أن يجدها في غير فيفاء فإنه يعرف بها ثم يبيعها فإن جاء ربها دفع إليه الثمن اهـ مع طرف من الموّاق. والأصل في ذلك ما رواه جابر وابن حبان قالا: "رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به" كما في الجامع الصغير. قد رُوِيَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بتمرة في الطريق فقال: "لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها" ولم يذكر فيها تعريفًا. انظر الموّاق اهـ.

قال رحمه الله تعالى: "فأما ضالة الإبل فلا يعرض لها، والغنم بقرب غنم أو عمارة يضمها إليها وإلا يأكلها أو يتصدق بها والبقر كالإبل، وقيل كالغنم" يعني أنه تقدم الكلام أن الرجل لا يأخذ ضالة الإبل من الصحراء، وله أخذ الشاة وأكلها إن كانت بفيفاء لا عمارة فيها. روى الإمام في الموطأ بإسناده عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة، فقال: "أعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها". قال فضالة الغنم يا رسول الله، قال هي لك أو لأخيك أو للذئب. قال فضالة الإبل قال مالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها" اهـ. انظر الزرقاني عليه. قوله والبقر كالإبل إلخ قال النفراوي في الفواكه: تنبيه: سكت المصنف عن ضالة البقر، وحكمها أنها إن كانت بمحل بحيث يُخاف عليها من السباع أو الجوع فإن حكمها كالشاة توجد بالفيفاء، فإن ذبحها فيها جاز له أكلها لكن بشرط أن لا يمكن سوقها للعمران وإلا وجب، فليست كالشاة في هذه الحالة، وأما إن كانت بمحل لا يُخاف عليها من سباع ولا جوع فإنها تترك، فإن أخذها وجب عليه تعريفها، وهذاحيث لم يخف عليها من السارق وإلا وجب التقاطها. فالحاصل أن الإبل والبقر عند خوف السارق سيان في وجوب التقاطها، ويفترقان عند الخوف من الجوع أو السباع، فالإبل تترك والبقر يجوز أكلها بلافيفاء إن تعذر سوقها للعمران. ومفهوم قوله في الصحراء أن الإبل والبقر والشاة الموجودة في العمران يجب التقاطها عند خوف الخائن كالخيل والحمير والطيور والعروض ولقود اهـ النفراوي. قال رحمه الله تعالى: "وله إجارتها في نفقتها، والرجوع بما أنفق" يعني أن للملتقط أن يؤجر اللقطة في نفقتها وعلفها. قال خليل عاطفًا فيما يجوز له: وكراء بقر ونحوها في علفها كراءً مأمونًا. قال الصاوي: إنما جاز ذلك مع أن ربها لم يوكله فيه لأنها لابد لها

من نفقة عليه، فكان ذلك أصلح لربها. والظاهر أنه إذا أكراها وجيبة كراء مأمونًا ثم جاء ربها قبل تمامه فليس له فسخه لوقوع ذلك العقد بوجه جائز، فإذا أكريت لاجل العلف وزاد من كرائها شيئ على العلف لم يكن للملتقط أخذه لنفسه، بل يبقيه لربها إذا جاء عند سلامتها اهـ. بحذف. قوله والرجوع بما أنفق أي وللملتقط الرجوع بما أنفق من ماله على اللقطة، ويأتي على المصنف: ولربها إسلامها وأخذها ودفع النفقة فترقب. قال رحمه اللَّه تعالى: "ويقبل قوله في المشبه" يعني إذا اختلف الملتقط ورب الدابة فيما أنفق عليها فالقول قول الملتقط فيما أشبه، والظاهر أنه بغير يمين، وإلا فلرب الدابة إن أشبه كذلك. هذا إذا أنفق عليها الملتقط من عنده ولم يُكْرِها في عَلَفِها ولم يستعملها في مصلاحهز وإلا فله قدر ما أنفق عليها ويرد الزائد لربها كما تقدم. قال رحمه الله تعالى: "ولربها إسلامهاوأخذها ودفع النفقة" يعني أ، لرب الشيئ الملقوط تركه للملتقط في مقابلة النفقة التي أنفق على اللقطة، أو يدفع تلك النفقة ليأخذ شيئه. قال خليل: وخير ربها بين كها بالنفقة أو إسلامها. قال الشارح: يعني أ، الملتقط إذا أنفق على اللقطة نفقة من عنده جاء صاحبها فإنه بالخيار بين أن يفتك اللقطة فيدفع للملتقط نفقته، وبين أن يترك اللقطة لمِن التقطها في نفقته التي أنفقها عليها، فإن أراد أخذها بعد ذلك لم يكن له ذلك، قال أشهب، فلو ظهر على صاحبها دين فإن الملتقط يقدم بنفقته على الغرماء كالرهن حتى يستوفي نفقته اهـ الخرشي. وعبارة الصاوي على حاشية الدردير أنه قال: تنبيه: لو أنفق الملتقط على اللقطة من عنده كل النفقة أو بعضها كما لو أكراها فنقص الكراء عن نفقتها وكمل الملتقط من عنده فربها مخيرين بين أن يسلم اللقطة في نفقته أو يفتديها من الملتقط بدفع النفقة وذلك لأن النفقة في ذت اللقطة كالجناية في رقبة العبد إن أسلمه المالك لا شيئ عليه وإن أراد أخذه غرم أرش الجناية.

فصل في التقاط المنبوذ وأحكامه

وحيث قلنا بخيار ربها ورضي بتركها في النفقة ثم أراد أخذها ثانية ودفع النفقة لم يكن له ذلك لأنه ملكها للملتقط بمجرد رضاه. والظاهر أن عكسه كذلك في العدوى، أي إذا دفع له النفقة ثم أراد أن يسلمه الشيئ الملتقط ويأخذ منه النفقة فليس له ذلك اهـ. ولما أنهى الكلام على ما يتعلق باللقطة أتبعهابما يتعلق بأحكام المنبوذ فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في التقاط المنبوذ وأحكامه أي في بيان ما يتعلق بمسائل المنبوذ أي المطروح صغيرًا الذي لا قدرة له على القيام بمصالح نفسه من نفقة وغيرها فَوَجَب وجوب الكفالة لواجده أن يلقطه ويأخذه بنية حِفْظِه. قال رحمه الله تعالى: "التقاط المنبوذ فرض كفاية إلا أن يخاف عليه فيجب" قال خليل: ووجب لقط طفل نبذ كفاية. قال عبد السميع في الجواهر: وكل صبي ضائع لا كافل له فالتقاطه من فروض الكفاية، فمن وجده وخالف الهلاك إن تركه لزمه أخذه ولم يحل له تركه اهـ. ومثله لابن جُزي. وزاد: ومن أخذه بنية أنه يربيه لم يحل له رده، وأما إن أخذه بنية أن يدفعه إلى السلطان فلا شيئ عليه في رده إلى موضع أخذه إن كان موضعًا لا يُخاف عليه فيه الهلاك لكثرة الناس. واللقيط حر، وولاؤه للمسلمين، ولا يختص به الملتقط إلا بتخصيص الإمام اهـ. قال النفراوي في الفواكه خاتمة: أسقطت المصنف الكلام علىاللقيط، وهو صغير آدمي لم يعلم أبوه ولا أمه ولا رقه. والحكم فيه أنه يجب لفظه كفاية ولو علم خيانة نفسه، وإن لم يوجد سواه تعين عليه. قال خليل: ووجب لقط طفل نبذ كفاية. وشرط الوجوب كون الواجد رجلاً رشيدًا، أو حرّة خالية من الزوج، أو ذات زوج أذن لها زوجها. وأما الرقيق ولو

مكاتبًا فلا يلتقط إلا بإذن سيده. ويجب عينًا على الملتقط للطفل نفقته وحضانته، الذكر حتى يبلغ عاقلاً قادرًا على الكسب، والأنثى حتى يدخل بها الزوج الموسر كولد الصلب اهـ. قال رحمه الله تعالى: "ونفقته من ماله، فإن لم يكن ففي بيت المال، فإن لم يكن فعلى ملتقطه، ولا رجوع له ولا يرثه" يعني كما قال ابن جزي في القوانين: ونفقة اللقيط في ماله وهو ما وقف على اللقطاء، وأو وهب لهم، أو وجد معهم، فغ، لميكن له مال فنقته على بيت المال إلاَّ أن يتببع أحد بالإنفاق عليه. ومن أنفق عليه حسبة لم يرجع عليه بنفقته، هذا ما لم يعلم أن له مالاً وأنفق عليه حسبة، أما إذا علم أن له مالاً وأنفق عليه بنية الرجوع فله الرجوع مع يمينه. قال الصاوي في حاشيته على الدردير: فعلم أنه يجب اقديم ماله، ثم الفيئ، ثم الحاضن، أي فإن أنفق الملتقط عليه مع علمه بماله فإن له الرجوع إن حلف أنه أنفق ليرجع أو أشهد على ذلك كما مرَّ، وأن يكون غير سرف، وأن يدعي أنه وقت الإنفاق قصد الرجوع، وأن يكون وقت الإنفاق مال الطفل متعسر الإنفاق منه لكونه عرضًا أو عقارًا، أو ذمة الناس مثلاً كما مر في النفقات اهـ. قال في أقرب المسالك: ونفقته على ملتقطه إن لم يُعْطَ من الفيئ إلاَّ أن يكون له مال من كهبة، أو يوجد معه، أو مدفونًا تحته إن كان معه رُقعةٌ. ورجع على أبيه إن طرحه عمدًا. والقول له أنه لم ينفق حسبة بيمين اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ومن استحلقه ببينة لحق به ولو ذميًا" يعني أن من ادعى أنه ولده لا يصدق إلا ببينة تشهد على ذلك أو وجه. قال الدردير في أقرب المسالك: ولا يلحق بملتقط ولا غيره إلا ببينة أو وجه. قال مالك في المدونة: من التقط لقيطًا فأتى رجل فادعى أنه ولده لم يصدق ولم يلحق به إلا أن يكون لدعواه وجه كرجل عرف أنه لا يعيش له ولد فزعم أنه رماه لقول الناس إذا طرح عاش ونحوه ما

يدل على صدقه فإنه يلحق به وإلا لم يصدق إلا ببينة. قيل لابن القاسم: فإن صدقه الملتقط قال: أراه شاهدًا ولا تجوز شهادة واحد مع اليمين في النسب اهـ. وعبارة ابن جزي: وإن ادعى رجل أن اللقيط ولده لاختلف هل يلحق به دون بينة أم لا اهـ. وقد علمت ما في المدونة فتأمل. قال رحمه الله تعالى: "والأصل حريته وإسلامه، إلا أن يوجد بقرية لا مسلم بها. وقيل إن التقطه بها مسلم تبعه" يعني أن اللقيط حر إلا إذا كان الاتلقاط في بلد المشركين والتقطه كافر فيكون رقيقًا. قال الدردير في أقرب المسالك: وهو حرَّ، وولاؤه للمسلمين، وحكم بإسلامه في بلد المسلمين ولو لم يكن فيها إلا بيت إن التقطه مسلم، وإلا فكافر كأن وجد في قرية شرك وإن التقطه مسلم اهـ. وعبارة الخرشي أنه قال: إن الملتقط إذا وجد في بلاد المسلمين فإنه يحكم بإسلامه لأنه الأصل والغالب، وسواء التقطه مسلم أو كافر. وإذا وجد في قرية ليس فيها من المسلمين سوى بيتين أو ثلاثة فإنه يحكم بإسلامه أيضًا تغليبًا للإسلام بشرط أن يكون الذي التقطه مسلمًا، فإن التقطه ذمي فإنه يحكم بكفره على المشهور، والبيت كالبيتين على ظاهر المدونة. وإذا وجد في قرى الشرك فإنه يكون مشركًا سواء التقطه مسلم أو كافر تغليبًا للدار، والحكم للغالب، وهو قول ابن القاسم اهـ. قال رحمه الله تعالى: "والطفل تابع لأبيه في الدين ولأمه في الحرية والرق والله أعلم" يعني أن الطفل تابع، ينسب لدين أبيه سواء كان مسلمًا أو كافرًا، وأما في الحرية والرقية فهو تابع لأُمه وهو ظاهر والله أعلم. ولما أنهى الكلام على اللقطة وحُكْم اللقيط انتقل يتكلم على ما يتعلق بمسائل الإقرار وما عطف عليه فقال رحمه الله تعالى:

كتاب الإقرار والهبة والصدقة والعمرى والرقبي

كتاب الإقرار والهبة والصدقة والعُمْرَى والرقبي أي في بيان ما يتعلق بأحكام الغقرار، وأحكام الهبة، والصدقة، والعمرى، والرقبى. وكل واحد من هذه الأشياء له فصل مستقل سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. قال الشيخ العلامة عبد الله التيدي في أجوبته: ما هو الإقرار، ومن الذي يؤاخذه به، وكم أركانه. ثم قال: الإقرار الاعتراف بما يوجب حقًا على قائله بشروطه، ولا يؤاخذ بالإقرار إلا من اجتمعت فيه ثلاثة شروط: كونه نكلفًا، وغير محجور في المعاملات، وغير متهم بإقراره لأصل غير مكذب للمقرّ. وأركانه أربعة: مقر، ومقر له، ومقر به، وصيغة اهـ. ومثله في الدردير. وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله: "من اعترف بحق لزمه ويرجع في تفسير المجهول إليه" يني من أقر بحق عليه لغيره لزمه إقراره إن كان من أهل التبرع في غير متهم عليه، وما جهل من الإقرار يرجع إلى المقر في تفسيره. قال رحمه الله تعالى: "وفي دراهم أو دنانير ثلاثة، فلو قال كثيرة قيل أربعة، وقيل تسعة" قال ابن جزي في القوانين في المقر به: إذا كان اللفظ بينًا لزمه ما أقر به من مال أو حد أو قصاص، فإن كان لفظًا محتملاً حمل على أظهر معانيه قلت: أو على الاقل، نحو علي لفلان دراهم أو دنانير فإنه يقبل تفسيره على أقل الجمع وهو ثلاثة، فلو قال علي لفلان دراهم كثيرة أو دنانير كثيرة قبل تفسيره على أربعة، وقيل تسعة كما حكاه المصنف. قال رحمه الله تعالى "وبقوله كذا درهمًا وعشرون، وكذا كذا أحد عشر وكذا كذا إحدى وعشرون، ولو قال ألف ودرهم لم يكن الدرهم بيانًا. وقيل إن كان جواب دعوى فهو بيان. ولو أقر بشيئ في وعاء فإن استغنى عنه

وإلا لزما" وفي نسخة وإلا لزم بالغفراد، والأصح بزيادة التثنية كما هو ثابت في باقي النسخ التي بأيدينا. قال ابن جزي: وفي هذا الفصل فروع كثيرة اختلف الفقهاء فيها لاختلاف معانيها. فمن قال لفلان على شيئ قبل تفسيره بأقل ما يتمول. ولو قال له عليَّ مال قبل ما يفسر به ولو حبة أو قيراطًا ويحلف، وقيل لا يقبل في أقل من نصاب الزكاة، وقيل في ربع دينارز ولو قال مال عظيم أو كثير فقيل هو كقوله مال، وقيل هو ألف دينار قدر الدية. فلو قال كذا فهو كالشيئ يقبل ما يفسره به. ولو قال كذا وكذا بالعطف لزمه واحد وعشرون لأنه أقل الأعداد المعطوفات. فلو قال كذا درهمًا لزمه عشرون. ولو قال كذا كذا درهمًا بغير واو لزمه أحد عشر لأنه أقل عدد مركبز ولو قال عشرة دراهم ونيف فالقول قوله في النيف. ولو قال له علي ألف فسرها بما شاء من دنانير أو دراهم أو غير ذلك. وإن قال له على بضعة عشر كان ثلاثة عشر، لأن البضعة من الثلاثة إلى التسعة. ولو قال له علي أكثرمائة، أو جل مائة، أو نحو مائة، أو مائة إلا قليلاً؛ فعليه الثلثان وقيل النصف وزيادة وهو واحد وخمسون. ولو قال دنانير، أو دراهم، أو جمع من أي الأصناف كان لزمه ثلاثة. وكذلك إن صغر فقال دريهمات. ولو قال دراهم كثيرة فقيل يلزمه أربعة، وقيل تسعة، وقيل مائتان. ولو قال ما بين واحد إلى عشرة لزمته تسعة، وقيل عشرة. ولو قال عشرة في عشرة لزمته مائة، إلا إن فسرها بأنه تعينت له عنده عشرة في عشرة باعها منه. ولو قال له على زيت وعسل في زق أو في جرة لزمه المقر به والوعاء. ولو قال درهم درهم لزمه درهم واحد، وللطالب أن يحلفه أنه ما أراد درهمين. ولو قال درهم ودرهم؛ أو درهم مع درهم، أو فوق درهم، أو تحت درهم، أو قبل درهم، أو بعد درهم، لزمه درهمان. ولو قال درهم بل دينار زلمه الدينار وسقط الدرهم. ولو قال لفلان في هذه الدار نصيب، أو حق قبل تفسيره بما قل أو كثر إلا أن يدعي المقر له أكثر فيحلفه على نفي الزيادة. ولو قال يوم

السبت له عليَّ ألف، وقال كذلك يوم الأحد لم يلزمه إلا ألف واحد، إلا أن يضيف إلى شيئين مختلفين. ولو اختلف الإقرار فأقرّ له في موطن بمائة، وفي موطن آخر بمائتين لزمه ثلاثمائة. ولو قال له علي ألف من خمر أو خنزير لم يلزمه شيئ. ولو قال له علي ألف إن حلف فحلف المقر له فلا شيئ له؛ لأن المقر يقول ما ظننت أنه يحلف. وإن أقر بمائة دينار دينًا لزمته دَينًا، أو وديعة لزمته وديعة. فإن قال دَيْنًا أو وديعة كانت دَيْنًا اهـ ابن جزي. قال رحمه الله تعالى: "ويصح استثناء الأكثر والأقل والمساوي، ومن غير الجنس، وهو من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات" يعني كما في القوانين وغيره قال: مسألة في الاستثناء إذا استثنى ما لا يستغرق صح، كقوله له عليَّ عشرة إلا تسعة فيلزمه واحد، فإن استثنى من الاستثناء فقال عشرة إلا تسعة إلا ثمانية لزمته تسعة، لأن الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات. وكذلك ولو قال عشرة إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة إلا ستة إلا خمسة إلا أربعة إلا ثلاثة إلا اثنان إلا واحد لزمته خمسة. ومثله في الموزّاق. ثم قال: فإن استثنى من غير الجنيس كقوله ألف درهم إلا ثوبًا صح الاستثناء على المشهورز وذكر قمية الثوب فأخرجت من الألف ... وقيل استثناء باطل اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ولو أقر لزيد بألف مرتين فهي واحدة، أو بدينار مجهول لزم نقد البلد، فإن اختلف فالغالب، فإن لم يكن لزم مسماه" يعني لو أقر الرجل لزيد أن له عليه ألف درهم مثلاً وكان تلفظ بذلك مرتين، ولا يلزمه إلا ألف واحد يأخذه المقر له، والمعتبر في المقر به درهم البلد الذي وقع فيه الإقرار إن كان الناس يتعاملون به، أو الشرعي لأنه هو الأصل. قال خليل: ودرهم المتعارف، وإلا فالشرعي. وتقدم هذا البحث في البيوع في الكلام على المثمن والثمن عند قول المصنف: ويلزم بإطلاقه نقد البلد، فإن اختلف فالغالب فراجعه إن شئت.

قال رحمه الله تعالى: "ولا يقبل إقرار مريض لمن يتهم عليه" يعني إذا مرض شخص مرضًا مخوفًا فإنه حينئذ لا يقبل إقراره لمن يتهم عليه. قال ابن جزي فيمن لا يقبل إقراره: السادس المريض، فلا يقبل إقراره لم يتهم بمودته من قريب أو صديق ملاطف، سواء كان وارثصا أو غير وارث، إلاَّ أن يجزيه الورثة اهـ. قال العلامة الشيخ محمد عليش في الفتاوى: ما قولكم في رجل مريض مرضًا شديدًا له زوجة مشهورة بمحبته لها شهرة زائدة، وله ابن وبنتان من غيرها أقر لها بجارية ودراهم معلومة، ولاولد لها منه، ومات بعد إقراره بيوم فهل لا يصح إقراره لها؟ ثم قال: فأجبت بما نصه: الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله: نعم لا يصح إقراره لها بهما في هذه الحالة لاتهامه فيه بالكذب لمحبته لها. قال الخرشي: وأما إن كان يحبها ويميل إليها فإنه لا يقبل إقراره لها لأنه يُتَّهم في ذلك. والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم اهـ. قال ابن جزي فرع إذا أبرأ المريض أحد ورثته من شيئ فإ، كان إبراؤه من شيئ لو ادعى الوارث البراءة منه كلف البينة على ذلك لم تنفعه تبرئة المريض، وعليه يقيم البينة على صحة ذلك، وإلا غُرِمَ، وإن كان إبراؤه ممَّا لو ادَّعى البراءة منه صدق بغير بيَّنة نفعته التبرئة اهـ. قال رحمه الله تعالى: "ولو اعترف صحيحًا بإتلاف مال مجنونًا لزمه كاعترافه بالغًا بالإتلاف صغيرًا" يعني أن من اعترف بإتلاف أموال الناس وهو صحيح عاقل فاعترف بذلك أنه أتلف المال في حاله جنونه لزمه اعترافه. قال المصنف في العمدة: وإن أقر بالغًا عاقلاً أنه استهلك مالاً في جنونه أو صبوته لزمه. ومن أدعى عليه بأنه أقر بالغًا فقال بل أقررت غير بالغ فالقول قوله مع يمينه. قال القاضي أبو محمد: وأظن بعض أصحابنا جعل القول قول المدعي. ولو ادعى أنه أقر مجنونًا ولم يعلم له سبق جنونه فهل يقبل قوله؟ أو قول المقر له؟ روايتان. ولو قال لا أدري هل كنت بالغًا أم لا أو كنت عاقلاً

أم لا لم يلزمه شيئ. قال القاضي: وعلى القول المظنون يشبه أنه يلزمه اهـ نقله الحطاب عند قول خليل أو أقررت بكذا وأن صبي. ونقل الموّاق عن نوازل سحنون: من قال لرجل غصبتك ألف دينار وأنا صبي لزمه ذلك، وكذلك لو قال كنت أقررت لكل بألف دينار وأنا صبي، قال ابن رشد قوله غصبتك ألف دينار وأنا صبي لا خلاف في لزومه؛ لأن الصبي يلزمه ما أفسد وكسر، وقوله أقررت لك بألف وأنا صبي يتخرج على قولين أحدهما أنه لا يلزمه إذا كان كلامه نسقًا، وهو الأصحُّ وعليه قوله في المدونة طلقتُكِ وأنا صبي اهـ. قال رحمه الله تعالى: "ولو اعترف بمعين فأنكره المقر له حلف عليه" يعني لو اعترف بشيئ معين لزيد لزمه الاعتراف فلزيد مطالبته به فيحلف المقرّ أن نوكر، ويلزمه دفعه للمقر له، هذا إذا كان المعين منفردًا كالثوب أو الدابة مثلأن وأما لو كان متعددصا كالثوبين فأكثر فأقر له بأحدهما فالحكم في ذلك كما قال خليل في المختصر وشراحه عاطفًا على ما لزم القضاء به من قوله: ولك عندي أحد ثوبين عين، وإلا فإن عين المقر له أجودهما حلف، وإن قال لا أدري حلفا على نفي العلم واشتركا. يعني كما نقل عن ابن عرفة من قال في ثوبين بيده لفلان أحدهما، فإن عين له أجودهما أخذه وإن عين أدناهما وصدقه فكذلك دون يمين، وإن أكذبه أحلفه: وعن ابن القاسم: من قال لرجل في ثوبين في ديه أحدهما لك ولا أدري أيهما هو، فإنه يقال للمقر: احلف أنك لا تردي أن أجودهما للمقر له، فإن حلف وقال المقر له: أنا أعرفه فيؤمر بتعيينه، فإن عين أدناهما أخذه بغير يمين، وإن عين أجودهما أخذه بعد أن يحلف. وإن قال: لا أدري حلف على نفي العلم واشتركا، فيقال للمقر أولاً: احلف أنك لا تدري أن أجودهما للمقر له فإن حلف قيل للمقر له احلف أنك لا تعلم أيهما لك، فإن حلفا كانا شريكين في الثوبين جميعًا اهـ الموّاق. ومثله في الخرشي بتوضيح.

فصل في الهبة

ثم قال رحمه الله تعالى: "ومن أقر بوارث لزمه ما نقصه الإقرار ولم يثبت نسبه وميراثه، فإن كغانا اثنين من أهل الشهادة شهدا وثبت نسبُهُ وميراثُهُ" يعني كما قال مالك في الموطأ: الأمر المجتمع عليه عندنا في الرجل يهلك وله بنون، فيقول أحدهم قد أقرّ أبي أنّ فلانًا ابنه إنّ ذلك النسب لا يثبُتُ بشهادة إنسان واحد، ولا يجوز إقرار الذي أقر إلا على نفسه في حصته من ماله أبيه، يُعطَى الذي شَهِد له قدر ما يصيبه من مال الذي بيده. قال مالك: وتفسير ذلك أن يهلك الرجل ويترك ابنين له ويترك ستمائة دينار فيأخذ كل واحد منهما ثلاثمائة دينار، ثم يشهد أحدهما أن أباه الهالك أقر أن فلاناً ابنه، فيكون على الذي شهد للذي استحلق مائة دينار وذلك نصف ميراث المستلحق لو لَحِقَ، ولو أقر له الآخر أخذ المائة الأخرى فاستكمل حقه وثبت نَسَبَهُ اهـ. قال الدردير في الاستحقاق: وإن أقر عدلان بثالث ثبت النسبُ وإلا ورث من حصة المقر ما نقصه الغقرار، فلو ترك شخص أُمًا وأخًا فأقرت بأخ فله منها السدس اهـ. أي لأن الأم تحجب تعدد الإخوة والأخوات من الثُّلُث إلى السُّدس اهـ. أي لأن الأم تحجب بتعدد الإخوة والأخوات من الثُّلُ إلى السُّدْس، فلو تعدد الأخ الثابت النسب فلا شيئ للمقر به، إذ لا تنقص الأم عن السُّدس اهـ. كما سيأتي جميع ذلك في الميراث: إن شاء الله تعالى ولمَّا أنهى الكلام على ما يتعلق بالإقرار وأحكامه انتقل يتكلم على ما يتعلق بأحكام الهبة كما وعدنا في أوّل الكتاب فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في الهبة أي في بيان ما يتعلق بمسائل الهبة المختصة بها وتتميز به ن غيرها، وهي لغة وعرفًا تمليك من له التبرع ذاتًا تُنقَلُ شرعًا بلا عوض لأهل، أي للهبة، وأركانها أربعة: واهب، ومن شرطه أن يكون أهلاً للتبرع، وموهوب، وشرطه أن يكون مملوكًا للواهب، وموهوب له، وشرطه أن يكون أهلاً لأن يملك ما وهب له، وصيغة كوهبتك

أو ما يدل على التميلك، وإن معاطاة. فمتى وُجِدَتْ هذه الأركان وشروطها صحت الهبة. قال رحمه الله تعالى: "الهبة قسمان معروف" ومعاوضة وسيأتي حُكْمُه. وأما حُكْمُ هبة المعروف فالندب. قال النفراوي: لم يذكر المصنف حُكْم نحو الهِبَة والصدقة، والحكم الندب؛ لأنها من أنواع المعروف واإحسان، والكتاب والسنة والإجماع دلت على ندبها، قال تعالى: "إِنَّ اللَّه يأَمُرُ بِالْعَدلِ والإِحسنِ" [النحل: 90]: "وءاتي المال على حبه" [البقرة: 177]: "وإن تُبدُواْ الصَّدَقَتِ" [البقرة:271]. وقوله صلى الله عليه وسمل: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل" وقوله عليه الصلاة والسلام أيضًا: "إن الصدقة لتطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء" وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة. وحكى ابن رشد وغيره الإجماع على ندبها، وتأكد ندبها على الاقارب والجيران، وكونها من أنفس المال كماتقدم لنا في الإرفاق اهـ. قل رحمه اللَّه تعالى: "فتصح بالقول، وتتم بالقبض، ويجبر على الدفع" يعني أن صحة الهبة لا تكون إلا بالقبض، ويجبر الواهب على دفعها إن امتنع عن دفعها قال ابن جزي: وعلى المذهب تنعقد الهبة وتلزم بالقول، ويُجْبَر الواهب على إقباضها، فإن مات الواهب قبل الحوز بطلت الهبة إلا إن كان الطالب جادًا في الطلب غير تارك أهـ. وفي الرسالة: ولا تتم هبة ولا صدقة ولا حبس إلا بالحيازة، فإن مات قبل أن يُحاز عنه فهي ميراث. وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله: "فإن تراخى الموهوب له حتى مات أو أفلس بطلت" يعني فإ، تراخى الموهوب له ولم يقبل حتى حصل المانع من مرض أو موتٍ أو فلس أو جنون بطلت الهبة، ولذا ينبغي للموهوب أن يعجل الحضوْز، ويلزم على الواهب أن يقبض الهبة ويجبر عليه بامتناعه إياها حتى يحصل الحوزز والقبض منه قبل المذكور. قال النفراوي: تلزم بمجرد القول أو الفعل الدال عليها ويقضي على الفاعل

بدفعها على المذهب وللمعطى له أن يحوزها ولا يتوقف على إذن المعطي بالكسر اهـ قال رحمه الله تعالى: "ولا رجوع فيهاإلا للأبوين، ما لم يتغير أو يتعلق بها حق فلا ترجع الأم على اليتيم" يعني أنه لا يجوز للواهب أن يرجع في هبته إلا بالإرث لما في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه" حيث شبه الراجع فيها بالكلب والمرجوع فيه بالقيئ، وذلك غاية التنفير المقتضى للمنع. قاله النفراوي اهـ. قال عمر بن الخطاب: "من وهب هبة لصلة رحم أو على وجه صدقة فإنه لا يرجع فيها" رواه مالك في الموطأ بإسناده عن عمر رضي الله عنه. قوله إلا الأبوين لما في المدونة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لأحد أن يهب هبة ثم يعود فيها إلا الوالد" اهـ. قال في الرسالة: ومن تصدق على ولده فلا رجوع له، وله أن يعتصر ما وهب لولده الصغير أو الكبير ما لم ينكح لذلك أو يداين أو يحدث في الهبة حدثًا، والأم تعتصر ما دام الأب حيًا فإذا مات لم تعتصر. ولا يعتصر من يتيم، واليتم من قبل الأب اهـ. قال ابن جزي: واختلف في اعتصار الأم فقيل تعتصر لولدها الصغير والكبير مادام الأبُ حيًا، فإن مات لم تعتصر للصغار لأن الهبة للأيتام كالصدقة فلا تعتصر قلت هذا هو المشهور اهـ. قال رحمه الله تعالى: "وللأب حيازة ما وهب لولده الصغير إلا ما لا يتميز فيجعله على يد أمين" يعني كما في القوانين لابن جزي أنه قال: ويحوز للمحجور وصيه، ويحوز الوالد لولده الحر الصغير ما وهبه له هو ما عدا الدنانير والدراهم، وما وهبه له غيره مطلقًا، فإن وهب لابنه داراً فعليه أن يخرج منها، وإن عاد لسكناها بعد عام لم تبطل الهبة، وإن وهب له ما يستغل ثم استغله لنفسه بطلت الهبة، وعقد الكراء حوز، وإن وهب له دنانير أو دراهم لم يكلف الإقرار بالحوز حتى يخرجها عن يده ويقبضها بمعاينة البينة، وإن وهب له عروضًا أو حيوانًا جاز إذا أبرزه من سائر ماله، فإن كبر

وملك أمر نفسه فلم يقبض حتى مات الأب بطلت، وكذلك إذا لم يقبض الكبير اهـ. وعبارة الدردير في أقرب المسالك عاطفًا على ما يصح: وحوز واهب لمحجوره إن أشهد إلا ما لا يعرف بعينه، أو دار سكناه إلا أن يسكن أقلها ويكري له الأكثر، وإن سكن النصف بطل فقط، والأكثر بطل الجميع اهـ يعني إن سكن والواهب أقل الدار أو أقل الوقت، وأكرى له الأكثر لم تبطل الهبة، وإن سكن النصف بطل نصفها فقط. وإن سكن الأكثر بطل الجميع. قال أبو محمد في الرسالة: وما وهبه لابنه الصغير فحيازته له جائزة إذا لم يكن ذلك أو يلبسه إن كان ثوبًا وإنما يحوز له ما يعرف بعينه، وأما الكبير فلا تجوز حيازته له. قال شارحها قوله ما يعرف بعينه كدار أو دابة، فلو وهب له ما لا يعرف بعينه كدراهم أو دنانير وحازها حتى حصل له مانع من موت أو جنون أو فلس بطلت، ولو طبع عليها بحضرة شهودها بخلاف ما لو طبع عليها أو وضعها عند غيره إلى موته أو فلسه فلا تبطل. قال خليل: ولا إن بقيت عنده إلا لمحجوره إلا ما لا يعرف بعينه ولو ختم عليه، وسواء كان المحجدور صغيرصا أو سفيهًا، وسواء كان الولي أبًا أو وصيًا أو مقدمًا من قبل القاضي اهـ قال النفراوي. قال رحمه الله تعالى: "وتصح بالمشاعل والمجهول والغرر" يعني أن الهبة تصح بالشيئ المشاع وهو غير مميز عن جنسه ولم يكن على حدة كالنصف أو الثلث أو الربع أو غير ذلك من الأجزاء، وكذا تصحُّ بالمجهول وهو غير معلوم الجنس والقدر، قال خليل: وصحت في كل مملوك ينقل ممكن له تبرع بها وإن مجهولاً أو كلبًا ودينًا وهو إبراء إن وهب لمن عليه، وإلا فكالرهن، وكذلك تصح الهبة بالغرر. قال ابن جزي في القوانين: وأما الموهوب فكل مملوك. تجوز هبة ما لا يصح بيعه كالعبد الآبق، والبعير الشارد، والمجهول والثمرة قبل بدو صلاحها والمغصوب خلافًا للشافعي. وتجوز هبة المشاع خلافًا لأبي حنيفة. وتجوز هبة المرهون بقيد الملك، ويُجْبَر الواهب على افتكاكه له ومنعه الشافعي. وتجوز هبة الدين خلافًا للشافعي اهـ.

ثم ذكر رحمه الله تعالى القسم الثاني من قسمي الهبة وهو هبة الثواب فقال: "والثاني معاوضة وهي كالبيع" يعني الثاني من قسمي الهبة هبة المعاوضة وتسمى هبة الثواب، وحُكْمُها الجواز كالبيع. قال النفرايو: يدل على جوازها الكتاب والسنّة فالكتاب قوله تعالى: "وما ءاتيتم من ربا ليربوا في أموال الناسفلا يربوا عند الله" [تالروم: 39] فإن ابن عباس قال: الربا أن يعطي الرجل عطية ليُعْطَى أكثر منها، وقوله تعالى: "وَلاض تَمنُن تَستَكثرُ" [المدثر: 6] قال المفسرون: وذلك أن يهدي ليهدى له اكثر منها فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما في الخصائص، وأباحه الله تعالى لسائر الناس. ومن السنّة ما رُوِيَ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثبت عليها كما في [71] [72] الصحيحين اهـ باختصار. قوله وهي كالبيع يعني أن هبة الثواب شبيهة بالبيع، ولذا لو مات الواهب للثواب قبل حيازة الهبة لم تبطل ويجب تنفيذها، ولا تبطل بموت أو مرض أو فلس واهبها قبل حوزها، فليست كغيرها من أنواع العطايا التي تبطل بعدم حيازتها قبل موت الواهب اهـ قاله النفراوي في الفواكهز قال رحمه الله تعالى: "إلا في العوض فيخير الموهوب له بين إثابة قيمتها أو ردها، فإن أثاب دونها فله الرجوع" يعني أن هبة الثواب خالفت البيع في العوض لجوازها بالمجهول والغرر وما لا يجوز في البيع كما تقدم، وأما من جهة الخيار قبل الفوات وبعده فكالبيع كما قال المصنف وغيره. قال في الرسالة: والموهوب للعوص إما أثاب القيمة أو رد الهبة، فإن فاتت فعليه قيمتها، وذلك إذا كان يُرى أنه أراد الثواب من الموهوب له. قوله فيخير الموهوب له إلخ، فهم منه أنه لا يلزم الموهوب له دفع أكثر من القيمة لو كانت العادة جرت على ذلك، وهو كذلك كما لا يلزم الواهب قبول أقل من القيمة، وقد وقع الخلاف فيما إذا تطوع الموهوب له بدفع أكثر ما يلزمه وأبى الواهب من أخذ أزيد من قيمة هبته فأفتى القابسي بجبر الواهب على أخذ الزائد على قيمة

هبته، حتى لو حلف كل بالطلاق على نقيض ما أراد صاحبه لقُضِيَ بتحنيث الواهب، لأن هبات الناس على ذلك. هذا ملخص كلام القابسين لكن يقيد كلامه بما لا يدخله ربا الفضل وغلا امتنع، وأفتى غره بأنه لا يُجْبَر الواهب على قبول الزائد لأن الإنسان لا يلزمه أخذ ما يتوقع المَن به اهـ النفراوي. قال رحمه الله تعالى: "فلو اختلفا في كونها للثواب اعتبر شهادة الحال. والله أعلم" يعني كما قال ابن جزي: وإن اختلف الواهب والموهوب له في مقتضى الهبة نظزر إلى شواهد الحال، فإن كانت بين غني وفقير فالقول قول الفقير مع يمينه، فإن لم يكن شاهد حال فالقول قول الواهب مع يمينه، وإذا أهدى فقير إلى غني طعامًا عند قدومه من سفر أو شبهة فلا ثواب له عليه. قال خليل: وصدق واهب فيه إن لمخ يشهد عُرف بضده، والحكم المذكور عام ولو كانت الهبة لأجل عرس أو عند قدوم من حج. ولو أهب الثوب طلب الثواب ولو معجلأن ولا يلزمه الصبر إلى أن يحدث له فرح إلا لعادة وللموهوب له أن يحاسب الواهب بما أكله هو ومن معه عند إحضار الهبة المسماة عند العامة بالحمولة. والتصديق في إرادة الثواب بيمين مطلقًا. وقيل اليمين عند إشكال الأمر، وذلك إذا لم يشهد العرف له ولا عليه، بناء على أن العرف بمنزلة شاهد فقط، أو بمنزلة شاهدين. واعلم أنه إذا جرى العرف بالثواب يعمل بها ولو كان الموهوب مسكوكًا، أو كان الواهب أحد الزوجين لصاحبه، فما في خليل حيث لا عادة، وإلاَّ عمل بها لأنها عند مالك [72] [73] كالشرط اهـ النفراوي. قال العلامة الشيخ محمد عليش في الفتاوى: ما قولكم في رجل صنع عرصًا فوهب له رجل أردب قمح هبة ثواب، ثم بعد سنين طلب الواهب الثواب فهل يقضى على الموهوب له بدفع الثواب للواهب، وإذ قلتم نعم وقلتم ثوابه في هذه النازلة العرض أو الدنانير وكان الأردب في زمن دفعه للموهوب له يساوي أربعين قرشًا مثلأن وفي زمن طلب الثواب يساوي ستين قرشًا مثلاً، وفي زمن طلب الثوبا يساوي ستين قرشًا مثلاً فماذا يكون العمل؟ أفيدوا الجواب. ثم

فصل في الصدقة

قال: فأجبت بما نصه الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله: نعم يقضي على الموهوب له بدفع الثواب للواهب إن شرط أو اعتيد، وتعتبر اقيمة يوم الدفع لا يوم الطلب كما في الخرشي وغيره، فيلزم الموهوب له في المثال أربعون قرشًا، أو عرض يساويها واعتيدت إثابته لأنها قيمة الأردب يوم دفعه. قال ابن العطار: ما يهدى من الكباش وغيرها عند العرس فإنه يقضي للطالب لامكافأة عليه للعرف، وإن الضمائر منعقدة على أنه يهديه مثلها إذا كان له عرس، ونزلت عند فقضي له بذلك وحاسبه بما أكل عنده في ذلك الصنيع من قيمة ذلك. نقله ابن سلمون. واستفيد من قوله إذا كان له عرس أنه يلزم الواهب الصبر حتى يحدث له عرس، ونحوه في البرزلي. وظاهر كلام التتائي أنه لا يلزمه الصبر إليه إن جرى به العرف، وتبعه الأجهوري والخرشي، ونصه: وأما الموهوب له فلا يلزمه أن يدفع الثواب إلا أن تفوت بيده بزيادة أو نقص فتلزمه القيمة يوم قبض الهبة، وللواهب الرجوزع بقيمة شيئه معجلاً ولا يلزم أن يصبر إلى أن يتجدد له عرس اهـ عليش انظره. ولما أنهى الكلام على ما يتعلق بالهبة أتبعها بالكلام على ما يتعلق بأحكام الصدقة التي يقصد بهامحض ثواب الآخرة فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في الصدقة أي في بيان ما يتعلق بالصدقة، وهي التمليك لقصد ثواب الآخرة، ولا تكون إلا لله تعالى كما علمت من تعريف الهبة؛ لأن التعريف جامع لهما، وإ، ما التغاير بقصد ثواب الآخر وقصد وجه المعطى بالفتح. وفاعل الصدقة يسمى متصدقًا، والمفعول متصدق به ومتصدق عليه. قال ابن جزي: والهبة لوجه الله تعالى تسمى صدقة فلا رجوع فيها أصلاً ولا اعتصار، ولا ينبغي للواهب أن يرتجعهاب شراء ولا غيره، وإن كانت شجرًا فلا

يأكل من ثمرها، وإن كانت دابة فلا يركبها غلا أن ترجع إليه بالميراث اهـ. قال رحمه الله تعالى: "الصدقة العطية لله، وصحتها كالهبة، ولا رجوع فيها لوالد ولا غيره، ولا ينتفع المتصدق بها ولا يشتريها بخلاف رجوعها ميراثًا" يعني أنه قد أخبر أن الصدقة هي العطية وصحتها كالهبة. وتقدم الكلام على الهبة وأركانها وشروطها، وذكر هنا أنه لا يجوز لأحد الرجوع في صدقته، لما صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه كا ينهي عن ذلك كما نهى عمر بن الخطاب وزيد بن حارثة عن شراء الفرس الذي حمل عليه في سبيل الله، وقال صلى الله عليه وسلم "لا تشتره وإن أعطاكم بدرهم، إن الذي يعود في صدقته كالكلب يعود في قيئه" ولذا قال مالك رحمه الله: لا يشتري الرجل صدقته لا من الذي تصدق بها عليه ولا من غيره" قاله في المدونة. قال أبو محمد في الرسالة: ولا يرجع الرجل في صدقته ولا ترجع إليه إلا بالميراث اهـ. قال خليل: وكُرِهَ تملك صدقة بغير ميراث، وحمل النهي على الكراهة وهو مشهور المذهب، وحمله الداودي على التحريم، واستظهره ابن عرفة وأبو الحسن من أصحابنا. قاله النفراوي. قال رحمه اللَّه تعالى: "وللصحيح التصدق بجميع ماله، وأن يخص بعض أولاده، والأولى المساواة" يعني أن الشخص إذا كان صحيحًا له أن يتصدق بجميع ماله على الفقراء، أو على المعين وذلك للَّه تعالى أي وابتغاء لثواب الآخرة لأن الصدقة مستحبة، ولأن الله تعالى أثنى على فاعل ذلك بقوله: "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" [الحشر: 9] ولأن الصديق، رضي الله عنه، تصدق بجميع ماله ولم ينكر عليه الرسول عليه الصلاة والسلام، وفعله جماعة من الصحابة، رضي الله عنهم، أجمعين. قال في الرسالة: ولا بأس أن يتصدق على الفقراء بماله كله لله اهـ. وأما قوله وأن يخص إلخ فالمعنى ويجوز للشخص الصحيح العاقل الرشيد أن يخص بعض أولاده بهبته أو صدقته، فإن وقع ذلك لبعضهم بأن تصدق بماله كله له جاز مع الكراهة بشرط الحيازة قبل حصول المانع من

الواهب. وأما إذا تصدق له بشيئ من ماله فذلك جائز بغير كراهة. قال في الرسالة: ويكره أن يهب لبعض ولده ماله كله، وأما الشيئ منه فذلك سائغ اهـ. قال ابن جزي في القوانين: ويجوز أن يهب الإنسان ماله كله لأجنبي أتفاقًا. وأما هبة جميع ماله لبعض ولده دون بعض، أو تفضيل بعضهم على بعض في الهبة فمكروه عند الجمهور، وإن وقع جاز. وروي عن مالك المنع وفاقًا للظاهرية، والعدل هو التسوية بينهم. وقال ابن حنبل: للذكر مثل حظ الأُنثيين اهـ. والدليل على ما ذكر ما ورد "أن النعمان بن بشير نحله أبوه شيئُا من ماله، وأراد أبوه أن يشهد النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكل ولدك نحلته مثل هذا؟." قال لأن قال: "فارجع" فرجع فرَدَه عطيته. ووجه الدلالة للمشهور من الكراهة أ، النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالرجوع وامتنع من الشهادة فدل ذلك على عدم كمالها، ولو كانت باطلة لقال عليه الصلاة والسلام إنهاباطلة، وعلة الكراهة أن عطية الأب كل ماله أو جله لبعض الأولاد يؤدي إلى عقوق الباقين وحرمانهم، ويؤدي إلى تباغضهم، والمطلوب الحرص على المواصلة والموداة والعدل بينهم، ولذا جاء في بعض الروايات "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" اهـ. نقله النفراوي. قال رحمه الله تعالى: "ولا يهب ولا يتصدق إلا رشيد، وإلا فلأن ولا يهب أو يتصدق إلا أهل التبرع، وهمافي الصحة من رأس المال، وفي المرض من الثلث" يعني أنه تقدم أن الهبة والصدقة لا يصح واحد منهما إلا لمن له التبرع. قال الدردير وخرج بذلك الصبي، والمجنون، والرقيق، والسفيه، ومن أحاط الدين بماله، والسكران، وكذا المريض والزوجة فيما زاد على ثلثهما إلا أن هبتهما فيما زاد على الثلث صحيحة موقوفة على الوارث والزوج، وكذا من أحاط الدين بماله فإنها موقوفة على رب الدين، بخلاف المجنون والسفيهوالصغير فباطلة كالمرتد لأنه لا ملك له في حال الردة، ولا تصح هبته، ولا صدقته، ولا شيئ من أعماله حتى

فصل في العمرى

يرجع إلى الإسلام اهـ بتوضيح. وأما من توافرت فيه صفة التربع وهو الصحيح العاقل البالغ الرشيد المالك أمر نفسه في التصرفات فهذا الذي إذا تصدق أو وهب في الحالات المذكورة فإن ذلك يكون من رأس ماله، وأما في حال المرض فثيكون ذلك في ثلث ماله كالوصية كما سيأتي. قال العلامة الشيخ محمد عليش في فتاويه: ما قولكم في هبة المريض وصدقته وسائر تبرعاته هل تحتاج لحيازة قبل موته كتبرعات الصحيح، أم لا؟ قال: فأجبت بما نصه، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله: لا تحتاج لحوز عنه قبل موته لأنها كالوصية في الخروج من الثلث. قال البناني: وأما المريض فتبرعاته نافذة من الثلث مطلقًا أشهد أم ل، فلا يتوقف مضي تبرعه على حوز ولا الإشهاد الذي قوم مقامه. قال في المدونة: وكل صدقة أو هبة أو حبس أو عطية بتله المريض لرجل بعينه، أو للمساكين، فلم تخرج من يده حتى مات فذلك نافذ من ثلثه كوصاياه انتهى. ولأن الحوز في مرض المتبرع غير معتبر، فهو كعدمه فلا معنى لاشتراطه، وأيضًا ذكروافي حجر المرض المتبرع غير معتبر، فهو كعدمه فلا معنى لاشتراطه، وأيضًا ذكروا في حجر المرض أن تبرعات المريض توقف إن لم يؤمن ماله، فإن مات نفذت من ثلث ماله يوم التنفيذ، فهذا صريح في عدم اشتراطه فيها، والله سبحانه وتعالى أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم اهـ عليش. ولما أنهى الكلام على ما يتعلق بالهبة والصدقة انتقل يتكلم على ما يتعلق بالعمرى فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في العمرى أي في بيان ما يتعلق بأحكام العمرى، وهي تمليك منفعة مملوك حياة المعطى بالفتح بغير عوض، فإذا قال المالك المتبرع أعمرتك داري هذه ثبت له ملك منفعة تلك الدار، إذامات المُعْمَر رجعت ملكاً للمُعمِرِ أو وارثه يوم موت المعمَر بالفتح. وحُكْمها الندب

لأنها من المعروف الذي يثاب بفعله. وأحكامها في الحوز كالهبة. وفي الموطأ عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل أعمر عمر ى له ولعقبه فإنها للذي يعطاها ولا ترجع إلى الذي أعطاها أبدًا؛ لأنه أعطى عطاء وقعت فيه الموارث". وفي رواية لغير الموطأ: وإنما العُمرَى التي أجاز النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول هي لك ولعقبك فأما إذا قيل: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها. قال معمر: وكان الزهري يفتي به اهـ جمع الفوائد. ولذا قال مالك: إن العُمْرِى ترجع إلى الذي أعمرها إذا لم يقل هل لك ولعقبك، أما إذا قال هي لك ولعقبك فتكون بعد الموت لوارثه وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله: "العمرى هبة السكنى مدة عمر الموهوب فإذا انقضت عادت لمالكها أو وارثه، إلا أن يعمره وعقبه فتمتد إلى انقراضهم" يعني كما قال في الرسالة: ومن أعمر رجلاً حياته داراً رجعت بعد موت الساكن ملكًا لربها، وكذلك إن أعمر عقبه فانقرضوا، بخلاف الحُبُس، فإن مات المعمر يومئذ كانت لو ثته يوم موته ملكًا اهـ. قال خليل: ورجعت للمعمر أو وارثه. واعلم أن رجوع العمرى إلى المعمر أو وارثه هو المذهب الذي جرى به عمل أهل المدينة، وبه الفتوى. قال ابن القاسم في المدونة: من قال لرجل قد أعمرتك هذه الدار حياتك، أو قال هذا العبد أو هذه الدابة جاز ذلك عند مالك وترجع بعد موته إلى الذي أعمرها أو إلى ورثته اهـ. قال رحمه الله تعالى: "والإخدام كالعمرى، وهل النفقة عليه أو على السيد روايتان:" يعني أن حكم الإخدام كحكم العمرى وهو الندب؛ لأنها فعل الخير كما تقدم ونقل الميارة عن وثائق المجموعة قال: فإن مات المخدم والخدمة لأمد معلوم ورث ورثة

فصل في الرقبى

الذي له الخدمة بقية الأمد عنه، ف إن كانت الخدمة حياة المخدم لم يرث ورثته ذلك عنه، ورجع العبد إلى ربه أو إلى ورثته بعده على قدر مواريثهم فيه اهـ. قوله: وهل النفقة إلخ فالمعنى إذا تبرع المالك بخدمة عبده أو دابته لرجل فهل النفقة على السيد أو على من يخدم عليه؟ في ذلك روايتان. قال ابن رحال في شرحه على تحفة الحكام: وأما نفقته فالظاهر أن الراجح فيها على المخدم بالفتح، وقال بعد ذلك: واقتصر ابن يونس على أن نفقة المخدم على صاحب الخدمة اهـ. ولما أنهى الكلام على ما يتعلق بالعمر انتقل يتكلم على ما يتعلق بالرقبى فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في الرقبى أي في بيان حكم الرقبى، وهي ترقب موت أحد صاحبيها، فهي غير جائزة. قال خليل: لا الرقبى أي لا تجوز. وبيان حقيقتها كما قال: كذوي دارين قال: إن مت قبل فهما لي وإلا فلك. قال الشارح: أي صاحبي دارين قال كل واحد منهما لصاحبه: إن مت قبلك فداري حبس عليك، فهذا لا يجوز؛ لأنه خطر، ولأنهما خرجا عن وجه المعروف إلى المخاطرة، وإذا وقع ونزل واطلع على ذلك قبل الموت فسخ، وإن لم يطلع عليه إلا بعد موته رجعت له أو لوارثه ملكًا، ولا ترجع مراجع الأحباس لأنه عقد باطل اهـ الخرشي. قال رحمه الله تعالى: "والرقبى أن يترقب كل موت صاحبه ليأخذه داره وهي باطلة والله أعلم" قال الموّاق من المدوَّنة: لم يعرف مالك الرقبى ففسرت له فلم يجزها. قال ابن جزي في القوانين: وأما الرقبى فهو أن يقول الرجل للآخر: إن مت قبلك فداري لك وإن مت قبلي فدارك لي، وهي غير جائزة خلافًا للشافعي اهـ. قال الصاوي في حاشيته على الدردير: وأما الرقبى فلا تجوز حبسًا ولا ملكًا، كذوي دارين أو عبدين

أو دار وعبد، وقال كل لصاحبه: إن مت قبلي فهما لي وإن مت قبلك فهما لك، فالمراد إن مت قبلي فدارك لي مضمومة لداري، وإن مت قبلك فداري مضمومة لدارك. وإنما منع لما فيه من الخروج عن وجه المعروف والمخاطرة، فإن وقع ذلك واطلع عليه قبل الموت فسخ، وإن لم يطلع عليه إلا بعد الموت رجعت لوارثهما، ولا ترجع مراجع الأحباس لفساد العقد، كذا في الأصل اهـ. ولما أنهى الكلام على ما يتعلق بالرقبى انتقل يتكلم على ما يتعلق بأحكام الوقف، ويسمى حُبُسًا، وهو لغة وعُؤْفًا جعل منفعة مملوك ولو بأجْرة أو غلَّبة لمستحق بصيغة دالة عليه، فقال رحمه الله تعالى:

كتاب الوقف

كتاب الوقف أي في بيان ما يتعلق بمسائل الوقف المعبر عنه بالحُبُس كما في بعض النُّسَخ. وحُكْمُه الندب؛ لأنه من البرَّ وفعل الخير. قال الدردير: فأركانه أربعة: واقف وهو المالك للذات أو لمنفعة إن كان أهلاً للتبرع. وموقوفٌ وهو ما مُلِكَ، أي من ذات أو منفعة ولو حيوانًا أو طعامًا أو عينًا للسَّلَف. وموقوف عليه وهو الأهل أي المستحق لصرف المنافع عليه، كالمجاهدين في سبيل الله والمرابطين والعلماء والفقراء وغيرهم ممن يصرف عليهم غلة الوقف، وكالقناطر والمساجد ومن سيولد ولو ذميًا، أو لم تظهر قُربة كغنى ذمي. وصيغة بوقفت أو حبست أو سبلت، كتصدقت إن اقترن بقيد أو جهة، نحو تصدقت لكن لا يُباع ولا يوهَبُ، أو تصدقت به على بني فلان طائفة بعد طائفة. وناب عن الصيغة التخلية بين الذت الموقوفة وبين الناس، كالمسجد يبنيه ويفتحه للناس وما أشبه ذلك من كل ما ينتفع به عموم الناس اهـ. بتوضيح وعبارة ابن جزي في القوانين أنه قال: أركانه أربعة: المحبس، والمحبس, والمحبس عليه، والصيغة. فأما المحبس فكالواهب، وأما المحبس فيجوز تحبيس العقار كالأرضين والديار والحوانيت والجنات والمساجد والآبار والقناطر والمقابر والطرق وغير ذلك، ولا يجوز تحبيس الطعام؛ لأن منفعته في استهلاكه، وفي تحبيس العروض والرقيق والدواب روايتان، على أن تحبيس الخيل للجهاد أمر معروف. وأما المحبس عليه فيصح أن يكون إنسانًا أو غيره كالمساجد والمدارس، ويصح على الموجو د والمعدوم والمعين والمجهول والمسلم والذمي والقريب والبعيد اهـ. قلت: انظر قوله: ولا يجوز تحبيس الطعام مع ما تقدم من كلام الدردير من قوله: ولو حيوانًا أوطعامًا أو عينًا للسَّلف. وقال في بيان الجواز لذلك: وينزل ردّ بدله منزلة بقاء عينه. وجواز وقف الطعام والعين نص المدونة فلا تردد فيه اهـ. ومثله في النفراوي.

قال رحمه الله تعالى: "يصح في المشاع والمقسوم من الرباع غير موقوف على حكم حاكم، وفي غيرها خلاف. وقيل: الخلاف في غير الخيل" يعني أخبر أنه يصحُّ وقف المشاع والمقسوم من العقار كالرباع وغيرها كما هو معلوم، وأنه لا يتوقف صحته على حُكْمِ حاكمن بل يصحُّ ولو بغير عِلْمِ الحاكم إذا توافرت شروطه، والخلاف هل يصح وقف غير ما تقدم كالحيوان والطعام فالجواب جواز ذلك على المتمد، وأما الخيل فلا خلاف في جواز وقفها للغزو، كما لا خلاف في لزومه وقفيته لما قاله أئمتنا من أن حكمَ الوقف اللزوم في الحال إذا نجزه أو أطلق؛ لأنه يحمل عند الإطلاق على التنجيز. قال رحمه الله تعالى: "وشرطه إخراجه عن يده، فإن أمسكه إلى مرض موته بطل غلا أن يخرجه مدة يشتهر فيها ثم يتصرف فيه لأربابه أو يقف على صغار أولاده ويتصرف لهم" يعني كما في الرسالة. قال فيها: ومن حبس داراً فهي على ما جعلها عليه إن حيزت قبل موته، ولو كانت حُبُسًا على ولده الصغير جازت حيازته له إلى أن يبلغ، وليُكْرِهَا له ولا يسكنها، فإن لم يدع سكناها حتى مات بَطَلَتْ اهـ. قال الدردير: وبطل بمانع قبل حَوْزِه أو بعد عَوْدِهِ له قبل عام وله غلّة كدار، بخلاف نحو كتب وسلاح إذا صرفه في مصرفه إلا لمحجوره إن أشهد على الوقف وصرف له الغلة ولم يكن الموقوف دار سكناه، إلا أن يسكن الأقل ويكرى له الأكثر، وإن سكن النصف بَطَلَ فقط اهـ. قال ابن جزي: ولابد من معاينة البينة للحوز إذا كان المحبس عليه في غير ولاية المحبسَّ، أو كان في ولايته والمحبس في دار سكناه، أو قد جعل فيها متاعه فلا يصح إلاَّ بالإخلاء والمعاينة، وإذا عقد المحبس عليه أو الموهوب له في المِلْك المحبس أو الموهوب كِراء ونزل فيهما لعمارة فذلك حَوْزٌ اهـ. قال رحمه الله تعالى: "وهو في المرض من الثلث، إلا على وارث فإنه يعود

ميراثًا" يعني كما في الدردير: قال: وبَطَلَ الوقف على وارث بمرض موته، لأن الوقف في المرض كالوصية ولا وصية لوارث، وإلا بأ، كان الوقف على غير الوارث فإنه يخرج من الثلث إن حمله الثلث، وإلا فلا يصح منه إلا ما حمله الثلث اهـ بتصرف. قال رحمه الله تعالى: "ولا يصح على نفسه، فإن وقف على وارثه وأجنبي قسم على شرطه وعاد سم الوارث ميراثًا" قال الموَّاق نقلاً عن ابن شاس: لا يجوز للرجل أن يحبس ويكون هو ولي الحُبُس وقال في كتاب محمد فيمَن حبس غلّة داره في صحته على المساكين فكان يلي عليها حتى مات وهي بيدة: إنها ميراث، وكذلك إن شرط في حبسه أنه يلي ذلك لم يجُزْ اهـ. قال الدردير في أقرب المسالك عاطفًا على مبطلات الوقف: أو على نفسه ولو بشريك، أي يبطل إن وقف على نفسه ولو مع شريك غير وارث. وأما لو وقف على وارث وأجنبي فإنه قُسِم، وصحَّ سهم الأجنبي وعاد سهم الوارث ميراثًا، وذلك إن حاز الأجنبي ما يخصه قبل موت الواقف أو مرضه، وإلا فالجميع ميراث، قفإن أوقفه على نفسه ثم على أ, لاده وعقبه رجع حُبُسًا بعد موته على عقبه إن حازوا قبل المانع وغلا بَطَل، هذا إن أوقف في صحته، فإن أوقف في مرضه صح إن حمله الثلث اهـ بتصرف. قال رحمه الله تعالى: "ولفظه يقتيضي التأبيد وإن لم يؤكده ولم يذكر جهة، أو وقف على المساكين أو العلماء" يعني أن لفظ الواقف بقوله: وقفت يقتضي تأبيد الموقوف وإن لم يؤكده بشيئ من مؤكدات الوقفية، لكن المعلوم شرعًا أن الوقف لا يشترط فيه التأبيد، بل يجوز لشخص أن يوقف وقفًا مدة معينة سنة فأكثر لأجل معلوم، ثم بعد انقضائه يرجع ملكًا للواقف الأصلي أو لغيره، وكذلك أنه لا يشترط على الواقف تعيين المصرِف أي محل صَرْفه، فَلَهُ أن يقول: أوقفتُه لله تعالى من غير تعيين مَنْ يصرف له قال الدردير: وصرف في غالب، وإلا فالفقراء كما سيأتي زيادة إيضاح عند قول المصنَّف: وما لم يعيّن له مصْرَفًا يصرف في وجوه البرّ.

قال رحمه الله تعالى: "والظاهر أن لفظ الحُبُسِ كَالْوَقْفِ" وتقدم أو الكتاب أن الوقف في بعض النسخ يعبر بالحُبُس كما هو غالب عبارات المدوَّنة، ولا خلاف في ذلك بين أهل اللغة، على أن الحُبُس هو الوق. قال في المصباح: وحبسته بمعنى وقفته، فهو حبيس والجمع حُبُس اهـ. قال رحمه الله تعالى: "ومقتضى لفظ الصدقة تمليك الرقبة إلا أن يُريدَ التَّحْبِيسَ" فالمعنى أن مقتضى لفظ الصدقة تمليك ذات الشيئ المتصدق به إلا أن يريد المتصدق بلفظ الصدقة التحبيس فيكون حينئذ بمعنى الوقف فيصير حُكْمُها حُكْمَ الوقف. وهو تمليك منفعة الذات دون الرقبة، أمَّا إذا لم يَرِدْ بلفظ الصَّدَقة شيئًا فتحمل على عطية الرقبة، وهي الذات المتصدق بها. قال رحمه الله تعالى: "فلا يجوز بيعه ولا شيئ من نقضه ويلزم هادمه إعادته على صفته، ولا يجوز تغييره" يعني أن الوقف لا يجوز بيعه ولا بيع شيئ من نقضه ولا تغيير صفته ومن هدمه يلزمه إعادته كهيئته. قال خليل: ومن هدم وقفًا فعليه إعادته. قال الخرشي: يعني أن من تعدّى على حُبُس وهدمه فإنه يلزمه إعادته على حالته التي كان عليها قبل الهدم، ولا يجوز أخذ القيمة لأنه كبيعه، لكن من المعلوم أنه لا يلزم من أخذ القيمة في الشيئ جواز بيعه، ككلب الصيد وجلد الأضحية وغير ذلك فالمذهب هنا لزوم القيمة في الوقف إذا أُتْلِفَ كما قال ابن عرفة؛ ظاهر المدوَّنة أن الواجب في الهدم القيمة مِلْكًا أو وَقْفًا مطلقًا اهـ. وما تقدَّم من عدم جواز البيع وهو كذلك وللفقهاء في ذلك تفصيل فراجِعْه في كُتُبِهم. وقد عَقَدَ ابن جزي في القوانين فصلاً فقال: والأحباس بالنظر إلى بَيْعِها على ثلاثة [80] [81] أقسام: أحدها المساجد، فلا يحل بيعها أصلاً بإجماع. الثاني العقار، لا يجوز بيعه إلا أن يكون مسجدًا تحيط به دور محبسة فلا بأس أن يشتري منها ليوسع به. والطريق كالمسجد في ذلك. وقيل إن ذلك في مساجد الأمصار لا في

مساجد القبائل. وأجاز ربيعة بَيْع الربع المحبس إذا خرب ليعوَّ به آخر خلافًا لمالك وأصحابه. الثالث العروض والحيوان، قال ابن القاسم: إذا ذهبت منفعتها، كالفرس يهرَم والثوب يُخْلَق بحيث لا ينتفع بهما جاز بَيْعُه وصَرْفُ ثمنِهِ في مِثْلِه، فإن لم تصل قيمته إلى كامل جُعلَتْ في نصيب من مِثْلِه. وقال ابن الماجشون: لا يُباع أصلاً اهـ. قال في الرسالة: ولا يُباع الحُبُس وإن خرب، ويُباع الفرس الحُبُس بكلب ويُجْعَلُ ثمنه في مِثْلِه أو يُعان به فيه. واختلف في المعاوضة بالربع الخرب بربع غير خرب. قال خليل: وبيع ما لا ينتفع به من غير عقار في مثله أو شقصه كأن أُتْلِفَ، وفضل الذكور، وما كبر من الإناث في إناث. فإن لم يبلغ ثمن ما بِيعَ ثمن شيئ كامل وإلاَّ أمكن الإعانة به في شِقْصِهِ فإنه يتصدق به على الجهة الموقوف عليها فثمن الفرس يفرَّق على المجاهدين، وثمن الحيوان على مَنْ وَقَفَ عليه وثمن الثوب الخلق على العراة اهـ مع طرف من النفراوي. قال رحمه الله تعالى: "واختلف في الفرس يهرم فأجاز ابن لاقاسم بيعه وصرفه في مثله أو مصرفه، ولا يجوز بيع المسجد وإن انتقلت العمارة عنه" يعني اختلف في بيع فرس يهرم. وتقدم الكلام فيه كما هو نص الرسالة وغيرها. أما المسجد فلا خِلاَف في عدم جواز بَيْعِه، فلا يجوز بَيْعُ المسجد مطلَقًا سواء خرب أم لأن وإن انتقلت العمارة عن محله إجماعًا. ومثل عدم جواز بَيْعِ المسجد نقضه فلا يجوز بَيْعُ نَقْضِ المسجد بمعنى أنقاضه كما تقدَّم ذلك. قال رحمه الله تعالى: "وإذا كان المسجد أو السابلة محفوفًا بوقوف فافتقر إلى توسعة جاز أن يبتاع منها ما يوسع به" يعني أنه لا يجوز بيع الأوقاف، إلاَّ إذا احتاج المسجد المحفوف بها ولم يوجد ما يوسع المسجد إلا ببيع بعض تلك الأوقاف أو كلها فإنه يجوز أن تُباع لتوسعة المسجد. قال خليل مستثنيًا على فيما لا يجوز بيعه من الوقف: لا عقار وإن خرب، ونُقْضّ ولو بغير خرب إلاَّ لتوسيع كمسجد ولو جبرًا،

وأمروا بِجَعْلِ ثمنه لغيره. قال شارحه: تقدم أن الحُبُس لا يجوز بَيْعُه ولو صار خربًا إلا في المسألة، وهي ما إذا ضاق المسجد بأهله أو احتاج إلى توسعة وبجانبه عقار حُبُس أو مِلْك عن بَيْعِ ذلك، فالمشهور أنهم يُجْبَرُون على بَيْعِ ذلك ويُشْتَرَى بثمن الحُبُس منا يجعل حُبُسا كالأول. ومثل توسعة [81] [82] المسجد توسعة طريق المسلمين ومقبرتهم اهـ. وفي الموَّاق: قال سحنون: لم يُجِزْ أصحابنا بَيْعَ الحُبُس بحال إلاَّ داراً بجوار مسجد احتيج أن تُضاف إليه ليتوسع بها، فأجازوا بَيْعَ ذلك، ويُشْتَرَى بثمنها دار تكون حُبُسًا، وقد أدخل في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم دور محبسة كانت تليه. قال ابن رشد: ظاهر سماع ابن القاسم أن ذلك جائز في كل مسجد كقول سحنون. وفي النوادر عن مالك والأخوَيْن وأصبغ وابن عبد الحكم أن ذلك إنَّما يجوز في مساجد الجوامع إن احتيج إلى ذلك، لا في مساجد الجماعات، إذ ليست الضرورة فيها كالجوامع. وعن عبد الملك: لا بأس ببيع الدار المحبسة وغيره ويُكْرِه الناس السلطان على بَيْعِها إذا احتاج الناس إليها لجامعهم الذي فيه الخطبة، وكذلك الطريق إليها لا إلى المساجد التي لا خطبة فيها، والطرق التي في القبائل لأقوام. قال مطرف: وإذا كان النهر بجانب طريق عظمي من طرق المسلمين التي يسلك عليها العامة فحَفَرَها حتى قَطَعَها فإن أهل تلك الأرض التي حولها يُجْبَرون على بَيْعِ ما يوسع به الطريق اهـ. ثم شرع يذكر ما يعتبر به من ألفاظ الواقف فقال رحمه الله تعالى: "ويدخل في

لفظ الولد والعقب والنسل أولاد البنين دون البنات" يعني أن لفظ الولد والعقب والنسل يتناول أولاد البنين فقط ذكورهم وإناثهم، أي لا يتناول إلاَّ الأولاد ذكورًا وإناثًا وأولاد الذكور دون أولا البنات، وهم الحفدة. قال دردير في أقرب المسالك: بخلاف ولدي وولد ولدي، وولادي وولاد أولادي، وبني وبني بني، كنسلي وعَقِبي اهـ. قوله: بخلاف أولادي إلخ، أي لا يدخل الحافد على الراجح. وقيل بدخوله كالذي قبله، أي لا يدخل الحافد في لفظ أولادي وأولاد أولادي، ولا في لفظ بني وبني بني، ولا في لفظ نسلي، ولا في عَقِبي، وكل ذلك لا يدخل فيها الحافد لأن تلك الألفاظ لا تتناوله عُرْفًا، فإذا كان العُرْف عندهم شُمْوله دخل؛ لأن مبنى هذه الألفاظ العُرْف، ولذا قال ابن رشد في المقدمات: ولو كرر لفظ التعيب لدخل ولد البنات إلى الدرجة التي انتهى إليها المحبس على ما ذهب إليه الشيوخ ثم استظهره، وقال: إنه المعمول به وتبعه أبو الحسن، واقتصر عليه ابن عرفة والقرافي وغيرهما، وجرى به العمل قديمًا وحديثًا اهـ. باختصار وتوضيح. قال قرحمه الله تعالى: " ولو قال أولادي وأولادهم ذكورهم وإناثهم وأولادهم فالأظهر دخول أولادهن، ويدخلون في الذرية قولاً واحدًا" يعني كما في الدردير. وتتناول الذرية الحافد وهو ولد البنتن وكولد فلان وفلانة أوالذكور والإناث وأولادهم، أو أولادي وأولادهم. قال الصاوي عليه: قوله وهو ولد البنت، كلامهم هنا يفيد أن الحافد مقصور على ولد البنت. والذي يفيده البيضاوي في تفسير قوله تعالى: "وَجَعَلَ لَكُم مِّ أَزوَجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحخل: 72] أن المراد بهم أولاد الذكور وأولاد البنات. وفي القاموس: السَّبْط ولد الولد، ظاهره ذكرًا كان أو أنثى فهو مرادف للحفيد اهـ. قال رحمه الله تعالى: "ولو قال بني لدخل بناته وبنات بنيه كقوله بناتي" يعني أن لفظ بني يقتضي دخول بناته وبنات بنته، كلفظ بناتي سواء بسواء.

وذلك مما يدل على أنه يعتبر بالألفاظ، وقد ذكر ابن جزي في القوانين جميع الألفاظ التي يعتبر بها عن الواقف للموقوف عليهم، فقال: فأما لفظ الولد والأولاد، فإن قال حبست على ولدي أو على أولادي فيتناول ولد الصلب ذكورهم وإناثهم، وولد الذكور منهم؛ لأنهم قد يرثون، ولا يتناول ولد الإناث منهم، خِلافًا لأبي عمر بن عبد البرّ. وإن قال: حبست على أولادي وأولادهم فاختُلِفَ في دخول ولد البنات أيضًا، وإن قال على أولادي ذكورهم وإناثهم سواء سمَّاهم أو لم يسمَّهِم، ثم قال وعلى أعقابهم أو أولادهم فيدخل أولاد البنات. وأمَّا لَفْظُ العضقِب فحْكْمُه حُكْمُ الولد في كل ما ذكرنا، وكذلك لفظ البنين وقد يختص بالذكور إلا أن يقول ذكورهم وإناثهم. وأما لفظ الذرية والنسل فيدخل فيهما أولاد البنات على الأصحّ. وأما لفظ الآل والأهل فيدخل فيه العصبة من الأولاد والبنات، والإخوة والأخوات والأعمام والعمّات، اختُلِفَ في دخول الأخوال والخالات. وأما لفظ القرابة فهو أعم فيدخل فيه كل ذي رَحِم منه من قِبَل الرجال والنساء، محرَم أو غير محرَم على الأصحّ اهـ. باختصار. وإلىجميع ما تقدَّم أشار خليل في مختصره فقال: وتتناول الذرية، وولد فلان وفلانة، أو الذكور والإناث وأولادهم الحافد. لا نسلي، وعقبي، وولدي، وولد ولدي، وأولادي، وأولاد أولادي، وبني، وبني بني. وفي على ولدي وولدهم قولان. والإخوة الأنثى. ورجال إخوتي ونساؤهم الصغير. وبني أبي إخوته الذكور وأولادهم. وآلي وأهلي العصبة ومَنْ لو رجلت عصبت. وأقاربي أقارب جهتَيْه مطَقًا وإن نصرى. ومواليه المعتق وولده ومعتق أبيه وابنه. وقومه عصبته فقط. وطفل وصبي وصغير من لم يبلغ. وشاب وحدث للأربعين وإلاّ فكهل للستين، وإلاَّ فشيخ وشمل الأنثى كالأرمل اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: "وتجب متابعة شرطه، فإن لم يكن قسم بالسوية

ما لم تدل أمارة على غير ذلك، وما لم يعين له مصرفصا يصرف في وجوه البر" يعني أنه يجب على الناظر والمستحق اتباع شرط الواقف لأن شرطه كنص الشارع. قال الدردير في أقرب المسالك: واتبع شرطه إن جاز كتخصيص مذهب أو ناظر، أو تبدية فلان بكذا، وإن احتاج من حبس عليه، باع أو إن تسوَّر عليه ظالم رجع له أو لوارثه أو لفلان مِلكًا، وكل ذلك ممَّا يجوز أن يشترطه الواقف وإن لم يشترط سِمَ بالسوية ما لم تدلَّ أمارة على مقصوده وإلا قًسِمَ على ما دلَّت عليه، ككتب فإنها تُصْرَف على الفقهاء والطلبة وغيرها ممَّا لم يعيّن مصرفاً فإنها تُصْرَف في وجوه البَّر كالمجاهدين ونحوهم كما تقدم. قال النفراوفي في الفواكه: تنبيه وإذا قُسِمَ على الموقوف عليهم المعينين فيُعطى للغني والفقير والصغير والكبير وتُعطى الأنثى مثل الذكر لأن شأن العطايا التساوي إلاَّ لشرط خلافه فيعمل بالشرط، إلاَّ في مراجع الأحباس فلا يعمل بالشرط ويسوَّى فيه بين الذكر والأنثى، ولا يزاد الفقير على الغني لأن الإيثار إنَّما هو في الوقف على مَنْ لا يُحاط بهم كالفقراء اهـ. قال رحمه اللهتعالى: "ولا يصح اشتراط النظر لنفسه" يعني لا يجوز للواقف أن يشترط النظر لنفسه؛ قال الحطاب: هذا إذا لم يكن على صغار ولده أو من في حَجْرِه. وأمَّا مَنْ كان كذلك فهو الذي يتولى حيازة وَقْفِهِم والنظر لهم كما صرَّح به في المدوَّنة وغيرها اهـ. وعبارة الصاوي في حاشيته على الدردير أنه قال: محل بطلان الوقف إن جعل النظر لنفسه ما لم يكن وقف على محجدوره وإلا فَلَهُ النظر ويكون الشرط مؤكَّدًا اهـ. قال رحمه الله تعالى: "ويبدأ بعمارته ورم داثره، وإن شرط غير ذلك" وفي نسخة ورمّ دارسه بالسين، وهما لفظان مترادفان معناهما واحد، فالمعنى أنه يبدأ بعمارة الوق ورمّ الدارس منه من الغلّة ولو شَرَطَ الواقف تبدئة خلاف ذلك؛ لأنه إن لم يصلح

يؤدّي إلى إبطاله بالكلية. قال في الإكليل: فل شَرَطَ الواقف أن يبدأ من غلّته بمنافع أهله ويترك إصلاح ما ينخرم منه بَطَلَ شَرْطُه اهـ، قال الدردير في أقرب المسالك: وبُدِئَ بإصلاحه والنفقة عليه من غلَّته وإن شرط خلافه وأُخرج ساكن موقوف علهي لسُّكنى إن لم يصلح لِتُكْرَى له أي أخرج لأجْل أن تُكْرَى للإصلاح بذلك الكِراء، فإذا أصلحت رجعت بعد مدة الإجارة للموقوف عليه، فإن أصلح ابتداء لم يخرج اهـ. قال ابن جزي: تبتني الرباع المحبسة من غلاّتها، فإ، لم تكن فَمِن بيت المال، فإن لم يكن تركت حتى تهلك ولا يلزم المحبس النفقة فيها اهـ. قال رحمه اللهتعالى: "وإن شرط في الإجارة مدة لم تجز مجاوزتها، فإن لم يكن فليؤجر سنة فسنة" يعني ,عن اشترط الواقف على وَقْفِهِ في إجارة الموقوف مدة معيّنة وإ كَثُرَ لم تَجُزْ مجاوزة ما شَرَطَه لأن شَرْطَ الواقف كنصَّ الشارع، فإن لم يكن فيه شرط واحتاج الموقوف إلى عمارة أو ترميم فليؤجره الناظر سنة بعد سنة بقدر الحاجة والمصلحة فيه. قال الدردير: وأَكْرَى ناظرهُ السنة والسنتَيْن إن كان على معيّن وإلاَّ فكالأربعة، ولِمَن مرجعها له كالعشرة ولضرورة إصلاح كالأربعين. ولا يُفْسِخُ الكِراء لزيادةٍ إن وقع بأجْرة المِثْل اهـ. قوله ولضرورة إصلاح كالأربعين، أي سنة وأدخلت الكاف عشرة فالجملة خمسون لا أزيد فأرضش الزراعة لا تُكْرَى لأكثر من أربعة أعوام إن كانت على مسجد أو على غير معيَّن، إذ لا خراب يلحقها بخلاف نحو الدُّور فإنه قد يلحقها الخراب، فإن كانت على معيَّن فالسنتان، ومضى الأكثر إن كان نظرًا كما قال ابن القاسم وإلاَّ فُسخ. قال بعضهم: والمراد بالناظر هو الموقوف عليه، وأمَّا إذا كان غيره كالناظر على وَقْفِ الفقراء أو معيَّنين وليس هو منهم، فإنّ له أن يكون بأزْيَدَ ممَّا ذكر لأنَّه بموته لا تنفسخ الإجارة اهـ الدردير. وإلى ما تقدَّم أشار رحمه الله تعالى بقوله: "وإذا آجر نظرًا، فجاء طالب بزيادة

لم تنفسخ، وتنفسخ بموت الآيل إليه لا المستأجر" يعني كما في الدردير فالمعنى أنه لا ينفسخ الكراء إذا وقع وجيبةً، أو نَقَدَ المُكْرَى كِراءً مدّة محدودة لزيادة طرأت من آخر إن وقع الكِراء الأوّل بأجْرة المِثْل وقت العقد، فإن كانت أقلَّ من أجْرة المِثْل قُبِلَتِ الزيادة وفُسِخَ الأول لها، ولو التزم الأوّلُ تلك الزيادة التي زيدت عليه لم يكن له ذلك إلاَّ أن يزيد على زيادة مَنْ زادَ إذا لم يبلغ مَنْ زاد أجرة المِثْل، فإن بلغها لم يلتفت لزيادة مَنْ زاد بَعْدَه اهـ. قال رحمه الله تعالى: "وشرط الموقوف أن يمكن الانتفاع به مع بقاء عَيْنِهِ" قال الحطاب عند قول خليل وفي وَقْفٍ كطعام تردُّد. تنبيه. قال في الشرح الكبير في هذا التردُّ نظر، لأنك إن فرضت المسألة فيما إذا قصد بوقف الطعام ونحوه بقاء عينه فليس إلاَّ المنع لأنه تحجير من غير منفعة تعود على أحد، وذلك ممَّا يؤدّي إلى فساد الطعام المؤدّى إلى إضاعة المال، وإن كان على معنى أنه أوقفه للسَّلَف إن احتاج إليه محتاج ثم يردُّ عِوَضَه فقد عَلِمْتُ أن مذهب المدوَّنة وغيرها الجواز. والقول بالكراهة ضعيف، وأضعف منه قول ابن شاس إن حمل على ظاهره واللَّه أعلَم اهـ. وتقدَّم لنا الكلام في هذه المسألة في أركان الوقف وشروطه فراجِعْه إن شئت. قال رحمه الله تعالى: "وينظر فيه من شرط الواقف نظره، فإن لم يكن فالحاكم والله أعلم" يعني أن المحبَّس إذا أقام ناظرًا وشرط له شرطًا فإنه يتبع شرطه ولا يجاوزه إلا أن يشترط ما لا يجوز كما تقدم، وإن لم يشترط شيئًا، أو لم يقم ناظرًا فالنظر للموقوف عليهم إن كانوا معيَّنين كبارًا مالكي أمر أنفسهم، وإلا فالنظر للحاكم والله أعلم. وقد عقد ابن جزي في القوانين فصلاً في بقية أحكام الحُبُس قال: منها أن المحبَّس إذا اشترط شيئًا وجب الوفاء بشرطه، والنظر في الأحباسإلى مَن قدَّمه المحبس، فغ، لم يقدم قدم الاضي ولا ينظر فيها المحبس، فإن فعل بَطَلَ التحبيس اهـ. ونَقَلَ

الحطاب عن سماع ابن القاسم أن الناظر على الحُبُس إذا كان سيَّ النظر غير مأمون فإن القاضي يعزله إلاَّ أن يكون المحبَّس عليه مالكًا أمر نفسه ويرضى به ويستمرّ. وقال أيضًا الناظر لا يوصي بالنظر عند موته، ولكن إن كان المحبَّس حيًا كان النظر له فيمن يقدَّمه، وإن مات فإن كان المحبَّس عليهم كباراً أهل رِضاً تولَّوْا حُبُسَهم بأنفسهم وإلاَّ قُدَّم السلطان بنظره، وإن كان للمحبَّس وَصِي كان النظر له إلاَّ أن يكون المحبَّس قال لِمَن ولاّه إذا حدث بك الموت فأسنده إلى مَنْ شئت فإنه يسنده لِمَن شاء، وإن أوصى وصيًّا على مالِهِ وعلى من كان في حَجْرِه كان له النظر في الحُبُس والله أعلَم اهـ. ولما أنهى الكلام على ما يتعلَّق باحكام الوقف انتقل يتكلم على ما يتعلَّق باحكام الجنايات من القِصاص والجروح وغير ذلك ممَّا يتعلَّق بمسائل الدماء، فقال رحمه الله تعالى:

كتاب الجنايات أي هذا الكتاب فيما يتعلَّق بأحكام الجنايات. قال في المصباح: جنى على قومه جناية أذنب ذنبًا يؤاخذ به. وغلبت الجناية في ألسنة الفقهاء على الجرح والقطع، والجمع جنايات وجنايا، مثل عطايا اهز قال ابن عرفة: نَقَلَ الأصوليون إجماع الملل على وجوب حفظ الأديان والنفوس والعقول والأعراض والأموال والأنساب، فإن ي القصاص حفظًا للدماء، وفي القطع للسرقة حفظ للأموال، وفي الحد للزنا حفظ الأنساب وفي الحد للشرب حفظ العقول، وفي الحد للقذف حفظ الأعراض، وفي القتل للردة حفظ الدين. والأصحُّ عند مالك أن الحدود جوابر أي كفارات. وقيل زواجر، وعليه الشافعي. وبدأ المصنف من تلك المذكورات بقتل النفس عمدًا لأنه أشد الذنوب وأعظمها بعد الكفر، للآيات، والأحاديث، وإجماع سائر المِلَل على حُرْمة قَتْلِ النفس بغير حق، فَمِن ذلك حديث: "لو أن أهل السماء والأرض، اشتركوا في دم مؤمن لأكبَّهم اللهَّ في النار: وحديث: "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم" وحديث من اشترك في دم امرئ مسلم بشطر كلمة جاء يوم القيامة بين عينيه مكتوب آيس من رحمة الله حتى اختلف الصحابة ومن بعدهم في قبول توبة قاتل العمد. فآية الفرقان ظاهرها له التوبة، وظاهر آية النساء لا توبة له، وهو قول مالك؛ لأن شرط التوبة من مظالم العباد تحللهم منها ورد تبعاتهم، ولا سبيل للقاتل لذلك، إلا أن يدرك المقتول حيًا فيعفو عنه ويحلله من دمه، مع اتفاق أهل السنة ممن قال بتنفيذ الوعيد، وممن لم يقل به أنه لا يخلد في النار اهـ. النفراوي. ولا شكَّ أن قَتْلَ المسلم عَمْدًا عدوانًا كبيرة ليس بعد الكفر أعظم منها كما تقدم. قال رحمه الله تعالى: "يجب بقتل العمد القاص عينًا غلا أن يصطلحا على

دية" يعني يجب القصاص بقتل العَمْد. قال صلى اله عليه وسلم: "مَنْ أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث: إمَّا أن يقتصَّ، وإمَّا أن يعفو، وإمَّا أن يأخذ الدَّيَة، فإن أراد الرابعة: فخذوا على يديه، ومن اعتدى بعد ذلك فلَهُ عذاب أليم" لأبي داود مرفوعاً. وأمَّا أركان القصاص فثلاثة: الأول: القاتل وهو الجاني، وشرطه أن يكون مكلفًا معصومًا، وأن لا يكون أزيد من المجني عليه بإسلام أو حرية. الثاني: المجني عليه وشَرْطُه أن يكون مكافئًا أي مماثلاً للجاني، أو أزيد عليه، لا أنقص منه. الثالث: القتل وهي الجناية، وشرطها أن تكون عمدًا عدوانًا، فإذا أكمل الأركان وشروطها وجب القصاص، إلاَّ تعيَّن القصاص لأنه مكتوب. قال الله تعالى في كتابه العزيز: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى الحُرُّ بِالْحُرِّ والْعَبْدُ بِالْعَبْدِ والأُنثَى بِالأُنثَى [البقرة: 178] إلى غير ذلك من الآيات التي دلت على وجوب القصاص إن لم يصطلحا على الدية ولم يعفو مجانًا. وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: "كان في بني إسرائيل قصاص ولم يعفوا مجانًا. وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: " كان في بني إسرائيل قصاص ولم تكن فيهم دية، فقال الله تعالى لهذه الأمة: كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى الآية". والعفو أن يقبل الدية في العمد، واتباع بالمعروف يتبع هذا بالمعروف، وأداء إليه بإحسان يؤدي هذا بإحسان، ذلك تخفيف من ربكم ورحمة مما كُتِبَ على مَنْ كان قبلكم، وإنَّما هو القصاص وليس الدَّية اهـ أخرجه البخاري والنسائي. قال رحمه الله تعالى: "فيقاد منه بمثل ما قتل به، إلا اللواط والسحر فيقاد بالسيف ضربة" يعني يقتل القاتل قصاصًا بمثل ما قتل به، إلاَّ ما استثنى. قال الدردير: وقتل بما قتل ولو نارًا، أي على المشهور إلاَّ بخمر ولواط وسحر وما يطول فبالسيف، فالمعنى أنه يعتبر بما قتل به من الآلة والكيفية، فيقتل بمثل ذلك فيغرق إن أغرق أو

أطرح، ويخنق إن خنق، ويحجر إن قتله بالحجر، ويضرب بالعصى إن ضرب بعصا، ويطعن بالسكين إن طعن كذلك، وإن ضرب بالسيف فُعِلَ به مثل ما فعل، ويمكن مستحق من السيف اهـ بتوضيح. وعبارة ابن جزي في القوانين أنه قال: المسألة الرابعة: في صفة القصاص، ويُقْتَل القاتل بالقِتْلة التي قتل بها من ضربة بحديد أو حجر أو خنق أو غير ذلك. وقال أبو حنيفة: لا قصاص إلا بالحديد. واختلف هل يقتل بالنار أو بالسمّ إذا كان قد قَتَل بهما أم لا؟. وقد علمت ما تقدَّم من قول الدردير ولو نارًا أي علم على المشهور. وهذا إذا ثبت القتل ببينة أو اعتراف، وأمَّا إن كان بالقسامة فلا يُقْتَلُ القاتل إلاَّ بالسيف اهـ. قال رحمه الله تعالى: "إلا أن يمثل فيمثل به" قال في المصباح: ومثلت بالقتيل مثلاً إذا جدعته وظهر آثار فعلك عليه تنكيلأن والاسم المثلة اهز قوله فيمثل به أي كما فعل بالقتيل فُعِلَ به، والحرمات قصاص، فَمَن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمِثْل ما عتدى عليكم الآية. وعبارة خليل فيمَن قتل ومثَّل قال: فإن قصد مُثْلَةً ثم قَتَلَ فإنه يُقْتَصُ منه للطرف ثم يُقْتَل، وأمَّا طرف غير المقتول فيندرج ولو قصد مُثلة على الراجح اهـ بتوضيح من الدردير. قال رحمه الله تعالى: "ويشترط فيه التكليف، ومماثلة المقتول دينًا وحرية، أو ينزل عنه، لا عكسه، ولا عتبار بالذكورة والأنوثة" يعني قد تقدم في أركان القصاص وشروطه أن يكون الجاني مكلفًّا، فلا قصاص على صبي أو مجنون، وأن يكون المجني عليه مماثلاً للجاني فلا يُقْتَلُ المسلم بالكافر، ولا الحر بالعبد، بخلاف

العكس قال مالك ليس بين الحر والعبد قود في شيئ من الجراح. والعبد يُقْتَلُ بالحرَّ إذا قَتَلَه عمدًا، ولا يُقْتَلُ الحر بالعبد وإن قتله عمدًا وهو أحسن ما سمعت اهـ. الموطأ. قال ابن جزي في القوانين في صفة المقتول: ولا يقتص له إلا إذا كان دَمُه مساويًا لدَم القاتل أو أعلى منه، ولا يُقْتَصُّ للأدنى من الأعلى، واعتبار ذلك بوصفين الإسلام والحرية، فأما الإسلام فيقتل المسلم بالمسلم، ويقتل الكافر بالكافر، سواء اتفقت أديانهما أو اختلفت، ويُقْتَل الكافر بالمسلم، ولا يُقْتَل المسلم بالكافر إلاَّ إن قُتِلَ الذمي قَتْلَ غِيلة. وأما الحرية فيُقْتَل الحر بالحر، ويُقتل العبد بالعبد، ولا يُقْتَل الحر بالعبد، ولكن يغرم قيمته ما بلغت، وإذا قتل العبد حُرًا فيسلمه سيده لأولياء المقتول، فإن شاؤوا قتلوه وإن شاؤوا أحيوه، فإن اختاروا إحياءه فسيده بالخيار إن شاء تركه يكون عَبْدًا لهم، وإن شاء افتكَّه منهم بدية المقتول اهـ بحذف. قال رحمه الله تعالى: "والكفار أكفاء وإن اختلفت مللهم" يعني أن الكفار أكفاء بعضهم ببعض من كتابي يهودي أو نصراني حربي أو ذمَّي أو مؤمَّن فيُقْتَل اليهودي بالنصراني وبالمجوسي، وعكسه، والمؤمن بالذمي وعسكه. قال رحمه الله تعالى مشبهًا في قتل البعض بالبعض بقوله: "كالأرقاء وإن تبعض أو كان فيه عقد حرية" يعني أن الأرقاء أكفاء بعضهم لبعض. قال الخرشي: فيقتص لبعضهم من بعض ولو كان بعضهم فيه شائبة حرية، ولا يقتص لهم من الحر المسلم لتقصهم عنه بالحرية اهـ انظر الحطاب. قال رحمه الله تعالى: "ولا يسقط بإسلامه أو عتقه" يعني إذا وجب القصاص على الكافر ثم قبل القصاص أسلم فلا يسقط إسلامه ما وجب عليه من القصاص، وكذلك العبد إذا عُتِقَ بعد وجوب القِصاص عليه، فالعَتْقُ لا يُسْقِطُ عنه ذلك. قال النفراوي: لم يتكلم المصنَّ على حُكْم ما لو كان القاتل مكافئًا للمقتول حين القتل ثم زالت المساواة قبل

القِصاص، وأشار إليه خليل بقوله: ولا يسقط القتل عند المساواة بزوالها يعتق أو إسلام، فإذا قتل كافر كافرصا ثم أسلم الكافر القاتل، أو عبد عبدًا ثم عُتِقَ القاتل فإنه يُقْتَل في الصورتين، لأن الشرط المساواة عند القتل وقد وجدت اهـ. قال رحمه الله تعالى: "ولا بمشاركة من لا يُقاد منه ويلزم به نصف الدية" يعني أنه لا يسقط القصاص عن شريك الصبي الذي لا قود عليه. قال خليل: وعلى شريك الصبي القصاص إنتمالاً على قتله. قال الموّاق من المدونة: إن قَتَلَ رجل صبي رجلاً عَمْدًا قُتِلَ الرجل، وعلى عاقله الصبي نِصْف الدية. قال ابن يونس: يريد إذا تعمدًا جميعًا قتله وتعاونًا عليه عليه اهـ. ولا قصاص على المخطئ، وعليه الدية، وإذا اشترك المخطئ والمجنون في قتل الرجل فنصف الدية في مال المخطئ، ونصفها على عاقلة المجنون. قال ابن الموّاز: وإن قَتَلَ رجلان رجلاً أحدهما عَمْدًا والآخر خطأ قُتل المعتمد، وعلى المخطئ نصف الدية اهـ. ومثله لابن جزي. قال رحمه الله تعالى: "أو التجائه إلى الحرم" يعني لا يسقط القصاص عن الجاني بدخوله الحرم ملتجئًا، سواء في الحرم المكي أو المدني، ولو أحرم بحج أو عمرة فلا يؤخر لتمامه، بل تقام الحدود في الحرم، فيُقْتَل قاتل النفس في الحَرَم سواء حصل السبب فيه أو خارجه ولجأ إليه اهـ. قاله في جواهر الإكليل. وعبارة الخرشي عند قول خليل لا بدخول الحرم:" يعني وإذا لزم الجاني قصاص في نفس أو جرح ثم دخل الحَرَم فإنه لا يؤخر لأجل ذلك ويُقاوم عليه الحد في الحَرَ؛ لأنه أحق أن تُقام فيه حدود الله تعالى، فلو كان محرمًا بحج أو عمرة فإنه لا ينتظر إلى فراغ نُسُكِه، بل يُقْتَصُّ منه قبل فراغه، ونُبْهَ بذلك على خلاف أبي حنيفة القائل بأن القاتل إذا التجأ إلى الحَرَم فإنه لا يُقْتَل فيه، بل يضيق علهي فإذا خرج منه اقتُصَّ منه. والمراج بالحَرَم المحدَّد في باب الحج لا خصوص المسجد؛ لأن الأئمة حملوا قوله تعالى: "وَمَن دَخَلَهُ كَاَن ءامِنًا" [آل عمران: 97] على ما يحرم فيه الاصطياد اهـ.

وقال الموّاق: سمع القرينان: تُقام الحدود في الحَرَم، ويُقْتَل بقَتْل النفس في الحَرَم. قال ابن رشد: مثله لابن القاسم. ولا خِلاف فيه بين فُقَهَاء الأمصار. قال ابن عرفة: هذا خلاف ما نَقَلَ عبد الوهاب وغيره عن أبي حنيفة إن قَتَلَ في الحَرَم قُتِلَ فيه إجماعًا، وإن قَتَلَ في الحلأَّ ثم لجأ إلى الحَرَم لم يُقْتَلُ فيه ولم يخْرَج منه، ولكن يُهْجَر ولا يُبايَع ولا يُشارى حتى يُضطرَّ إلى الخروج فيُقْتَل اهـ. وحاصل ما ذكره المفسرون في قوله تعالى: "وَمَن دَخَلَهُ كَانَءَامنًا" أي لا يتعرَّ إليه بقتل أو ظُلْم أو غير ذلك. وقال الصاوي على الجلالَيْن: قوله: بقتل أي ولو قِصاصًا. هذا ما كان في الجاهلية فكان الرجل يَقْتُل ويَدْخُلُه فلا يتعرَّ له ما دام فيه، وأما بعد الإسلام فعند مالك والشافعي: إن قَتَلَ اقْتُصَّ منه فيه، وعند أبي حنيفة لا يُقْتَصُّ منه فيه ما دام فيه وإنما يضيق عليه حتى يخرج، وهذا هوالأمن في الدنيا وأما في الآخرة فبتكفير السيئات ومضاعفة الحسنات لمن دخله حاجًا أو معتمرًا أو من دخله مخلصًا في دخوله اهـ بطرف من بحر المحي انظره إن شئت. قال رحمه الله تعالى: "والسكران كالصاحي" قال في الرسالة: والسكران إن قتل قُتِل. قال شارحها: حيث إنه شرب مُسْكِرًا حرامًا وكان بالغًا، ولا يُعْذَر بغيبوبة عقله؛ لأنه أدخله على نفسه، كما لا يُعْذَر بذلك إذا طلق أو قذف أو أعتق أو زنى ولو كان طافحًا، بخلاف ما لو أقرَّ أو باع أو اشترى فلا يلزمه، وأما لو سكر سكرًا غير حرام كشربه المُسْكِر يظنه لبنًا أو عسلاً أو غالطًا أو لغصة فلا يُقْتَل؛ لأنه في تلك الحالة كالمجنون وتكون الدية على العاقلة اهـ النفراوي بتوضيح. قال رحمه الله تعالى: "والممسك غالمًا بإرادة قتله كالمباشر" يعني كما في الموطأ قال مالك في الرجل يمسك الرجل للرجل فيضربه فيموت مكانه: إنه إن أمسكه وهو يرى أنه يريد قتله قتلا به جميعً، وإن أمسكه وهو يرى أنه إنما يريد الضرب بما يضرب به الناس لا يرى أنه عمد لقتله فإنه يقتل القاتل ويعاقب الممسك أشد العقوبة ويسجن

سنة؛ لأنه أمسكه ولايكون عليه القتل اهـ. وعبارة ابن جزي أنه قال: ومن أمسك إنسانًا لآخر حتى قتله قتلا جميعًا. وقال الشافعي: يقتل القاتل وحده ويعزر الممسك اهـ. قال الدردير في أقرب المسالك مشبهًا بما يوجب القود جميعًا: وكالإمساك للقتل ولولاه ما قدر القاتل وإلا فالمباشر فقط، أي وإن لم يكن إمساكه للقتل فالقود على القاتل فقط اهـ. قال رحمه الله تعالى: "والأقارب كالأجانب" يعني يقتص بين الأقارب كما يقتص بين الأجانب. قال ابن جزي في القوانين الفرع الرابع يجري القصاص بين الأقارب كما يجري بين الأجانب اهـ./ قال رحمه الله تعالى: "والمأمور إن لزمه طاعة آمره قتلا وإلا قتل" يعني كما قال خليل عاطفًا على مَنْ يجب عليهما القصاص: والمتسبب مع المباشر كمُكْرِه ومُكْرَه وكأب أو معلم أمَرَ ولدًا صغيرًا وسيد أمَرَ عَبْدًا مطلقًا، فإن لم يخف المأمور اقتص منه فقط اهـ. انظر المواق لأنه أفاد بذكر جميع تلك الصورة. قال رحمه الله تعالى: "والمشهور قتل الأب بابنه مع الشبهة كذبحه ومعها تلزم الدية في ماله مغلظة ومنع أشهب قتل والد" يعني كما في القوانين: فأما قتل الأب لابنه فإن كان على وجه العمد المحض مثل أن يذبحه أو يشق بطنه فيقتل له منه خلافًا لهم أي للأئمة الثلاثة، وإن كان على غير ذلك مما يحتمل الشبهة أو التأديب وعدم العمد فلا قصاص فيه وعلهي الدية في ماله مغلظة ويجري مجرى الأب الأم والأجداد والجدات اهـ. قال في الرسالة: وإنما تغلظ الدية في الأب يرمي ابنه بحديدة فيقتله فلا يُقْتَلُ به. قال شارحها: لحُرْمَة الأبوة ولكن تغلظ عليه الدية بالتثليث. قال خليل: وثلث في الأب ولو مجوسيًا في عمد لم يقتل به، وذلك بألا يقصد إزهاق روحه بفعل ليس شأنه القتل لا إن قتله خطأ فتكون ديته مخمسة كغيره من الأجانب، ولا إن قصد قتله أو فعل به شيئًا شأنه القتل بأن ذبحه أو شق جوفه وإلا قتل به. والحاصل أن الأصل لا

يقتل بفرعه إلا إذا اعترف بقصد قتله أو فعل به فعلاً شأنه القتل بأن بأن ذبحه أو شق جوفه. وبين صفة التثليث بقوله: ويكون عليه ثلاثون جذعة حقة وأربعون خلفة في بطونها أولادها. والأرجح أن ذلك في ماله؛ لأن العاقلة لا تحمل العمد، والدليل على وجوب تثليثها ما في الموطأ أن رجلاً من بني مدلج يقال له قتادة حذف ابنه بالسيف فأصاب ساقه فنرى جرحه فمات فقدم سراقة بن جعشم على عمر بن الخطاب فذكر ذلك له فقال عمر: أعدد على ماء قديد عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك فلما قدم إليه عمر بن الخطاب أخذ من تلك الإبل ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة ثم قال أين أخو المقتول؟ فقال: ها أنا ذا فقال: خذها فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس لقاتل شيئ". وفي غير الموطأ دعا أم المقتول وأخاه فدفعها إليها ثم قال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يرث القاتل شيئًا ممن قتل اهـ. قال رحمه الله تعالى: "وتقتل الجماعةب الواحد وبالعكس" قال في الرسالة: وتقتل الجماعةب الواحد في الحرابة والغيلة وإن ولي القتل بعضهم اهـ. قال خليل: ويقتل الجمع بواحد وفي نسخة الجماعة وفي أخرى الجميع، والمعنى في الجميع: لو اجتمعوا على قتل شخص عمدًا عدوانًا فإنهم يُقْتَلون به وكذلك إذا تمالؤوا. قال خليل عاطفًا على قتل الجماعة بالواحد: والمتمالئون وإن بسوط سوط من كل واحد منهم حتى مات فيُقْتَلون به؛ لما في الموطأ عن عمر قتل نفرًا خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه غيلة. وقال عمر: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعًا اهـ. وأما إن ضربوه بلا تمالؤ قال الدردير في أقرب المسالك: وإن تعدد مباشر بلا تمالؤ وتميزت فمن كل بقدر ما فعلز قلت: هذا ف يالجراحات على تقدير تمييز الضربات أما إن لم تُميز فيقدم الأقوى إذا مات مكانه أو نفذت مقتله وحمل مغمورًا لم يأكل ولم يشرب حتى مات، أما لو عاش وأكل وشرب فلا بد من القسامة

فصل في بيان قصاص الأطراف

كما يأتي قول المصنف: وإن تأخر مايمكن استناد الموت إلى غيره فبالقسامة، ولا يقْسَم في العَمْد إلاَّ على واحد معيَّن لها، ولا يُقْتَل مع القَسَامة أكثر من رجل واحد ويُعاقب الباقي اهـ ويُعاقب الباقي اهـ من شراح المختصر بتوضيح. قال ابن جزي: وكذلك يُقْتَلُ الواحد بالواحد كما تُقْتَلُ الجماعة بالجماعة وتُقْتَلُ الجماعة بالواحد خلافًا للظاهرية اهـ. ولمَّا أنهى الكلام على ما تعلق بالجنايات على النفس انتقل يتكلم على حقيقة لقِصاص في الأعضاء وغيرها فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في بيان قِصاص الأطراف أي في بيان ما يتعلَّ بالقِصاص في الأطراف من الجراحات وغيرها كالنفس وأصل القصاص المماثلة كما تقدم. قال رحمه الله تعالى: "والقصاص في الأعضاء كالنفس" يعني كما في قوله تعالى: " وكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ والْعَيْنَ بِالْعَيْنِ والأَنفَ بِالأَنفِ والأُذُنَ بِالأُذُنِ والسِّنَّ بِالسِّنِّ والْجُرُوحَ قِصَاصٌ [المائدة: 45] يعني والهل أعلَم أن هذه الأعضاء كالنفس فَرَضَ الله تعالى بها لاقصاص كما هو ثابت فيالتوراة وهذا الحُكمْ وإن كُتِبَ على من قَبْلِنا فهو مقرَّر في شَرْعِنا فيجب القصاص فيها إذا أمكن كاليد باليد والرَّجْل بالرَّجْل وغيرهما من سائر الأعضاء التي يمكن فيها القصاص، وأمَّا التي لا يمكن فيها فإن وَرَدَ فيها نص من الشارع عُمِل به فيجري الحُكْمُ عليها في ذلك، فإن لم يرد فيها منه شيئ فالقياس على ما وَرَدَ أو يوكَل ذلك إلى أولي الأمر وهم أهل الاجتهاد كالحُكّام، فالقصاص واجب إلاَّ لعدم الإمكان، وإليه أشار رحمه الله بقوله: "إلا لتعذر المماثلة كذهاب بعض البصر او السمع أو الكلام أو يخاف سرايته إلى النفس غالبًا كَكَسْر العُنُقِ والترْقُوَةِ والصُّلْبِ والْفَخِذِ فيجب فيه من الدية في مال الجاني: يعني إذا

تعذر القصاص كعدم المماثلة في النفس أو العضو أو ما يخاف الهلاك بالقصاص فيه غالبًا فإنه يرجع إلى ما نصَّ الشارع في تلك النازلة، وذلك كَكسْرِ العُنُق أو الترقُوَة أو الصُّلْب أو الفَخِذ أو رضّ الأنثيين أو الجائفة أو المأمومة أو غيرها ممَّا لا يمكن القصاص فيها فتلك الأشياء كلها يرجع فيها إلى نص الشارع. قال في الرسالة: وفي اليدين الدية أي الكاملة وكذلك في الرَّجْلَيْن أو العينَيْن وفي كل واحدة منهما نِصْفُها، وفي الأنف يُقْطَعُ مارنُهُ الدية وفي السمع الدية وفي العقل الدية وفي الصلب يكسر الدية وفي الأنثيين الدية وفي الحشفة الدية وفي اللسان الدية وفيما منع منه الكلام الدية وفي ثديي المرأة الدية وفي عين الأعور الدية وفي الموضحة خمسة من الإبل وفي السن خمسة وفي كل أصبع عشرة وفي الأنملة ثلاثة وثُلُث وفي كل أنملة من الإبهامين خمسة من الإبل وفي المِنْقَلَة عشرة ونصف عشرة. والموضحة ما أوضح العظم والمنقلة ما طار فراشها من العظم ولم تصل إلى الدماغ وماوصل إليه فهي المأمومة ففيها ثُلُث الدَّيَة وكذلك الجائفة، وليس فيما دون الموضحة إلا الاجتهاد وكذلك جراح الجسد اهـ. وعبارة بن جزي في القوانين في قطع الأعضاء أن قال: فإن كان عمدًا ففيه القصاص إلا أن يُخاف منه التلف وإن كان خطأ ففيه الدية وهي تختلف، ففي كل زوج من البدن دية كاملة وفي الفرد نصف الدية وذلك العينان والأذنان والشفتانواليدانوالرجلان والأُنثيان والأليتان وثدْيَا المرأة، وفي الأنف واللسان وفي الذكر دية كاملة، وفي السنّ خمسة من الإبل، وفي كل أصبع عشرة من الإبل، وتجب الدية كاملة في إزالة العمل وفي إزالة السمع وفي إزالة البصر وفي إزالة الشمّ وفي إزالة النطق وفي إزالة الصوت وفي إزالة الذوق وفي إزالة قوة الجماع وفي إزالة القدرة على القيام والجلوس، فإن أزال بعض هذه المنافع فعَلَيْه بحساب ما نقص، فإن أزال سمع الأذن الواحدة أو بصر العين الواحد فعليه نصف الدية، وفي عين الأعور دية كاملة، وقال الشافعي وأبو حنيفة: نصف الدية اهـ بحروفه. ومَنْ أرادالوقوف على الدليل فيما

ذكرناه فليراجع كتاب العقول من الموطأ والمدونة وغيرهما من كُتُب المذهب، فهناك ما يكفي الغليل ويشفي العليل من الأحكام والسنّة النبوية إن شاء الله تعالى. ثم قال رحمه الله تعالى: "وتتعين المماثلة فلا يؤخذ عضو بغير مماثله وفي عدمه يُعْدَل إِلَى الدية إلا الأعور يقلع عينًا ففي المماثلة يُخير بين القود وألف دينار وفي غيرها ديتها" يعني تتعين في قصاص الأعضاء المماثلة فلا يؤخذ عضو بغير مماثلة، أمَّا في المماثلة فيتعين ولو كان عضو الجاني أقوى من المُجْنَى عليه. قال الدردير: ويؤخذ عضو قوي بضعيف: فإذا جنى صاحب عين سليمة على دعين ضعيفة الإبصار خلقة أو من كبر صاحبها فإن السليمة تؤخذ بالضعيفة اهـ. انظر شراح خليل. قوله: وفي عدمه يعدل إلى الدية إلخ قال الدردير أيضًا متأسيًا بقول خليل: وإن فقأ سالم عين أعور فله القود أو أخذ دية كاملة من ماله، وإن فقأ أعور من سالم مماثلته فله القصاص أو دية ما ترك وغيرها فنصف دية فقط في ماله، وإن فقأهما فالقود ونصف الدية، أي وإن فقأ الأعور عيني السالم عمدًا في مرة أو مرتين فالقود حُق للمَجْني عليه بأن يفقأ المماثلة من الجاني فيصيره أعمى لبقاء سالمته، ونصف الدية يأخذه المجني عليه من الجاني بدل ما ليس لها مماثلة، لم يُخير سالم العينين في المماثلة بحيث يكون له القصاص أو أخذ الدية لئلا يلزم عليه أخذ دية ونصف دية، وهو خلاف ما وَرَدَ عن الشارع صلى الله عليه وسلم اهـ. قال مالك: الأمر عندنا أن الرجل إذا أصيب من أطرافه أكثر من ديته فذلك له إذا أصيب يداه ورجلاه وعيناه فَلَهُ ثلاث دِيَات قال مالِك في عين الأعْوَر الصحيحة: إذا فُقِئَتْ خطأ إن فيها الدية كاملة اهـ الموطأ. قال رحمه الله تعالى: "ولا يقتص لجرح ولا يعقل حتى يندمل فإن سرى إلى النفس قتل ولم يجرح" لما في الحديث عن جابر بن عبد الله قال إن رجلاً جرح رجلاص فأراد الذي جرح أن يستفيد فَنَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمتثل من الجارح حتى

يبرأ المجروح اهـ كتاب الديات. فالمعنى إذا وَجَبَ القِصاص في الجرح أو وَجبتِ الدَّيَة فإنه يلزم التأخير في ذلك حتى يبرا الجرح، فإن سَرَى إلى موت المجروح قُتِلَ الجارح وسَقَطَ قِصاص الجرح. قال ابن جزي: ولا يقتص من الجارح حتى يندمل الجرح لئلاً ينتهي إلى النفس فيحصل القِصاص بالنفس لا بالجراح خلافًا للشافعي اهـ. قال في الرسالة: ولا يعقل جرح إلاَّ بعد البرء وما برئ على غير شين ممَّا دون الموضحة فلا شيئ فيه اهـ. قال رحمه الله تعالى: "وإن تأخر ما يمكن استناد الموت إلى غيره فبالقسامة" يعني أنه لو عاش المقتول بأن أكل وشرب ثم مات فلابد حينئذ من القسامة كما تقدم. قال في الرسالة: وإنما تجب القسامة بقول الميت دَمِي عند فلان أو بشاهد على القتل أو بشاهدين على الجرح ثم يعيش بعد ذلك ويأكل ويشرب اهـ. قال خليل: والقسامة سببها قتل الحر المسلم في محل اللوث، كأن يقول بالغ حر مسلم: قتلني فلان ولو خطأ أو مسخوطًا على ورع أو ولد علىوالده أنه ذبحه أو زوجة على زوجها إن كان جرح إلى أن قال: وكشاهدَيْن بجرح أو ضرب مطلقًا بإقرار المقتول عَمْدًا أو خطأ ثم يتأخر الموت يقسم لِمَن ضربه مات. هذا معنى قول المصنّّف: وإن تأخَّر ما يمكن استناد الموت إلى غيره فبالقسامة قال النفراوي. وهذا ليس بقيد كما في خليل وإنما المراد بتأخر موته؛ إذ لوو مات سريعًا بعد جرحه أو ضربه أو أنفد مقتل من مقاتله بالجرح أو الضرب لثبت القتل من غير توقف على قَسَامة، ويلزم الأولياء القِصاص في العَمْد والدَّيَة في الخطأ قال خليل: ولا قَسَامة إن أنفذ مقتله بشيئ أو مات مغمورًا إلخ. قال رحمه الله تعالى: فإن سرى إلى زياد اقتص بأصله فإن سرى إلى مثلها فهو به وإن زاد فهدر وإن نقص وجب أرش النقص" يعني كما في الموطأ قال مالك في قصاص الجراح: ولا يُقاد من أحد حتى تبرأ جراح صاحبه فيُقَاد منه، فإن جاء جرح المستقاد منه مثل جرح الأول حين يصحُّ فهو القَوَد، وإن زاد جرح المستفاد منه أو مات

فليس على المجروح الأول المستقيد شيئ، وإن برئ جرح المستقاد منه وشُلَّ المجروح الأول أو برئت جراحه وبها عيب أو نقص أو تمثل فإن المستقاد منه لا يكسر الثانية ولا يُقَاد بجرحه قال: ولكنه يُعْقَل له بقدر ما نَقَص؛ من يد الأول أو فسد منها والجِرَاحُ في الجسد على مثل ذلك اهـ. انظر شرحه للباجي المُسَمّى المنْتَقَى فيه كفاية للطالب وتذكرة للمستقصي. قال رحمه الله تعالى: "ويؤخر لشدة الحر والبرد والحامل للوضع فإن وجد من يرضعه وإلا فإلى الفصال" يعني إذا وجب القصاص على الجاني في وقت شدة الحر أو شدة البرد أو المرض وخُشِيَ عليه الموت بالقصاص في تلك الأوقات لزم التأخير إلى زوال تلك الأوقات التي فيهاخطر على الجاني لئلا يلزم تقتل نفس فيما دونها. قال الدردير في أقرب المسالك: وأُخر لعُذْرٍ كَبردٍ كعقل الخطأ وأحد حديثن لم يقدر عليهما وقدم الأشد إن لم يخف منه اهـ. قال الخري: قوله وأخر لبرد أو حر إلخ يعني أن الجاني إذا جنى جناية فيما دون النفس توجب القصاص فإنه يؤخر عنه القصاص لأجْل البرد المفرط أو لأجل الحر المفرط خوف الهلاك على الجاني فيؤدي إلى أخذ نفس فيما دونها، وأما إذا جنى حناية على نفس فلا يؤخر لما ذُكر وهو واضح وكذا لا يؤخر إذا كان الجاني محاربًا واختير قطعة من خلال فلا يؤخر لحر ولا لبرد؛ لأنه إن مات هو أحد حدوده، وكذلك يؤخر القود فيما دون النفس إلى أن يبرأ الجاني إن كان مريضًا وتبرأ أطراف المجني عليه؛ لاحتمال أن يأتي على النفس فيستحق تلك النفس بقسامة كما يؤخر العقل في الجرح إلى البرء خوف السريان إلى النفس فتؤخذ الدية كاملة، فإن برئ على غير شين فلا عقل فيه ولا أدب إذا لم يتعمد، وإن برئ على شين فحكومة، وكذلك يلزم التأخير فيما لا يُستطاع القَوَد فيه إن كان عمدًا كَكَسْر عظام الصدر والصُّلْب وما أشبه ذلك، فغ، برئ على شين فحكمة وإلا فلأن والتأخير للعقل مطلوب ولو كان الجرح فيه شيئ

مقدر من الشارع كالجائفة والآمة والموضحة خوف السريان إلى النفس أو إلى ما تحمله العاقلة اهـ. انظر فيه مسألتي الحامل والمُرْضع في وجوب التأخير عن قصاصهما حتى تَتَعَ الحامِل وتُفْطِمَ المُرْضِع. قال رحمه الله تعالى: "وأولياء الدم العصبات فيسقط بعقو بعضهم" قال الحطاب: يعني أنه إذا أسقط بعض من له العفو حقه وعفا عن القاتل فإن القود يسقط ويتعين للباقين نصيبهم من دية عمد ويدخل في ذلك بقية الورثة، فإذا عفا جميع الأولياء فلا شيئ للبنات. قال في المدونة في آخر كتاب الديات: وإذا قامت بينة بالقتل عمدًا فللمقتول بنون وبنات فعفو البنين جائز على البنات ولا أثر لهن مع البنين في عفو ولا قيام، إن عَفَوْا على الدَّيَة دخل فيها النساء وكانت على فرائض الله تعالى وقضى منها دينه، وإن عفا واحد من البنين سقطت حِصَّته من الدَّيَة وكان بقيَّتها بين حقَّ من بقي على الفرائض، وتدخهل في ذلك الزوجة وغيرها وكذلك إذا وجب الدم بقسامة ولو أنه عفا على الدية كانت له ولسائر الورثة على المواريث، وإذا عفا جميع البنين فلا شيئ للنساء من الدية وإنما لهن إذا عفا بعض البنين. والإخوة والأخوات إذا استووا فهم كالبنين والبنات فيما ذكرنا اهـ. وفي الرسالة: وإن عفا أحد البنين فلا قتل ولمن بقي نصيبهم من الدية، ولا عفو للبنات مع البنين: قال شارحها: والمعنى أن القتل إذا كان عَمْدًا وعفا عن القصاص بعض المستحقين المستوين في الدرجة بعد ترتب الدم وثبوته ببينة أو إقرار أو قسامة فإن القود يسقط. ولمن لم يعف نصيبه من دية عمد، ومقتضى قوله: فلمن بقي إلخ أن العافي لا شيئ له إلا أن يكون قد عفا عليها صريحًا أو يظهر منه إرادتها. قال خليل: ولا دية لعافٍ مطلق إلا أن تظهر منه إرادتها فيحلف ويبقى على حقه اهـ. قال رحمه الله تعالى: "ويُخَيَّرُ في العَبْدِ بَيْنَ قَتْلِهِ وَاسْتِرْقضاقِهِ فَإِنِ اسْتَحْيَاهُ خُيرَ سَيَّدُهُ في افْتِكَاكِهِ بالدية وإسلامه" يعني كما تقدم أنه إذا قتل العبد حرًا يسلمه سيده لأولياء المقتول

فصل في الدية

فإن شاؤوا قتلوه وإن شاؤوا أحيوه، فإن اختاروا إحياءه فسيده بالخيار إن شاء تركه يكون عبدًا لهم وإن شاء أفتكه منهم بدية المقتول كما في ابن جزي، هذا في قتل الحر وأما لو قتل العبد عبدًا أو جرحه فلا يخلو من أن يكون ذلك عمدًا أو خطأ: فإن كانت الجناية خطأ فسيد العبد الجاني مُحَّير بين أن يسلمه بجنايته لسيد العبد المجني أو يفتكه بقيمة العبد المجني عليه في القتل أو بما نقص الجرح منه في الجرح، وإن لم ينقص الجرح شيئًا فلا شيئ عليه. وأمَّا إن كانت عمدًا فإن سيد العبد المقتول أو المجروح مُخَّير بين أن يَقْتَصَّ أو يأخذ العبد الجاني إلا أن يشاء سيده أن يفتكه بقيمة المقتول أو بما نقص الجرح منه اهـ. ومثله في الموطأ. ولما أنهى الكلام على ما يتعلق بالقصاص في النفس وما دونها من الجراح والأطراف انتقل يتكم على ما يتعلق بمقدار الدية في الخطأ أو في العَمْد بعد العفو فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في الدَّية أي في بيان مقدار الدَّية التي تؤخذ في الخطأ في النفس أو العَمْد إن عفا عن الجاني أو في الجراح فيما لا قصاص فيه وما يتعلق بجميع ذلك من الأحكام فقال رحمه الله تعالى: "أما الخطأ ففي النفس الدية ألف دينار على أهل الذهب واثنا عشر ألف درهم على أهل الورق ومائة من الإبل على أهلها مُخمسة عشرون ابن لبون وعشرون بنت لبون وعشرون بنت مخاض، وعشرون حقه وعشرون جذعة وفي العمد على القول بها كالخطأ" يعني أن دية الخطأ في قتل النفس على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الإبل مائة من الإبل كما في الحدث إلاَّ أنها تختلف أنواعها باختلاف موجبها، منها مخمَّسة ومنها مربعة ومنها مربعة ومنها مثلثة، فدية الخطأ مخمسة،

ودية العمد إن قُبِلَنْ مربَّعة خلاف ظاهر قول المصنف بقوله كالخطأ، ودية الابن على أبيه مثلثة مغلظة في ماله كما تقدم، وأما غيرها فعلى العاقلة إلا العَمْد ففي مال الجاني وهي مربعة. قال في الرسالة: ودية العمد إذا قُبِلَتْ خمس وعشرون حِقّة وخمس وعشرة جّذَعَة وخمس وعشرون بنت لبون وخمس وعشرون بنت مخاض، ودية الخطأ مخمسة عشرون من كل ما ذكرناه وعشرون ابن لبون ذكرًا. قال خليل: ورُبعت في عَمْدٍ بحذف ابن اللبون فهي ناقصة عن دية الخطأ بالنسبة للأنواع وإن كانت العدة واحدة؛ وإنما أخذت الأنواع الأربعة تغليظًا على القاتل، كما أن دية الخطأ خُمسَتْ رفقًا بمؤذيها وهم العاقلة قيل رفقًا بالمخطئ اهـ بطرف من النفراوي. قال الدردير في أقرب المسالك: ودية الحر المسلم في الخطأ على البادي مخمَّسة بنت مَخاض وولد لبون وحِقَّة وجَذَعة أي عشرون من كل نوع كما تقدم، قال: ورُبَّعَت في عَمْدٍ بحذف ابن اللبون وثُلَّثَتْ في الأصل ولو مجوسيًا في عَمءدِ لم يُقْتَل به بثلاثين حِقّة وثلاثين جّذَعة وأربعين خلفة بلا حدّ سن فتغلَّظ كجرح العَمْد وعلى الشامي والمصري والمغربي ألف دينار وعلى العراقي اثنا عشر ألف درهم إلا في المثلثة فيزاد بنسبة ما بين دِيضة الخطأ على تأجيلها والمثلثة حالة اهـ. انظر شراح خليل. قال رحمه الله تعالى: "والصلح على مبهمة مربعة فيسقط بنو اللبون ويؤخذ من كل من البواقي خمس وعشرون" يعني إذا وقع الصُّلْح على دِيَة مبهمة في قَتْلِ العَمْد أو فيما لا قصاص فيه أو قال أولياء الدم: عفَوْنا على الدَّيَة أو عفا بعضهم مجانًا وبعضهم عليها مبهمة، فلِمَن لم يَعْفُ نصيبه منها، فالصُّلْح في جميع ذلك أن تكون الدَّيَة مربَّعة بحذف ابن اللبون من الأنواع الخمسة، فتكون المائة من الأصناف الباقية من كلًّ خمسًا وعشرين أي فتكون خمسًا وعشرين بنت لبون وخمسًا وعشرين بنت مَخاض وخمسًا وعشرين حِقَّة وخمسًا وعشرين جذعة اهـ الموطأ وطرف من الدردير.

قال رحمه الله تعالى: "والمَذْهَبُ أَنَّ شِبْهَ العَمْدِ بَاطِلٌ وَقِيلَ بصحته فَتَجِبُ بِهِ مغلظة ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة" اعلم أن الأئمة اختلفوا في شبه العَمْد هل هو باطل لا عتبار به وهو المذهب عند مالك وأكثر أصحابه؛ لأن القتل عندا إما عَمْدًا أو خطأ لا غير كما في بحر المحيط أم يعتبر به فيكون صحيحًا كما قيل به في بعض الرواية عن مالك وإليه ذهب الجمهور. قال في كتاب الرحمة في اختلاف الأُمّة: وأما دية شبه العمد فهي مثل دية العمد المحض عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وأختلفت الرواية عن مالك في ذلك اهـ. قال ابن جزي في القوانين في صفة القتل: وهو على ثلاثة أنواع اثنان متفق عليهما وهما العمد والخطأ وواحد مختلف فيه وهو شبه العمد إلى أن قال: وأما شبه العمد فهو أن يقصد الضرب ولا يقصد القتل، والمشهور أنه كالعمد وقيل كالخطأ وقيل: تغلظ فيه الدية وفاقًا للشافعي اهـ. قال الحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي في سورة النساء: وبينت السنّة أن بين العمد والخطأ قَتْلاً يسمَّى شبه العمد وهو أن يقتله بما لا يقتل غالبًا، فلا قصاص فيه أي على مذهب الشافعي بل دية كالعمد في الصفة والخطأ في التأجيل والحمل وهو والعمد أوْلَى بالكفّارة من الخطأ اهـ. قال الصاوي في حاشيته على الجلالَيْن: قوله: يُسَمّى شبه العمد أي فأشبه العمد من حيث تغليظ الدية بكونها من ثلاثة أنواع: ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة، وأشبه الخطأ من حيث كونه لا قصاص فيه، وهذا مذهب الشافعي، وعند أبي حنيفة لا يُقْتَصُّ من القاتل إلاَّ إذا قَتَلَه بآلة محدَّدة كسيفٍ وبندق وإلا فتلزمه الدية. وعند مالك يُقْتَصُّ من القاتل إذا قَتَلَ بأي آلة ولو بضرب كف أو سوط لا بكمروحة. قوله: وهو أي شبه العمد أوْلى بالكفّارة أي فتجب، وهذا أيضًا مذهب الشافعي، وأمَّا عند مالك ليس كالخطأ بل تُسَمَّى الكفّارة فقط اهـ. كلام الصاوي. قال العلاّمة ابن رشد في البداية والنهاية: وأمَّا قَدْرُها ونوعها فإنهم اتفقوا على أن دِيَة الحرَّ المسلِم على أهل الإبل مائة من الإبل وهي في مذهب ثلاث

دِيات دِيَة الخطأ ودِيَة العَمْد إذا قُبِلَتْ ودِيَة شبه العَمْد وهي عند مالك في الأشهر عنه مثل فِعْل المدلجي بابنه. انظر بقية العبارات والروايات وكلام الأئمّة في كتاب ابن رشد المذكور وبالله تعالى التوفيق. قال رحمه الله تعالى: "فالخطأ على العاقلة وهم العصَبَاتُ فإنْ لَمْ يَكُنْ فَالمَوَالِي فإنْ لمْ يَكُنْ فَبَيْتُ المَالِ" يعني أن دِيَة قَتْلِ الخطأ تحملها العاقلة وهم عصبات القاتل. قال ابن جزي في القوانين: وتؤدي دِيَة الخطأ عاقلة القاتل وهم عصبته من الأقارب والموالي تنجم عليهم في ثلاث سنين، وفإن لم تكن له عاقلة أدَّيت من بيت المال، ويؤدّي القاتل دِيَة العَمْد من مالِهِ حالاً وقيل: تنجم عليه وتؤدّي العاقلة عَمْدَ الصبي والمجنون. وإنما تؤدي العاقلة الدَّيَة بأربعة شروط؛: وهي أن تكون الثُّلُث فأكثر وأن تكون دّم احترازًا من قيمة العبد وأن تكون عن خطأ وأن يثبت بغير اعتراف، وإنما يؤديها منهم من كان ذكراً بالغًا عاقلاً موسرًا موافقًا في الدَّين والدار، وتوزَّع عليهم على حَسَبَ حالهم في المال، فيؤدّي كل [3/ 99/] [100] واحد منهم ما لا يَضُرُّ به ويبدأ بالأقرب فالأقرب وهي مورثة عن القاتل على حَسَبِ الفرائض وتدخل فيها وصيَّته اهـ بتصرف وحذف. وعبارة الدردير في أقرب المسالك أنه قال: وهي أي عاقلة أهل ديانه وعصبته ومواليه وبيت المال، وبدأ بالديوان إن أعطوا فالعصبة فالموالي الأعلون فالأسفلون فبَيْتُ المال إن كان الجاني مسلِمًا وإلاَّ فالذَّمَّي ذوو دِينِه والصّلْحي أهل صُلْحه، وضرب على كل ما لا يضُرُّ به وعقل عن صبي ومجنون وامراة وفقير وغارم ولا يعقلون. والعبرة وقت الضرب لا إن قَدِمَ غائب أو أيسر فقير أو بلغ صبي، ولا يسقط بعسر أو موتٍ وحلَّتْ به. ولا دخول لبدويَّ مع حضريّ ولا شاميّ مع كمصري الكاملة في ثلاث سنين من يوم الحُحْم تَحِلُّ بأواخرها. والثُّلُث في سنة والثُّلُثان فس سنتَيْن كالنصف وثلاثة الأرباع، وحدها الذي لا يضم إليه ما بعده سبمائة. يعني إذا وجد هذا العدد من العصبة فلا يضم إليهم غيرهم

مِمَّن بعد من الموالي. وإن لم يكمل العصبة العدد يكمل الموالي وهكذا حتى يكمل، لكن ليس العدد المذكور حدًا بحيث لا يُزاد عليه فِيمن يضر بها عليه، فراجعْ خليل وشراحه إن شئت اهـ بتوضيح منه. قال رحمه الله تعالى: "ويعقل عن الذمي أهل ديوانه وتسقط بحسب الاجتهاد على قدر أحوالهم ولا يؤخذ غني بفقير والجاني كغيره" يعني أنه إذا قَتَلَ الذَّمَّيّ ذِمكَّيًا مثله خطأ فالدية يؤديها أهل ديوانه، وهي نصف دية المسلم وتقُقَسَّطُ أي تُجَزّأ، قال في المصباح: وقسطَ الخراج تقسيطًا إذا جعله أجزاء معلومة أي يجعل الإمام على كل واحد بقدر حاله وذلك على اجتهاد منه ومن ولاة الأمور، ولا يؤخذ غني بفقير ولا غائب بحاضر، ويُحْسَبُ الجاني كغيره ولا يُزاد عليه. ثم قال رحمه الله تعالى: "وعليه عتق رقبة مؤمنة كما تقدم فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ولا إطعام فيها" يعني تجب على السملم في قتله مسلمًا خطأ كفارة بعد تسليم الدية إلى أهل المقتول كما أمر الله تعالى بذلك بقوله سبحانه في سورة النساء: "ومن قتل مؤمنصا خطئاً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مُسلمة إلى أهله" [النساء: 92] وقوله تعالى: "فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين" [النساء: 92]. ولم يذكر الله تعالى في كفّارة قَتْلِ الخطأ الانتقال إلى الطعام كما ذكر ذلك في الظهار وهي مرتَّبة ومشروطة بتتابع صيامها. قال النفراوي في الفواكه: فهي مرتبة ككفارة الظهار، وجميع ما يُشْتَرِطُ في رقبة الظهار والصوم يُطْلَبُ هنا وما يُمْتَنَع هناك يُمْتَنَع هنا، فإن لم يتابع الصوم فإن أفطر عَمْدًا ابتداه، وأمَّا لو أفطر نسيانًا أو لِحَيْضٍ أو لِمَرَضٍ فلا يبتدئه ولكن يجب عليه أن يواصل صوْمَه بعد زوال المرض أو الحيض، فإن لم يستطع عَتْقًا انتظر القدرة على أحدهما؛ لأنه ليس هنا إطعام بخلاف كفارة الفطر في رمضان. تنبيه: لم يبين المصنف من تجب عليه كمفارة القتل من القاتلين وهو الحر المسلم بشرط حرية المقتول وإسلامه وعصمته. قال خليل: وعلى القاتل الحر السملم وإن صبيًا أو مجنوناً أو شريكًا إذا قتل مثله معصومًا خطأ عَتْقُ رقبة، وبعجزها

شهران كالظهار، فلا تجب على عبد ولا كافر. ولا في قَتْل غير معصوم كزانٍ محصّن ومرتد وزنديق ولا في عَبْدٍ ولا كافر وتؤخذ كفارة القتل من مال الصبي والمجنون؛ لأنها من باب خطاب الوضع كالزكاة، ولو أعسر كلّ فالظاهر انتظار البلوغ والإفاقة حتى يصوما. وإنّما وُجِبَتِ الكفّارة في قتل الخطأ مع عدم إثم القاتل لخطر أمر الدماء، وأمَّا كفّارة اليمين فإنَّما وَجَبَتْ الكفارة في قتل الخطأ مع عدم إثم القاتل لخطر أمر الدماء، وأمَّا كفّارة اليمين فإنَّما وَجَبَتْ مع عدم إثْم الحالف كالحانث بالنسيان للزجر عن التحرّي على الحِلْف اهـ. ولم يذكر الله تعالى في كتابه كفّارة العَمْد، ولذلك قال صاحب الرسالة: ويؤمَرُ بذلك أي بإخراج الكفّارة ندبًا إن عفي عنه في قَتْل العَمْد فهو خير له، لعظم ما ارتكبه من الإثم، فهو كاليمين الغموس التي لا يكفرها إلاَّ النار أو عَفْهوُ الباري، فالمطلوب منه المبادرة إلى التوبة والتقرُّب إلى الله بالكفّارة وبكلَّ ما استطاع من أنواع الخير. قال خليل: وندبت في جنين ورقيق وعَمْدٍ وعَبْدٍ وذِمَّيَّ. والمعنى أنها مندوبة في قَتْلِ الرقيق سواء كان مملوكًا له أو لغيره وكذا في قَتْل العَمْد الذي لم يُقْتَل به وكذا في قَتْلِ الذَّمَّيّ ولو قَتَلَه خطأ اهـ النفراوي ومثله في القوانين وعبارة الخرشي أنه قال: والمعنى أن القاتل الحرَّ المسلم وإن صبيًا أو مجنونًا أو شريكًا إذا قَتَل معصومًا مثله قَتْلاً خطأ فإنه يلزمه عَتْقُ رقبة مؤمنة، فإن عجز عن العَتْقِ فإنه ينتقل إلى الصوم ولا يجزئ مع قدرته على عَتْقِ الرقبة. وحُكْمُ صيام الشهرَيْن وعَتْق الرقبة حُكْمُ صيام الشهرَيْن وعَتْقُ الرقية في كفّارة الظهار، فما يُطْلَبُ هناك يُطْلَبُ هنا وما يُمتَنَعُ هنا يُمْتَنَعُ هنا اهـ باختصار. قال رحمه الله تعالى: "وتتعدد بتعدد القتلى" أي تتعدد الديات بتعدد المقتولين كما تتعدد الكفارات بذلك: فلو قَتَلَ رجلاً واحدًا خطأ للزمت الدية على عاقلته وعليه كفّارة، وإن قتل رجلَيْن كذلك فدِيَتان وعلهي كفّارتان، وهكذا ككفّارة الصيام في رمضان فإنها تتعدَّد بانتهاك حُرمة الشهر كما تقدَّم هناك. قال في المدوَّنة: على كلَّ واحد من الشركاء في دِيَة واحدة خطأ كفّارةٌ. قال الخرشي: فيلزم كلُّ واحد منهما أو منهم كفارة كاملةولو لم يخصه من الدية إلا جزء قليل؛ لأن ذلك عبادة وهي لا تتبعَّ. قال العلاّمة العدوي

في حاشيته على الخرشي: ولو تعدَّد القالت والمقتول لوَجَبَ على كلَّ واحد من القاتلين كفَارة في كلَّ واحد من المقتولين اهـ. قال رحمه اللَّه تعالى: "ولا تحمل العاقلة عمدًا ولا عبدًا ولا اعترافاً ولا قَاتِلَ نَفْسِهِ وَلاَ دُونَ الثُّلث" يعني أن العاقلةب ريئة عن خمسة أشياء لا تحمل واحدًا منها. قال في الرسالة: "ولا تحمل العاقلة قتل عمد ولا اعترافًا به وتحمل من جراح الخطأ ما كان قدر الثُّلُث فأكثر، وما كان دون الثُّلُث ففي مال الجاني، وفي موضع آخر: ومن قتل عبدًا فعليه قيمته لو زادت على دِيَة الحرَّ، ويضغْرِمها القاتل في مالِهِ سواء قَتَلَه عَمْدًا أو خطأ وفي أُخرى: ولا تعقل العاقلة مَنْ قَتَلَ نفسه عَمْدًا أو خطأ بل يكون دَمُه هَدُرًا في العَمْد اتفاقًا. وفي الخطأ على المشهورز فتلخّص أن الاعقالة لا تحمل على الجاني إلاَّ بشروط خمسة: حرية المجني عليه وكون الجناية خطأ أو حُكْمُ الخطأ بثبوت الجناية ببيَّنة أو قَسَامة لا باعتراف وبولغ الواجب ثُلثُ دِيَة الجاني أو المجني عليه وألاّ تكون الجناية من الجاني على نفسه. والدليل على ذلك كلَّه قوله صلى الله عليه وسلم "لا تحمل العاقلة عَمْدًا ولا عَبْدًا ولا اعترافًا ولا صُلحًا ولا ما دون الثُّلُث" اهـ. رواه ابن شهاب عن ابن عباس مرفوعاً. قال رحمه الله تعالى: ودية الذمي نصف دية المسلم:" يعني أن دية الذمي نصف دية الحر المسلم، سواء كان الذمي يهوديًا أو نصرانيًا كما في الموطأ عن مالك أنه بلغه أن عمر بن عبد العزيز قَضَى أن دِيَة اليهودي أو النصراني إذا قُتِلَ أحدهما مثل نصف دية الحر المسلم. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صىل الله عليه وسلم قال: عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين وهم اليهود والنصارى. رواه النسائي ولأبي داود بهذا الإسناد: دِيَة المعاهد نِصْفُ عَقْل المسلمين وهم اليهود والنصارى. رواه النسائي ولأبي داود بهذا الإسناد: دِيَة المعاهد نصف دية الحرَّ وبه أخذ مالك وجميع أصحابعه. قال ابن جزي في القوانين: وأما اليهودي والنصراني والذمي فديته نصف دية المسلم. وقال الشافيع: ثُلْثُ دِيَة المسلم. وقال أبو حنيفة: مِثْلُ دِيَة المسلِم اهـ.

قال رحمه الله تعالى: "والمجوسي ثمانمائة درهم وأنثى كل صنف نصف ذكره" يعني أن المجوسي ديته ثمانمائة درهم ونساؤهم علّى النصف من ذلك. قال خليل: والمجوسي والمرتدّ ثُلُث خُمْس دِيَة الحرَّ المسلِمك، وثُلُث الخُمْس من الذهب ستة وستون دينارًا وثُلُثا دينار ومن الإبل ستة أبعره وثُلُثا بعير فتكون دِيَة المرتدة ومثلها المجوسية من الورق أربعمائة درهم ومن الذهب ثلاثة وثلاثون دينارًا وثُلُث وثُلُث بعير اهـ النفراوي. ومثله في الدردير. قال رحمه الله تعالى: "وفي الرقيق قيمته ما لم تتجاوز دِيةَ الحر" يعني أنه يلزم على قاتل الرقيق قيمته ما لم تتجاوز دِيَة الحرَّ، لكن المعتمد لزوم القيمة ولو زادت على دِيَة الحرَّ المسلم. قال خليل: وفي الرقيق قيمته وإن زادت. قال الخرشي: يعني أن مَنْ قَتَلَ رقيقًا فإنه يلزمه قيمته ولو زادت على دِيَة الحرَّ المسلم؛ لأن الرقيق مال فهو كسلعة أتلفها شخص فتلزمه قيمتها سواء كان القتل خطأ أو عَمْدًا إلاَّ أن يكون الجاني مكافئًا له فيُقْتَل به. وعبارة الدردير أنه قال: وفي قتل الرقيق قيمته وإن زادت قيمته على دِيَة الحرَّ؛ لأنه مال كسائر الأموال المُتْلَفَة ففيها القيمة بالغة ما بلغت اهـ. قال رحمه الله تعالى: "وجناية الصبي والمجنون كالخطأ" يعني أن حُكْمَ جناية الصبي والمجنون حُكْمُ الخطأ. قال في الرسالة: وإن قَتَلَ مجنون رجلاً فالدية على عاقلته. وعمد الصبي كالخطأ وذلك على عاقلته إن كان ثُلُث الدية فأكثر وإلاَّ ففي ماله. والمراد بالصبي كلُّ مَنْ لم يبلغ ولو أنثى فجنايته كالخطأ، فلا يُقْتَصُّ منه لقوله صلى الله عليه وسلم "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ وعن الغلام حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق" أهـ بطرف من النفراوي. ولمَّا أنهى الكلام على ما تعلق في بيان ما تقدَّم من القِصاص وغيره انتقل يتكلم على أحكام الأعضاء المخصوصة بالدَّيَة الكاملة أو القِصاص على الجاني بنصص الشارع الحكيم فقال رحمه الله تعالى:

فصل في الأعضاء

فَصْلٌ في الأعضاء أي في بيان ما يتعلَّق بمسائل الأعضاء والأطراف المذكورة الواردة في الآيات والأحاديث الصحيحة عنه عليه الصلاة والسلام وهي مفصَّلة في المطوّلات. والمصنَّ اقتصر بالبيان على مراد الشارع صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله تعالى: "كل ما في البدن منه اثنان ففيهما الدية إلا الحاجبين وأهداب العينين وثندوتي الرجل وأليتيه ففيها حكومة كشعر اللحية والرأس" اعلم أنه تقدَّم الكلام فيما يتعلَّق ببعض الأعضاء والأطراف في فصل القصاص في الأعضاء عن قوله: والقصاص في الأعضاء كالنفس فراجعه إن شئت. وأمَّا ما ذكره هنا فالمعنى أن كلَّ عضو في البدن إذا كان مزدوجًا ففيه الدَّيَة الكاملة إلاَّ ما استُثْنِي من الحاجبَيْن وأهداب العينَيْن وثُنْدُوَتي الرجل وأليَتَيْه وكشعر اللحية والرأس ففيها حكومة. قال خليل عاطفًا على ما لا قصاص فيه: ولطمة وشُفرِ عين وحاجب ولحيةٍ وعَمْدُه كالخطأ إلاَّ في الأدب. وفي المدوَّنة: ليس في جفون العين وأشفارها إلاَّ الاجتهاد، وفي خلق الرأس إذا لم ينبت إلا الاجتهاد، وكذلك اللحية، وليس في عَمْدِ ذلك قِصاص، وكذلك الحاجبان إذا لم ينبت إلاَّ الاجتهاد اهـ. وفي الخرشي: شعر العينين وشعر الهدب من فوق ومن أسفل وشعر الحاجب واللحية لا قصاص فيه، وفيه الحكومة إذا لم ينبت، وعَمْدُ هذه الأشياء وخطأها سواء إلاَّ من جهة الأدب فيفترقان؛ لأنها ليست جراحات، وإنّضما وَرَدَ القِصاص في الجرح اهـ بتصرّثف. ومثله في حاشية الصاوي، والثُّندُوَة بمنزلة الثَّدْيِ للمرأة وفي قطعها حكومة كما تقدَّم. قال رحمه الله تعالى: " وقطع الأصابع كاستئصال العضو من أصله" يعني أن قطع الأصابع في اليدين أو الرجلين حُكْمُه حُكْمُ استئصال أصل العضو في لزوم القَوَد في

العَمْدِ أو الدَّيَة الكاملة في الخطأ، ففي واحدة منهما نصف دية، قال في الرسالة: وفي اليدين الديَة وكذلك في الرجلين، أي دِيَة كاملة بسبب قَطْعِهما خطأ أو عَمْدًا، وسقط القِصاص بما يسقطه سواء قَطَعَها الجاني من الكوعَيْن أو المِرْفَقَيْن أو المِنُكَبَيْن، وسواء كان قطع الرجلين من الكعب او الورك. مثل القطع إزالة المنفعة من اليدين أو الرجلين كما يأتي قول المصنف: والمنفعة كعينة اهـ النفراوي بتوضيح. انظر آخر كتاب الجراح في المدونة. وقولنا: ففي واحدة منهما نصف دية أعني في فرد كل واحدة من اليد أو الرجل نصف الدية أو القصاص على تفصيل تقدم في ذلك. قال النفراوي: فمن قطع يدًا أو رِجْلاً وسقط القِصاص فَعَليْه نِصْفُ الدَّيَة في مالِهِ أو على عاقتله في الخطأ، وكذا كل مزدوجين إلا في عين الأعور فإن فهيا الدية كما تقدم اهـ. قال رحمه الله تعالى: "وفي كل أصبع عشرة أباعر وفي كل أنملة ثلاثة وثُلُثٌ والمنفعة كعينه" يعني كما هو المشهور المفهوم في كُتُبِ الفِقْهِ والأحاديث أن دية كل أصبع من أصابع المسلم عشرة أباعر وأن دية كل أنمُلة ثلاث أباعر وثُلُث. قال مالك في الموطأ: لاأمر عندنا في أصابع الكف إذا قُطِعَتء فقد تم عقلها؛ وذلك أن الأصابع الخمس إذا كان عقلها عقل الكف فيها خمسون من الإبل في كل أصبع عشرة من الإبل. قال: وحخسابُ الأصابع ثلاثة وثلاثون دينارًا وثُلُث دينار في كل أنْمُلةٍ، وهي من الإبل ثلاثُ فرائضَ وثُلُثُ فريضة اهـ. قال في الرسالة: وفي كل أُصبع عشرٌ وفي الأنْمُلة من الإبهامَيْن خمس من الإبل. قال شارحها: يعني يجب في كل أصبع عشر من الإبل وفي الأصبع الزائدة ما في الأصلية حيث كانت مساوية للأصل في القوة سواء قَطَعَها وحدها أو مع غيرها، بخلاف الضعيفة ففيها حكومة إن قُطِعَتْ وحدها، وأمَّا لو قُطِعَتْ مع الكفّ فلا شيئ فيها. والظاهر أن اليد الزائدة فيها هذا التفصيل، ولا فرق في ذلك بين أصابع اليدين أو الرَّجْلَيْن ولا بين أصابع ذكر وأُنثى حتى تبلغ الثُّلُث لِما سيأتي من أنها

تعاقل الرَّجْل إلى ثُلُث الدَّيَة، وهذا في أصابع المسلِم وأمَّا غيره ففي كل أصبع من أصابعه عشر دِيَته، ويجب في الأنْمُلة من غير الإبهام من أنامل المسلم في كل أنمُلة ثلاث وثُلُث من الإبل ويجب في كل أنْمُلة من الإبهامَيْن للرَّجْل واليدَيْن خَمسٌ من الإبل وهي نِصْف دِيَة الأصبع، ومعلوم أن هذا كله في حالة الخطأ وأمَّا إذا هاب تلك المذكورات بجناية عضمْدًا فالواجب فيها القِصاص اهـ. النفراوي [3/ 104/] * * * قال رحمه اللَّه تعالى: "وفي العقل الدية كالصلب" يعني كما في الرسالة أي يجب في إزالة العقل الدية سواء زال بجناية عَمدًا أو خطأ، فلو فَعَلَ به فِعْلاً فصار يَجُنُّ في الشهر يومًا مع ليلته فإنه يجب له من الدَّية جزء من ثلاثين جزءًا، وإن كان يَجُنُّ النهار فقط أو الليل فقط مرّة في الشهر فإنه يكون له جزء من ستين جزءاً. قاله اللخمي. ومحلُّ العقل القلب على المشهورلا الرأس، فإذا ضربه واضحة فذهب عَقْلُه فيلزمه دِيَة كاملة للعق ونِصْفُ عشر الدَّيَة وهو دِيَة الموضحة على المشهور. وعلى الآخر لا يلزمه إلاَّ دِيَة العقل؛ لقول خليل: إلاَّ المنفعة بمحلَّها، انظر الخرشي وقوله: كالصُّلْب قال النفراوي: ظاهر كلامه لزومه الدَّيَة في كَسْر الصُّلب ولو قدر على الجلوس وهو كذلك، ومن باب أوْلَى لو فعل به فعلاً أذهب قيامه وجلوسه، وأمَّا لو ذهبت مع ذلك قوّة الجماع للزمه دِيَتان اهـ. في الدرديري: فلو كَسَرَ صُلْبه فأبْطَلَ إنعاظه فعَلَيْه دِيَتان اهـ. قال رحمه الله تعالى: " وفي تعذر بعض القيام أو المشي بحسابه كتعذر بعض الكلام" يعني ولو ضربه وتعذر قيامه أو جلوسه أو مَشْيُه فإنه يحسب ما نَقَص من ذلك، ومثل ذلك تعذر الكلام. قال خليل عاطفًا على ما فيه الدَّيَة: أو قيامه وجلوسه. قال الشارح نَقْلاً عن ابن شاس: لو ضرب صُلْبه فبَطَلَ قيامه وجلوسه وَجَبَ كما الدَّيَة، وإن بَطَلَ قيامه فقط فَرَوى ابن القاسم أن فيه كما الدَّيَة اهـ الموّاق. وأمَّا لو بَطَلَ بعض شيئ من ذلك كبعض القيام أو بعض الجلوس أو بعض الكلام فبحساب ذلك على اجتهاد

الحاكم. قال الدردير: أمَّا لو أذهب بفعل جلوسه وحده ففيه حكومة كبعض قيامه وجلوسه، خِلافًا للتتائي القائل: إن فيه الدَّيَة اهـ. قال الخرشي: وكذلك تَجِبُ الدَّيَة على مَنْ فَعَلَ بشخص فِعْلاً ذهب بسببه قيامه مع جلوسه بأن صار مُلْقَى، وفي أحدهما حكومة كما قاله الشارح، وهو الصواب تبعًا لنص المدونة، وبعبارة: أو قيامه وجلوسه معًا وكذا قيامه فقط، وأمَّا جلوسه فقط فحكومة، ولو ذهب بعض جلوسه وقيامه فالظاهر أن عليه حكومة اهـ. قال الدرديري في أقرب المسالك: وفي إذهاب العقل أو كل حاسَّةٍ أو النطق أو الصوت أو قوة الجماع أو نسله دِيَةٌ، كتدذيمه أو تبريصه أو تسويده أو قيامه أو جلوسه. قال رحمه الله تعالى: "وفي الأنف وفي الذكر الدية كالحشفة والأنثيين وفي باقيه حكومة كذكر الخصِي وَفي الشفرين الدية وفي أليتيها قيل الدية وقيل حُكومة" يعني كما في الرسالة: وفي الأنف يطع مارن الدية، والمارن هو ما لان منه [106] ويُسَمّى بالأرنبة وفيهدِيَة كاملة. قوله: وفي الذكر الدَّيَة كالحَشَفَة إلخ قال في الذخيرة: للذكر ست أحوال: تجب الدية في ثلاث وتسقط في حالة وتختلف في اثنتين، فتجب الدية في قطعه جملة أو الحشفة وحدها أو إبطال النسل منه وإن لم يبطل الإنعاظ، وتسقط إذا قُطِعَ بع قَطْعِ الحشفة وفيه حينئذٍ حكومة، ويُخْتَلَفُ إذا قُطِعَ ممَّنْ لا يصحُّ منه النسل وهو قادر على الاستمتاع أو عاجز عن إتيان النساء لصغر ذَكَرِهِ أو لعلةٍ كالشيخ الفاني. فقيل: دية وقيل: حكومة، والقولان لمالك. وفي الذكر الخَصِيّ حكومة، وأما ذكر الخُنْثى المُشْكَل فنِصْفُ دِيَة ونصف حكومة اهـ. نقله الصاوي مع طرف من الخرشي. وأما الأنثيان في قطعهما أو سلهما أو ضهما دية كاملة، وفي الواحدة نصف دية، وفي

قطعهما مع الذكر ديتان إن كان خطأ وأما عمدًا فيه القصاص. قال النفراوي: وإن قطعهما مع الذكر لزمه ديتان، وأما لو قطع أو رض واحدة من الأنثيين للزمه نصف الدية وأما لو قطع الأنثيين عمدًا لوجب القصاص اهـ. وأما الشفران تثنية الشفر بضم الشين وسكون الفاء وهو اللحم على جانبي الفرج وهما اللحمان المحيطان بالفرج المغطيان العظيم، فإذا قطع شفريها إلى أن بدا العظم من فرجها فإنهيلزمه دية كاملة. قال الدردير: وشفري المرأة أي قطع لحم جانبي فرج المرأة فيه دية كاملة إن بدا العظم، فإن لم يظهر العظم فحكومة، وفي أحد الشفرين وإن بدا العظم نصفه دية. وأما أليتاها إذا قطعتا اختلف فيهما أهل المذهب: قيل بالدية وهو قول أشهب، وقيل فيهما حكومة قياسًا على اليتي الرجُل، وهو قول الأكثر. ق 4 ال الخرشي: يعني أن أليتي المرأة إذا قطعتا فإنما فيهما الحكومة قياسًا على أليتي الرجل، وهذا إذا كان خطأ، وأ/اإن كان عمدًا ففيه القصاص اهـ. قال رحمه الله تعالى: "وفي السن خمسة أباعر سقطت أو اسودت فغن سقطت بعد اسودادها فدية ثانية" يعني في قلع السن خمس من الإبل. قال في الرسالة: وفي السن خمس. قال الشارح: أي بقلعها أو تصييرها مضطربة جدًا أو تسويدها أو تحميرها أو تصفيرها حيث كان تصفيرها يذهب جمالها كالسواد سواء كانت من مقدم الفم أو مؤخره، فلو ردت السن وثبتت فإن كانت سن كبير وهو من بلغ حد الإثغار فإنه لا يسقط عقلهما، كالجراحات الأربع المقرر فيها شيئ من الشارع من موضحة وجائفة ومنقلة، وتبرأ على غير شين، فلا يسقط عقلها، وأما سن الصغير فإنه يوقف عقلها حتى يحصل اليأس كالقود ممن قلعها عمدًا ووجود الخُمس في السنَّة من السنة اهـ. قال الدردير: وفي كل سن نصف العُشر بقلع أو اسوداد أو بحمرة أو صفرة إن كانتا في العُرف كالسواد اهـ وإليه أشار خليل بقوله: وفي كل سن خمس وإن سوداء بقلع أو اسوداد أو بهما أو بحمرة او

بصفرة إن كانتا عُرفًا كالسواد جدًا، إن ثبتت لكبير قبل أخذ عقلها أخذه كالجراحات الأربع اهـ. قوله: فإن سقطت بعد اسودادها فدية ثانية أشار بما في الموطأ عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: إذا أُصيبت السن فاسودت ففيها عقلها تامًا فإن طُرحَتْ بعد أن اسودّت ففيها عقلها أيضًا تامًا اهز قال مالك: والأمر عندنا أم مقدم الفم والأضراس والأنياب عقلها سواء؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: في السن خمس من الإبل، والضرس سن من الأسنان لا يفضل بعضها على بعض اهـ. قال رحمه الله تعالى: "وفي المأمومة ثُلُثُ الدَّيَةِ كالجائفة وفي المنقلة عُشر ونصف عُشر وفي الموضحة نصف العُشر" يعني أ، هذه الجراحات الأربع عقلها مقرر من الشارع لا يُزاد ولا يُنْقَص. أولها المأمومة فهي التي وصلت إلى الدماغ ولم يخرق خريطته، وعبارة الدردير: وآمة بفتح الهمزة ممدودة وهي ما أفضت لأم الدماغ، وأ/ الدماغ جلدة رقيقة مفروشة عليه متى انكشف عنه مات. ففيها ثلث الدية ثلاثة وثلاثون بعيرًا وثلث بعير، ومن الذهب ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون دينارًا وثلث دينار ومن الفضة أربعة آلاف درهم، ومثل ما أخذ في المأمومة يؤخذ في الجائفة وهي ثانية من الجراحات الأربع التي تقدم ذكرها ووصلت إلى الجوف من الظهر أالبطن، ولو قدر مدخل الإبرة فإن نفذت إلى الجانب الآخر تعدّدت. قال خليل: وتعدد الواجب بجائفة نفذت كتعدد الموضحة والمنقلة والآمة إن لم تتصل وإلا فلأن وإن بفور في ضربات. قال الخرشي: تقدم أن الجائفة خاصة بالبطن وبالظهر وتقدم أن الواجب فيها ثُلُث الدية فإذا ضربه في ظهره فنفذت إلى بطنه أو بالعكس أو في جنبه فنفذت إلى الجنب الآخر فغن الواجب فيها يتعدد فيكون فيها دِيَة جائفتينن كخما أن الواجب في الموضحة والمنقلة والآمة يتعدد بتعدد موجبه، أما تعدد الواجب في الموضحة فإنما يتعدد إذا كان ما بين الموضحتين سالمًا لم يبلغ العظم بل كانت كل واحدة منهما منفصلة عن الأخرى وكذا ما بعدها من منقلة ومأمومة

لم تبلغ أم الدماغ، أما إذا كان ما بينهما وصل إلى العظم أو إلى أُم الدماغ بأن كانت واحدة متسعة فليس ف يها إلا دية واحدة، وسواء كان ذلك من ضربة واحدة أو ضربات في فور واحد اهـ. وثالثتها المنقلة وهي التي تكسر العظيم فيطير مع الدواء وفي عبارة: هي ما أطار فراش العظم ولم تصل إلى الدماغ وتُسمى الهاشمة ففيها عُشر ونصف: خمسة عشر بعيرًا. أو مائة وخمسون دينارًا. أو ألف وثمانمائة درهم فضة. قال مالك: والأمر عندنا في أن المنقلة خمس عشرة فريضة قال: والمنقلة التي يطير فراشها من العظم ولا تخرقُ إلى الدماغ وهي تكون في الرأس وفي الوجه. عَمْدُها وخطؤها سواء؛ لأنها من المتالف حيث كانت بالرأس أو باللحى الأعلى، ولا يقثتص من عمدها لعظم خطرها، ومثلها يقال في الآمة اهـ النفراوي وبتوضيح من الدردير. ورابعتها الموضحة وهي ما أوضح العظم بأن أزال ما عليه من الجلد واللحم. قال الدردير: واقتصر من الموضحة وهي ما أوضحت عظم الرأس أو الجبهة أو الخدين، فما أوضحت عظم غير ما ذكر ولو بالوجه لا يُسَمّى موضحة عند الفقهاء، أما إذا ظهر العظم مما ذكر ولو بقدر مغرز إبرة ففيها قصاص في العمد أو دية في الخطأ وهي خمس من الإبل وهو نيصف عشر الدية. قال في الرسالة: وفي الموضحة خمس من الإبل وليس فيما دون الموضحة إلا الاجتهاد وكذلك في جراح الجسد، والأصل في ذلك ما في الموطأ قال مالك: الأمر عندنا أنه ليس فيما دون الموضحة من الشجاج عقلٌ حتى تبلغ الموضحة، وهذا العقل في الموضحة فما فوقها، وذلك أن رسل الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى الموضحة، في كتاب لعمرو بن حزم فجعل فيها خمسًا من الإبل؛ ولم تقض الأئمة في القديم ولا في الحديث فيمادون الموضحة بعَقْل اهـ. قال رحمه الله تعالى: "وفي باقي الجراح والشجاج حكومة" فالمراد بالحكومة الحُكْمُ أي المحكوم به، فالمعنى أن فيما دون الموضحة من جراحات الجسد وغيرها مما

لا قصاص فيه حكومة وهي المسمّاة بالاجتهاد فيما لم يرد فيه نص من الشارع، هذا ف يالخطأ وأمّا ف يالعَمْد فقد تقدم أنه فيه القصاص. قال العدوي في حاشيته على كفاية الطالب: وكيفية الاجتهاد في ذلك أن يقوم عبدًا سالمًا من ذلك الجرح على صفته التي هو عليها يوم الجناية من حُسْن أو قُبْح بعشرة مثلاً ثم يقوم ثانيًا معيبًا بتسعة، والتفاوت بين القيمتين بالعشر فيجب على الجاني بتلك النسبة من الدية وهو عشر الدية في هذا المثال وكل ذلك بعد البرء اهـ. ومثله في الخرشي بزيادة إيضاح نظره عند قول خليل: وفي الجراح حكومة إلخ. قال النفراوي عند قول الرسالة: وليس فيما دون الموضحة أي من الجراحات الست إذا كانت خطأ إلا الاجتهاد وهو الحكومة بأن يقوم المجني عليه بعد برئه خوف أن يترامى إلى النفس أو إلى ما تحمله العاقلة عبدًا سالمًا من ذلك الجرح على صفته التي هو عليها يوم الجناية من حُسْن أو قُبْح بعشرة مثلاً ثم يقوم ثانيًا معيبًا بتسعة، فالتفاوت بين القيمتين بالعشر، فيجب على الجاني بتلك النسبة الدية وهو عشر الدية في هذا المثال اهـ كما تقدم. قال رحمه الله تعالى: "وفي العبد ما نقص من قيمته إلا اشجاجة الأربع ففيها من قيمته نسبتها من الدية" قال خليل كما في الدردير: والقيمة للعبد في [109] الجراحات الأربع كالدية ررح، فكما يؤخذ في موضحه الحر نصف عُشر ديته يؤخذ في العبد نصف عُشر قيمته، وفي جائفته أو آمته ثُلُثُ قيمته، وهكذا، فإن جرح في يده أو غيرها من غير الجراحات الأربع فليس فيه إلاَّ ما نَقَصَ من قيمته. قال الصاوي: بعد حصول البرء على شين وإلاَّ فلا شيئ ف يها أصلأن بخلاف الجراحات الأربع فلا ينقص يها القدر المفروض وإن بُرِئَت على غير شين كما تقدم. وحاصله أن جراحات العبد غير الأربع إن بُرِئت على شين يقوم سالمًا وناقصصاوينظر ما بين القيمتين ويؤخذ له بنسبة ما بين القيمتين على حَسَبِ ما يقول أهل المرعفة. ومثله في الخرشي. انظر أوائل كتاب الديات في المدونة.

قال رحمه الله تعالى: "والمرأة كالرجل ما لم تبلغ الثلث فترجع إلى عقلها ففي ثلاث أصابع ثلاثون بعيرًا وفي أربع عشرون وفي جائفتها ومأمومتها ثُلُثُ ديتها كَثَلاَثِ أَصَابعَ وَأَنْمُلَةٍ بِضَرْبةٍ" يعني كما قال الدردير: وساوت المرأة الرجل لثُلُث ديته، فترد لديتها إن اتحد الفعل ولو حُكْمًا مُطْلَقًا كالمحل في الأصابع فقط، يعني أن المرأة تساوي الرجل من أهل دينها إلى ثُلُث ديته فترجع حينئذ لديتها، فإذا قُطِعَ لها ثلاث أصابع ففيها ثلاثون من الإبل فإذا قطع لها أربع أصابع ففيها عشرون من الإبل؛ لرجوعها إلى ديتها، وهي على النصف من دية الرجل من أهل دينها، والمرأة كالرجل في منقلتها وهاشمتها وموضحتها ولا تكون مثله في جائفتها وآمتها، لأن في كل ثُلُث الدية فترجع فيهما لديتها فيكون فيهما ثُلُث ديتها ستة عشر بعيرًا وثُلُث بعير اهـ الخرشي. واختصر فيه عبارة الرسالة قال: وتعاقل المرأة الرجل إلى ثُلُث دِيَة الرجل فإذا بلغتها رجعت إلى عَقْلِها. أي إلى قياس دِيَتِها، ومثال ذلك أن يقط ع للمرأة المسلمة ثلاث أصابع ففيها ثلاثون بعيرًا؛ لمساواتها للرجل فيما يقصر عن ثُلُث دِيَتِه، وإذا قُطِعَ لها أربع أصابع ففيها عشرون بعيرًا،؛ لأنها لو ساوته للزم أن يجب لها أربعون، وذلك أكثر من ثُلُث دِيَته، فلذلك رجعت إلى نصف الواجب للرجل وهو عشرون، وعلى هذا إجماع أهل المدينة والفقهاء السبعة اهـ أبو الحسن ومثله في النفراوي ثم شرع في بيان ما يجب في الجنين. فقال رحمه الله تعالى: "وفي جنين الحرة المسلمة تطرحه بضرب بطنها غرة عبد أو وليدة قيمتها عشر دية أمة والأمة من زوج عشرة قيمتها ومن سيد نصف عشر ديته كمزوجة المسلم الكتابية ومن الكافر كالمسلمة وتتعدد بتعدد الأجنة فإن خرج حيًا فله حُكْمُ نَفْسِهِ" قال في الرسالة: وفي جنين الحرّة غرة عبد أو وليدة تقوم بخمسين دينارًا أو ستمائة درهم وتورث على كتاب الله، قال شارحها:

والمعنى أن كل من تسبب في إنزال جنين من بطن أمه ونزل غير مستهل كما قدمنا فإنه يلزمه لمن يرثه عُشْرُ واجب أمَّة من النقد الحال أو يدفع في جنين الحرة عبدًا أو جارية تساوي عُشْرَ دِيَة أمَّة ولو كان سبب نزوله شمَّها رائحة حيث طلبت من ذي الرائحة شيئًا ولم يَعْطِها أو عَلِمَ بحَمْلِها وبأنّ عدم تناولها منه يسق جنينها وألقَتْ ما في بطنها فإنه يضمن ولو لم تطلب منه ولو كان الجنين دمًا مجتمعاً بحيث إذا صب عليه الماء الحار لا يذوب؛ لأن العلقة عندنا في باب الغرة والعدة وأم الولد حكم المتخلق، لكن يشترط في لزوم الغرة شهادة البينة أن إنزال الجنين من هذا السب بأن عاينتها لزمت الفراش إلى أن انفصل منها غير مستهل وهي حية أما لو نزل مستهلاً فإن الواجب فيه الدية كاملة بشرط القسامة ولو مات عاجلأن وقولنا وهي حية للاحتراز عما لو انفصل عنها غير مستهل بعد موتها أو بعضه في حياتها وبعضه بعد موتها فإنه يندرج فيها، والدليل على ما ذكرنا ما في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين يقتل في بطن أمه بغرة: عبد أو وليدة وفي رواية له: أن امرأتين من ذيل رَمَتْ إحداهما الأخرى فطرحت حنينها فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو وليدة اهـ النفراوي. قال مالك: وسمعت أنه إذا خرج الجنين من بطن أمه حيًّا ثم مات أن فيه الدية كاملة قال: "ولا حياة لجنين إلا باستهلال فإذا خرج من بطن أمه فاستهل ثم مات ففيه الدية كاملة"، ونرى أن في جنين الأمة عشر ثمن أمه اهـ. فالعبرة فيه عُشْرُ قيمة الأمّ إن كانت أمَة أو عُشْرُ دِيَتها إن كانت حرة. قال في المدوَّنة: لا يُلتفت في جنين الأمَة إلى والده عَبْدًا كان أو حرًّا إنَّما فيه عِثْرُ قيمة أمه وهو قول مالك إلاَّ أنه قال في جنين أم الولد: إذا كان من سيدها أن فيه ما في جنين الحرة اهـ. قال في الرسالة: وفي جنين اللأمَة من سيَّدها ما في جنين الحرّة وإن كان من غيره ففيه عشر قيمتها أي الأم ولو زاد على الغرة. قال لخليل: والأمَة من سيدَّها والنصرانية من العَبْد المسلم كالحرة. أي وجنين الأمة من سيدها الحر المسلم

كجنين الحرة المسلمة ففيه عُشْرُ دِيَتها وكذلك اليهودية أو النصرانية من العبد المسلم يتزوجها كجنين الحرّة المسلمة؛ لأخذه الحرّية من أمَّه والإسلام من أبيه: وعبارة الدردير أنه قال: وفي الجنين وإن عَلَقَة عُشْرُ أمَّ ولو أمَة أو جنى أب نقدًا معجلاً أو غرّة: عبد أو وليدة تساوي العُشْر إن انفصل عنها ميتًا وهي حية، فإن ماتت قبل انفصاله فلا شيئ فيه وإن استهل فالدية إن اقتسموا وإن مات عاجلاً. أشار لما في المدونة من قولها: ما فَرْقُ ما بين الجنين إذا ضُرِبَتْ أمُّه ف ألْقَتْه ميتًا قال مالك: فيه دية الجنين بغير قَسَامة خطأ كان أو عَمْدًا، وإذا ضربها فألقته حيًّا فاستهل صارخًا ثم مات بعد ذلك قال: فيه القسامة وديته على العاقلة. قال مالك: لأن الجنين حين خرج ميتًا بمنزلة مَنْ ضُرِبَ فمات ولم يتكلم، وأنه إذا خرج حيًّا فمات بعدما استهل فهو بمنزلة رجل ضُرِبَ فتكلم وعاش أيامًا ثم مات ففيه القَسَامة، والذي لم يتكلم حتى مات فلا قَسَامة فيه، وكذلك الجنين إذا خرج ميتًا فلا قَسَامة فيه، وأمَّا إذا خرج حيًا قد استهل ثم مات فلا يدري أمِنْ ضَرْبَتِه مات أو من غير ذلك من شيئ عرض له بعد خروجه ففيه القَسَامة اهـ. وأمَّا قوله رحمه الله تعالى: وتتعدد بتعدد الأجنة يعني تتعدد الديات في الاجنة على تفصيل متقدم: فتلزم الغُرّة في كلِّ أم حرّة أو عُشْر قيمة كل أمَة ضُرِبَتْ فألْقَتْ ولدها ميتًا مطلقًا عَمْدًا أو خطأ في وقت واحد أو في أوقات وسواء في بطن واحدة أو بطون متعددة وقد تقدَّم قوله رحمه الله تعالى: وتتعدَّد بتعدُد القتلى أي تتعددَّ الدَّيَات بتعدُّد المقتول قال خليل: وتعدّد الواجب بتعدُّده أي الجنين فراجِعْه إن شئت، والله أعلَم بالصواب اهز ولمَّا انهى الكلام على ما تعلَّق بالدَّيَات في الأعضاء والأطراف وغيرهاانتقل يتكلم فيها يتعلَّ بأحكام القَسَامةوشروطها وما يلزم الأولياء من القِسْم أو النكول فقال رحمه الله تعالى:

فصل في القسامة

فَصْلٌ في القَسَامة أي في بيان ما يتعلَّق بأحكام القَسَامة وشروطها ولوازمها المعتبرة التي لا تصحُّ إلاَّ بها. والقَسَامة جمع قِسْم وبالمعنى: الأيمان جمع يمين وهي الحِلفْ على الشيئ لغثبات الحق فيه وهي هنا خمسون يمينًا بالله الذي لا إله إلا هو لاستحقاق الدَّم، ولها شروط معتبرة. قال رحمه الله تعالى: "شرط الحكم بالقسامة حرية المقتول وإسلامه والجهل بعين القاتل واتفاق الأولياء على القتل رجلين فصاعدًا" يعني قد ذكر الشيخ في هذه الجملة أن للقَسَامة شروطَا خمسة: الأول: أن يكون المقتول حرًا، فلا قسامة إذا كان المقتول عبدًا، الثاني: أن يكون مسلمصا ولا قسامة إذا كان كافرًا ولو ذميًا، الثالث: أن يكون عين القاتل مجهولأن الرابع: أن يتفق أولياء الدم في القتل، وإذا اختلفوا في أصل القتل أو شكوا فيه أو في عَمْدِه وخطئه فلا قسامة، الخامس: أني كون الذين حضروا لاقَسَامة من ولاة الدم رجلَيْن فصاعدًا. قال مالك: ولا يقسم في قَتْلِ العَمْد من المدَّعين إلاَّ اثنان فصاعدًا فتردُّ الأيمان عليهما حتى يخلِفا خمسين يمينًا ثم قد استحقا الدم وذلك الأمر عندنا اهـ الموطأ. قال رحمه الله تعالى: "أو قيام اللوث وهو شهادة عدل بالقتل أو برؤية حامل السلاح بقرب المقتول أ, قول المقتول: فلان قتلني أو دمي عند فلان أو جماعة مجهولو العدالة" يعني أ، قيام اللوث من أسباب القسامة. قال في أقرب المسالك: وسبب القسامة قتل الحر المسلم بلوث كشاهدين على قول حر مسلم بالغ: قتلني أو جرحني أو ضربني فلان أو دمي عنده عمدًا أو خطأ. قال الشارح: ذكر خمسة أمثلة للوث أولها

قوله: حر مسلم بالغ إلخ وشهد على إقراره - أنه قتله فلان - عدلان واستمر على إقراره وكان به جرح أو أثر ضرب أو سمّ. قال الصاوي: قوله أولها إلخ، وثانيها: شهادة عدلين على معاينة الضرب أو الجرح أو أثر الضرب، وثالثها: شهادة واحد على معاينة الجرح أو الضرب، ورابعها: شهادة واحد على معاينة القتل، وخامسها: أن يوجد القتيل وبقربه شخص عليه أثر القتل أهـ. قال الدردير ومثله في المختصر: وليس منه وجوده بقرية قوم أو دارهم ولو مسلمًا يوجد بقرية كفّار؛ لجواز أن يكون قتله غير أهل القرية والدار ورماه عندهم حيث كان يخالطهم غيرهم في الدار وإلاَّ كان لوثًا يوجب القسَامة كما جعل صلى الله عليه وسلم القسَامة لا بنَيْ عمْ عَبد الله بن سهل حيث وجد مقتولاً بخيبر؛ لأن خيبر مكان لا يخالط اليهود فيها غيرهم اهـ. وعبارة ابن جزي في القوانين أنه قال: المسألة الثالثة في شروط القسامة هي ثلاث: أن يكون المقتول مسلمصا وأن يكون حرًا، فلا قسامة في قتل الذمي ولا العبد، والثالث اللوث، ولا تكون القسامة إلا مع لوث، وهو أمارة على القتل غير قاطعة، وشهادة الشاهد العدل على القتل لوث، واختلف في شهادة غير العدل وفي شهادة الجماعة إذا لم يكونوا عُدُولاً. وفي شهادة النساء والعبيد وشهادة عدلين على الجرح لوث إذا عاش المجروح بعد الجرح وأكَلَ وشَرِبَ. واختلف في شهادة عدل واحد على الجرح وفي شهادته على إقرار القاتل هي يُقسم بذلك أم لا. ومن اللوث أن يوجد رجل بقرب المقتول معه سيف أو شيئ من آلة القتل أو متلطخًا بالدم، ومن اللوث أن يحصل المقتول في داره مع قوم فيقتل بينهم أو يكون في محله قوم أعداء له. ومن اللوث عند مالك وأصحابه التدمية في العمد وهو قول المقتول: فلان قتلني أو دَمِي عند فلان، سواء كان المدعي عدلاً أو مسخوطًا، ووافقه الليث بن سعد في القَسَامة بالتدمية وخالفهما سائر العلماء. واختلف في المذهب في كون التدمية في الخطأ لوثًا على قولين اهـ. وأما قوله: أو جماعة مجهولو العدالة أي دمي على هذه الجماعة أو تلك الجماعة، فالمعنى أنه إذا كان

المدعى عليهم بالقتل عمدًا جماعة مجهولي العدالة ولم يثبت عليهم جميعًا مباشرة قتله ولا التمالؤ على قتله فإن الأولياء يعينون واحدًا باختيارهم ويقسمون على عينة ويقولون في القسامة لمات من ضربه لا من ضربهم؛ ففي الموطأ لم تعلم قسامة إلا على واحد وذلك لضعفها؛ ولأنه لا يعلم هل قتله الكل أو البعض فالمحقق واحد، والذي يترك من هؤلاء الجماعة يضرب مائة ويحبس سنة. هذا هو المشهور من المذهب كما تقدم قاله النفراوي اهـ. وفي الرسالة: ولو ادعى القتل على جماعة خَلَفَ كلُّ واحد خمسين يمينًا ويخلِف من الولاة في طلب الدم خمسون رجلاً خمسين يمينًا، وإن كانوا أقلَّ قُسِمَتْ عليهم الأيمان، ولا تحلف امرأة في العمد اهـ. وفي الخطاب قال ابن رشد في نوازله: إذا كان للوث شهود غير عدول أو تعرف جرحتهم أو تتوهم فيهم الجرحة فلا اختلاف في أنه لا يجب على المشهود عليهم بشهادتهم ضرب مائة سوط وسجدن عام. وإنما يجب عليهم بشهادتهم السجن الطويل رجاء أن توجد عليه بينة عادلة، وأما إن كانوا مجهولين لا يعرفون بجرحة ولا عدالة فيجب عليه الضرب والسجن إن عفى عنه قبل القسامة أو بعدها، على القول بوجوب القسامة في ذلك، ولا يجب عليه ضرب مائة وسجن عام، على القول بسقوط القسامة مع ذلك، وقد اختلف في ذلك قول مالك. انظره في الحطاب عند قول خليل: أو نكول المدعي على ذي اللوث وحلفه. قال رحمه الله تعالى: "لا النساء وأثبتها ابن القاسم" يعني أ، شهادة النساء لا يثبت بها اللوث ولا توجب القسامة، وأثبتها ابن القاسم. قال الموّاق نقلاً عن ابن يونس: روى ابن وهب عن مالك: شهادة النساء لَوْث. وفي الفواكه للنفراوي: ومثل شهادة العضدْل شهادة المرأتين في كل ما يكفي فيه شهادة العدل. قال ابن جزي: شهادة العدل شهادة المرأتين في كل ما يكفي فيه شهادة العدل. قال ابن جزي: شهادة الشاهد العدل على القتل لوث. واختلف في شهادة غير العدل وفي شهادة الجماعة إذا لم يكونوا عدولاً وشهادة النساء والعبيد اهـ. وهذا كل يقتضي تأييد ما ذهب إليه ابن

القاسم من أن اللوث يثبت بشهادة النساء ويوجب بها القسامة، خلافًا لجمهور أهل المذهب. قال في الرسالة: ولا تحلف امرأة في العمد. قال شارحها: أي لا تحلف امراة في إثبات قتل العمد؛ لعدم صحة شهادة النساء فيه وإن انفردن. قال خليل: ولا يحلف في العمد أقل من رجلين عصبة وإلا فموالٍ، فإن لم يوجد للمقتول إلا عاصب فيلزمه الاستعانة بعاصبه الأجنبي من المقتول، كما إذا ثُتِلَتْ أُمّه فإن له الاستعانة بعمه فإن لم يستعن أو لم يجد من يستعين به فالأيمان تُرَدُّ على الجاني، فإن حَلَفَ بَرِئ وإ، نَكَلَ حُبِس، ولا يطلق ولو طال حَبْسُه، وعند انفراد النساء يصير المقتول بمنزلة مَنْ لا وارث له، فتُرَدُّ الأيمان على المدّعى عليه. والأصل في ذلك قوله تعالى: وَمَن قُتِلَ مَظلوُمَا فقَد جَعَلنا لِوَلِيِهِ سُلطَنًا" [الإسراء: 33] والوليّ رجل؛ لقوله علهي الصلاة والسلام: "لا نكاح إلا بولي" ولأنه عليه الصلاة والسلام خاطب الرجال بقوله: "أتحلف لكم يهود" في حديث حويصة ومحيصة المتقدم، ولم يسأل النساء. وأما الخطأ فيحلف فيه كل مَنْ يَرِثُ ولو امرأة، ولذا قال: وتحلف الورثة في الخطأ بقدر ما يرثون من الدية من رجل أوامرأة. قال خليل: ويحلفها في الخطأ من يرث وإن واحدًا أو امرأة. * * * وتحلف الأيمان كلها ولا تأخذ إلا فرضها، ومثلها الأخر للأم. وهذه الأدلة تقتضي عدم إثبات اللوث بشهادة النساء. قال مالك في الموطأ: الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أنه لا يحلف في القسامة في العمد أحد من النساء، وإن لم يكن للمقتول ولاة إلا النساء فليس للنساء في قتل العمد قسامة ولا عفوَّ اهـ. وهذا نص في المسألة ومثله في المدونة، والقلب أميل إليه، والله أعلم بالصواب. قال رحمه الله تعالى: "فيقسم الأولياء بعد ثبوت اللوث خمسين يمينًا رجلان فصاعدًا من العصبة تفض الأيمان في العمد على عددهم ويجبر الكسر على جميعهم فإن كانوا أكثر فقيل يحلف خمسون وقيل جميعهم" هذا ظاهر من أن أولياء

الدم لا يقسمون إلا بعد ثبوت اللوث وأنهم يقسمون بعد ثبوته خمسين يمينًا تمامًا، ولا يجزئ أقل من رجلين من العصبة في قتل العمد، وإذا كانوا خمسين رجلاً يحلف كل واحد منهم يمينًا، وإن كانوا أقل من ذلك فإنها تفض بينهم ما كانوا ولو رجلين. فإن كانوا أكثر من خمسين رجلاً يكتفي بأقل العدد المجزئ وهو اثنان، فيحلف كل واحد منهما خمسًا وعشرين يمينًا، فإن كانوا خمسة حلف كل واحد عشر أيمان فهكذا، وإن حصل انكسار أي انكسرت الأيمان عليهم فإنه يجب تكميل الكسور، بأن يحلفها أكثرهم نصيبًا كابن وبنت، فالمسألة من ثلاثة؛ لأن الذكر برأسين فيخُّصه من الخمسين ثلاث وثلاثون وثُلُث يمين، ويخص البنت ستُّ عشرة وثُلُثًا يمين، فتحلفها البنت؛ لأن الكسر من طرفها أكثر. قال خليل: وجُبِرَتِ اليمين على أكبر كَسَرها، وإلاَّ فعلى الجميع. ولا يأخذ أحد إلاَّ بعدها اهـ النفراوي بتوضيح. قال رحمه الله تعالى: "فإن نكلوا إلا اثنين حلفا واستحقا نصيبهما من الدية وقيل بر ترد الأيمان كالواحد فيحلف المدعى عليه خمسين" يعني إذا حضر الأولياء في القسامة ونكلوا عن اليمين إلاَّ رجلَيْن فإنهما يحلفان خمسين يمينًا ويستحقا نصيبهما من الدَّيَة. قال ابن جزي في القوانين: المسألة الثانية في الحالف وهم أولياء المقتول، فإن كان في قَتْلِ العَمْد فلا يَحْلِفُ النساء ولا الصبيان ولا رجل واحد، وإنَّما يَحْلِفُ رجلان فأكثر، تُقْسَمُ الأيمان بينهم على عددهم فيستحقون القصاص، فإن نكلوا عن الأيمان رُدَّت الأيمان على المدّعى عليه، فيَحْلِفُ خمسين يمينًا أنه ما قَتَل، فإن نَكَلَ بعض الأولياء ففيها قولان، قيل: يَحْلِفُ مَنْ بقي منهم ويأخذ نصيبه من الدَّية؛ لأن القَوَد قد سقط بالنكول. وقيل: تُرَدُّ اليمين على المدَّعى عليه، فغ، نكل حُبِسَ حتى يَحْلِفَ، فإ، طال حَبْسُه تُرِكَ وعلهي جلد مائة وحَبْسُ عام اهـ. قوله: وقيل: بل تُرَدُّ الأيمان إلخ قال في الرسالة: وإذا نكل مدعو الدم الحلف المدّعى عليهم خمسين يمينًا.

فإن لم يجد مَنْ يحلف من ولاته منه غير المُدعى عليه وحده حَلَفَ الخمسين: وقال شارحها: إذا حَلَفَ خمسين يمينًا برئ من القتل، وإن نكل حُبِسَ حتى يَحْلِفَ، ولا يُطْلَق ولو طال حَبْسُه كما تقدَّم. قال رحمه الله تعالى: "ويُضْرَبُ مِائَةً وَيُحْبَسُ سَنَةٍ كَمَا لَوْ عُفِيَ عَنْهُ فِي العَمْدِ فَإِنْ نَكَلَ حُبِسَ حَتّى يَحْلِفَ: يعني إذا ردّت الأيمان في القسامة بنكول أولياء الدم فَحَلَفَ المدَّعى علهي خمسين يمينًا برئ من القتل وأنه يُضْرَبُ مائة سوٍ ثم يُحبَسُ سنةّ كما لو عُفِيَ عنه في قَتْلِ العَمْد. وفي نسخة: كما لو عُفِيَ عنه في الحمل، والصواب ما أثبتناه، فإن نكل حُبِسَ حتى يَحْلِفَ أو يموت في الحُبْس. قال الدردير: ومن نكل على المدّعى عليه بالقتل حُبِسَ حتى يَحْلِفَ خمسين يمينًا أو يموت في السجن حيث كان متمرّدًا، وإلاَّ فبعد سنة يُضْرَب مائة ويُطْلَق كما في عّبْ البقاي، ولكن الذي ي التوضيح لا يُطْلَق حتى يحْلِفَ أو يموت مطلقًا ورجَّحَه الأشياخ اهـ. قال خليل: وعلهي مطلقاً جلدًا مائة ثم حبس سنة وإن بقتل مجسوسي أو عَبْده أو نكول المدّعي على ذي اللوث وحِلفِه. قال الشارح: يعني أ، الشخص الباغل رجلاص أو امرأة حرًّا كان أو عَبْدًا مسلِمًا كان أو ذميًا إذا قتل غيره عَمْدًا ولو مجوسيًّ أو عَبْدًا لغيره أو له يوجب عليه جَلْدُ مائة وحَبْسُ عام من غير تغريب أي يحث عُفِيَ عنه أو قتل مَنْ لا يكافئه، وكذلك يلزم المدَّعى عليه المقام عليه لَوْث بالقتل جَلْدُ مائة وحَبْسُ سنة إذا حَلَفَ خمسين يمينًا بعد نكون المدّعى رعيًا للوث اهـ الخرشي. قال النفراوي في الفواكه: قال خليل: وعليه أي القاتل مطلَقًا جلد مائة ثم حَبْسُ سنة وإن بقتل مجوسي أو عضبْد. ويستفاد من كلام اللاّمة خليل أن الضرب مقدَّم على الحَبْس، ولا فرقَ بين كون القاتل ذكرًا أو أنثى حرًّا أو عَبْدًا، وإنَّما يُشْتَرَط في تأديبه تكليفه؛ فإن عمل الصاحباة رضي الله عنهم، مضى على ذلك. وقد خرج الدارقطني أن رجلاً قَتَلَ عَبْدَه فجَلَدَه النبي صلى الله عليه وسلم مائة جلدة ونَفاه سنة ومحا سهمه

من المسلمين. وصحَّح هذا الحديث ابن القطان، فينبغي للمالكي التعويل عليه؛ لأنه حجة للمذهب في قاتل العَبْد العدوان إذا سقط عنه القتل بعفو أو عدم مكافأة، ولعلَّ قول بعض شراح خليل وبعض شراح هذا من غير تغريب وإنَّما يُحْبَسُ في بلده مبني على عدم التعويل على هذا الحديث وعدم الوقوف عليه اهـ. قال رحمه الله تعالى: "ولا يقتل بالقسامة إلا واحد يُعينُهُ الأولياء ويقسمون عليه ويجلد كل من الباقين ويحبس كما تقدم" يعني أنه تقدَّم الكلام فيما لو ادعى القتل على جماعة حَلَفَ كلُّ واحد خمسين يمينًا، وتقدَّم أيضًا كما فيالرسالة أنه لا يُقْتَل بالقَسَامة أكثر من رجل واحد. قال الدردير في أقرب المسلاك: ولا يُقْسَم [3/ 116/] فيه إلاَّ على واحد يعيَّن لها أي للقَسَامة يقولون في الأيمان لَمَنْ ضربه مات لا من ضربهم، ولا يقتل بها أكثر من واحد، فإن استَوَوْا في القتل العَمْد كحَمْل صخرة ورَمْيها عليه فمات فيقسمون على الجميع ويختارون واحدًا للقتل بحيث رُفِعَ حيًا وأكل ثم مات، فلو مات مكانه أو أنفذ مقاتله قُتِلَ الجميع بدون قَسَامة اهـ. مع طرف من الصاوي عليه. وما ذكرناه من أ، هم يختارون واحدًا للقتل بعد القَسَامة على الجميع وهو قول الأشهب. والمشهور أ، هم يختارون واحدًا يحْلِفون عليه ويعيَّنونه للقتل في العَمْد، ولا شئ على غيره سوى ضرب مائة وحبس سنة كما تقدم. "فلو قال بعضهم عمدًا وبعضهم خطأ حلفواولزمت الدية ولو قال بعضهم لا نعلم قتله وقال بعضهم خطأ حلفوا وأخذوا أنصباءهم" يعني إذا اختلف أولياء الدَّم بأن قال بعضهم: عَمْدًا وقال الآخرون: خطأ أو قال بعضهم: لا نعلم قتله هل كان عمدًا أو خطأ فالأولان يحلفان، أي لزمتهم جميع الأيمانن فيحلِف كلواحد من الفرقتين علىطبق دعواه، فإذا حلفوا خمسين يمينًا استحقوا الدية جميعًا. وأمَّا الفرقة الثالثة التي قال بعضها لا نعلم قتله وقال بعض خطأ فالتي قالت خطأ تحلف وتستحق نصيبها من الدية والتي قالت لا نعلم قتله لأنها لم تتحق في العمد فتستحق القود ولا في الخطأ فتستحق

الدية. قال خليل: ولا إن قال بعض عمْدًا وبعض لا نَعْلَم أو نكلوا، بخلاف ذي الخطأ ف له الحلف وأخذ نصيبه. قال الموّاق من المدونة: إن قال بعضهم خطأ وقال الباقون لا علم لنا أو نكلوا عن اليمين حلف مدعو الخطأ وأخذوا حظهم من الدية ولا شيئ للآخرين. وفي الجلاب: لا يستحق مدعو الخطأ حظهم حتى يحلفوا خمسين يمينًا اهـ. قال خليل: وإن اختلفوا فيهماواستووا حلف كل، وللجميع دية الخطأ وبطل حق ذي العمد بنكول غيرهم. قوله: واستووا أي في الدرجة. قال الصاوي: وإن اختلفوا في العَمْد والخطأ واستَوَتْ درجتهم ولم يكن للجميع التكلُّم كبنات مع بنين فالعبرة بكلام البنين، كما أنه لا عبرة بكلام الأعمام مع البنين. أما لو اختلفوا في ذلك واختلفت مرتبتهم قُربًا وبُعدًا وكان الجميع له التكلم كبنات وأعمام فإن قالت العصبة عمدًا والبنات خطأ كان الدم هدرًا لا قسامة فيه ولا دية ولا قود، وإن قالت العصبة خطأ والبنات عمدًا حَلَفَتِ العصبة خمسين يمينًا وكان لهم نصيبهم من الدَّيَة. ولا عبرة بقول البنات؛ لأنه لا يحْلفُ في العَمْد أقلُّ من رجلَيْن عصبة، قال الدردير: فلو قال بعضهم خطأً وبعضهم عمدًا فإن استووا في الدرجة كالبنين أو الإخوة فيحلف الجميع على كل طبق دعواه على قدر إرثه ويقضي للجميع بدية الخطأ، فلو نكل مدعي الخطأ عن الحلف فلا شيئ للجميع، وإن نكل بعض مدعي الخطأ فللمدعي * * * العمد الدخول في حِصة مَنْ حَلَف اهـ. قال في المدونة: وإن قال بعضهم عَمْدًا وبعضهم خطأ فإن حَلَفوا كلّهم استحقوا دِيَة الخطأ وبُطِلَ القتل، وإن نكل مدَّعو الخطأ فليس لمدَّعي العمد أن يقسموا ولا دَمَ لهم ولا دِيَة. وقال أشهب: إن حَلَفَ جميعهم فلِمَنْ أقْسَمَ على الخطأ حظُّه على العاقلة ولمن أقْسَمَ على العَمْد حظُّه من مال القاتل قال اللخمي: وهذا أحسن أهـ. نَقَلَه الموّاق. قال رحمه الله تعالى: "ويحلف في الخطأ الوارث ما كان ويأخذ الدية تفض على

قدر مواريثهم ويجبر الكسر على أكثرهم نصيبًا فإن نكل بعضهم حلف الباقون وأخذوا أنصباءهم" يعني أن الورثة ما كانوا يحلفون في قتل الخطأ ويأخذون أنصباءهم من الدية وتفض الأيمان على قدر مواريثهم كما تقدم، فإن نَكَلَ واحد منهم حَلَفَ الباقون وأخذوا نصيبهم. قال خليل: وهي خمسون يمينًا متوالية بتًا، وإن أعمى أو غائبًا يحلفها في الخطأ من يرث المقتول، وإن واحدًا أو امرأة وجُبِرَت اليمين على أكثر كَسَرَها، وإلا فعلى الجميع ولا يأخذ أحد إلاَّ بعدها ثم حَلَفَ مَنْ حَضَرَ حِصّته اهـ. ومثله في أقرب المسالك وفي الرسالة: وتحلف الورثة في الخطأ بقدر ما يرثون من الدية من رجل أو امرأة، وإن انكسرت يمين عليهم حَلَفَها أكثرهم نصيبًا منها، وإذا حضر بعض ورثة دية الخطأ لم يكن له بدٌّ أن يَحْلِفَ جميع الأيمان، ثم يضحْلِفَ من يأتي بعده بقدر نصيبه من الميراث اهـ. قال ابن جزي في القوانين: وإن كانت القَسَامةف ي الخطأ أو حيث لا يقتصُّ في العَمْد مثل أن يكون القاتل صغيرًا أو المقتول غير مكافئ للقاتل فيُقْسِمُ فيها الرجال والنساء، ويجزئ الرجل الواحد وتُقْسضم الأيمان بينهم على قدر مواريثهم، فإذا حَلَفوا استحقّوا الدَّيَة، وإ، نكلوا رُدَّ اليمين على عاقلة القاتل، وإن نكل واحد من الأولياء حَلَفَ باقيهم وأخذوا نصيبهم من الدَّيَة اهـ. قال مالك رحمه الله تعالى: القَسَامة في قَتْلِ الخطأ يُقْسِمُ الذين يدَّعون الدَّم ويستحقونه بقَسَامتهم، وَيَحْلِفون خمسين يمينًا تكون على قِسْم أي قدر مواريثهم من الدَّيَة، فغ، كان في الأيمان كسور إذا قُسِمَتْ بينهم نظر إلى الذي يكون عليه أكثر تلك الأيمان إذا قُسِمَتْ فتُجْبَر عليه تلك اليمين. فإن لم يكن للمقتول ورثةٌ إلاَّ النساء فإنّهن يَحْلِفْنَ ويأخُذُنَ الدَّيَة؛ فإ، لم يكن له وارث إلاَّ رجل واحد حلفَ خمسين يمينًا وأخذ الدَّيَة. وإنَّما يكون ذلك في قَتْلِ الخطأ ولا يكون في قَتْلِ العَمْد. قال العلامة أبو الوليد الحافظ الباجي في شرحه على الموطأ: وهذا على ما قال إنّ حُكْمَ القَسَامة في قَتْلِ الخطأ غير حُكْمِها في قَتْلِ العَمْد؛ لأنها لمَّا ختصّت القَسَامة

في الخطأ بالمال كان ذلك للورثة رجالاً كانوا أو نساء قلَّ عددهم أو كَثُر. ولا يَحْلِفُ في ذلك إلاَّ وارث، وا/اقتل العمد فإن مقتضاه القصاص، وإنما يقول به العصبة من الرجال، فلذلك تعلقت الأيمان بهم دون النساء اهـ. قال رحمه الله تعالى: "ولا قَسَامَةَ فِي جِرَاح" يعني ,غنما لم تشرع القَسَامة في الجرح لأنه صلى الله عليه وسلم إنما حَكَمَ بها فيالنفس. وإذا قُلْنا بنَفْي القَسَامة في الجرح فتارة يكون عَمْدًا وتارة يكون خطأ، وفي كل إما إن يثبت بشاهدَيْن أو يوجد شاهد فقط، فإن ثبت بشاهدين فالديَة في الخطأ أو القصاص في العَمْد. وإن لم يشهد به إلاَّ واحد فإنه يَحْلِفُ مع الشاهد يمينًا واحدة ويأخذه الدَّيَة ي الخطأ ويقتصُّ منه في العَمْد، وهي إحد مستحسنات الإمام مالك رضي الله عنه. وإن تجرَّدت الدعوى عن الشاهد فقيل: يَحْلِفُ المدَّعَى عليه وقيل: لا يَحْلِفُ، وأنت خبير فيما ذكرناه من القصاص في العَمْد شارح للرسالة وقال فيها: ولا قَسَامة في جرح ولا في عَبْدٍ ولا بين أهل الكتاب ولا في قتيل بين الصفَّيْن أوْ وُجِدَ في محلة قوم اهـ. قال رحمه اللَّه تعالى: "والقتيل بين فئتين من إحداهما ديته على الأخرى وإلا فعليهما إلا أن يثبت اللوث" يعني أنه أخبر بما إذا وُجدَ القتيل بين الفئتين ولم يُعْلَمْ قاتله فلزم دِيَتُه على إحدى الفئتَيْن أو عليهما معًا، إلا إذا حصل اللوث فتثبتُ على مَنِ ادُّعيَ عليه. قال زروق في شرحه على الرسالة: وأما القتيل بين الصفَّيْن فحكى الجلاب فيه روايتَيْن: إحداهما أنه لا قَوَد فيه، ودِيَتُه على الفئة التي نازعت إن كان من الفئة الأخرى، وإن كان من غيرها فدِيَتُه عليهما معًا. والرواية الأخرى إن وجد بينهما معًا فهو لَوْثٌ يوجب القَسَامة لِوُلاته، فيقسمون على من ادُّعِيَ عليه ويقتلونه. لكن هذه الرواية تخالف ما في الرسالة من قولها: ولا في قتيل بين الصفين أو وُجِدَ في محلة قوم، أي

لا قَسَامة في قتيل وُجِدَ بني الصفين أي من المسلمين الباغي كل منهما على الآخرن ويكون دَمُه هَدْرًا. ولو قال ذلك المقتول: دَمِي عند فلان. وهذا هو المعتمد من أقوال ثلاثة أشار إليهاخليل بقوله: وإن انفصلت بغاة عن قتلى ولم يُعْلَم القاتل فهل لا قَسَامة ولا قَودَ مطلقًا وإن تجرَّد عن تدمية وشاهد أو عن الشاهد فقطَ تأويلات اهـ. نَقَلَه النفراوي. انظر شرح خليل. ثم قال رحمه الله تعالى: "وَيُجْلَبُ فِي القَسَامَةِ إِلَى المَسِاجِدِ المعَظَّمَةِ مَنْ قَارَبَها وَاللَّه أَعْلَمُ" يعني كما في الرسالة وعبارتها ويحلفون في القَسَامة قِيامًا، ويُجْلَبُ إلى مكة والمدينة وبيت المقدس أهل أعماله للقسامة، ولا يُجْلَبُ في غيرها إلاّ من الأميال اليسيرة اهـ. قال النفراوي: وحاصل المعنى أنّ مَنْ توجَّهت عليه القَسَامة وهو من غير أهل أعمال الأماكن الثلاثة لا يُجْلَبُ من محلّه إِلى حلْفِها في مسجد أو غيره، إلاَّ إِذا كان لمسجد قريبًا من بلده، بأن كان بينه وبينه الأميال اليسيرة كلاثلاثة فيُجْلَبُ منها لذلك. والفرق بين تلك الأماكن وغيرها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تعمل المطيّ إلاَّ إلى ثلاثة مساجد: مكة والمدينة وإيلياء" اهـ. قال زروق في شرحه على الرسالة: تُغَلَّظ اليمين في القَسَامة بالزمان والمكان والكيفية: والزمانُ كونه بعد العصر ويوم الجمعة، والمكان بأن يكون في الأمكان المعظَّمة، والهيئة أن يَحْلِفَ قائمًا لكونهاأردع للحالف وأهول، أي أخْوَف في حقَّه لعلّه يرجع للحقَّ إنكان مبطلاً اهـ. واللَّه أعْلَم. ولمَّا أنهى الكلام على ما تعلَّق بأحكام القَسَامة وشروطها انتقل يتكلم على مسائل الحدود وما يتعلَّ بها من الأحكام باقتراف الأجرام ممَّا سيأتي ذِكْرُه إن شاء الله تعالى فقال رحمه الله تعالى:

كتاب الحدود

كتاب الحدود أي في بيان ما يتعلًّق باحكام الحدود على المحظورات التي حظر الشارع ارتكابه كالحرابة والسحر والزَّنا والقذف والسرقو وشُرْبِ الخمر وغيرها ممَّا هو ممنوع شرعًا، وكل واحد من تلك المحظورات لها حد معلوم من قِبَل الشارع كما ستقف علهي إن شاء الله تعالى في مواضِعِهز والحدود جمع حَد وهو لغة: المَنْع، وشرعًا: ما وُضِعَ لِمَنْع الجانةي من عَوْده لِمِثْل فِعْلِه وزَجْرِ غيره. وفي معنى الحدود التعازير جمع تعزير، وهو اسم لنوع من العذاب موكول قدره لاجتهاد الإمام، بخلاف الحدود فإن تعدادها محدود من الشارع اهـ. النفراوي. وابتدأ بما هو أكثر ضَرَرًا للناس من تلك المحطورات اعتناء بأمن الناس وصَوْنًا للنفوس والأموال فقال رحمه الله تعالى: "يَجْتَهِدُ الإِمَامُ فِي مُخِيفِ السَّبِيلِ مَا لَمْ يَتَعَلَّق بِهِ حَقٌّ" يعني يجب أن يجتهد الإمام في إزالة مفسدة النسا، ومنْ أَضَرَّها مفسدة مخيف السبيل ويُسَمَّى المحارب، وهو قاطع الطريقد لمجرَّد مَنْع السلوك، أو آخذ مال مسلِم أو غيره من أهل الذمة علىوَجْهٍ يتعذَّر معه الغَوْث، أو الذي يغيب عَقْلَ غيره ليأخذ معه، أو المخاد لنحو الصبيّ حتى يدخله موضعًا ويقتله ويأخذ ما معه، أو الداخل في زقاق ليلاً أو نهارًا ليأخذ المال على وَجْهِ التغلب والقهر. قاله النفراوي اهـ. قوله: ما لم يتعلق بح قُّ مفهومه: فإن تعلَّق به حقٌّ من حقوق الناس كالعَبْد المرهون وغيره ممَّا هو حقٌّ للآدمي فلابدّ من تخليص ذلك منه قبل حقوق الله تعالى كما يأتي: قال رحمه الله تعالى: "بَيْنَ قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ ثمَّ قَتْلِهِ وَقَطْعِهِ مِنْ خِلاَفٍ وَنَفْيِهِ بحَسَب مَا يَرَاهُ رَادعًا فإنْ قَتَلَ تَحَتَّم قَتْلُه وَلَوْ بِعَبْد أَوْ كافِرٍ لاَ يَجُوزُ العَفْوُ فَإِنْ تَابَ قَبْلَ القُدْرَةِ عَلَيْهِ أُخِذَ بِحُقُوق الآدَمييَّنَ" قوله: بين قَتْلِهِ متعلّق بيجتهد الإمام،

وحاصل المعنى في ذلك كما في الرسالة: والمحارب لا عَفْوَ فيه إذا ظفر به، فإن قَتَلَ أحدًا فلابدَّ من قَتْلِه، وإن لم يقتل فيسع الإمام فيه اجتهاده بقدر جُرْمه وكثرة مقامه في فساده، فإمّا قَتَلَه أو صَلَبَه ثم قَتَلَه أو يقطعه من خلاف أو ينفيه إلى بلد يسجن به حتى يتوب فإن لم يقدر عليه حتى جاء تائبًا وضع عنه كل حق للَّه من ذلك، وأخَذَ بحقوق الناس من مال أو دَمٍ. ومثله حقوق الله سوى عقوبة الحرابة كأن شرب خمر أو زنى وهو محارب فإنه يستوفى منه؛ لأن التوبة إنما أسقطت حد الحرابة فقط. قال لخليل: وسقط حدها بإتيان الإمام طائعاً أو ترك ما هو عليه؛ لقوله تعالى: إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة: 34]. قال الخرشي: إن المحارب إذا جاء تائبًا للإمام قبل أن يقدر عليه أو ترك ما هو عليه من الحرابة كما مرَّ اهـ. وإلى ذلك أشار المصنَّف بقوله: فإن تاب قبل القدرة عليه أخذ بحقوق الآدميين. وفي الرسالة: وكلُّ واحد من اللصوص ضامنٌ لجميع ما سلبوه من الأموال، سواء أخذ في حال تلصُّصِه أو جاء تائبًا، وسواء أخذ المال هو أو أخذه غيره وهو حاضر؛ لأن المُعِين شريك واللصوص بعضهم لبعض حملاء، فكلُّ من أخذ منهم غَرِمَ الجميع ويرجع على أصحابه اهـ. أبو الحسن ومثله في النفراوي. وحاصل ما تقدَّم: أنّ الإمام إن قدر على المحارب يفعل به ما يراه رادعًا ولغيره، لكن يكون اجتهاده لمصلحة الناس فيما ظهر له، ولا يجاوز في ذلك ما حدده الله تعالى له في حْكْمِهِ على المحارب كما تقدَّ في الآية الكريمة. قال العلاّمة الصاوي في حاشيته على الدردير نَقْلاص عن الدسوقي ما حاصله: أن الحدود الأربعة واجبة لا يخرج الإمام مخيَّرة لا يتعيَّ واحد منها، إلاَّ أنه يندب للإمام أن ينظر ما هو الأصلح واللائق بحال المحارب فإن ظهر له ما هو اللائق ندب له فِعْلُه، فإن خالف وفعل غير ما ظهر له أصلحيته أجزأ مع الكراهة اهـ. والله أعلم

بالصواب. ولمَّا أنهى الكلام على ما تعلّق بالحرابة انتقل يتكلم حُكْم حدّ الساحر والزنديق وغيرهما. فقال رحمه الله تعالى: "وَيقْتَلُ السَّاحِرُ وَالزَّنْدِيقُ" يعني أن السحر حرام يُقْتَلُ صاحبه إذا ظفر به ولا يقبل توبته. قال النفراوي في الفواكه: يجب قَتْلُ المسلِم الساحر ولا تُقْبَل توبته، وهو الذي يصنع السحر بغيره، فأن يفرَّق بين المرأة وزوجها، أو يُذْهِب عَقْلَ غيره أو يفعل فِعْلاً يغيَّر به صورة غيره كتغيُّر صورة إنسان بصورة حمار أو كلب إلى أن قال: والدليل على قَتْلِ الساحر ما خرّجه الترمذي من قوله صلى الله عليه وسلم: "حدّ الساحر ضربه بالسيف". واختُلِفَ هل يجوز لشخص أن يستأجر غيره لإبطال السَّحْر أم لأن فيه خلاف مَنَعَهُ الحسن قائلاً لأنه لا يُبْطِلُه إلاَّ ساحر. وقال ابن المسَّيب: يجوز لأنه من التعالجن واقتصر على الجواز صاحب الإرشاد يعني مصنَّفًا، ويظهر لي أنه المعتمد. وأمَّا الذي يدخل السكاكين في جوفه فإن كان سحرًا فإنه يُقْتَلُ به وإلاَّ عُوقِب بغير القتل. وأمَّ الساحر الذَّمَّي فإنه لا يُقْتَلُ به وإنَّما يؤدّب إلاَّ أن يدخل بسحره ضَرَرًا على المسلم فإنه يكون ناقضًا لعهده فيُقْتَل إلاَّ أن يسلم اهـ. بحذف وتضويح. ومثله لأب يالحسن وغيره، وأمَّا الزندقة فهي محرَّمة أيضًا بقتل صاحبها إذا ظفر به ولا تُقَبَل توبته. قال في الرسالة: ويُقْتَل الزنديق ولا تُقْبَل توبته، وهو الذي يُسِرُّ الكفر ويظهر الإسلام. وقال خليل: وقتل المستسرّ بلا استتابة إلاَّ أ، يجيئ تائبًا ومالُهُ لوارثه أي إنّ الزنديق إذا جاء تائبًا قبل الاطلاع علهي سَقَطَ عنه القتل، وتُقْبَل توبته كما صرَّح عليه صاحب الغكليل ولوح به العدوي في حاشيته على الخرشي. وأمَّا لو كانت توبته بعد الاطّلاع عليه فإنها لا تُقْبَل، لكنَّ مالَهُ لوارثه؛ لأن القتل حدًّا. أمَّا إن لم يَتُبْ بأن استمرّ على الزندقة بعد إثباتها باعترافه أو بالبينة فإنه يُقْتَل وال يَرِثُه وارِثُه، ويكون مالُهُ لبيت المال كمَالِ المرتدّ، ولا يكون قتله حدًّا بل كفرًا، وسواء كان الكفر الذي سَتَرَه

بارتداد أو زندقة أو سحر أو بغير ذلك. والدليل على وجوب قَتْلِ الزنديق ما في صحيح البخاري أنَّ عليًّا، رضي الله عنه، أتَى بزنادقة فأحرقهم فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لِنَهْي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعذبوا بعذاب الله" ولقتلهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدّل دينه فاقتلوه". ثم قال رحمه الله تعالى: "وَمَنْ سَبَّ اللَّه أضوْ نَبِيًّا قُتِلَ دُونَ اسْتِتابَة" يعني أن من سَبَّ اللَّه تعالى أو سَبَّ نبيًّا من الأنبياء ممن أجمع على نبوته قُتِلَ، وال تُقْبَل توبته. قال في الرسالة: ومَنْ سَبَّ رسول اله صلى الله عليه وسلم قُتشل، ولا تقبل توبته. ومَنْ سَبّه من أهل الذمة بغير ما به كفر، أو سَبَّ الله عزّ وجلّ بغير ما به كفر، قُتِل إلاَّ أن يسلِم اهـ. قال العلاّمة ابن جزي في القوانين: وأما من سضبَّ اللَّه تعالى أو النبي صلى الله عليه وسلم أو أحدًا من الملائكة أو الأنبياء فإن كان مسلمًا قُتِلَ اتفاقًا، واختُلِفَ هل يُستتاب أم لا فَعَلَى القول بالاستتابة تسقط عنه العقوبة إذا تاب، وفاقًا لهما. وعلى عدم الاستتابة - وهو المشهور- لا تسقط عنه بالتوبة كالحدود. وأمَّا ميراثه إذا قُتِلَ فإن كان يظهر السَّبَّ فلا يَرِثُه ورثته، وميراثه للمسلمين. وإذا كان منكرًا للشهادة عليه فمالُهُ لورثته، وإن كان كافرًا فإن سّبَّ بغير ما به كفر فعَلَيْه القتل، وإلاَّ فلا قَتْلَ عليه. وإذا وَجَبَ عليه القتل فأسلَم فاختُلِفَ هل يُقْبَل منه أم لا. ومَنْ سَتَّ أحدًا مِمَّن اختُلِفَ في نبوته كذي القرنين أو في كونه من الملائكة لم يُقْتَل، وأدَّبَ أدبًا وجيعًا، وأمَّا مَنْ سَبَّ أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو أزواجه أو أهل بيته فلا قَتْلَ عليه، ولكن يؤدَّب بالضَّرْب الوجيع ويكرَّر ضربه ويُطال سجنه. واعلم: أن الألفاظ في هذا الباب تختلف أحكامها باختلاف معانيها والمقصاد بها وقرائن الأحوال: فمنها ما هو كُفْر، ومنها ما هو دون الكفر، ومنها ما يجب فيه القتل، ومنها ما يجب فيه الأدب، ومنها ما لا يجب فيه شيئ، فيجب الاجتهاد في كل قضية بعينها. وقد استوفى القاضي أبو

الفضل عياض في كتاب الشفاء أحكام هذا الباب، وبين أصوله وفصوله رضي الله تعالى عنه. اهـ كلام ابن جزير بحروفه. ثم ذكر مسائل المرتد وما يلزمه من العقوبة" بقوله رحمه الله تعالى: "والمرتد يحطب عمله وتبين زوجته المسلمة ويستتاب ثلاثة أيام فإن تاب وإلا قتل ولو امرأة وماله فيئ" والمرتد ينبغي تعريفه قبل ما يبج عليه من الأحكام فنقول: المرتد هو الخارج عن دين الإسلام بعد بلوغه. قال ابن جزي ي القوانين: وأمَّا المرتد فهو المكلَّف الذي يرجع عن الإسلام طوعًا: إمَّا بالتصريح بالكفر، وإمَّا بلَفْظٍ يقتضيه أو بفعل يتضمنه. ويجب أن يستتاب ويمهل ثلاثة أيام. وعبارة الدردير في أقرب المسالك: الرَّدة كُفْرُ مسلِم بصريح أو قولٍ يقتضيه أو فعل يتضمنه، كإلقاء مصحف بقذر وشد زنارٍ مع دخول كنيسةٍ وسحر وقول بقِدَم العالم أو بقائه أو شك فيه أو بتناسخ الأرواح أو أنكر مُجْمَعًا عليه ممَّا عُلِمَ بكتاب أو سنّة أو جوَّز اكتساب النبوّة أو سَبَ نبيصا أو عرض أو ألحق به نَقصًا وإن ببدنه أو وفور عِلْمِه أو زُهْده، وفصلت الشهادة فيه: يُستتاب ثلاثة أيام من يوم الحُكْمِ بلا جوع وعطش ومعاقبة، فإن تاب وإلاَّ قتل، ومالُهُ فَيْئ، إلاَّ الرقيق فلسيدَّده، وَأخَّر المرضع لوجود مرضع وذات زوج أو سيد لحيضة اهـ. انظر شراح خليل. قال في الرسالة: ويُقْتَلُ مَنِ ارتدَّ إلاَّ أن يتوب، ويؤخَّر للتوبة ثلاثًا وكذلك المرأة. قال شارحها: وإنَّما نصَّ على المرأة للردّ على من يقول بعدم قَتْلِ النساء لِنَهْيِهِ عليه الصلاة والسلام عن قَتْلِهِنّ؛ لأن محلَّه عند مالك على نساء أهل الحرب على المرتدة. ويطعم المرتدُّ من مالِهِ زمن الرَّدّة، وأمَّا ولده وعياله فلا ينفقون منه؛ لأنه صار بسبب الرَّدة بمنزلة من لا مال عنده. اهـ النفراوي. وأمَّا الأحكام التي تتعلَّق بالمرتدّ فكثيرة، منها إحباط عمله الذي عمل سابقًا قبل ارتداده فلا اعتداد به، بمعنى لا يحسب به؛ لأنه أبطله بالرَّدة. ولا يطالب بقضاء كالصلاة والصيام وغيرهما ممّا فاته قبل الرَّدّة، ولا ثواب في التي فَعَلَها بل يستأنف غيرها بعد التوبة

فصل في الزاني والزانية

كالكافر الأصلي. قال خليل: وأسقطت صلاة وصيامًا وزكاة وحجَّا تقدَّم. انظر شراحه. ومنها بينونة زوجته المسلشمة دون الذّمَّيّة. ومنها قَتْلُهُ كفرًا بعد الاستتابة ما لم يَتُبْ ولو امرأة. ومنها عدم إرْث وارثه، إلاَّ السيَّد بل ماله فَيْئ لبيت مال المسلمين. ومنها عدم الصلاة عليه إن قُتِلَ كفرًا، لا إن قُتِلَ حدًّا، فيصلّي عليه غير أهل الفضل كما قد عِلِمْت. ولمَّا أنها الكلام على ما تعلَّق بالرَّدّة وأحكامها انتقل يتكلم على ما يتعلَّق بأحكام الزاني والزانية فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في الزاني والزانية أي في بيان ما يتعلَّق بأحكام الزاني والزانية، أي ما يلزم عليهما من الحدود والقوبة بعد الاعتراف أو الإثبات بالبيَّنة بشروطها الآتية. الزَّنا من أقبح الفواحش؛ قال الله سبحانه: ولا تَقْرَبُوا الزِّنَى إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء: 32] وقال عز وجلّ: الزَّانِيَةُ والزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ولا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ ولْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ المُؤْمِنِينَ [النور: 2] وفي الصحيحَيْن عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه خطب فقال: "إن الله بعث محمدًا بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل الله عليه آية الرجم قرأناها ووَعَيْناها وعقلناها فَرَجَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورَجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله. وإن الرَّجْمَ حقّ في كتاب اللَّه تعالى على مَنْ زنا إذا أحصن من الرجل والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف" وبعضه في الموطأ.

قال رحمه الله تعالى: "يُجْلَدُ الْبِكْرُ لِلزَّنَا مِائَةً مُتَوَاليَةً يُتَّقى مَقَاتِلُهُ فَيُنْزَعُ لِلْمرْأَةِ مَا يَقيهَا الألمَ وَيُجَرَّدُ الرَّجُلُ مَسْتُورًا وَيُغَربُ سَنَةً" قدم المصنَّف رحمه الله حُكْمَ البِكر في الزَّنا قبل التعريف بحقيقته، اكتفاء بشهرة الاسم، وابتدأ غيره بتعريفه كما في المختصر لخيل. والدردير قال: الزنا إيلاج مسلم مكلَّف حَشَفَة في فَرْجِ آدمي مطيق عَمْدًا بِلا شبهة وإن دبرًا أو ميتًا غير زوج أو مستأجرة لوَطْء أو مملوكةَ تُعْتَقُ عليه أو مرهونة أو ذات مغنم أو حربية أو مبتوتة وإن بعدّة أو خامسة أو مَحْرَمة صهر بنِكاح أو مطلقة قبل البناء أو مُعْتَقَة أو مكَّنت مملوكة فعَلَيْه حدٌّ بِلا عَقْد، لا إن عقد أو وَطئ معتدّة فعَلَيْه أدب منه أو من غيره وهي مملوكته أو زوجته أو مشتركة أو مَحرَمة لعارض أو غير مطيقة أو حليلة أو مملوكة لا تُعْتَق أو بنتًا بعَقْد أو أختًا على أختها أو بهيمة وأُدَّ أي في جميع الذي لا حدّ فيه كما يؤدَّب ف يالمساحقة وأمَة محلَّلة وقومت عليه وإن أبيا بخلاف المكرهة أي فلا تؤدَّب اهـ. انظر شراح خليل. وأمَّا قوله: فينزع للمرأة إلخ هذه صفة الحدّ. قال في الرسالة: ويجرَّد المحدود ولا تجرَّد المرأة إلاَّ ممَّا يَقيها الضرب، ويجلدان قاعدّيْن. قال خليل: والحدود بسوط وضَرْب معتدِلَيْن قاعدًا بلا رَبْطٍ ولا شدّ يد بظهره وكتفَيْه. قال في المدوَّنة: صفة الضرب في الزَّنا والشرب والفرية والتعزيز ضرب واحد، ضرب بين ضربَيْن، ليس بالمبرح ولا بالخفيف. ولم يحد مالك ضم الضارب يده إلى جنبه، ولا يجزئ في الضرب في الحدود قضيبوشراك ولا درّة، ولكن السوط؛ وإنَّما كانت درّة عمر للأدب. قال الجزولي: وصفة السوط أن يكون من جلد واحد، ولايكون له رأسان، وأن يكون رأسه لينًا، ويقبض عليه بالخنصر والبنصر والوسطى، ولا يقبض عليه بالسبابة والإبهام، ويعقد عليه التسعين ويقدَّم رجْلَه اليُمْنى ويؤخَّر اليسرى. وصفة عقد التسعين أن يعطف السبابة حتى تَلْقَى الكف ويضمُّ الإبهام إليها، ويكون المضروب قاعدًا، فلا يمدُّ لا يربط ولا تشدُّ يده، إلاَّ أن يكون يضطرب بحيث لا يقع الضرب

موقعه فيجوز شدُّ، ويكون الضرب في ظهره وكتفَيْه كما تقدَّم عن خليل. ويكون الضرب متواليًا ومتولي الضرب شخصًا متوسطًا لا في غاية القوة أوالضعف اهـ. النفراوي. ثم قال رحمه الله تعالى: "وَيُرْجَمُ المُحْصَنُ حَتّى يَمُوتَ وَلْيَشْهَدْ عَذَبهما طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنينَ" يعني أن المحصن الحرَّ المسلِم إذا زَنى يرجم حتى يموت، وذلك بحجارة معتدلة بقدر ما يطيق الرامي من غير تكليف. قال في القاوانين: الرجم بحجارة متوسطة قدر ما يرفع الرامي، لا بصخرة كبير تُقْتِلُ مرّة ولا بحصيات. ومحلُّ الرجم الظهر والبطن، ولا تحفر للمرجوم حفرة يُرْجَم يها خلافًا للشاعفي. ويستحبُّ أن يحضر حدَّ الزاني طائفة من المؤمني أقلُّهم أربعة؛ لأن حضورها حين الرَّجم زاجر عن ارتكاب مثل ما فعل المرجوم، ثُرجم بتلك الحجارة حتى يموت كما تقدَّم، ثم يُغْسَل ويصلَّى عليه ويكفَّن ويُدْفَن في مقابر المسلمين؛ لأن القتل للحدَّ. ثم ذكر صفة اإحصان بقوله رحمه الله تعالى: "فالمُحْصَنُ المُسْلِمُ الْحُرُّ المُكَلَّف يَطأُ وَطْئًا مُبَاحًا فِي نِكَاح صَحِيح وَلَوْ مَرَّة فَلأَمَةُ تُحَصَّنُ الحُرَّ والكِتَابِيَّةُ المُسْلِمَ وضالصَّغِيرَةُ البَالِغَ وَالمَجْنُونَةُ العَاقِل" يعني كما في الموطَّأ عن مالك عن ابن شها عن سعيد بن المسيَّب أنه قال: المحصنات من النساء هنّ أولات الأزواج، ويرجع ذلك إلى الله حرَّم الزَّنا. وعنه عن ابن شهاب وبلغه عن القاسم بن محمد أنهما كانا يقولان: إذا نكح الحرُّ الأمَة فَمَسَّها فقد أحْصَنَتْه. قال مالك: وكلُّ مَنْ أدركت كان يقول ذلك: تحصَّن الأمَة الحرَّ إذا نكحها فَمَسَّها فقد أحْصَنَتْه. قال مالك: يُحصَّن العبد الحرّة إذا مَسَّها بنكاح. ولا تُحَصَّن الحرّة العبد إلاَّ أن يُعْتَقَ وهو زوجها فيمسها بعد عَتْقِهن فإ، فارقها قبل أن يثعْتَقَ فليس بمحصن حتى يتزوَّج بعد عَتْقِه ويَمسَّ امرأته. قال مالك: والأمَة إذا كانت تُنْكَح بعد عَتْقِها ويصيبها زوجها فذلك إحصانها. والأمَة إذا كانت تحت الحرَّ فتُعْتَقُ وهي تحته قبل أن يفارقها، فإنه يحصنها إذا عُتِقَتْ وهي عنده إذا

هو أصابها بعد أن تُعْتَق. وقال مالك: والحرّة النصرانية واليهودية والأمَة المسلِمة يحصّن الحرُّ المسلم إذا نكح إحداهن فأصابها اهـ الموطأ. قال ابن جزي في القوانين: الإحصان المشترط في الزواج له خمسة شروط: العقل والبلوغ والحرَّيَّة والإسلام. وتقدم الوَطْء بنكاح صحيح، وهو أن يتقدَّم للزاني والزانية وَطْء مباح في الفَرْج بتزويج صحيح. فلا يحصن زِنا متقدم، ولا وَطْء في صيام أو اعتكاف أو إحرام، ولا وَطْء نكاح في الشَّرْك، ولا عَقْدُ نكاح دون وَطْء. ويقع الإحصان بمغيب الحَشَفَة وإن لم ينزل. وإذا أقرَّ أحد الزوجين بالوَطء وأنكر الآخر لم يكن واحد منهما مُحْصنًا. وقال ابن القاسم: المقر بالوَطْء مُحْصَن دون المنكر. إذا اختلف أحكام الزاني والزانية فيكون أحدهما حرَّا والآخر مملوكًا غير مُحْصَن فيُحْكَم لكلضّ واحد منهما في الحدَّ بحُكْم نفسه اهـ. وفي الرسالة: ومن زَنى من حر مُحْصَن رُجِمَ حتىي موت. والإحصان: أن يتزوج امرأة نكاحًا صحيحًا ويطؤها وَطْئًا صحيحًا، فإن لم يُحْصنْ جُلِدَ مائة جلدة وغرَّبه الإمام إلى بلد آخر وحُبِسَ فيه عامًا كما تقدَّم. قال رحمه الله تعالى: "وَلاَ يُجْمَعُ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ" يعني أنه لا يجمع الجَلْد والرجم على الزاني؛ لأن الجرم على المُحصَن والمُحْصَنة والجَلْد على البِكر، وهما حُكْمان لا يجتمعان على مذهب الجمهور، خلافًا لابن حنبل وإصحاب وداود كما في القوانين في فصل مقدار الحدّ، لكن قد رأيت في بعض تعليقات لبعض شيوخنا على حديث: "والثيب بالثيب جَلْدُ مائة والرَّدجْم" قال: اتفقت المذاهب الأربعة على أن الجَلْدَ ساقط عن الثيَّب وإنَّما عليه الرجم اهـ. والحديث أخرجه أبو داود والترمذي ومسلم واللفظ له كما في بلوغ المرام. وذكر الشعراني هذه المسألة في مسائل الاختلاف فراجِعْه إن شئت في الميزان. قال رحمه الله تعالى: "وَحَدُّ الرَّقِيقِ خَمْسُونَ دُونَ تَغْرِيبٍ" يعني أن حدَّ الرقيق

في الزَّنا خمسون جَلْدة نِصْفُ حدَّ الحرّ. قال في الرسالة: وعلى العبد في الزَّنا خمسون جَلْدة وكذلك الأمَة وإن كانا متزوَّجَيْن، ولا تغريب عليهما ولا على امرأة اهـ. وفي الحديث عن أبي هريرة أنه قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على العبد نِصْفَ حدَّ الحرَّ في الحدَّ الذي يتبعّض كزِنًا البِكر والقَذْف وشُرْب الخمر اهـ لرزين. قال الله تعالى:: فَإنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ [النساء: 25] ويقيم الرجل على عَبْدِهِ وأمَتِه حدَّ الزَّنا إذا ظهر حَمْلٌ أو قامت بيَّنة غيره أربعة شهداء أو كان إقرار، ولكن إن كان للأمَة زوج حرٌّ أو عَبْدٌ لغيره فلا يقيم الحدَّ عليها إلاَّ السلطان. قاله في الرسالة. قال رحمه الله تعالى: وَلاَ يُجْمَعُ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ" يعني أنه لا يجمع الجَلْد والرجم على الزاني؛ لأن الرجم على المُحْصَن والمُحْصَنة والجَلْد على البِكرن وهما حُكْمان لا يجتمعان على مذهب الجمهورن خِلافاً لابن حنبل وإسحاق وداود كما في الوقانين في فصل مقدار الحدّ، لكن قد رايت في بعض تليقات لبعض شيوخنا على حديث: "والثيَّب بالثيَّب جَلْدُ مائة والرَّجْم" قال: اتفقت المذاهب الأربعة على أن الجَلْدَ ساقط عن الثيَّ وإنَّما عليه الرجم اهـ. والحديث أخرجه أبو داود والترمذي ومسلم واللفظ له كما في بلوغ المرام. وذكر الشعراني هذه المسألة في مسائل الاختلاف فراجِعْه إن شئت في الميزان. قال رحمه الله تعالى: "وَحَدُّ الرَّقِيقِ خَمْسُونَ دُونَ تَغْرِيب" يعني أحد حدَّ الرقيق في الزَّنا خمسون جَلْدة نِصْفُ حدَّ الحرّ. قال في الرسالة: وعلى العبد في الزنا خمسون جَلدة وكذلك الأمَة وإن كانا متزوَّجَيْن، ولا تغريب عليهما ولا على امرأة اهـ. وفي الحديث عن أبي هريرة أنه قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على العبد نِصْفَ حدَّ الحرَّ في الحَّد الذي يتبعَض كزِنَا البِكر والقَذْف وشُرْب الخمر اهـ لزرين. قال الله تعالى: فَإنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ [النساء: 25] ويقيم الرجل على عضبْدِهِ وأمَتهِ حدَّ الزَّنا إذا ظهر حَمْلٌ أو قامت بيَّنة غيره أربعة شهداء أو كان إقرار، ولكن إن كان للأمَة زوج حرٌّ أو عَبْدٌ لغيره فلا يقيم الحدَّ عليها إلاَّ السلطان. قاله في الرسالة. قال رحمه الله تعالى: وَحَدُّ اللاَّئِطِ الرَّجْمُ وَإِنْ كَانَ بِكْرًا وَيُعَاقَبُ الصّغيرُ عُقُوبَةً زَاجِرَةً: يعني أن من عمل عمل قوم لوط بذكر بالغ اطاعه رجمَا أحْصِنا أو لم يُحصنا، كانا حرَّيْن أو رقيقتين، مسلمين أو كافرين، ولو كان المفعول به مملوكًا للفاعل. وأمَّا لو كانا غير مكلَّفَيْن فإنها يؤدّبان فقط، وأمَّا لو كان أحدهما مكلَّفًا دون الآخر فإن كان المكلَّف هو الفاعل رُجِمَ وحده، حيث كان المفعول به مطيقًا، وأمَّا عكسه وهوبلوغ المفول به دون الفاعل فلا يُرْجَمز وإنَّما يؤّدّب الصغير ويعزّر البالغ التعزيز الشديد الذي لا ينقص عدده عن مائة. تنبيه شرط الرَّجْم باللواط كَشَرْطِ حدّ الزَّنا من مغيب جميع الحشفة أو قدرها، والثبوت إمّا بالاعتراف المستمرّ أو شهادة أربعة من العدول على نحو ما مرّ. انظر هل يسقط حدّ اللواط بالرجوع أو لأن كما هو مقتضى الأشدية اهـ النراوي. والدليل على رَجْم اللائط والمملوط به حديث: من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به. رواه الترمذي وأبو داود عن ابن عباس مرفوعًا، وعمل قوم لوط إتيان الذكور في أدبارهم، فاللواط أقبح من الزنا بالأنثى؛ لأنه لا يستباح بوجه من الوجوه، فقد قال تعالى في حقَّ قوم لوط: مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العَالَمِينَ [الأعراف: 80] اهـ.

قال رحمه الله تعالى مشبهًا بعقوبة اللائط الصغير وهي عقوبة زاجرة: "كَفِعْلِ أَشْرَارِ النَّسَاءِ وَوَاطئ الْبَهيمَةِ وُقِيلَ يُحَدُّ وَلاَ يُقْتَلْ وَلاَ يَحْرَمُ أَكْلُهَ: فالمعنى أن يُعاقب أشرار النساء بفعلهنَّن المساحقة كما يُعاقب الصغير اللائط عقوبة زاجرة في كل. ومثلهما في الأدب والتعزير واطئ البهيمة، وقيل: يحدّ مائة جَلْدة ولا يُرجم وإن مُحْصَناً، ولا يحرُم أكْلُ لحم تلك البهيمة، خلافًا للشافعي. قال ابن جزي: وإذا تساحقت امراة مع أُخرى فقال ابن القاسم: تؤّبان على حَسَب اجتهاد الإمام. وقال أصبغ: تُجلدان مِائة مِائةز ولو فعل بالانثى في دُبُرها فإنه لا يكون لواطًا، ثم إن كانت أجنبيةّ حدّ للزَّنا وإن كانت زوجًا أدَّب كما تؤدَّب المرأة في مساحقتها الأخرى وكما يؤدّب الذَّكَر في إتيانه البهيمة اهـ بطرف من النفراوي. قال رحمه الله تعالى: "وَالأَمَةُ الْمُشْترَكَةُ إِنُ حمَلَتْ قُوَّمَتْ عَلَيهِ وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ وَإِلاَّ ففي تقويمها قولان: يعني كما قال مالك: إن أحسن ما سثمِعَ في الأمة يقع بها الرجل وله فيها شِركٌ أنه لا يقام عليه الحدُّ، وأنه يُلْحَقُ به الولد، وتقوّم عليه الجارية حين حَمَلَتْ، فيعطَى شركاؤُه حِصَصَهم من الثمن، وتكون الجارية له، وعلى هذا الأمر عندنا اهـ. قال الباجي في شرحه على الموطَّأ: ولا تخلو الجارية إذا وطئها من ألاَّ تَحْمل أو تَحْمل، فإن لم تَحْمل ففي الموازية أن الشريك مُخَيَّر في قول مالك وأصحابه، يريد بين تقويم حِصّته على الواطِئ وبين استمساكه بها وبقائها على الشركة اهـ. راجع المسنتقى إن شئت. وفي الرسالة: ويؤدَّبُ الشريك في الأمَة يطؤها، ويضمن قيمتها إن كان له مالّ، فإ، لم تَحمِل فالشريكُ بالخيار بين أن يتماسَكَ أو تقوّم عليه. وإلى هذه المسألة أشار خليل بقوله: وإن وَطِئ جارية للشركة بإذنه وبغيره وحَمَلَتْ قُوَّمَتُ، وإلاَّ فللآخر إبقاؤها أو مفاداتها. ومحصل كلامهم أن الشريك إن أذِن لشريكه في الوَطءء ووطئ فإنها تُقَوَّم عليه

مطلقًا حَمَلَت أم لا غير، أنه إن كان موسرًا فليس لشريكه سوى قيمة حِصَّته، ولا قيمة للولد وتكون به أمّ ولد. وأمَّا إن كغان معسِرًا فلا تُباع إن حَمَلَتْ، ويتبع بقيمة حصّة شريكه منها. وإن لم تَحْمِل فتُباع عليه لأجل القيمة وأمَّا لو وطئ من غير إذن شريكه فإن حَمَلَتْ فليس لشريكه إلا قيمة حِصَّته إن أيسر الواطئُ؛ لأنها لا تُباع في هذا الغرض. ولا يجوز للشريك التماسك بحصَّته منها وتعتبر قيمتها يوم الوَطْء. وأمَّا إن أعدم الواطئ فالشريك بالخيار بين إبقائها للشركة أو ألزام الواطئ بقيمة نصيبه منها، فيتبعه بها في ذمته أو يجبره على بَيْع نصيبه منها، لكن بعد وضعها، وإن لم يوفِ ثمن نِصْفِها أُتْبعَش بباقي القيمة كما يتبع بقيمة حِصّته في الولد في قسمَيِ التخيير. وهذا ملخَّص كلام شراح خليل اهـ. نَقَلَه النفراوي. قال رحمه الله تعالى: "وَعَلَى غَاصِبِ الحُرَّةِ مَعَ الْحَدَّ مهْرُ مِثْلِهَا وَالأَمَةُ مَا نَقَصَها" يعني أن مَنْ غصب الحرَّة بأن وَطِها قَهْرًا وثبت ذلك باعترافه أو ببينة عادلة لزم الحدث بحَسْبَما تقدَّم في الزاني. وذلك إن كان مُحْصِنًا يُرْجَم، وإن كان بِكرًا جُلِدَ مائة في الحرَّ مع تغريب عامًا، وفي العبد نِصْفها بلا تغريب مع دفع صَداق مِثْلِها في كليهما. هذا في الحرة، وأمَّا الأمَة فقد تقدَّم كلام المصنَّف فيها في مسائر الغصب عند قوله: وإن وطئ فهو زَانٍ فراجِعْه إن شئت. قال رحمه الله تعالى: "وَيَتَدَاخَلُ الْحَدُّ قَبْلَ إِقَامَتِهِ لاَ بَعْدَهُ" يعني أن الحدود يتداخل بعضها في بعض قبل إقامته على الجاني لا بعده. قال في الرسالة: ومَنْ لزمته حدود وقتل فالقتل يجزئ عن ذلك، إلاَّ في القذف فليحدّ قبل أن يُقْتَل يعني أن الحدود تتداخل بل تندرج في أقوى منها وهو القتل ولو كان القتل قَوَدًا، وإنَّما لا يندرج حدّ القذف في القتل لأنه لدفع المعرة التي لا تندفع شرعًا إلاَّ بإيقاعه غالبًا. وحكى ابن حارث في اندراج حدّ القذف في حدّ الزَّنا قولَيْن لعبد الملك وابن القاسم مع أشهب. وفي المدوَّنة:

مَنْ قذف قومًا فلم يحدّ حتى حُدَّ في شُرْبِ الخمر فقد سقطت عنه كل فرية كانت قبله. قال ابن رشد: لأنهما من جنس واحد اهـ. نَقَلَه زروق في شرحه على الرسالة. قال العلاّمة ابن جزي في القوانين: مسألة تداخل الحدود وسقوطها وكل ما تكرَّرر من الحدود من جنس واحد فإنه يتداخل كالسرقة إذا تكرَّرت أو الزَّنا أو الشُّرب أو القَذْف. فمتى أقيم حدٌّ من هذه الحدود أجزأ عن كل ما تقدَّم من جنس تلك الجناية، فإن ارتكبها بعد الحدّ حُدَّ مرةً أخرى، وإذا اختلفت أسباب الحدود لم تتداخل، ويستوفي جميعها كالشُّرْب والزَّنا والقَذْف إلاَّ أنّ حدَّ الشُّرْب يدخل تحت حدَّ القذف؛ لأنه فرع عنه فيغني أحدهما عن الآخر. ولا تسقط الحدود بالتوبة ولا بصلاح الحال ولا بطول الزمان، بل إن ثبتت ولم يكن أقيم علهي فيها الحدُّ حُدَّ حيث ثبتت، وإن كان بعد حين. وكلُّ حدًّ اجتمع مع القتل فالقتل يغني عنه، إلاَّ حدَّ القذف فإنه يُحَدُّ وحينئذٍ يُقْتَل اهـ بحروفه. قال رحمه الله تعالى: "ويَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ" يعني أنّ الحدّ يسقط بالشبهة لخبر: ادرؤوا الحدود بالشبهات، وسُمَّيَتِ الشبهوُ شبهةّ لأنها تشبه الحقَّ ولها أمثلة كثيرة: منها أن يطأ الرجل امرأة يظنها زوجةَ أو أمَةً له أو يطأ الأب أمَة ابنه أو أمَة بنته ولو عَمْدًا، فلا يلزمه إلاَّ القيمة. قال مالك في الموطَّأ في الرجل يقع على جاية ابنه أو ابنته: إنه يُدرَأُ عنه الحجدُّ وتُقامُ عليه الجارية حَمَلَتْ أو لم تَحْمل. وقال في الرجل يحلّ للرجل جاريته: إنّه إن أصابها ال 1 ي أُحِلّت له قُوَّمت عليه يوم أصابها حَملت أو لم تَحْمل، ودُرئ عنه الحدُّ بذلك، فإن حَمَلَتْ أُلْحِقَ به الولد. ولَفْظْ المدوَّنة: فإذا وطئها دُرئ عنه الحدُّ بالشبهة ولزمته القيمة فيها اهـ. الشبهة تدخل في جميع الأبواب وهي من جوامع الكلم. قال ابن يونس: رُوِيَ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال::ادرؤوا الحدود بالشبهات". ويقال: ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فلأن يخطأ حاكم من الحكام في العفو خير من

أن يخطأ في العقوبة، إذا رأيتم للمسلم مخرجًا فادرؤوا الحدود عند اهـ نَقَلَه الموّاق. قال رحمه الله تعالى: "وَيؤَخَّرُ لِلْحرَّ وَالْبَرد والْحَمْل كَمَا تَقَدَّمَ" يعني أنه يؤخَّر الحدُّ إذا كان في الوقت الحرَّ أو البرد المفرط، وكذلك يؤخر عن المرأة حتى تضع إن كانت حامِلاً كما تقدَّم جميع ذلك في القصاص عند قول المصنَّف: ويؤخَّر لشدّة الحرَّ والبرد والحامل للوضع، فإن وُجِدَ مَنْ يُرضعه وإلاَّ فإلى انفصال فراجِعْه إن شئت. قال رحمه الله تعالى: "ويثبت بالبينة أربعة أحرار مجتمعين على رؤية فرجه في فرجها فلو قالوا زنا يوجب الحد بغير وصف كانوا قذفة كشهادة ثلاثة وشك الرابع أو امتنتاعه ولو رجع قبل الحد فالكل قذفة وبعده وحده" يعني يثبت الحدّ في الزنا بالبينة أربعة أحرار متفقين كلهم على رؤية فرجه في فرجها ويؤدّون الشهادة على هذه الصفة في وقت واحد، ولا يكفي قولهم: إن هذا الرجل زَنا بهذه المرأة بدون وصفْ، بل ذلك ممَّا يوجب عليهم حدَّ القذف كما لو شهد ثلاثة وشكَّ الرابع، أو امتنع عن الشهادة، أو شهد ورجع عن شهادته قبل الحدَّ فإنهم [130/] يستحقون حدَّ القذف جميعًا. وأمَّا لو كان رجوعه بعد الحدَّ فيلزمه حدُّ القذف هو وحده. قال في الرسالة: ولا يحدُّ الزاني إلاَّ باعتراف أو بحَمْلٍ يظهر أو بشهادة أربعة رجال أحرار بالغين عدول يَرَوْنُه كالمرود في المكحلة ويشهدون في وَقت واحدٍ، وإن لم يُتِمَّ أحدهم الصفة حُدَّ الثلاثة الذين أتموها. قال خليل: وللزَّنا واللواط أربعة بوقت ورؤية اتحدا. قال النفراوي: فجملة الشروط ستة: كون الشهود أربعة، وكونهم رجالأن وبلوغهم وعدالتهم، وقولهم: رأينا فَرْجَه في فَرْجِها كالمرود في المكحلة. فلا يكفي قولهم: نشهد أنّ فلانًا زنى بفلانة وأن تتفق شهادتهم في الزمان والمكان. فإذا وُجِدَت تلك الشروط حُدَّت المرأة ولو شهد أربع نسوة ببقاء عُذْرَتِها، بخلاف ما لو شهد على بقائها أربعة رجَال فإنه يسقط حدُّها، ولا يفسقون بتعمّد رؤيتها لأجْل الشهادة عليها بل يجوز لهم الإقدام على ذلك، كما يجوز

ذلك لشهود الزَّناكما نُقِلَ عن ابن القاسم. وإن اختلفت شهادتهم في شيئ من ذلك بطلت، ولذا قال: فإن لم يتمّ أحدهم الصفة بأن قال: رأيت ذَكَرَه بين فَخِذَيْها ولا أدري هل دخل فَرْجَها أم لأن فإنه يعاقب باجتهاد الإمام. وأمَّا الثلاثة الذين أتمّوها فإنهم يحدّون للقذف؛ لأنهم قذقة في تلك المرأة، بخلاف من قال: رأيت ذَكَرَه على باب فَرْجِها فقط فإنه لم يشهد بزِناها، فلا حدَّ عليه بل تعزير باجتهاد الإمام اهـ باختصار. قال رحمه الله تعالى: "وبَاعْتِرَافٍ وَيَكْفِي مَرَّةً أَوْ ظُهُورِ حَمْلِ خَلْوَةٍ"

يعين تقدَّم أن جملة شروط الحدَّ الاعتراف بمعنى الإقرار، وهو أوْلَى من الشهود. قال ابن جزي في القوانين: فأمَّا الاعتراف من العاقل البالغ فيوجب الحدَّ ولو مرّة واحدة، فإن رجع عن اعترافه إلى شبهة لم يحدّ، وإن رجع لغير شبهة فقولان، وإن رجع بعد ابتداء الحدَّ وقبل تمامه قُبِلَ منه في المشهور. وأمَّا الشهادة فأربعة رجال عدول يشهدون مجتمعين لا تراخ بين أوقات إقامتهم الشهادة على معاينة الزَّنا كالمرود في المكحلة، فإن كانوا أقلّ من أربعة لم يحدَّ المشهود عليه. وحدَّ الشهود حدَّ القذف، وإن رجع بعض الأربعة قبل الحُكْم أو شكَّ في شهادته بعد أدائها حُدّ الأربعة، وإن رجع أو شكَّ بعد الحُكْمِ حدَّ الراجع أو الشّاك وحده، وإن شهد ثلاثة وتوقَّف الرابع حُدّ الثلاثة دون الرابع، وإن شهدوا مفترقين في مجالس حدّوا، خلافًا لابن الماجشون. وأمَّا الحَمْل فإن ظهر بحرّة أو بأمضة ولا يثعْلَم لها زوج ولا أقرّ سيدها بوَطْئِها وتكون الحرّة مقيمة غير غريبة فتحدُّ، خلافًا للشافعي وأبي حنيفة في قولهما: لا حدَّ بالحَمْل اهـ. قال في المدوَّنة: إن ظهر بامرأة حمل ولم تَقُمْ بيَّنة بالنكاح حُدَّت. قال اللخمي: تُحَشدُّ إن لم تكن ذات زوج وسيد ولا [3/ 130/] * * * شبهة ولم تكن طارئة. وفيها أيضًا في رجل وُجِدّ مع امراة في بيت فشهد أبوها ,اخوها أنّ الأب زوَّجها إيّاه فلا يُقْبَل ذلك ويُعاقبان، وإن ثبت الوَطءء حدّا اهـ. هذا لعدم صحة الخلوة الشرعية، وهو معنى قوله: أو ظهور حَمل خلوةٍ. قال خليل: ولم يُقْبَل دعواها الغصب بلا قرينة، وكذلك لا يُقْبَل دعواها أنّ هذا الحمل من مَنيًّ شربه فَرْجُها في حمام، ولا من وَطْء جنّي، وأمَّا دعواها الوَطْ بشبهة أو غلط وهي نائمة فتُقْبَل؛ لأنّ هذا يقع كثيرًا، وتُقْبَل دعواها أيضًا إذا تعلقت بالمدَّعى عليه واستغاثتها عند النازلة فلا تُحدُّ اهـ. الدردير. قال رحمه الله تعالىوَيُقِيمُهُ السَّيَدُ عَلَى أَرِقَائِهِ إِنْ ثَبَتَ بِبَيَّنَةٍ أو اعْتِرَافٍ لاَ بِمُجَرَّد عِلْمِهِ أَوْ كَوْنِهَا زَوجْةَ حُر أَوْ مَمْلُوكَةَ غَيْرٍ" يعني كما في الرسالة: ويقيم الرَجل على عَبْدِهِ وأمَتِه حدَّ الزنا إذا ظهر حَمْلٌ، أو قامت بَيَّنَةٌ غيرهُ أربعة شهداء، أو كان إقرار، ولكن إن كان للأمة زوج حر أو عبد لغيره فلا يقيم الحدَّ عليها إلاَّ شروط: وهي ظهور حَمْلٍ أو قامت البيَّنة عادلة أو اعتراف بالزنا على نفسيهما ولم يرجعا، فيجوز لسيَّدهما حينئذ إقامة الحدَّ عليهما. ومثل حدَّ الزَّنا حدُّ الشُّرْب والقذف، لكن يطلب أن يحضر السيد لجَلْدِه في الخمر والفرية رجلَيْن، وفي الزَّنا أربعة رجال عدول. وأمَّا حدُ السرقة فلا يجوز للسيد إقامته عليه، وإنَّما يقيمه الإمام أو نائبه، فإن تولاّه السيد وقَطَعَ يده مثلاً وكانت البيَّنة عادلة وأصاب وَجْهَ القطع أدَّبه الإمام؛ لتقدمِه عليه في ذلك. وما تقدم من أنه جوَّز له إقامة الحَّد للسيد مشروط بعدم الزوج للأمة لقوله: ولكن إن كان للأمَة زوج حرٌّ أو عَبْدٌ لغيره فلا يقيم الحدَّ عليها حينئذِ إلاَّ السلطان أو نائبه، لأن للزوج حقًا في الفراش، وما يحدث فيه من ولد فليس لسيد الأمة أن يفسده، ولا يدخل عليه فيه ضَرَرًا إلاَّ بِحُكْم، بخلاف العبد وذلك فيه جائز لعدم الضرورة. فالحاصل أن السيد إنَّما يقيم حدّ الزَّنا على عَبْدِه إذا كان خاليًا من زوج، أو كان متوجاً بمِلْك سيَّده. وما أحسن قول خليل: وإقامة الحاكم والسيد إن لم يتزوج بغير مِلْكه. والدليل عىل ذلك خبر: إذا زَنَتْ أمَة أحدكم فتبيَّن زِناها فلْيَحِدَّها وفي أبي داود عن عليَّ

فصل في القذف

كرَّم الله وجْهَه في جارية لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجرت فقال عليه الصلاة والسلام: "أقم عليها الحدَّ وأقيموا الحدود على ما ملكتْ أيمانكم" اهـ. نَقَلَه النفراوي. ولمَّا أنْهَى الكلام على ما تعلَّق بأحكام القذف ويسمّى فرية ورميًا فقال رحمه الله تعالى: فَصُلٌ في القذف أي في بيان ما يتعلق بأحكام حدّ القذف. قال الصاوي: أمَّا تسميته فرية فكأنه من الافتراء والكذب وأمَّا تسميته رميًا فلقوله تعالى: "وَالَذِينَ يَرمُونَ الْمُحصَنَتِ" [النور: 4] الآية، والقذف لغةً الرمي بالحجارة وعُرْفًا رمي مكلَّف حرًّا مسلمًا بنَفْيِ نسب عن أب أو جدَّ، أو بزِنا لذي آلةٍ بِما يدلُّ على ذلك. وهو من الكبائر وموجب للحدَّ ولبيان ذلك. قال رحمه الله تعالى: "حَدُّ الْقَذْفِ ثَمَانُونَ لِلحُرَّ ولَلْعَبْدِ أَرْبَعُونَ" يعني أن مَنْ نفى شخصُا عن نسبه أو رماه بالزَّنا فعَلَيْه الحَدُّ ثمانون جلدة، وعلى العبد أربعون. قال ابن جزي في شروط الحَّد: وهي ثمانية: منها ستة في المقذوف، وهي الإسلام والحرية والعقل والبلوغ والعفاف عمّا رُمِيَ به من الزَّنا، وأن تكون معه آلة الزَّنا، فلا يكون حصورًا ولا مجبوبًا قد جُ قبل بلوغه. واثنان في القاذف وهما العقل والبلوغ، سواء كان حرَّا أو عَبْدًا، مسلمًا أو كافرًا اهـ. قال رحمه الله تعالى: "إِذَا رَمَى حُرَّا مُسْلِمًا مُكَلَّفًا عَفيفًا، وَيُشْتَرَطُ فِي المرْأةِ إِطَاقَةُ الْوَطءِ لا بُلُوغُ التَّكْلِيفِ" يعني كما في أقرب المسلاك: القذف رَمْيُ مُكلَف

ولو كافِراً حرًّا مسلمًا بنَفْي نسب عن أبٍ أو جد، أو بِزِنًا إن كُلَّفَ وعَفَّ عنه ذا آلةٍ أو إطاقة الوط بما يدلُّ عُرفًا ولو تعريضًا، كأنا معروف النسب، أو لستُ بِزانِ، وأنا عفيفُ الفَرْج، وكقحبةٍ وصبيةٍ وعِلْق ومخنّثٍ بجلد ثمانين جَلْدة، والرقيقُ نِصْفُها، وإن كُرَّر لواحد أو جماعةٍ إلاَّ بعده، وإن قذف في أثنائه ابتدأَ لهما إلاَّ أن يبقى اليسير فيكمل الأوّل اهـ. قال رحمه الله تعالى: "صَرَّحَ بِهِ أَوْ عَرَّضَ كَقَوْلِهِ يَا مَنْبُوذُ أَوْ فِي الْمشَاتَمَةِ اَنَا لَسْتُ بِزَانٍ وَأُمضّي لَيْسَتْ بِزَانِيةٍ وَلاَ ابْنُ أَمَةٍ يَا ابْنَ زِنِيةٍ لاَ زَانيَةٍ". يعني إذا قذفه بالزَّنا فإنه يحدّ سواء صرَّح في قذفه بلفظ صريح كأن قال له: أنت زنيت أو يا زانٍ، أو قذف بالتعويض كما وصف المصنَّلإ. وعلى كل حال إنه يحدّ ثمانين جَلْدة. قال في الرسالة: وعلى القاذف الحرَّ الحدُّ ثمانين، وعلى العبد أربعون في القذف وخمسون في الزَّنا، والكافر يُحَدُّ في القذف ثمانين، ولا يُحَدُّ على قاذف عَبْدٍ أو كافر، ويُحَدُّ قاذف الصبية بالزَّنا إن كان مثلها يوطأ، ولا يحدُّ قاذف الصبي، ولا حدّ على مَنْ لم يبلغ في قذفٍ ولا وَطْءٍ. ومَنْ نفى رجلاً من نسبه فَلَيْه الحدّ، وفي التعريض الحدُّ، ومَنْ قال لرجل: يا لوطيُّ حُدّ اهـ. قال في أقرب المسالك: وليس له حدُّ والديْهِ، أي ليس للولد أن يحدَّ والديه في القذف على الراجح. قال الصاوي: وهو مذهب المدوَّنة، ومقابله يقول له حدهما في التصريح، وُحْكَم بفسْقِه، وذهب إلى هذا القول جماعة من أئمَة المذهب. قال ابن جزي في القوانين: ويحدُّ الوالد إذا قذف ولده على المشهور وتسقط عدالة الولد. وعبر الدردير قول الأول بالراجح. وعبر ابن جزي قول الثاني بالمشهور. والفرق بين الراجح والمشهور: أن الراجح ما قَوِيَ دليله، والمشهور ما كَثُرَ قائله كما تقدَّم فتأمَّل. قال رحمه اللهَّ تعالى: "وَلَوْ أَقَرَّ بِالزَّنَا بِامْرَأَةٍ مُعَيَّنَة فَإنْ صَدَّقَتْه حُدَّ لِلزَّنَا

وَإلاَّ حُدَّ لِلْقَذْفِ أَيْضًا" يعني مَنْ أقرَّ على نفسه بالزَّنا بامراة فصدَّقَتْه في ذلك لزمها الحدّ، وإن لم تصدَّقه فإنه يحدُّ للقذف، ويلزمه أيضًا حدّ الزَّنا لإقراره؛ لان المكلَّف يؤاخذ بإقراره. وفي القوانين: مَنْ قال لامراته زَنَيْتُ بك فعَلَيْه حدُّ الزَّنا وحدُّ القذف وعبارة الدرجير في أقرب المسالك: وإن قال لامْرأة: زَنَيْتِ فقالَتْ: بكَ حُدّت للقذف والزَّنا، وله القيام به وإن عَلِمَه من نفسه كَوضرِثِه اهـ. انظر خليل وشراحه. "وَيُحَدُّ لِلْجَمَاعَةِ حَدًّا وَاحِدًا لِمَنْ قَامَ بِهِ كَتَدَاخُلِهِ قَبْلَ إقَامَتِهِ" يعني إذ قذف قاذف على الجماعة وقام بهواحد منهم بطلب حقه وأقام الغمام على القاذف حدًا سقط القيام لباقي الجماعة، هذا بناء على أن حدَّ القذف حقٌ لله تعالى. وقال الشافعي: يحدّ القاذف لكلواحد منهم، وعلى المذهب يجزئ حد واحد، لتداخل الحدود في بعضها كما تقدم عند قوله: ويتداخل الحدّ قبل إقامته فراجِعْه إن شئت. قال رحمه الله تعالى: "وَالصَّحِيحُ أَنَّه حَقٌّ لِلْمَقْذوفِ فَيَقِفُ عَلَى طَلَبِهِ وَيَقومُ وَارِثُهُ مَقَامَه وَقِيلَ بَلْ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى" يعني أنَّه اختلف قول مالكف ي حدَّ القذف، هل هو حقٌّ للمقذوف أو حقُّ الله تعالى؟ قال العلامة العدوي في حاشية الخرشي: الحاصل أنه قبل بلوغ الغمام حُّ مخلوق وبعده حقّ خالق، وهو أحد قولَيْ مالك. والقول الآخر حقٌّ للخالق فلا عَفْوض ولو قبل البلوغ اهـ .. قال العلاّمة عبد الوهاب الشعراني في الميزان فيما اختَلَفَ فيه الأئمّة: ومن ذلك قول أبي حنيفة: إنّ القذف حقٌّ لله تعالى، فليس للمقذوف أن يسقطه، ولا أن يبرأ منه، وإن مات لم يورث عنه مع قول الشافعي وأحمد في أظهر روايتَيْه أنه حقٌّ للمقذوف فلا يستوفى إلاَّ بمطالبته، وإن له إسقاطه، وأن يبرأ منه، وأنه يورث عنه وبه. قال مالكف ي المشهور عنه: إلا أنه قال: متى رفع إلى السلطان لم يملك المقذوف الإسقاط ثم قال: ووَجْهُ قول مالك في صورة الرفع إلى السلطان ما ورد في الصحيح من وجوب الحكم بإقامة الحدّ إذا رفع إليه، وتحريم قبول الشفاعة في إسقاطه اهـ.

فصل في الخمر وأحكامها

ولمَّا أنهى الكلام على ماتعلَّق بأحكام القذف انتقل يتكلم على ما يتعلق بأحكام شارب الخمر فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في الخمر وأحكامها أي في بيان ما يتعلَّق بالخمر وما يجبُ على شاربها من الحدّ وهي أمّ الخبائث. قال الشعراني في الميزان: أجمع الأئمة الأربعة على تحريم الخمر ونجاستها، وأنّ شرب الخمر قليلها وكثيرهاموجب للحدّ، وأن مَنِ استحل شُرْبَها حُكِمَ بكفره اهـ. وعن ابن عمر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مُسْكِر خمرٌ وكل مُسْكِر حرام". أخرجه مسلم. وفي رواية أن رسول الله صلى الهعليه وسلم قال: "ما اسكر كثيره فقليله حرام". أخرجه الموطَّأ عن جابر. قال مالك: والسنّة عندنا أنّ كُلَّ من شرب شرابًا مُسكرًا فسكرَ أو لم يسكَر فقد وَجَبَ علهي الحدُّ ولذا قال رحمه الله تعالى: "إِذَا شَرِبَ مُسْلِمٌ شَيْئًا مِنْ مُسْكِر وَإِنٌ قَلَّ وَإِنْ لم يُسْكِرْ حُدَّ كَالْقَذْفِ" يعني يحدُّ ثمانين جَلْدَة كحد القَذْف. قال في الرسالة: ومَنْ شرب خمرًا أو نبيذاً مسكراً حُدَّ ثماني، سَكرَ أو لم يسكر، ولا سجْنَ عليه، يريد إذا كان حرًا مسلمًا. قال ابن جزي في شروط الحدَّ: وهي ثمانية: الأول: أن يكون الشارب عاقلأن الثاني: أن يكون بالغًا، الثالث: أن يكون مسلِمًا، فلا حدّ على الكافر في شُرْبِ الخمر، ولا يُمْنَع منه؛ الرابع: أن يكون غير مُكْرَه، الخامس: ألاَّ يضطر إلى شُرْبِها لِغصّة، السادس: أن يَعْلَم أنه خمر، فإن شربه وهو يظنه شرابًا آخر فلا حدّ عليه، السابع: أن يكون قد عَلِمَ أن الخمر محرَّمة، فإن ادَّعى أنه لا يَعْلَم ذلك فاختُلِفَ هل يُقْبَل قوله أم لا؟ الثامن: أن يكون مذهبه تحريم ما شرب، فغ، شرب النبيذ مَنْ يرى أنه حلال فاختُلِف هل عليه حدٌّ أم لا؟ ثم قال في مقدار الحدّ: وهو ثمانون جَلْدة، وأربعون للعبد، خلافاً للشاعفي. والدليل على مذهب ما في الموطَّأ

أن عمر بن الخطاب استشارَ في الخمر يشربها الرجل فقال له عَلِيُّ بن أبي طالب: نَرى أن تَجلِدَه ثمانين فإنه إذا شرِبَ سَكِرَ وإذا سكرَ هَذَى وإذا هذَى افتَرَى، أو كما قال فجَلَدَ عُمَرُ في الخمر ثماني. هذا في الحرّ، وأمّا فيالعبد فقد روى مالك عن ابن شهاب أنه سئل عن حدّ العبد في الخمر فقال: بلغني أن عليه نِصْفَ حدَّ الحرَّ في الخمر، وأنّ عمر بن الخطاب وعثمانَ بنَ عفانَ وعبدَ الله بنَ عمرَ قد جَلَدُوا عبيدًا لهم نِصْفَ حدَّ الحرَّ في الخمر اهـ. قال رحمه الله تعالى: "إِذَا صَحَا" يعني أنه لا يُحَدُّ الشارب في حال سُكْرِه حتى يزول عنه سُكْرُه فحينئذ يُقام عليه الحَدُّ. قال الخرشي: لانعقاد إجماع الصحابة على ذلك بعد عثمان، فلو جَلَدَه الإمام قبل صَحْوِه فإن الحدَّ يُعاد عليه ثانيًا؛ لعدم فائدة الحدَّ وهو التألُّم والإحساس، وهو منتفٍ في حالة سُكْرِه اهـ. ثم ذكر ما يثبت به الحدُّ وهو ثلاثة أشياء: إمّا الإقرار وهو الاعتراف، وإمّا الشهادة، او وجود الرائحة. قال رحمه الله تعالى: "اعترف أو شهد عدلان بشربه أو استنكهاه فوجدا ريحه" يعني يجب الحدّ على مَنِ اعترف على نفسه أو شهد عليه عدلان بشربها، أو وجدّا ريحه عنده. قال ابن جزي في القوانين فيما يثبت به الحدُ: وهو الاعتراف، أو شهاد رجلَيْن على الشُّرْب، ويُلْحَق بذلك أن تُشَمَّ عليه رائحة الشراب خلافًا لهما، ويشهد بذلك مَنْ يعرفها، ويكفي في استنكاه الرائحة شاهد واحد؛ لأنه من باب الخبر اهـ. وكان عمر بن الخطاب وجد ريح مُسْكِر عند رجل فسأل عنه فقالوا: إنه مُسْكِر فجَلَدَهُ عمر الحدّ تامَّا اهـ. الموطَّأ بمعناه. قال رحمه الله تعالى: "فإن شرب وقذف تداخل ما لم يُحد لأحدهما" يعني فلو شرب وقذف فلا يتعدّد الحدُّ لذلك؛ لأن حدَّ أحدهما يندرج في آخر ما لم يحدَّ في أحدهما ثم فعل آخر فيحدّ ثانيًا كما تقدَّم. وفي الموطأ عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن

فصل في السارق

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ شرب الخمر في الدنيا ثم لم يَتُبْ منها حُرِمَها في الآخرة" اهـ. انظر شراحه. ولمَّا أنهى الكلام على ماتعلق بأحكام الخمر وما على شارهبا من الحدَّ انتقل يتكلم عن مسائل السرقة وحُكْمِ السارق فقال رحمه الله تعالى: فَصْلْ في السارق أي في بيان ما يتعلَّق بمسائل السرقة وحُكْم السارق والسارقة. قال اللَّه سبحانه وتعالى في سورة المائدة: والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة: 38] وسيتي حديث المخزومية المروي عن عائشة في آخر الفصل. قال العلاّمة الدردير في تعريف السرقة: هي أخْذُ مكلَّف نِصابًا فأكثر من مال محترم لغيره بال شهبة قوية خفية بإخراجه من حِرْزٍ غير مأذونٍ فيه وإن لم يخرج هو بقصدٍ واحدٍ أو حرًّا لا يميّز لصغَر أو جنون فتُقْطَع يده اليمنى اهـ. وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله: "يُقطَعُ الْمُكَلَّفُ لإخْرَاجِهِ مِنْ حِرْزٍ مَمْنُوع عَنْهُ رُبْعَ دِينَار أَوْ ثَلاَثَةَ دَرَاهِمَ أَوْ عَرَضًا يُسَاوِي أَحَدَهُمَا لاَ شُبْهَةَ لَهُ فِيه" يعني كما قال مالك: أحبُّ ما يجب فيه القَطْعُ إلى ثلاثة دراهم وإن ارتفع الصرف أو اتضع، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم، وأنعثمان بن عفان قطع في أُترجة قوَّمَتْ بثلاثة دراهم، وهذا أحبُّ ما سمعت في ذلك اهـ. الموطَّأ. وفي الرسالة: ومَنْ سرق ربع دينار ذهبًا، أو ما قيمته يوم السرقة ثلاثة دراهم من العروض، أو وزن ثلاثة دراهم فضّة، قطع إذا سرق من حِرْزٍ. قال شارحها: والحاصل أن القَطْعَ لا بدّ فيه من شروط، بعضها فيالسارق وبعضها في المسروق، فَشَرْطُ السارق التكليف، وكونه غير رقيق للمسروق منه، وكونه غير أصل له كأبيه وأمَّه وجدَّته وإن علَوْا، وكونه غير مضطر إلى الشيئ

المسروق، فلا قطع على صبي ولا عبد سرق مال سيَّده، وعلى على أصل سرق مال فرعه، ولا على مضطر سرق طعامًا لسدَّ جوعته، وشَرْطُ المسروق إن كان آدميًا أن يكون طفلاص حرًّا، أو عبدًا لا يعقل لصغر أو بَلَه أو كِبَر، وأني كون حين سرقته في حِرْزٍ أو مع حافظ، وإن كان مالاً فشَرْطُه أن يكون مملوكًا لغيره، ومحترمًا ولا شبهة له فيه، فلا قطع على مَنْ سرق رَهْنَه أو ودجيعته، ولا على مَنْ مَلِك النَّصاب قبل إخراجه من الحِرْز، والدليل على تحديد نِصاب السرقة بِما ذُكِرَ ما في الصحيحَيْن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُقْطَعُ يد السارق إلاَّ في ربع دينار فصاعدًا". وفي الموطَّأ ويغره أن علهي الصلاة والسلام قطع يد سارق في مجن قيمته ثلاثة دراهم. والمجن الترس كما في القاموس، وذهب بعض العلماء إلى القَطْع في القليل والكثير تمسُّكًا بقوله صلى الله عليه وسلم "لعن اللَّه السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده"، وتأوَّله الجمهور على بيضة الحديد، وعلى حبل تساوي قيمته ثلاثة دراهم. واعتبر التقويم بالدراهم لأنه المشهور، وسواء ساوت الثلاثة درانم الربع دينار أو نقصت، ولذا لو ساوت قيمة المسروق الربع دينار ولم تساو الثلاثة دراهم لم يُقْطَع، وهذاكلُّه حيث وجدت الدراهم في بلد السرقة وإن لم يُتعامل بها، وأمَّا إن لم يكن في بلد السرقة إلاَّ الذهب فالتقويم بالذهب. راجع شراح خليل. اهـ. النفراوي. قال رحمه اللَّه تعالى: "وَيردُّهُ لِقيَامِه وَيَضْمَنُه لِفَوْتِه إلاَّ أَنْ يَكُونَ عَدِيمًا" يعني أن الشيئ المسروق إذا كان قائمًا بعينه وجَبَ ردُّه لصاحبه، وإن فات فيضمن السارق مثله إن كان مِثْليًا أو قيمته، إلاَّ أن يكون عديمًا فيتبع به إلى ميسرة. قال في الرسالة: ومَنْ أقرَّ بسرقة قطع، وإن رجع أقيل وغُرِمَ السرقة إن كانت معه وإلاَّ أتبع بها. وقال أيضًا: ويتبع السارق إذا قطع بقيمة ما فات من السرقة في غِناه ولا يتبع في

عَدَمِه، ويتبع في عَدَمِه بما لا يُقْطَع فيه من السرقة اهـ. قوله: ويضمنه لفَوْتِه وفي نسخة لفواته. قال خليل: وَجَبَ ردُّ المال إن لم يُقْطَع مطلَقًا أو قطع عن أيسر إلهي من الأخذ. قال الخرشي: يعني أن السارق إذا لم يُقْطضع إمّا لعدم كما لانَّصاب الشاهد عليه بالسرقة، أو لعدم النَّصاب المسروق من الحرز، أو كان نِصاباً إلاَّ أنه من غير حِرْزٍ وما أشبه ذلك، فإن المال المسروق يُرَدُّ لربَّه، سواء ذهب من السارق أم لأن كان السارق مليئاً أم لأن ويحاصص ربه غرماء السارق إن كان عليه دَيْن، فإن قطع السارق فإن كان مليئًا من حين السرقة إلى يوم القَطْع فإن المال يؤخذ منه؛ لأن اليسار المتصل كالمال القائم بعينه فلم يجتمع عليه عقوبتان. فلو وجد المال السمروق بعينه فلربَّه أخْذُه بإجماع، وليس للسارق أن يتمسّك به ويدفع لربَّه غيره، أمَّا لو كان السارق عديمًا حين أخذ المال أو أعْدِم في بعض هذه المدة لسقط عنه الغُرْم، لئلا يجتمع عليه عقوبتان: قطع يده واتبع ذِمَّته، بخلاف اليسار المتصل اهـ. قال رحمه الله تعالى: "فَتقْطَعُ يَدُه اليُمْنَى وَتُحْسَمُ" يعني إذا توافرت شروط الحدّ القَطْعُ، فتُقَطَع يد السارق اليمنى من الكوع لِما بيَّنه صلى الله علهي وسلم من عموم قول الله تبارك وتعالى: والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا الآية، وإذا قُطِعَتْ يده وَجَبَ على الإمام أو نائبه الذي تولى ذلك أن يحسم العضو المقطوع، فأن يغلي زيتًا ويجعل العضو فيه لينقطع سيلان الدم. قال العدوي في حاشية الخرشي: فالوجوب متعلق بالإمام أو بِمَن يتولى القَطْعُ، كان الإمام أو نائبه. قال النفراوي: وإذا قطع فإنه يحسم بالنار، أي يُكوى موضع القَطْع؛ لِما جاء في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم "اقطعوه ثم احسِموه". والحسم بالحاء المهملة والسين المهملة لمكسورة الكيّ، هكذا بيَّنت السنّة، وإنَّما حُسِمَتْ بالنار ليقْطَع جريان الدم بحَرْق أفواه العروق؛ لأن دوام جَرْيهِ يؤدّي إلىموت المقطوع. والحَسم من حقَّ المقطوع لا من تمام الحدّ، خِلافًا لبعض الشيوخ.

والظاهر كما قال الحطاب: أن حُكْمَ الحَسِم الوجوب على كل من الحاكم والمقطوع، فيأثمان بِتَرْكِه اهـ. قال رحمه الله تعالى: "وَالشَّلاَّاءُ وَالْمَقْطُوعَةُ الأَصَابع كَالْمَعْدُومةِ" يعني أ، السارق إذا شُلَّت يمناه أو قُطِعَ أكثر أصابعها سواء كان ذلك بسماوي أو خلقة فهي كالمعدومة، وينتقل الحُكْمُ إلى رِجْلِه اليسرى. قال النفراوي: وأمَّا مَنْ لا يمين له أو له يمين شلاء أو ناقصة أكثر الأصابع فرِجْلُه اليسرى هي التي تقطع أولاص، على المشهور من قولَيْ مالك، وأخذ به ابن القاسم. وإن كان مالك أمر بمَحْوِه وإثبات قطع اليد اليسرى؛ لأن أصحابه ضعَّفوا المثبت ورجَّحوا المَمْحو اهـ. قال رحمه الله تعالى: "ثُمَّ إِنْ تَكَرَّرَ قُكِعَ مِنْ خِلاَفٍ فإِنْ عَادَ ضُرِبَ وَحُبِسَ" يعني كما في المدوّنة: مَنْ سرق مرّة بعد مرّة قُطِعَتْ يده اليمني، ثم إن سرق قُطِعَتْ رجله اليسرى، ثم يده اليسرى ثم رجله اليمنى اهـ. قال في الرسالة: ويُقْطَعُ في ذلك يد الرجل والمرأة والعبد، ثم إن سرق أي مرّة ثانية قُطِعَتْ رِجْلُه من خِلاف، ثم إن سرق أي مرّة ثالثة فَيَدهُ اليسرى، ثم إن سرق أي مرّة رابعة فرِجْلُه اليمنى، ثم إن سرق أي مرَّة خامسة جُلِدَ وسُجِن، أي إلى أن تظهر توبته، ولا يُقْتَل على المشهور. قال رحمه الله تعالى: "وَلاَ يَسْقُطُ بِتَمَلُّكِهِ إِيَّاهُ" يعني لا يسقط الحدُ عن السارق بتمَلُّك الشيئ المسروق للسارق، لكن هذا بعد البلوغ إلى الإمام، وأمَّا قبل الإمام فجائز كما تجوز الشفاعة قبله لا بعده؛ لِما في الموطَّأ أن سارقًا أخذ رداء صفوان وهو نائم في المسجد فتيقَّظ وأخذ السارقَ فجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمَرَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم تُقْطَعَ يده، فقال له صفوان: إني لم أرِدْ هذا يا رسول الله، هو عليه صَدَقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فَهَلاَّ قبل أن تأتِيَني به" اهـ. وفي بعض الطرق: فغن الحدود إذا انتهت إلَيَّ فليس لها مترك، كما في حديث

المخزومية. وفي أخرى: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَرَ بقطع سارق رداء صفوان من المفصل أي مفصل الكوع اهـ. انظر شراح الحديث. قال رحمه اللَّه تعالى: "والأقاربُ كالأجانِب" يعني أ، حُكْمَ السرقة بين الأقارب في وجوب الحدَّ كحُكْمِه بين لأجانب سواء. إلاَّ ما استثنى بقوله: "إلاَّ الأبَوَينِ في مالِ الولد بِخِلافِ عكسِه والضَّيفَ" يعني أن الأب والأمَّ إذا سرقا من مال ولدهما فإن لا قطع عليهما، ومثلهما الجدّ ولو لأمَّ إذا سرق من مال ابن ابنه أو ابن ابنته، لقوّة الشُّبهة، لقوله عليه الصلاة والسلام: "أنت ومالك لأبيك". أمَّا الابن إذا سرق من مال أبيه أو من مال جدّه فإنه يُقْطَع، لضعف شُبْهَتِه، كما أنه يحدُّ إذا وِطشئ جارية أبيه أو أمَّة، بخِلاف الأبِ إذا وَطئ جارية ابنه، لقوّة شُبْهَتِه، قاله الخرشي اهـ. وفيه. أيضًا نَقْلاً عن ابن رشد أنه قال: لا قطع على مَنْ سرق من موضع مأذون له في دخوله، كالشخص يضيف الضيف فيدخله داره، أو يبعث الشخص إلىداره ليأتِيَه من بعض بيوتها بشيئ، وما أشبه ذلك، فيسرق من موضع مغلق قد حُجِرَ علهي فيه وإن خرج من جميع الدار؛ لأنه خائن لا سارق اهـ. ومثله في الموّاق عند قول خليل: لا إذْنَ خاص كضيف ممَّا حَجَرَ عنه. فراجِعْه إن شئت. وكذلك أنه لا قطع على مضنْ سرق رَهْنَه من مرتَهَنِه، وأجْرته من المستأجرن ولا مَنْ سرق شيئًا له فيه نصيب، ولا على صاحب الدذَيْن إذا سرق من غريمه قدر دَيْنِه. واختُلِفَ في قَطْع مَنْ سرق من المغنم قبل القِسُم إذا كان له فيها نصيب، وقيل: إن سرق فوق حقَّه بثلاثة درانم قُطِعَ كشريك إن حجب عنه اهـ. ابن جزي بتوضيح ومثله في الخرشي. قال رحمه اللَّه تعالى: "وكُلٌّ منَ الزَّوجَينِ فيما حُرِزَ عنهُ وعبْد كُلَّ مِنْهُمَا في مالِ الآخرِ" يعني أن أحد الزوجين إذا سرق من مال صاحبه في حِرْزٍ مخصوص

محجور عنه فإنه يُقْطَع. قال خليل عاطِفًا على ما يُقْطَع به: أو زوج فيماحُجِرَ عنه. قال الشارح: وكذلك يُقْطَع أحد الزوجين إذا سرق من ماله صاحبه، بِشَرْط أن يكون المال المسروق في مكان محجور عن السارق أن يدخله. أمَّا لو سرق من مكان يدخله فإنه لا قطع عليه؛ لانه حينئذٍ خائن لا سارق، وأصله ما فيالموطأ من قول مالك: وكذلك الرجل يسرق من متاع امرأته أو المرأة تسرق من متاع زوجها ما يجب فيه القَطْعُ، إن كان الذي سرق كلُّ واحدٍ منهما من متاع صاحبه في بيت سِوَى البيت الذي يغلقان عليهما، وكان في حِرْز سوى البيت الذي هما فيه؛ فإنّ مَنْ سرق منهما من متاع صاحبه ما يجب فيه القَطْعُ فيه. وحُكْمُ أمَة الزوجة في السرقة من مال الزوج حُكْمُ عبد الزوج إذا سرق من مال الزوجة اهـ. قال رحمه اللَّه تعالى: "والْجَمَاعَةُ الْمُتَعَاوِنُونَ كَالْوَاحِد خضرَجَ بِهَا أَوْ رَمَاهَا إِلَى خارِجِهِ ثُمَّ خَرَجَ أَوْ رَبَطَهَا عَلَى دَابَّةٍ أَوْ أَلْقَاهَا عَلَى ماءٍ فَجَرى بها" يعني الجماعة المتعاونون في السرقة كالواحد يخرج النًّصاب من الحِرْز، أو رماه من داخل إلى خارج، أو ربط المسروق علىدابة فذهبت به، أو ألقاه في الماء الجاري فجرى به وأخذه في خارج الحِرْز فإنه يُقْطَع، كما تُقْطَع الجماعة بالتعاون على إخراجه من الحِرْز. قال في المدونة: إن دخلوا جميعًا للسرقة فحَمَلَه واحد منهم فخرج به وهم معه ولم يحملوه عليه ولم يحملوا شيئًا لم يُقْطَع إلاَّ مَنْ حَمَلَه وحدَه وإن دخلوا للسرقة جميعًا. قال: وإن خرجوا جميعًا وقد أخذ كلُ إنسان منهم شيئًا يحمله، وهم شركاء فيما أخرجوا، فَمَنَ خرج منهم بقيمة ثلاثة دراهم قثطِعَتْ يده، ومَنْ خرج منهم بقيمة أقل من ثلاثة دراهم لم يُقْطَع؛ لأن هؤلاَء لم يتعونوا على ما حَمَلَ كلُّ واحد منهم، إنَّما حَمَلَ كلُّ واحد منهم ما حَمَلَ وحده، ولم يحمل عليه صاحبه، ولم يحمل معه. وإنما مثل ذلك مثل القوم يدخلون جميعًا فيحملون السرقة على واحد منهم، فيخرج بها واحجد منهم يحملها، وهم الذين حملوها عليه، فيقطعون جميعًا، بمنزلة

ما لو حملوا المتاع في حِرْزِه على دابة أو على بعير أو حمار فخرجوا به إلاَّ أنهم اجتمعوا في حمله على الدابة إنهم يقطعون جميعًا اهـ. ومثله في الموطَّأ. وعلى المسألة الأولى أشار خليل عاطِفًا على ما لا قطع فيه بشرطَيْن بقوله: أَوِ اشْتركا في حمل إن استقلّ كُلٌّ، ولم يَنُبْه نِصاب. قال شارحه: هذا عطف على ما لا قطع فيه. والمعنى أنه إذا دخل اثنان فيا لحِرْز فاشتركا في حَمْل نِصاب فأخرجاه فإنهلا قطع على واحد منهما، لكن بشرطَيْن: الأول: أن يكون كل واحد منهما يستقلُّ بإخراجه من الحِرْز دون صاحبه. الثاني: ألاَّ ينوبَ كل واحد منهما نِصابٌ. فإذا لم يستقلَّ أحدهما بإخراجه من الحِرْز فعليهما القَطْعُ ولو لم يَنُبْ كلَّ واحد منهما نصابٌ، أو ناب كلَّ واحد نِصاب ولو استقل بإخراجه من الحِرْز. ف الحاصل إن ناب كُلاً نِصاب فالقَطْعُ على كل حال، وإلاَّ فإن استقلَّ كل بإخراجه من الحِرْز فلا قَطْع، وإلاَّ فالقَطْعُ عليهما أيضًا. وكذلك القَطْعُ عليهما إذا رفعوه على ظهر أحدهم في الحِرْز ثم خرج به إذا لم يقدر على إخراجه إلاَّ برفعهم معه ويصيرون كأنهم حملوه على دابة فإنهم يُقْطَعون إذا تعاونوا على رَفْعِه عليها. ولو حملوه على ظهر أحدهم وهو قادر على حِملِه دونهم كالثوب قُطِعَ وحده. ولو خرج كلُّ واحد منهم حامِلاث لشيئ دون الآخر وهم شركاء فيما أخرجوه لم يُقْطَع منهم إلاَّ مَنْ أخرج ما فيه ثلاثة دراهم. ولو دخل اثنان الحِرْزَ فأخذ أحدهما دينارًا وقضاه للآخر في دَيْنٍ عليه أو أودعه إياه قطع الخارج به، قاله ابن الموّاز. ولو باع السارق ثوبًا في الحِرْز لآخر فخرج به المشتري ولم يَعْلَم أنه سارق فلا قطع على واحد منهما قاله الباجي أهـ. الخرشي. قال الحطاب نَقْلاً عن المقدَّمات: يجب القَطْعُ في النًّصاب بإخراجه من الحِرْز، سرقه واحد من واحد، أو جماعة من جماعة، أو جماعة من واحد أو واحد من جماعة، إذا تعاونوا في إخراجه لحاجتهم إلى التعاون في ذلك اهـ. قال ابن جزي في القوانين: وغذا سرق جماعة نِصابًا ولم يكن في نصيب أحدهم نِصاب قُطِعُوا خِلافًا لهما، إلاَّ أن يكون في نصيب كلَّ منهم نِصاب فيُقْطَعوا اتّفاقاً اهـ.

قال رحمه الله تعالى: "أوِ ابتلعَ ما لا يَهلِكُ وإنْ أُخِذَ في الحِرْز بخِلاف أكلهِ الطعامَ فإنهُ يَغْرَمُه فقطْ" هذه الجملة معطوفة على ما قبلها، فالمعنى كما في الخرشي وكذلك يُقْطَعُ مَنِ ابتلع داخل الحِرْز درًّا أو دينارًا أو شبه ذلك ممَّا لا يفسد بالابتلاع حيث خرج السارق من الحِرْز، فإنه لا قطع عليه ولو خرج من الحِرْز، ولكن يضمنه لربَّه كما لو حرق أمتعة داخل الحِرْز ويؤدَّب. وعبارة الدردير على أقرب المسالك أنه قال: والمدار على إخراج النَّصاب ولو في جوفه إذا كان لا يفسد، كما لو ابتلع فيه كجوهر قدر نصاب ثم خرج فيُقْطَع، بخلاف ما لو ابتلع فيه نحو لحم وعنب يساوي نِصابًا فلا قطع، بل عليه الضمان، كما لو أتْلَفَ شيئًا في الحِرْز بحَرْقٍ أو كَسْر اهـ. قال رحمه الله تعالى: " "فلَوْ تَنَاوَلَهَا الخَارجُ وَسْطَ الثَّقْبِ قُطعًا وَلَوْ قَرَّبَهَا الدَّاخل وأَخْرَجَهَ الخَارجُ قُطِعَ وَحْدَه" يعني كما في الدردير: وإن التقيا أي الداخل في الحِرْز والخارج عنه، بأن التقيا بأيديهماوسط الثَّقْب، فأخرج الخارج الشيئ بمناولة الداخل، أو ربطه الداخل بحبل ونحوه، فجذبه الخارج عن الحِرْز قُطعا معًا ف يالمسألتَيْن، أي مسألة الالتقاء وسط الثَّقْبِ ومسألة ربط الداخل مع جذب الخارج. وإنَّما قطعا معًا لاشتراكهما في الإخراج من الحِرْز. وأمَّا لو قرَّبها الداخل ومدَّ الخارج يده وتناولها من الداخل فالقَطْعُ على الخارج فقط. فلو مدَّ الداخل يده بالشئ إلى خارج الحِرْز وتناوله غيره من خارج فالقَطْعُ على الداخل فقط اهـ. قال رحمه لله تعالى: "والسَّاحَةُ المُخْتَصَّةُ حِرْزٌ بِخِلاَفِ المُشْتَرِكةِ فَإنَّهُ يُقْطَعُ بالإخْراج إلَيها" يعني أن الساحة المختصّة حِرْزٌ لمتاع صاحبها، بخلاف المشتركة فإنه يُقْطَعُ بالإخراج إلَيْها. قال خليل: أو ساحة دار لأجنبي إن حُجِرَ عليه. قال الموّاق نَقْلاً عن ابن يونس: الدار المُشترَكَة المأذون فيها لسكِنِها مَنْ سَرَقَ من السكان من بيت

محجور عنه فإنه إذا أخرج المتاع من البيت إلى الساحة قُطِع، لأنه صيَّره إلى غير حِرْزِه، وإن سرق من الساحة لم يُقْطَعْ وإن خرج به من جميع الدار، لأنه موضع مأذون له فيه. وأمَّا إن كان السارق غير الساكن فإنه لا يقْطَع حتى يخرجه من جميع الدار، وساء سرق المتاع من البيت أو من لساحة. قاله سحنون. وقال ابن الموّاز عن مالك في هذا: إنه يُقْطَع إذا أخرجه من البيت إلى الساحة، وإن سُرِقَ من الساحة لم يُقْطَع حتى يخرج به من الجميع اهـ. ومثله في الموطَّأ. قال رحمه الله تعالى: "وَفَنَاءُ الحَانُوتِ والفُسْطاطِ وظَهْرِ الدَّابة والقِطَار ومَوْقِفِ الدَّابة بِبَابِ دَارِهِ حرْزٌ" يعني أن فناء الحانوت حِرْزٌ لبعض الأمتعة، لأن الحِرْزَ كما عرفوه: إنه ما لا يعد الواضع فيه مضيعًا عَرْفًا، ويختلف باختلاف الأشياء، وما يجعل فيه أو يصونه عن التَّلَفِ فالحانوت حِرْزٌ لِما فيه، والخيمة حِرْزٌ لِما فيها، والمحمل حِرْزٌ لِما فيه، سواء كان علىظهر الدابة أم لأن كان سائرًا أو نازلأن والفسطاط وهو بيت شعر حِرْزٌ لِما فيه، ككل موضع اتخذ منزلاً فهو حِرْزٌ لِما فيه، والجرين حِرْزٌ لِما فيه من زرع وثمر وغيرهما، وكذلك القبر حِرْزٌ للكفن، والسفينة حِرْزٌ لِما فيها، والمسجد حِرْزٌ لفراشهوآلته، وكذلك موقف الدابة بباب الدار حِرْزٌ لها، والحمّام حِرْزٌ لِما يضع الناس فيه من الثياب وغيرها، والإنسان حِرْزٌ لِما معه في جيبه أو كمه أو وسطه، أو يحمل على رأسه أو على ظهره أو يسمك بيده، فَمَن أخذ نِصاباً في حِرْزِه في شيئ من تلك المذكورات وأخرجه عن حِرْزه بلا شُبهة له فيه فإنه تُقْطع يده، سواء كان ذكرًا أو أنثى، حرًّا أو عضبْدًا، مسلمًا أو كافرًا: للآية المتقدَّمة " والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ" الآية وللأحاديث المروية كحديث المخزومية الآتي المروي عن عائشة، رضي الله تعالى عنها. قال في الرسالة: ويُقْطَعُ في ذلك يد الرجل والمرأة والعبد. قال شارحها: لا يُشْتَرَطْ في القَطْعِ ذكورة ولا حرَّية ولا إسلام، قال خليل: وشَرْطُه التكليف، فيُقْطَعُ الحر والعبد والمعاهد وإن لِمِثْلِهم. ونُبَّهَ لبعض

ما تقدَّم بقوله رحمه الله تعالى: "كالْقَبْرِ لِلكَفَنِ وَالْمَسْجِدِ لِفِراشِهِ وَآلتِهِ وَبَابِهِ وَالْحَمَّام" يعني كما تقدَّم أن القبر حِرْزٌ إلخ. قال في الرسالة: وكذلك الكفن من القبر، أي إذا خرج به من القبر وكان الكفن نِصابًا ولم يَزِدْ على الكفن الشرعي فغنه يُقْطَع به. وأمَّ مَنْ سرق ما زاد على الشرعي فلا قطع به على المعتمد كما مشىي عليه في المجموع اهـ. نَقَلَه الصاوي. قال لمالك: والأمر عندنا فيمن يَنبِشُ القبور أنه إذا بلغ ما أخرج من القبور ما يجب فيه القَطْعُ فعَلَيه فيهالقَطْع. قال: وذلك أنّ القبر حِرْزٌ لِما فيه كما أنّ البيوت حِرْزٌ لِما فيها. قال: ولا يجبُ عليه القَطْعُ حتى يخرج به من القبر اهـ. الموطَّأ. وكذلك المسجد حِرزٌ لنحو حصره وبسطه حيث كانت تترك فيه. فإن كانت تفرض نهارًا فقط فَتُرِكَتْ ليلةً فَسُرِقَ منها فلا قَطْع، كما أنه لا قطع على مضنْ سرق متاعًا نَسِيَه ربّه بالمسجد. وأمَّا مَنْ سرق بسطه أو قناديله أو غير ذلك من آلته فإنه يقطَعُ ولو لم يخرج به إذا أزاله عن محله إزالة بينة؛ لأنه لا يُشْتَرَطْ في قَطْع مَنْ سرق مِن المسجد أن يخرجه منه كما في الدردير. قال ابن جزي في القوانين: لا يُقْطَعُ مَنْ سرق قناديل المسجد خلافًا للسافعي أهـ. راجع الحطاب عند قول خليل عاطفًا على ما يوجب القَطْع: أَوْ أزال بابَ المسجد أو سقفه، أو أخرج قناديله أو حصرَهُ أو بُسُطَه إن تركت به أو حمّام إن دخل لسرقة إلى قوله: وصُدَّق مدَّعي الخطأ. قوله: الحمّام حاصل مسألة الحمّام كما في الخشري أنّ مَنْ دخل الحمام لأجْل السرقة وسرق منه فإنه يُقْطَع، وأمَّا إن أذن له في دخوله فدخله وسرق فلا قطع عليه، يُعْلَم ذلك من قرائن الأحوال. وكذلك يُقْطَع من نقب الحمّام أو تسوَّ {عليه ونزل إليه وسرق ما قيمته ثلاثة دراهم إذا أخذ خارج الحمّام. وأمَّا مجرَّد النقب فلا قطع فيه، وكذلك يُقْطَع مَنْ أخذ من ثياب الحمّام من غير إذن الحارس له في تقليب الثياب، وأمَّا إن أذِن له في تقليب الثياب فأخذ غير ثيابه فإنه لا يُقْطَع عليه، وسواء دخل لسرقة أم لا؛ لأنه خائن. وحيث قُلْنا بالقَطْعِ محله ما لم يدَّعِ أنه أخطأ فإن ادَّعى ذلك صَدُقَ إن أشبه قوله اهـ.

قال رحمه الله تعالى: "والصَّبيُّ لِمَا علَيْهِ إنْ كَانَ مَعَه حَافِظٌ والْرّضجُلُ لِمَا في جَيْبِهِ أوْ كُمَّه أوْ وَسَطِهِ" يعني أن الصبي لا يكون حِرْزًا لِما عليه من حلي وثياب إلا إذا كان معه حافظ، وإن يكن معه حافظ فلا قطع على مَنْ اخذ منه النصاب إن لم يكن بدار أهله. ومثل الصبي المجنون، والرجل كذلك حِرْزٌ لِما معه في جيبه أو كمَّه أو وسطه، فَمَنْ سرق منه النَّصاب قُطِع. قال في الرسالة: ومَنْ سرق من الكم قُطِع، ومَن سرق من الهَدْي وبيت المال والمغنم فلْيُقْطَع كما تقدَّم. قال رحمه الله تعالى: "والقَطْعُ فِ كُلَّ مَا يُتمَوَّلُ حَتَّى المُصُحَفِ وَالْعَبْد الصَّغيرِ والكَبِيرِ الأَعْجَمِيَّ لاَ الْفَصِيحِ وَالْكَثرِ والثَّمَرِ المُعَلَّقِ" يعني أن تُقْطَعُ يد السارق في كل متموَّل يساوي النصاب، سواء كان نفوذًا أو حيوانًا أو عروضًا، حتى المِصْحَف والعبد الصغير غير المميّز أو الكبير الأعجمي أو المجحنون. وأمَّا الفصيح فلا قطع على مَنْ سرقه، ولا على مَنْ سرق الكثير وهو الجمار. قال في الرسالة: ولا قطع في ثمر معلَّق، ولافي الجمار في النخل، ولا في الغنم الراعية حتى تسرق من مراحها، وكذلك لا قطع على المختلس، واختُلِفَ فيمَن سرق من الثياب المعلَّقة في حب ل الغسال كما قال ابن جزي. ثم شرع يتكلم في حكم الشفاعة فيمن ترتب عليه حد بقوله رحمه الله تعالى: "ولا تجوز الشفاعة في حد ولا للحاكم أن يضعفُو" يعني أن الشفاعة في السرقة لا تجوز بعد البلوغ إلى الإمام، وتقدَّم ما فَي الموطَّأ مَنْ ترك الشفاعة للسارق إذا بلغ السلطان، كما في قصة صفوان بن أمية وقصة المخزومية المروية عن عائشة أنها قالت: إن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: مَنْ يكلَّم فيها رسول الَّه صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومَنْ يجترئ عليه إلاَّ أسامة، فكلَّمه أسامة فقال صلى الله عليه وسلم "أتشفع في حدَّ منحدود الله؟!؟ ثم قام فاختطب فقال: "إنَّما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ، وايم

فصل في الحد

الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لَقَطَعْتُ يدها" اهـ. رواه الستة إلاَّ مالكًا. وفي الرسالة: ولا يشفع لمن بلغ الغمام في السرقة والزّّنا، واختُلِفَ في ذلك في القَذْف. قال شارحها: أي لا يجوز لأحد أن يشفع لِمَن بلغ أمْرُه الإمام في عدم حدَّه في الصسرقة والزَّنا، بل يجب إقامة الحدَّ عليهما ولو تابا وحسنت توبتهما؛ لأن الحدَّ بعد بلوغ الإمام يصير حقًّا لله تعالى، فلا يجوز لأحد الشفاعة في إسقاطه، ولا يجوز للإمام تَرْكُه؛ لِما رَوَى الإمام في موطَّئه أن صفوان بن أمية نام في المسجد وتوسَّد رداءه فجاء سارق فأخذ رداءه فأخذ صفوان السارق فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمَرَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُقْطَعَ يده فقال صفوان: إني لم أرِدْ هذا يا رسول الله، هو عليه صَدَقة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَهَلاَّ قبل أن تأتيني به. وفيه أيضًا أن الزبير بن العوام لَقِيَ رجلاً قد أخذ سارقًا وهو يريد أن يذهب به إلى السلطان فشفع له الزبير ليرسله فقال: لأن حتى أبلغ به السلطان فقال الزبير: إذا بلغت به إلى السلطان فَلَعَن اللَّه الشافع والمشفع. ووَرَدَ أيضًا: تشفَّعوا فيما بينكم في الحدود فإذا بلغ الإمام فلَعَنَ الله الشفيع والمشفوع له اهـ. النفراوي باختصار. ولمَّا أنه الكلام على ما تعلَّق بأحكام السرقة وحُكْم السارق والسارقة انتقل يتكلم على ما تسقط به الحدود وما ليس فيه حخدّ وفيما ينبَغي للإمام أن يجتهد فيه من التعزير فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في الحد أي في بيان ما يتعلَّق بِما يسقط به الحدّ من الشبهة وما لا يلزم على الشخص شيئ وما ينبغي للحاكم ألاَّ يُعاب فيه يوعفو عنه وما لا ينبغي له تَرْكُه بل يحذرُ ويزجر فيه ويعزر عنه من المعاصي رُبما يكون ذلك واجبًا عليه في بعض المسائل بقدر اجتهاده واللَّه وليُّ التوفيق والهداية.

قال رحمه الله تعالى: "وَتَسْقُطْ الْحُدُودُ بِالشُّبُهَاتِ" يعني كما تقدَّم أن الحدود جمع حدًّ يسقط بوقوع الشبهة بالإفراد والجمع الشبهت بضمتين. قال المناوي في فيض القدير: وهي كما في القاموس: الإلباس وقال الزمخشري: تشابهت الأمور واشتبهت: التبست لاشتباه بعضها ببعض وشبه علهي الأمر قال بعضهم: وسميت شبهة لأنها تشبه الحق. ودفع الحد بها لجواز وقوعها في ذلك الأمر؛ قال عليه الصلاة والسلام: "ادرؤوا الحدود بالشبهات وأقيلوا الكرامَ عثراتهم إلاَّ في حدًّ من حدود الله تعالى". وفي رواية ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن وجدتم للمسلم مخرجًا فخلوا سبيله؛ فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خيرٌ من أن يخطئَ في العقوبة كما تقدَّم، ونقله الحافظ جلال الدين السيوطي في الجامع الصغير فراجعه إن شئت. ومع ذلك لا ينبغي للحاكم أن يترك إقامة الحدّ بعد ثبوته عنده لخبر (ادرؤوا الحدود ولا ينبغي للإمام تَعطِيل الحدود) أي ترك إقامة شيئ منها بعد ثبوته على وجه لا مجال للشبهة فيه، فالمراد: لا تفحصوا عنها إذا لم تثبت عندكم، وبعد الثبوت فإن كان ثَمَّ شبهة فادرؤوا بها وإلاَّ فأقيموها وجوبًا ولا تعطلوها؛ فغن تعطيلها يجر إلى اقتحام القبائح وارتكاب الفضائح والتجاهر بالمعاصي وخلع ربقة احكام الشريعة اهـ. قال المناوي في شرحه على الجامع الصغير. ثم قال رحمه اللهَّ تعالى: "وَمَا لَيْسَ فِيهِ حَد مِنَ الْمَعَاصِي فَفِيهِ التَّعْزِيرُ بِالاجْتِهضادِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ" يعني أنه ختم كتاب الحدود بما ليس فيه حد معلوم من قبل الشارع إشارة إلى جواز الاجتهاد لمن تأهل عليه؛ لأن ذلك أمانة اللَّ على عباده كما وضع الله تعالى أمانته في التعزير على الإمام الأعظم فيما دون الحد ليجتهد - فيما أراه الله - في المسائل والنوازل واللَّه أعلَم فافهم. هذا، وأريد أن أختم كتاب الحدود بمسائل التعزير التي نقلها بعض شيوخنا من كتب شتى؛ لما فيها من الفوائد لمن اعتبر واقتصر على الحدود والله ولي التوفيق فقلت مستعينًا باللهَّ:

خاتمة: ختمنا اللَّه بالخير في مسائل التعزير وهو زجر عن المعاصي من الإمام أو من له قدرة في ذلك. قال خليل: وعزر الإمام لمعصية اللَّه أو لحق آدمي حبسًا ولمصا وبالإقامة ونزع العمامة وضرب بسوط أو غيره وإن زاد على الحد أو أتى على النفس وضمن ما سرى اهـ. قال ابن جزي في القوانين. يجوز في المذهب التعزيز بمثل الحدود، وأقل وأكثر على حَسَبِ الاجتهاد. وقال ابن وهب: لا يزاد في التعزير على عشرة أسواط؛ للحديث الصحيح. وقال الشافعي: لا يبلغ به عشرين سوطًا. وقال أبو حنيفة: لا يبلغ به أربعين اهـ. قال القرافي: إقامة الحدود واجبة على الأئمة. واختلفوا ي التعزير، فقال الإمام مالك وأبو حنيفة رحمهما اللهَّ تعالى: إن كان الحق للَّه وجب كالحدود، إلاَّ أن يغلب على ظن الإمام أن غير الضرب من الملامة الكلام مصلحة. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: هو غير واجب على الإمام إن شاء أقامه وإن شاء تركه اهـ. قال ابن سهل في الأحكام: وتلزم العقوبة على من حمى الظلمة وذبَّ عنهم، ومن دفع على شخص وجب عليه حق، ومن يحمي قاطع الطريق أو سارقًاونحو ذلك؛ فإن من يحميه ويمنعه عاصٍ للَّه، وتجب عقوبته حتى يحضره إن كان عنده وينزجر عن ذلك، إلاَّ أن يكون إحضاره إلى من يظلمه ويأخذ ماله أو يتجاوز فيه ما أمر به شرعًا، فهذا لا يحضره ولكن يتخلى عنه ويرتدع عن حمايته والدفع عنه اهـ. انظر شراح خليل كالخرشي في كيفية التعزير على مراتب الناس واختلاف أحوالهم وجرائمهم، وما لزم على كل واحد باجتهاد الحاكم في كل جريمة وفي أي شخص. قال ابن ناجي في شرح المدوَّنة: الأدب يتغلَّظ بالزمان والمكان: فمن عصى اللَّه في الكعبة أخصُّ ممن عصاه في الحرم، ومنعصاه في الحرم أخصذُ ممن عصاه في مكة ومن عصاه في مكة أخصُّ ممن عصاه خارجها اهـ. قال العلاّمة الشيخ حسين بن إبراهيم المغربي مفتي السادة المالكية بمكة سابقًا في فتاويه المسمّى بقرة العين نقلاً عن العتبية:

مسألة: لو قال رجل لرجل: يا سارق ضرب خمسة وعشرين سوطًا أو نحوها. وقال ابن رشد: والتحديد في هذا ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة وإنَّما فهي الاجتهاد بحَسَبِ القائل والمقول له اهـ. ثم قال: مسألة: يلزم التعزير من سرق شيئًا لا قطعَ فيه ويلزم على من اختلى بأجنبية، ومن وطئ مكاتبته، ومن استمنى بيده أو أتى البهيمة أو حلف يمينًا غموسًا أو غش في الأسواق أو عمل بالربا أو شهد زورًا ومن فعل التحليل أو شهد على نكاح السر، وكذا يؤدب الزوجان والولي إلاَّ أن يعذروا بجهل اهـ. ثم قال: مسألة: من قال لرجل: يا شارب الخمر أو يا آكل الربا أو يا خائن أو ثور أو حمار أو يا ابن الحمار أو يا يهودي أو يا نصراني أو يا مجوسي فإنه يعزر، نقله عن ابن رشد في جامع الأصول. ومن قال لرجل: يا يهودي يضرب عشرين اهـ. قال ابن رشد في البيان: لو قال رجل لرجل: يا مرائي عوقب بقدر ما يرى الغمام على قدر حال القائل والمقول له اهـ. ونقل مسائل عن مفيد الحكام لابن هشام، منها مسألة سلَّ السكين. ومن سلَّ سكينًا في جماعة على وجه المزاح ضرب عشرة أسواطن ومن سلَّ سيفًا على وجه القتال ضرب أربعين وكان السيف فيئًا. ويل: يقتل إذا سلَّه على وجه الحرابة. ومنها مسألة التهاون بدعوة الحاكم أو القاضي ولم يجب ضرب عشرة أسواط. ومنها من قال لرجل: يا مجرم ضرب خمسة وعشرين. وكذا إذا قال له: يا ظالم ولم يكن كذلك يضرب أربعين. ولو قال له: يا سارق ضرب خمسة عشر إلى عشرين. وتقدَّم أنه يضرب خمسة وعشرين ونحوها. ومنها مسألة ارتفاع الكلام في مجلس القاضي. وإذا ارتفع الكلام بين الخصمين في مجلس القاضي ضرب كل واحد منهما عشرة أسواط. ومنهامن تكلم في عالم بما لا يجب فيه حدّ ضرب أربعين سوطًا. ومنها من تغامر مع أجنبية أو تضاحك معها ضربًا عشرين عشرين، فإن قبَّلها طائعة ضربًا خمسين خمسين. وكذلك من حبس

امرأة ضرب أربعين. فإن طاوعته ضربت مثله. ومنها من قال لرجل: يا فاسق ضرب ثمانين سوطًا. ومنها إذاية مسلم، وكل من آذى مسلمًا بلسانه يضرُّ به وتقصد به أذاه فعليه الأدب البالغ الرادع له ولمثله، بقمع رأسه بالسوط، أو بضرب رأسه بالدرّة، أو ظهره، بها، وذلك على قدر القائل وسفاهته وعلى قدر المقول فيه اهـ. مسألة: إذا شتم أحد الخصمين صاحبه في مجلس الحاكم زجره الحاكم. وقال ابن الماجشون ومطرف: إذا أسرع إليه بغير حجة مثل يا ظالم يا فاجر زجره عنه، ويضرب في مثل هذا ما لم تكن فلتة من ذي مروءة فيتجافى عنه. وغذا قال الرجل لصاحبه: اللَّه أكبر عليك فإنه يعزر القائل إلاَّ أن يعفو عنه خصمه. مسألة: قال الباجي في شرح الموطَّأ: من شتم أحدًا من الصحابة: أبا بكر أوعمر أو عثمان أو عليًا أو معاوية أو عمرو بن العاص فإن قال: إنهم كانوا ضلال وكفر فإنه يقتل، ولو شتمهم بغير ذلك نكل نكالاً شديدًا. ومن شتم غير هؤلاء من الصحابة فعليه النكال الشديد. ومن سبَّ عائشة قُتِل اهـ. وتقدَّم في الردة أن من سبَّ أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو أزواجه أو أهل بيته فلا قَتْلَ عليه، ولكن يؤدب بالضرب الوجيع، ويكرَّر ضربه ويُطال سجنه اهـ. قال ابن جزي. وقد عقد العلاّمة القاضي ابن فرحون فصلاً في تبصرة الحكام في التعزير والزواجر والعقوبة الشرعية ثم قال: والتعزير تأديب استصلاح وزجر على ذنوب لم تشرع فيها حدود ولا كفارات. والأصل في التعزير ما ثبت في سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجلد فوق عشرة أسواط إلاَّ في حدَّ من حدود اللَّه تعالى اهـ. قال ابن قيم الجوزية: اتفق العلماء على أن التعزير مشروع في كل معصية ليس فيها حدٌّ بحَسَبِ الجناية في العظم والصغر وبِحَسَبِ الجاني في الشر وعدمه. فراجع لفصل الحادي عشر في القسم الثالث من تبصرة الحكام لابن فرحون ففيها غنيمة في جميع المرام إن شاء الله تعالى.

تنبيه

تتمة: تقدَّم الكلام في الشفاعة أنها لا تجوز في الحدود فهل تجوز في التعزير أم لا؟ فالجواب أنها جائزة في التعزير؛ قال النفراوي في الفواكه. تنبيه: سكت المصنَّف عن العفو عن الذي يوجب تعزيره والشفاعة فيه والحكم: الجواز، ولو بعد بولغ الإمام، قاله الحطاب. قال بعض الفضلاء عقب كلامه: وظاهره ولو كان التعزير لمحض حق الله تعالى اهـ. قاله الحطاب نَقْلاص عن لقرافي فيما نَقَله في المسائل الملقوطة. مسألة: ويجوز العفو عن التعزير والشفاعة فيه إذ كان الحق لآدمي، فإ تجرَّد عن حقَّ الآدمي وانفرد به حقُّ السلطنة كان لولي الأمر مراعاة حكم الأصلح في العفو والتعزير وله التشفيع فيه. وقال القاضي عياض في الإكمال في شرح قوله: لتشفعوا ولتؤجروا: والشفاعة لأصحاب الحوائج والرغبات عند السلطان وغيره مشروعة محمودة مأجور عليها صاحبها بشهادة هذا الحديث وشهادة كتاب الله بقوله: مَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً [النساء: 85] الآية، على أحد التأولين، وفيه أن معونة المسلم في كل حال لفعل أو قول فيها أجْر، وفي عمومه الشفاعة للمذنبين، وهي جائزة فيما لا حدّ فيه من عند السلطان وغيره، وله قبول الشفاعة فيه، والعفو إذا راى ذلك، كما له العفو عنه ابتداء، وهذا فيمن كانت منه الفلتة والزلة، وفي أهل الستر والعفاف أو من طمع بوقوعه عند السلطان. والعفو عنه من العقوبة أن تكون له توبة، وأمَّا المصرّون على فسادهم المشتهرون في باطلهم فلا تجوز الشفاعة لأمثالهم، ولا ترك السلطان عقوبتهم؛ لينزجروا عن ذلك وليرتدع غيرهم بما يفعل بهم. وقد جاء الوعيد في الشفاعة في الحدود. اهـ. الحطاب. ولما أنهى الكلام على ما تعلق بمسائل التعزير والعفو عنه انتقل يتكلم على ما يتعلَّق بما هو أهم وأعم وهو القضاء والدعاوى وأوصاف القاضي وسيرته ونوابه وكتابه وكيفية القضاء وغير ذلك ممَّا لزم عليه وعليهم فيما تعلق بحقوق اللَّه تعالى وحقوق العباد ممَّا لهم وعليهم فقال رحمه الله تعالى:

كتاب الأقضية

كتاب الأقضية وما يتعلَّق بها أي في بيان ما يتعلَّق بأحكام القضاء بين الخصام، والجمع الأقضية والقضايا، ومعنى القضاء ف ياللغة الحكم والإلزامي، وبمعنى الفصل نحو قضى القاضي بين الخصمين أي فصل بينهما، وله معانٍ كثيرة. وأمَّا معناه شرعًا فهو حكم حاكم أو محكم بأمر ثبت عنده كدَيْنٍ وحُبْسٍ وقَتْلٍ وجَرْحٍ وضَرْبٍ وسَبًّ وتَرْكِ صلاة ونحوها وقذف وشرب وزناً وسرقة وغصب وعدالة وضدها وذكورة وأنوثة وموت وحياة وجنون وعقل وشفه ورشد وصغر وكبر ونكاح وإطلاق ونحو ذلك ليرتب على ما ثبت عنده مقتضاه على حضسَبِ ما تقتضيه الحال من الرفع له اهـ. الدردير بحذف. وأمّّا القاضي فهو الحاكم المنفذ أحكام الشريعة، ولا يستحق هذا المنصب شرعًا إلاَّ من توافرت فيه شروط أربعة على الاختصار: وهو كونه ذكرًا عادلاً فطنًا فقيهًا بأصول الفقه وبما يحكم به ولو بالتقليد. قال خليل: أهل القضاء عَدءلٌ ذَكَرٌ فَطِنٌ مجتهد إن وجد وإلاَّ فأمثل مقلَّد اهـ. قال ابن رشد: القضاء خصال مشترطة في صحة الولاية وهي: أن يكون ذكرًا حرًا مسلمًا بالغًا عاقلاً واحدًا فهذه ستُّ خِصال لا يصحُّ أن يولّى القضاء إلاَّ من اجتمعت فيه، لكن قال مالك: لا أرى الخصال تجتمع اليوم في أحد، فإن اجتمع فيه خصلتان العلم والورع رأيت أن يولَى. قال ابن حبيب: إن لم يكن ورعًا عالمًا فورع عاقل؛ فبالعقل يسْأل وبالورع يقف اهـ. وأمَّا حكم ولاية القضاء فهي فَرْضُ كفاية، وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله: "الْقَضَاءُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إلاَّ أَنْ يَتَعَيَّنَ فَلاَ يَجُوزُ الامْتِنَاعُ" يعني كماف ي القوانين: القضاء هو فَرْضُ كفاية، ويجب على الإمام أن ينصب للناس قاضيًا، ومن أبى عن الولاية أجبره عليها، ولا ينبغي لأحد أن يطلب القضاء، وإن دعى إليه فالأولى له الامتناع؛ لأن القضاء بلية يعسر الخلاص منها إلاَّ إذا تعيَّ علهي فيجب عليه الدخول

فيه، وذلك إذا لم يكن في جهته من يصلح للقضاء غيره اهـ. قال ابن فرحون في تبصرة الحكام: واعلم: أن كل ما جاء من الأحاديث التي فيها تخويف ووعيد فإنَّما هي في حق قضاة الجور العلماء أو الجهال الذين يدخلون أنفسهم في هذا المنصب بغير علم، ففي هذين الصنفين جاء الوعيد. وأمَّا قوله صلى الله عليه وسلم: "من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين"، فقد أورده أكثر الناس في معرض التحذير من القضاء. وقلا بعض أهل العلم: هذا الحديث دليل على شرف القضاء وعظيم منزلته، وأن المتولي له مجاهد لنفسه وهواه، وهو دليل على فضيلة من قضى بالحقّ؛ إذ جعله ذبيح الحقّ امتحانًا لتعظم له المثوبة امتنانصا؛ فالقاضي لما استسلم لحكم الله، وصبر على مخالفة الأقارب والأباعد في خصوماتها، فلم تأخذه في اللَّه تعالى لومة لائم حتى قادهم إلى مر الحقّ وكلمة العدل، وكفّهم عن دواعي الهوى والعِناد جعل ذبيح الحق للَّه، وبلغ به حال الشهداء الذين لهم الجنة. وقد ولّى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل ومعقل بن يسار رضي اللهعنهم القضاء فنِعْم الذابح ونِعْم المذبوح. فالتحذير الوارد من الشرع إنَّما هو عن الظلم لا القضاء؛ فإن الجور في الأحكام واتباع الهوى فيه من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر؛ قال اللَّه تعالى: وأَمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [الجن: 15]. وقال صلى اللهعليه وسلم: "إن أعتى الناس على اللَّه وأبغض الناس إلى الله وأبعد النسا من اللَّه رجل ولاه اللَّه من أمر أمة محمد شيئًا لم يعدل بينهم". وأمَّا قوله صلى الله عليه وسلم: "القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة" قاض عمل بالحقّ في قضائه فهو في الجنة، وقاض علم الحقّ فخان متعمدًا فذلك في النار، وقاضٍ قضى بغير عِلْم واستحيا أن يقول: إني لا أعلَم فهو في النار. وفي رواية عند النسائي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "القضاة ثلاثة: اثنان ف يالنار وواحد في الجنة" رجل عرف الحق فقضى به في الجنة، ورجل عرف الحقّ فلم يقضِ به وجار في الحكم فهو في النارن ورجل لم يعرف الحقّ فقضى للناس

على جهل فهو في النار اهـ. فصحَّ أن ذلك كله في الجائر العالم والجاهل الذي لم يؤذن له في الدخول في القضاء، وأمَّا من اجتهد في الحقّ على علم فأخطأ فقد قال عليه الصلاة والسلام: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فلَهُ أجران، وإن أخطأ فلَهُ أجْر". قال رحمه الله تعالى: "وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا حُرَّا ذَكَرًا مُكَلَّفًا سَمِيعًا بَصيرًا كَتِبًا فَطِنًا مُتَيَقظًا وَرِعًا عَدْلاً مُجْتَهِدًا فإن عُدِم جَازَ الْمُقَلَّدُ" يعني أنه عد شروط القضاء اثنا عشر الأول: أن يكون القاضي مسلمًا، فلا يصحُّ كونه كافرًا، ولو طرأ عليه الكفر انعزل فوراً. الثاني: أن يكون حرًّا على المشهور. قال القرطبي في شرح مسلم في كتاب الإمارة وقد نصّ أصحاب مالك على أن القاضي لابدّ أن يكون حرًّا وأمير الجيش والحرب في معناه؛ فإنها مناصب دينية يتعلَّ بها تنفيذ أحكام شرعية فلا يصح لها العبد؛ لأنه ناقص بالرَّق محجور عليه لا يستقل بنفسه أحكام شرعية فلا يصلح لها العبد؛ لأنه ناقص بالرَّق محجور عليه لا يستقل بنفسه ومسلوب أهلية الشهادة والتنفيذ ولا يصلح للقضاء ولا للإمارة، وأظن جمهور علماء المسلمين على ذلك. انتهى كلام القرطبي. الثالث: من شروط القاضي أن يكون ذكرًا، فال يصحُّ أن يكون امرأة. الرابع: أن يكون مكلَّفًا، فلا يصحُّ أن يكون صبيًا ولا مجنونًا. الخامس والسادس: أن يكون سميعًا بصيرًا، قال الدردير: ويجب ان يكون الحاكم سميعًا بصيرًا متكلمًا، وجب عزل أعمى أو أصم أو أبكم ولو طرأ عليه بعد توليته. السابع: أن يكون كاتبًا، قال النفراوي: والذي لا يكتب كالأعمى لا تجوز توليته ولو كان عالمًا وتجوز توليته للفتوى. والثامن والتاسع: أن يكون فطنًا يوجب الإقرار أو الإنكار وتناقض الكلام؛ فالفطنة جودة الذهن وقوة إدراكه لمعاني الكلام، والمتيقظ هو غير المتغفل بمعنى المتنبه. العاشر: أن يكون ورعًا، فغير الورع لا ينبغي أن يكون أهلاً للقضاء. الحادي عشر: أن يكون عادلأن قال الدردير: شرط القضاء عدالة أي كونه عدلاً أي عدل شهادة ولو عتيقًا عند الجمهور،

والعدالة تستلزم الإسلام والبلوغ والعقل والحرية وعدم الفسق، فلا يصحُّ أن يكون ضد هذه المستلزمات؛ لأن كل واحد منها مشروطة في أوصاف القاضي كما هو معلوم. اهـ. بتوضيح. الثاني عشر: أن يكون مجتهدًا ولو مجتهد المذهب وهو الذي يقدر على إقامة الأدلة في مذهب إمامه، أو مجتهد الفتوى وهو الذي يقدر على الترجيح، وقال بعضهم: إن العدالة والاجتهاد ليسا بشرط الصحة في القضاء بل قالوا: فقط. قلت: والأصحُّ أنهماواجبان شرطًا في صحة الحكم كما في النفراوي وغيره؛ لأنه قسم شروط القضاء على ثلاثة أقسام: قسم واجب على جهة الشرطية وقسم واجب لا على جهة لشرطية، وقسم مستحبّ، قال: فالواجب على جهة الشرطية كونه عدلاً ذكرًا فطنًا مجتهدًا إن وجد وإلاَّ ف أمثل مقلد، ويبج عليه العمل بمشهور مذهب إمامه، فراجعه إن شئت. قد عقد ابن جزي في قوانينه بابًا في صفات لقاضي وأدابه فجعل فيه نوعين: واجبة ومستحبة، فالواجبة عشر والمستحبة خمس عشرة، وجعل أيضًا عشرين أدبًا مخصوصة له بحالة القضاء، وبيَّن جميع ذلك على التفصيل فراجعه إن شئت. وذكر بعض ذلك العلاّمة المدقق ابن العاصم الأندلسي في أرجوزته المسمّاة بتحفة الحكام بقوله: مُنْفَّفٌ بالشَّرع للأحْكَامِ ... لَهُ نِيَبَةٌ عَنِ الإمَام واستُحْسِنَتْ فِي حَقَّهِ الجَزَالَهَ ... وشَرْطُهُ التَّكْلِيفُ وَالْعَدالَهَ وأن يكون ذَكَرًا حُرًّا سلِمْ ... مِنْ فَقد رُؤْيَةٍ وسَمْع وكَلِمْ ويُسْتَحَبُّ العِلْمُ فيهِ الوَرَعْ ... مَعْ كَوْنِهِ الأصُولَ لِلفِقْهِ جَمَعْ وَحَيْثُ لاقٍ للقَضَاءِ يَقْعُدُ ... وَفِي البِلاَد يُسْتَحَبُّ المَسْجِدُ اهـ. انظر شراح هذه الأبيات الخمسة للعلامة علي بن عبد السلام التسولي وشرح العلاّمة محمد التاودي وشرح العلاّمة محمد محمد بن أحمد بن محمد المشهور بمياره الفاسي وكذا شرحها العلامة ابن رحال المعداني وغيرهم من شراح هذه الأرجوزة المباركة المشهورة، وفي تلك الشروح ما تقرُّ به العيون؛ لأنهم

قد وضحوا وبيَّنوا غاية البيان في تلك المسائل، فجزاهم الله عن المسلمين خير جزاء. قال رحمه الله تعالى: "وَلْيَكُنْ شَدِيدًا فِي دِينِهِ ذَا أَنَاة في حُكْمِهِ يَسْتَشِيرُ الْعُلَمَاءَ وَيَسْتَبْطِنُ مِنْ أَهْلِ الدَّينِ وَالأَمَانَةِ مَنْ يَعْرِفُ أَحْوالَ الشّثهُودِ وَاْخُصُوم وَمَا لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِنَ أَحْوَالِ النَّاسِ وَلاَ يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ إِلاَّ فِي الْعَدْلِ وَالْجَرحِ وَهُوَ فيمَا عَدَاهُمَا شَاهِدٌ" يعني يندب أن يكون القاضي متمسكًا بأمر دينه، مشددصا فيه غير متساهل به، قوي الهمم والنهوض، وأن يكون ذا أناةٍ أي ذا تأخير وتأنَّ في إجراء الأمور غير متعجل في حكمه، وأن يكون مستشيرًا لأهل العلم، ويأخذ بقولهم فيما أراد تنفيذه من الأحكام إذا رأى في ذلك صوابًا. قال خليل: وأحضر العلماءَ أو شاورهم. وأن تكون بطانته ثقة مأمونة من أهل الدَّين والأمانة، وكونهم يعرفون أحوال الشهود والخصوم ليأتوه بخبر ما لا يطَّلع علهي من أحوال الناس، ولا يحكم بِعلْمِه إلاَّ ما عَلِمَه منالعدالة أو الجرحة فقط وهو فيما عداهما شاهد. قال مالك في المدوَّنة: ومن الناس من لا يسأل عنهم وما تطلب منهم التزكية لعدالتهم عند القاضي. قال خليل: ولا يستند لعلمه إلاَّ في التعديل والجرح كالشهرة بذلك أو إقرار الخصم بالعدالة اهـ. فاعلَم أنه إذا علم القاضي بعدالة شاهد أو جرحه بفتح الجيم فإنه يستند لِعِلْمِه، وكذا الشهرة بذلك إلاَّ أن يعلم القاضي منه خلاف ما اشتهر. شهد المزني عند القاضي بكار فقال له: من أنت؟ فقال المزني: صاحب الشافعي فقال القضاي: الاسم اسم عدل ومن يشهد أنك المزني؟ فقال الحاضرون: هو المزني فحكم بشهادته، فقال المزني: سترني القاضي ستره اللَّه تعالى. قال رحمه الله تعالى: "وَإِذَا نَسِيَ حُكْمًا فَقَامَتْ بِهِ بَيَّنَةُ عِلْمِهِ أَوْ وَجَدَهُ في قِمَطْرِهِ بِخَطهِ أَنْفَذَهُ" قوله: أو وجده في قِمَطْره، القِمَطْر: هو ما يُصان فيه الكتب، والجمع قماطر كما في المصباح. فالمعنى كما قال خليل: وإن شهدا بحكم نسيه أو أنكره أمضه. قال الخرشي: يعني أن القاضي إذا حكم ثم ادَّعى نسيانه أو أنكره من أصله

وقال: ما حكمت به ثم شهد به عليه شاهدان فإنه يجب عليه إمضاؤه عند مالك، وهو الأصح عند ابن الحاجب سواء كان القاضي عزل ثم ولي أم لا اهـ. بتوضيح من حاشية الخرشي ومن إكليل. قال رحمه الله تعالى: "وَلْيَجْلِسْ بِمَوْضِع يَصِلُ إِلَيْهِ الدَّنئُ وَالشرِيفُ وَالْقَوِيُّ وَالضَّعيفُ وَالْحَائِضُ" يعني أن القاضي ينبغي أن يكون موضع جلوسه بحيث يصل إليه كل مدَّع سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، حرًّا أو عبدًا، ذكرًا أو أنثى، مسلمًا أو كافرًا. قال ابن العاصم: وَحَيْثُ لاَقٍ للْقَضَاءِ يُقْعدُ ... ولَفِي الْبِلاَدِ يُسْتَحَبُّ الْمَسْجِدُ اهـ. قال شارح هذا البيت: القعود بالمسجد هو المروي عن مالك في المدوَّنة، ونصّه القضاء ف يالمسجد من الحقَّ وهو من الأمر القديم؛ لانه قد يرضى فيه بالدون من المسجد وتصل إليه المرة والضعيف. وروى ابن حبيب: يجلس برحابه وهو أحسن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "جنبوا مساجدكم رفع أصواتكم وخصوماتكم". قال ابن جزي في القوانين: وجلوسه في المسجد من الأمر القديم. واستحبَّ بعض العلماء أن يجلس خارج المسجد ليصل إليه الحائض والنفساء واليهود والنصارى والجُنُب اهـ. انظره في البهجة وغيرها. قال ابن مرزوق: ومنع الشافعي وابن المسَّيب وعمر بن عبد العزيز القضاء في المسجد، وكرهه آخرون، وإليه مال أهل المذهب من الأندلسيين. قيل: والأقرب ما مال إليه الآخرون. قُلْتُ: ولهذا كانوا يبنون محلات القضاء والمحاكم والمدارس في وسط البلدان أو قرب المساجد خارجًا عنها؛ ليحصل المقصود لكل مدَّع وطالب واللَّه أعلَم بالصواب. قال رحمه الله تعالى: "وَلا يَحْكُمُ حَتَّى يَسْمَعَ تَمَامَ الدَّعْوَى وَالْبَيَّنَةِ وَيَسْأَلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هَلْ لَكَ مَدْفَعٌ" يعني لا يحكم القاضي على أحد من الخصام حتى يسمع

تمام الدعوى من المدَّعى، وإذا فرغ سأل القاضي المدَّعى عليه فيما ادَّعى فيه خصمه من الحق، فإن أقرَّ به كما ادَّعى عليه فلا إشكال، المدَّعى عليه فيما ادَّعى فيه خصمه من الحق، فإن أقرَّ به كما ادَّعى عليه فلا إشكال، وإن أنكر فعلى الطالب البيَّنة لإثبت حقّه. قال النفراوي في الفواكه: وبعد فراغ الدعوى يأمر القاضي المدَّعى عليه بالجواب، فإن أقرَّ بما ادَّعى به علهي يأمر القاضي الشهود الحاضرين عنده بالشهادة عليه، وكتابة الإقرار خوف جحده، وإن أنكر أمر القاضي المدَّعى بإقامة البيَّنة عليه، فإن أقامها سمعها وأعذر للمدَّعى عليه فيها بأن يقول له: هل عندك من يجرح تلك البيَّنة؟ فإن أقام بيَّنة تشهد بجرحتها أمره بغيرها، وإن عجز عن إقامة اليَّنة فإن طلب تحليف المدعى عليه فله تحليفه بعد إثبات الخلطة، وإن لم يجب لا بالإقرار ولا بإنكار بل سكت أو قال: لا أخصامه فإن الحاكم يحبسه ويؤدبه على عدم جوابه. قال خليل: وإن لم يجب حُبِسَ وأدَّب أي بالضرب بما يراه الحاكم حتى يقرَّ أو ينكر ثم يحكم عليه بعد ذلك بلا يمين من المدَّعي؛ لأن اليمين فرع الجواب وهذا لم يجب. قال ابن الموّاز: ويعد هذا إقراراً منه بالحقّ اهـ. وقال رحمه اللَّه تعالى: "لاَ فِي حَالَةٍ يّذْهَلُ فِيهَا كالْغضَب" يعني أ، القاضي لا ينبغي أن يقضي في حالة الذهول. قال ابن فرحوم فيما يتعلَّق بمجلس القاضي ممَّا ينبيغي أن يتوقّاه من الأمور: منهما ألاَّ يجلس للحكم على حال توشيش من جوع أو شبع أو غضب أو همّ؛ لأن الغضب يسرع مع الجوع والفهم ينطفئ مع الشبع والقلب يشتغل مع الهمّ، فمهما عرض له ذلك لم يجلس للقضاء، وإن عرض له ي المجلس انصرف اهـ. قال خليل: ولا يَحْكُمن ما يُدهشُ عن الفكر ومضى. قال الخرشي: إن القاضي لا يَحْكُم مع ما يدهش عن تمام فِكْرِه، أي يُكْرَه له ذلك لا عن أصل الفكر وإلاَّ حَرُم عليه الحُكْم، وبعبارة: أي يُكْرَه للقاضي أن يحْكُمَ مع ما يدهش عن تمام فِكْرِه كالحزن والحقن والغضب واللقس وهو ضيق النفس، وإذا وقع ونزل مضى، والمفتي

مثله اهـ. ونَقَلَ الموّاق عن ابن عرفة: لا يجلس للقضاء وهو على صفة يُخاف بها ألاَّ يأتي بالقضية صوابًا، وإن نزل به في قضائه ترك كالغضب والضجر والهمّ والجوع والعطش والحقن، وإن أخذ من الطعام فوق ما يكفيه لم يجلس، وأصل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان" اهـ. قال رحمه اللَّه تعالى: "وَلَهُ الاسْتِعَانَةُ بِمَنْ يُخَفَّفُ عَنْهُ النَّظَرَ فِي الأَحْبَاس وَالْوَصَايَا وَأْمْوَالِ الأَيْتَامِ" يعني للقاضي أن يستعين بثقة ممَّن يخفَّف عنه القيام بالنظر في الأمور كالأحبَاس والوصايا وأموال الأيتام وكالعقود الأنكحة وغير ذلك. قال العلاّمة ابن فرحون في تبصرته: وأمَّا الولاية الجزئية المستفادة من القضاء كمتولي العقود والفسوخ في الأنكحة فقط والمتولي للنظر فيما يتعلَّق بالأيتام فيفوّض إليه في ذلك النقض والإبرام على ما يراه من الأوضاع الشرعية، فهذه الولاية شعبة من ولاية القضاء، فينفذ حكمه فيما فوَّض إليه، ولا ينفذ له حكم فيما عدا ذلك. وفيها أيضًا: مسألة: قال ابن رشد: ويجوز للقاضي أن يستخلف نائبًا على النظر في المناكح وما يضاف إليها من فرض النفقات وعلى الحِبسة النظر في الأحباس، ولا يحتاج في شيئ من ذلك إلى إذْن الخليفة اهـ. قال رحمه الله تعالى: "وَيُسَوَّوي بَيْنَ الْخُصُومِ وَيُقَدَّمُ الأَسْبَقَ فَإِنِ استَوَوْا فَبِالْقُرْعَةش" يعني أنّ القاضي يبج لعيه أن يسوّي بين الخصمَيْن أو الخصوم وأن يقدَّم الأسبق، وذلك في الجلوس والقيام والكلام ورفع الصوت عليهماولو كان أحدهما مسلمًا والآخر كافرًا، ويجعل نظره وفِكْرَه لهما على حدصّ سواء. قال خليل: وليسوَّ بين الخصمَيْن وإن مسلمًا وكافرًا، وقدّم المسافر وما يُخْشى فواته ثم السابق، قال: وإن بحقَّيْن بلا طول ثم أقرع. قال شارحه: يعني إذا تداعى عند القاضي المسافرون وغيرهم وتزاحموا على التقدُّم فإن المسافر يقدَّم على غيره وجوبًا، يريد: ولو كان غيره سابقًا عليه

ما لم يحصل للمقيم ضَرَرٌ بسبب تقديم المسافر عليه، فإن حصل الضرر فإنه يُصار إلى القُرْعة، وكذلك يقدّم الذي يُخشى [153] * * * فواته إذا قُدَّم غيره عليه، فإن لم يعلم السابق منهما بل استويا في السبقية بأن حضرا معًا أو مرتبَيْن إلاَّ أن الأول لم يَعْلَم فإنه يُصار إلى القُرْعة، وصِفَتُها أن تُكْتَبَ أسماؤهم في رِقاع وتُخْلط فَمَن خرج اسمه قُدَّم على غيره اهـ. بحذف. قال رحمه الله تعالى: "فَإِنْ تَعَدَّى أَحَدُهُما أَوْ قَالَ مَا يُكْرَهُ فَالأَدبُ أَمْثَلُ مِنَ العَفْوِ وَلاَ يَغْضَبُ لِقَوْلِهِ اتَّق اللَّهَ: يعني كما قال خليل: وتأديب مَنْ أساء عليه إلاَّ في مث لاتق اللَّه في أمري فليُرْفَقْ به. قال ابن الحاجب: ويجب عليه أن يؤدَّ أحد الخصمَيْن إذا اساء على الآخر، وينبغي ذلك أيضًا إذا أساء على الحاكم. وأمَّا إن قال له: اتقِ اللَّه فلا ينبغي أن يغضب. قال ابن عبد الحكم: إن قال للقاضي: اتق الله فلا ينبغي أن يضيق لذلك، ولا يكترث عليه وليثبت، ويجيبه جوابًا ليّنًا يقول له: رزقني اللَّه تقواه وما أمرتَ إلاَّ بخير ومِنْ تقوى اللَّهِ أن نأخذ منك الحقّ إذا بان، ولا يظهر بذلك غضبًا اهـ. قال في المدوَّنة: ومَنْ آذى مسلمًا أُدَّب. قال ابن ناجي: ظاهره وإن لم يحضر المؤذَى؛ فإن القاضي يؤدَيه إذا كان ذلك بحضرته وهو كذلك، وكون القاضي لا يحكم بعِلْمِه فيما كان بمجلسه إنَّما هو في الأموال وأمَّا هذا فيحكم اهـ. وتقدَّم في التعزيزات أنه إذا شتم أحد الخصمَيْن صاحبه زجره الحاكم. وقال خليل أيضًا عاطفًا على ما يوجب التعزيز: ومَنْ أساء على خصمه أو مُفتٍ أو شاهد لا بشهدتَ بباطل كلخصمه كذِبْتَ. قال شارحه، يعني أن القاضي يجب عليه أن يؤدَّب مَنْ أساء على مَنْ ذكر إن وقعت الإساءة بين يديه من أحد الخصمَيْن على الآخر كيا ظالم يا فاجر أو على المفتي أو الشهود كتفترون عليّ وتشهدون عليّ لا أدري أكلَّم مَنْ، فإنه يعزره لأن وظيفة القاضي أنه مرصد لخلاص الأعراض، كما أنه مرصد لخلاص الأموال، ولا يحتاج فيما ذكر لبيَّنة بل يستند إلى عِلْمِه لتوقير مجلس الشرع، والحقُّ حينئذٍ للَّه لا يَحِلُّ القاضي تَرْكَه اهـ. باختصار.

قال رحمه اللَّه تعالى: "فَإنْ لَمْ يَعْرِفُ لُغَتَهُ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُتَرْجِمُ لَهُ عَدْلاَنِ وَرَوَى أَشْهَبُ وَابْنُ الْمَوَّاز إِجْزَاءَ الْوَاحِدِ" يعني ,عن لم يعرف القاضي لغة أحد الخصمَ ... يْن أو كِليهما فإنه يترجم له عدلان. والترجمان بالنون مثلَّث التاء: هو الذي يخبر الحاكم بمعنى لغة الخصم ويخبر الخصم بمعنى كلام القاضي عند اختلاف اللغة، ويكفي الواحد إن رتَّبه القاضي، وأمَّا غير المرتَّب بأن أتى به أحد الخصمَيْن أو طلبه القاضي للتبليغ فلا بدّ فيه من التعدُّد؛ لأنه صار كالشاهد. وقيل: لابُدَّ من تعدُّده ولو رُتَّب، وكذا المحلَّف الذي يحَلَّف الخصم عند توجُّه اليمين عليه يكفي فيه الواحد. قال خليل: والمترجم كالمحلَّلأن أي فيكفي الواحد فيهما ولابُدَّ من العدالة فيهما اهـ. الدرديري انظر الموّاق. قال رحمه اللَّه تعالى: "وَلاض يَحْلِفُ حَتَّى تَثْبُتَ بَيْنَهُمَا الْخُلْطَةُ إلاَّ أَنْ يَكُنَا غَرِيبَينِ" يعني كما في الموطَّأ عن مالك بغسناده أنّ عمر بن عبد العزيز إذا جاءه الرجل يدّعِي على الرجل حقًا نظر: فإن كان بينهما مخالطة أو ملابسة أحْلِفَ الذي ادُّعِيَ عليه، وإن لم يكن شيئ من ذلك لم يُحَلَّفهُ. قال مالك: وعلى ذلك الأمر عندنا: أنّه مَنِ ادَّعَى على رجل بدَعْوى نظر، فغ، كانت بينهمامخالطة أو ملابسة أُحلِفَ المدَّعى عليه، فإن حَلَفَ بَطَلَ ذلك الحُّ عنه، وإن أبى أن يضحْلِفَ وردّ اليمين على المدّعِي فحَلَفَ طالب الحَّ أخذ حقَّهُ اهـ. قال في الرسالة: والبيَّنة على المدَّعى وليمين على مَنْ أنكر، ولا يعين حتى تثبت الخُلْطة أو الظَّنَّة، كذلك قضى حكّام أهل المدينة. وقوله: إلاَّ أن يكونا غريبَيْن إشارة إلى أنّ دعوى الغريبين لا تشْتَرطُ إثبات الخُلْطة. انظر نظائر هذه المسألة في النفراوي عند قوله مصنَّفه: أو الظنة. قال رحمه الله تعالى: وَلَيْسَ لَلُ وَلاَ لِغَيْرِهِ نَقْضُ حُكْمٍ إلاَّ أَنْ يُخَاِفَ قَاطِعًا أَوْ يَكُونَ جَوْرًا وَلاَ يَحْكُمُ وَعِنْدَه شَكٌّ أَوْ تَرَدُّدٌ" يعني أن القاضي ليس له ولا

لغيره أن ينقض الحُكْم، سواء كان حُكْمَه أو حُكْمَ غيره، إلاَّ أن يخالف نَصًّا قاطعًا أو يكون جورًا صريحًا فيجب عليه نَقْضُه هو أو غيره مِمَّن وُلَّيَ بعده. قال ابن جزي في القوانين: الفصل الرابع في نَقْضِ القضاء: إذا أصاب الحكم لم يُنْقَضْ حُكْمُه أصلأن وإن أخطأ فذلك على أربعة أوجه: الأول: أن يَحْكُمَ بِما يخالف الكتاب أو السنّة أو الإجماع، فينقض هو حُكْمَ نفسه بذلك، وينقضه القاضي الوالي بعهد، ويلحق بذلك الحُكْم بالقول الشاذ، الثاني: أن يَحْكُمَ بالظنّ والتخمين من غير معرفة ولا اجتهاد فينقضه أيضًا هو ومَنْ يلي بعده. الثالث: أن يَحْكُمَ بعد الاجتهاد ثم يتبيَّن له الصواب ف خِلاف ما حَكَمَ به فلا ينقضه مَنْ وُلَّيَ بعده، واختُلِفَ هل ينقضه هو أم لا؟ الرابع: أن يقصد الحكم بمذهب فيذهل ويَحْكُمَ بغيره من المذاهب فيفسخه هو ولا يفسخه غيره. اهـ. القوانين. فراجع تبصرة الحكّام لابن فرحون في ما يلحق بالركن الثاني من بيان ما يُنْقَضُ فيه قضاء القاضي وثلاثة فصول بعده تفقف فيها على جميع أقوال أئمّة المذهب المتعلَّقة بهذا الباب إن شاء اللَّه واللَّه الموفَّق للصواب. قال رحمه اللَّه تعالى: "وَاتَّفَقَ شُيُوخُ الْمَذْهَبِ عَلَى أنَّ قَضَاء الْفُسُوخ وَنضقْلَ الأَمْلاَكِ حُكْمٌ فَلَوْ رلُفِعَ إِلَيْهِ أمْرٌ مُخْتَلَفٌ فيهِ كَنِكَاح عُقِدَ بِغَيْر وَلِيَّ مَثَلاً فَأَقَرَّهُ قَال ابْنُ الْقَاسِمخ: هُوَ كالْحُكْم وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَيْسَ بِحُكْم وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إلاَّ مَجَرَّدُ قَوْلِهِ لا أُجِيزُهُ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ فُسِخَ فَلَيْسً بِحُكْمٍ" وفي نسخة: من غير قَصدِ فَسْخ وهي الاصح. فالمعنى: أنه اتفق علماء المذهبّ على أن قضاء الفسوخ من العقود والبيع ونَقْل الأملاك وما شابَهَ ذلك حُكْمٌ، قال خليل عاطفًا على ما هو حُكْمٌ ممَّا دلذَ على الإلزام الذي يرفع به الخلاف: ونضقْلُ مِلكٍ وفَسخُ عَقدٍ وتَقَرُّرُ نكاح بلا وَلِي حُكْمٌ لا لا أُجِيزُهُ أو أُفتي. قال الموّاق وابن شاس: ما قضى به الحاكم من نَقْل الأملاك وفَسْخِ العقود ونحو ذلك فلا شكَّ في كونه حُكْمًا، فأمَّا إن لم يكن تأثير القاضي

في الحوادث أكثر من إقرارها لَما رُفِعَتْ إليه، مثل أن يُرْفَعَ إليه نِكاح امرأة زوجَّت نفسها بغير وَلِيًّ فأقرَّه وأجازه ثم عُزِلَ وجاء غيره فهذا ممَّا اختُلِفَ فيه. فقال ابن القاسم: طريقه طريق الحُكْم، وإمضاؤه والإقرار عليه كالحْكْم بإجازته، ولا سبيل إلى نقضه واختاره ابن محرز. قال في تبصرة ابن فرحون: اعلَم أنّ القاضي إذا حَكَمَ بفسخ نِكاح أو بَيْعٍ أو إجارة وشبه ذلك لموجب من موجبات الفسخ فذلك في مسألة مختَلَفٌ فيها ومثار الخلاف فيها اجتهادي، أي ليس فيهانصٌ جليٌّ يمْنَعُ من الاجتهاد؛ فإنّ حُكْمَ الحاكم لا يتعدّى ذلك الفسخ. وأمَّا ما يتبع ذلك منالأحكام والعوارض فذلك القاضي بالنسبة إليه كالمفتي، وكذلك لو حدثت قضية أخرى مثل القضية التي حُكِمَ فيها بالفسخ في ولاية ذلك القاضي ولم تُرْفَع إليه رُفِعَتْ إليه ولم ينظر فيها حتى عزل أو مات فإنها تحتاج إلى إنشاء نظر آخر من القاضي الأوّل أو من القاضي الثاني، ولايكون حْكْم القاضي الأوّل متناولاً إلاَّ لما باشره بالحْكْم؛ وسبب ذلك أن حْكْمَ القاضي لا يتعلَّ إلا بالجزئيات دون الكليات؛ لأن معظم ما ينظر القاضي فيه يحتاج إلى بيَّنة، والبيَّنة إنَّما تشهد بِما رأته أو شافهته وذلك أمْرٌ جزئي. هذا هو غالب ما تشهد به البيَّنةويَحْكُمُ القضة به. فرع: إذا ثبت ما قرَّرْناه فإن القاضي إذا فَسَخَ نِكاحًا بين زوجَيْن بسبب أن أحدهما رضع أُمّ الآخر وهو كبير فالفسخ ثابت لا ينقضه أحد، ولكنه إن تزوَّجها بعد ذلك فَرُفِعَ أمرُهما إلى غيره مِمَّن وَلِيَ بعده لم يمنعه ذلك الفسخ أن يجتهد ويبيحها له، إن أدّاه اجتهاده إلى أنّ رضاع الكبير لا ينسر الحُرْمة، وكذا لو رفع إليه نفسهوتغير اجتهاده فَلَهُ أن يبيحها له. فرع: وكذا مَنْ تزوّضج امرأة في عدَّتها ورُفِعَ ذلك إلى قاض مالكي، فإنه يرى مع الفسخ تأبيد التحريم، ومع هذا فإن حْكْمَه لا يتعدّى الفسخ، فإذا تزوَّجها بعد ذلك

ورُفِعَ أمْرُهما إلى قاض آخر لا يرى تأبيد التحريم لم يكن القضاء الأول مانعًا من أن يبيحها له ويكون الحُكْمُ في حَّ المرأتَيْن في هذا الفرع والذي قبله حُكْمَ امرأتَيْن لم يتقدَّم عليهما حُكْم. فرع: وكذلك لو جمع رجل في عَقْدٍ واحد بين النكاح والبيع أو بني النكاح والإجارة، ورُفِعَ ذلك إلى قاضٍ مالكي فحَكَمَ بالفسخ على مشهور المذهب لرأي رىه أو لتقليده ابن القاسم في ذلك، ثم تزوّضج ذلك الرجل تلك المرأة بعينها على ذلك الوجه الفاسد الذي حَكَمَ القاضي بفَسْخِهِ بينهما فرُفِعَ أمْرُهما إلى القاضي الأو أو إلى قاضٍ غيره فن حْكْمَ القاضي الأول لا يتناولفس اد هذا الفعل الثاني بل إذا أدّى نظر القاضي نظر الثاني إلى خلاف ما أدّى إيه اجتهاد الأول إمّا من إمضاء النكاح أوالبيع مطلَقًا أو بِرَرْطِ أن يبقى للبَضْع ربع دينار مضاه. انتها ما نَقَلَه ابن فرحون من كلام القرافي في فصل بعد هذا؛ لأنه عقد فيه المواضع التي تصرُّفات الحكّام فيها ليست بحكم ولغيرهم من الحكام تغييرها والنظر فيها وهي أنواع كبيرة، وجعل فيها عشرين نوعًا فارغَبْ في مطالعة تلك الأنواع. ثم قال رحمه اللَّه تعالى: "وضلاَ يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْوَالِي بِخِلاَفِ الْقَاضِي يَسْتَنِيبُ فَإنَّهُ يَنْعَزِلُ بِمَوْتِهِ وَعَزْلِهِ وَطُرُوَّ فِسْقِقِ وَقَالَ أصْبَغُ: لاَ يَنْعَزِلُ بَلْ يَجِبُ عَزْلُه: يعني لا ينعزل القاضي بموت الوالي. وأمَّا نائب القاضي فغنه ينعزل بموت القاضي أو عَزْلِهِ، قال خليل: وانعزل بموته لا هو بموت الأمير ولو الخليفة، قال ابن عبدالسلام: وعندي أن ما قالوه من انعزال نائب القاضي بموت القاضي صحيح، إن كان القاضي استنابه بمقتضى الولاية، على القول بأن له ذلك وأمَّا إن استناب رجلاً معيَّنًا بإذن الإمام الأمير أو الخليفة فينبغي ألاَّ ينعزل ذلك النائب بموت القاضي، ولو أذِن له في النيابة إذْناًا مطلَقًا فاختار القاضي رجلاً ففي انعزاله بموت القاضي نظر. اهـ. نَقَلَه الحطاب. وفي تبصرة ابن فرحون: أمَّا

إذا مات الخليفة أو الأمير فلا ينعزل مَنْ قدّضماه للقضاء، لأن ذلك كان منهما نظرًا للمسلمين ليس لهما فيه حظ، ولا يعزله إلاَّ الخليةف الثاني أو الأمير الثاني اهـ. قال الدردير: ثم إن الخليفة إذا ولي مستوفيًا للشروط لا يجوز عزله إذا تغيَّر وَصْفُه، كأن طرأ عليه الفِسق وُلم الناس، بخلاف غيره من قاضٍ ووالٍ، وكذا الوصيّ بعد موت الموصي، ولا يجوز تعدُّد الخليفة إلاَّ إذا اتسعتوبَعْدَتِ الأقطار، ثم قال بعد كلام طويل: والحاصل أن الخليفة أو غيره إذا استخلف قاضيًا أو غيره لم ينعزل المولى بموت مَن ولاّه، إلاَّ خليفة القاضي إذا ولاّه القاضي بجهة بَعْدَت، لاتساع عَمَلِه فإنه ينعزل بموت القاضي الذي ولاه. هذا حاصل كلامهم فتأمَّله. وأمَّ إذا عزله مَنْ ولاّه فإنه ينعزل قَطْعًا، إلاَّ الخليفة فلا يُعْزَل إن أزيل وَصْفُه إذا ولي مستجمعًا لشروطها، ومحل ما لم يكفر وإلاَّ وَجَبَ عَزْلُه كما تقدَّم اهـ. قال رحمه الله تعالى: "وَإِذَا اشْتَكاهُ النَّاسُ نَظرَ الوَالي فَإِنْ كَانَ صًالِحًا ظَاهِرَ العَدَالَةِ أَقَرَّه وَإلِلاَّ عَزلَهُ إِلاّ ألَلاّ يَجِدَ غَيْرَهُ" يعني إذا كثر الناس باشتكاء القاضي نظر الحاكم الذي ولاّه للقضاء فإن كان على الحقَّ ولاصواب أقرّه، وإن كان على الجور والباطل عَزَلَ، كما في ضياء الحكّام نَقْلاً عن تبصرة ابن فرحون. قال: وإذا شُكِيَ للإمام جورُ القضاة أو قاضي الجماعةجور نوابه، فعلى كلًّ أن يسأل الثقاب عنهم إذا لم تُعْرَف أحوالهم، فإن ظهر أهم على طريق الاستقامة أبقاهم وإلاَّ عَزَلَهم. واختُلِفَ فيمَن اشتهر بالعدالة هل يُعْزَل بالشكوى، قاله أصبغ أولأن قاله مطرف. ومَنْ خرج من العدالة عُزِلَ مطلَقًا، ومَنْ شُكَّ فيه عَزَلَه إن وَجَدَ له، وإلاَّ كشف عن حاله، بأن يبعث إلى رجال يوثق بهم من أهل بلده يسألهمعنه سرًّا، فإن صدقوا ما قيل عَزَله ونظر في أقضيته فمَا وافق الحقَّ أمضاه، وما خالفه فَسَخَه، وإن قالوا: لا نعلم إلاَّ خيرًا أبقاه ونظر في أقضيته كما تقدَّم اهـ.

قال رحمه الله تعالى: "وَحُكْمُهُ لاّ يُغَيَّرُ الْبَائِنَ فَلاَ يُحِلُّ حَرَامًا وَلاَ يُحَرَّمُ حَلاَلاً" يعني أن حُكْمَ القاضي لا يَحِلُّ حرامًا ولا يحرَّم حلالاً. قال خليل، ورفع الخلاف لا أحلَّ حرامًا. قال الدردير: وحاصله: أن حُكْمَه صحيح في ظاهر الحال إلاَّ أنه يلزم عليه في الباطن فِعْلُ الحرام. فحُكْمُه المذكور لا يَحِلُّ ذلك الحرام، كما لو ادَّعى إنسان على رجل بَدَيْن دعوى باطلة وأقام عليها بيَّنة زور فطلب الحاكم من المدَّعى عليه تجريحها فلم يقدر على تجريحها فَحَكَمَ له به فالحُكْمُ صحيح في الظاهر، ولكن لا يَحِلُّ للمدَّعى أخْذُ ذلك الدَّيْن ف يالواقع، وكذا إذا لم يَقُمْ ببيَّنة فطلب الحاكم من المدَّعى عليه اليمين فردَّها على المدَّعى فَحَلف، وكذا لو ادَّعى على امرأة بأنها زوجته وهو يَعْلَم بأنها ليست بزوجة له ,اقام على ذلك بيَّنة زور، فطلب الحاكم منها تجريحها فعجزت فَحَكَمَ له بها فلا يجوز له وَطْؤها؛ لِعِلْمِه بأنها ليست بزوجته وإن كان كُكْمُه صحيحًا في ظاهر الحال. وقال الحنفية: يجوز له وطْؤها، وكذا إذا طلَّ رجل زوجته طلاقًا بائنًا فرفعته للحاكم وعجزت عن إقامة البيَّنة الشرعية فَحَكَمَ له بالزوجية وعدم الطلاق لم يَحِلَّ له وَطْؤها في الباطن؛ لعِلْمِه بأنه طلَّقها، وكذا لو كان لرجل على آخر دَيْن ثم وفاه إيّاه بدون بيَّنة فطلبه عند القاضي فقال: وَفَيْتُه لك فطلب منه القاضي البيَّنة على الوفاء فعجز وحَلَفَ المدَّعي أنه لم يوفِهِ فحَكَمَ الحاكم له بالدَّيْن فلا يَحِلُّ للمدَّعى أخْذُه ثانية في نفس الأمر. فالمراد بقوله: لا أحلَّ حرامًا، بالنسبة للمحكوم له. والحاصل: أن ماباطنه مخالف لظاهره بحيث لو اطلع الحاكم على باطنه لم يَحْكُمْ فحُكْمُ الحاكم في هذا يرفع الخلاف ولا يَحِلُّ الحرام. اهـ. بحذف وطرفه من حاشية الصاوي. وقال ابن جزي: حُكْمُ القاضي في الظاهر لا يَحِلُّ حرامًا في نفس الأمر ولا يحرَّم حلالأن خلافًا لأبي حنيفة في عَقْدِ النكاح وحِلَّه. وأجمعوا في الأموال اهـ. وقول خليل: ورَفْعُ الخلاف، إلخ، أي حُكْمُ الحاكم العَدْل يرفع الخلاف الواقع بين العلماء في المسألة، وكذا غير

العَدْل إن كان عالِمًا وحَكَمَ صوابًا فإنه يرفع الخلاف ولا ينقض، وكذا المحكم، والمراد بأنه يرفع الخلاف أي في خصوص ما حَكَمَ به، كما إذا حَكَمَ المالكي بفَسْخِ النكاح فليس للحنفي تصحيحه، أو حَكَم الحنفي بصِحَّته فليس للمالكي نَقْضُه، مثال ذلك: كما إذا عَقَدَ رجل على امرأة مبتوتة ونيَّته التحليل لِمَن أبانها ورَفَعَ للقاضي المالكي وحَكَمَ بفَسْخِ النكاح فليس للقاضي الحنفي تصحيحه إذا عَمِمَ بحْكْم القاضي المالكي بفَسْخِه، وكذلك عكسه، أي كما إذا ثبت صِحّة هذا العد وحَكَمَ به القاضي الحنفي، أي حَكَمَ بصِحّة عقد مَنْ نيّضته التحليل فحُكْمُه رافع للخلاف، فليس للقاضي المالكي نَقْضُه بعد عِلْمِه بصِحّة الحُكْم فيه عند الحنفي. هذا معنى كلامه: ورفع الخلاف لا أحَلَّ حرامًا، وإليه أشار الدردير بقوله: والمراد أنه يرفع الخلاف في خصوص ما حَكَمَ به، فإذا حَكَمَ بفَسْخِ عقد أو صِحّته لكونه يرى ذلك لم يججُزْ لقاضٍ غيره يرى خلافه، ولا له نَقْضه، ولا يجوز لمفتٍ عَلِمَ بحُكْمِه أن يفتي بخلافه، وإذا حَكَم حاكم بصحة عقد لكونه يراه وحَكَمَ آخر بفساد مثله لكونه يراه صار كلٌّ منهما كالمجمع عليه في خصوص ما وقع الحُكْمُ به، ولا يجوز لأحد نَقْضُه ولا له، قال عمر رضي الله عنه في الحمارية: ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي ولم ينقض حُكْمُه الأوّل. اهـ. باختصار. فراجِعْه إن شئت. قال رحمه الله تعالى: "وَيَجُوزُ التَّحْكِيمُ وَيَلْزَمُ مَا حُكِمَ بِهِ وَإِنْ خَالَفَ قَاضي الْبَلَد" يعني أنه يجوز للخصمَيْن أن يتفقا ويرفعا أمْرَهما إلى رجل فقيه يجعلانه حَكَمًا إذا رضيا بِما يَحْكُمُ عليهما في أمور مخصوصة بشروط مذكورة في كُتُب المذهب. قال في المدوَّنة وغيرها: لو أن رجلَيْن حَكَّما بينهما رجلاً فحَكَمَ بينهما أمضاه القاضي ولا يردُّه إلاَّ ألا أن يكون جورًا بيَّنًا اهـ. قال الدردير في أقرب المسالك: وجاز تحكيم عدْلٍ غير خصم وجاهل ي مالٍ وجُرح لا حَدًّ وقتل ولعانٍ وولاءِ ونسبٍ وطلاقٍ وفسخ وعتقٍ ورُشدٍ وسفهٍ وأمر

فصل في الغائب

غائب وحبسٍ وعقد. ثم قال: فلا يجوز للمحكَّم أن يَحْكُمَ في هذه الأمور، إنَّما يَحْكُمْ فيها القضاة لتعلُّ الحقوق فيها إمّا للَّه تعالى وإمّا للآدمي. قال الخرشي: والمعنى أنه يجوز للخصمَيْن أن يتفقا على أن يُحَكَّما شخصًا ليس مولى من قِبَل القاضي غير خصم لأحدهما ليَحْكُمَ بينهما في الأموال والجراح العمد ولو عظمَ كقَطْعِ يد لا في غيرهما كحدًّ كما يأتي، فلو حَكَّما خصمًا فإن ذلك لا يجوز، ولا ينفذ حُكْمُه، كما إذا حَكَّما جاهِلاص أو كافرًا أو غير مميّز. والمراد بالخصم هنا من ثبت بينه وبين أحد المدعِيَيْن خصومة دنيوية وإن لم تَصِل إلى العداوة كما يأتي نظيره في الشاهد. ولو شاور الجاهل العلم فيما حَكَمَ فيه وعَمِمَ الحُكْمَ فيه لم يكن حُكْمَ جاهل، ولو حَكَم الجاهلُ أو الخصم أو الكافر كان الحُكْمُ مردودًا اهـ. باختصار. ثم انتقل يتكلم على أحكام الغائب فيما عليه من الحقَّ فقال رحمه اللَّه تعالى: فَصْلٌ في الغائب أي في بيان ما يتعلَّق بالغائب وهو الذي غاب عن بلد المدّعي. قال رحمه اللَّه تعالى: "مَنْ أَثْبِتَ حَقًّا عَلَى غَائِبٍ حُكِمَ لَهُ بَعْدَ إِحْلاَفِهِ عَلَى عَدَم الاقْتِضَاءِ وَالإِبْرَاءِ لَه وَالإِحَالَة: يعني أن مَنْ أثبت حقًّا له كالَّيْن عند القاضي على غائب عن بلد المدَّعى فللقاضي أن يسمع دعواه بطلب الشهود فيما ادّعى بإثبات الحقَّ وعدم القضاء والإبراء والإحالة، ثم يَحْلِفُ يمين القضاء، وتسمّى يمين الاستبراء، ويسجَّل القاضي جميع ذلك في كتابٍ مخصوص بالقضايا. وفي تبصرة ابن فرحون: مسأةل: قال القاضي أبو الوليد بن رشد: الحُكمُ على الغائب في مذهب مالك على ثلاثة أقسام: أحدها: غائب قريب الغيبة على مسيرة اليوم واليومين ولاثلاثة، فهذا يُكْتَبُ إليه ويُعْذَر إليه في كل حق، فإمّا وكَّل وإمّا قَدِم، فإن لم يفعل حكمَ عليه في الدَّيْن وبِيعَ عليه

مالُه من الأصل وغيره وفي استحقاق العروض والحيوان والأصول وجميع الأشياء من الطلاق والعَتْق وغير ذلك، ولم تُرْجَ له حجّة في شيئ من ذلك لأنه لا عُذْرَ له. والثاني: غائب بعيد الغيبة على مسيرة عشرة أيام وشِبْهها، فهذا يحْكمُ عليه فيما عدا الاستحقاق في الرَّباع والاصول من الديون والحيوان والعروض، وتُرْجى له الحجة في ذلك. والثالث: غائب منقطعالغيبة مثل مكة من إفريقية والمدينة من الأندلس وخراسان، فهذا يحْكمُ عليه في كلَّ شيئٍ من الدُّيونِ والحيوان والعروض والرَّباع والأصول، وتُرْجَى له الحجة في ذلك اهـ. قال رحمه الله تعالى: " ثم إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ حُكِمَ بِسْتِيفَاءٍ حَقَّهِ مِنْهُ وَإلاَّ انْتَهَى الْحَكِمُ إِلَى مَوْضِع خَصْمِهِ بِكِتعَابٍ مَخْتُوم يَتَضَمَّنُ ثُبُوتَ حَقَّ المَحْكُوم بِهِ يَشْهَدُ عَدْلاَنِ أَنَّه كَتَبَهُ وَخَتَمَهُ وَمَضْمُنُهُ ثَابِت عِنْدَهُ وَتَجَلَّى فِيه الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِمَا يُمَيَّزُهُ عَنْ غَيْرهٍ" يعين إن كان للغائب مال حاضر في بلد الحُكْم حَكَمَ الحاكم باستيفاء الحقَّ وإلاّض أرسل إلى الخصم بكتاب. قال ابن جزي في القوانين: وإن كان في بلد غير ولايته كَتَبَ إلى قاضي ذلك البلد بالنظر في قضيَّته، وإن كان له مِلْكٌ في البد وَجَبَتْ توفية الحقوق منه بعد أن يؤمر الطالب له بإثبات حقَّه، ويمين القضاء بعد الثبوت وإثبات غيبته، وتُرْجى له الحجة، فإن كان له عقار يُباع فيدَيْنِه أمَرَه القاضي بإثبت تملُّكِه له واتصاله ثم وجَّه شهود الحيارة يشهدون على مَنْ شهد به ثم أمَرَ بتقويمه وتسويقه ثم قَدِمَ مَنْ يبيعه بِما قوَّم به أو أزْيَد من ذلك إن بلغ في التسويق ثم يقبض الثمن ويدفع إلى صاحب الحقَّ اهـ. قال ابن سهل: وإرجاء الحجة للغائب فيما يحكم به عليه أصل معمول به عند الحكام والقضاة، ولا ينبغي العدول عنه ولا الحُكْمُ بغيره إذ هو كالإجماع في المذهب اهـ. نَقَلَه ابن فرحون.

فصل في الشهادة

قال رحمه اللَّه تعالى: "فَإِنِ الْتَبَسَ عَن الْمَنْقُولِ إِليْهِ لَمْ يَحْكُمْ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ الْمُرَادُ وَيَشْهَدَ عَدْلاَنِ عِنْدَهُ بِذلِكَ كَانَ المَكْتُوبُ إِلَيْهِ أَوْ غَيْرِهِ" يعني فإن التَبَسَ للقاضي أمْرُ القضاء فلا يجوز له تنفيذه حتى يثبت وَجْهَ القضاء فيه ويتحقَّق أنه هو الحُكْمُ الشرعي والمحكوم عليه هو المراد بإيقاع الحُكْم عليه بدون شك ولا تردُّد، سواء كان غائبًا أو حاضرًا. قال المصنَّف: ولا يَحْكُم حتى يسمع تمام الدعوى والبيَّنة. وقال في محل آخر: ولا يَحْكُمُ وعنده شكٌّ أو تردُّد. قلتُ: فإن فعل ذلك مع شكًّ أو تردُّد فللمحكوم عليه القيام بطلب فسْخ الحُكْم. انظره في فصل قيام المحكوم عليه في تبصرة ابن فرحون. وينبغي أنَ يقيَّد القاضي أسماء الشهود للمراجعة عند الحاجة. قال ابن فرحون: ولسحنون في المجموع أن تسمِيَتَهم لا تلزم في الحْكْم على الغائب. وسَوَّى أصبغ في هذا بين الحُكمِ على الغائب والحاضر، وبه جرى العمل فهو في الحاضر مستحبٌّ وفي الغائب واجبٌ لإرجاء الحجة له اهـ. ولمَّا أنهى الكلام على ما تعلَّق بأحكام الغائب انتقل يتكلم على الشهادة وأحكامها فقال رحمه اللَّه تعالى: فَصْلٌ في الشهادة أي في بيان ما يتعلَّق بأحكام الشهادة وشروطها، وهي لغة: الإعلام، وعُرْفًا: إخبار عَدْل حاكمًا بِما عَمِمَ ولو بأمر عام ليَحْكُمَ بمقتضاه، وحُكْمُهما أنها فَرْضُ كفاية، ولذا قال رحمه اللَّه تعالى: "تَحَمُّل الشَّهَادَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ إلاَّ أَنْ يَخَافَ فَوَات الْحقَّ فَيَتَعَيَّنُ" يعني أن أصل الشهاد فَرْضُ كفاية ويعرض عليها الوجوب فتتعيَّن بخوف فوات الحقّ. قال ابن جزي في القوانين في الباب التاسع في أوّله المسألة: تحمُّل الشهادة وأداؤها وكلاهما فَرْضُ كفاية إلاَّ إن تُعَيَّن، أمَّا التحمُّل فلا يجب على الشاهد أ، يتحمَّل إلاَّ أن يُفتقر إليه ويُخشى تَلَفُ الحقوق لعَدَمِه. وأمَّا أداء الشهادة فيجب على مَنْ تحمَّلها إذا كان

متعيَّنًا، وذلك إذا لم يشهد غيره، أو تعذَر أداء سائر الشهود ودُعِيَ لأدائها من مسافة قريبة كالبريد والبريدين، ولا يجوز أخْذُ الأجْرة على الأداء لأنه واجب اهـ. قال الدردير: وإن انتفع مَنْ تعيَّن عليه الأداء بأن امتنع من الأداء إلاَّ بمقابلة شيئ من الدراهم أو غيرها ينتفع به فجرح أي قادح [3/ 16/162/ 3] في الشهادة لأن الانتفاع رشوة في نظير ماوجب عليه مسقط لشهادته. قال تعالى: ولا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ومَن يَكْتُمْهَا فَإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة: 283] وهذا قد كتمها حتى يأخذ رشوة، ثم قال: إلاَّ ركوبه لدابة لمجلس الحُكْم لعُسْرِ مشْيِهِ ولا دابة له فيجوز وليس بجرح. وأمّا الانتفاع على التحمُّل إذا لم يتعيَّن فيجوز، فإ، تعيَّن لم يَجُزْ، وقيل بالجواز إن كان يكتبها في وثيقة مِمَّن انتصب لذلك، وكذا إذا لم ينتصب في نظير كتابته وكذا المفتي. اهـ. فراجِعْه إن شئت. قال رحمه اللَّه تعالى: "وَشَرْطُهُ الإِسْلاَمُ وَالْحُرَّيَّةُ وَالتَّكْلِيفُ وَالْعَدَالَةُ وَمَعْرِفَةُ تَحَمُّلِهَا وأأدَائِهَا وَتَيَقُّظُهُ وَحِفْظُ مُرُوءَتِهِ وَائتمَانُهُ في غَضَبِهِ لاَ يُتَّهَمُ بِمَحَبَّةِ الْمَشْهُودِ لَهُ أَوْ عَدَاوَةِ المَشْهُدِ عَلَيْهِ" يعين كما في الدردير قال في أقرب المسالك: وشروط الشهادة العدالة. والعدل: الحُرّ المسلم البالغ العاقل بلا فِسْقٍ وحَجْرٍ وبدعة كقدريَّ ذو المروءة بترك غير لائق من لعب بكحمام وشطرنج ومساع غِناءٍ وسفاهةٍ وصغير خِّةٍ وإن أعمى في القول أو أصَمَّ في الفعل. وشَرْطُه أي شَرْطُ قبول شهادته أن يكون فَطِنًا جازمًا بما أدّى غير متّهَم فيها بوجهٍ، فلا شهادة لمغفَّلٍ إلاَّ فيما لا يُلْبَسُ، ولا المتأكَّد القرب كَوالدٍ وإن علا وولدٍ وإن سفلَ وزوجهما، بخلاف أخ وملّى وملاطف إن برَز ولم يكن الشاهد في عِياله أي في عِيال المشهود له فتجوز كأجير وشريك في غيرها أي في غير مال الشركة وزائدٍ أي في شهادة ومُنَقِّصٍ وذاكرٍ بعد شكًّ أو نسيانٍ فتجوز، وبخلافها لأحد أبوَيْه أو ولدَيْه (أي فتقبل إن برّز) ولم يظهر مَيلٌ لِمَن يشهد له منهما اهـ.

قال رحمه الله تعالى: "وَالأَقاَرِبُ كَلأَجَانبِ فِي القَبُول إلاَّ الْوَالِدَ وَإنْ عَلاَ وَالْوَلَدَ وَإِنْ نَزَلَ وَكُلا مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِلآخَرِ وَالسَّيَّدَ لأِرِقَّائهِهِ وَصَاحِبَ دَيْن لِمِدْيَانِهِ المُفَلَّ وَوَصِيًّا لِيَتيمِهِ وَالسُّؤَّالَ وَمَنْ فِي عِيَالِهِ أَوْ يَدْفَعُ مَعَرَّةً عَنْ نَفْسِهِ أَوْ نَسَبِه وَبَدَويًّا لِقُرَوِيصّ إلاّ فِي قَتْل أَوْ جِرَاح وَوَلَدِ الزَّنَا فِيهِ وَقَذِفًا بَعْدَ حَدَّه وَشَاهِد زُور إلاَّ أَنْ يَتُوبَ وَيَظْهَرَ صَلاَحُهُمَا" يعني أن الاقارب كالأجانب في أداء الشهادة إلاَّ إذا تأكدت القرابة كالأصول والفروع فيمتنع للتهمة، فلا تُقْبضلأ شهادة الولد لوالديه، ولا لأجداده وجدّاتهن ولا شهادة واحد منهم له، ولا شهادة زوج لزوجته، ولا شهادتها له، ولا السيَّد لعبيده، ولا هم له؛ لأنهم ليسوا من أهل الشهادة ولو في غير سيَّدهم، خلافًا للظاهرية وابن المنذر، قاله ابن جزي. ولا شهادة لجار لنفسه منفعة أو دافع عنها مضرّة. وفي القوانين: مثل مَنْ شهد على موروثه المُححْصَن بالزَّنا فيُرْجَم لِيَرِثه أو مَنْ له دَيْن على مفلّس فيشهد للمفلّس أن له دَيْنًا على آخر ليتوصل إلى دَيْنِه أو مَنْ شهد بحقًّ له ولغير اهـ. وسيأتي تمام هذه المسألة عند قوله: فإن تضمَّنت حقًّا له أو لِمَن يتهم عليه وأجنبي رُدَّت. ولا شهادة أي لا تُقْبَل شهادة وصيَّ لمحجوره ولاش هادة السؤال الذين يتكففون النسا لعدم الثقة بهمز وكذلك لا شهادة لِمَن كان في عيال المشهود له، ولا لبدوي لقروي إلاَّ في قَتْلٍ أو جراح فتجوز، ولاش هادة لولد الزَّنا فيه، وكذلك قاذف بعد حدَّه، ولا شهادة لشاهد زور ولا تُقْبَل شهادته أبدًا؛ لأنه لا تُعْرَف توبته. قاله ابن العربي. وقيل: تُقْبَل إن صَلُحَ حالُه وسحَّت توبته كما للمصنَّ وهو المشهورز وأمَّا عبارة الرسالة فقا فيها: ولا تجوز شهادة النساء إلاَّ في الأموال، ومائة امرأة كامرأتَيْن، وذلك كرجل واحد يقضي بذلك مع رجل أو مع اليمين فيما يجوز فيه شاهد ويمين، وشهادة امرَتَيْن فقط فيما لا يطَلع عليه الرجال من الولادة والاستهلاك وشُبهة جائزة، ولا تجوز شهادة خصم ولا ظنّين، ولا يُقْبَل إلاَّ العدول، ولا تجوز شهادة المحدود، ولا شهادة عَبْدٍ ولا صبيًّ

ولا كافر. وإذا تاب المحدود في الزَّنا قُبِلَتْ شهادته إلاَّ في الزَّنا. ولا تجوز شهادة الابن للأبوين ولا هما له، ولا الزوج للزوجة ولا هي له، وتجوز شهادة الأخ العَدْل لأخيه، ولا تجوز شهادة مجرَّب في كذب، أو مظهر لكبيرة ولا جارٍ لنسه ولا دافِع عنها ولا وصي ليتيمه، وتجوز شهادته عليه، ولا يجوز تعديل النساء ولا تجريحهن، وال يُقْبَلُ في التزكية إلاَّ مَنْ يقول عَدْل رضًا، ولا يُقْبَلُ في ذلك ولا في التجريح واحد، وتُقْبَلُ شهادة الصبيان في الجراح قبل أن يفترقوا أو يدخل بينهم كبير اهـ. قال رحمه الله تعالى: "وَمَنْ رُدَّ فِي شَيئٍ لِنَقْصِه يُقْبَلُ بَعْدَ كَمَالِهِ فِي غَيْرِهِ" يعني كما في النفراوي عند قول الرسالة: ولا تجوز شهادة المحدود ولا شهادة عَبْدٍ ولا صبيًّ ولا كافر. قال: لمنافاة الصبا والكفر العدالة، ومحلُّ عدم جواز الشهادة مَنْ ذُكِر إذا أدّوها في تلك الأحوال، وأمَّا لو تحمَّلوها على تلك الأوصاف وتأخَّر الأداء حتى اتَّصفوا بالعدالة لصَحَّتْ شهادتهم، حيث لم يكن صضدَرَ منهم أداء في تلك الحالة ثم رُدَّتْ شهادتهم وإلاَّ لم تُقبَل فيما رُدَّتْ فيه؛ لقول خليل: ولا إن حرص على إزالة نَقْصٍ فيما رُدَّ فيه لفِسْقٍ أو

صباً أو رِقّ؛ لأنهم يتهمون على إزالة النقص الذي ردَّت شهادتهم لأجله. والمراد بالنقص المعرة اللاحقة بسبب رد شهادتهم اهـ. ومثله في الوقانين بزيادة التوضيح هناك. قال رحمه اللَّه تعالى: "فَإِن تَمَمَّنَتْ حَقًّ لَهُ أَوْ لِمَنْ يُتَّهَمُ عَلَيْهِ وَأَجْنَبِصّ رُدَّتْ وَقِيلَ بَلْ يُقْبَلُ لِلأَجْنَبِي كَوَصِيَّةٍ لَهُ بَعْضُهَا إلاَّ أَنْ يُتَّهَمَ عَلَى مِثْلِهِ" يعني أن الشاهد إذا شهد بحق له أو لَمَن يتَّهم عليه وأجنب يفإن شهادته لا تقْبَل لتهمة. وقيل: تُقْبَل للأجنبي فقط كوصية له بعضها فتقبَل، إلاَّ أن يتَّهم على مثله فَتُرَدّ، لذلك قال الدردير: ولا إن شهد لنفسه بكثير وشهد لغيره بقليل أو كثير أي في وصية كأن يقول: أشهد أنه أوصى لي بخمسين دينارًا ولِزَيْد أو للفقراء بمثل ذلك أو أقلَّ أو أكثر فلا تصحُّ له ولا لغيره؛ لتهمة جرَّ النفْعِ لنفسه وإلاَّ بأن شهد لنفسه بقليل أي تافِه ولغيره بقليل أو كثير قبل ما شهد به لهما معًا أي لنفسه ولغيره، فإ، لم يوجد إلاَّ هذا الشاهد حَلَفَ الغير معه واستحقّ وصيته ولا يمين على الشاهد؛ لأنه يستحقُّ ما أوصى له به تبعًا للحالِف، فإن نكل الغير فلا شيئ لواحد منهما، وهذا إذا كَتَبَ الوصية بكتاب واحد بغير خط الشاهد، فإن كَتَبَ بخط الشاهد أو لم تُكْتَبْ أصلاً قُبِلَتْ شهادته لغيره لا لنفسه، وكذا إن كَتَب بكتابَيْن أحدهما للشاهد والثاني للآخر فلا تصحُّ له، وتصحُّ للآخر لعدم التبعية حينئٍّ. وأمَّا شهادته له ولغيره في غير وصية كدَيْن فلا تُقْبَل له ولا لغيره مطلقًا؛ لتهمة جَرَّ النفع لنفسه اهـ. قال رحمه اللَّه تعالى: "وَيُقْبَلُ مِنَ الأَعْمَى فِيمَا لاَ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ مَنَ الأَقْوَالِ والأَصَمَّ فِي الْمَنْظُوراتِ والأَخْرَسِ المَفْهُومِ الإِشَارَةِ وَالسَّمَاع فِي النَّسَبِ والْوَلاءِ وَالأَحْبَاسٍ والْمَوْتِ وَفِي النَّكَاح خِلافٌ" يعني أنه تُقءبَلْ شهادة الأعمى في الأقوال، وتُقْبَلُ شهادة الأصم في المنظورات, وتُقْبَلُ شهادة الأخرس المفهوم الإشارة، فهؤلاء

الثالثة تُقْبَلُ شهادتهم، قال في حاشية الخرشي في قبول شهادة الأعمى: لا خصوصية للقول بل تجوز فيما عدا المرئيات من المسموعات والملموسات والمذوقات والمشمومات، قال عبد الوهاب: فيُقْبَل فيما يلمسه بيده أنه حارٌّ أو بارد أو لَيَّن أو خَشِ، وفيما يذوقه أنه حُلْوٌ أو حامض وفيما يشمُّه اهـ. انظر الحطاب. وأمَّا الأصمُّ فقال الموّاق نَقْلاً عن ابن شاس: تُقْبَل شهادة الأصمَّ في الأفعال. وفي الخرشي: وأمَّا العدل الأصمُّ غير الأعمى فتجوز شهادته في الأفعال. وأمَّا شهادته في الأقوال فلا يُقْبَلُ ما لم يكن سمعه قبل الصمم. اهـ بحذف 5. وأمَّا الأخرس فقال الخرشي: ولم يتعرَّض لشهادة الأخرس وهي مقبولة كما قاله ابن شعبان. ويؤدّيها بالغشارة المفهمة والكتابة، وفي الموّاق: ولابن شعبان شهادة الأخرس جائزة إذا عُرِفَتْ إشارته. قال ابن عرفة: قبول شهادتهخ كصِحَة عَقْدِ نِكاحه وثبوته طلاقه وقَذْفه وكلاهما فيه اهـ. والحاصل أن هؤلاء الثلاثة تُقْبَل شهادتهم فيما ذكر، أي عىل الوجه الذي تقدَّم ذِكْرُه. وأمَّا الكلام في شهادة السماع في النسب والولاء والأحباس والموت والنكاح فقد ذكر ابن فرحون في تبصرته في الفروع فقال: وأمَّا شهادة السماع على النسب فصورتها أنهم يشهدون أنهم لم يزالوا يسمعون على قديم الايام ومرور الشهور والأعوام سماعًا فاشيًا منتشرًا من أهل العَدْل وغيرهم أن فلانًا ابن فلان قرشي من فَخِذِ كذا ويعرفونه وأباه من قَبْلِه قد حاز هذا النسب وبيَّناه في شهادتهما لا يعلمون أحدًا يطعن عليهما فيه إلى حين تاريخ إيقاع هذه الشهادة، فإذا شهدوا بذلك فَمَنْ نفاه عن ذلك النسب حدَّ له. وفي مفيد الحكام: أن شهادة لاسماع لا تفيد النسب إلاَّ أن يكون سماعًا فاشيًا ظاهرًا مستفيضًا يقع به العِلْم فيرتفع عن شهادة لسماع ويصير من باب الاستفاضة والضرورة، وهذا مثل الشهادة بأن نافعًا مولى ابن عمر وأن مالكًا بن أنس، وإن لم يعاين الشاهد بذلك أصله، وأمَّ إن قصر عن هذا الحدَّ فإنَّما يستحقُّ بالشهادة المال دون الولاء والنسب، وذلك ما لم يكن للمال وارث مستحق اهـ. ثم

قال: وأمَّا شهادة السماع على الولاء فصِفَتُها أنهم لم يزالوا يسمعون سماعًا فاشيًا مستفيضًا على ألْسنة أهل العَدْل وغيرهم أن فلانًا ابن فلان مولى لفلان ابن فلان بولاء العتاقة، أو أن جدَّه فلان لأبيه قد أعْتَقَ جدًّ لمولى فلان لأبيه، ويحتاج المشهود له إذا توفَّيَ المشهود عليه بالولاء أن يثبت الموت والوراثات حتى يبلغ إلىموت المشهود عليه، إلاَّ أن يكون موت الأول وما بعده قد بعد فيسقط الإثبات لذلك، ويستحقُّ بهذه في رواية ابن القاسم المال مع يمينه، ولا يثبت الولاء ويستحقُّ في قول أشهب الولاء والمال اهـ. ثم قال: وأمَّا شهادة لاسماع في النكاح فإذا ادّعى أحد الزوجَيْن النكاح وأنكره الآخر فأتى المدَّعي ببيَّنة سماع فاشٍ من أهل العَدْل وغيرهم على النكاح واشتهاره بالدف والدخان ثبت النكاح بينهما هذا هو المشهور المعمول به. وقال أبو عمران: إنَّما تجوز شهادة السماع في النكاح إذا اتفق الزوجان على ذلك. وأمَّا إذا ادَّاعاه أحدهما وأنكره الآخر فلا اهـ. ثم قال: وأمَّا لاشهادة على السماع في الحُبُس فلا بدَّ أن يشهد الشهود أنّ ذلك كان يُحاز بِما تُحاز به الأحباس، ويحترم بحُرْمَتها، وأنها كانت مِلْكًا لِمَن بتل فيها الحُبُس لالمذكور، ويجاوزونها بالوقوف عليها وإن لمي شهدوا بأنها تُحاز بِما تُحاز به الأحباس، وتحترم بحُرْمَتها سقطت لشهادةز وقال بعد الأندلسيين: لو شهدوا على أصل المحبَّس بعينه لم يكن حُبُسًا حتى يشهدوا بالمِلْك للمحبَّس يوم حُبس اهـ. وأمَّا شهادة السماع في الموت فقد قال في الفرع الثاني من هذه الفروع: لا بُدَّ في شهادة لاسماع على الموت أن يقول الشهود: إنهم سمعوا سماعًا فاشيًا مستفيضًا من أهل العَدْل وغيرهم أن فلانًا ابن فلان الفلاني الذي يعرفونه بعينه واسمه توفِّي يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا في وقت كذا ولا يُستغنى عن تاريخ اليوم الذي مات فيه من جهة من يوارثه ليعرف بذلك مَنْ مات قَبْلَه ومَنْ مات بَعْدَه اهـ. نَقَلَه من وثائق الجزيري. قال ابن

جزي في القوانين: المسألة الخامسة: تجوز الشهادة بالسماع الفاشي في أبواب مخصوصة، وعدّها عشرين بابًا. قال الصاوي نَقْلاص عن شبراخيتي: قد أنهاها بعضهم إلى اثنتَيْن وثلاثين مسألة التي تجوز الحُكْمَ بشهادة السمع، وقد جمعت في أبيات ونصُّها: أيَا سَائلِي عَمَّا يَنْفُذُ حُكْمُهُ ... ويَثْبُتُ سَمْعًا دونّ عِلْم بِأصْلِهِ ففي العَزْلِ والتَّجْرِيح والكُفْرِ بَعْدَهُ ... وفِي سِفِهٍ أو ضِدَّ ذَلِكَ كُلَّهِ وَفِي البَيْع والأحباسُ وَالصَّدَقاتُ معْ ... رَضاع وخُلْع والنَّكَاح وَحِلِّهِ وَفِي قِسْمَةٍ أو نِسْبَةٍ وولاَيَةٍ ... وَمَوْتٍ وَحَمْلٍ والمُضِرَّ بِأَهْلِهِ وَمِنْهَا الهِباتُ والوصِيَّةُ فَاعْلَمن ... وَمِلْكٌ قَدِيمٌ قَدْ يَضَنُّ بِمِثْلِهِ وَمِنْهَا وِلاداتٌ وَمِنهَا حِرَابَةٌ ... وَمِنْهَا الإبَاقُ فَلْيُضَمَّ لِشِكْلِهِ وَقَدْ زِيدَ فيهًا الأسْرُ والفَقْدُ وَالمَلاُ ... وَلَوْثٌ وَعَتْقٌ فَاظْفِرْنَ بِنَقْلِهِ فَصَارَتْ لَدى عَد ثلاثينَ أُتْبِعَتْ ... بِثْنَتَيْنِ فَاطْلُبْ نَصَّهَا فِي مَحَلَّه اهـ. قال الدردير في أقرب المسلاك ما في خليل: وجازت أي الشهادة بسماع فشا عن ثثاتٍ وغيرهم بمِلْكٍ لِحائزٍ بلمْ نزل نسمع مِمَّن ذَكر أنّه له، وقُدَّمت ببيَّنةً البتَّ إلاَّ أن تشهد بيَّنة السّماع بنَقْلِ المِلْك من كأبي القائم وبموت غائبٍ بَعُد أو طال زمن سماعه، أو بوقف إنطال الزمن بلا ريبةٍ وشَهِد عدْلان وحلف كتَوْلِيةٍ وتعديل وإسلام ورشد ونِكاح وضدَّها وضررِ زوجٍ وهبةٍ ووصيةٍ ونحوها اهـ. انظر شراح النصوص في المذهب. قال رحمه الله تعالى: "والصَّبْيَانِ فِي الْجِرَاح بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بشرْطِ إِسْلاَمِهِمْ وحُرَّيَّتِهِمْ وَذُكُورِيَّتهمْ وَعَدمِ تَفَرُّقِهِمْ وَالْبَالِغ بَيْنَهُمْ وَتَضَمُّنِهَا الجِنَايَة عَلَيهِ" يعني كما في الرسالة: وتُقْبَلُ شهادة لصبيان في الجراح والقَتْل لبعضهم. وهذا مذهب مالك، وجَمْع من الصحابة منهم عليُّ بن أبي طالب ومعاوية. ومنعها الأئمة الثلاثة وابن عباس

وجماعة، وإنَّما جازت للضرورة؛ لأن الغالب عدم حضور الكبار عندهم؛ ولأنهم يندبون إلى تعليم الرَّمْيِ والصراع وغيرهما ممَّا يدرَّبهم على الحرب من معرفة الكرّ والفرَ وحمل عدم السلاح؛ فلو لم تُقْبَل شهادة بعضهم على بعض لأدّى إلى إهدار دمائهم؛ لِما قدَّمنا من أن الغالب حضور الكبار عندهم. وشروط قبولها أن يؤدّوها قبل أن يتفرَّقوا، فإن تفرقوا لم تَصُحَّ شهلادتهم؛ لاتهامهم على تعليم الكبار لهم، إلاَّ أن تشهد العدول قبل تفرّقهم. ومن شروطها ألاَّ يحضرهم كبير، فإن حضر عندهم كبير زمن قتالهم لم تُقْبَل. قال خليل: والشاهد حرّ مميّز ذَكَرٌ تعدّد ليس بعدو ولا قريب، ولا خلاف بينهم ولا فرقة إلاَّ أن يشهد عليهم قبلها، ولم يحضر كبير أو يشهد له أو عليه وألاَّ يكون الشاهد منهم معروفصا بالكذب، وأن تشهد الدول على رؤية جسد القتيل أو المجروح. وفائدة العمل بشهادة الصباين في الجراح والقتل لزوم الدَّيَة بعد الثبوت؛ لأن عَمْدَ الصبيان كالخطأ اهـ. النفراوي. وقوله: والبالغ بينهم إلخ أي من شروط قبول شهادة الصبيان عدم وجود البالغ بينهم، فإن وُجِدَ وقته أو بَعْدَه لم تُقْبَل؛ لإمكان تعليمهم، إلاَّ إذا كان البالغ عَدْلاً ووافقهم، فإ، خالفهم لم تُقْبَل شهادتهم. قاله بعض الأفاضل في تقييده. أمَّا قوله رحمه اللَّه: وتضمُّنها الجناية عليه، أيّ منش روط صِحّة قبول شهادة الصبيان عدم تضمُّنها الجناية عليه، فإ، تضمَّنت شهادتهم عليه أي على البالغ الذي هو لم تُقْبَل سواء كانت شهادتهم له أو عليه. قال الخرشي: ومنها ألاَّ يشهدوا على كبير ولا لكبير بل يشهد بعضهم لبعض على بعض كما مَرَّ، وفي الحطاب نَقْلاً عن الرجراجي: وإن كان مشهودًا علهي فلا تجوز شهادتهم عليه باتفاق. وفي حاشية الخرشي: واعلَم أن حاصل ما في الحطاب أنه إذا حضر الكبير وقت القتل أو الجرح وكان عدْلاً لا تصحُّ شهادتهم على المشهور أي للاستغناء به، وهذا إذا كان متعدَّدًا مطلَقًا أو واحدًا والشهادة في جرح أي فيَحْلِفُ معه وأمَّا إذا كانت الشهادة في قَتْلٍ فلا يضرُّ حضور ذلك الواحد في شهادتهم، وإن

كان غير عَدْلٍ فقولان: جواز شهادتهم وهو المعتمد، كان واحدًا أو متعدّدًا. وأمَّا إذا حضر بعد المعركة وقبل الافتراض فتجوز شهادتهم إذا كان عدْلاً. وأمَّا إذا كان غير عَدْل فلأن فتمسَّك بهذا واتْرُكْ خِلافه اهـ. ومثله في حاشية الصاوي. قال رحمه اللَّه تعالى: "وَامْرَأَتَيْنِ مَعَ رَجُلٍ فِي الْمَالِ أَوْ فِي مَا يُؤَدَّي إِلَيْهِ كَالْوَكَالَةٍ وفِي الصُّلح خِلاَفٌ وَرَجُل أَوِ امْرَأَتَيْنِ مَعَ يَمينٍ أَوْ يَمِين الْمُدَّعِي أَوْ نُكُول المثدَّاعى عَلَيْهِ بَعْدً رَدَّهَا عَلَى المُدَّعِي" هذا شروع في ذكر مراتب الشهود والشهادات، يعني كما في القوانين: أن شهادة رجل وامرأتين تكون في الأموال خاصة، دون حقوق الأبدان والنكاح والعَتْقِ والدّماء والجراح وما يتصل بذلك كله، [3/] 167] * * * واختُلِفَ في الوكالة على المال. قال في الرسالة: ويُقضى بشاهد ويمين في الأموال، ولا يقضى بذلك في نكاح أو طلاق أو حدَّ ولا في دم عَمْدٍ أو نفس إلاَّ مع القَسَامة في النفس. وقد قيل: يُقضى بذلك في الجراح. قال ابن جزي: فتلخَّص أن شهادة رجل وامرأتين أو رجل ويمين أو امرأتين ويمين مختصّة بالأموال. قال رحمه الله تعالى: "وَتَنْفَرِدَانِ فِيمَا لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرَّجَالُ مِنَ الْوِلاَدَةِ وَعَيْب الْفَرْج وَافْتِضَاض وَنَحْوِهِ لاَ وَاحِدَةٍ" قال ابن جزي: المرتبة الرابعة شهادة امرأتين دون رجل، وذلك فيما لا يطَّلع علهي الرّجال، كالحمل والولاة موالاستهلال وزوال البكارة وعيوب النساء. وقيل: إنَّما يثعمل بها بِشَرْطِ أن يفشو ما شهدتا به عند الجيران وينتشر اهـ. فراجع الفواكه إن شئت. قال رحمه الاَّه تعالى: "وَمَنْ لاَ يَعْرِفُ نَسَبَهُ فَلْيَشْهَدْ عضلَى عَيْنِهِ" يعني أن مَنْ لا يعرف الشاهد نَسَبَه فإنه يشهد على عينه. قال خليل: ولا على مَنْ لا يعرف إلاَّ على عينه. قال الشارح: يعني أنه لا يجوز للشاهد أن يشهد على شخص لا يعرف نَسَبَه إلاَّ على عينه المعيَّنة بصفة شخصها؛ لاحتمال أن يضع الرجل اسم غيره على اسمه أو بالعكس.

فالمراد بالعَيْن: الحلية بحيث يبقى المعوَّل عليه إنَّما هو مَنْ وُجِدَتْ فيه تلك الأوصاف. اهـ. الخرشي. وعبارة الدرسوقي: أي لا يجوز للشاهد أن يتحمَّل شهادة على أن لِزَيْد على عمرو عشرة، أو يؤدّي الشهادة كذلك والحال أنه إنَّما يعرف نسب عمرو، أو يعرف نسبه وتعدَّد وأراد الشهادة على واحد من المتعدّد، فال يشهد إلاَّ على عينه أي شخصه، كَمَنْ له بنتان فاطمة وزينب، وأراد الشاهد أن يشهد على فاطمة مثلاً والحال أنه إنَّما يعرف أن لفلان بنتَين فاطمة وزينب، ولا يَعْلَم عين هذه من هذه فلا يشهد إلاَّ على عينها، ما لم يحصل له العِلْم بها وإن بامراة. وأمَّا إن لم يكن للمعين إلاَّ بنت واحدة، ولا يُعْرَف له غيرها وكان الشاهد يَعْلَم أن هذه بنت فلان، فهذه من معرفة النسب؛ لأن الحصر ظاهر. والحاصل: أنه لا يجوز تحمُّل الشهادة ولا أداؤها على مَنْ لا يعرف نَسَبَه، إلاَّ على شخصه وأوصافه المميَّزة له، بحيث يقول: أشهد أن لزيد دينارًا على الرجل أو على المرأة التي صفتها كذا أو أشهد أن المرأة التي صفتها كذا تزوَّجها أو طلَّقها فلان اهـ. قال رحمه الله تعالى: "وَالْمَذْهبُ جَوَازُ الشَّهَادَةِ عَلَى خطَّ الْمُقِرَّ الْمَيَّت أو الْغَائِبِ غَيْبَةً بَعِيدَةٍ بِشَرْطِ عَدَم لاشْتِبَاه. والأَحْوَطُ انْضَمامُ يَمِينِ المُدّعِي إلَيْهَا والأَدَاءُ فَرْضُ عَيْنٍ إلاَّ أنَ ... يثْبُتَ الْحَقُّ بِغَيْرِه" يعني أن المذهب جواز شهادة الشاهد على خطَّ المُقِرّ، سواء كان المُقِرُّ بِما في الخط ميتًا أو غائبًا غيبة بعيدة. قال خليل: وجازت على خطَّ مُقِرَّ بلا يمين، وخطَّ شاهدٍ مات أو غاب ببُعدٍ وإن بغير مال فيهما إن عرفَتْه كالمعين، وأنه كان يعرف مشهده وتحمَّلها عَدْلاً. أي جازت شهادته إن جهل مكانه كبُعْدِه. قال الدردير: والمراد بالبُعْد ما ينال الشاهد الغائب فيه مشقة، فلا تجوز على خط شاهد قريب لا تنااله مشقّة في إحضاره، والمرأة كالرجل يُشْتَرَط فيها بعد الغيبة أو موتها قال اللخمي: الشهادة على خطَّ الشاهد لغيبته أو موته صحيحة على الصحيح من القولَيْن؛ فأنها ضرورة. وقال ابن رشد: أمَّ الشهادة على خطَّ الشاهد الميت أو الغائب فلم يختلف

في الأمهات المشهورة قول مالك في إجازتها وإعمالها. قال المصنَّف: بِشَرْطِ عدم الاشتباه، والأحواط انضمام يمين المدّعي إليها. قال ابن جزي في القوانين: المسألة الثالثة في الشهادة على الخطّ، وقد اختُلِفَ فيها، ولكن جرى العمل بجوازها، وهي على ثلاثة أنواع: شهادة الشاهد على خطَّ غيره بِما أقرَّ به، ثم قال: المسألة الرابعة: لا يجوز للإنسان أن يشهد إلاَّ بما عليه يقينًا لا يشك فيه، إمّا برؤية أو سماع، إلاَّ أنه تجوز الشهادة على شهادة شاهد آخر؛ ونَقَلَها عنه للقاضي إذا تعذَّر أداء الشاهد الأوَّل لمرضه أو غيبته أو موته أو غير ذلك، وذلك في جميع الحقوق. ومَنَعَها الشافعي في حقوق اللَّه وأبو حنيفة في القِصاص اهـ. فراجِع الباب الرابع والثلاثين في القضاء بالشهادة على الخطّ، في تبصرة ابن فرحون وغيرها من شراح خليل كالحطاب، وهناك ترى اختلافًا في أقوال أئمّة المذهب. وأمَّ قوله: ولاأداء فَرْضُ عَيْنٍ إلخ تقدَّم الكلام على ذلك في أوّل هذا الفصل فراجِعْه إن شئت. قال رحمه اللَّه تعالى: "ولاَ يَجُوزُ اسْتِنَادُهُ إِلى خَطَّهِ غَيْرَ ذَاكِرٍ لِلشَّهَادَةِ" هذه المسألة قد اختلف فيها أئمّتنا في المذهب اختلافاً كثيرًا، وهي استناد الشاهد على خطَّ نفسه، فمَنَعَه الاكثرون وأجازه لاآخرون، قال خليل: لا على خطَّ نفسه حتى يذكرها وأدَّى بِلا نَفْع اهـ. قال الدردير: يعني لا يشهد الشاهد على خطَّ نفسه بقضية سبقت حتى يتذَكرها فيشهد حينئذٍ بِما عَلِمَ لا على خط نفسه، وإذا لم يتذكَّر أدَّى الشهادة على أن هذا خطّي، ولكن لم أذْكُرِ القضية فيؤدّيها بِلا نَفْعٍ للطالب، وفائدة الأجاء احتمال أن يكون الحاكم يرى نَفْعَها، هذا قول مالك في المدوَّنة، وهو الذي رجع إليه. قال ابن رشد: وكان مالك يقول أولاص: إن عرف خطّه ولم يذكر الشهادة ولا شيئصا منها وليس في الكتاب مَحْوٌ ولا ريبة فليشهد. وبه أخذ عامة أصحابه، منهم مطرف وعبد الملك

والمغيرة وابن أبي حازم وابن دينار وابن وهب وسحنون وابن حبيب. قال في التوضيح: صوب جماعة أن يشهد إن لم يكن مَحْو ولا ريبة؛ فإنه لا بدَّ للناس من ذلك، وكثرة نسيان الشاهد المنتصب؛ ولأنه لو لم يكن يشهد حتى يذكرها لم يكن لوضع خطَّه فائدة، ولذلك نقلَ عن العدوي: أنه كان يقول: متى وَجَدْتُ خطّي شَهَدْتُ عليه؛ لأني لا أكتب إلاَّ على يقين من نفسي اهـ. مع طرف من الصاوي. قال رحمه الله تعالى: "وَتَجوزُ عَلَى الشَّهَادَةِ يَشْهَدُ عَدْلاَنِ عَلَ كلَّ مِنَ الأَصْلَيْنِ إِذا أَشءهَدَهُمَا عَلَيْهِ لاَ بِسَمَاعِهِ يَيْهَدُ أَوْ إِقْرَارِهِ بِخِلافِ شَاهِدِ الأَصْل يَسْمَعُ مَنْ يُقِرُّ بِحَقًّ وَإِنْ لضمْ يُشْهَدْهُ عَلَيْهِ فإِنَّهُ يَشْهَدُ إِذَا سُئِلَ وزَعَلَيْهِ إعْلاَمُهُ إِنْ جَهِلَهُ لاَ وَاحِدْ عَلَى كُلَّ وَاحِدس:؛ يعني أنه يجوز نضقل الشهادة على شهادة العدلين، ينقل كل اثنين عن أصل عَدْلن إن قال كل: أشهد على شهادتي، أو سمعه يؤدّيها عند الحاكم وغاب الاصل وهو رجل بمكان لا يلزم الأداء منه، أو مات أو مرض ولم يطرأ على الأصل فِسْقٌ أو عداوة للمشهود عليه حتى أدّى الشهادة ولم يكذبه أصله قبل الحكم قال الدردير في أقرب المسالك: وجاز نَقْلُها إن قال: أشهد على شهادتي، أو سمعه يؤدّيها عند الحاكم، وغاب الأصل وهو رجل بمكان لا يلزم الأداء منه، أو مات أو مرض ولم يطرأ على الأصل فِسْقٌ أو عداوة بخلاف جنون ولم يكذبه أصله قبل الحُكْم، وإلاَّ مضى ولا غُرْمَ ونُقِلَ عن كل اثنان ليس أحدهما أصلاً اهـ. قال ابن فرحون في التبصرة: ويكفي فس صِحّة نَقْلِ الشهادة فيما عدا الزَّنا أن يكون الناقلان اثنَيْن، بِشَرْط ألاَّ يكون أحدهما أحد شاهدي الأصل (أي بأن أدّى أحد الأصلَيْن شهادته فلا نَقْلَ عنه) أمَّا إذا كان أحد الناقلَيْن أصلاً صار الحقُّ إنَّشما ثبت بشاهد واحد فلا يكفي؛ لان الناقل المنفرد كالعدم اهـ. بتوضيح. قال رحمه الله تعالى: "وضفِي الزَّنا أَرْبَعَةٌ عَلَى كُلًّ مِنَ الأرْبَعَةِ وَلاَ حْكْمَ لِفَرعْعٍ مَعَ وُجُودِ الأصْلِ" يعني كما قال خليل: وفي الزَّنا أربعة أو على كل اثْنَيْن اثنان. قال في

المدوَّنة: قال ابن القاسم: تجوز الشهادة على الشهادة في الزَّنا، مثل أن يشهد أربعة على شهادة أربعة، أو اثنان على شهادة اثنَيْن، واثنان آخران على شهادة اثنَيْن آخرين، حتى يتمَّ أربعة من كل الناحيَتْين اهـ. تنبيه: يُشْتَرَطْ في صِحّة شهادة النَّقْل في الزَّنا أن يقول شهود الزَّنا لِمَن ينقل عنهم: اشهدوا عنا أننا رأينا فلانًا يزني وهو كالمردود في المكحلة، ولا يجب الاجتماع وقت تحمُّل النقل، ولا تفريق الناقلّيْن وقت شهادتهم عند الحاكم، بخلاف الأصول اهـ. الدسوقي. ومثله في الخرشي. قال رحمه اللَّه تعالى: "وَيَ ... كْفِي القَاضِي بِعِلْمِهِ بِعَدَالَةٍ أَوْ فِسْقٍ وَمَنْ جَهلَهُ عَدَّله عَنْدَهُ يَشْهَدُ عَدْلانِ أَنَّنهُ عَدْلٌ لا يَكْفِي أَحدُ الْوَصْفَيْنِ" يعين أن القاضي يضحْكُمُ بعِلْمِه في العدالة والجراحة لا في غيرهماز قال خليل: ولا يستند لعِلْمِهِ إلاَّ في التعديل والتجريح. قال أبو عمر: أجمعوا أن له أن يعدل أو يجرح بِعلْمِه، وأنه إن عَلِمَ أن ما شهد به الشهود على غير ما شهدوا أنه ينفذ عِلْمَه ويَرُدُّ شهادتهم بعِلْمِه. قال سحنون: ولو شهد عندي عدْلان مشهوران بالعدالة وأنا أعلَم خلاف ما شهدوا به لم يَجْزْ أن أحْكُمَ بهشادتهما ولا أن أردهما لعدالتهما، ولكن أربع ذلك إلى الأمير الذي فوقي، وأشهد بما علمت وغير بما علم، ولو شاهد شاهدان ليسا بعدلين على ما أعلم أنه حخقّ لم يقض بشهادتهما اهـ. نَقَلَه الموّاق. وفي الصاوي على حاشية الدردير: حاصل التجريح في هذه المسألة: أن القاضي إذا عَلِمَ عدالة شاهد تَبَعَ عِلْمَه، ولا يحتاج لطلب تزكيته ما لم يجرحه أحد وإلاَّ فلا يعتمد على عِلْمِه؛ لأن غيره عَلِمَ ما لم يَعْلَمْه، وإذا عَلِمَ جرحة شاهد فلا يَقْبَله ولو عدَّله غيره، ولو كان المعدول له كل الناس؛ لأنه عَمِمض ما لم يضعْلَمْه غيره، اللهمَّ إلاَّ أن يطول ما بين عِلْمِه بجرحته وبين الشهادة بتعديله، وإلاَّ قدَّم المعدَّ له على ما يضعْلضمُه القاضي، هذا هو الصواب

كما في البناني اهـ. فظهر أن للقاضي أن يعدَّل أو يجرح بعِلْمِه كما تقدَّم، وإن جَهِلَ حال الشاهد فَلَهُ تعديله أو تجريحه على اجتهاده، فإن عدَّله يشهد عنده عدلان، ويشهدان أنه عَدْلُ رِضا: لأنها لا تقْبَل إلاَّ مَنْ يقول: عَدْلٌ رضًا، ولا يُقْبَل ي ذلك، ولا في التجريح واحد. وكذلك لا يكفي أحد الوصفَيْن في الشاهد بل لابدَّ من أن يكون عَدْلاً رضاً. قال رحمه الله تعالى: "وَفِي تَعَرُضِهِمَا تُقَدمُ الْجَارِحَةُ وَقِيلَ: "أَعْدَلُهمضا" يعني إذا تعارضت بيَّنتان بيَّة التعديل وبيَّنة التجريح على الشاهد أو المزكّي فإنه تقدَم بيَّنة التجريح على بيَّنة التعديلن وقيل: نظر الحاكم في أعْدَلِهما. قال خليل: وهو مقدَّم أي على التعديل، وعن مطرف وابن وهب: التعديل أوْلَى من التجريح، والقول بأن شهادة المجرَحِين أعمل هو أظهر وأوْلى بالصواب، ابن سهل تقديم الجرح على التعديل أصحُّ في النظر وقائلوه أكثر وعليه العمل، المتّيطي: الذي مضى به العمل أن التجريح أتُّم شهادة؛ لأنهم عَلِموا من الباطن ما لم يعرفه المعدلون اهـ. الإكليل. وفي القوانين: ويجب أن ينصَّ المجروح على الجرحة ما هي وعلى تاريخها، إذ يمكن أن يكون قد تاب منها، ولاي كفي في التجريح. والتعديل أقلُّ من شاهدَيْن إلاَّ أن يسأل القاضي رجلاً فيخبره، فيكفي واحد لأنه من باب الخير اهـ. قال ابن فرحون: وفي تنبيه الحكّام: لو عدَّل شاهدان رجلاً وجرَّحه آخران ففي ذلك قولان: قيل: يقضي بأعدلهما لاستحالة الجمع بينهما، وقيل: يقضي بشهود الجرح؛ لأنهم زادوا على شهود التعديل؛ إذ الجرح ممَّا يبطن فلا يطَّلع عليه كل الناس، بخلاف العدالة. وللخمي تفصيل قال: إن كان اختلاف البيَّنتين في فعل شيئ في مجلس واحد كدعوى البيَّنتين أنه فعل كذا في وقت كذا، وقالت البيَّنة الاخرى: لم يكن ذلك فإنه يقضي بأعدلهما، وإن كان ذلك في مجلسَيْن متقتاربَيْن قضى بشهادة الجرح؛ لأنهازادت عِلْمًا في الباطن، وإن تباعد ما بين المجلسَيْن قضى بآخرهما تاريخًا، ويحمل على أنه

كان عَدْلاص فَفَسَقَ أو فاسقَ فَتَزَكَّ، إلاَّ أن يكون في وقت تقييد الجرح ظاهر العدالة فبيَّنة الجرح مقدَّمة لانهازادت. اهـ التبصرة. ففيها فصول وفروع لهذا المقام فراجِعُها إن شئت. ثم انتقل رحمه اللَّه يتكلم على رجوع البيَّنة قبل أداء الشهادة أو بعد الأداء فقال: "وَرُجُوعُ البَيَّنَةِ قَبْلَ الْحُكْمِ يَمْنَعُهُ وَبَعْدَهُ يَغْرَمَانِ مَا أتْلَفَاهُ مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ كَذِبًا أَوْ غَلَطً. وَقِيلَ: يَلْزَمُ بِالْكَذب: الْقَوَدُ وَبالْعتْقِ: القِيمَةُ وَبالنَّكَاح وَالطَّلاَقِ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِلنَّكاح مَا لَزِمَ مِنَ الصّدَاقِ وَيُغَرَّمُ القَاضِيَ الْقَاضِي بِتَبَيُّن كُفْرِ البَيَّنَةِ أوْ رِقَّهَا لا فِسْقِهَا" هذا شروع في رجوع الشاهد عن شهادته، يعني كما في القوانين لابن جزي أنه قال: فإن رجع قبل الحْكْم بِها لم يَحْكُمْ ولم يلزمه شيئ، وإن رجع بعد الحْكْمِ لم يُنْقَض الحُكْمُ باتفاق الأئمّة الأربعة، ويلزم الشاهد ما أتلف بشهادته إذا أقرَّ أنه تعَمَّد الزور، ثم إن شهادته التي رجع عنها بعد الحُكْمِ إن كانت في ماله لزمه غُرْمُه، وإن كانت في دم لزمه غُرْمُ الدَّيَة في الخطأ والعَمْد. وقال أشهب: يُقْتَصُّ منه ف يالعَمْد وفاقًا للشافعي، وإن كانت في حدَّ كَذْفٍ فإن رجع قبل الحْكْم حُدَّ وإن رجع بعده حُدَّ أيضًا، فإن كان الحدُّ رَعْمًا فاختُلِف: هل تؤخذ منه الدَّيَة أو يُقْتَل؟ وإن كانت في عَتْقٍ لزمه قيمة العبد لسيَّده، وإن كانت في طلاق قبل الدخول لزم الشاهدَيْن نِسْفُ الصّداق، بخلاف بعد الدخول فلا يلزمهما شيئ، وإذا ادَّعى الشاهد الغلط فاختُلِفَ: هل يلزمه ما يلزم المتعمّد للكذب أم لا؟ والصحيح أنه يلزمه في الأموال؛ لأنها تضْمَن في الخطأ. ثم قال: "فرع" إذا حَكَمَ حاكم بشهادة شاهدَيْن ثم قامت بعد الحْكْم بيَّنة بفِسْقِهِمكا لم يضْمَن ما أتلف بشهادتهما، ولو قامت بيَّنة بكفرهما أو رِقَّهما ضَمَنَ اهـ. كلام ابن جزي بحذف. قال أبو محمد في الرسالة: وإذا رجع الشاهد بعد الحْكْمِ أغْرِمَ ما أتلف بشهادته إن اعترف أنه شهد بزورن قال أصحاب مالك رضي اللَّه عن الجميع. قال شارحها: وفُهِمَ

فصل في التنازع

من قوله: أغْرِمَ أنه لا يُنْقَضُ الحُكْم؛ لاحتمال كذبه في رجوعه، وإنَّما أغرِمَ لاعترافه بالجناية على المشهود عليه. واحترز بقوله: رجع بعد الحُكْم عن الرجوع بعد أداء الشهادة وقبل الحُكْم، فإنه لا يَغْرَمُ شيئًا لأنه لم يُتْلِفْ شيئًا؛ لأَن القاضي لايجوز له الحُكْمُ بالشهادة بعد الرجوع عنهاز قال خليل مشيرًا إلى تلك المسألة: وغَرِما مالاً ودِيَة ولو تعمُّدًا، وإذا رجع أحدهما غَرِمَ نِصْفَ الحقّ، وإذا كان رجوعهما عن شهادة بقتل فإن قالا: غلطنا فالدَّيَة على عاقلتهما، وأمَّا لو قالا: تعمَّدنا فالدَّيَة في أموالهما. وفُهِمَ من قوله: ما أتلف أن الشاهد لو لم يُتْلِفْ شيئًا كما لو رجع عن طلاق مدخول بها أو عن عَتْق أمَّ ولد أو عَفْوٍ عن قِصاص فلا غُرْم؛ لانه لم يفوت على الزوج أو سيَّد أمَّ الولد إلاَّ الاستماعوالقِصاص وكلٌّ منهما لا قيمة له. اهـ النفراوي باختصار. ولمَّا أنهى الكلام على ما تعلَّق بأحكام الشهادة انتقل يتكلم على أحكام التنازع بين الاثنين سواء في النكاح أو الأموال أو غيرهما فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في التنازع أي في بيان ما يتعلَّق بأحكام التنازع بين الاثنين في شيئ واحد بيديهما أو يد غيرهماوكُلّ منهما يدَّعيه. واعلَم أن هذا الفصل مشتمل على اثنتي عشرة مسألة من مسائل القضاء، وكلٌّ منها مشهورة في باب القضاء، يبغي للحاكم مراجعتها عند الحاجة، أشار رحمه الله تعالى إلى الأولى بقوله: "إِذَا تَنَازَعَ اثْنَانِ شَيْئًا وَلاَ بَيَّنَةَ أَوْ تَساوَتْ بَيَّنَتُهُمَا حَلَفَا وَاقْتَسَمَاهُ فَإِنْ كَانَ بِيَدِ أَحَدِهِما حُكشمَ لَه فَإِنْ نَكَلَ حَلَفلَ الآخَرُ وَانْتَزَعَه كَانْفِرَادِهِ بِاْبَيَّنَةِ" يعني كما في الرسالة قال: وإذا اختلف المدَّعيان في شيئ بأيديهماوحَلَفا قُسَّمَ بينهما، وإن أقاما بيَّنَتيْن قضى بأعدلهما، فإن استويا حلفا وكان بينهما، قال شارحها: قوله: وإذا اختلف المدَّعيان أي في شيئ واحد يشبه أن يكون

مملوكًا لكلٌّ منهما وادّعاه كلٌّ لنفسه والحال أنه محبوس بأيديهماأو لا يَدَ ولاحدٍ منهما عليه، أو كان في يَدِ ثالث لم يدَّعِه لنفسه ولم يقرَّ به لواحد منهما ولم يخرجه عنهما فالحْكْمُ في ذلك أن يضحْلِفا ويقسَّماه بينهما؛ لأنه لم يترجَّع جانب واحد منهما، وإن حلف أحدهما دون الآخر اختصَّ الحالِف به، ومفهوم بأيديهما أنه لو كان بيد ثالث فإنه لِمَن يُقِرُّ له الحائز ولو كان من غير المدَّعيَيْن، فإن لم يُقِرَّ به لأحد وادّعاه لنفسه يَحْلِف ويأخذه، وأمَّا إن لم يضدَّعِه فتقدَّم أنه يُقَسَّم بينهما، وإذا أقام بيَّنة وهوب يد ثالث لم يَدَّعه، فإنه يكون لَمَن يُقِرُّ الحائز له لكن بيمينه وقوله: قُسَّمَ بينهما بشعر بقسمته نصَفَيْن وهو واضح حيث كان كلٌّ يدَّعي جميعه لنفسه. قال ابن فرحون في التبصرة: وإذا ادّعى رجلان شيئًا فإن كانت الدعوى متساوية مثل أن يدّعي كلُّ واحد جميعه فإن لم يكن في أيديهما وكان في يَدِ مَنْ لا يدَّعيه لنفسه لم يُحْكَمْ به لأحدهما إلاَّ ببيَّنة، فإن أقام أحدهما بيَّنة به حُكِمَ له به، فإن أقام الآخر بيَّنة نظر إلى أعدل البيَّنتين فحُكِمَ بها، فإن تساويا في العدالة عرضت اليمين عليهما، فإن نَكَلَ أحدهما حُكِمَ به للحالف، فإن حَلَفا قُسَّمَ بينهما، وإن نكلا تُرِكَا على ما كانا عليه، وإن كان ذلك الشيئ ف ي أيديهما فالحُكْمُ فيه مثل ما لو لم يكن في أيديهما سواء، ثم حيث ثُلْنا يُقَسَّم، فإن كان في يد غيرهما فإن يُقَسَّمُ على قدر الدعاوي، فإن كان بأيديهما فقيل: يُقَسَّم على قدر الدعاوى، وقيل: يُقَسَّم بينهما نِصْفَيْن، لتساويهما في الحيازة، إلاَّ أن يسلَّم أحدهما لصاحبه بعض حيازته اهـ. ثم أشار رحمه اللَّه إلى المسألة الثانية فهي فرع من الأولى فقال: "فإن اختلف الدعاوى ككل ونِصْف وثُلُث فمذهب مالك رحمه اللّضه أنها تُقَسَّمُ على العَوْل من أحد عشر وقال ابن القاسم: من ستة وثلاثين" يعني كما قال ابن فرحون: وإذا فرعنا على القول بالقسمة على قدر الدعاوى فقد اختُلِفَ في كيفية ذلك: فرَوَى

ابن حبيب عن مالك أن جميعه يُقَسَّم على قدر الدعاوى وإن اختلفت الحِصَص المدَّعى بها كعَوْل الفرائض، وبه قال مطرف وابن كنانة وابن وهب وأشهب وصبغ. وقال ابن القاسم وابن الماجشون: إن اختلفت الدعاوى، فإنَّما يُقَسَّمُ ما اشتركوا فيه في الدعوى، فيُقَسَّم بينهم على السواء، أمَّا ما اختصّ به أحدهم فلا يقاسمه فيه الآخر، فلو ادّعيا في دار مثلاً فادّعى أحدهما جميعها وادّعى الآخرَ نِصْفَها فعلى قول مالك ومضنْ تابعه: تُقَسَّم بينهما أثلاثًا، لِمُدّعي الكُلّ سهما، ولمُدَّعي النَّصْفَ سهم. وعلى قول ابن القاسم وابن الماجشون: تُقَسَّمُ أربعاًا، لمُدَّعي الكل ثلاثة أسهم، ولمُدَّعي النَّصْفَ سهم اهـ. نَقَلَه عن ابن رشد. وعبارة النفراوي في هذه المسألة أنه قال: أمّا لو ادَّعى شخص جميعه والآخر بعضه فإنه يقسم كالعَوْل، فإذا ادَّعى أحدهما الكلّ والآخر النَّصْف فإنه يقَسَّمخ على الثُّلُ والثُّلثَيْ، أي لمدّعي الكلّ ثُلُثان، ولمدَّعي النَّصْف الثُّلُث، وإذا ادّعى واحد الكل وواحد النصف وثالث الثُّلث فإنه يحصل أقلّ عدد يشتمل على تلك المخارج وهو ستة، فإنّ لها النَّصْف والثُّلُث فتجعل لمدَّعي الكلّ ويُزاد عليها مثل نِصْفِهاوثُلُثها، وبعد ذلك يُعطى لمدّعي الكل ستة، ولمدّعي النَّصْف ثلاثة، ولمدَّعي الُّلُث اثنا، وهكذا. قال خليل: وقُسَّمَ عىل الدعوى إن لمي كن بيد أحدهما اهـ. النفراوي. قال ابن جزي في بيان تقدَّم: وإذا قلنا: يُقَسَّمُ بينهما فإن استويا في مقدار الدعوى استويا في القِسْمة، مثل أن يدَّعي كل واحد منهما جميعه فيُقَسَّمُ بينهما نِصْفَيْن، وإن اختلفا في مقدار الدعوى في القلة والكثرة: فمذهب مالك أنه يُقَسَّم بنيهما على قدر الدعاوى، وتعول عَوْل الفرائض. ومذهب ابن القاسم أنه يُقَسَّم بينهما على قدر الدعاوى، ويختصُّ صاحب الأكثر بالزيادة التي وقع تسليم الىخر له فيها بدعوى الأقلّ. مالك ذلك: إذا ادَّعى أحدهماجميعه والآخر نصفه فعلى مذهب مالك: تعول بنصف، لأن أحدهما ادّعى نصفين والآخر نِصْفًا، فيُقَسَّمُ

على ثلاثة، يكون لمدَّعي الجميع اثنان، ولمدّضعي النَّصْفَ واحد. وعلى مذهب ابن القاسم: يكون لمدّعي الجميع ثلاثة أرباع، ولمدّعي النَّصْفَ رُبْع، لأن مدَّعي لنَّصْف قد سلَّم في النَّصْف الآخر لمدّعي الجميع، فيختصُّ به ويُقَسَّمُ بينهما النَّصْفُ المتنازع بيه، ويتبع هذا الحساب كثرة الدعاوى والمدَّعِين اهـ. باختصار. قوله رحمه اللَّه تعالى: ولوْ أضافَ كلّ الباقي إلى أجْنَبيًّ فهُوَ بينهُمْ ولا شيئ للأجنبيَّ" يعني أن المدعين لشيئ لو أضاف كل واحد منهم باقي السهام لأجنبي بعد تمام الدعوى وأخْذهم حِصَصهم فلا يُعطى للأجنبي منه شيئ، بل الباقي للمدَّعين فيقَسَّم بينهم، لأن الأجنبي لم يكن مدَّعيصا ولا يستحقُّ منه شيئًا، ويرجع ما بقي من ذلك لِمَن ثبتت حقوقهم بالدعوى، هذا مفهوم قول المصنَّف واللَّه أعلم. ثم أشار إلى المسألة الثالثة بقوله رحمه اللَّه تعالى: ومَنش ادَّعى صَحَّةَ عَقْدٍ سُمِعَ ولَمْ يَلْزَمْهُ بَيَانُ شُرُوطِهضشا" قال ابن فرحون في التبصرة: ممَّا اختلف فيه فُقَهَاء الأمصار في المدَّعي أمرًا ملعومًا هل يلزمه بيان شورطه صحته أم لا" قال المازري رحمه الله: وعندنا أنّ ذلك لاي لزمه، بل إن ادّعى رجل على رجل أنه أنكحه ابنته أو باع منه داره فإنه لا يَشْتَرِطُ في سماع هذه الدعوى ذِكْرَ شروط صِحّة النكاح وصِحَة البيع، ولا يلزم القاضي استفسار المدَّعى لذلك، خِلافًا للشافعي رحمه الله في النكاح خاصة، فقد نصَّ على أنه لا تُسمع الدعوى حتى يذكر المدَّعي شروط الصحةن فيقول: عقدت النكاح بوَلِيَّ وصَدَاق وشاهدَيْن بناء على أصله في أ، تَرْكَ الشهادة في النكاح يفسده. قال: وهذا معترض بأنه يلزمه عليه استقصاء شروط الصحة كلها في النكاح، ككونه لم يقع في عدة ولا في إحرام إلى غير ذلك ولم يَقْلْ به. ووافقنا في دعوى الأعيان أو الديون أنه يلزم الاستفسار فيها، قال: وقد اتفق على أنه لا يلزم الاستفسار عن عرو العقد ممَّا يفسده فلا يجب أن يذكر في دعوى النكاح أنه لم يقع في عدّة ولا في إحرام، ولا غير ذلك ممَّا

يفسد العقد لو ثبت، فلا يزلم عندنا ذكر شروط الصَّحّة، ولا ذِكْرُ اجتناب شروط الفساد؛ لأن العقود أصلها الصَّحّة حتى يثبت الفساد اهـ. من تبصرة الحكّام. ثم أشار رحمه اللَّه إلى المسألة الرابعة بقوله: "وَفِي تَنَزُعِ الزَّوْجَيْنِ الْجَهَازَ لِكُلَّ مَا يَيْهَدُ بهِ الْعُرْفُ مَعَ يَمِينِهِ وَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا قِيلَ: لِلرَّجُل مَعَ يَمِيِنِهِ وضقِيلَ: يَحْلِفَانِ وَيَقْتَسِمَانِ" يعني كمافي تحفة الحكّام لابن عاصم المغربي الغرناطي في أرجوزته المشهورة: أنه عقد فيها فصلاً في اختلاف الزوجَيْن في متاع البيت فقال رحمه الله تعالى وأدم نَفْعَنا بعلومه في الدارَيْن آمين: وإن مَتَاعَ البَيْتِ فِيهِ اخْتَلَفَا ... وَلَمْ تَقُمْ بَيَّنَة فَتُقْتَفَى وَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوُجِ مَعْ يَمِينمْ ... فِيمَا بِهِ يَليقُ كالسَّكَّينْ وما يلِيقُ بِالنَّسَاءِ كالْحلِي ... فَهْوَ لِزَوْجَةٍ إذا مَشا تَأْتَلِي وإن يَكُنْ لاَقْ بِكلَّ مِنْهُمَا ... مِثْلُ الرَّقيقِ حَلَفا واقْتَسَمَا ومَلِكٌ بِذَاكَ لِلزَّوْج قَضَى ... مَعَ اليَمِين وَبِقَوْلِهِ القَضَا وَهْوَ لِمَنْ يَحْلِفُ مَعْ نُكُولِ ... صَاحِبِهِ مِنْ غَيرِ مَا تَفْصِيل اهـ. قال شارحه العلاّمة محمد ابن أحمد بن محمد المشهور بميّاره. يعني أنه إذا اختلف الزوجان في متاع البيت وأثاثه وادّضعاه كلُّ واحد منهما لنسه فإن يفصل في ذلك، فماكان منه يليق بالرجل كالسكين والرمح والقَوْس والفرس والكتاب فيُحْكَمُ به للرجل مع يمينه، ما لم تَقْمْ له بيَّنة فلا يمين عليه، وما يليق بالمرأة كالحلي وما لا يلبسه الرجال، فيُحْكَمُ به للمرأة مع يمينها، ما لم تَقْمْ لها أيضًا بيَّنة فلاي مين عليها، وعلىكون هذ الحءكْمِ إذا لم تَقُمْ بيَّنة نبّه بقوله: ولم تَقْمْ بيَّنة فتقتفي، وما يليق بكلَّ منهما كالرقيق والثياب التي يلبسها الرجال والنساء ففيه قولان: أحدهما: أنهما يتحالفان ويُقَسَّمُ بينهما أنصافًا، والثاني: وهو المشهور يُكْكَمُ به للزوج أيضًا بعد يمينه، وبهذ القول الحُكْمُ والقضاء، وإلى هذين

القولَيْن أشار بالبيت الرابع والخامس، وشار بالبيت السادس إلى أن مَنِ ادَّعى من الزوجَيْن ما يليق به ولا بيَّنة له، وثُلنا القول قوله مع يمينه فَنَكَل عن اليمين وحَلَفَ الآخر فإن ذلك يكون للحالِف؛ لان نكول المدَّعي كالشاهد عليه، فيَحْلِفُ المدَّعى عليه ويستحقُّ، ولا فرقّ في ذلك بين الرجل والمرأة، وعلى ذلك نبَّه بقوله من غير ما تفصيل: واليمين من لزوجَيْن على بيَّت ومن ورثة الزوجَيْن على العِلْم اهـ. نَقَلَه الشارح المذكور في سياق كلام النوادر عن الواضحة. ثم أشار رحمه الله تعالى إلى المسألة الخامسة بقوله: "وَإِنْ تَنَازَعَا الزَّوْجِيَّةَ فَلاَ يَمِينَ عَلَى المُنْكِرِ وَلاَ تُرَدُّ فَإِنْ أَتَى الْمُدَّعي بِشَاهِدٍ فَإِنْ حَلَفَ الْمُنْكِرُ بَرئَ وَإِلاَّ فَرِوَيَتَانِ بِالْحُكْم عَلَيْهِ وَبِحَبْسِهِ لِيَحْلِفَ" وفي نسخة: ويحبسه ليَحْلِفَ بالياء، والأولى أصحُّ، فَالمعنى كما تقرَّرر نا هذا الحكم في باب الزوجَيْن في فصل التنازع بين الزوجَيْن وثُلْنا هناك: اعلَم أنه إذا تنازعا ف يالزوجية بأ، ادَّعاها أحدهما وأنكرها الىخر فهذ النكاح يثبت ببيَّنة لمدَّعيه منهما، سواء كان المدَّعي شاهًا يشهد له إلاَّ بعدلَيْن، فلا يمين بمجرَّدها على المنكر، ولو أقام المدَّعي شاهدًا يشهد له إلاَّ [ أن يكون المنكر قد مات بعد قيام الدعوى وقبل الحُكْمِ فيَحْلِفُ المدَّعي مع شاهده لِيَرثَ المال؛ لأن دعوى الزوجية حينئذ آلت إلى مَال، ولا صداق لها إن كان المدَّعي هو وأنكرت هي ثم ماتت بعد ذلك، وإليه أشار بعضهم بقوله:

وَإنْ نِزَاعٌ كَانَ فِي التَزْوِيج ... مِنْ زَوْجَةٍ تَأْبَاهُ أوْ مِنْ زَوْجِ فَمُدَّعِيه كَلَّفُوهُ البَيَّنَة ... وَلَوْ سَمَاعًا فَاشِيًا قَدْ أعلَنَه وَلاَ يَمِينَ فِي نُكُولِ الْجَاحِدِ ... وَلَوْ تَاهَ الْمُدَّعِي بالشَّاهِدِ هذا حُكْمُ التي خلت عن العصمة، أمَّا لو ادَعى الرجل على ذت زوج أنها امرأته وتزوَّجها قبل هذا وأقام شاهدًا واحدًا شهد بالقطع على الزوجية السابقة لهذا الرجل وزعم أن له شاهدًا ثانيصا انتظره الحاكم لإقامة شاهد ثانٍ، ثم يأمر الحاكم الزوج الذي كنت المرأة عنده باعتزالها فلا يقربها بِوَطْء ولا بمقدَّماته حتى يأتي المدَّعي بشاهد ثانٍ بشرط قرب مسافة الإتيان به بحيث لا ضَرَرَ على الزوج في اعتزالها لمجيئة ونفقتها مدّة الاعتزال على مَنْ يُقضى له بها، فإن أتى بشاهد ثانٍ عمل بشهادته ويُفْسَخُ نِكاح الثاني وتُرَدُّ إلى عصمة المدّعي ولا يقربها إلاَّ بعد استبرائها من الثاني إن كان قد وَطِئها، وأمَّا إن لم يأتِ به أو كان بعيدًا عجَّزَه الحاكم بعد الانتظار، ثم إن عجَّزَه لم تسمع بيَّنته بعد أن أعجَّزَه الحاكم وأمَرَها بأن تتزوَّج إن شاء، اهـ. الدردير بتصرف. ثم أشار رحمه اللَّه تعالى إلى لمسألة السادسة بقوله: "وَمَنِ ادَّعَى دَيْنًا عَلَى مَيَّتٍ فَاعْتَرَفَ أَحَدُ ابْنَيْهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ حَلَفَ مَعَهُ وَانْتُزعَ مِنَ التَّرِكَةِ وَإلاَّ دَفَعَ نِصْفَهُ وَإنِ اسْتَوْعَبَ حِصَّتَهُ فَلَوْ كانَ لِلْمَيَّتِ دَيْنٌ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ حَلَفَ الوَرُثَةُ مَعَه وَاقْتَسَمُوا الْفَضْل فَإِنْ أَبَوْاه حَلَفَ الغَرِيمُ وَأَخّذَ حَقَّهُ فَلَوْ أَرَادُوا بَعْدَ ذلِكَ أَنْ يَحْلِفُوا لِيأخُذُوا الْفَضْلَ لَمْ يَكُنْ لَهْمْ إلاَّ أَنْ يَمْتَنِعُوا لِعذْرٍ أَوْ جَهِلُوا أَنَّ فيهِ فَضْلاً" يعين إذا ادّعى شخص أن له على ميتٍ دَيْنًا ثابتًا بالبيَّنة أو بإقرار الميت واعترف به أحد ابنَي الميت وهو من أهل الشهادة فإن حقَّ الغريم يثبت إذا حَلَفَ مع شاهده الذي هو أحد الورثة، وأخَذَ الغريم حقَّه منالتركة، وهذا لا خِلاف فيه؛ لأنه لا إرْثَ إلاَّ بعد الدَّيْن كالوصية كما سيأتي، وإن لم يأخذ الغريم حَقَّه من التركة بعد حِلْفِه، كأن ادّعى

بعد اقتسامها التركة؛ فإن الغريم يأخذ نِصْفَ حقَّه من يد المعترف له بالدَّيْن وإن استوعب حِصَّته. ولذا قال رحمه اللَّه: وإلاَّ دفع نِصْفَه ومن المعلوم أنه إن أهلك الورثة الكبار التركة فإنهم يضمنونها للغريم الطارئ، وإن كانوا متعدَّين فأقرَّ بعضهم بالدَّيْن الطارئ وأنكر بعضٌ فالضمان في نصيب المُقِرّ. قال مالك فيمن هلك وله دَيْن وعليه دين له فيه شاهد واحد فيأبى ورثته أن يَحْلِفوا على حقوقهم مع شاهدهم قال: فإن الغرماء يضحْلِفون ويأخذون حقوقهم، فإن فضلَ فضلٌ لم يكن للورثة منه شيئٌ؛ وذلك أن الأيمانَ عُرِضت عليهم قبل فتركوها إلاَّ أن يقولوا: لم نعلم لصاحبنا فضلاً ويُعلم أنهم إنَّما تركوا الأيمان من أجلْ ذلك فإني أرى أن يَحْلِفوا ويأخذوا ما بقي بعد دَيْنِهز اهـ قاله في الموطَّأ. وعبارته في المدوَّنة فيما رواه سحنون عن ابن القاسم أنه قال: أرأيتَ إن شهد وارثان بِدَيْن على الميت شهد وارث واحد أيجوز في قول مالك؟ قال: نعم، وإن كان إنَّما شهد له شاهد واحد مع شاهده أي مع يمينه واستحقَّ حقَّه إذا كان عضدْلاً، وإن نكل وأبى أن يضحْلِف معه أخذ من شاهِدِه قدر الذي يصيبه من الدَّيْن، فإ، كان سفيهًا لم تَجُزْ شهادته ولم يرجع عليه في حظَّه بقليل ولا كثير اهـ. وتقدَّم معنى قول المصنَّف: فل كان للميت دَيْنٌ بشاهد واحد إلخ؛ قال أبو الوليد الباجي في شرحه على الميراث، فإن فضل شيئ كا لهم بالميراث، فإن نكَلَ الورثة حَلَفَ الغرماء، وهذا الظاهر من المذهب أن الورثة يبدؤون باليمين على الإطلاق، وبهذا قال مالك وأكثر أصحابه. قال سحنون: إنّضما كان للورثة أن يَحْلِفوا أولّلاً في مسألة الأصل لأن الغرماء لو نكلوا عناليمين أنهم لم يقبضوا دَيْنَهم كان للورثة اليمين مع الشاهد أوّلاً إذا لم يَقمِ الغرماء؛ فإن قاموا وثبتت حقوقهم وطلبوا أن يَحْلِفوا فَهُمُ البادئون بها لأنهم أوْلَىَ بِتَركَتِه اهـ. انظر المنتقى إن شئت.

فرع: وإذا امتنع الورثة من الميين أوّلاً فَحَلَفَ الغرماء بوقي من الدَّين الذي حَلَفَ عليه الغرماء فهل للورثة أن يَحْلِفوا ويأخذوه؟ وقد قدّم من رواية ابن وهب أن لهم ذلك على الإطلاق، وفي المجموعة من قول مالك: ليس للورثة معاودة اليمين، لنكولهم عنها أولاً، إلاَّ أن يقولوا: لم نضعْلَمْ أن في دَيْنِ الميت فضلاً عن الديون التي عليه، ونَعْلَمُ ذلك الآن فيَحْلِفون ويأخذون الفضل وهو معنى ما في الموطَّأ اهـ. المنتقى باختصار. ثم أشار رحمه اللَّه تعالى إلى المسألة السابقةبقنوله: "وَمَنِ ادَّعَى وَصِيَّةً لَهُ حَلَفَ مَعَ شضاهِدِهِ وَإلاَّ حَلَفَ الْوَرَثَةُ وَسَقَطَتْ فَإِنْ حَلَفَ الغَريمُ أَوْ أَحَدُ المُوصَى لَهُمْ ثَبَتَ حَقُّهُ خَاصّةً وَلِنَّاكِلِ تَحْلِيفُ المُدَّعَى عَلَيْهِ" يعني أ، مَنْ أوصى له شخص بشيئ من المال وله شاهد واحد بذلك وبعد موت الموصي قام الموصى له بطلب وصيَّته عند الورثة فإنه يَحْلِف مع شاهده ويستحقُّ الوصية، وإن أبى أن يضحْلِف حَلَفَ الورثة على رَدَّ دعواه، فإن حَلَفَ الورثة واحد مِمَّن لهم الوصية فإنه يأخذ نصيبه خاصةً من الوصية، وللناكل منهم تحليف المدَّعَى عليه، فإن حَلَفَ سقط نصيب الناكل وإلاَّ لم يسقط. انظره في المقدَّمات لابن رشد؛ فقد قَسَّمَ أحكام الوصية على قِسْمَيْن وفصَّلها تفصيلاً كما ذكر ذلك في التبصرة ابنُ فرحون. ثم أشار رحمه اللَّه تعالى إلى المسلة الثامنة بقوله: "وَمَنْ يَرَى رَجُلاً يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ مُدّضةً طَويلَةً وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مَا يَمْنَعُهُ انِزَاعُهُ وَلاَ يَرْهَبُهُ ثُمَّ ادَّعَاهُ لَمْ يُسْمَعْ وَلاَ بَيَّنَتُهُ" يعني أن مَنِ يرى أحدًا يتصرَّف بِمِلْكه تصرُّف المِلْكية وهو ساكت حتى طال الزمان ثم قام يدَّعي فلا تُسْمَع دعواه ولا تُقْبَل بيَّنته إلاَّ أن يمنعه عن الكلام شيئ نحو القرابة أو خوف الضّرَر على نفسه من المتصرف فَلَهُ القيام بذلك بعد زوال العُذْر. قال في

الرسالة: ومَنْ حاز داراً عن حاضرٍ عشر سنين تُنْسَبُ إليه وصاحبها حاضرٌ عالمٌ لا يدَّعِي شيئًا فلا قيام له ولا يحازة بين الأقارب والأصهار في مثل هذه المدة اهـ. قال خليل: وإن حاز أجنبي غير شريكٍ وتصرَّف ثم ادّعى حاضر ساكت بلا مانع عشر سنين لم تُسْمَع ولا بيَّنة إلاَّ بإسكان ونحوه. والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حاز شيئًا عشر سنين فهو له" فالحيازة تَنْقُل المِلْك، قاله بهرام وتَبِعه جماعة، وخالفهم ابن رشد لِما نَقَلَه من سماع ابن القاسم في كتاب الاستحقاق أنه قال: الحيازة لا تَنْقُل المِلْك عن المحاز عنه للحائز اتفاقًا اهـ النفراوي. وإليه أشار ابن فرحون فقال: فرع: ولو شهدت إحداهما بالمِلْك وشهدت الأخرى بالحَوْز قدَّمت بيَّنة المِلْك؛ لأن المِلْك أقوى والحَوْز قد يكون لغير مِلْكٍ فيُقْضَى ببيَّنة المِلْك وإن كان تاريخ الحضوْز متقدَّمًا اهـ. قاله فيتبصرته. وأمَّا عبارة ابن جزي في القوانين فقال: وأمَّا إن كان بيد واحد منهما فلا يخلو الذي حازه أن يكون بيده مدّة الحَوْز أو أقلّ، فإن بقي مدّة الحَوْز فأكثر وهي عشرة أعوام بين الأجانب وخمسون بين الأقارب وقيل: أربعون مع حضور خصمه وعِلْمِه وسكوته لم تُسْمَع دعواه، ولم تُقْبَل بيَّنته إلاَّ إن أثبت أنه بيد الحائز على وَجْه الكِراء، أو المساقاة أو الاعتماد أو شبه ذلك، وإن كان له أقلّ من مدّة الحَوْز طولِبَ المدَّعي بإثباته ببيَّنة، فإن أثبته استحقَّه بعد أن يَحْلِفَ أنه ما باعه ولا فوَّته ولا خرج عن مِلْكه، وإن لم يثبته قضى به لحائزه بعد أن يضحْلِفَ أنه ما باعه ولا فوَّته ولا خرج عن مِلْكه، وإن لم يثبته قضى به لحائزه بعد أن يَحْلِفَ أنه ما باعه ولا فوَّته ولا خرج عن مِلْكه، فغ، نكل حَلَفَ المُدّعِي وحُكِمَ له فإن نَكَلَ المدّعي بقي بيد الحائز ثم قال: الشهادة على إثبات الشيئ المدّعَى فيه تكون على عينه، فيحضر به حين أداء الشهادة وتؤدّى على عينه، وإن كان عقارًا وَقَفَ القاضي إليه مع الشهود، أو وجه شهود الحيازة على المشهود، فيقولون لهم: هذا هو الذي شهدنا به عند القاضي، فإن أقامالطالب شاهدًا واحدًا مُنِعَ الذي هو بيده من إحداث شيئ فيه، فإن أقام شاهدًا ثانيًا أخرج من يده،

ومُنِعَ من التصرف فيه، وأغْلِقَ إن كان دارًا حتى ينفذ الحُكْمُ فيه. وإن كان المدَّعى فيه عرضًا أو حيوانًا أمَرَ القاضي بإيقافه حتى يَحْكُمَ فيه، ونفقة العبد والدابة في مدّة الإيقاف على مَنْ ثبت له اهـ. بتقديم. ثم أشار رحمه اللَّه تعالى إلى المسألة التاسعة بقوله: "وَالبَيَّنَةُ عَلَى المُدَّعِي وَالْيضمِينُ عَلَى الْمُنْكِرِ وَلَهُ رَدُّهَا وَافْتِدَاؤُهَا وَهِيَ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ إلاَّ أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ مَظلُومًا فَتَنْفَعُهُ التَّوْرِيَةُ: هذا الحديث أخرجه الترمذي مرفوعاً عن ابن عمرو بن العاص بلفظ: البيَّنة على المدَّعى ولايمين على المدَّعَى عليه، وفي رواية عن ابن عباس مرفوعًا: لو يُعطى الناس بدعاويهم لادَّعى قوم دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدَّعَى عليه، وفي أخرى: لو يُعطى النسا بدعواهم لذهب دماؤهم وأ/والهم. والحديث له طرق، رواه ستة إلاَّ مالكًا، وتقدَّم كلام مالك في معنى الحديث مفسَّرًا له بقوله رضي الله عنه: مَنِ ادَّعى على رجل بدعوَى نُظِرَ: فغن كان بينهما مخالطة أو ملابَسةٌ أُحلِفَ المدَّعَى عليه، فإن حَلَفَ بَطَلَ ذلك الحقُّ عنه، وإن أبى أن يضحْلِفَ ورَدَّ اليمينَ على المدَّعى فحلف طالبُ الحقَّ أخذ حقَّهُ. هذا، وبه حكم عمر بن عبد العزيز، قال مالك: وعلى ذلك الأمر عندنا اهـ. وتقدَّم جميع ذلك عند قول المصنَّف: فلا يضحْلِفُ حتى تثبت بينهما الخضلْطة، فراجعه إن شئت. قوله: وله ردُّها وافتداؤها، أي ردُّ اليمين على المدَّعى كما ذكره مالك. أمَّا افتداء اليمين فقد ثبت ذلك عند المحققين؛ قال خليل: وعلى الافتداءِ من يمينٍ. وفي أقرب المسلاك: وجاز الصُّلْح بشيئ على الافتداء من يمين توجَّهت على المدَّعى عليه المنكر ولو عَلِمَ براءة نفسه. قال الخرشي: يعني أن اليمين إذا توجَّهت على المدَّعَى عليه فإنه يجوز له أن يفتدي منها بالمال ولو عَلِمَ براءة نفسه على ظاهر المدوَّنة وهو قولها: ومَنْ لزمته يمين فافتدى منها بمال جاز ذلك، وفي حاشية الخرشي: ليس المراد ظاهر المصنَّف من أن الجواز يتلَّق بالصُّلْح بل المراد أنه يجوز الافتداء عن يمين بمال،

ويعدُّ ذلك الافتداء صُلْحًا اهـ. قال الحطاب: والأصل في هذا أن الصحابة رضي اللَّه عنهم: منهم مَنِ افتدى، ومنهم مَنْ حَلَف أهـ. وأمَّ قوله: ويه على نيّة المستحلف، وعبارة ابن جزي: [181] ويعتبر في ذلك نيّة الحالف إِلاّ في الدعاوي فتعتبر نيّة المستحلف في المشهور. قال الدردير: وإنَّما تعتبر إذا لم يستحلف في حقًّ وإلاَّ فالعبرة بنيّة المُحَلَّفِ. وقوله: إلاَّ أن يكون الحالف مظلومًا فتنفعه التَّوْرِية؛ قال في المصباح: فالتَّوْرِية أن تُطْلِقَ لَفْظًا ظاهراً في معنّى وتريد به معنّى آخر يتناوله ذلك اللفظ، لكنه خلاف ظاهره، مثل أن يقول: جوزتي طالق يريد جوزة حَلْقِهِ ليس فيها لُقْمَة. قاله محشى الخرشي. قال خليل: ألاَّ أن يترك التَّوْرِية مع معرفته لها. وفي الإكليل والمذهب: لا يَحْنَثُ ولو تَرَكَهاز قال الدردير في اقرب المسالك: ولو ترك التَّوْرِية مع معرفتها لم يلزمه شيئ، بل لو قيل له: طلَّقها فقال: هي طالِق بالثلاث لم يلزمه شيئ؛ لأن المُكْرَه لا يملِكُ نفسه حال الإكراه كالمجنون. وفي الموّاق نَقْلاً عن ابن شاس: لا يقع طلاق المُكْرَه إلاَّ أن يترك التَّورِية مع العِلْم بها والاعتراف بأنه لم يدهش بالإكراه عنها اهـ. والحاصل أنَّ التَّوْرِية تنفع الحالف المظلوم، وأنه لو تركها مع علم بها لا يلزمه شيئ كما صرَّح به الدردير اهـ. ثم أشار رحمه اللَّه تعالى إلى المسألة العاشرة بقوله: "وَهِيَ بِاللَّه الَّذِي لاَ إله إلا هُوَ يَحْلِفُ عَلَى فِعْلِهِ عَلَ البَتَّ وَعَلَى غَيْرِهِ عَلَى الْعِلْمِ وَتُغَلَّظُ بِالْمْكَانِ وَالزَّمَانِ لاَ بِزِيَادَةِ الأَلفَاظِ وَلاَ يَحْلِفُ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَ أَقَلَّ مِنْ رُبْع دِينَارٍ ويُرْسِلُ إلى ذَاتِ الْخِدْرِ مَن] يُحْلِفُهَا وَلاَ مَنعَ لِخَصْمِهَا وَتَحْضَرُ الْبَرِزَة مَجْلِسَ الْحُكْمِ وَيُسْتَحلَفُ الْخَصْمُ لِلْوَارِثِ الصَّغير فَإِذَا بَلَغَ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ" يعني أنه ذكرلا رحمه الله في هذه المسألة صيغة اليمين وكيفيَّتها وما يتعلَّق بها، قال في الرسالة: واليمين بالله الذي لا إله إله إلاَّ هو وهي اليمين الشرعية التي يوجَّهها إلاَّ حاكم أو مُحَكَّم ولو كان الحالف

كتابيًا على المشهور، ولا يكون بذلك مؤمنًا. وهذه الصيغة يُحْلَفُ بها في كلَّ حقَّ سوى اللَّعان والقَسَامة، وأمَّا اللَّعان فيقول: أشهد باللَّ فقط كما تقدَّم في باب اللغان. وأمَّا القَسَامة فقيل: يقول: أُقْسِمُ باللَّه لِمَن ضربه مات وقيل: يَحْلِفُ باللَّه الذي لا إله إلاَّ هو، وهو ظاهر كلام المصنَّف كخليل؛ فإنه قال: واليمين في كل حقًّ باللَّ الذي لا إله إلاَّ هو، وهو المنقول عن مالك ما في المدوَّنة. قوله: لا بزيادة الألفاظ، أمَّا الألفاظ المذكورة عن زيادتها فهي كما في القوانين. وقيل: يُزاد في القَسَامة واللَّعان (عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم" وقيل: يزيد اليهودي (الذي أنزل التوراة على موسى) وقيل: يزيد النصراني (الذي أنزل الإنجيل على عيسى) قال ابن فرحون نَقْلاص عن مختصر الواضحة: إنَّما يَحْلِفُ الحالف باللَّه الذي لا إله إلاَّ هو، لا يؤمر بأكثر من ذلك في الحقوق والدماء واللعَّان، وكلّما كان فيه اليمين على المسلمين والنصارى واليهود والمجوس غير أن كلَّ هؤلاء غير المسلمين إنَّما يحلفون حيث يعظمون من كنائسهم ومواضع عباداتهم ويرسل القاضي في ذلك رسولاً يَحلأَّفُهم باللَّه. قال ابن حبيب: وأخبرني ابن عبد الحكم وأصبغ عن ابن وهب وأشهب عن مالك مثل ذلك كلَّه. قال القاضي أبو الوليد: وهذا هو المشهور من مذهب مالك، وبه قال ابن القاسم، ورواه عن مالك في المدوَّنة. قال ابن القاسم: ولا يُزاد على أهعل الكتاب الذي أنزل التوراة والإنجيل اهـ. التبصرة. واعلَم أن اليمين تتوجَّه في كلَّ مال ولو قليلاً، وأمَّا تغليظها فإنَّما يكون في المال العظيم، وهو ربع دينار فأكثر، ولذا قال رحمه الله: ولا يثحْلَفْ عند منبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على أقلَّ من رُبْع دينار كما في الرسالة، ومثل رُبْع دينار ما يقوم مقامه من غرض أو ثلاثة دراهم، أمَّا أقلُّ من ذلك فلا تغليظ فيه لا بالمكان ولا بالزمان، والتغليظ: في المال العظيم، فيضحْلِفُ فيه الذكر والأنثى، ولا يَحْلِفُ إلاَّ البالغ العاقل. واختُلِفَ في التغليظ بالزمان: ففي كتاب ابن سحنون من رواية ابن كنانة: يتحرّى بالأيمان في المال العظيم، وفي الدماء واللَّعان الساعات التي يحضرالناس فيها

بالمساجد ويجتمعون للصلاة، وما سوى ذلك من مال وحقَّ ففي كل حين. انظره في التبصرة لابن فرحون فيها زيادة إيضاح اهـ. ومن التغليظ الاستحلاف قائمًا، وعند منبره عليه الصلاة والسلام إذا كان التحليف بمدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم. ولا تغليظ بمنبر غير منبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن مالِكًا لا يعرف اليمين عند لمنابر إلاَّ عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم كما في المدوَّنة. قال في الرسالة: في غير المدينة يُحْلَفُ في ذلك في الجامع وموضع يعظم منه، ويضحْلِفُ كالمسلم في كنيسة إن كان من أهلها، وفي بيع إن ك ان من أهلها، أو بيت النار إن كان مجوسيًا، كما في كفاية الطالب، ومثله في القوانين اهـ. قوله: ويرسل إلى ذات الخِدْر مَنْ يُحَلَّفُها إلخ. قال ابن جزي: وتَحْلِفُ المخدرة وهي المرأة التي لا تخرج في المسجد بالليل على ما بال، وتَحْلِفُ في بيتها على أقلَّ من ثلاثة دراهم أو ربع دينار شرعي، أو يرسل القاضي مَنْ يُحَلَّفُها في موضعها ومَنْ كانت تخرج نهارًا فإنها تحضر مجلس الحُكْم. اهـ. بتوضيح. قال ابن فرحون: فرع: وفي المتّيطية: واختُلِفَ في إخراج المرأة من بيتها عند وجوب اليمين عليها فقال في المدوَّنة: تخرج المرأة فيما له بال، فتَحْلِفُ في المسجد، فإ، كانت ممن لا تخرج نهارًا فلتخرج ليلاً، وتَحْلِفُ في بيتها إن لم تكن ممَّن تخرج اهـ. تبصرة الحكام، انظر الخرشي. وإذا وَجَبَتِ اليمين على مريض فإن شاء خصمه أحْلَفَه في موضعه أو أخَّره إلى أن يبرأ، قاله ابن جزي اهـ. ثم أشار رحمه اللَّه تعالى إلى المسألة الحادية عشرة بقوله"وَمَنْ تَرَكَ القِيَامَ بِبَيَّنَةٍ مَعَ القُدْرَةِ وَاسْتَحْلَفَ خَصْمَهُ فَلاَ قِيَامَ لَهُ بِهَا بِخِلاف الَّتِي لا يَعْلَمُهَا" عليه فلا قيام له، ولا تُسمد دعواه ولا بيَّنته، إلاّّ إذا لم يَعْلَمْ بها أو نَسِيَها. قال ابن جزي في القوانين.

فرع: إذا حَلَفَ المنكر ثم أقام المدَّعي بيَّنة فإن كانت غائبة أو كان لا يَعْلَمُ بها قضى له بها، وإن كان عالمصا بها وهي حاضرة لم يُقْضَ له بها، ولم تُسمع بعد اليمين في المشهور. قال خليل: فإن نَفَاها واستحلَفَه. فلا بيَّنةَ إِلاّ لعُذْرٍ كنسيان، وفي نسخة: وإن استَحْلَفَه عالِمًا ببيَّنةٍ تاركًا لها وهي حاضرة أو غائبة فلا حقَّ وإِن قدَّمت بيَّنة اهـ. قال الخرشي: يعين أن المدَّعى إذا كانت له بيَّنة حاضرة أو غائبة كالثمانية أيام ونحوها ذهابًا وإيابًا وهو عالِم بها وحَلَفَ المدَّعى عليه فإن لا تُقبل بيَّنته بعد ذلك إذا حضرت؛ لأنه ما استحلف خصمه إلاَّ على إسقاطها، فلذا سقطت بمجرَّد الحِلْف، وأمَّا إن لم يَعْلَمْ بها فَلَهُ القيام بهأن والقول قوله في نضفْيِ العِلْم مع يمينه اهـ. قاله سحنون. أمَّا لو أن لرجل على رجل مالاً فأنكره ولصاحب الحقَّ بيَّنة قد عَلِمَ بها فصالحه ببعض الحقَّ ثم حضرت البيَّنة فليس له أن يرجع علهي بشيئ، وكذلك لو صالح الطالب المطلوب على شيئٍ لبعد غيبة البيَّنة فلا قيام له بالبيَّنة إذا قُدَّمَتْ؛ لأنه قد رَضِيَ بما قد أخذ، أمَّا لو كان المدَّعي لا شاهد له وطلب يمين المدَّعى عليه فنكل عن اليمين فرجعت اليمين على المدَّعي فَحَلَفَ وأخذ ثم إن المدَّعى عليه وَجَدَ البيَّنة على براءة من ذلك الحَّ فإنه يبرَّأ ويرجع إلى ما أُخِذَ منه فيأخذه اهـ. قاله ابن فرحون. ثم أشار رحمه اللَّه تعالى إلى لمسألة الثانية عشرة بقوله: "وَأُجْرَةُ الْكاتِبِ عَلَى الرُّؤُسِ وَإِنِ اخْتَلَفَت الحُقُوقُ وَلْيُمِللِ الَّذي عَلَيْهِ الْحَقُّ أَوِ الَّذي لَهُ بِرِضَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ" يعني أن أجْرة الكاتب الوثيقة على عدد رؤوس الورثة. قال في القوانين: الفرع الثاني: أجْرة القِسام على عدد الرؤوس لا عليى مقدار السهام، وكذلك أجْرة كاتب الوثيقة، وكذلك أجْرة كنس مراحيض الديار اهـ. وتقدَّم الكلام للدردير في القِسْمَة أنه قال: وكُرِهَ أخْذُ الأجْرة، ومنع إن رزق عليه في بيت مال. فراجِعْه إن

شئت. قوله: ولْيُمْلِل الذي عليه الحقُّ، هذا اقتباس من بعض الآية الكريمة في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ولْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ولا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ ولْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ ولْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ولا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا. [البقرة: 282] الآية، اقرأ إلى آخر الآية، وقد ختم هذه المسائل بذكر هذه الآية لِما فيها من الأحكام في الديون والآجال ومسائل البيوع وما شاكل البيوع، وهي أطول آية في القرآن والله أعلَم. ولمَّا أنهى الكلام على ما تعلَّق بالتنازع والمسائل المتقدّّمة انتقل يتكلم على ما يتعلَّق بأحكام العَتْقِ والولاء والكتابة والتدبير والاستيلاء، وما يتعلَّق بجميع ذلك مفصّّلأاً ومبيَّنًا كلا في محله فقال رحمه الله تعالى:

كتاب العتق والولاء والكتابة والتدبير والاستيلاء

كتاب العتق والولاء والكتابة والتدبير والاستيلاء أي في بيان ما يتعلَّق بأحكام العَتْق وما عطف عليه. العَتْق لغة: الخلوص؛ وعُرْفًا: خلوص الرقبة من الرَّق بصيغة، وهو مندوب إليه مرغب فيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم مَنْ أعْتَقَ رقبة أعْتَقَ الَّه بكلَّ عُضْوٍ منها عُضْوًا من أعضائه من النار حتى الفَرْج بالفَرْج أخرجه الشيخان وغيرهما، وقد أعْتَقَ صلى الله عليه وسلم ثلاثًا وستين رَقَبة. قال الصاوي في حاشيته على الدردير: هذا العدد لا مفهوم له وإلاَّ فقد ثبت في الصحيح أنه أعتق من هوزان ستة آلاف نسمة اهـ. قال رحمه الله تعالى: "يَصِحُّ العِتْقُ مِنْ كُلَّ مُكلَّفِ جَائِز التَّصَرُّفِ ابْتَدَأَهُ أَوِ اخْتَارَ سَبَبَهُ أَوْ وَرِثَهُ" يعني يصحُّ لمالك الرقبة بإرْثٍ أو غيره عَتقَها ابتداءًا أو اختار سببه بشروطٍ وأركانٍ ثلاثة، قال ابن جزي ف يالأركان: الأول: المُعْتِق وهو مالك للعبد مالك أمْرَ نفسه ليس بمريض ولا أحاط الدَّيْن بمالِهِ، فأمَّا المريض فيصحُّ عَتْقُه، ويكون في الثُّلُث من ماله، فإن وَسِعَه الثُّلُث عُتِقَ جميعه وإلاَّ عُتِقَ ثُلُثه، وإن كان عليه دَيْنٌ مستغرق لمالِهِ لم يُعْتَقْ منه شيئ. الثاني: المُعْتَق وهو كل إنسان مملوك لم يتعلَّق بعينه حقُّ لازم. الثالث: الصيغة وهي نوعان: صريح وهو لفظ الإعتاق والتحرير وفكُّ الرقبة. وكناية كقوله: قد وهب لك نفسك، أو لا سبيل لي عليك، أو اذهب واعزب، فلا تعمل إلاَّ باقتران النيّة فينوي السيَّد فيما أراد. اهـ. باختصار. قال رحمه الله تعالى: "فَإِنْ أَعْتَقَ بَعْضَهُ سَرَى فِي جَمِيعِهِ" يعني كماف ي الرسالة: ومَنْ أعْتَقَ بعض عَبْدِهِ استتمَّ عليه. قال شارحها: أي بحُكْم حاكم، على المشهور الذي اقتصر عليه العلاّمة خليل حيث قال: وبالحُكْمِ جميعه إن أعْتَقَ جزءًا والباقي له. وعبارة

ابن جزي في القوانين: وأمَّا تبعيض العَتْقِ فَمَن أعْتَقَ بعض عَبْدِه أو عضوًا منه عُتِقَ سائره عليه، وفي عَتْقِهِ بالسراية أو بالحُكْم روايتان اهـ. والمعنى: أن مَنْ أعتقَ جزءًا ولو يدًا أو رجلاً من عَبدِه الذي يملك جميعه فإن الباقي يُعْتَقُ عليه بالحُكْم، سواء كان موسِرًا أو معسِرًا. قوله: بعض عَبْدِ، يشمل القِن المحض والمدبر والمعتق إلى أجل وأُمّ الولد والمكاتب؛ لأنه عبد ما بقي عليه درهم، وإنَّما يلزم ذلك إذا كان المُعْتِق مسلِمًا مكلَّفًا رشيدًا لا دَيْنَ عليه يَرُدُّ العبد أو بعضه. وأمَّا لو أعتق الكافر عَبْدَه الكافر فَلَهُ الرجوع فيه إلاَّ أن يسلِم أحدهما أو يبِين العبد عن سيَّده اهـ. النفراوي. قال رحمه اللَّه تعالى: "فَإنْ كانَ مُشْتَرِكًا وَهُوَ وسِرٌ قُوَّمَ عَلَيْهِ بَاقيهِ في رَأْس مَالِهِ صَحِيحًا وَفِي ثُلُثِهِ مَريضًا وَإِنْ أبِقَ العَبْدُ إلاَّ أَنْ يَشَاءَ الشَّريكُ عِتْقَ نَسِيبِهِ مُنجّّزًا لاَ كِتَابَةً أَوْ تدْبِيرًا إلاَّ فِي إِعْسَارِ الأَوَّلِ إذْ لا تَقْويمَ كَمَوْتِهِ أَوْ يُسْرِهِ بَعْدَ الحُكْمِ بِعُسْرِهِ وَفِي يُسْرِهِ بِبَعْضِ قِيمَتِهِ يُقَوَّمُ عَلَيْه بِقَدْرِهِ لاَ بِإرْثِهِ" يعني كما في الرسالة قال: وإن كان لغيره معه فيه شركة قُوَّم عليه نصيب شريكه بقيمته يوم يُقام عليه وعتق، فإن لم يوجد له مال بقي سهم الشريك رقيقًا. وقال شارحها: والمعنى أن مَنْ أعْتَقَ نصيبه من عبدٍ مشتركٍ بينه وبين غيره فإنه تقوَّم عليه حصّة شريكه بشروط ستة: أحدها: أن يدفع القيمة بالفعل لشريكه يوم الحكم بالعَتْق. ثانيها: أن يكون المُعْتِق مسلِمًا أو العبد فلو كان العبد والشريكان كفرة فلا تقويم، وكذا لو كان المُعْتِق ذِمَّيًّا والعبد كذلك وغير المُعْتِق مسلِمًا. ثالثها: أن يعتق الشريك باختيراه لا إن ورث جزءًا من أبيه فلا تقوَّم عليه حِصّة شريكه. رابعها: أن يكون المُعْتِق هو الذي ابتدأ العتق لأنه الذي أبد الرقبة، وأما لو كان العبد حرًا لبعض قبل العتق فلا تقوم عليه حصة شريكه، كما لو كان العبد مشتركًا بين ثلاثة أملياء وأعتق أحدهم نصيبه ابتداءًا وتبعه الثاني بإعتقاء حِصَّته وامتنع الثال ثمن العَتْق فإن حِصَّته تقوَّم على الأوّل،

إلاَّ أن يرضى الثاني بتقويمها عليه، فلو كان المبتدي العَتْق معسِرًا لم تُقَمْ حِصّة الثالث على الثاني إلاَّ برضاه، وأمَّا لو أعتقا معاً أو مترتبًا وجهل الأول قوَّمت حِصّة الثالث عليهما أن أيسرَا وإلاَّ فعلى الموسِر منهما. خامسها: أن يكون المعتِق موسِرًا بقيمة حِصّة الشريك، فإن أيسر ببعضها عَتَقَ منها بقدر ما هو موسر به، والمعسَر به لا تقوَّم عليه ولو رضي شريكه باتباع ذِمَّته. سادسها: أن تكون تلك القيمة التي يُشْتَرِطْ يُسْرُه بها أو ببعضها زائدة على ما يترك للمفلس. اهـ. النفراوي باختصار على ما تلخَّص من كلام خليل. وإليه أشار رحمه اللَّه تعالى بقوله: "فَلَوْ أَعْتَقَ اثْنَانِ قُوَّمَ نَصِيبُ الثَّالِثِ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهمَا ولَفِي تَعَاقُبِهِمَا يُقَوَّمُ عَلَى الأَوَّل كَإِعْسَارِ أَحَدِهِما وَالْحَمْلُ يَتبَعُ أُمَّمه: يعني أنه تقدَّم آنفًا قول النفراوي: إنه لو كان العبد مشتركًا بين ثلاثة أملياء وأعْتَقَ أحدهم نصيبه ابتداءً وتبعه الثاني بإعتاق حِصَّته وامتنع الثالث من العَتْق وهو ملئ قُوَّم نصيب الثالث على الأول وحده؛ لأنه الذي ابتدأ العَتْقَ في الرقبة، هذا إن كان إتاق الثاني بعد إعتاق الأول، وإلاَّ بأن كان إعتاقهما في وقت واحد قُوَّمت حِصَّة الثالث عليهما على قدر حِصَصِها لا على رؤوسهما، فإن كان لأحدهما نِصْفه وللثاني ثُلُثه وللثالث سُدْسه وأُعْتِق الأول والثاني دفعة فعلى الأول ثلاثة أخماس سُدْس قيمته، وعلى الثاني خُمْسَاه إن أيسرا وإلاَّ أي وإن لم يكونا موسَرَيْن بأن كانا معسَرَيْن فلا تقويم، وإن كان أحدهما موسِرًا ولاآخر معسِرًا فعلى الموسِر منهما اهـ. بتوضيح. قوله: والحمل يتبع أمّة هذا إذا كان حَمْلاً ظاهرًا. قال ابن جزي: فرع: يلزم عَتْقُ الجنين في بطن أمَّه إذا كان الحَمْل ظاهرًا، واختُلِفَ إذا كان غير ظاهر. وفي الرسالة: ومَنْ أعْتَقَ حامِلاً كان جنينهاحرًّا معها. قال شارحها: ولا يصحُّ استثناؤه لأن كل ولد حدث من غير مِلْك يمين فإنه تابع الأمَّة في الحريَّية والرَّقّية؛ لأنه لا يوجد في الأصول حرَّة حامِل برقيق إلاَّ على جهة الندور، وإنَّما توجد أمَة حامل

بحرَّ، ولأن الحرَّية مسّتْه وهو في بطنها وهو كعُضُوٍ من أعضاءها فوَجَبَ أن يُعْتَقَ بِعَتْقِها وسيأتي كلام المصنَّف ي قوله: ويتبع المُعْتِق مالُهُ إلى أن قال: وأَمَتُهُ الحامِلُ لا جنينها وأولادُهُ، أي فلا يُعْتَقون بعَتْقِهِ فتُرَقُّ به؛ لأن تلك المسألة كالمسْتثنى من قولهم: وكل ذات رَحِم فولدها بمنزلتها. قال رحمه الله تعالى: "وَمَنْ أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لاَ مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ أَوْ قَالَ: ثُلُثُ عَبِيدِي أَحْرار عُدَّلُوا بِالْقيمَةِ وَأَعْتَقَ ثُلثُهم بِالْقُرْعَةِ خَرَجَ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ" يعني كما قال عبيدًا له ستَّة عند موته فأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم فأعتق ثُلُث تلك العبيد قال مالك: وبلغني أنه لم يكن لذلك الرجل مالٌ غيرهم اهـ. وعنه أيضًا أنّ رجلاً في إمارة أبان بن عثمان بتلك الرقيق فقَسَّمَتْ أثلاثًا ثم أسهم على أيَّهم يخرج سهم الميت فيُعْتَقون فوقع السهم على أحد الأثلاثِ فعَتَقَ الثُّلُث الذي وقع عليه السهم اهـ. ومثله ي المدوَّنة. قال رحمه اللَّه تعالى: "وَيَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطْ مِلْكِهِ أَوْ أَجَلٍ يَبْلُغُهُ وَلِيْسَ لَهُ وَطْءُ المُعْتَقَةِ إِلى أَجَلٍ: يعني أنه يصحُّ تعليق العَتْقِ علىش رط مِلْك الرقبة في مستقبل، كأن يقول: إن ملكت رقبة فلان فهو حرّ، وبمجرَّد تملكه إيّاه صار فلان حُرًّا كتعليق الطلاق بالعقد، وكذلك يصحُّ العَتْقُ بِتَعْليقه إِلى أجل يبلغه فيؤخَّر إليه، بخلاف الطلاق فلا يؤخَّر بن ينجز عليه بمجرَّد النطق به. قال الخرشي: أي فلا يستوي باب العَتْق وباب الطلاق في هذه المسائل، منها إذا طلَّق زوجته إلى أجَل يشبه بلوغهما عادة فإنه ينجز عليه من الآن؛ لئلا يلزم على عدم التنجيز نِكاح المتعة، بخلاف ما إذا أعْتِقَ إلى أجَل معلوم فإنه لا يُعْتَق إلاّ إلى ذلك الأجل، ويمنع السيَّد من البيع والوَطْءِ إلى

ذلك الأجَل، وله الخدمة إليه فقط اهـ. وفي الرسالة: ولا يطأ المُعْتَقَة إلى أجَل ولا يبيعُها وله أن يستخدمها وله أن ينتزع مالها ما لم يقرب الأجَل أي بكشهر فيحرُم عليه انتزاعه، وأمَّا ما كان من خراجها وكَسْبِها وأرْش جناية عليها فلَهُ انتزاعه وإن قرب الأجَل اهـ. بتوضيح من النفراوي. قال رحمه اللَّه تعالى: "وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ لَه مِنْ خِدْمَةِ نَفْسِهِ بِقِسْطِهَا وَلاَ يَنْتَزعُ مَالُهُ وَأَحْكَامُهُ كالْقِنَّ وَمِيرَاثُهُ لِمَالِكِ بَاقِيهِ: يعني أن من كان بعضه حرًّا وبعضه عبدًا فلَهُ خدمة نفسه في البعض الذي من جهة الحرية، ويخدم مالك الباقي من جهة الرَّقيّة، ولا ينتزع ماله، وأحكامه وميراثه كالقِنّ. قال في المدوَّنة: قلتُ: أي لابن القاسم: أرَايتَ عَبْدًا نِصْفه رقيق ونِصْفه حرّ، باع السيَذد المتمسَّك بالرَّق نصيبه منه، أيكونله أن يأخذ من مالِهِ شيئًا أم لا؟ في قول مالك قال: قال لي مالك: أيما عبد كان نِصْفه عبدًا ونِصْفه حرًّا فأراد سيَّده الذي له فيه الرَّق أن يبيع نصيبه منه فإن يبيعه على حاله، ويكون المال موقوفًا في يَدَي العبد، ويكون الذي ابتاع العبد في مال العبد بمنزلة سيَّده الذي باعه، وليس للذي اشتراه ولا للذي باعه أن يأخذ من مالِهِ شيئًا، ف إن عَتَقَ يومًا كان جميع مالِهِ له، أو يموت فيكون المال للذي له فيه الرَّق، ولاي كون للذي أعْتِقَ من ماله الذي مات عند العبد قليل ولا كثير؛ لأنه لا يورث بالحرَّية حتى تتمَّ فيه الحرَّية عند مالك: قلت: ولِمَ جعل مالك المال موقوفًا في يَدَي العبد ولم يجعل لمتمسَّك بالرَّق ألاَّ يأخذ من مالِهِ شيئًا؟ قال: لشركة العبد في نفسه وللعَتْقِ الذي دخله فماله موقوف إن عتق تبعه ماله وإن مات قبل أن تتم حخريته كان سبيله ما وصفت لك عند مالك اهـ. "وَيَتْبَعُ المُعْتَقَ مَالُهُ إلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهُ سَيَّدُهُ وَأمَتُهُ الحامِلُ لاَ جَنِينُهَا وَأَوْلاَدُهُ" يعني أن مال المُعْتَق تابع له بعد العَتْق، إلاَّ أن يستثنيه السيَّد قبل عَقْدِ العَتْق. قال في الرسالة: ومالُ العبد له إلاَّ أن ينتزعه السيَّد فإن أعتقه

أو كاتبه ولم يَستثن مالَهُ فليس له أن ينتزعه اهـ. وفي القوانين: فرع: للسيَّد أن ينتزع مال عبده ومال المُعْتِق إلى أجَل ما لم يقرب الأجَل، وليست السنّة قربًا، ومال أمَّ الولد والمدبر ما لم يمرض فإذا أُعْتِقَ العبد تبعه مالُه، إلاَّ أن يستثنيه سيَّده بِبَيَّنةٍ فإن لم تكن إلاَّ دعواه لم يصدق وكان القول قول العبد مع يمينه وله رد اليمين اهـ. وحاصل ما في المذهب كما في الموطَّأ عن مالك عن ابن شهاب أنه سمعه يقول: مضت السنّة أن العبد إذا أُعتق تبعه مالُهُ. قال مالك: ومما يُبَيَّنُ ذلك أن العبد إذا أُعتِق تبعه مالُهُ أن المكاتب إذا كوتب تبعه مالُهُ وإن لم يشترطه المكاتَبُ، وذلك أن عقد الكتابة هو عقد الولاءِ إذا تَم ذلك، وليس مالُ العبدِ والمكاتب بمنزلة ما كان لهما من ولد، إنَّما أولادُهما بمنزلة رقابهما ليسوا بمنزلةِ أموالهما؛ لان السنّة التي لا اختلاف فيها أن العبد إذا عُتِقَ تبعه مالُهُ ولم يتبعه ولدُهُ وأن المكاتب إذا كوتب تبعه مالُهُ ولم يتبعه ولده. قال مالكٌ: وممَّا يُبَيَّنُ ذلك أيضًا أن العبد والمكاتَب إذا أفلسا أخِذت أموالهما وأُمهات أولادهما ولم تؤْخذ أولادهُما؛ لأنهم ليسوا بأموال لهما. قال مالك: وممَّا يبيَّن ذلك أيضًا أن العبد إذا جرح أُخِذَ هو ومالُهُ ولم ي} خذ ولده اهـ. وقول المصنَّ: وأمَتُه الحامل معطوفة على يتبع. فالمعنى: أنّ أمَة المعتوق إذا كانت حاملة تبعت ماله إذا لم يشترط السيَّد مال عبده المُعْتَق، ف إذا أعتَقَها سيَّها المُعْتَق صارت حرّةً دون جنينها، وكأنه رحمه الله قال: ويتبع المُعْتَق مالُهُ وأَمتُهُ الحالم لا جنينها ولا أولاده، فغنهم أرقّاء للسّيَّد المعتِقِ لأبيهم، ولا غرابة أن تكون الحرّة حاملة برق في بطنها. قال خليل في توضيحه: قد وجدت حرّة حاملاً بعبد، وصورتها: أن يكون عبد وَطِئ جاريته فحَمَلَتْ منه وأعْتَقَها لوم يَعْلَمْ سيَّده بعَتْقِهِ حختى أعتقه ولم يستثن مالَه فعَتْقُ الأمَة ماضٍ ومقصود عليها وتصير حرّة والولد في بطنها رقيق لسيَّد أبيه اهـ. نَقَلَه النفراوي عنه، انظره إن شئت

وفيه زيادة إيضاح. قال مالك في الأمَة تُعْتَقُ وهي حامل وزوجها مملوكُ ثم يثعْتَقُ زوجُها قبل أن تضع حَمْلَها أو بعدما تضع: إنّ ولاء ما كان في بطنها للذي أعْتَقَ أُمَّهُ، لأن ذلك الولد قد كان أصابه الرَّقُّ قبل أن تُعتق أُمُّهُ، وليس هو بمنزلة الذي تَحْمل به أُمُّهُ بعد العتاقة؛ لأن الذي تَحْمل به أمه بعد العتاقة إذا عُتِقَ أبوه جرَّ ولاءَهُ. قال مالك في العبد يستأذِنُ سَيَّدَهُ أن يعتق عَبْدًا له فيأْذَنَ له سيَّدُهُ: إنَّ ولاءَ العبد المعتق لسيَّ العبد لا يرجع ولاؤُه لسيَّده الذي أعتقه وإن عُتِق اهـ. قاله في جرَّ العبد الولاء. قال رحمه اللَّه تعالى: "وَيَعْتِقُ بِالنَّسَبِ عَمُدَاهُ وَإِنْ بَعُدَ وَالإِخْوَةُ والأَخوَاتُ لاَ غَيْرُ" يعني كما في الرسالة قال: ومَنْ ملك أبوَيْه أو أحدًا من ولده أو ولد ولده أو ولد بناته أو جدّه أو جدّته أو أخاه لأُمَّ أو لأبٍ أو لهماجميعًا عُتِقَ عليه. قال خليل: وعُتِقَ بنفس المِلْك الأبوان وإن علَوْا والولد وإن سفل والإخوة ولاأخوات ولو لأُمًّ. قال النفراوي: والمعنى أن الشخص إذاملك أصله وإن علا أو فرعه وإن سفل أو حاشيته القريبة فإِنه يُعْتَقُ عليه بمجرَّد المِلْك، ومحل العَتْق: حيث كان المالك والمملوك مسلمين، وكذا إن كان أحدهما مسلِمًا، ولابدَّ أن يكون المالك رشيدًا، ولا فرق ... في المِلْك بين أن يكون بالبيع الصحيح البتّ اللازم أو بالهبة أو الصّدَقة إن عَلِمَ المُعطِي بالكسر أو قبل المُعطَى بالفتح والولاءُ للمُعطَى بالفتح، ولا فرقَ مع عِلْم المُعطِى بالكسر بين أن يكون المُعطَى بالفتح دَيْنًا أم لا. والضابط أنه إن عُتِقَ لِعِلْم المُعَطي لعدم قبول المُعطَى بالفتح لا يُباع في دَيْنٍ ولا غيره، وأمَّا إن عُتِقَ لقبول الموهوب له فإن كان عليه دَيْنٌ فإنه يُباع فيه، وحيث لاَ قبول فلا يُباع ولو كان عَليه دَيْن، وأمَّا المملوك بالإرث أو الشراء فمحلّ عَتْقِهِ حيث لا دَيْن وإلاَّ بِيع فيه. قال خليل: لا بإرث أو شراء وعلهي دَيْن فيُباع. وقوله: ويُعْتَقُ بالنسب عموداه إلخ احتراز عن مالك أبوي الرَّضاع أو أولاد الرَّضاع أو الإخوة منه فلا عَتْقَ على المشهور. اهـ. باختصار.

قال رحمه اللَّه تعالى: "وَمَنْ قَصَدَ الْمُثْلَةَ بِعَبْدِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ بِالْفِعْل وُقِيلّ بِاْحُكْم" يعني أن مَنْ قصد أن يمثَّل بعبده مُثْلَة فإنه يَعْتِقُ عليه بالحْكْم إذا فعل، وقيل: بمجرَّد الفعل عَتَقَ عليه لا يتوقف إلى حُكْمِ حاكم، والأول أصحُّ. قال ابن جزي: ولا يُعْتَقُ بالمُثْلة إلاَّ بالحْكْم. وقال أشهب: بالمُثْلة يصير حرًّا. قال في الرسالة: ومَنْ مثَّلَ بعبده مُثْلَة بيَّنة مِن قطع جارحة ونحوه عَتَقَ عليه. وأخرج أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال: جاء سندر مستصرخًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ويْحضك ما لك؟ فقال سندر: أبصر لسيَّده جارية فغار فجبَّ مذاكريه وقَطَعَ أنفه وأذنَيْه، فقال رسول اللَّه صلى لله عليه وسلم "عليّ بالرجل"،لآ فطلب فلم يقدر عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب فأنت حرُّ"، فقال: يا رسول اللذَه على من نصرتي؟ فقال: على كل مؤمن أو على كل مسلِم اهـ. وعبارة المدوَّنة لهذا الحديث قال: كان لزنباع عبد يسمّى سندرًا أو ابن سندر فوجده يقبَّل جارية له فأخذه فجَبَّه وجَدَعَ أذُنَيْه وأنْفَه، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلىزنباع فقال: لا تحمَّلوهم ما لا يطيقون، وأطعموهم ممَّا تأكلون واكسوهم ممَّا تلبسون، وما كرهتم فبيعنوا، وما رضيتم فأمسكوا، ولا تعذَّبوا خَلْقَ اللَّه، ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَثّل بعبده أو أحرق بالنار فهو حرٌّ وهو مولى الله ورسوله"، فأعتقه رسول الله صلى الله عليه الصلاة والسلام قال: يارسول الله أوصِ بي فقال: أوصي بك كل مسلِم اهـ. وفيها أن زنباعًا كان يومئذ كافرًا. قال خليل: وبالحكم إن عَمَدَ لشين برقيقه أو رقيق رقيقه أو لود صغير. قال الخرشي: والمعنى أن المسلِم المكلَّف الحرَّ الرشيد إذا عَمَدَ العقوبة أي المثلة وهي المراد بالشين - ويدلُّ على قصدها القرائن - برقيقة أو رقيق رقيقة فإنه يَعْتِقُ عليه، أو لا بدّ من الحكم عليه بالعَتْقِ على لمشهور، ولا يتبعه مالُهُ، قال فيها: مَنْ مثَّل بعبده أو بأمَّ ولده وبمدبره أو بعبد لعبده أو لمدبره أو لأمَّ ولده عتقوا عليه اهـ. باختصار. ولمَّا أنهى الكلامعلى ما تلَّق بالعَتْقِ انتقل يتكلم على ما يتعلَّق بأحكام الولاء فقال رحمه اللَّه تعالى:

فصل في الولاء

فَصْلٌ في الولاء أي في بيان ما يتعلَّق بأحكام الولاء بفتح الواو والمد من الولاية بفتح الواو، وهو من النسب والعَتْق، وأصله من الولي وهو القرب، والمراد هناولاية الإنعام والعَتْق، وسببه زوال المِلْك بالحريَّة، فمَنْ زال مِلْكه بالحرّية عن رقيق فهو مواله، وهي ولاية العَتْق، وحُكْمُها العصوبة وهي تفيد الميراتث للمُعْتَق لِمَن عَتَقَ لا تُباع ولا توهب؛ لان النبي صلى لله عليه وسلم نهى عن بَيْع الولاء وهِبَتِه، لأنه لحمة كلحمة النسب، ولذا قال رحمه الله تعالى: "وَالْوضلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ أَوْ عَتَقَ عَنْهُ وَلَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لاَ يَصحُّ نَقْلُهُ" يعني أن الولاء لِمَن أعْتَق أو أعْتَقَ عنه. قال مالكف يالعبد يبتاع نفسه من سيَّده على أن يوالي مَنْ شاء: إن ذلك لا يجوز وإنَّما الولاء لَمَن أعتق، ولو أن رجلاً أذِن لمواله أن يوالي من شاء ما جاز ذلك؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الولاء لِمَن أعْتَق"، ونهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بَيْع الولاء وعن هِبَتِهِ، فإذا جاز لسيَّده يشترط ذلك له وأن يأذَن له أن يوالي مَنْ شَاء فتلك الهِبَة اهـ. ومَنْ أعْتَقَ عَبْدًا عن رجل فالولاء للرجل أي الذي أعْتَقَ عنه ولو بغير إذْنه؛ لأن التسرع يقدر دخوله في مِلك مَنْ أعْتَقَ عنه، وشرط كونه للمُعْتَق عنه كونه حرًّا مسلِمًا، أمّا إن كان رقيقًا فإن ولاء أعْتَقَ عنه لسيَّده، وإن كان كافرًا يكون ولاء الذي أعْتَقَ عنه مسلِماً للمسلمين، لأن الكافر لا ولاء له على مسلِم. اهـ. الرسالة بطرف من النفراوي. ثم قال رحمه اللَّه تعالى: "وَلَيْسَ لِنَّسَاءِ مِنْهُ إِلاَّ مَا أَعْتَقْنَ أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعتَقْنَ أَوْ جَرَّه إليهن" يعني أنالنساء لا يَرِثْن ولاء موروثهن لكن يَرِثْنَ ولاء ما أعتقن وولاء من يجرُّ مَنْ أعْتَقَ قال في الرسالة: وولاءُ ما أعتقت المراة لها، وولاء من يجرُّ من ولدٍ أو عبدٍ أعتقته، ولا تَرِثُ خما أعتق غيرها من أبٍ أو ابن أو زوج أو غيره اهـ. قال خليل: ولا تَرُث

أُنثى إن لم تباشره بعَتْقٍ أو جرّه ولاء بولادة أو عتق. وقال فيها أي المدوَّنة: ولا يَرثُ النساء من الولاء إلاّ ما أعْتَقْنَ أو أعْتَقَ مَنْ أعْتَقْنَ أو ولد من أعْتَقْنَ من ولد الذكور ذكورًا كانوا أو إناثًا، ولا شيئ لهن في ولد البنت ذكراً كان أو أنثى فافْهَم ذلك اهـ. وفي القوانين: لا ينجز ميراث الولاء إلى المرأة، وإنَّما تَرِثُ بالولاء مَنْ أعْتَقَتْه أو مَنْ أعْتَقَتْ مَنْ أعْتَقَه إن عدم مَنْ أعْتَقَه أو ذرية مَنْ أعْتَقَه أو مَنْ أعْتَقَه مَنْ أعتَقَتْه لا مَنْ أعْتَقَه موروثها اهـ. قال رحمه اللَّه تعالى: "وَالإرْثُ بِهِ لِلْعَصبَةِ فَيُقَدَّمُ الابْنُ عَلَى الأَبِ والأخِ وابْنُهُ عَلَى الْجَدَّ وَالْجَدُّ عَلَى الْعَمَّ ثُمَّ الأقْوَى فَالأقْوَى" يعني أن الإرث في الولاء للعصبة، وقد عقد العلاّمة ابن جزي في قوانينه فصْلاص في بيان ترتيب الموالي في الإرْث بالولاء فقال: المولى الأعلىهو مُعتِقُ العبد بأيَّ نوع من أنواع العَتْقِ أعْتَقَه أو مُعْتِقُ أبيه أو جدّه أو أمه وهو وارث المولى الأسفل العتيق ووارث أولاده وأحفاده ووارث كل من أعتقه العتيق أو مَنْ أعْتَقَه عتيق العتيق على الترتيب الذي نذكره، وذلك أنه إذامات عَبْدٌ بعد أن عُتِقَ فإن كان له عصبة ورثته عصبته دون مولاه، فإن لم تكن له عصبة ورثه مولاه، وهو المعتِقُ أو معتق المعتق في عدم المعتق فإذا انفرد أخذ المال كلَّه، وإن كان مع ذوي سهام أخذ ما يفصل عنهم فإن كان المتوفّى حرًّا في الأصل غير عتيق كان الولاء لِمَن أعْتَقَ أباه، فغ، كان أبوه حرًّا غير عتيق كان الولاء لِمَن أعْتَقَ جدّه، وهكذا ما ارتفعوعلا، فإن لم يكن في آبائه عتيق لم يَرِثْه موالي أُمه إلاَّ إن كان منقطع لنسب كولد الزَّنا والمنفي باللَّعان أو كان آباؤه كفارًا فحينئذٍ يرثه موالي أُمه إن كانت مُعْتَقَة، فإن كانت حرّةً غير مُعْتَقَة كانالولاء لموالي أبيها، فإن لم يكن أبوها عتيقًا لم يَرِثْه موالي أُمها إلاَّ إن كانت هي منقطعة النسب. وهكذا ترتيب الموالي أبدًا فيما علا من الآباء والأُمّهات اهـ. قال النفراوي في الفواكه: والحاصل أنَّ أوْلَى الناس بميراث الولاء عند عدم القرابة المُعْتِق ثم أولاده

الذكور ثم بنوهم وإن نزلوا، والأعلى يحجب الأسفل، فإن عدم بنو المُعْتِق فأبوه، فإن عدم أبوه فإخوته الأشقاء ثم الذين للأب ثم بنو الإخوة الأشقاء ثم بنو الإخوة للأب ثم بنوهم وإن نزلوا، فإن استَوَتِ الدرجة فالشقيق أوْلَى، فإ، عدمت إخوة المُعتِق وبنوهم فجدّ المُعْتِق، فإن لم يكن جدّ فالأعمام، وهم في الترتيب كالإخوة، ثم بعد انقراض أقارب المُعتِق مُعْتِقُ المُعْتِق، فإن لم يوجد مُعْتِقُه انتقل الحُكْمُ لعصبة مُعْتِقه إن كان له استحقاق وإلاَّ كان للمسلمين، مثاله: لو أعتقت امرأةٌ عبدًا ولها ابن من زوج غير قريب لها فإذا ماتت المرأة كان ولاء مَنْ أعتقته لابنها، فإذا مات ابنها لم يَرِثْ ابنه ما أعْتَقَتْه أُمّه بالولاء عند الأئمة الأربعة، ويكون ميراثه للمسلمين وهو من جملتهم، وخبر: مَنْ مات عن حقّ فلوارثه، غير معروف، والمراد بالعاصب الذي يُرِثُ الولاء: العاصب بالنفس لا بغيره ولا مع غيره، فلا تَرِثُ الأمّ مع الأبِ ولا الأخت مع الأخ ولا الأبُ مع الابن ولا البنت مع الابن اهـ. فتأمّل. قال رحمه الله تعالى: "وَوَلاءُ السَّائِبَةِ وَالمَنْبُوذِ والْمُعْتَقِ فِي الزكّاةِ لِلْمُسْلِمِينَ" وفي نسخة: السابية بدل السائبة، والأصحُّ ما قرَّرْناه، يعني أن ولاء السائبة وما عطفت عليه لجماعة المسلمين لا يختصُ به أحد عن أحدٍ؛ قال مالك في الموطَّأ: إن أحسن ما سُمِع في السائبة أنه لا يوالي أحدًا، وأنّ ميراثه للمسلمين وعقله عليهم. ومعنى السائبة: هو الذي قال له سيَّده: أنت سائبة أو سيبتك قاصدًا بذلك العَتْق، وكذلك لَفْظُ أنت حُرٌّ عن المسلمين يكون ميراثه لهم، وكما يرثنه يعقلون عنه ويلون عقد نكاحه إن كان أنثى ويحضنونه. اهـ. النفراوي بتصرف واختصار. قال رحمه الله تعالى: "وَيَرْجِعُ وَلاَءُ الكَافِرِ يُسْلِمُ لِمَوْلاَه كالْمُكاتَبِ يَعْتِقُ ثُمَّ يَعْتِقُ بِأَدَاءٍ" يعني كما في الخرشي: أن الكافر إذا أعتق عبده ثم أسلمَ العبد فإنَّ ولاءه ينتقل للمسلمين من عصبة سيَّده النصراني، فإن أسلمّ سيَّدُه الذي

أعتقه بعد ذلك فإنّ الولاء يعود إليه. والمراد بعود الولاءِ هنا إنَّما هو الميراث فقط، وإلاَّ فالولاء ثابت لا ينتقل؛ لأن الولاء كالنسب فكما لا تزول عنه الأبوّة إن أسلَم ولده فكذلك الولاء اهـ. ومثله في المدوَّنة انظر الموّاق. قوله: كالمكاتب تشبيه في رجوع الولاء لِمَن أعْتَقَ، يعني أنّ المكاتب إذا أعْتَقَ عَبْدَه قبل أداء ما عليه من الكتابة ثبت العَتْق، فإذا أدّى ما عليه من الكتابة وصار بذلك حُرًا رجع إليه ولاء الكتابة الذي عُتِقَ؛ لأن الولاء لَمَن أعْتَقَ بشرط الإسلام، ولذا نبَّه رحمه اللذَه تعالى فقال: "بِخِلاف الذَّمَّيَّ يَعْتِقُ مُسْلِمًا ثمَّ يُسْلِمُ وَالْعَبْدُ يُعْتَقُ ثُمَّ يَعْتِقُ والْمُوَالاةُ بَاطِلَةٌ" يعني أن الذَّمّي إذا أعْتَقَ مسلِمًا ثم أسلم الذَّمّي فلا يرجع الولاء إليه؛ لأن الولاء قد ثبت للمسلمين، ولا ينتقل إلى الذي أعتقه وإن أسلَم. قال مالك في الموجطَّأ في اليهودي والنصراني يسلِم عبدُ أحدهما فيعتقه قبل أن يُباع عليه: إنّ ولاء العبد المُعْتَق للمسلمي، وإن أسلَم اليهودي أو النصراني بعد ذلك لم يرجع إليه الولاء أبدًا. قال: ولكن إذا أعْتَق اليهودي أو النصراني بعد ذلك لم يرجع إليه الولاء أبدًا. قال: ولكن إذا أعْتَقَ اليهودي أو النصراني عَبْدًا على دينهما ثم أسلَم المُعْتَقُ قبل أن يُسلِم اليهودي أو النصراني الذي أعتقه ثم أسلَم الذي أعتقه رجع إليه الولاء؛ لأنه قد كان ثبت له الولاء يوم أعْتَقَه. قال مالك: وإن كان لليهودي أوالنصراني ولَدٌ مسلِمٌ وَرَثَ موالي أبيه اليهودي أوالنصراني إذا أسلَم المَوْلى المُعْتَقُ قبل أن يُسلِمَ الذي أعْتَقَه، وإن كان المُعْتَقُ حين أعْتَقَ مسلِمًا لم يكن لولد النصرانيَّ أو اليهوديَّ المسلمين منولاء العبد المسلِم شيئٌ، لأنه ليس للهوديَّ ولا للنصراني ولاءٌ فولاءُ العبد المُسِلم لجماعة المسلمين اهـ.". قال رحمه اللذَه تعالى: "وَلاَ يَجُرُّ الْوَلاءَ إِلاَّ أَبٌ أَوْ جَدٌّ كَمُعْتَقٍ وَلَدُهُ عَبْدٌ فَوَلاءُ أَوْلاَدِهِ لِمُعْتِقِ أبِيهِ فَإذَا أَعْتَقَ جَرَّهُ إِلَى مَوَالِيهِ كالْعَبْد يَتَزَوَّجُ عَتِيقَة فَوَلاَءُ أَوْلاَدِهَا لِمَوَالِيهَا فَإِذّا عَتَقَ أَبُوهُمْ جَرَّه لِمَوَاليه" هذه الجملة تقدَّم الكلام في معناها في إرث العصبة عند قول المصنَّف: والإرث به للعصبة وإلى ذلك أشار الإمام في الموطَّأ

فصل في الكتابة

بقوله: الأمر المجتمع علهي عندنا في ولد العبد من امرأةٍ حرّة وأبو العبد حرٌّ أنّ الجدّ أبا العبد يجرُّ ولاءَ ولد أبنائه الأحرار مِن امرأةٍ حُرَّةٍ يرثهم ما دام أبوهم عَبْدَا، فإن عتَقَ أبوهم رجع الولاء إلى مواليه، وإن مات وهو عبدٌ كان الميراثُ والولاءُ للجدّ، وإن كانالعبد له ابنان حرّان فمات أحدهما وأبوه عبدٌ جَرَّ الجدّ أبو الأبِ الولاء والميراث اهـ. فراجِعْه في إرْثِ العصبة إن شئت. ولمَّا أنهى الكلام على ما تعلَّق بأحكام الولاء ومامعه من المسائل انتقل يتكلم على الكتابة وممّا يتعلَّق باحكامها فقال رحمه اللَّه تعالى: فَصْلٌ في الكتابة أي في بيان ما يتعلَّق بأحكام الكتابة وهي مشتقة من الكتاب بمعنى الأجَل؛ قال تعالى: كِتَابًا مُّؤَجَّلاً [آل عمران: 145] أي مضروبًا، وقوله: إلاَّ ولَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ [الحجر: 4] أي أجَل مقدَّر، أو من الكَتب بمعنى الإلزام؛ لقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَذينَ مِن قَبلِكُمْ [البقرة: 183] وكَتَبَ رَبُّكُم عَلَى نلَفسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: 12]. ويقال في المصدر: كتاب وكتابة وكتبة ومكاتبة، قال تعالى: والَّذِينَ يَبْتَغُونَ الكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور: 33]، والأمر فيها للندب أو الجواز، وعرَّفها ابن عرفة بقوله: هي عَتْقٌ على مالٍ مؤجلَّل من العبد موقوفٌ على أدائه. اهـ. الخرشي. ومثله في حاشية الصاوي على الدردير. وقد دلَّ على مشروعيتها الكتاب والسنّة وإجماع الأمّة، أمَّا الكتاب فقوله تعالى في تنزيله: فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وأمَّا السنّة فقوله صلى الله عليه وسلم: "المكاتب عَبْدٌ ما بقي عليه درهم" وفي رواية: "ما بقي عليه شيئ". وأمَّا الإجماع فقد انعقدت الأمّة على جوازها بل على ندبها. قال خليل: ندب مكاتبة أهل التبرُّع وحط جزءٍ آخر ولم يُجْبَر العبد عليها اهـ. وفي الرسالة: والكتابة جائزة على ما رَضِيَه العبد

والسيَّد من المال منجَّمًا، قلَّت النجوم أو كرَت، فإن عجز رجع رقيقًا وحلَّ له ما أُخِذَ منه، ولا يعجَّزه إلاَّ السلطان بعد التلوُّم إذا امتنع من التعجيز اهـ. قال رحمه اللَّه تعالى: "الْكِتَابَةُ بَيْعُ السَّيِّد عَبْدَهُ مِن نَفْسِهِ بِمَالٍ مُنجَّم يُؤَدِيهِ عَلَى نَجْمِه فَإِنْ عَجَّلَهُ لَزِمَهُ قَبُولُهُ وَيُرَقُّ بِعَجْزِهِ وَلَوْ بَقِيَ دِرْهَمٌ: يعني أن الكتابةً بَيْعٌ بعِوَضٍ مؤَجّل إلى أجِلِه فإن عجَّله العبد لزم على السَّيد قبوله، وإن عجز عن الأداء ولو درهمًا واحدًا عجَّزه الحاكم بعد التلوّم؛ وذلم لِما ثبت ف يالصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"المكاتب عَبْدٌ ما بقي عليه درهم" رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عند جدّه مرفوعًا. ورواه مالك في الموطَّأ عن نافع عن عبد الله بن عمر بلفظ: المكاتب عَبْدٌ ما بقي من كتابته شيئٌ. وأركانها أربعة، قال ابن جزي: وهي المكاتَب بالفتح والمكاتِب بالكسر والعِوَض والصيغة؛ وذلك أنّ معنى الكتابةش راء العبد نفسه من سيَّده بمالٍ يكسبه العبد، فالسيَّد كالبائع والعبد كالمشتري ورقبته كالثمن والمال الثمن، فأمَّا السيَّد فهو كل مالك صحيح غير محجور اهـ. قال رحمه اللَّه تعالى: "وَلاَ يُجْبَرُ السَّيَّدُ عَلَيْهَا:" يعني أن السَّيد لا يُجْبَرُ على أن يكاتب عبده؛ لأن الكتابة ليست بواجبة على المشهور، والغاية أنها مندوبة أو جائزة، ولا يُجْبَر أحد على فِعْلِ واحدة منهما. قال مالكٌ: الأمر عندنا أنه ليس على سيَّد العبد أن يكاتبه إذا سأله ذلك، ولم أسمع أن أحدًا من الأئمة أَكْرَهَ رجلاً على أن يكاتب عَبْدَه، وقد سمعتُ بعض أهل العِلْم إذا سُئل عن ذلك فقيل له: إنّ اللَّه تبارك وتعالى يقول: فكاتِبُوهم إن عَلِمْتم فيهم خيرًا، يتلوهاتين الآيتَيْن: وإذا حللتم فاصطادوا. فإذا قَضِيَتِ الصلاةُ فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله. قال مالكٌ: وإنَّما ذلك أمرٌ أذِن اللَّه عزّ وجلّ فيه للناس، وليس بواجب عليهم اهـ. الموطَّأ.

قال رحمه اللَّه تعالى: "وَهَلْ لَهُ إِجْبَارُ عَبْدِه فيهِ خِلاَفٌ" يعني أختلف أئمّتنا هل للسيَّد جَبْرُ عَبْدِه على الكتابة؟ قال ابن ناجي في شرحه على الرسالة: ظاهر كلام الشيخ أن السيَّد لا يُجْبِر عَبْدَه على الكتابة، وهو كذلك على لمشهور. قال النفراوي: وقول المصنَلّف على ما رَضِيَه العبد والسيَّد إشارة إلى أن العبد لا يُدْبَر على الكتابة هو مشهور المذهب، وصدر به خليل حيث قال: ولم يُجْبَر العبد عليها. قال الخرشي: المشهور من المذهب أنّ العبد لا يُجْبِرُه سيَّده على الكتابة، نُصَّ عليه في الجلاب، وأخَذَ الجَبْرَ عليها من المدوَّنة، وإليه أشار بقوله: والمأخوذ منها الجَبْر، قال زروق: ولو طلب السيَّد جَبْرَ عَبْده على الكتابة فقال إسماعيل القاضي: له جَبْرُه وهو الآتي على ما في المدوَّنة، قال ابن رشد: اختلف في ذلك قول ابن القاسم: وعلى الدَبْرَ فترجع المراضاة للمقدار. ونصُّ ما رُوِي عن مالك ممَّا يدلُّ على الجَبْرَ قولها: ومن كاتب عَبْدَه على نفسه وعلى عَبْدٍ له غائب لزم العبد الغائب وإن كُرِه؛ لأن هذا يؤّدَّ عنه. قال النفراوي: وسبب الخلاف كون الكتابة من باب البيع فلا يُجْبَرُ عليها العبد أو من باب العَتْقِ فيُجْبَر اهـ. واللَّه أعلَم. قال رحمه الله تعالى: "وَيُكْرَهُ كِتَابَةُ أَمَةِ لاَ كَسْبَ لَهَا" يعني واختلف ائمّتنا في المذهب في كراهة كتابة الأمَة التي لا مال لها ولا كَسْبَ ومثلهاالصغير. وفي المدوَّنة: تجوز كتابة الصغير ومَنْ لا حِرْفة له وإن كان يسأل. وقال غيره. لا تجوز كتابة الصبي إلاَّ أن تفوت بالأداء أو يكون بيده ما يؤدّي منه فيأخذه منه ولا يُتْرَك له، وكَرِهَ مالك كتابة أمَة لا كَسْبَ لها؛ لأنها تضيع نفسها أو يؤدّي ذلك لأمر آخر اهـ. نَقَله زروق في شرحه على الرسالة. وفي القوانين: واختُلِفَ في الصغير الضعيف عن الأداء هل يكاتب أم لا؟ وكذلك الأمَة التي لا صنعة لها اهـ. قال النفراوي: وأمّا الصغير الذي لا ماله له ولا قدرة له على الأداء ففيه خلاف بين ابن القاسم وأشهب: فعند ابن لاقاسم: لا بأس بكتابته، وعند أشهب: تمنع كتابته وتُفْسَخ إلاَّ أن تفوت بالأداء. والمعتمد الأوّل

كما قدّمنا وإليه ذهب خليل عاطفًا على الجواز بقوله: ومكاتبة أمَةٍ وصغير وإن بلا مَالٍ وكَسبٍ اهـ. ومثله في الدردير. قال رحمه الله تعالى: "وَلِلْمكاتِبِ كَسْبُهُ وَأَرْشُ جِنَايَتِهِ وَلَيْسَ لَهُ انْتِزَاعُ مَاله ولا يعجزه ولا يطأ مكاتبة، فإن حملت خيرت بين بقائها مكاتبة وفسخها، وتصير أم ولد)، يعني كما في القوانين: والمكاتب في تصرفه كالحر، إلا فيما تبرع، فلا ينفذ عتقه ولا هبته، ولا يتزوج بغير إذن سيده، وله التسري بغير إذنه. اهـ. وفي الرسالة: وليس للمكاتب عتق ولا إتلاف ماله حتى يعتق، ولا يتزوج ولا يسافر السفر البعيد بغير إذن سيده. قال شارحها: ومفهوم العتق وما معه أنه لا يمنع من التصرفات المالية، ولذا قال العلامة خليل: وللمكاتب بلا إذن بيع وشراء ومشاركة ومقارضة ومكاتبة واستخلاف عاقد لأمته وإسلامها أو فداؤها إن جنت بالنظر، وسفر لا يحل فيه نجم وإقرار في ذمته وإسقاط شفعته لا عتق وإن قريبًا، وهبة وصدقة وتزوج وإقرار بجناية خطأ أو سفر بعد إلا بإذن، وإنما نص خليل على تلك الجزئيات جوازًا ومنعًا رفقًا بالمفتي. والضباط في ذلك: أن تقول: وللمكاتب التصرف بغير تبرع، ولذا قال ابن الحاجب: وتصرف المكاتب كالحر إلا في التبرع؛ لأنه مظنة لعجزه. اهـ. النفراوي. هذا معنى قوله: وللمكاتب كسب هذا وهو ظاهر؛ لأنه أحرز نفسه وماله، وليس للسيد انتزاع ماله كما تقدم، ولا تعجيزه ولا وطؤها إن كانت مكاتبة. وفي الرسالة: وليس له وطء مكاتبته. قال: سواء قلنا: إن الكتابة بيع أو عتق؛ لأنها حررت نفسها ومالها، فإن تعدى ووطئ أدب ولا حد عليه للشبهة، وإنما يؤدب إذا كان عالمًا بحرمة الوطء لا إن كان جاهلاً أو غالطًا. قال خليل: وأدب إن وطئ بلا مهر وعليه نقص المكرهة، وذلك فيما إذا كانت بكرًا لا إن كانت ثيبًا، وإن حملت خيرت في البقاء وأمومة الولد إلا لضعفاء معها أو أقوياء لم يرضوا، وحط حصتها إن اختارت الأمومة، وإن اختارت البقاء على كتابتها فهي

مستولدة ومكاتبة، ونفقة حملها على سيدها كالمبتوتة، ثم إن أدت النجوم عتقت وإلا عتقت بموت سيدها من رأس المال. اهـ. النفراوي. قال مالك في رجل وطئ مكاتبة له: إنها إن حملت فهي بالخيار إن شاءت كانت أم ولد وإن شاءت أقرت على كتابتها، فإن لم تحمل فهي على كتابتها. اهـ. الموطأ. قال رحمه الله تعالى: (وله بيع الكتابة من أجنبي والنقد بعوض وبعكسه معجلاً ومن المكاتب كيف شاء، وهو أحق بها لا بيع نجم، وفي الجزء خلاف)، يعني كما في القوانين قال في المسألة الرابعة: لا يصح بيع رقبة المكاتب ولا انتزاع ماله، ويجوز بيع كتابته، خلافًا للشافعي، وعلى المذهب يبقى مكاتبًا، فإن وفى عتق وولاؤه لبائعها لا لمشتريها، وإن عجز أرقه مشتريها، ويشترط في ثمنها التعجيل؛ لئلا يكون بيع دين بدين. والمخالفة لجنس ما عقدت الكتابة به لئلا يكون ربًا. اهـ. أما لو وقع شراء الكتابة من المكاتب نفسه لجاز ذلك كيف شاء، وهو أحق بشرائها من الأجنبي. قال خليل عاطفًا على الجائزات: وبيع كتابة أو جزء لا نجم، فإن وفى فالولاء للأول وإلا رق للمشتري. انظر الخرشي. قال رحمه الله تعالى: (فإذا أدى إلى مبتاعها عتق وولاؤه لسيده وإلا رق لمبتاعها كالموهوب والموصى له بها)، يعني فإذا أدى المكاتب ما عليه من النجوم لمشتريها عتق وولاؤه لبائعه وإلا رجع رقيقًا لمشتريها. قال في المدونة: لا بأس ببيع كتابة المكاتب، إن كانت عينًا فبعرض نقدًا، وإن كانت نقدًا فبعرض مخالف أو بعين نقدًا، وما تأخر كان دينًا بدين. قال عبد الوهاب: هذا إن باعها من غير العبد، وأما إن باعها منه فذلك جائز على كل حال، فإن باعها من غير العبد فإن وفى العبد فولاؤه لبائع الكتابة، وإن عجز رق لمشتريها. اهـ. قال رحمه الله تعالى: (ويستحب أن يضع عنه شيئًا من آخرها، فإذا أعتق

تبعه ماله وولده الحادث أو المشترط فيها وأمته الحامل دون جنينها)، يعني أنه يستحب لمن كاتب عبده أن يضع عنه شيئًا منها، وأن يكون الوضع في آخر النجم منها على الاستحباب. قال المواق من المدونة والموطأ: قال مالك في قوله تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي أتاكم} [النور: 33]: هو أن يضع عن المكاتب من آخر كتابته شيئًا. وقال أبو عمر: وهذا على الندب ولا يُقضى به، وقوله: فإذا أعتق تبعه ماله ... إلخ تقدم الكلام فيه عند قوله: ويتبع المعتق ماله، فراجعه إن شئت. قال رحمه الله تعالى: (فإذا مات وترك وفاء عجل وعتق أو ورثوه، فإن لم يف وهم أقوياء سعوا وأدوا وعنقوا وإلا رقوا)، يعني كما في القوانين قال في المسألة الثالثة: تنفسخ الكتابة بموت العبد وإن خلف وفاء، إلا أن يكون له ولد يقوم بها فيؤديها حالة، ثم له ما بقي ميراثًا دون سائر ولده، وقال الدردير كما في المختصر: وفسخت إن مات وإن عن مال إلا لولد أو غيره دخل معه بشرط أو غيره، فتؤدي حالة ويرثه من معه فقط إن عتق عليه كفرعه أو أصله، فإن لم يترك وفاء وقوي من معه على السعي سعى وترك للولد متروكه إن أمن وقوي وإلا فلأم ولده كذلك. اهـ. وفي الرسالة: وإذا مات وله ولد قام مقامه وأدى من ماله ما بقي عليه حالاً، وورث من معه من ولده ما بقي، وإن لم يكن في المال وفاء، فإن أولاده يسعون فيه ويؤدون نجومًا إن كانوا كبارًا، وإن كانوا صغارًا، وليس في المال قدر النجوم إلى بلوغهم السعي رقوا، وإن لم يكن له ولد معه في كتابته ورثه سيده. اهـ. انظر النفراوي. قال رحمه الله تعالى: (ولا يعجز نفسه ولا يتبرع ولا يحابي ولا يعتق ولا ينكح ولا يسافر إلا بإذن سيده)، يعني أنه لا يجوز للمكاتب أن يعجز نفسه، ولا يفعل شيئًا مما يؤدي إلى تعجيزه من التبرع والعتق والنكاح وغيرها إلا بإذن السيد. قال ابن جزي في القوانين: يحصل العتق بأداء جميع العوض، فإن بقي منه شيء لم يعتق، وإن

عجز عن أداء النجوم أو عن أداء نجم منها رُق، وفسخت الكتابة بعد أن يتلوم له الأيام بعد الأجل، فلو امتنع من الأداء مع القدرة لم تفسخ وأخذ من ماله، وليس له تعجيز نفسه إن كان له ماله ظاهر، خلافًا لابن كنانة، فإن لم يكن له مال ظاهر كان له تعجيز نفسه. وقال سحنون: لا يعجزه إلا السلطان. اهـ. قال رحمه الله تعالى: (وله مقاطعته إلى شيء معجل)، يعني كما قال الخرشي ونصه: والقطاعة بسكر القاف أفصح، وهي اسم مصدر لقاطع، والمصدر: المقاطعة، ولها صورتان: إحداهما: أن يكاتبه على مال حال. والثانية: أن يفسخ ما عليه في شيء يأخذه منه وإن لم يكن حالاً. اهـ. وفي الحطاب: والكتابة الحالة تسمى بالقطاعة. قاله ابن رشد في اللباب ونصه: قال الأستاذ أبو بكر: وظاهر قول مالك أن التأجيل شرط في الكتابة. قال علماؤنا: النظارة يجيزون الكتابة الحالة ويسمونها القطاعة. وتطلق القطاعة أيضًا على ما يفسخ السيد في كتابة العبد. قال في التنبيهات: والقطاعة بفتح القاف وكسرها أيضًا هي مقاطعة السيد عبده المكاتب على مال بتعجله من ذلك، وأخذ العوض منه معجلاً أو مؤجلاً، وكأنه ما انقطع طلبه عنه بما أعطاه وانقطع له بتمام حريته بذلك، أو قطع بعض ما كان له عنده من جملته، وهذا جائز عند مالك وابن القاسم بكل ما كان، وبما لا يجوز بين رب المال وغريمه، عجل العتق لقبض جميعه أو أخره لتأخير بعضه، عجل قبض ما قاطع عليه أو أخره، وسحنون لا يجيزها إلا بما يجوز بين الأجنبي وغريمه. اهـ. قال رحمه الله تعالى: (وإذا أسلم مكاتب الذمي، فإن نجزه وإلا بيعت عليه من مسلم)، يعني إذا أسلم مكاتب الذمي فإن نجز عتقه فذلك وإلا بيعت عليه الكتابة لمسلم. قال خليل: ومضت كتابة الكافر لمسلم وبيعت كأن أسلم. قال في التهذيب: إذا كاتب النصراني عبدًا له مسلمًا ابتاعه أو كان عبده أو أسلم مكاتب له فإن كتابته تباع من مسلم، ثم قال: وإذا أسلم أحد مكاتبي الذمي في كتابة واحدة بيعت كتابتهما جميعًا ولا تفرق.

انظر التهذيب فالمسألة فيه مبسوطة ومبينة. اهـ. كما في المواق. قال رحمه الله تعالى: (ومن أوصى له بكتابته جعل في الثلث الأقل من قيمته أو قيمتها وأحكامه كالعبد)، يعني كما قال مالك في الموطأ في رجل كاتب عبده عند موته: إنه يقوم عبدًا، فإن كان في ثلثه سعة لثمن العبد جاز ذلك. قال: وتفسير ذلك أن تكون قيمة العبد ألف دينار فيكاتبه سيده على مائتي دينار عند موته فيكون ثلث مال سيده ألف دينار فذلك جائز له، وإنما هي وصية أوصى له بها في ثلثه، فإن كان السيد قد أوصى لقوم بوصايا وليس في الثلث فضل عن قيمة المكاتب بدئ بالمكاتب؛ لأن الكتابة عتاقة، والعتاقة تقدم على الوصايا، ثم تجعل تلك الوصايا في كتابة المكاتب يتبعونه بها، ويخير ورثة الموصي، فإن أحبوا أن يعطوا أهل الوصايا وصاياهم كاملة وتكون كتابة المكاتب لهم فذلك لهم، وإن أبوا وأسلموا المكاتب وما عليه إلى أهل الوصايا فذلك لهم؛ لأن الثلث صار في المكاتب، ولأن كل وصية أوصى بها أحد فقال الورثة: الذي أوصى به صاحبنا أكثر من ثلثه وقد أخذ ما ليس له، فقال: فإن ورثته يخيرون فيقال لهم: قد أوصى صاحبكم بما قد علمتم، فإن أحببتم أن تنفذوا ذلك لأهله على ما أوصى به الميت، وإلا فأسلموا لأهل الوصايا ثلث مال الميت كله. قال: فإن أسلم الورثة المكاتب إلى أهل الوصايا كان لأهل الوصايا ما عليه من الكتابة، فإن أدى المكاتب ما عليه من الكتابة أخذوا ذلك في وصاياهم على قدر حصصهم، وإن عجز المكاتب كان عبدًا لأهل الوصايا لا يرجع إلى أهل الميراث؛ لأنهم تركوه حين خيروا؛ لأن أهل الوصايا حين أسلم إليهم ضمنوه، فلو مات لم يكن لهم على الورثة شيء، وإن مات المكاتب قبل أن يؤدي كتابته وترك مالاً هو أكثر مما عليه فماله لأهل الوصايا، وإن أدى المكاتب ما عليه عتق ورجع ولاؤه إلى عصبة الذي عقد كتابته. اهـ. الموطأ. ولما أنهى الكلام على ما تعلق بالكتابة وأحكامها انتقل يتكلم على ما يتعلق بمسائل التدبير والمدبر فقال رحمه الله تعالى:

فصل في التدبير والمدبر

فَصْلٌ في التدبير والمدبر أي في بيان ما يتعلق بأحكام التدبير والمدبر، والتدبير لغة: النظر في عاقبة الأمر والتفكير فيه، وعرفًا: تعليق السيد المكلف الرشيد عتق رقيقه على موته، كأن يقول لعبده: إذا أقبلت على الله وأدبرت عن الدنيا فأنت حر، وحكمه أنه مستحب، دل على مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: {وافعلوا الخير} [الحج: 77] ونحوه، وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يباع المدبر ولا يوهب وهو حر من الثلث))، وأما الإجماع فقد انعقد إجماع الأمة على أنه قربة، فقال رحمه الله تعالى: (من قال لعبده: أنت مدبر أو دبرتك أو أنت حر عن دبر مني عتق بموته من ثلثه أو محمله)، يعني أي مكلف رشيد مالك وإن زوجة قال لعبده أو لأمته: أنت مدبر أو أنت حر عن دبر مني أو دبرتك فإنه يعتق بمجرد موته من ثلث ماله أو ما حمله الثلث، فإن لم يحمل الثلث إلا بعضه عتق قدر ما حمله ورق الباقي. قال الدردير: لأن التدبير إنما يخرج من الثلث، فإذا كانت قيمته خمسة وترك سيده خمسة ولا دين على سيده فثلث التركة ثلاثة وثلث هي قيمة ثلثي المدبر فيعتق ثلثاه ويرق ثلثه. اهـ. قال في الرسالة: والتدبير أن يقول الرجل لعبده: أنت مدبر أو أنت حر عن دبر مني، ثم لا يجوز له بيعه، وله خدمته وله انتزاع ماله ما لم يمرض، وله وطؤها إن كانت أمة. اهـ. قال رحمه الله تعالى: (فإن لم يترك غيره عتق ثلثه)، يعني أن السيد إذا دبر عبده وليس له مال غيره، فإذا مات عتق ثلث العبد، قال مالك في رجل دبر غلامًا له فهلك السيد ولا مال له إلا العبد المدبر وللعبد مال قال: يعتق ثلث المدبر، ويوقف ماله بيديه. اهـ. قال رحمه الله تعالى: (فلو بعضه سرى في جميعه)، يعني لو دبر بعض العبد فإن

التدبير يسري في جميعه. قال في الرسالة: ومن أعتق بعض عبده استتم عليه، أي لأن العتق يسري في جميع العبد المعتوق كما يسري في المدبر وغيره. قال شارحها: يعني أن من أعتق جزءًا ولو يدًا أو رجلاً من عبده الذي يملك جميعه، فإن الباقي يعتق عليه بالحكم. ويشمل القن المحض والمدبر والمعتق إلى أجل وأم الولد والمكاتب؛ لأنه عبد ما بقي عليه درهم كما تقدم، وإنما يلزم ذلك إذا كان المعتق مسلمًا مكلفًا رشيدًا لا دين عليه يرد العبد أو بعضه. وأما لو أعتق الكافر عبده الكافر فله الرجوع فيه إلا أن يسلم أحدهما أو يبين العبد عن سيده. اهـ. النفراوي بتوضيح. قال رحمه الله تعالى: (ولو كان مشتركًا خير الشريك بين التقويم والمقاومة، فإن صار له رق وإن صار للمدبر سرى)، يعني كما قال مالك في الموطأ والمدونة في العبد يكون بين الرجلين فيدبر أحدهما حصته: إنهما يتقاومانه فإن اشتراه الذي دبره كان مدبرًا كله، وإن لم يشتره انتقض تدبيره، إلا أن يشاء الذي بقي له فيه الرق أن يعطيه شريكه الذي دبره بقيمته، فإن أعطاه إياه بقيمته لزمه ذلك وكان مدبرًا كله. اهـ. راجع شرح الباجي عليه. قال رحمه الله تعالى: (وليس له نقضه إلا أن يستغرقه أو بعضه دين فيباع منه ما يقابله)، يعني ليس للسيد نقض التدبر إذا دبر عبده، إلا أن يستغرق الدين قيمة المدبر فيباع له. قال في القوانين: وليس للسيد الرجوع في التدبير، بخلاف الوصية بالعتق فله الرجوع فيها. ثم قال في آخر الباب: ويبطل التدبير بقتل المدبر لسيده عمدًا أو باستغراق الدين له وللتركة. اهـ. ومثله في أقرب المسالك تبعًا لما في المختصر، وقال شارحه الخرشي: يعني أن المدبر إذا قتل سيده عمدًا عدوانًا لا في باغية فإن تدبيره يبطل إن استحياه الورثة، أما لو قتل سيده خطأ، فإن تدبيره لا يبطل، ويعتق في مال سيده الذي تركه، ولم يعتق في الدية وهي دين عليه ليس على العاقلة منها شيء؛ لأنه إنما صنع ذلك وهو مملوك ولا تحمل على عاقلته. وكذلك يبطل التدبير أيضًا

باستغراق الدين للمدبر وللتركة، كما لو ترك السيد عشرة مثلاً وقيمة المدبر خمسة وعليه دين خمسة عشر فقط استغرق الدين للمدبر وللتركة؛ لأن الدين مقدم على ما يخرج من الثلث، وظاهره سواء كان الدين سابقًا على التدبير أو لاحقًا له، وهو واضح إذا قام الغرماء بعد موته السيد، وأما إن قاموا في حياته فإن كان الدين سابقًا على التدبير فإنه يباع للغرماء، وإلا فلا كما في المدونة. وكذلك يبطل بعض التدبير بسبب مجاوزته لثلث السيد، كما لو ترك السيد عشرة وقيمة المدبر عشرة فثلث التركة ستة وثلثان هي قيمة ثلثي المدبر فيعتق ثلثاه ويرق ثلثه. اهـ. قال رحمه الله تعالى: (وله مقاطعته ومكاتبته، فإن أدى تعجل عتقه وإلا بقي مدبرًا. وله استخدامه وانتزاع ماله ما لم يمرض مرض الموت ويتبع الحامل ولدها)، يعني للسيد أن يقاطع المدبر بشيء معلوم يتعجل أداءه حالاً أو يتأخر به، فإن عجله عتق وإلا بقي كما هو مدبرًا. وأيضًا للسيد أن يكاتب المدبر إن علم فيه خيرًا وقدر على أداء النجوم كما تقدم، وله استخدامه. قال ابن جزي: ويجوز له وطء مدبرته عند الجمهور، بخلاف المكاتبة، وله أن يستخدم المدبر والمكاتب ويؤاجرهما. وقال أي ابن جزي في مال المدبر: أما في حياة سيده فهو لسيده وله انتزاعه منه ما لم تحضر الوفاة أو يفلس، وليس لغرمائه أخذ ماله، وأما بعد وفاة السيد فيقوم ماله معه كأنه جزء منه، ويسمى مجموع قيمته وما له من الثلث حسبما تقدم، فيأخذ منه ماله مقدار ما يعتق من رقبته حسبما ذكرنا. اهـ. القوانين. قال رحمه الله تعالى: (ويؤجر مدبر الذمي يسلم من مسلم وقيل يباع)، يعني كما قال مالك في الموطأ في رجل نصراني دبر عبدًا له نصرانيًا فأسلم العبد قال مالك: يحال بينه وبين العبد ويخارج على سيده النصراني ولا يباع عليه حتى يتبين أمره فإن هلك النصراني وعليه دين قضى دينه من ثمن المدبر إلا أن يكون في ماله ما يحمل الدين

فصل في أم الولد

فيعتق المدبر. اهـ. قال الشارح: وهذا على ما قال: إن النصراني إذا دبر عبده النصراني ثم أسلم العبد فإنه انتهى إلى حكم بين مسلم ونصراني ينظر فيه على حكم الإسلام، ولا يجوز بيع المدبر فيلزم نماؤه على حكم التدبير لكنه تزال يد السيد عنه ويخارج له؛ لأن الذي بقي له فيه منافعه، فيمنع من مباشرة استيفائها ويباع من غيره من المسلمين فيستوفيها ويدفع إليه ثمنها، فإن مات النصراني عن دين يستغرق ماله بيع المدبر وقضي منه دينه، وإن لم يكن عليه دين أعتق في ثلثه أو ما حمل منه ثلثه على حسب ما يفعل لو كان السيد مسلمًا لا فرق بينهما إلا في إزالة يده عنه ومنعه من استخدامه. والله أعلم وأحكم. اهـ. انظر المنتقى للباجي. ولما أنهى الكلام على ما تعلق بمسائل التدبير والمدبر انتقل يتكلم على ما يتعلق بأحكام أم الولد فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في أم الولد أي في بيان ما يتعلق بأحكام الأمة التي استولدها سيدها وتسمى أم ولد لإتيانها به من سيدها. قال العلامة الدردير: أم الولد هي الحرة حملها من وطء مالكها. وقال الصاوي في حاشيته عليه: وأم الولد في اللغة: عبارة عن كل من لها ولد وهي في استعمال الفقهاء: خاصة بالأمة التي ولدت من سيدها الحر. اهـ. قال رحمه الله تعالى: (تعتق المستولدة بالموت من رأس المال وإن كان مدينًا ولم يترك غيرها أو استولدها بعد استدانته أو وضعت غير مخلق)، يعني كما قال في أقرب المسالك: وتعتق من رأس ماله إن أقر بوطئها ووجد الولد أو ثبت إلقاء علقة ففوق ولو بامرأتين. وفي الرسالة: وكل ما أسقطته مما يعلم أنه ولد فهي به أم ولد. قال في القوانين: فمن وطئ أمته فحملت صارت له أم ولد، سواء وضعته كاملاً أو مضغة أو

علقة أو دمًا إذا علم أنه حمل. وقال أشهب: لا تكون أم ولد بالدم المجتمع، ويرد قول أشهب أن يقال: بأن المراد بالدم المجتمع هو الذي يسمى علقة إذا صب عليه الماء الحار لا يذوب بل يزيد تجمدًا، وهذا معنى قوله: أو وضعت غير مخلق كما سبق آنفًا، وهو معنى قول الرسالة: وكل ما أسقطته مما يعلم أنه ولد فهي به أم ولد فتأمل. اهـ بمعناه. قال رحمه الله تعالى: (ولا يجوز له إخراجها عن ملكه بغير العتق وله الاستمتاع بها والاستخدام الخفيف)، يعني أنه لا يجوز للسيد أن يبيع أم ولده، ولا أن يهبها ولا أن يفعل بها شيئًا مما يؤدي إلى خروجها عن ملكه إلا العتق، وفي الرسالة: فله أن يستمتع منها في حياته وتعتق من رأس ماله بعد مماته، ولا يجوز بيعها ولا له عليها خدمة ولا غلة، وله ذلك في ولدها من غيره، وهو بمنزلة أمه في العتق يعتق بعتقها. اهـ. وحاصل ما نقل عن عياض، رضي الله عنه، أنه قال: لأم الولد حكم الحرائر في ستة أوجه، وحكم العبيد في أربعة أوجه. فأما الستة فلا خلاف عندنا أنهن لا يبعن في دين ولا غيره ولا يرهن ولا يوهبن ولا يؤجرن (¬1) ولا يسلمن في جناية ولا يستسعين، وأما الأربعة: فانتزاع أموالهن ما لم يمرض السيد، وإجبارهن على النكاح على قول، واستخدامهن لكن في خفيف الخدمة فيما لا يلزم الحرة، والاستمتاع بهن وله أرش الجناية عليهن. وزيد على ذلك: عدم شهادتهن، وحدهن نصف حد الحرة وعدم إرثهن وعدم القيم لهن في المبيت اهـ. نقله النفراوي. قال رحمه الله تعالى: (ولو اشترى زوجته بعد وضعها لم تكن به أم ولد)، يعني أن الزوج لو اشترى زوجته بعد وضعها من حملها منه لا تكون بذلك الوضع أم ولد له؛ لأنه قبل الشراء، أما لو اشتراها وهي حامل منه لكانت به أم ولد. قال ¬

(¬1) أي إلا برضاهن، قاله خليل في المختصر.

خليل: مشبه بها كاشتراء زوجته حاملاً لا بولد سبق. قال ابن شرد: اختلف قول مالك فيمن تزوج أمة ثم اشتراها وهي حامل، فمرة قال: إنها تكون أم ولد؛ لأنه عتق عليه وهو في بطنها، وهو مذهب ابن القاسم، وأكثر أصحاب مالك، وبه العمل كما في أقرب المسالك، وأما لو وضعت قبل الشراء فلا تكون به أم ولد، وإليه أشار خليل بقوله: لا بولد سبق. وفي المدونة: إن اشترى زوجته وقد كانت ولدت منه قبل الشراء لم تكن به أم ولد، إلا أن يشتريها حاملاً منه اهـ. نقله المواق. انظر الخرشي. قال رحمه الله تعالى: (وفي أمة المكاتب والمدبر روايتان)، فالمشهور صيرورتهما أم ولد بوطء سيد المكاتب والمدبر إن حملتا. قال الدردير: أو حمل من وطء شبهة إلا أمة مكاتبه فتكون له أم ولد، أي من وطئ أمة عبده المكاتب فحملت منه فإنها تكون أم ولد للواطئ ولا حد عليه للشبهة، ويغرم قيمتها لمكاتبه، وتعتبر قيمتها يوم الحمل، فإن لم تحمل فلا يملكها ولا يغرم لها قيمة. اهـ. بطرف من الصاوي. قال رحمه الله تعالى: (وفي إسلام مستولدة الذمي يعرض عليه الإسلام فإن أبى فهل تعتق أم تباع عليه؟ روايتان)، والصحيح أنها تعتق ولا تباع، ويكون ولاؤها لجميع المسلمين، إلا أن يسلم سيدها بعد ذلك فيرجع إليه ولاؤها. قال مالك في المدونة في مكاتب الذمي إذا أسلم فأدى كتابته: إن ولاء للمسلمين، فإن أسلم سيده بعد ذلك رجع إليه ولاؤه؛ لأنه عقد كتابته وهو على دينه، فكذلك أم الولد. اهـ. قال الباجي في شرحه على الموطأ: مسألة: ولو أسلم عبد لنصراني فدبره النصراني ففي المزنية من رواية عبد الرحمن بن دينار، عن أبي حازم: يباع عليه ولا ينفعه تدبيره؛ لأنه لا يجوز ملكه حين أسلم. وروى عيسى، عن ابن القاسم: لا يباع عليه ويحال بينه وبينه ويخارج عليه، وإخراجه من يده يقوم مقام بيعه عليه، وإبقاؤه على حكم العتق أفضل من بيعه؛ لأن ذلك رد له

إلى الرق، فإن مات النصراني وخرج من ثلثه عتق عليه، وإن ترك دينًا يغترقه بيع وقضي منه بثمنه، وكان بيعه الآن كبيعه يوم دبره، والله أعلم وأحكم. اهـ. قال رحمه الله تعالى: (وأحكامها أحكام الأرقاء مدة حياة السيد، والله أعلم)، يعني كما في القوانين لابن جزي لأنه عقد فيه فصلاً شاملاً في الكلام على أم الولد وأحكامها في حياة سيدها، بعد مماته على مشهور المذهب وبعض ما ذهب إليه الأئمة، فقال: أما في حياة السيد فأحكامها أحكام المملوك في منع الميراث وفي الحد في الزنا وغير ذلك، ولسيدها وطؤها إجماعًا، ولا يجوز له استخدامها إلا في الشيء الخفيف، ولا مؤاجرتها خلافًا للشافعي، ولا يجوز له بيعها عند الجمهور وفاقًا لعمر وعثمان، رضي الله عنهما، وأجازه الظاهرية وفاقًا لأبي بكر وعلي، رضي الله عنهما، وإن جنت جناية لم يسلمها كما يسلم الأمة بل يفكها بالأقل من أرش الجناية أو قيمة رقبتها، وأما إذا مات السيد عتقت أم ولده من رأس ماله، وإن لم يترك مالاً غيرها، ولحقت بالأحرار في الميراث والحد والجناية وغير ذلك. اهـ. والله أعلم. ولما أنهى الكلام على ما تعلق بأحكام أم الولد انتقل يتكلم على أحكام الوصايا وما يتعلق بمسائلها، فقال رحمه الله تعالى:

كتاب الوصايا

كتاب الوصايا أي في بيان ما يتعلق بأحكام الوصية، والوصايا جمع وصية، بفتح الياء المشددة، وفي لغة: الوصل، وعرفًا عقد يوجب حقًا في ثلث مال عاقده يلزم بموته أو نيابة عنه بعده. وعرفها ابن عرفة بقوله: هي في عرف الفقهاء لا الفُراض: عقد يوجب حقًا في لثلث عاقده يلزم بموته أو نيابة عنه بعده، فما يوجب حقًا في رأس ماله مما عقده في صحته لا يسمى وصية، كما خرج ما يلزم بدون الموت كالتزام من لا حجر عليه بشيء من ماله لشخص، وزاد قوله: أو نيابة، عطفًا على حقًا ليدخل الإيصاء بالنيابة عن الميت، وأما الوصية عند الفراض فهي: عقد يوجب حقًا في ثلث عاقده فقط، فالوصية عند الفقهاء أعم من الوصية عند الفرائض؛ لأن الوصية عند الفراض مقصورة على الإيصاء بما فيه حق، وأما عند الفقهاء فتنوع إلى وصية نيابة عن الموصي، كالإيصاء على الأطفال وعلى قبض الديون وتفرقة التركة. والنوع الثاني: أن يوصي بثلث ماله للفقراء أو بعتق عبده أو قضاء دينه، وتعريف ابن عرفة مشتمل على النوعين. اهـ. النفراوي. قال في أقرب المسالك: الوصية مندوبة أي ولو لصحيح؛ لأن الموت ينزل فجأة، ويعرض لها بقية الأحكام لما فيها من زيادة الزاد للميت. اهـ. انظر حاشية الصاوي عليه، وأركانها أربعة: فهي الموصي بالكسر، والموصى به، والموصى له بفتحتين، والصيغة. وعدها ابن جزي ثلاثة بقوله في القوانين: أركان الوصية ثلاثة، وأسقط الصيغة. قال: الأول: الموصي وهو كل مالك حر مميز، فلا تصح من العبد ولا المجنون إلا حال إفاقته، ولا من الصبي غير المميز، وتصح من الصبي المميز إذا عقل القربة، ومن السفيه ومن الكافر، إلا أن يوصي بخمر أو خنزير لمسلم. الركن الثاني: الموصى له، وهو كل من يتصور له الملك من كبير أو صغير حر أو عبد، سواء كان موجودًا أو منتظر الوجود كالحمل، إلا الوارث، فلا تجوز له اتفاقًا، فإن أجازها سائر الورثة جازت عند الأربعة، وإذا مات الموصى له

قبل الموصي بطلت الوصية، ويشترط قبول الموصى له إذا كان فيه أهلية للقبول كالهبة. الركن الثالث: الموصى به وهو خمسة أقسام: الأول: يجب على الورثة تنفيذه وهو الوصية بقربة واجبة كالزكاة والكفارات، أو مندوبة كالصدقة والعتق، وأفضلها الوصية للأقارب. والثاني: اختلف هل يجب تنفيذه أم لا؟ وهو الوصية بما لا قربة فيه كالوصية ببيع شيء أو شرائه. الثالث: إن شاء الورثة أنفذوه أو ردوه وهو نوعان: الوصية لوارث، والوصية بأكثر من الثلث. الرابع: لا يجوز تنفيذه وهو الوصية بما لا يجوز كالنياحة وغيرها. الخامس: يكره تنفيذه وهو الوصية بمكروه. اهـ. ابن جزي. ثم نرجع إلى ما نحن بصدده. قال رحمه الله تعالى: (وتثبت الوصية بالموت من الثلث)، يعني أن الوصية تثبت بموت الموصي، ولا تصح إلا من الثلث. قال في الرسالة وغيرها: والوصايا خارجة من الثلث (¬1)، ويرد ما زاد عليه إلا أن يجيزه الورثة فتجوز إذا كانوا بالغين رشداء فتكون الإجازة ابتداء عطية منهم؛ لأن الحق انتقل لهم، وإن أجاز البعض دون البعض مضت حصة المجيز وردت حصة الممتنع له. اهـ. النفراوي. قال ابن جزي: إذا أجاز الورثة الوصية بالثلث لوارث أو بأكثر من الثلث بعد موت الموصي لزمهم، فإن أجازوها في صحته لم تلزمهم، فإن أجازوها في مرضه لزمت من لم يكن من عياله دون من كان تحت نفقته. اهـ. قال رحمه الله تعالى: (وله الرجوع)، يعني أن للموصي الرجوع عن وصيته إذا أراد أن يرجع عنها، سواء كان رجوعه في الصحة أو في المرض. قال ابن جزي في الفروع: للموصي أن يرجع عن وصيته في صحته ومرضه إلا عن التدبير. اهـ. قال الدردير في أقرب المسالك عاطفًا في مبطلات الوصية: وبرجوع فيها وإن بمرض بقول أو عتق ¬

(¬1) تنبيه) الوصية بالثلث من خصائص هذه الأمة، قاله النفراوي.

وإيلاد وتخليص حب زرع ونسج غزل وصوغ معدن وذبح حيوان وتفصيل شقة كأن قال: إن مت من مرضي أو سفري هذا ولم يمت إلا أن يكتبها وأخرجه ولم يسترده فإن رده بطلت. اهـ. قال مالك: فالأمر عندنا الذي لا اختلاف فيه أنه يغير من ذلك ما شاء غير التدبير. اهـ. الموطأ. قال رحمه الله تعالى: (وشراء ولده بجميعه ليعتق ويرثه) معطوف على الرجوع، فالمعنى: وله شراء أي وللموصي بالكسر شراء ولده بجميع ما يوصي به وهو الثلث، وإذا اشتراه بالثلث فإنه يعتق بالشراء ويرثه. قال خليل: وللمريض اشتراء من يعتق عليه بثلثه ويرث. قال الحطاب: احترز بقوله: بثلثه، مما إذا اشترى بأكثر من الثلث. قال ابن عرفة: وفيها، أي المدونة: من اشترى ابنه في مرضه جاز إن حمله الثلث، نقله الصقلي عن محمد بن المواز، وإن اشترى بأكثر من ثلثه وعتق وورث باقي المال إن انفرد وحصته مع غيره، وإن عتق مع ذلك عبده بدأ بالابن وورثه إن حمله الثلث. ونقل عنه أيضًا: إن اشتراه بأكثر من ثلثه عتق منه محمل الثلث ولم يرثه. وفي سماع ابن القاسم مثله، وفيه إن لم يحمله الثلث عتق منه محمله ورق ما بقي للورثة، فإن كان الورثة ممن يعتق عليهم عتق ما بقي عليهم. اهـ. انظر الحطاب. قال رحمه الله تعالى: (ويوقف الزائد على إجازة الورثة ولوارث يوقف الجميع)، يعني أنه إذا أوصى بأكثر من ثلث ماله يرد ما زاد على الثلث إلى الورثة إلا أن يجيزوا تلك الزيادة، وكذلك يوقف جميع ما يوصى به، سواء كان ثلثًا أو أكثر أو أقل إذا كانت الوصية لوارث حتى يجيزها الورثة أو يردوها؛ لأنه لا وصية لوارث. والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث))، رواه الأربعة إلا النسائي، وهو حديث حسن. وفي رواية عن ابن عباس بزيادة: إلا أن يشاء الورثة. ورواه أحمد أيضًا بإسناد حسن. والحاصل: أن الورثة

مخيرون في تنفيذ الوصية أو ردها، وذلك في موضعين هما: الوصية لوارث، والوصية بأكثر من ثلث مال الموصي، والورثة مخيرون في هاتين الصورتين، فإن أجازوا فعطية منهم وإلا فجميع المال لجميع الورثة على فريضة الله تعالى التي فرض لكل وارث في كتابه العزيز، هذا حاصل كلام المصنف في هذه المسألة، والله أعلم. ثم قال رحمه الله تعالى عاطفًا على ما يلزم من الثلث بقوله: (والحج والزكاة كغيرهما إلا زكاة عامه يموت قبل التمكن فتلزم من رأس ماله)، يعني أنه قد أشار رحمه الله تعالى ببعض ما يلزم إخراجه من الثلث في الوصايا، كما يلزم تقديم بعضها على بعض عند ضيق الثلث، وأشار العلامة خليل لذلك مبينًا مرتبًا بقوله: وقدم لضيق الثلث: فك الأسير الذي أوصى بفدائه، ثم مدبر الصحة، ثم صداق المريض، ثم زكاة أوصى بها إلا أن يعترف بحلولها ويوصي فمن رأس المال كالحرث والماشية وإن لم يوص ثم زكاة الفطر، ثم عتق ظهار وقتل وأقرع بينهما إن لم يسعهما ثم كفارة يمين، ثم كفارة فطر رمضان، ثم كفارة التفريط في قضائه، ثم النذر، ثم العتق المبتل في المرض والمدبر فيه، ثم الموصى بعتقه معينًا عنده أو يشترى أو لكشهر أو بمال فعجله ثم الموصى بكتابته والمعتق بمال والمعتق لأجل بعد ثم المعتق لسنة ثم المعتق لأكثر منها ثم عتق لم يعين ثم حج إلا لصرورة فيتحاصان، أي عتق غير المعين وحج الصرورة، وشبه في التحاصص فقال: كعتق لم يعين ومعين غيره وجزئه أي جزء من مال الموصي كثلثه، فهذه الثلاثة في مرتبة واحدة فتتحاصص في الثلث إذا ضاق عنها، ولا يقدم أحدهم على الآخر. اهـ. النفراوي مع طرف من الإكليل. فإن أردت أن تقنع بمسألة الجزء فراجع القوانين، فإن مصنفه قد عقد فيه فصلاً مستقلاً تضمن بيان وصية بجزء وفيه كفاية بذلك إن شاء الله تعالى. قال رحمه الله تعالى: (فلو ضاق عن الوصايا قسم بالحصاص)، يعني كما في الرسالة وهو قولها: وإذا ضاق الثلث تحاص أهل الوصايا التي لا تبدئة فيها. قال شارحها:

والوصايا التي لا تبدئة هي التي لم يرتبها الموصي ولا الشارع، كأن يوصي لشخص بنصف ماله مثلاً وللآخر بثلثه، وإن أجاز الورثة الوصيين فلا إشكال في أخذ أحدهما نصفه والآخر ثلثه؛ لأن مقام النصف من اثنين والثلث من الثلاثة وهما متباينان، فيضرب أحدهما في الآخر بستة. هذا حاصل مخرج الوصيتين، لصاحب النصف ثلاثة ولصاحب الثلث اثنان والباقي واحد للورثة، وإن لم تجز الورثة الزائد اقتسما الثلث على النصف والثلث وهما متباينان، ومقامهما من ستة، لصاحب النصف ثلاثة ولصاحب الثلث اثنان وذلك خمسة: وهي المحاصة فاجعلها ثلث المال يكون المال خمسة عشر: خمسة للموصى لهم: للموصى له بالنصف ثلاثة، والموصى له بالثلث اثنان، وتبقى عشرة لأهل الفريضة، وكأن يوصي لرجل بنصف ماله ولآخر بربعه، فإنك تأخذ مقام النصف ومقام الربع تنظر بينهما فتجدهما متداخلين فتكتفي بالأربعة فتأخذ نصفها وربعها فيكون المجموع ثلاثة تقسم بينهما على ثلاثة أسهم، لصاحب الربع سهم وللآخر سهمان. وإن أوصى لشخص بثلث ماله ولآخر بربعه فالثلث بينهما على سبعة أسهم: لصاحب الثلث أربعة ولصاحب الربع ثلاثة على هذا القياس: ومما يقع فيه التحاصص: النذر ومبتل المريض إذا ضاق الثلث عن حملها، بخلاف ما إذا ضاق الثلث عن كفارة الظهار والقتل فإنهما لا ترتيب بينهما ولا يتحاصان وإنما يقرع بينهما، بخلاف غيرهما من متحدي الرتبة؛ لأن تقديم أحدهما على غيره ترجيح بلا مرجح، وعدم التحاصص لأن الكفارة لا تتبعض بخلاف ما سبق اهـ. النفراوي. قال رحمه الله تعالى: (وبمؤيد معها كمصباح في المسجد يضرب له بالثلث)، والضمير في معها عائد على الوصايا، يعني كما قال ابن عرفة نقلاً عن المدونة: ونصها من أوصى بشيء يخرج كل يوم إلى غير أمد من إضاءة مسجد وسقاء ماء أو خبز كل يوم بكذا أبدًا وأوصى مع ذلك بوصايا فإنه يحاصص لهذا المجهول بالثلث وتوقف له حصة، وأكثرهم لم يحك فيه خلافًا. وقال المواق نقلاً عن ابن الحاجب: إن كان في الوصية

مجهول كوقود مصباح على الدوام أو تفرقة خبز ونحوه ضرب له بالثلث ووقف حصته ثم ذكر نص المدونة كما تقدم اهـ. قاله عند قول خليل: وضرب لمجهول فأكثر بالثلث وهل يقسم على الحصص؟ قولان اهـ. قال رحمه الله تعالى: (ولزيد بنفقة عمره يعمر تمام سبعين ويعد له نفقته فينفق عليه فإن مات قبل استكمالها ففي ضيق الثلث عن الوصايا يعاد الباقي عليهم بالحصاص وإلا عاد ميراثًا)، هذه الجملة معطوفة على قسم بالحصاص، فالمعنى لو ضاق الثلث لأهل الوصايا وقد أوصى موص بنفقة زيد عمره فإنه يضرب له نفقة ما يعمر مثله من ثلث مال الموصي يقدر له نفقة تمام سبعين سنة من يوم موت الموصي إلى تمام عمر الموصى له، وإن مات قبل استكمال ما وقف له ففي ضيق الثلث يعاد الباقي إلى أهل الوصايا يقسمونه بالحصاص وإلا عاد ميراثًا اهـ. بمعناه. قال رحمه الله تعالى: (وبمثل نصيب ابنه بالكل أو أحد ابنيه بالنصف وقيل: يجعل كابن زائد وبمثل نصيب أحد ورثته وهم مختلفون يقسم على عدد رؤوسهم فيعطى سهمًا)، يعني كما في الدردير ونصه: وإن أوصى لشخص بنصيب ابنه بأن قال: أوصيت لزيد بنصيب ابني أو بمثله بأن قال: أوصيت لزيد بمثل نصيب ابني فإن لم يكن له إلا ابن فيأخذ الموصى له جميع تركة الميت الموصي إن أجاز الابن الوصية، وإلا فللموصى له ثلث التركة فقط، فإن قال ذلك ومعه ابنان فيأخذ نصف التركة إن أجازا وإلا فالثلث ولا كلام لهما، وإن زادوا فله قدر نصيب واحد ولا كلام لهم، فإن كان مع الابن ذو فرض فللموصى له جميع التركة بعد ذوي الفروض إن أجاز. قال الصاوي في حاشيته عليه: وحاصله أنه إن مات الموصي لزيد بنصيب ابنه وترك صاحب فرض كزوجة مثلاً فإن كان معه ابن وأجاز كانت السبعة الأثمان للموصى له، وإن لم يجز أخذ ثلث التركة، وإن كان معه ابنان كان له نصف ما بقي بعد الفرض إن أجاز وإلا فله ثلث التركة،

فإن زادوا كان له مثل نصيب أحدهم أجازوا أو لا. ولذا قيل: وقدر زائدًا في اجعلوه وارثًا معه وألحقوه أو نزلوه منزله أو من عداد ولدي فإن الموصى له يقدر زائدًا على ذريته، فتكون التركة نصفين إن كان له ابن واحد وأجاز، وإلا فالثلث للموصى له، فإن كان للموصي ابنان فللموصى له الثلث أجازا أم لا، ولو كانوا ثلاثة فهو كرابع وهكذا، فلو كان مع الذكور إناث فهو كذكر، فلو كانت الوصية لأنثى لكان لها مثل أنثى من بناته اهـ. قال رحمه الله تعالى: (وبسهم أو جزء مجهول أو نصيب، فقيل: الثمن، وقيل: السدس، وقيل: سهم من تصحيحها ولا يتجاوز الثلث)، يعني كما في الموافق نقلاً عن سماع عيسى بن القاسم: من مات وقد قال: لفلان جزء من مالي أو سهم منه أعطي من أصل فريضتهم سهمًا إن كانت من ستة فسهم منها، وإن كانت من أربعة وعشرين فسهم منها، وإنا كان ورثته ولده فإن ترك ذكرًا وأنثى فله الثلث، وإن ترك ذكرًا وأنثيين فله الربع، وإن لم يكن له وارث فسهم من ستة. وقال أشهب: سهم من ثمانية ابن رشد وقول أشهب أظهر ابن يونس، وإن لم يترك إلا ابنة أو من لا يحوز الميراث فإن له سهمًا من ثمانية؛ لأنه أقل سهم سماه الله تعالى لأهل الفرائض. اهـ. انظر الحطاب. قال رحمه الله تعالى: (وبألف فتلف المال سواها له ثلثها وبجزء مسمى له مسماه من الباقي)، يعني إذا أوصى شخص بشيء معين كألف درهم أو غيره لفلان فتلف المال كله بطلت الوصية، فإن بقي منها ألف فقط فللموصى له ثلثها، وإن سمى جزءًا كالربع مثلاً فتلف المال فللموصى له مسماه من الباقي. قال خليل: وإن لم يبق إلا ما سماه فهو له إن حمله الثلث. قال رحمه الله تعالى: (وبمعين ما بقي منه وبثيابه ما مات عنها)، يعني أن الوصية بالشيء المعين تؤخذ من الباقي إن بقي منها قدر ما يوصى به كما تقدم آنفًا، فإذا أوصى له بثيابه فالعبرة بالثياب التي مات عنها.

قال رحمه الله تعالى: (وبثلثه وله مال لا يعلمه له ثلث المعلوم)، يعني كما في القوانين: من أوصى بوصية وله مال يعلم به ومال لا يعلم به فالوصية فيما علم به دون ما لم يعلم به، إلا المدبر في الصحة فهو علم وفيما لم يعلم. اهـ. ومثله في النفراوي. قال رحمه الله تعالى: (وبأحد عبيده أو ماشيته نسبته إلى نوعه بالقيمة)، يعني إن أوصى لشخص بأحد عبيده أو بواحدة من ماشيته فإنه ينظر إلى نوع العبيد أو الماشية فيقوم ذلك ويعطى الموصى له من القيمة، أو يشارك الورثة في ذلك إن لم تمت موصى بها، وإن ماتت بطلت الوصية. قال خليل: وبشاة أو بعدد من ماله شارك بالجزء، إن لم يبق إلا ما سمى فهو له إن حمله الثلث لا ثلث غنمي فتموت، وإن لم يكن له غنم فله شاة وسط، وإن قال: من غنمي ولا غنم له بطلت كعتق عبد من عبيده فماتوا أو لا عبيد له بطلت اهـ. قال في المدونة: من أوصى بعتق عشرة من عبيده ولم يعينهم وعبيده خمسون فمات منهم عشرون قبل التقويم عتق ممن بقي منهم عشرة أجزاء من ثلاثين جزءًا بالسهم خرج عدد ذلك أقل من عشرة أو أكثر، ولو هلكوا إلا عشرة عتقوا إن حملهم الثلث، وكذا من أوصى لرجل بعدد من رقيقه أو بعشرة من إبله. اهـ. نقله المواق وغيره. قال رحمه الله تعالى: (وبمعين لزيد ثم به لعمرو فهو بينهما ما لم تدل أمارة على رجوعه عن زيد)، يعني إن أوصى بشيء معين لرجل معين كزيد ثم أوصى به لعمرو فإنهما يقسمانه ما لم تدل أمارة على رجوعه عن زيد، فإن دلت الأمارة على رجوعه فيكون لعمرو خاصة. وفي القوانين: من أوصى بشيء معين لإنسان ثم أوصى به لآخر قسم بينهما، وقيل: يكون للأول، وقيل: للثاني؛ لأنه نسخ. اهـ. (ولميت يعلمه يصرف في ديونه فإن لم يكن فلورثته)، يعني كما في القوانين ونصه: من أوصى لميت وهو يظنه حيًا بطلت الوصية اتفاقًا، فإن أوصى له بعد علمه بموته صحت وكانت لورثته خلافًا لهما. اهـ. قال خليل: ولميت علم بموته ففي دينه

أو وارثه. قال الخرشي: يعني وكذلك تصح الوصية للميت إن علم الموصي بموته، ويصرف المال الموصى به في دينه إن كان على الميت دين وإلا فهو لوارثه، فإن لم يعلم بموته فإنها لا تصح، إذ الميت لا يصح تملكه إلى أن قال: وبيت المال وارث شرعي فيدفع له حيث لم يكن له وارث ولا عليه دين، قلت: هذا خلاف ما في الدردير فإنه قال: فإن لم يكن عليه دين ولا وارث له بطلت، راجع حاشية الخرشي للعلامة العدوي. اهـ. قال رحمه الله تعالى: (وبحبس ونحوه في مصالحه)، يعني وتصح الوصية بحبس وتصرفها في مصالح أهل الأحباس كما تقدم في الوقف، ونحو الحبس الرباط، وتصرفها لأهلها كالمجاهدين، ومثله القنطرة والمساجد، وتصرف في حصره وقناديله ورمه وغير ذلك، وما زاد فيعطى لخدمته من إمام ومؤذن ونحوهما احتاجوا أم لا. اهـ. الدرير. وعبارة خليل: ولمسجد وصرف في مصلحته. قال المواق نقلاً عن الحاجب: تصح الوصية للمسجد والقنطرة وشبهها؛ لأنه بمعنى الصرف في مصالحهما. قال ابن رشد: الواجب أن يقدم بنيان المسجد ورمه على أجر أئمته وخدمته. اهـ. قال رحمه الله تعالى: (وتصح لقاتله والعفو عن العمد لا الخطأ إلا أن يحمل الثلث الدية أو يجيزها الورثة)، يعني تصح الوصية لقاتله قتل عمد بعد إنفاذ المقتل وقبل زهوق روحه؛ لأنه لا كلام للولي في شأن تلك الحالة ولا لذي دين عليه بخلاف قتل الخطأ فلهما الكلام، فإن أوصى لقاتله خطأ فتكون الوصية في ثلث الدية. قال في الرسالة: وللرجل العفو عن دمه العمد إن لم يكن قتل غيلة وعفوه عن الخطأ في ثلثه. قال الشارح: فإن حملها نفذت قهرًا على الورثة، مثل أن يكون عنده ألفان من الدنانير وديته ألفًا فإن الدية تسقط عن عاقلة القاتل، وإن لم يكن عنده مال سقط عن القاتل مع عاقلته ثلث الدية إلا أن تجيز الورثة الزائد كسائر الوصايا بالمال. اهـ. النفراوي. وإليه أشار خليل عاطفًا فيمن يصح إيصاؤه بقوله: وقاتل علم الموصي بالسبب وإلا فتأويلان. قال المواق

من المدونة: إن أوصى له بعد ضربه وعلم به فإن كانت الضربة خطأ جازت الوصية في المال والدية، وأما في العمد فتجوز في ماله دون الدية؛ لأن قبول الدية كما لم يعلم به. اهـ. ومثله في الإكليل. قال رحمع الله تعالى: (ولقرابته يؤثر الأقرب لا أولاد بناته ولأهله عصابته قال القاضي أبو محمد: الصحيح أن اسم الأهل والقرابة لكل من مسه به رحم)، يعني كما قال خليل: وفي الأقارب والأرحام والأهل أقاربه لأمه إن لم يكن أقارب لأب، والوارث كغيره بخلاف أقاربه هو أي في الدخول، فلو أوصى لأقارب زيد أجنبي أو لأهله أو لذي رحمه فيدخلون كلهم مدخلاً واحدًا، ويستوى في ذلك الوارث وغير الوارث، فيدخل العم للأم والأم؛ لأن الموصي ليس هو المورث، وذلك بخلاف إيصائه لأقاربه هو أي الموصي أو لذي رحمه أو أهله، فلا يدخل وارثه فيهم؛ لأن الشرع حكم بمنع الوصية للوارث، فإذا كان له ولد مثلاً وأعمامه دخل الأعمام وبنوهم ولا يدخل الولد. وإن أوصى للأقارب أو للأرحام أو لأهل له أو لغيره أوثر المحتاج الأبعد في القرابة من غيره، لشدة فقره أو كثرة عياله بالزيادة على غيره لا بالجميع، فالمحتاج الأقرب علم إيثاره بالأولى في كل حال إلا لبيان من الموصي كقوله: أعطوا الأقرب فالأقرب، أو أعطوا فلانًا ثم فلانًا، فيفضل، ويقدم من قدمه الموصي امتثالاً لأمره، وإن لم يكن المقدم أحوج لا يختص بالجميع. قال خليل: وإذا قال: الأقرب فالأقرب يقدم الأخ وابنه على الجد ولا يخص اهـ. الإكليل بتوضيح. وعبارة الخرشي: يعني أنه إذا أوصى لأقارب فلان الأجنبي أو لأرحامه أو لأهله أو أوصى لأقاربه هو أو لأرحامه أو لأهله فإن الأحوج يؤثر ولو كان أجنبيًا. ومعنى الإيثار: أن يزاد له، ولا يختص بالجميع إلا أن يقول: أعطوا فلانًا فإنه يعمل على قوله. ويقدم من قدمه ولو كان غيره أحوج منه، أو يقول: أعطوا الأقرب فالأقرب، فيقدم الأخ وابنه على الجد؛ لأنهما يدليان بالبنوة والجد يدلي بالأبوة وجهة

البنوة أقوى، وإذا قدم الأقرب فإنه يزاد له شيء من الوصية ولا يختص بجميعها اهـ. باختصار. (ولواحد بمقدارين متساويين من نوعين ولا قرينة على إثباتهما له أحدهما فإن تفاوتا قال ابن القاسم: الأكثر ومطرف: إن كانت الأولى أعطيهما وإلا أكثرهما)، يعنى كما في المواق قال: روى ابن القاسم وغيره عن مالك فيمن أوصى لرجل بدنانير ثم أوصى له بدنانير أقل عددًا أو أكثر فإن له أكثر الوصيتين. قال الباجي: ووجه هذا أن هاتين وصيتان من جنس واحد فكان له أكثرهما كما لو كانت الأولى أقل عددًا، وعلى حسب هذا تجري الوصيتان في الذهب والفضة والعروض التي تكال أو توزن أو الحيوان والدور والثياب وغير ذلك ما لم يكن في شيء معين. وروي عن ابن حبيب: أن له في العروض الوصيتين؛ لأن التماثل فيها معدوم. ووجه القول الأول: أنهما وصيتان متماثلتان كالمكيل والموزون، وإذا ثبت هذا فلا خلاف أن الدراهم من سكة واحدة متماثلة، وكذلك الأفراس والإبل والعبيد، وأما الدنانير والدراهم فقال مالك: إنهما متماثلان؛ لأنهما صنف واحد في الزكاة. وقال ابن القاسم: هما غير متماثلين؛ لأن التفاضل بينهما جائز، فإذا قلنا بقول مالك وأوصى له بدنانير ثم أوصى له بدراهم فإنه يعتبر الأقل والأكثر بالصرف. اهـ. المنتقى، ثم بقي النظر إذا أوصى له بدراهم ثم بسبائك أو بقمح ثم شعير، نقل عن محمد أن ذلك مثل ما إذا أوصى له بدراهم ثم بدنانير فله الوصيتان على قول ابن القاسم. وبقي النظر إذا أوصى له بعددين متساويين في العدد والجنس، مثل أن يوصي له بعشرة دنانير ثم يوصي له بعشرة دنانير فقال مالك وابن القاسم: له العددان جميعًا. قال الباجي: وإن كان ما أوصى به معينًا كعبد بعينه ثم أوصى له بعبد آخر بعينه فله الوصيتان. اهـ. وفي القوانين لابن جزي: وإن أوصى له بوصية بعد أخرى فالوصيتان، إلا من نوع وإحداهما أكثر فله الأكثر وإن تقدم. وإليه أشار خليل بقوله: وإن أوصى بوصية بعد أخرى فالوصيتان كنوعين ودراهم وسبائك وذهب وفضة وإلا فأكثرهما وإن تقدم. اهـ.

ثم قال رحمه الله تعالى: (وبعبد معين وبعتقه يؤخذ بالأخيرة وأشهب بالعتق)، يعني إن أوصى الشخص بعبده المعين وأوصى أيضًا بعتقه فإنه يؤخذ بوصيته الأخيرة وهي الوصية بالعتق، وعليه أشهب. وفي المدونة: فإن قال: اعتقوا فلانًا لعبد له بعد موتي، وقال: اشتروا نسمة فاعتقوها عني، بأيهما يبدأ في قول مالك؟ قال: بالعبد الذي بعينه اهـ. وفيها أيضًا: إن كان عبدًا بعينه يملكه فهو حر مبدأ، وإن أوصى أن تشترى رقبة بعينها فهي أيضًا مبدأة، مثل ما يقول: اشتروا عبد فلان بعينه فاعتقوه اهـ. وإليه أشار في الرسالة بقوله: والعتق بعينه مبدأ عليها. قال شارحها: وهو يشمل ما كان عنده وأوصى بعتقه: كاعتقوا عبدي مرزوقًا، ويشمل ما أوصى بشرائه كاشتروا عبد فلان لمعين واعتقوه، ويشمل ما أوصى بعتقه ناجزًا أو إلى شهر بعد موته، ويشمل ما أوصى بعتقه مجانًا أو على مال وعجله أو بكتابته وعجلها اهـ. النفراوي. قال رحمه الله تعالى: (وبشيء معين وأمواله مختلفة يخير الورثة بين دفعه ومشاركته بالثلث)، يعني إن أوصى بشيء معين في ماله والحال أن له أموالاً مختلفة الأنواع كصاحب الحوائط والعبيد والحيوان والعروض والدكاكين وغير ذلك من الأموال المختلفة فإن الورثة مخيرون بين دفع الشيء المعين الموصى به لأهل الوصايا وبين أن يشاركوهم بالثلث في جميع مال الميت. قال في المدونة: أرأيت إن أوصى بثلث ماله وبربع ماله وأوصى بأشياء بأعيانها لقوم شتى؟ قال: ينظر إلى قيمة هذه الأشياء التي كانت بأعيانها وإلى ثلث جميع ماله وإلى ربع جميع ماله فيضربون في ثلث مال الميت، يضرب أصحاب الأعيان في الأعيان، كل واحد منهم في الذي جعل له الميت بمبلغ وصيته، ويضرب أصحاب الثلث والربع في بقية الثلث، يكونون شركاء مع الورثة بمبلغ وصاياهم. قال: فإن هلكت الأعيان التي أوصى بها كلها بطلت وصايا أصحاب الأعيان، وكان ثلث ما بقي من مال الميت بين أصحاب الثلث والربع، يتحاصون في ذلك على مال قاله مالك اهـ. بتوضيح.

قال رحمه الله تعالى: (ولواحد بمائة وآخر بخمسين والثالث بمثل أحدهما سهمًا قيل: مثل نصفيهما وقيل: أكثرهما، وأشهب أقلهما)، يعني إن أوصى الميت لثلاثة أشخاص: الأول بمائة والثاني بخمسين والثالث بمثل أحد الأولين فإنه يعطى سهمًا واحدًا، وقيل: يعطى مثل نصفيهما، وقيل: يعطى أكثر مما أعطاهما. وقال أشهب: يعطى أقل مما أعطاهما، قلت: العلم بالنقل لا بالعقل ولولا ذلك لقلنا: يعطى الثلث مائة أو الخمسين ولكن الرجوع إلى ما قاله الأئمة أولى؛ لأنهم أدرى بذلك ولم أقف في المسألة على نص فتأمل: (وفي ضيق الثلث يبدأ بالآكد فيقدم مدبر الصحة على معتق المرض والمبتل فيه على الموصى بعتقه والمعين على المطلق والزكاة على الكفارة)، يعني قد بين رحمه الله في هذه الجملة مراتب الوصايا، وتقدمت لنا هذه المسألة مما نقلناه من المختصر عند قول مصنفنا: والحج والزكاة كغيرهما، فراجعه إن شئت. ثم قال رحمه الله تعالى: (وتصح من الصحيح والمريض والسفيه المحجور عليه والمميز ولمجنون في حال إفاقته وإلى العبد والمرأة لا الفاسق وبماله إلى واحد وولده إلى آخر فإن شرط اجتماعهما لم تجز مخالفته والإطلاق يقتضيه)، يعني تصح الوصية من الصحيح والمريض والسفيه والصغير المميز المحجورين والمجنون في حال إفاقته. قال في المدونة: تجوز وصية ابن عشر سنين وأقل مما يقاربها. وروى ابن وهب أن أبان بن عثمان أجاز وصية جارية بنت ثماني سنين أو تسع. قال خليل: صح إيصاء حر مميز مالك، وإن سفيهًا أو صغيرًا كما تقدم في أول الكتاب. وتصح الوصية إلى العبد والمرأة وغلى رجل واحد وولد الموصي إلى رجل آخر ما لم يشترط اجتماعهما، فإن شرط ذلك وجب على الوصي اجتماعهما ولم تجز مخالفة الموصي في ذلك، كما أن إطلاق الموصي يقتضي ذلك على الوصي ولو لم يشترط ما لم يمنع. اهـ. بمعناه.

قال رحمه الله تعالى: (وقوله: فلان وصيي تفويض فيملك أن يوصي إلا أن يمنع وقبوله بعد الموت يمنع الرجوع إلا لعجز أو عذر ظاهر)، يعني إذا قال المريض: فلان وصيي فيحتمل قوله ذلك أن فلانًا وصيه مفوض، فيملك جميع ما تناولته الوصية المفوضة، فيملك أن يوصي على غيره عند الحاجة، ولأن وصي الوصي كالوصي في تنفيذ ما أوصي به، إلا ما يمنعه الموصي أو اختص وصيته بشيء مخصوص فيقتصر على ما يوصي عليه فقط، كما إذا استثنى عليه بعض الأشياء كما يفهم ذلك في حالة الوصايا. وقبوله الوصية بعد موت الموصي يمنع الوصي الرجوع عن الوصية إلا لعجز عن ذلك أو عذر ظاهر كالمرض والهرم وغيرهما. قال رحمه الله تعالى: (وتبطل بالرجوع وموت الموصى له أو رده وتلف الموصى به والله أعلم)، يعني تبطل الوصية بالرجوع عنها وبموت الموصى له أو رده الوصية أو تلفها قبل الموصول إليه كالهبة. انظر قوله: وله الرجوع في أول الكتاب، فهناك بيان مبطلات الوصية، والله سبحانه وتعالى أعلم. فرع: قال الحطاب نقلاً عن التوضيح: وقبول الموصى له للوصية شرط في وجوبها له؛ لأنها أحد أنواع العطايا فاشترط فيها القبول كالهبة وغيرها. قال: وظاهره إذا مات الموصى له قبل قبول الوصية لم يكن لورثته قبولها، وهو خلاف مذهب المدونة. وقال في الجواهر: إن مات الموصى له بعد الموصي لا ينتقل حق القبول للوارث، قاله الشيخ أبو بكر الأبهري. وقال القاضي أبو محمد: ينتقل اهـ. وما قاله هو مذهب المدونة قال في الوصايا الأول. وإذا مات الموصى له بعد موت الموصي فالوصية لورثة الموصى له علم بها أم لا، ولهم أن يقبلوها كشفعة له أو خيار في بيع ورثوه. اهـ. ونحوه في الوصايا الثاني، خلافًا لما قاله الأبهري، فراجع الحطاب إن شئت. ولنختم: كتاب الوصايا بوصية مشهورة وهي وصية صحابي جليل (الزبير بن العوام) التي أوصى بها ابنه عبد الله في قضاء دينه الذي عليه،

ليعتبر بها المعتبرون في وفاء الوصايا وقضاء الديون عن الأموات ولا يجوز لوارث أن يرث مال مورثه إلا بعد قضاء دينه ووصيته، قال الله تعالى: {من بعد وصية يوصى بها أو دين} [النساء: 12]. (قال عبد الله بن الزبير) رضي الله عنهما: لما وقف الزبير يوم الجمل دعاني فقمت إلى جنبه فقال يا بني: إنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وإني لأراني سأقتل اليوم مظلومًا، وإن من أكبر همي لديني، أفترى ديننا يبقى من مالنا شيئًا، ثم قال: يا بني بع ما لنا واقض ديني، وأوصى بالثلث وثلثه لبنيه يعني لبني عبد الله، فجعل يوصيني بدينه ويقول: إن عجزت عن شيء منه فاستعن بمولاي، فوالله ما دريت ما أراد حتى قلت: يا أبت من مولاك؟ قال: الله، فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقض دينه فيقضيه، فقتل الزبير ولم يدع دينارًا ولا درهمًا إلا أرضين، منها الغابة وإحدى عشرة دارًا بالمدينة وداران بالبصرة ودار بالكوفة ودار بمصر، وإنما كان دينه الذي كان عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه فيقول الزبير: ل، ولكن هو سلف إني أخشى عليه الضيعة، وما ولي إمارة قط ولا جباية ولا خراجًا ولا شيئًا إلا أن يكون في غزو مع النبي صلى الله عليه وسلم أو مع أبي بكر وعمر وعثمان، فحسبت ما كان عليه من الدين فوجدته ألفي ألف ومائتي ألف، فلقيني حكيم بن حزام، فقال: يا ابن أخي كم على أخي من الدين؟ فكتمته وقلت: مائة ألف، فقال: والله ما أرى أموالكم تسع هذا، فقلت: أرأيتك إن كان ألفي ألف ومائتي ألف؟ قال: ما أراكم تطيقون هذا، فإن عجزتم عن شيء فاستعينوا بي، وكان الزبير قد اشترى الغابة بسبعين ومائة ألف، فباعها عبد الله بألفي ألف وستمائة ألف، فقال: من كان له على الزبير شيء فليوافنا بالغابة، فأتاه عبد الله بن جعفر وكان له على الزبير أربعمائة ألف، فقال: إن شئتم تركتها لكم، قال عبد الله: لا، قال: وإن شئتم جعلتموها فيما تؤخرون إن أخرتم، فقال عبد الله: لا،

قال: فاقطعوا لي قطعة، فقال عبد الله: لك من هاهنا إلى هاهنا، فباع عبد الله منها فقضى دينه وأوفاه، وبقي معه أربعة أسهم ونصف، فقدم على معاوية وعنده عمرو بن عثمان والمنذر بن الزبير وابن زمعة، فقال له معاوية: كم قومت الغابة؟ قال: كل سهم مائة ألف، قال: كم بقي منها؟ قال أربعة أسهم ونصف، فقال المنذر: قد أخذت سهمًا بمائة ألف، وقال عمرو بن عثمان: قد أخذت سهمًا بمائة ألف. وقال ابن زمعة: قد أخذت سهمًا بمائة ألف فقال معاوية: كم بقي؟ قال: سهم ونصف، قال: قد أخذت بخمسين ومائة ألف، وباع عبد الله بن جعفر نصيبه من معاوية بستمائة ألف فلما فرغ ابن الزبير من قضاء دينه قال بنو الزبير: اقسم بيننا ميراثنا، فقال: والله لا أقسم بينكم حتى أنادي بالموسم أربع سنين: ألا من كان له عند الزبير دين فليأتنا فلنقضه، فجعل كل سنة ينادي في الموسم، فلما مضى أربع سنين قسم بينهم ورفع الثلث، وكان للزبير أربع نسوة فأصاب كل امرأة ألف ألف ومائتا ألف، فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف. اهـ. رواه البخاري. قال الشارح: وبتمام هذه الوصية يتم الجزء الخامس من شرح ابن عسكر المسمى بأسهل المدارك على إرشاد السالك في فقه إمام الأئمة مالك، الحمد لله على كل حال، ويليه الجزء السادس أوله (كتاب المواريث) وهو آخر الكتاب وأصغر جزء بالنسبة لما تقدم من الأجزاء، نسأل الله حسن عونه على إتمامه في أحسن حال، إنه سميع مجيب، وصلى الله تعالى على خير خلقه سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد: لما أنهى المصنف الكلام على ما تعلق بأحكام الوصايا انتقل يتكلم على ما يتعلق بالميراث ومسائله، فقال رحمه الله تعالى:

كتاب المواريث

كتاب المواريث أي في بيان ما يتعلق بأحكام الميراث، والمواريث جمع ميراث، ويطلق بمعنى الإرث وهو المقصود بالترجمة، وهو لغة: البقاء وانتقال الشيء من قوم إلى قوم آخرين، والانتقال إما حقيقة كانتقال المال، أو معنى كانتقال العلم، ومنه العلماء ورثة الأنبياء. وأما معناه شرعًا: فهو حق قابل للتجزي يثبت لمستحقه بعد موت من كان له ذلك. اهـ. من حاشية البقري على الرحبية باختصار. واعلم أن هذا العلم كفاه فخرًا وشرفًا أن الله تعالى هو الواضع له، لما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((إن الله تعالى لم يكل قسمة مواريثكم إلى ملك مقرب ولا إلى نبي مرسل، ولكن تولى قسمتها بنفسه أبين قسمة، ولا وصية لوارث)) اهـ. فلله در القائل حيث قال: علم الفرائض علم لا نظير له ... يكفيك أن قد تولى قسمه الله وبين الحظ تبيانًا لوارثه ... فقال سبحانه {يوصيكم الله} وفي الكلالة فتيا الله منزلة ... فبان تشريف ما أفتى به الله اهـ أشار بقوله: يوصيكم الله، إلى ما في سورة النساء من قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء: 11] إلى آخر الآيتين، أما قوله في الكلالة، فهو إشارة إلى كلالتين: الأولى: في قوله تعالى: {وإن كان رجل يورث كلالة} [النساء: 12]، والثانية في آخر السورة في قوله: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} [النساء: 176] إلخ، فاحرص على الفرق بين كلالتين؛ لأن الأولى غير الثانية. وقد رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليم علم الفرائض حيث قال: تعلموا الفرائض وعلموها الناس، فإن هذا العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما اهـ. رواه الإمام أحمد

وغيره. والحقوق المتعلقة بالتركة خمسة باستقراء الفقهاء. قال أستاذنا في بعض مقدماته: الحقوق المتعلقة بالتركة خمسة مرتبة: الأول: الحق المتعلق بعين التركة. الثاني: مؤمن التجهيز بالمعروف. الثالث: الديون المرسلة في الذمة. الرابع: الوصايا بالثلث فما دونه لأجنبي. الخامس: الإرث. اهـ. واعلم أن الإرث له أركان وأسباب وشروط وموانع. فأركانه ثلاثة: وارث ومورث وشيء موروث. وأسبابه أربعة: القرابة المخصوصة، والولاء، وجهة الإسلام في الصرف إلى بيت المال، والنكاح ولو مختلفًا فيه ولو لم يحصل دخول. وشروطه ثلاثة: تقدم موت المورث واستقرار حياة الوارث بعده والعلم بالجهة المقتضية للإرث اهـ النفراوي. وإلى جميع ذلك أشار رحمه الله تعالى بقوله: (أسبابها نسب وولاء ونكاح)، يعني أن أسباب الإرث عندنا أربعة: القرابة وهي المعبرة بالنسب وهي البنوة والأبوة والإدلاء بأحدهما. ومن أسباب الإرث: الولاء، وتقدم الكلام فيها عند قول المصنف: والإرث به للعصبة، فيقدم الابن على الأب والأخ وابنه على الجد والجد على العم ثم الأقوى فالأقوى، فراجعه إن شئت في الولاء. وأما النكاح فهو من أسباب التوارث بين الزوجين، وتقدم أنه من أسباب الإرث ولو كان النكاح مختلفًا فيه أو قبل الدخول فإنه يثبت به التوارث. قال في القوانين: أسباب التوارث خمسة: نسب ونكاح وولاء عتق ورق عبودية وبيت المال اهـ. قال رحمه الله تعالى: (وموانعها كفر ورق وقتل عمد وقاتل الخطأ عن الدية ولا عبرة بالتغير بعد الموت إلا لحوق النسب)، يعني كما قال أبو الحسن شارح الرسالة في العزية: يمنع الميراث اختلاف الدينين، فلا توارث بين مسلم وكافر ولا بين اليهودي والنصراني، والرق، فلا يرث الرقيق ولا يورث وما مات عنه فهو لمالكه. والقتل، فلا ميراث لمن قتل مورثه عمدًا. وانتفاء النسب باللعان، فينقطع التوارث بين الملاعن والولد فقط. واستبهام المتقدم والمتأخر في الموت، كما إذا مات أقارب تحت هدم

مثلاً اهـ. قوله: إلا لحوق النسب يعني إذا قتل الأب ابنه المنفي عنه بلعان ثم لاحقه فإنه يعتبر إلحاقه؛ لأن استلحاقه يدفع المعرة عن أمه. وفي الكواكب الدرية في ولدي الملاعنة أنهما شقيقان، إذ لو رجع عن اللعان واستلحقهما لحقا، قلت: فلحوق ولد الملاعنة لأبيه بعد أن قتله معتبر فيه ينظر في صفة قتله بين أن تكون عمدًا فلا يرثه لا في المال ولا في الدية وبين أن تكون خطأ فيرث المال دون الدية ولا قصاص عليه فتأمل اهـ. بتوضيح. قال رحمه الله تعالى: (وفي استبهام الموت يرث كلا أحياء ورثته لا بعضهم من بعض ويمنع من الجنين له إلا بأمارة تدل على حياته)، يعني أن الاستبهام يمنع الإرث وهو عدم العلم بالمتقدم في الموت، وإذا مات إخوان تحت هدم معًا أو غرقًا أو حرقًا معًا أو مترتبين وجهل السابق لا موارثة بينهما. قال الدردير: ولا من جهل تأخر موته فيفرض أن كل واحد لم يخلف صاحبه، وإنما خلف الأحياء فلا يرث من مات معه ولا يحجب وارثًا كما أن الجنين لا يرث ولا يورث إلا إذا استهل صارخًا وتحقق حياته أو دلت فيه أمارة الحياة ظاهرة فحينئذ يثبت له الإرث ويرثه ورثته الأحياء. ثم انتقل إلى ذكر عدد الوارثين من الرجال والنساء فقال رحمه الله تعالى: (والوارثون عشرة)، أي من الرجال عن طريق الاختصار هم: (الأب وأبوه وإن علا والابن وابنه وإن سفل والأخ وابن الأخ إلا من الأم والعم وابنه كذلك والزوج والمولى) (والوارثات سبع) أي من النساء على طريق الاختصار وهن: (الأم وأمها وأم الأب وإن علتا والبنت وابنة الابن وإن نزلت والأخت والزوجة والمولاة) هذا الطريق وهو طريق الاختصار هو الذي مشى عليه أكثر أئمة المذهب، ومشى غيرهم على طريق البسط، فعدتهم خمسة عشر وارثًا ومن النساء عشر وارثات، وبه أخذ بعض أئمتنا وهو مذهب الجمهور، وإليه أشار العلامة ابن جزي في القوانين بقوله: والوارثون عند أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت ومالك والشافعي هم الذين أجمع على

توريثهم لا غير، فمن الرجال خمسة عشر: الابن وابن الابن وإن سفل والأب والجد وإن علا والأخ الشقيق والأخ للأب والأخ للأم وابن الأخ الشقيق وابن الأخ للأب والعم الشقيق والعم للأب وابن العم الشقيق وابن العم للأب والزوج والمولى. ومن النساء عشر: البنت وبنت الابن وإن سفل والأم والجدة للأم والجدة للأب والأخت الشقيقة والأخت للأب والأخت للأم والزوجة والمولاة اهـ. (مهمات عظيمات الفائدة) وهي ثمانية: إحداها: كل ذكر مات وخلف جميع من يرث من الذكور لا يرث منهم إلا اثنان: الأب والابن، ووجهه أن الأب يحجب من كان من جهته كالجد والأعمام والإخوة، والابن يحجب كل من كان من جهته كابنه وإن نزل. وثانيتها: كل ذكر مات وخلف جميع من يرثه من النساء لا يرثه منهن إلا خمس: الأم والبنت وبنت الابن والزوجة والأخت الشقيقة، ومن عداهن محجوب بهن على التوزيع. وثالثتها: كل ذكر مات وخلف جميع من يرث من الرجال والنساء فلا يرثه منهم إلا خمسة: الابن والأب والأم والزوجة والبنت. ورابعتها: كل امرأة ماتت وخلفت جميع من يرثها من الذكور لم يرثها منهم إلا ثلاثة: الابن والأب والزوج. وخامستها: كل امرأة ماتت وخلفت جميع من يرثها من النساء لا يرثها إلا أربع: البنت وبنت الابن والأخت لغير الأم والأم. وسادستها: كل امرأة ماتت وخلفت جميع من يرثها من الذكور والإناث لا يرث منهم سوى خمسة: الأب والأم والابن والبنت والزوج. وسابعتها: إذا انفرد واحد من الذكور ورث جميع المال إلا الزوج والأخ للأم إلا أن يكون الزوج أو الأخ للأم ابن عم أو يكون مولى. وثامنتها: أن كل من انفرد من النساء لا يحوز جميع المال إلا المعتقة اهـ. أفاده النفراوي في الفواكه بحذف. ثم ذكر الفروض فقال رحمه الله تعالى: (والفروض ستة: النصف للبنت تنفرد وبنت الابن والشقيقة والتي للأب والزوج مع عدم الحاجب وله الربع مع

وجوده وللزوجة فصاعدًا مع عدمه ولهن الثمن معه والثلثان للاثنتين فصاعدًا من ذوات النصف. والثلث للأم غير محجوبة وللاثنين فصاعدًا من ولدها بالسوية والسدس لواحدهم وللأم محجوبة وللجدة والجدتين ولا يرث أكثر من جدتين وبنت الابن فصاعدًا في درجة مع الصلبية والسفلى مع العليا وللأخت للأب فصاعدًا مع الشقيقة ويسقطن مع الشقيقتين إلا مع أخ يعصبهن) يعني أخبر رحمه الله تعالى أن الفروض المقدرة في كتاب الله تعالى ستة: (النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس). أما (النصف) ففرض خمسة: البنت إذا انفردت وبنت الابن عند عدم بنت الصلب والأخت الشقيقة والتي للأب عند عدم الشقيقة والزوج عند عدم الحاجب كما يأتي بيان جميع ذلك عن قريب. الزوج يستحق النصف بشرط واحد وهو ألا يكون للزوجة فرع وارث، فإن كان لها فرع وارث انتقل الزوج عن النصف إلى الربع. وتستحق بنت الصلب النصف بشرطين: ألا يكون لها معصب، فإن كان لها معصب يكون المال لهما أو لهم للذكر مثل حظ الأنثيين. وألا تكون لها مماثل أي بنت مثلها، فإن كان لها مماثل فلهما أو لهن الثلثان. وتستحق بنت الابن النصف بثلاثة شروط: ألا يكون للميت ولد صلب، فإن وجد فإن كان ذكرًا أو أنثيين حجبت بنت الابن، وإن كانت أنثى واحدة فلبنت الابن السدس تكملة الثلثين، ومثل ولد الصلب ولد ابن أعلى منها درجة، وألا يكون لها معصب أي ابن ابن في درجتها ومثله أنزل منها إذا كانت لولاه لكانت محجوبة، وتكون معه للذكر مثل حظ الأنثيين. وألا تكون لها مماثل أي بنت ابن مثلها واحدة فأكثر في درجتها، فإن وجدت كان لهما أو لهن الثلثان. وتستحق الأخت الشقيقة النصف بخمسة شروط: ألا يكون للميت ولد صلب، فإذا وجد ولد صلب فإن كان ذكرًا حجبها، وإن كان أنثى ولو متعددة كانت الأخت عصبة معها،

ومثله ولد الابن. ولذا قال: وألا يكون ولد ابن ولا معصب أي أخ شقيق يعصبها وتكون معه للذكر مثل حظ الأنثيين. وألا مماثل لها فإذا وجدت أخت مثلها في درجة يكون الثلثان لهما أو لهن إن كثرن. وألا يكون للميت أب فإذا كان له أب حجبها. وتستحق الأخت للأب النصف بستة شروط: أن يكون ولد صلب ولا ولد ابن ولا معصب ولا مماثل ولا أب ولا أحد من الأشقاء، فإذا وجد أحد من هؤلاء فكما تقدم في الشقيقة، وإذا وجد أحد من الأشقاء فإن كان ذكرًا أو أنثيين حجبت الأخت للأب وإن كانت شقيقة واحدة فللأخت للأب السدس تكملة الثلثين. وأما (الربع) فهو فرض اثنين: الزوج والزوجة أو الزوجات. يستحق الزوج الربع بشرط واحد هو أن يكون للزوجة فرع وارث، فإن لم يكن لها فرع وارث فله النصف كما سبق. وتستحق الزوجة أو الزوجات الربع بشرط واحد هو ألا يكون للزوج فرع وارث، فإن كان له فرع وارث فلها أو لهن الثمن بالسوية بينهن. وأما (الثمن) فهو فرض الزوجة أو الزوجات إذا كان للميت فرع وارث، فإن لم يكن للميت فرع وارث كان لها أو لهن الربع كما سبق. وأما (الثلثان) ففرض أربعة: بنتي صلب فأكثر وبنت ابن فأكثر وأختين شقيقتين فأكثر وأختين للأب فأكثر. تستحق بنتا الصلب الثلثين بشرط واحد هو ألا يكون لهما معصب ابن صلب، فإن وجد يكون المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين. وتستحق بنتا الابن الثلثين بشرطين: ألا يكون للميت ولد صلب ولا ولد ابن أقرب منهما، فإن وجد أحدهما فإن كان ذكرًا أو أنثيين حجبتا، وإن كان أنثى واحدة فلهما السدس تكملة الثلثين. وألا يكون لهما معصب وهو ابن ابن في درجتهما، فإن وجد فيعصبهما ويكون المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين. وتستحق الشقيقتان الثلثين بأربعة شروط: ألا يكون للميت ولد صلب ولا ولد ابن، فإن وجد أحدهما فإن كان ذكرًا

حجبهما وإذا كان أنثى واحدة فأكثر كانت الشقيقتان عصبة معها أو معهن. وألا يكون لهما معصب وهو الشقيق، فإن وجد لهما أخ شقيق يكونان أو يكون معه للذكر مثل حظ الأنثيين. وألا يكون أب فإن كان أبوهما موجودًا حجبهما؛ لأنهما أدليا به. وتستحق الأختان للأب الثلثين بخمسة شروط: ألا يكون للميت ولد صلب ولا ولد ابن ولا معصب ولا أب ولا أحد من الأشقاء، فإن وجد أحد من الأشقاء فإن كان ذكرًا أو أنثيين حجب اللواتي للأب، وإن كانت أنثى واحدة فلهما أو لهن السدس ومع ولد الصلب وولد الابن والمعصب والأب فكما تقدم في الشقيقتين. وأما (الثلث) فهو فرض ثلاثة: الأم والإخوة للأم والجد في بعض أحواله كما سيأتي كلامه خاصة. وتستحق الأم الثلث بشرطين: ألا يكون للميت فرع وارث. وألا يكون اثنان فأكثر من الإخوة والأخوات، فإن كان فرع وارث أو عدد من الإخوة والأخوات فللأم السدس. ويستحق الإخوة للأم الثلث إذا لم يحجبوا، ويحجبهم أصل ذكر هو أب أو جد أو فرع وارث ذكرًا كان أو أنثى. ويشترط أن يكونا اثنين فأكثر، فإذا كان منفردًا سواء كان ذكرًا أو أنثى فله السدس، أما إذا تعدد إخوة لأم ذكورًا أو إناثًا أو مجتمعين فإنهم يقسمون الثلث بينهم بالسوية: الذكر كالأنثى. وأما (السدس) فهو فرض سبعة: الأب، والجد، والأم، والجدة، وبنت الابن، والأخت للأب، والأخ للأم منفردًا ذكرًا كان أو أنثى، يستحق الأب السدس إذا كان للميت فرع وارث ذكر، فإن لم يكن فرع وارث ذكر فهو العصبة، يأخذ ما بقي بعد أهل الفرض أو جميع المال إن لم يكن أحد من أهل الفرض. ويستحق الجد السدس بشرطين: أن يكون للميت فرع وارث ذكر. وألا يكون له أب، فإن كان للميت أب حجبه، وإن لم يكن للميت أب ولا ولد ذكر فهو عصبة، وله أحوال تذكر في بابه إن شاء الله. وتستحق الأم السدس بشرطين: أن يكون للميت فرع وارث أو عدد من

الإخوة والأخوات، فإن لم يكونوا فلها الثلث كما تقدم. وتستحق الجدة أو الجدات السدس بشرط ألا تحجب بالأم، أو جدة أقرب منها في جهتها أو جهة الأم والأب إن أدلت به، وكل جدة أدلت بذكر بين أنثيين فهي غير وارثة كأم أبي الأم؛ لأنها من ذوات الأرحام، وتستحق بنت الابن السدس إذا كان للميت بنت صلب واحدة أي تكملة للثلثين؛ لأن البنتين لهما الثلثان وهذه بنت ثانية للميت في الجملة ولبعدها أعطيت الأقل، وكذا يقال في الأخت للأب مع الشقيقة وتستحق الأخت للأب السدس إذا كان للميت أخت شقيقة واحدة. ويستحق الأخ للأم ذكرًا كان أو أنثى السدس إذا لم يحجب بأصل ذكر أو فرع وارث، فإن تعدد الأخ للأم كان لهم الثلث يقسمونه ذكورًا وإناثًا بالسوية كما تقدم. اهـ. من الخلاصة بتوضيح. ثم ذكر الذين لا يسقطون بحال وهم ستة: الابن، والبنت، والأم، والأب، والزوج، والزوجة، كما سيأتي بيانهم. قال رحمه الله تعالى: (ولا مسقط لأولاد الصلب والأبوين والزوجين)، يعني كما في عبارة أبي الحسن في العزية أنه قال: الحجب قسمان: حجب إسقاط وحجب نقل. أما حجب الإسقاط فلا يلحق من ينسب إلى الميت بنفسه كالبنين والبنات والآباء والأمهات ومن في معناهم الزوج والزوجة ويلحق من عداهم. وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله: (ويسقط الأبعد بالأقرب من جهته وولد الابن به وإناثهم بالصلبيتين إلا مع ذكر يعصب درجته فما فوقها ويسقط من بعده كالأسفلين منهن مع العليا)، فالمعنى أن الأبعد من الميت أو من الورثة يسقط بالأقرب منه كالجد مع وجود الأب والأخ مع وجود الولد والجدة مع وجود الأم وكولد الابن مه وجود الابن، وإناثهم يسقطن بالصلبيتين إلا إذا كان معهن ذكر في درجتهن فيعصب لهن ويقسمون ما فضل عن صلبيتين للذكر مثل حظ الأنثيين ويسقط من بعده كالأسفلين منهن مع العليا. قال في الرسالة: ولابنة الابن السدس تمام الثلثين، وإن كثرت بنات الابن لم يزدن على ذلك

السدس شيئًا إن لم يكن معهن ذكر وما بقي للعصبة، وإن كانت البنات اثنتين لم يكن لبنات الابن شيء إلا أن يكون معهن أخ فيكون ما بقي بينهن وبينه للذكر مثل حظ الأنثيين، وكذلك إذا كان ذلك الذكر تحتهن كان ذلك بينه وبينهن كذلك، وكذلك لو ورثت بنات الابن مع الابنة السدس وتحتهن بنات ابن معهن أو تحتهن ذكر كان ذلك بينه وبين أخواته أو من فوقه من عماته ولا يدخل في ذلك من دخل في الثلثين من بنات الابن اهـ. قال رحمه الله تعالى: (والإخوة للأم بالأب والجد والولد وولد الابن والجدة للأب به وبالأم وبعدى جهته بقربى جهة الأم لا بعكسه)، يعني يسقط الإخوة مطلقًا بالأب والولد وولده، والذي من جهة الأم أيضًا يسقط بالجد والولد وولده، كما تسقط الجدة التي من جهة الأب به وبالأم، وتسقط البعدى من جهته بالقربى من جهة الأم لا بعكسه. قال في الرسالة: وترث الجدة للأم السدس، وكذلك التي للأب، فإن اجتمعتا فالسدس بينهما إلا أن تكون التي للأم أقرب بدرجة فتكون أولى به؛ لأنها التي فيها النص، وإن كانت التي للأب أقربهما فالسدس بينهما نصفين، ولا يرث عند مالك أكثر من جدتين: أم الأب وأم الأم وأمهاتهما، ويذكر عن زيد بن ثابت أنه ورث ثلاث جدات: واحدة من قِبَل الأم واثنتين من قِبل الأب: أم الأب وأم أبي الأب، ولم يحفظ عن الخلفاء توريث أكثر من جدتين اهـ. قال رحمه الله تعالى: (والعصبة باستغراق الفروض المال إلا الأشقاء في المشتركة وهي زوج وأم وإخوة لأم وأشقاء يشتركون في الثلث)، يعني ويسقط العاصب باستغراق أصحاب الفروض المال إلا إذا كان العاصب شقيقًا وقد ورث الإخوة للأم الثلث فيشاركهم العاصب في ثلثهم فيقسمونه بالسوية للذكر مثل حظ الأنثيين. قال في الرسالة: فإن لم يبق شيء فلا شيء لهم إلا أن يكون في أهل

السهام إخوة لأم قد ورثوا الثلث وقد بقي أخ شقيق أو إخوة ذكور أو ذكور وإناث شقائق معهم فيشاركون كلهم الإخوة للأم في ثلثهم فيكون بينهم بالسواء، وهي الفريضة التي تسمى المشتركة، ولو كان من بقي إخوة لأب لم يشاركوا الإخوة للأم لخروجهم عن ولادة الأم اهـ. وحاصل فقه مسائل الحجب كما في القوانين أنه قال: (والحجب نوعان): حجب إسقاط، وحجب نقص، فأما حجب الإسقاط، فلا ينال ستة من الوارثين وهم: الابن والبنت والأم والأب والزوج والزوجة كما تقدم، وأما غير هؤلاء فقد يحجبون عن الميراث، فأما ابن الابن وبنت الابن فيحجبهما الابن خاصة، والقريب من ذكور الحفدة يحجب البعيد من ذكورهم وإناثهم. والجد يحجبه الأب خاصة. ويحجب الجد القريب البعيد. وأما الأخ الشقيق والأخت الشقيقة فيحجبهما الابن وابن الابن وإن سفل والأب. وأما الأخ للأب والأخت للأب فيحجبهما الشقيق ومن حجبه ولا تحجبهما الشقيقة، وأما ابن الأخ الشقيق فيحجبه الجد والأخ للأب ومن حجبه. وأما ابن الأخ للأب فيحجبه ابن الأخ الشقيق ومن حجبه. وأما العم الشقيق فيحجبه ابن الأخ للأب ومن حجبه. وأما العم للأب فيحجبه العم الشقيق ومن حجبه. وأما ابن العم الشقيق فيحجبه العم للأب ومن حجبه. وأما ابن العم للأب فيحجبه ابن العم الشقيق ومن حجبه. وأما الأخ للأم والأخت للأم فيحجبهما الابن والبنت وابن الابن وبنت الابن وإن سفل والأب والجد وإن علا. وأما الجدة للأم فتحجبها الأم خاصة. وأما الجدة للأب فيحجبها الأب والأم عند زيد والثلاثة. وقال ابن مسعود وابن حنبل: لا يحجبها الأب، فإن اجتمعت جدتان في قعدد واحد ورثتا معًا السدس بينهما، وإن كانت إحداهما أقرب من الأخرى حجبت القريبة البعيدة إن كانت من جهتها، وحجبت القريبة التي من جهة الأم البعيدة التي من جهة الأب، ولا تحجب القريبة من جهة الأب البعيدة من جهة الأم بل تشاركها خلافًا لأبي

حنيفة. وأما المولى المعتق فيحجبه العصبة. وأما السيد المالك فيمنع جميع الورثة ولا يحجبه أحد اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: (وتنتقل الأم إلى السدس بالولد أو ولد الابن أو اثنين من الإخوة ولها ثلث الباقي في زوج وأبوين أو زوجة وأبوين)، يعني كما في القوانين. وأما حجب النقص فهو على ثلاثة أقسام: نقل من فرض إلى فرض دونه ونقل من تعصيب إلى فرض. ونقل من فرض إلى تعصيب. فأما النقل من فرض إلى فرض فيختص بخمسة أصناف: الأول: الأم ينقلها من الثلث إلى السدس الابن وابن الابن والبنت وبنت الابن واثنان فأكثر من الإخوة والأخوات سواء كانوا شقائق أو للأب أو للأم. الثاني: الزوج ينقله الابن وابن الابن والبنت وبنت الابن من النصف إلى الربع. الثالث: الزوجة والزوجات ينقلهن الابن وابن الابن والبنت وبنت الابن من الربع إلى الثمن. الرابع: بنت الابن تنقلها البنت الواحدة من النصف إلى السدس. وتنقل اثنتين فأكثر من بنات الابن من الثلثين إلى السدس. الخامس: الأخت للأب تنقلها الشقيقة من النصف إلى السدس وتنقل اثنتين فأكثر من الثلثين إلى السدس. وأما النقل من تعصيب إلى فرض فيختص بالأب والجد ينقلهما الابن وابن الابن من التعصيب إلى السدس. وأما النقل من فرض إلى تعصيب فهو للبنت وبنت الابن والأخت الشقيقة وللأب ينقل كل واحدة منهن فأكثر أخوها عن فرضها ويعصبها وكذلك الأخوات الشقائق وللأب يعصبهن البنات فتنقلهن البنت الواحدة فأكثر من الفرض إلى التعصيب اهـ. قوله رحمه الله تعالى: ولها ثلث الباقي ... إلخ، أشار إلى مسألة

مشهورة بالغراوين كما في الرسالة. وقال ابن جزي: وهما أب وأم وزوجة أو أب وأم وزوج ففرضها ثلث ما بقي بعد الزوج أو الزوجة وهو الربع في الأولى والسدس في الثانية وللأب الثلثان مما بقي بعدهما اهـ. اعلم أن للأم حالتين ترث في إحداهما الثلث وفي أخرى السدس بنص القرآن، وثبت بالاجتهاد حالة ثالثة ترث فيها ثلث الباقي وهي المذكورة هنا وتسمى بالغراوين. قال الدردير: لأن الأم غرت فيهما بقولهم: لها الثلث وهو في الحقيقة سدس كما في الأولى أو ربع كما في الثانية. قال: هي في زوجة ماتت عن زوج وأبوين أصلها من اثنين مخرج نصيب الزوج فله النصف يبقى واحد على ثلاثة مباينًا فتضرب ثلاثة في اثنين بستة فلها واحد بعد فرض الزوج، إذ لو أعطيت ثلث التركة للزم تفضيل الأنثى على الذكر فيخالف القاعدة القطعية: متى اجتمع ذكر وأنثى يدليان بجهة واحدة فللذكر مثل حظ الأنثيين فخصصت القاعدة عموم آية، فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه، وأشار لثانية الغراوين بقوله: أو زوجة مات زوجها عنها وعن أبوين فهي من أربعة: للزوجة الربع وللأم ثلث الباقي وللأب الباقي إذ لو أعطيناها ثلث المال للزم عدم تفضيل الذكر عليها التفضيل المعهود. هذا ما قضى به عمر، رضي الله عنه، ووافقه الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة. اهـ. مع طرف من الصاوي عليه. قال رحمه الله تعالى: (والزوج إلى الربع والزوجة إلى الثمن بالولد أو ولد ابن)، يعني أنه تقدم الكلام أن الولد وولده والبنت وبنت الابن ينقلان الزوج والزوجة يمنعانهما من كثرة الميراث، فراجع القسم الثاني والثالث من أقسام حجب النقل مما تقدم آنفًا فتأمل. قال رحمه الله تعالى: (ويرث الأب بالفرض مع الابن وابنه وبالتعصيب إذا انفرد وبهما مع البنات والجد مثله إلا مع الإخوة ويسقطون بالأب)، يعني هذه الجملة أشارت إلى بعض أحوال الأب والجد في الإرث، وقد تقدم الكلام فيهما عند

قوله: والوارث العصبة يحوز المال ... إلخ. وقال أبو محمد في الرسالة: وميراث الأب من ولده إذا انفرد ورث المال كله، ويفرض له مع الولد الذكر أو ولد الابن السدس، فإن لم يكن له ولد ولا ولد ابن فرض للأب السدس وأعطى من شركه من أهل السهام سهامهم ثم كان له ما بقي. وقال في موضع آخر: ولا ميراث للإخوة والأخوات مع الأب ولا مع الولد الذكر أو مع ولد الولد. اهـ. فراجعه إن شئت. ثم قال رحمه الله تعالى: (وفي اجتماع الذكور والإناث في درجة للذكر مثل حظ الأنثيين)، يعني إذا اجتمع من له حظ في الميراث وكانوا رجالاً ونساء في درجة واحدة فإنهم يرثون المال للذكر مثل حظ الأنثيين. قال في الرسالة: فإن كانوا إخوة وأخوات شقائق أو لأب فالمال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين قلوا أو كثروا اهـ. قال رحمه الله تعالى: (وذو جهتي فرض بأقواهما كأخت هي بنت وفرض وتعصيب بهما كابني عم أحدهما أخ لأم أو زوج)، يعني أنه يرث ذو وجهي فرض بأقوى الفرضين، كما أنه يرث بالفرض والتعصيب معًا كابن عم هو زوج. قال خليل: ويرث بفرض وعصوبة الأب ثم الجد مع بنت وإن سفلت كابن عم أخ لأم، وورث ذو فرضين بالأقوى وإن اتفق في المسلمين كأم أو بنت أخت. وعبارة الدردير في أقرب المسالك: وورث ذو فرضين بالأقوى وهي ما لا تسقط أو ما تحجب الأخرى كأم أو بنت هي أخت كعاصب بجهتين كأخ أو عم هو معتق. وحاصل ما في الخرشي: أن من اجتمع له جهتان يرث بكل منهما وإحداهما أقوى من الأخرى، فإنه يرث بالأقوى منهما، وهذا يقع من المسلمين على وجه الغلط ومن المجوس على وجه العمد والقوة تكون بأحد أمور ثلاثة: الأول: أن تكون إحداهما لا تحجب بخلاف الأخرى، وذلك كأن يتزوج المجوسي ابنته عمدًا فولدت منه ابنة ثم أسلم ومات فهذه الابنة تكون أختًا لأمها لأبيها

وهي أيضًا بنت لها، فإذا ماتت الكبرى بعد موت أبيها ورثتها الصغرى بأقوى السببين وهو البنوة؛ لأنها لا تسقط بحال، والأخوة قد تسقط: فلها النصف بالبنوة ولا شيء لها بالأخوة، ومن ورثها بالجهتين قال: النصف والباقي بالتعصيب، وإن ماتت الصغرى أولاً فالكبرى أم وأخت لأب فترث بالأمومة لأنها لا تسقط. والأخت للأب قد تسقط فلها الثلث بالأمومة. الثاني: أن تحجب إحداهما الأخرى فالحاجبة أقوى، كأن يطأ مجوسي أمه فتلد ولدًا فهي أمه وجدته فترث بالأمومة اتفاقًا. الثالث: أن تكون إحداهما أقل حجبًا من الأخرى كأم أم هي أخت لأب، كأن يطأ مجوسي بنته فتلد بنتًا ثم يطأ الثانية فتلد بنتًا ثم تموت الصغرى عن العليا بعد موت الوسطى والأب فهي أم أمها وأختها من أبيها فترث بالجدودة دون الأختية؛ لأن أم الأم تحجبها الأم فقط والأختية يحجبها جماعة. وقيل: ترث بالأختية؛ لأن نصيب الأختية أكثر، وإذا كانت القوية محجوبة ورثت بالضعيفة كأن تموت الصغرى في هذا المثال عن الوسطى والعليا فترث الوسطى بالأمومة الثلث والعليا بالأختية النصف. اهـ. الخرشي ومثله في القوانين. فرع: من لم تكن له عصبة ولا مولى فعاصبه بيت مال المسلمين، يجوز جمع المال في الانفراد ويأخذ ما بقي بعد ذوي السهام عند زيد والإمامين. وقال علي وابن مسعود وأبو حنيفة وابن حنبل: يرد الباقي على ذوي السهام،

فصل في الجد

فإن لم يكونوا فلذوي الأرحام. وحكى الطرطوشي عن المذهب: أنه يعصب بيت المال إذا كان الإمام عدلاً، وإن لم يكن عدلاً رد على ذوي السهام وذوي الأرحام. وحكي عن ابن القاسم: من مات ولا وارث له تصدق بما له إلا أن يكون الإمام كعمر بن عبد العزيز. اهـ. قاله في القوانين. قلت: وعدم الرد لذوي السهام هو المشهور في المذهب كما في الدردير على أقرب المسالك عند قوله: ولا يرد ولا يدفع لذوي الأرحام لكنه قال: الذي اعتمده المتأخرون الرد على ذوي السهام، فإن لم يكن فعلى ذوي الأرحام، وعلى الرد فيرد على كل ذي سهم بقدر ما ورث إلا الزوج والزوجة فلا رد عليهما إجماعًا. انظر حاشية الصاوي عليه. اهـ. ولما أنهى الكلام على ما تعلق بمسائل الورثة على وجه الإجمال انتقل يتكلم على ما يخص الجد مع الإخوة، فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في الجد أي في بيان ما يتعلق بأحوال الجد مع الإخوة. اعلم أنه قد علمت مما تقدم أن الجد مع الإخوة في جهة واحدة ولكن الشارع يخص الجد بمزيد عناية وله في ذلك أحوال تزيده المزية كما سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى. وفي عبارة: ثم شرع في بيان إرث الجد للأب وهو أحد الثلاثة الذين يرثون بالإجماع والاثنان الآخران ابن الابن وابناهما، وقد تكرر أن الجد كالأب عند عدمه: فيرث تارة بالفرض وتارة بالتعصيب وتارة يجمع بينهما، وأنه يحجب ما يحجبه الأب إلا الإخوة الأشقاء والذين للأب. قال رحمه الله تعالى: (الجد يقاسم الإخوة كأخ)، يعني إذا كان الجد مع الأخ الواحد أو الأخوين فالمقاسمة خير له؛ لأنه يأخذ نصف المال مع الأخ أو الثلث مع الأخوين. وفي الرسالة: فإن لم يكن معه غير الإخوة فهو يقاسم أخًا أو أخوين أو عدلهما أربع أخوات، فإن زادوا فله الثلث فهو يرث الثلث مع الإخوة إلا أن تكون المقاسمة أفضل له. قال خليل: وله مع الإخوة والأخوات الأشقاء أو لأب الخير من الثلث أو المقاسمة اهـ. قال رحمه الله تعالى: (فإن نقصته عن الثلث فرض له)، يعني أن الجد إن نقصته حالة من أحواله بالمقاسمة أو غيرها عن الثلث فإنه يفرض له ما هو خير منه. قال في الرسالة: فإن كان مع أهل السهام إخوة فالجد مخير في ثلاثة أوجه يأخذ أي ذلك أفضل

له: إما مقاسمة الإخوة أو السدس من رأس المال أو ثلث ما بقي اهـ. وفي القوانين: وإذا اجتمع مع الجد إخوة وذوو سهام كان له الأرجح من ثلاثة أشياء: السدس من رأس المال أو ثلث ما بقي بعد ذوي السهام أو مقاسمة الإخوة كذكر منهم إلا في فريضة يقال لها: الخرقاء وهي أم وجد وأخت فقال مالك وزيد: للأم الثلث وما بقي يقسمه الجد والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين. وقال أبو بكر وابن عباس: لا شيء للأخت. وقال علي: للأم الثلث وللأخت النصف وللجد ما بقي وهو السدس. اهـ. قال رحمه الله تعالى: (فإن كانوا أشقاء ولأب عادون بالذين للأب ثم يرجع الشقيق بما أخذه والشقيقة بتمام النصف والشقيقتان بتمام الثلثين)، يعني إذا كان الجد مع إخوة شقائق وإخوة للأب يعامل الجد باعتبار أن الإخوة للأب كالأشقاء، فإذا أخذ الجد حقه عومل الإخوة للأب كما لو لم يكن جد فيحجبونهم ويرجع الشقائق بما أخذوه للأب. قال في الرسالة: والإخوة للأب معه في عدم الشقائق كالشقائق فإن اجتمعوا عاده الشقائق بالذين للأب فمنعوه بهم كثرة الميراث ثم كانوا أحق منهم بذلك إلا أن يكون مع الجد أخت شقيقة ولها أخ لأب أو أخت لأب أو أخ وأخت للأب فتأخذ نصفها مما حصل وتسلم ما بقي إليهم اهـ. قال رحمه الله تعالى: (فإن كان معهم ذو فرض بدئ به ثم ينظر للجد في أحظ الأمور من المقاسمة كجد وأخ وزوجة)، يعني إذا اجتمع الجد والأخ وذو سهم كجد وأخ وزوجة فإنه يبدأ بالزوجة، فالمسألة من أربعة إن لم يكن للميت فرع وارث فلها ربع واحد من أربعة أسهام، وإن كان له فرع وارث فالمسألة من ثمانية: فلها ثمن واحد من ثمانية سهام والباقي بين الجد والأخ بالمقاسمة بالسوية. قال رحمه الله تعالى: (أو ثلث الباقي كزوجة وجد وثلاثة إخوة)، يعني من أحوال الجد في اجتماعه مع الإخوة وذوي سهم كزوجة وجد وثلاثة إخوة فالمسألة تصح

من اثني عشر: للزوجة ربع ثلاثة لعدم الفرع الوارث وللجد ثلث الباقي بعد فرض الزوجة والباقي بين ثلاثة إخوة لكل واحد منهم اثنان وثلث سهم. قال رحمه الله تعالى: (أو سدس الأصل كزوج وأم وجد وأخوين)، يعني من أحوال الجد اجتماعه مع الأخوين وذوي فرض، وذلك كزوج وأم وجد وأخوين فالمسألة تصح من اثني عشر: فالزوج له نصفها: ستة لعدم الفرع الوارث وللأم سدس: اثنان لوجود الأخوين وللجد سدسها: اثنان وهو سدس الأصل والباقي اثنان يأخذ كل أخ منهما سهمًا. قال رحمه الله تعالى: (ولا يفرض للأخت معه إلا في الأكدرية وهي زوج وأم وجد وأخت أصلها ستة وتعول إلى تسعة وتصح من سبعة وعشرين)، يعني من جملة أحوال الجد مع ذوي فرض المسألة المشهورة بالغراء وتسمى أيضًا بالأكدرية. قال في الرسالة وغيرها: ولا يعال للأخت مع الجد إلا في الغراء وهي امرأة تركت زوجها وأمها وأختها لأبوين أو لأب وجدها: فللزوج النصف وللأم الثلث وللجد السدس فلما فرغ المال أعيل للأخت بالنصف ثلاثة ثم جمع إليها سهم الجد فيقسم جميع ذلك بينهما على الثلث لها والثلثين له فتبلغ سبعة وعشرين سهمًا. اهـ. وإلى ذلك أشار بعضهم بقوله: أتيتك بالغراء فاعلم بأنها ... ستبلغ سبعًا بعد عشرين تجمعه فللزوج تسع وللأم ستة ... ثمانية للجد والأخت أربعه وعبارة ابن جزي في القوانين الفقهية في بيان هذه المسألة أنه قال: لا يفرض للأخت مع جد بل ترث معه في البقية إلا في الفريضة الأكدرية وتسمى الغراء وهي زوج وأم وجد وأخت شقيقة أو لأب: فللزوج النصف وللأم الثلث وللجد السدس ويعال للأخت بالنصف ثم يرد الجد سدسه ويخلط نصيبه مع نصيب الأخت ثم يقسمانه

للجد ثلثان وللأخت ثلث، وتصح الفريضة من سبعة وعشرين: للجد ثمانية وللأخت أربعة وللزوج تسعة وللأم ستة. هذا مذهب زيد ومالك. وقال عمر وابن مسعود: للزوج النصف وللأخت النصف وللجد سدس وللأم سدس على جهة العول، وإن كان مكانها أختان فأكثر سقط العول؛ لأن الأم لا تأخذ مع الأختين إلا السدس، ويقاسم الجد الأختين وإن كان مكان الأخت أخ شقيق أو لأب لم يكن له شيء؛ لأنه عاصب لم يفضل له شيء بعد ذوي السهام، فإن كان فيها أخ لأب وإخوة ولأم فهي الفريضة المالكية: وذلك أن تترك المتوفاة زوجًا وأمًا وجدًا وأخًا لأب وإخوة لأم: فمذهب مالك أن للزوج النصف وللأم السدس وللجد ما بقي ولا يأخذ الإخوة للأم شيئًا؛ لأن الجد يحجبهم ولا يأخذ الأخ للأب شيئًا؛ لأن الجد يقول له: لو كنت دوني لم ترث شيئًا؛ لأن ذوي السهام يحصلون المال بوراثة الإخوة للأم فلما حجبت أنا الإخوة للأم كنت أحق به. ومذهب زيد: أن للجد السدس وللأخ ما بقي وهو السدس، فإن كان فيها مكان الأخ للأب أخ شقيق فهي أخت المالكية، فمذهب مالك: أن الجد يأخذ ما بقي بعد ذوي السهام دون الأخ. ومذهب زيد: أن للجد السدس خاصة ويأخذ الأخ ما بقي كالحكم في التي قبلها اهـ. كلام ابن جزي. وإلى هذه المسألة الأخيرة أشار رحمه الله تعالى بقوله: (ويسقط الأخ في العالية وهي زوج وأم وجد وأخ يبقى سدس يأخذه الجد)، يعني من أحوال الجد مع ذوي فرض هذه المسألة المشهورة التي تسمى بالعالية وتسمى أيضًا بالمالكية؛ لأن مالكًا خالف فيها زيدًا فيما يأخذه الجد: فعند مالك: الجد يأخذ ما بقي بعد ذوي السهام، وعند زيد: الجد يأخذ السدس والأخ يأخذ ما بقي كما تقدم. قال ابن جزي: تنبيه: مذهب مالك موافق لمذهب زيد في الفرائض كلها إلا في المالكية وأختها وتوريث الجدة الثالثة. اهـ. انظر تلخيص مسائل الجد في القوانين فقد أجاد

فصل في الفرائض

وأحسن فيه جزاه الله تعالى عن المسلمين خير جزاء. ولما أنهى الكلام على ما تعلق بمسائل الجد وأحواله المتقدمة انتقل يتكلم على ما يتعلق بالأصول وهو بالمعنى: العدد الذي يخرج منه سهام الفريضة صحيحًا. قال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في الفرائض أي في بيان ما يتعلق بأصول الفرائض وعولها. والعول هو زيادة في السهام عند ازدحامها يلزمها النقص في الأنصباء بحسب الحصص. أما أصول المسائل فعدها المتقدمون سبعة وزاد المتأخرون أصلين في مسائل الجد مع الإخوة، ولذا قال بعضهم: أصول المسائل تسعة: اثنان، وثلاثة، وأربعة، وستة، وثمانية، واثنا عشر، وأربعة وعشرون، وثمانية عشر، وستة وثلاثون، واقتصر المصنف على ما مشى عليه المتقدمون ولذا قال رحمه الله تعالى: (الأصول سبعة)، يعني أن الأصول التي هي مخرج السهام سبعة أو تسعة باعتبار ما زادوه: الأول كما قال المصنف: (الاثنان) وصور ذلك بقوله: (كنصف ونصف كزوج وأخت أو وما بقي كبنت وأخت)، يعني أن أول الأصول السبعة أو التسعة: الاثنان لأنها مخرج النصف أو ما بقي بعدم كما وصف المصنف بقوله: كزوج وأخت أي كأن ماتت امرأة وتركت زوجها وأختها شقيقة أو للأب وكل واحد من الزوج والأخت يأخذ النصف أي واحدًا من اثنين، فالزوج له النصف لعدم الفرع الوارث والأخت تأخذ ما بقي وهو النصف الثاني تعصيبًا كذلك قوله: أو وما بقي كبنت وأخت، والمراد بالبنت مطلقًا سواء كانت بنت صلب أو بنت الابن فإنها تأخذ النصف إذا انفردت بعد أخذ البنت نصف المال فتأخذ النصف الثاني وهو ما بقي عن فرض بنت تعصيبًا أيضًا.

قال رحمه الله تعالى: (والثلاثة لثلث وثلثين)، يعني أن أصل الثاني من الأصول السبعة أو التسعة الثلاثة؛ لأنها مخرج للثلث والثلثين وصور ذلك بقوله رحمه الله تعالى: (كشقيقتين وأختين لأم أو ما بقي كأم وشقيق)، يعني إذا هلك هالك وترك شقيقتين له وأختين للأم فالمسألة تصح من ثلاثة: للأختين الشقيقتين الثلثان أي لهما سهمان من ثلاثة أسهم كما هو واضح وما بقي وهو الثلث للإخوة للأم. قوله: أو ما بقي كأم وشقيق يعني إذا هلك هالك وترك أمه وشقيقه فالمسألة تصح من ثلاثة: فلأمه الثلث وهو سهم والباقي ثلثان يأخذه الشقيق تعصيبًا. قال رحمه الله تعالى: (والأربعة لربع وما بقي)، يعني أن أصل الثالث من الأصول السبعة أو التسعة الأربعة: لأنها مخرج لربع وما بقي كما مثل المصنف بقوله: (كزوجة وشقيق أو نصف وما بقي كزوج وبنت وعاصب)، يعني إذا مات شخص وترك زوجة وشقيقًا فالمسألة تصح من أربعة: فللزوجة ربع وهو سهم واحد وللأخ الشقيق ثلاثة وهو ما بقي بعد فرض الزوجة يأخذه بالتعصيب. قوله: أو نصف وما بقي يعني أن الأربعة مخرج لنصف وما بقي كزوج وبنت وعاصب فإن للزوج الربع واحد من أربعة وللبنت النصف اثنان وما بقي للعاصب وهو سهم واحد. ثم قال رحمه الله تعالى: (والثمانية لثمن وما بقي)، يعني أن أصل الربع من الأصول السبعة أو التسعة الثمانية؛ لأنها مخرج لثمن وما بقي كما صوره بقوله: (كزوجة وابن أو نصف وما بقي كزوجة وبنت وعم)، يعني إذا مات شخص وترك زوجته وابنه فالمسألة تصح من ثمانية: فللزوجة ثمن المال واحد والباقي للابن تعصيبًا. قوله: أو نصف وما بقي كزوجة وبنت وعم، فتصح أيضًا من ثمانية. للزوجة الثمن كذلك وللبنت النصف أربعة وما بقي للعم تعصيبًا. فهذه الأصول الأربعة المتقدمة لا تعال، وإنما العول في غيرها وهي الثلاثة الباقية أي وهي الستة والاثنا عشر والأربعة والعشرون

فإنها تعال كما يأتي الكلام عليها عن قريب. قال رحمه الله تعالى: (والستة لسدس وما بقي)، يعني أن أصل الخامس من الأصول السبعة والتسعة الستة؛ لأنها مخرج لسدس وما بقي. قال الدردير: وهذه الأصول الخمسة هي مخارج الفروض الستة في كتاب الله تعالى: النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس، ولم تكن ستة كأصلها لاتحاد مخرج الثلث والثلثين، وكلها مشتقة من عددها إلا الأول. اهـ. قال المصنف في وصفه لمخرج السدس: (كأم وابن أو وثلث وما بقي كأم وأخوين لأم وشقيق أو ونصف وما بقي كأم وبنت وعم أو السدسين والثلثين كأبوين وابنتين)، يعني إذا مات شخص وترك أمه وابنه، فتصح المسألة من ستة: فلأمه السدس واحد والباقي للابن تعصيبًا. قوله: أو وثلث وما بقي يعني أن الستة مخرج لثلث وما بقي كما إذا مات شخص وترك أمه وأخوين لأم وشقيق: فلأمه السدس واحد، لوجود عدد من الإخوة فلأخوين للأم الثلث: اثنان. والباقي ثلاثة للأخ الشقيق تعصيبًا. قوله: أو ونصف وما بقي كما إذا مات شخص وترك أمه وبنته وعمه، فتصح المسألة من ستة: فلأمه السدس واحد وللبنت النصف ثلاثة والباقي اثنان للعم تعصيبًا. قوله: أو السدسين والثلثين يعني إذا مات شخص وترك أبوين وابنتين: فللأبوين لكل واحد منهما السدس والباقي أربعة لكل واحدة من البنتين اثنان: وتقدم أن الستة يعال لها وتعال أربع مرات متوالية: فتعال بمثل سدسها لسبعة وإليه أشار رحمه الله بقوله: (وتعول بسدسها كأم وشقيقتين وأخوين لأم. وثلثها وزوج وشقيقة. ونصفها كزوج وشقيقتين وإخوة لأم. وثلثيها تزيد أمًا)، يعني أن الستة تعول إلى سبعة وإلى ثمانية وإلى تسعة وإلى عشرة. قال رحمه الله مشيرًا بذلك: كأم وشقيقتين وأخوين لأم، فتصح المسألة من سبعة

بعولها، وأصلها ستة فللأم سدس واحد وللشقيقتين ثلثان أربعة وللأخوين للأم ثلث اثنان. قوله: وثلثها يعني تعول الستة بمثل ثلثها وهو اثنان، وإذا ماتت امرأة وتركت أمها وزوجها وأختها الشقيقة فتصح المسألة من ثمانية بعولها، وأصلها من ستة: فللأم ثلث: اثنان وللزوج نصف: ثلاثة وللأخت الشقيقة ما بقي وهو ثلاثة أسهام. قوله: ونصفها يعني أن الستة تعول بمثل نصفها كزوج وشقيقتين وإخوة لأم. فتصح من تسعة بعولها، وأصلها ستة: فللزوج نصف ثلاثة وللإخوة للأم ثلث اثنان وللشقيقتين ما بقي وهو ثلثان. قوله: وثلثيها يعني أن الستة تعول بمثل ثلثيها العشر لزيادة أم على ما تقدم، فإذا ماتت امرأة وتركت زوجها وأمها وشقيقتيها وإخوة لأم، فالمسألة تصح من عشرة بعولها وأصلها ستة: فللزوج نصف ثلاثة وللأم سدس واحد وللشقيقتين ثلثان أربعة وللإخوة للأم ثلث اثنان وهي التي تسمى بأم الفروخ بالخاء المعجمة، سميت بذلك لكثرة ما فرخت في العول، قاله الدردير على أقرب المسالك. ثم قال رحمه الله تعالى: (والاثنا عشر لربع مع سدس)، يعني أن أصل السادس من الأصول السبعة أو التسعة الاثنا عشر؛ لأنها مخرج لربع مع سدس. قال العلامة أحمد بن جزي: وأما الاثنا عشر فتعول إلى ثلاثة عشر وإلى خمسة عشر وغلى سبعة عشر، وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله: (كزوج وجدة وابن أو مع الثلث كزوجة وأم وعم وتعول إلى ثلاثة عشر كزوجة وشقيقتين وأخ لأم وإلى خمسة عشر تزيد أخًا لأم وإلى سبعة عشر تزيد جدة)، يعني إذا ماتت امرأة وتركت زوجها وجدتها وابنها فالمسألة تصح من اثنا عشر: فللزوج الربع ثلاثة وللجدة السدس اثنان وما بقي للابن تعصيبًا. قوله: أو مع الثلث كزوجة وأم وعم يعني إذا مات شخص وترك زوجته وأمه وعمه، فالمسألة تصح من اثنا عشر: فللزوجة الربع ثلاثة وللأم الثلث أربعة وما بقي للعم تعصيبًا. قوله: وتعول إلى ثلاثة عشر كزوجة وشقيقتين وأخ لأم يعني إذا مات شخص وترك

زوجته وشقيقتين وأخًا لأم، فالمسألة تصح من ثلاثة عشر بعولها؛ لأنها تعول بمثل نصف سدسها: واحد، فللزوجة الربع ثلاثة وللشقيقتين الثلثان ثمانية أسهام وللأخ لأم السدس سهمان. قوله: وإلى خمسة عشر تزيد أخًا لأم، يعني إذا مات شخص وترك زوجته وشقيقتين وإخوة لأم، فالمسألة تصح من خمسة عشر بعولها؛ لأنها تعول بمثل ربعها ثلاثة: فللزوجة الربع ثلاثة كما سبق في مسألة قبلها وللشقيقتين الثلثان ثمانية وللإخوة لأم الثلث أربعة. قوله: إلى سبعة عشر تزيد جدة، يعني إذا مات شخص وترك زوجته وشقيقتين وإخوة لأم وجدة، فالمسألة أصلها من اثنا عشر وتعول بمثل ربعها وسدسها خمسة فتصح من سبعة عشر كما تقدم: فللجدة السدس اثنان فتأمل. وفي النفراوي: وأما الاثنا عشر فتعول ثلاث عولات على توالي الأفراد، فتعول إلى ثلاثة عشر بمثل نصف سدسها كزوج وأم وبنتين: فللزوج الربع وللأم السدس وللابنتين الثلثان، ومجموعهما من الاثني عشر ثلاثة عشر، وتعول إلى خمسة عشر بمثل ربعها كزوج وأبوين وابنتين: للزوج الربع وللأبوين سدسان وللبنتين الثلثان ومجموعها خمسة عشر. وتعول إلى سبعة عشر بمثل ربعها وسدسها كزوجة وأم وولديها وأخت لأبوين وأخت لأب، ومجموعها من الاثني عشر سبعة عشر اهـ. ثم ذكر أصل السابع فقال رحمه الله تعالى: (والأربعة والعشرون لثمن مع سدس كزوجة وأم وابن، أو مع ثلثين كزوجة وابنتين وعاصب)، يعني أن أصل السابع من الأصول السبعة أو التسعة الأربعة والعشرون؛ لأنها مخرج لثمن من سدس. قال النفراوي: وأما الأربعة والعشرون فتعول عولة واحدة إلى سبعة وعشرين، وتسمى البخيلة والمنبرية، فتعول بمثل ثمنها ثلاثة كزوجة وأبوين وابنتين، ولما سئل عنها سيدنا علي، رضي الله عنه، قال في خطبته: صار ثمنها تسعًا. اهـ. قال رحمه الله تعالى: (وتعول إلى سبعة وعشرين)، يعني أنها تعول عولة واحدة بمثل

ثمنها كما تقدم، ومن أمثلتها أنه إذا مات شخص وترك زوجته وأمه وابنه، فالمسألة من أربعة وعشرين: فللزوجة الثمن ثلاثة وللأم السدس أربعة والباقي للابن تعصيبًا. قوله: أو مع ثلثين كزوجة وابنتين وعاصب. يعني من أمثلة هذا الأصل أن يجتمع صاحب الثمن وصاحب الثلثين وما بقي، كما إذا مات شخص وترك زوجة وابنتين وعاصبًا، فالمسألة تصح من أربعة وعشرين: فللزوجة الثمن ثلاثة وللبنتين الثلثان ستة عشر: لكل واحدة منهما ثمانية والباقي للعاصب. ومن أمثلة هذا الأصل كما قال رحمه الله تعالى: (كزوجة وأبوين وبنتين وهي المنبرية)، يعني إذا اجتمع زوجة وأبوان وبنتان فهي المسألة التي تسمى بالمنبرية كما تقدم ذكرها، فتصح من سبعة وعشرين مع عولها: فللزوجة الثمن ثلاثة وللأبوين الثمانية لكل واحد منهما السدس أربعة والباقي ستة عشر سهمًا للبنتين. لكل واحدة منهما الثمانية. ثم نذكر الأصلين الزائدين كما مر، أعني أن أصل الثامن من الأصول التسعة الثمانية عشر. قال بعضهم: وهي أصل كل مسألة فيها سدس وثلث الباقي كأم وجد وأخوين وأخت لغير أم، وترتيب هذا الأصل: للأم سدس ومخرجه ستة فتأخذ واحدًا ويبقى خمسة للجد فيها ثلثها لأنها أحظ له والثلاثة مخرج ثلث الباقي - تباين الخمسة فتضرب ثلاثة في أصل المسألة ستة يحصل ثمانية عشر هي الأصل الصحيح اهـ. وبيان ذلك أنه إذا مات شخص وترك أمه وجده وأخوين شقيقين وأختًا شقيقة فاضرب ثلاثة في ستة يحصل ثمانية عشر منها تصح المسألة، فللأم السدس ثلاثة وللجد ثلث الباقي خمسة أسهام وللشقيقين ثمانية أسهام لكل أربعة وللشقيقة سهمان. وأما أصل التاسع من الأصلين الزائدين فهو الستة والثلاثون. قال بعضهم: وهي أصل كل مسألة فيها ربع وسدس وثلث الباقي كزوجة وأم وجد وثلاثة إخوة وأخت لغير أم؛ لأن الباقي من مخرج الربع مع السدس بعد إخراجهما سبعة وهي تباين مخرج ثلث الباقي فتضرب مخرج الثلث ثلاثة

في اثني عشر يحصل ستة وثلاثون اهـ. وبيان ذلك أنه إذا مات شخص وترك زوجته وأمه وجده وثلاثة إخوة أشقاء وأختًا شقيقة فاضرب ثلاثة في اثني عشر يحصل ستة وثلاثون فتصح المسألة منها فللزوجة الربع تسعة أسهام وللأم السدس ستة أسهم وللجد ثلث الباقي سبعة أسهام، ولكل واحد من إخوته الثلاثة أربعة أسهام وللشقيقة سهمان اهـ. هذا حاصل ما في الأصلين الزائدين، والله أعلم. واعلم أن حاصل ما في الأصول كما نقله المواق عن ابن شاس ونصه: فالأصل الذي تنشأ عنه مسائل الفرض على قول المتقدمين سبعة أعداد: الاثنان وضعفهما وهو الأربعة وضعفها وهو الثمانية. والثلاثة وضعفها وهو الاثنا عشر وضعفها وهو الأربعة والعشرون ولا مخرج لها عند المتقدمين سوى هذه، ومقصود الفرضيين بتحرير هذه المخارج شيئان: أحدهما: قسمة السهام على أعداد صحاح من غير كسر. والثاني: طلب أقل عدد تصح فيه فيعولون عليه، فالاثنان لكل مسألة اشتملت على نصف ونصف كزوج وأخت أو على النصف وما بقي كزوج وأخ. والأربعة لكل فريضة اشتملت على ربع وما بقي كزوج وابن أو ربع ونصف وما بقي كزوج وبنت وأخ أو ربع وثلث ما بقي كزوجة وأبوين. والثمانية لكل فرض فيها ثمن وما بقي كزوجة وابن أو ثمن ونصف وما بقي كزوجة وبنت وأخ. وأما الثلاثة فلكل فريضة فيها ثلث وثلثان كإخوة لأم وأخوات شقائق أو لأب أو ثلث وما بقي كأم وأخ أو ثلثان وما بقي كبنتين وعم. والستة لكل فريضة فيها سدس وما بقي كجدة وابن أو سدس وثلث وما بقي كجدة وأخوين لأم وأخ لأب أو سدس وثلثان وما بقي كأم وبنتين وأخ أو نصف وثلث وما بقي كأخت وأم وابن أخ. والاثنا عشر لكل فريضة فيها ربع وثلث وما بقي كزوجة وأم وأخ أو ربع وسدس وما بقي كزوج وأم وابن أو ربع وثلثان وما بقي كزوج وبنتين وأخ. والأربعة والعشرون لكل فريضة فيها ثمن وسدس وما بقي كزوجة وأم وابن أو ربع وثلثان وما بقي

كزوج وبنتين وأخ ولا يتصور اجتماع الثمن والثلث. اهـ. ما ذكره ابن شاس ونقله المواق، لكن قوله: وربع وثمن سبق قلم فتنبه. قال رحمه الله تعالى: (ولا يجتمع ثمن وربع ولا ثلث)، يعني أنه لا يجتمع ثمن وربع في مسائل العروض ولا ثمن وثلث؛ لأن ذلك لا يتصور في فرض؛ لأن الثمن فرض زوجة أو زوجات مع وجود الفرع، كما أن الربع لمن ذكر مع عدم الفرع ولا يجتمعان. قال العلامة الباجوري في حاشيته على الشنشوري شارح الرحبية: قوله لا يتصور أن يجتمع الثمن مع الثلث ولا مع الربع أي لأن الوارث للثمن الزوجة بشرط وجود الفرع الوارث، والوارث للثلث الأم أو العدد من الإخوة للأم بشرط عدم الفرع الوارث، فشرط إرث الثمن نقيض شرط إرث الثلث والنقيضان لا يجتمعان. قوله: ولا مع الربع أي ولا يتصور أن يجتمع الثمن مع الربع؛ لأن الوارث للثمن الزوجة بشرط وجود الفرع الوارث كما مر، والوارث للربع إما الزوج بشرط وجود الفرع الوارث أو الزوجة بشرط عدم الفرع الوارث، واجتماع الزوجين في مسألة غير ممكن إلا في مسألة الملفوف وهي نادرة. قال الصاوي في حاشيته على الدردير: لا يمكن اجتماع زوجة وزوج يطلبان الإرث بالزوجية إلا في مسألة الملفوف المشهور. اهـ. مراد منه ولله در القائل: والثمن في الميراث لا يجامع ... ثلثًا ولا ربعًا وغير واقع اهـ. ثم أراد الشروع في بيان أخذ المسائل على مقاماتها وأعدادها من رؤوس الورثة على حسب فرائضهم ودرجاتهم وعلى بيان صحة المسائل وانكسارها والنظر فيها فقال رحمه الله تعالى: (فتؤخذ المسألة من عدد ذكور العصبة في درجتها أو عدد إناثهم وضعف ذكورهم)، يعني كما في القوانين: إذا كان الورثة كلهم عصبة فأصل فريضتهم عدد رؤوسهم، فإن كانوا كلهم ذكورًا فعد كل واحد منهم بواحد، وإذا كانوا ذكورًا وإناثًا فعد الذكر باثنين والأنثى بواحد، وإذا كان فيها صاحب سهم فأصل الفريضة من

مقام سهمه كما قال بعضهم: متى صحت المسألة من أصلها فذلك واضح غني عن العمل. قال صاحب الرحبية: وإن تكن من أصلها تصح ... فترك تطويل الحساب ربح وأما إذا لم تصح من أصلها بل وقع فيها انكسار على فريق واحد أو على فريقين أو على ثلاث فرق أو على أربع فرق ولا يزيد الانكسار على أربع فرق فاطلب بيان الحكم في ذاك. قال ابن جزي: ولا بد من تقديم مقدمة وهي أن كل عدد بالنسبة إلى عدد آخر لا يخلو من أن يكونا متماثلين أو متداخلين أو متوافقين أو متباينين: فأما المتماثلان فلا خفاء فيهما كثلاثة مع ثلاثة أو عشرة مع عشرة، وأما المتداخلان فهما اللذان يكون فيهما الأصغر داخلاً تحت الأكبر بعده مرتين فأكثر حتى يفنى كدخول الثلاثة تحت الستة وتحت التسعة وتحت الخمسة عشر، وأما المتوافقان بجزء ويعدهما اسم ذلك الجزء كالأربعة والستة فإنهما اتفقا بالنصف ويعد كل واحد منهما اثنين، وأما المتباينان فهما ما سوى ذلك فافهم هذا. اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: (فإن اشتملت على فرض فمن مخرجه أو على فرضين نظرت فإن تباينا كثلث وربع ضربت أحدهما في الآخر أو توافقًا كسدس وربع ضربت الوفق في الكامل فالحاصل أصل المسألة)، يعني فإن اشتملت المسألة على فرض تحصل من مخرجه أو على فرضين نظرت عليهما: إما أن يتوافقا أو يتباينا، فإن تباينا كثلث وربع فاضرب أحد المتباينين في الآخر يحصل اثنا عشر منها تصح المسألة، أو توافقا كسدس وربع فاضرب الوفق في الكامل يحصل أربعة وعشرون فمنها تصح المسألة. قال ابن جزي في القوانين: فإن انقسمت سهام الفريضة على رؤوس أهلها فلا إشكال، وذلك إذا تماثلا أو كان عدد الرؤوس داخلاً تحت عدد السهام، وإن لم ينقسم فيحتاج إلى التصحيح. والانكسار يكون على فريق واحد وعلى فريقين وعلى ثلاثة

وقد يكون على أربعة في مذهب من يورث ثلاث جدات. فأما الانكسار على فريق فيكون في الموافقة والمباينة فإن تباين عدد السهام والرؤوس ضربت عدد الرؤوس في أصل الفريضة وصحت من المجموع ثم ضربت ما بيد كل وارث فيما ضربت فيه أصل الفريضة، وإن توافقا ضربت وفق عدد الرؤوس وهو الراجح في أصل الفريضة وصحت من المجموع ثم ضربت ما بيد كل وارث فيما ضربت فيه أصل الفريضة وهو الوفق. ولو ضربت عدد الرؤوس بجملتها كالمتباين لصح، ولكن المقصود الاختصار إلى أقل عدد صحيح تصح منه: مثال ذلك خمس بنات وأم وعاصب، فالفريضة من ستة: للبنات أربعة وهو مباين لرؤوسهن، فاضرب الخمسة وهي عدد الرؤوس في أصل الفريضة بثلاثين فمن ذلك تصح ثم اضرب الأربعة التي بيد البنات في الخمسة التي ضربت فيها أصل الفريضة يكن لهن عشرون: لكل واحدة أربعة وللأم السدس خمسة وللعاصب الباقي وهو خمسة، فلو كانت البنات ستًا لكانا متوافقين بالنصف، فتضرب وفق الرؤوس وهو ثلاثة في أصل الفريضة بثمانية عشر فمنها تصح ثم تضرب ما بيد كل وارث في الثلاثة فيكون للبنات اثنا عشر: لكل واحدة اثنان وللأم ثلاثة وللعاصب ثلاثة اهـ. قال رحمه الله تعالى: (فإن انقسم فبها فإن انكسر على حيز فإن تباينت سهمه كأم وابنين وبنتين ضربته في المسألة وإن توافق كست بنات وأبوين ضربت الوفق)، يعني فإن انقسم في بيان المتقدم فذلك مكتف فإن انكسر على حيز نظرت سهامه في التباين والتوافق، فإن تباين كأم وابنين وابنتين فاضربه في أصل المسألة يحصل لكل وارث فرضه على التفصيل الآتي. وإن توافق كست بنات وأبوين فاضرب الوفق في أصل المسألة يحصل بذلك نصيب كل وارث مضروبًا في وفقه كما سيأتي بيان جميع ذلك إن شاء الله تعالى. قال الناظم الشيخ سعيد بن سعد في دليل الحائض في علم الفرائض:

فإن تر القسم صحيحًا حصلا ... من أصلها فقد كفيت العملا وإن ترى كسرًا على صنف وقع ... فقابلن كل رؤوس الصنف مع سهامه بالوفق والتباين ... فإن تجد تباينًا فعين ضرب الرؤوس كلها في أصلها ... كذا مع العول إذا كان بها وإن تجد بينهما توافقًا ... فلتضربن وفق الرؤوس مطلقا في أصلها بالعول إن كان فما ... صحت به في الحالتين قسما كزوجة مع ستة أو خمسة ... من إخوة لغير أم الميت اهـ قال العلامة الدردير في أقرب المسالك: إن انقسمت السهام على الورثة كزوجة وثلاثة إخوة أو تماثلت مع الرؤوس كثلاثة بنين أو تداخلت كزوج وأم وأخوين فظاهر وإلا رد كل صنف انكسرت عليه سهامه إلى وفقه كزوجة وستة إخوة لغير أم وإلا فاضربه في أصل المسألة كبنت وثلاثة إخوة لغير أم وقابل بين الصنفين، فخذ أحد المتماثلين وأكثر المتداخلين وحاصل ضرب أحدهما في وفق الآخر إن توافقا وفي كله إن تباينا ثم بينه وبين ثالث كذلك ثم اضربه في أصل المسألة بعولها اهـ. أي يحصل المطلوب. قوله: كزوجة وثلاثة إخوة، المسألة من أربعة: للزوجة واحد ولكل أخ واحد. قوله: كزوج إلخ فالمسألة من ستة، للزوج النصف ثلاثة وللأم السدس واحد ولكل أخ واحد. وأما قوله: وإلا رد إلخ فالمعنى: وإن لا تنقسم السهام ولا تماثلت ولا تداخلت بأن انكسرت السهام على الورثة فإنك تنظر بين سهم المنكسر عليهم وبينهم بالموافقة والتباين فقط فإن توافقت فرد كل صنف انكسرت عليه سهامه إلى وفقه كما إذا مات شخص وترك زوجة وستة إخوة لغير أم بل أشقاء أو لأب فالمسألة أصلها أربعة: فللزوجة الربع واحد يبقى ثلاثة منكسرة على الستة إخوة ولكن توافق بالثلث فاضرب وفق الرؤوس وهو اثنان في أصل الفريضة أربعة بثمانية منها تصح:

فللزوجة اثنان ولكل أخ واحد. هذا حكمه إذا توافق أو تماثل أو تداخل، وأما إذا لم توافق السهام الرؤوس بأن باينتها فلا ترد الصنف المنكسر عليه سهامه بل اضربه بتمامه في أصل المسألة، كما إذا مات شخص وترك بنتًا وثلاث أخوات شقائق أو لب فالمسألة من اثنين: للبنت النصف وللأخوات الباقي؛ لأنهن عصبات مع البنت، وهو مباين لهن، فتضرب ثلاثة في اثنين بستة، فمن له شيء من أصل المسألة أخذه مضروبًا فيما ضربت فيه المسألة وهو ثلاثة: فللبنت واحد في ثلاثة بثلاثة وللأخوات الثلاث واحد في ثلاثة بثلاثة اهـ. قال رحمه الله تعالى: (أو على حيزين فإن تباينا وتباينت رؤوسهم كثلاث زوجات وشقيقتين ضربت ما حصل من أحدهما في الآخر في المسألة وفي توافقهما كتسع بنات وستة أشقاء تضرب حاصل الوفق في الكامل حاصل)، يعني كما في القوانين ونصه: أما الانكسار على فريقين فتنظر بين سهام كل فريق ورؤوسه كما تقدم، فما تباين مع السهام أثبت عدده وما توافق أثبت وفقه ثم تنظر بين العددين المثبتين من الرؤوس أو وفقها، فإن تماثلا اكتفيت بأحدهما وضربته في أصل الفريضة، وإن تداخلا اكتفيت بالأكبر وضربته في أصل الفريضة، وإن توافقا ضربت وفق أحدهما في كل الآخر ثم ضربت المجموع في أصل الفريضة، وإن تباينا ضربت أحدهما في الآخر ثم ضربت المجموع في أصل الفريضة، ثم ضربت ما يفد كل وارث فيما ضربت فيه أصل الفريضة، مثال ذلك: أختان شقيقتان وزوجتان وعاصبان، فأصلها من اثني عشر وانكسرت سهام الزوجتين والعاصبين وكل واحد منهما مباين لرؤوسه والرؤوس متماثلة، فاضرب أحدهما وهو اثنان في أصل الفريضة بأربعة وعشرين، فلو كان الزوجان أربعًا لدخل فيها رؤوس العاصبين فتكتفي بالأربعة وتضربها في أصل الفريضة بثمانية وأربعين، فلو ترك أما وست أخوات شقائق وأربع أخوات للأم فالمسألة بعولها من سبعة

وانكسرت سهام الشقائق على رؤوسهن وهي موافقة لهما فأثبت وفق الرؤوس وهو ثلاثة وقد انكسرت أيضًا سهام الأخوات للأم وهي موافقة لرؤوسها ووفقها اثنان وتباين الوفقان فاضرب أحدهما في الآخر بستة ثم اضرب الستة في السبعة باثنين وأربعين فمنها تصح ثم اضرب ما بيد كل وارث في الستة اهـ. وعبارة الدردير في هذه المسألة أنه قال: وإن انكسرت السهام على صنفين فإنك تنظر بين كل صنف وسهامه بالموافقة والمباينة كما تقدم ثم تنظر بين الرؤوس بعضها مع بعض بأربعة أنظار فقد يتماثلان فتكتفي بأحدهما وتضربه في أصل المسألة كأم وأربعة إخوة لأم وستة إخوة لأب: أصلها من ستة: للأم سهم منقسم عليها وللأخوة للأم الثلث اثنان لا ينقسمان على الأربعة ولكن يوافقان بالنصف، فرد الأربعة إلى نصفها وللإخوة للأب ثلاثة لا تنقسم ولكن توافق بالثلث، فردهم إلى اثنين، فكأن المسألة انكسرت على صنف واحد، فتضرب اثنين في ستة أصل المسألة يخرج اثنا عشر، فمن له شيء من أصل المسألة أخذه مضروبًا، في اثنين للأم سهم في اثنين اثنين إلخ، وغلى ذلك أشار الدردير بقوله: وقابل بين الصنفين فخذ أحد المتماثلين وقد يتداخل رجع الصنفين فتكتفي بأكثرهما كأم وثمانية إخوة لأم وستة إخوة لأب، فالمسألة من ستة: للأم سهم وللإخوة للأم سهمان لا ينقسمان عليهم ولكن يوافق عددهم بالنصف فتردهم إلى الأربعة وللإخوة للأب ثلاثة لا تنقسم وتوافق بالثلث فتردهم إلى اثنين واثنان داخلان في الأربعة فتكتفي بها وتضرب الأربعة في الستة بأربعة وعشرين فمن له شيء من أصل المسألة أخذه مضروبًا فيما ضربت فيه المسألة وهو أربعة: فللأم سهم في أربعة بأربعة إلخ، وإلى ذلك أشار الدردير بقوله: وأكثر المتداخلين ثم قال: وإن كان بين الصنفين موافقة فتضرب أحدهما في وفق الآخر كأم وثمانية إخوة لأم وثمانية عشر أخًا، فالمسألة من ستة: للأم سهم وللإخوة لأم اثنان لا ينقسمان عليهم، وتوافق بالنصف فترد الثمانية لأربعة وللأخوة للأب ثلاثة لا تنقسم، وتوافق بالثلث

فترد لستة وهي توافق الأربعة وفق الإخوة للأم بالنصف فتضرب وفق أحدهما في كامل الآخر باثني عشر في ستة أصل المسألة يحصل اثنان وسبعون، فمن له شيء في المسألة أخذه مضروبًا في اثني عشر، وإلى ذلك أشار بقوله: وحاصل ضرب أحدهما في وفق الآخر إن توافقا. قال: وقد يتباينان فيضرب كل في كل الآخر ثم في أصل المسألة كأم وأربعة إخوة لأم وست أخوات، أصلها ستة وتعول لسبعة: للأم سهم وللإخوة للأم اثنان وراجع لأولاد ألم اثنان مباين لوفق الأخوات الست وهو ثلاثة فتضرب ثلاثة في اثنين يحصل ستة ثم في أصل المسألة بعولها يحصل اثنان وأربعون، فمن له شيء من سبعة أخذه مضروبًا في ستة، وإلى ذلك أشار بقوله: وفي كله إن تباينا اهـ. كلام الدردير. ثم ذكر الانكسار مع تداخل في المسألة أو تماثل فيها قال رحمه الله تعالى: (وفي المسألة وتداخلها كزوجتين وبنت وأربعة أشقاء تضرب الأكثر وتماثلهما كزوجتين وشقيقين اضرب أحدهما في المسألة تكن من ثمانية وإن وافقا جعلت الوفقين أصلين وعملت كما تقدم)، يعني كما في خلاصة الكلام: وإن انكسرت على صنفين فتنظر بنظرين: تنظر بين كل صنف وسهامه بالتوافق والتباين فقط، فتحفظ وفق رؤوس الصنف والموافقة والكل في المباينة ثم تنظر بين المحفوظين بالنسب الأربع، فإن تماثلا فأحدهما جزء السهم، وإن تداخلا فأكبرهما جزء السهم، وإن توافقا تضرب وفق أحدهما في الآخر وحاصل الضرب جزء السهم، وإن تباينا تضرب أحدهما في الآخر والحاصل جزء السهم تضربه في أصل المسألة إن لم تعل، وفي مبلغها بالعول إن عالت يحصل التصحيح. مثال ذلك: لو خلف زوجتين وثلاثة إخوة لأم وعمًا، أصل المسألة من اثني عشر؛ لأن فيها ربعًا وثلثًا وبين مخرجيهما تباين، تضرب أحدهما في الآخر يحصل أصل المسألة اثنا عشر فتجد أن حصة الزوجتين ثلاثة منكسر عليهما، وحصة الإخوة أربعة منكسر عليهم فالانكسار إذا كان على الصنفين نظرنا أولاً بين

كل صنف وسهامه وجدنا أن بينهما تباينًا فحفظنا رؤوس الزوجتين اثنين ورؤوس الإخوة ثلاثة، فنظرنا ثانيًا بينهما فوجدنا تباينًا أيضًا فضربنا ثلاثة في اثنين تحصل ستة وهي جزء السهم ضربناه في أصل المسألة اثني عشر فحصل اثنان وسبعون وهو التصحيح اهـ. قال رحمه الله تعالى: (فتباينهما كأم وأربع أخوات لأم وست شقائق، وتوافقهما كأم وثمانية إخوة لأم وثمانية عشر لأب، وتماثلهما كأم وستة إخوة لأب وأربعة لأم. وتداخلهما كأم وثمانية إخوة لأم وستة لأب فإن وافق أحدهما رددته إلى وفقه وعملت كما تقدم. فتباينهما كأربع بنات وابن ابن وبنت ابن وتوافقهما كثماني بنات وستة بني ابن. وتداخلهما كأربع زوجات وستة أشقاء. وتماثلهما كأم وست بنات وثلاثة بني ابن أو على ثلاثة)، يعني كما قال خليل: ورد كل صنف انكسرت عليه سهامه إلى قوله: وإلا ففي كله إن تباينا. قال شارحه المواق عن ابن شاس: إن وقع الانكسار على صنفين فتعتبر عدد رؤوس كل صنف مع سهامه من حيث المباينة والموافقة خاصة فما وافق سهامه أقمنا وفقه مقامه وما باينها تركنا الرؤوس على حالها ثم تنظر بين العددين الحاصلين أعني الوفقين أو الكاملين أو الرؤوس والوفق، وتعتبر نسبة بعضها إلى بعض في أربعة: في التماثل والتداخل والتباين والتوافق، فإن تماثلا اقتصرنا على أحدهما وضربناه في أصل المسألة، وإن تداخلا اقتصرنا على الأكثر وضربناه في أصل المسألة، وإن توافقا ضربنا وفق أحدهما في كامل الآخر ثم ما اجتمع فأصل المسألة، وإن تباينا ضربنا جملة أحدهما في جملة الآخر ثم ما اجتمع فأصل المسألة فما انتهى إليه الضرب في جميع ذلك فمنه تصح المسألة على الصنفين جميعًا، وقد تبين من هذا أن كل واحد من الأقسام الثلاثة تعرض عليه الأحوال الأربع فتتضاعف بها اثنتا عشرة صورة، ويظهر تفصيل ما أجمل بالتمثيل. المثال الأول: أم وأربع أخوات لأم وستة إخوة لأب تصح من اثني عشر. الثاني: جدة وثمانية إخوة لأم وستة إخوة لأب

تصح من أربعة وعشرين. الثالث: أم وثمانية إخوة لأم وثمانية عشر ابن عم تصح من اثنين وسبعين. الرابع: أم وست أخوات أشقاء وأربع أخوات لأم تصح من اثنين وأربعين. الخامس: جدتان وزوجتان وأخوان لأب تصح من أربعة وعشرين. السادس: زوجتان وبنت وأربعة إخوة لأب تصح من اثنين وثلاثين. السابع: تسع بنات وستة إخوة لأب تصح من أربعة وخمسين. الثامن: ثلاث زوجات وشقيقتان وعاصبان تصح من أربعة وعشرين. التاسع: أم وست بنات وثلاثة بني ابن تصح من ثمانية عشر. العاشر: أربع زوجات وستة إخوة لأب تصح من ستة عشر. الحادي عشر: ثماني بنات وستة بني ابن تصح من ستة وثلاثين. الثاني عشر: أربع بنات وابن ابن وبنت ابن تصح من ثمانية عشر اهـ. ثم ذكر الانكسار على ثلاث فرق أي على ثلاثة أصناف. قال الخرشي: وإن رفع الانكسار في المسألة على ثلاثة أصناف وهو غاية ما ينكسر فيه الفرائض عند مالك؛ لأنه لا يورث أكثر من جدتين فإنه يعمل في صنفين منها على ما مر، ثم انظر بين الحاصل من الصنفين وبين الصنف الثالث بالموافقة والمباينة والمماثلة والمداخلة ثم ما حصل انظر فيه كذلك بالوجوه الأربعة: المماثلة والموافقة والمداخلة والمباينة، فإن تماثلت كلها رجعت لصنف واحد، وكذلك إن دخل اثنان منها في واحد، وإن تماثل اثنان منها أو دخل أحدهما في الآخر رجعت لصنفين وضرب في العول أيضًا إن كان كما ضرب فيها بلا عول اهـ. وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله: (ولا يتصور الكسر على أصلنا على أكثر كزوجتين وخمس بنات وثلاث شقائق فكل يباين سهامه وصاحبه فالحاصل من الضرب ثلاثون في المسألة يكون سبع مائة وعشرين ثم من له شيء يأخذه مضروبًا فيما ضربته في المسألة)، هذا كما ذكره المواق نقلاً عن ابن شاس أنه قال: فإن وقع الانكسار على ثلاثة أصناف فاختلف الحساب على طريقتين، وذكر بعض الأصحاب طريقة وجيزة مغنية عن

التطويل، فقال: يجعل النظر بين صنفين من الثلاثة كأنه لم يقع الانكسار إلا عليهما خاصة فتعمل فيهما على ما تقدم عمله في الانكسار على صنفين حتى إذا انتهت في الإقامة إلى عدد المنكسرين أعني الذي يضرب في أصل المسألة نظرنا بينه وبين العدد الثالث الباقي ثم عملنا فيه ما عملناه في العددين الأولين فما انتهى إليه العمل وحصل من مبلغ الضرب جعلناه عدد المنكسرين هاهنا ضربناه في أصل المسألة فما انتهى إليه الضرب فمنه تصح اهـ. وعبارة ابن جزي في القوانين أنه قال: وأما الانكسار على ثلاثة فرق فأحسن عمل فيها عمل الكوفيين، وهو أن تنظر في الفريقين خاصة بحسبما تقدم فما تلخص منها نظرته مع الثالث كما تنظر بين الفريقين، قال: فإن كان فريق رابع نظرت ما تلخص من الثلاثة معه ثم تضرب ما تلخص آخرًا في أصل الفريضة ثم تضرب فيه ما بيد كل وارث فتكون أبدًا إنما تنظر بين فريقين نختصر التمثيل اعتمادًا على البيان المتقدم وخوف التطويل اهـ. بحروفه. ثم قال رحمه الله تعالى: (ومعرفة نسبة العددين أن يفنى أحدهما بالآخر فإن أفناه فمتداخل وإن فضل واحد فمتباين وإلا عكست فتكون الموافقة بمخرج المفني كان أصم كجزء من أحد عشر أو ثلاثة وعشرين أو مفتوحًا كأحد الكسور التسعة والمماثلة ظاهرة)، يعني هذا بيان معرفة التماثل والتداخل والتوافق والتباين بين العددين، قال العلامة الدردير في أقرب المسالك: إذا فرض عددان فإما أن يكون بينهما التساوي كخمسة وخمسة وهما المتماثلان أو التفاضل فإن كان القليل جزءًا واحدًا من الكثير كالاثنين والأربعة وكالثلاثة والخمسة عشر فمتداخلان، وإن لم يكن جزءًا واحدًا منه فإن كان بينهما موافقة في جزء أو أكثر فمتوافقان كأربعة وستة، فإن لكل منهما نصفًا صحيحًا وكثمانية واثنا عشر، فإن لكل منهما نصفًا صحيحًا وربعًا. وإن لم يكن بينهما موافقة فمتباينان، والواحد يباين كل عدد والأعداد الأوائل كلها

متباينة. والعدد الأول ما لا يفنيه إلا الواحد كالاثنين والثلاثة والخمسة والسبعة والأحد عشر والثلاثة عشر ونحوها. والأربعة تسمى أوائل منطفه وما عداها أوائل أصم فلو ألبست النسبة بين العددين فأسقط الأصغر من الأكبر مرة بعد أخرى فإن فني الأكبر فمتداخلان، وإن بقي من الأكبر واحد فمتباينان: كثلاثة وسبعة أو عشرة، وإن بقي أكثر من واحد فأسقطه من الأصغر مرة فأكثر، فإن فني به الأصغر فمتوافقان كعشرة وخمسة عشر وكعشرين وأربعة وثمانين وإلا فإن بقي منه واحد فمتباينان كخمسة وتسعة وكثلاثين وسبعة وإن بقي أكثر فاطرحه من بقية الأكبر، فإن فنيت به فمتوافقان كعشرين وخمسة وسبعين أو بقي منهما واحد فمتباينان أو أكثر فاطرحه من بقية الأصغر وهكذا تسلط بقية كل عدد على العدد الذي طرحته به فإن بقي واحد فمتباينان أو لا يبقى شيء فمتوافقان بما للعدد الأخير المفني لكل منهما من الأجزاء. واعلم أن كل متماثلين متوافقان بما لأحدهما من الأجزاء وكذا كل متداخلين متوافقان بما لأصغرهما ولكن لا يطلق عليهما متوافقان اصطلاحًا؛ لأن المتوافقين هما مشتركان ليسا متماثلين ولا متداخلين، والمعتبر من أجزاء الموافقة إذا تعددت أقلها طلبًا للاختصار اهـ. كلام الدردير: ثم ذكر رحمه الله تعالى بقية من يستحق الميراث ممن يظن عدم إرثهم فقال: (والمنفي باللعان يتوارث وإخوته كإخوة لأم كأولاد الزانية وتوأمه كإخوة لأبوين بخلافهما ولا توارث بالشك كالمسبيين الذين لا تعرف أنسابهم) يعني أن ولد المنفي باللعان يتوارث بينه وبين أمه وإخوته لأم، ولا توارث بينه وبين أبيه الذي نفاه عن نفسه باللعان ما لم يرجع عن نفيه، لما في الموطأ عن مالك: أنه بلغه أن عروة بن الزبير كان يقول في ولد الملاعنة وولد الزنا: إذا مات ورثته أمه حقها في كتاب الله تعالى وإخوته لأمه حقوقهم ويرث البقية موالي أمه إن كانت مولاة، وإن كانت

عربية ورثت حقها وورث إخوته لأم حقوقهم وكان ما بقي للمسلمين. قال مالك: وبلغني عن سليمان بن يسار مثل ذلك، وعلى ذلك أدركت أهل العلم ببلدنا اهـ. قال ابن جزي في القوانين: الرابع من موانع الميراث اللعان، فلا يرث المنفي به النافي ولا يرثه هو، وإذا مات ولد الملاعنة ورثته أمه وإخوته للأم وما بقي لبيت المال وتوأما الملاعنة شقيقان وتوأما البغي للأم، وفي توأمي المغتصبة قولان. قال: المانع الخامس الزنا، فلا يرث ولد الزنا والده ولا يرثه هو؛ لأنه غير لاحق به، وإن أقر به الوالد حد ولم يلحق به اهـ. قال الناظم رحمه الله تعالى: وقل أشقا توأما اللعان ... وفي الزنا للأم ينسبان قال شارحه: أي ثبت للتوأمين المنفي حملهما بلعان الزوج لزوجته حكم الأخوين الشقيقين، والتوأمان هما الولدان اللذان جمعهما حمل واحد وبينهما في النزول أقل من ستة أشهر وهي التي أقل مدة للحمل فيتوارثان توارث الشقيقين. اهـ. قاله في مصباح السالك شرح أسهل المسالك، وإلى جميع ما تقدم أشار خليل بقوله: ولا يرث ملاعن وملاعنة وتوأماها شقيقان. قال الخرشي: والمعنى أن توأمي الملاعنة يتوارثان على أنهما شقيقان وكذلك توأما المسبية والمستأمنة يتوارثان على أنهم أشقاء على المشهور، وأما توأما الزانية والمغتصبة فالمشهور أنهما يتوارثان على أنهما إخوة لأم، وهو مذهب ابن القاسم لأن الحكم للأنثى قياسًا على المكاتبة والمدبرة ونحوهما اهـ. قوله: ولا توارث بالشك سواء كان الشك في السباب كعدم صحة النسب بين الوارث والموروث أو عدم صحة العقد مثلاً أو في الجهل بالسابق في الموت كما تقدم، وعلى كل حال فإن الشك من موانع الميراث وإن كمفقود. قال خليل: ومال المفقود للحكم بموته إلى أن قال: ووقف المشكوك فيه فإن مضت مدة التعمير فكالمجهول اهـ. كما تقدم في أحكام المفقود. ولما أنهى الكلام على ما تعلق بالفرائض ومسائله انتقل يتكلم على المناسخة ومسائلها وما يتعلق بها فقال رحمه الله تعالى:

فصل في المناسخة

فَصْلٌ في المناسخة أي في بيان ما يتعلق بالمناسخة، والمناسخة: من النسخ وهو لغة: الإزالة، وفي اصطلاح الفرضيين: أن يموت إنسان ولم تقسم تركته حتى يموت من ورثته وارث. قال العلامة الباجوري في حاشيته على الشنشوري: وهذا الباب من مستصعبات هذا الفن ولا يتقنه إلا ماهر في الفرائض والحساب كما في اللؤلؤة اهـ. واعلم أن المناسخة قسمان: قسم لا يفتقر لعمل وقسم يحتاج للعمل: أما الذي لا يفتقر للعمل ككون ورثة الثاني هم ورثة الأول، وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله: (إذا مات ثان قبل القسمة فإن كانت ورثته يرثونه كالأول فلا عمل كالإخوة بقي منهم واحد)، يعني كما إذا كان ثلاثة نفر في درجة كالشقيقين مات أحدهم وترك اثنين ثم مات الثاني قبل قسمة التركة وبقي واحد فإنه يرث المال كأن الميت الأول لم يترك إلا نفرًا واحدًا من إخوته. وقال بعضهم في الأمثلة: إذا مات ميت عن ورثة فمات أحدهم قبل القسمة فإن لم يرث الميت الثاني غير الباقين وكان إرثهم منه كإرثهم من الأول جعل الميت الثاني كأن لم يكن. مثاله: كأن يترك أربعة بنين وثلاث بنات مات أحد الأبناء قبل القسمة فبقي ثلاثة بنين وثلاث بنات فكأن الميت خلف من بقي فقط، فأصل المسألة عدد رؤوسهم تصح من تسعة: للذكر مثل حظ الأنثيين. وفي أقرب المسالك: إن مات وارث قبل القسمة وورثه الباقون كثلاثة بنين وزوج ليس أباهم فكالعدم اهـ. ثم ذكر القسم الثاني من قسمي المناسخة أي القسم الذي يفتقر للعمل فقال رحمه الله تعالى: (وإن لم يرثوا الأول أو يرثونه بغير المعنى الأول أفردت سهام الثاني من الأول فإن انقسمت عليهم فقد صحت من الأولى وإلا نظرت فإن وافقت تركته مسألته ضربت وفق الثانية في الأولى وإلا ضربت الثانية في الأولى فمن

له شيء من الأولى أخذه مضروبًا في الثانية أو وفقها ومن الثانية في تركة الثاني أو وفقها. وعلى هذا إذا تعدد الموتى)، يعني كما في عبارة ابن جزي في القوانين: أي وإن اختلف الورثة أو حظوظهم فالعمل في ذلك أن تصحح فريضة الميت الأول ثم فريضة الثاني ويقسم حظ الثاني من الفريضة الأولى على فريضته فإن انقسم صحت الفريضتان من عدد الأولى، وذلك في التماثل والتداخل، وأعطيت كل واحد حظه من الفريضتين إن ورث فيهما أو من الواحدة إن ورث فيها خاصة، وإن لم ينقسم وذلك إذا كان سهمه موافقًا للفريضة أو مباينًا فإن كان مباينًا فاضرب فريضته في الأولى وتصحان من المجموع، وإن كان موافقًا فاضرب وفق فريضته في الأولى وتصحان من المجموع ثم اضرب ما بيد كل وارث من الأولى في عدد الثانية أو وفقها وما بيد كل وارث من الثانية في نصيب الميت الثاني من الفريضة الأولى أو في وفقه، واجمع لمن يرث في الفريضتين حظه منهما. مثال ذلك: زوجة وشقيقة وأخ لأم وعم ثم ماتت الشقيقة عن أخيها للأم وعن العم فالفريضة الأولى من اثني عشر وحظ المتوفاة الثانية منها ستة وفريضتها ستة فانقسمت بالتماثل وصحت الفريضتان من اثني عشر للزوجة ثلاثة من الأولى وللأخ اثنان من الأولى وواحد من الثانية وللعم واحد من الأولى وخمسة من الثانية. فلو تركت الثانية ثلاثة بنين انقسمت بالتداخل، فلو تركت خمسة بنين لم تنقسم للتباين فتضرب الخمسة في الاثني عشر بستين ومنها تصح الفريضتان ثم تضرب ما بيد كل وارث من الأولى في خمسة وما بيد كل وارث من الثانية في ستة وهي نصيبها من الأولى. فلو تركت زوجًا وثلاثة بنين لم تنقسم للتوافق فتضرب وفق الأربعة وهو اثنان في الاثني عشر بأربعة وعشرين ثم تضرب ما بيد كل وارث من الأولى في اثنين وما بيد كل وارث من الثانية في ثلاثة وهي وفق نصيبها اهـ. كلام ابن جزي فتأمل. وفي عبارة لبعض الأفاضل أنه قال: وإن اختلف قدر الاستحقاق منهما فصح مسألة للميت الأول وصحح مسألة للثاني باعتباره

فصل في الخنثى

ميتًا آخر ثم انظر فإن انقسمت سهام الثاني من مسألة الأول على مسألته فالعدد الذي صحت منه مسألة الأول هو الجامعة للمسألتين فأعط كل وارث من ورثة الثاني حصته من نصيب الثاني من الأول، مثاله: زوج وأب وأم مات الزوج قبل القسمة عن ابن وبنت صححنا مسألة للأول فكان مصححها ستة وصححنا مسألة الثاني فكان مصححها ثلاثة عدد رؤوس الابن والبنت، ونصيب الميت الثاني الذي هو الزوج ثلاثة ومسألته ثلاثة فلا حساب للابن اثنان وللبنت واحد والجامعة ستة وهي نفس مسألة الأول ثم قال: وإن لم تنقسم سهامه على مسألته فانظر بين سهامه ومسألته بالتوافق والتباين فقط، فإن توافقا فاضرب وفق مسألته في جميع مسألة الأول تحصل الجامعة، وإن تباينا فاضرب مسألته في مسألة الأول تحصل الجامعة، ثم جزء السهم لمسألة ما ضرب فيها وهو نفس مسألة الثاني في المباينة ووفقها في الموافقة. وجزء سهم مسألة الثاني نصيبه من مسألة الأول في المباينة ووفقه في الموافقة وكل من له سهام في المسألتين يأخذها مضروبة في جزء سهمها، مثال ذلك: أن تترك زوجًا وأبوين مات الزوج عن ستة بنين، فأصل الأولى ستة وسهام الميت الثاني منها ثلاثة، وأصل الثانية ستة وبين الثلاثة والستة توافق بالثلث فاضرب وفق مسألة الثاني اثنان في ستة مصحح الأولى يحصل اثنا عشر هو الجامعة فجزء سهم الأولى وفق مسألة الثاني اثنان وجزء سهم الثانية وفق نصيب الميت الثاني وهو واحد. اهـ. خلاصة الكلام وبه انتهى خلاصة الكلام عن المناسخة ولم يبق إلا مشكلة الخنثى وسيزال عنها الإشكال عن قريب إن شاء الله تعالى. قال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في الخنثى أي في بيان ما يتعلق بأحكام الخنثى بأنواعه وفيما يتعلق بصفتيه من الأنوثة والذكورة،

والخنثى مأخوذ من الانخناث وهو التثني والتكسر أو من قولهم: خنث الطعام: إذا اشتبه أمره فلم يخلص طعمه، وهو آدمي له آلتا الرجل والمرأة أو له ثقبة لا تشبه واحدة منهما، والمشكل مأخوذ من شكل الأمر شكولاً وأشكل: التبس، والخنثى ما دام مشكلاً لا يكون أبًا ولا أمًا ولا جدًا ولا جدة ولا زوجًا ولا زوجة، وهو منحصر في أربع جهات: البنوة والأخوة والعمومة والولاء. والكلام فيه في المقامين: أحدهما فيما يتضح به وما لا يتضح ومحله كتب الفقه اهـ. شنشوري. قال رحمه الله تعالى: (يعتبر الخنثى بمباله فمن أيهما كان ثبت حكمه فإن بال منهما فالأكثر فإن استويا فالأسبق فإن استويا فالبلوغ من حيض أو احتلام ونبات اللحية أو الثدي فإن تساوت أحواله فمشكل)، يعني كما قال الدردير: ولو قامت به علامات الإناث أو الرجال اتضحت الحال وزال الإشكال، كما لو بال من فرجه دون ذكره أو كان بوله من الفرج أكثر خروجًا من الذكر وليس المراد أكثر كيلاً أو وزنًا، فإذا بال مرتين من الفرج ومرة من الذكر دل على أنه أنثى، ولو كان الذي نزل من الذكر أكثر كيلاً أو وزنًا أو كان بوله من الفرج أسبق حيث كان يبول منهما فإنه يدل على أنه أنثى، فإن اندفع منهما معًا اعتبر الأكثر، أو نبت له ثدي كثدي النساء لا كثدي رجل بدين فإن نبتا معًا أو لم ينبتا فباق على إشكاله، أو حصل حيض ولو مرة أو مني من الفرج إلى آخر ما تقدم اهـ. قال الخرشي: وحقيقة الخنثى سواء كان مشكلاً أم لا: من له آلة المرأة وآلة الرجل، وقيل: يوجد منه نوع ليس له واحدة منهما، وله مكان يبول منه ولا يتصور أن يكون أبًا ولا أمًا ولا جدًا ولا جدة ولا زوجًا ولا زوجة؛ لأنه لا يجوز مناكحته ما دام مشكلاً، وهو منحصر في سبعة أصناف: الأولاد وأولادهم والإخوة وأولادهم والأعمام وأولادهم والموالي اهـ. انظر الحطاب. ثم لما عرف حقيقة الخنثى أراد أن يبين مقدار ميراثه فقال: (له نصف

نصيبي ذكر وأنثى)، قال الخرشي: يعني أنه يأخذ نصف نصيبه حال فرضه ذكرًا وحال فرضه أنثى لا أنه يعطى نصف نصيب الذكر المحقق الذكورية المقابل له ونصف نصيب الأنثى المحققة الأنوثة المقابلة له، فإذا كان له على تقدير كونه ذكرًا سهمان وعلى كونه أنثى سهم فإنه يعطى نصف نصيب الذكر وهو سهم ونصيب الأنثى وهو نصف سهم فمجموع ذلك سهم ونصف سهم، وهذا إذا كان إرثه بالجهتين مختلفًا؛ لأن له أربع أحوال: حال يرث على أنه ذكر ويرث على أنه أنثى إلا أن ميراثه بالذكورة أكثر وحال يرث على أنه ذكر فقط وحال عكسه وحال مساواة إرثه ذكورة وأنوثة. فالأول: كما إذا كان ابنًا وابن ابن. والثاني: كما إذا كان عمًا أو ابن عم. والثالث: إذا كان في مسائل العول كالأكدرية فإنه لا يعال فيها إذا كان ذكرًا ولا يرث كما مر. والرابع: كما إذا كان أخًا لأم، والحكم في الثاني والثالث إعطاؤه نصف نصيب الوجه الذي يرث به ذكرًا كان أو أنثى، وأما الرابع فيعطى فرضه كاملاً لاستواء الحالتين. اهـ. وفي ذلك قال خليل: تصحح المسألة على التقديرات ثم تضرب الوفق أو الكل ثم في حالتي الخنثى تأخذ من كل نصيب من الاثنين النصف وأربعة الربع فما اجتمع فنصيب كل كذكر وخنثى فالتذكير من اثنين والتأنيث من ثلاثة تضرب الاثنين فيها ثم في حالتي الخنثى له في الذكورة ستة وفي الأنوثة أربعة فنصفها خمسة وكذلك غيره. قال شارحه: أي ممن معه من الورثة، فللذكر في الذكورة ستة وفي الأنوثة ثمانية ومجموعهما أربعة عشر فله نصفها سبعة ومجموعها مع الخمسة اثنا عشر اهـ. أفاده صاحب الإكليل. قال رحمه الله تعالى: (كخنثى وعاصب مسألة أنوثته من اثنين وذكوريته واحد داخل فاضرب اثنين في حالتيه تكن أربعة ففريضة تذكيره أي فاضرب فريضة تذكيره في تأنيثه باثنين وعكسها بواحد وذلك ثلاثة فهي له وللعاصب واحد)، يعني كما الميارة على العاصمية، قال: فإذا ترك الميت ابنًا وخنثى مشكلاً

فتعمل الفريضة على أنه ذكر فتكون من اثنين وعلى أنه أنثى من ثلاثة ثم تضرب الاثنين في الثلاثة بستة ثم تضرب الستة في حالتي الخنثى وهما حالتا الذكورة والأنوثة باثني عشر هي الجامعة اقسمها على الفريضة الأولى يخرج جزء سهمها ستة وعلى الثانية يخرج أربعة ثم تضرب للأولى واحدًا في ستة بها وواحدًا في أربعة بها المجموع عشرة اقسمها على حالتي الخنثى يخرج له خمسة، هذا إذا كان يرث على أنه ذكر وعلى أنه أنثى، وإرثه على أنه أنثى على نصف إرثه إن كان ذكرًا كما إذا كان ابنًا، وأما إن كان إنما يرث على أنه ذكر فقط كابن الأخ فإنما له نصف نصيب الذكر، أو على أنه أنثى فقط كالأخت في الأكدرية فإنما له نصف أنثى، أو على أنه يرث على الذكورة والأنوثة سواء كالأخ للأم فله نصيب كاملاً والله أعلم اهـ. وأما لو كانا خنثيين وعاصبًا فتتضاعف الأحوال في المسألة. قال خليل: وكخنثيين وعاصب فأربع أحوال تنهي لأربعة وعشرين لكل أحد عشر وللعاصب اثنان. قال الخرشي: يعني لو ترك الميت خنثيين وعاصبًا فإن العمل في ذلك لا بد فيه من أربع أحوال: تعمل فريضة التذكير من اثنين ولا شيء للعاصب، وفريضة التأنيث من ثلاثة: للعاصب سهم ولهما سهمان ثم تذكير أحدهما فقط من ثلاثة أيضًا ثم تذكير الأنثى وتأنيث الذكر من ثلاثة أيضًا فثلاث فرائض متماثلة تكتفي بواحدة منها وتضربها في حالتي التذكير وهي اثنان بستة ثم تضربها في الأحوال الأربع بأربعة وعشرين، فعلى تقدير تذكيرهما لكل واحد منهما اثنا عشر، وعلى تقدير تأنيثهما يكون لكل واحد منهما ثمانية وللعاصب ثمانية، وعلى تذكير واحد فقط يكون للذكر ستة عشر وللأنثى ثمانية وكذلك العكس ثم تجمع ما بيد كل واحد وتعطيه ربعه؛ لأن نسبة واحد هو إلى الأربع أحوال ربع، وقد علمت أن مجموع ما بيد كل خنثى أربعة وأربعون؛ لأنه في التذكير اثنا عشر وفي التأنيث ثمانية أيضًا في كونه أنثى والآخر ذكرًا وفي العكس ستة عشر وبيد العاصب ثمانية فيعطى لكل خنثى أحد عشر وللعاصب اثنين. اهـ.

قال رحمه الله تعالى: (وتتضاعف الأحوال بتعدده فللاثنتين أربعة وللثلاثة ستة وللأربعة ثمانية وعلى هذا)، يعني أن للخنثى إحدى حالتين: حال الذكورة وحال الأنوثة، وإذا كان في المسألة خنثيان تكون حالهما أربعًا كما مر آنفًا، وإذا كانوا ثلاثة خناثى تكون الأحوال ستًا، وإذا كانوا أربعة تكون الأحوال ثماني، ومهما زاد عدد الخناثى تضاعفت الأحوال كما للمصنف. وفي الخرشي: فإن كان في فريضة خنثى واحد فله حالتان، وإن كان اثنان فلهما أربع أحوال؛ لأنهما يقدران في حالة ذكرين وفي أخرى أنثيين وفي أخرى يقدر أحدهما ذكرًا والآخر أنثى وبالعكس. وهكذا فمهما زاد عدد الخناثى فإنك تضعف عدد الأحوال اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: (والمذهب أن ما أبقت الفروض فالأولى به عصبة فإن لم يكن فالموالي فإن لم يكن فبيت المال فإن عدم فللفقراء والمساكين)، يعني كما في الحطاب نقلاً عن المصنف في العمدة ونصها: المذهب أن ما أبقت الفروض يكون عند عدم العصبة لبيت المال وأنه وارث من لا وارث له. قال الدردير: وإن لم يكن عدلاً فيأخذ جميع المال أو ما أبقت الفروض. فإن لم يكن فللمسلمين، ولا يرد على ذوي السهام، ولا يرثه ذوو الأرحام هذا هو المشهور. وقيل: بل يرث بالرد والرحم واعتمده المتأخرون، فإن لم يكن فعلى ذوي الأرحام. اهـ. الدردير بتوضيح. وذكر الشيخ سليمان البحيري في شرح الإرشاد لهذا الكتاب نقلاً عن عيون المسائل أنه حكى اتفاق شيوخ المذهب بعد المائتين على توريث ذوي الأرحام والرد على ذوي السهام لعدم انتظام بيت المال. وقيل: إن بيت المال إذا كان غير منتظم يتصدق بالمال عن المسلمين لا عن الميت، والقياس صرفه في مصارف بيت المال إن أمكن، فإن كان ذوو رحم الميت من جملة مصاريف بيت المال فهم أولى اهـ. فراجع الفرع بعد قول المصنف: وذو جهتي فرض إلخ، هناك شيء من هذا المعنى فافهم ذلك.

تنبيه: سئل ابن رشد عمن مات في بلد وخلف فيه مالاً وفي بلد آخر مالاً وليس له وارث إلا جماعة المسلمين وليس أحد البلدين له وطنًا وأراد صاحب البلد الذي مات فيه أخذ المال الذي خلفه في البلد الثاني ومنعه صاحبه هل له ذلك أم لا؟ وكيف إن كان البلد الذي مات فيه وطنًا أو الذي لم يمت فيه؟ فأجاب بقوله: عامل البلد الذي فيه استيطان المتوفى أحق بقبض ميراثه، مات فيه أو في غيره كان ماله فيه أو فيما سواه من البلاد، ذكره في مسائل المواريث. اهـ. نقله الحطاب. ثم قال رحمه الله تعالى: (لا بالرد والرحم وورث المتأخرون بهما)، أي بالرد وإعطاء ذوي الأرحام وهو مذهب الإمام علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، وكذا عبد الله بن مسعود، وعليه أبو حنيفة وابن حنبل قالوا: يرد ما بقي عن الفروض على ذوي السهام، فإن لم يكونوا فلذوي الأرحام، وعليه ذهب بعض المتأخرين من المالكية حتى حكى بعضهم الاتفاق عليه كما تقدم. وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله: (فيزاد بالرد مثل ما نقص القول بحسب السهام إلا الزوجين فلا يرد عليهما)، يعني كما قال الدردير في أقرب المسالك: وعلى الرد فيرد على كل ذي سهم بقدر ما ورث إلا الزوج والزوجة فلا رد عليهما إجماعًا. قال العلامة الصاوي على الدردير: قوله: فيرد على كل ذي سهم أي فإن كان من يرد عليه شخصًا واحدًا كأم أو ولد أم فله المال فرضًا وردًا، وإن كان صنفًا واحدًا كأولاد أم أو جدات فأصل المسألة من عددهم كالعصبة، وإن كان صنفين جمعت فروضهم من أصل المسألة لتلك الفروض، فالمجتمع أصل المسألة الرد فاقطع النظر عن الباقي من أصل مسألة تلك الفروض فإنه لم يكن اهـ. قال رحمه الله تعالى: (وذوو الأرحام من عدا من ذكرناه من الورثة) يعني المراد بذوي الرحام: من لا يرث من الأقارب لا بالفرض ولا بالتعصيب، وعدهم في الجلاب خمسة عشر: الجد أبو الأم، والجدة أم أبي الأب، وولد الإخوة، والأخوات للأم،

والخال وأولاده، والخالة وأولادها، والعم للأم وأولاده، والعمة وأولادها، وولد البنات وولد الأخوات من جميع الجهات كلها، وبنات العمومة. اهـ. أفاده الشبراخيتي. وقال بعض الأفاضل: ذوو الأرحام هم أصناف كثيرة ترجع بالاختصار إلى أربعة أصناف: الأول: من ينتمي إلى الميت وهم أولاد البنات وأولاد بنات الابن وإن نزلوا. الثاني: من ينتمي إليهم الميت وهم الأجداد والجدات الساقطون وإن علوا. الثالث: من ينتمي إلى أبوي الميت وهم أولاد الأخوات وإن سفلوا ذكورًا كانوا أو إناثًا وبنات الإخوة ومن يدلي بهم وإن نزلوا. الرابع: من ينتمي إلى أجداد الميت وجداته وهم الأعمام من الأم والعمات مطلقًا والأخوال والخالات وإن تباعدوا وأولادهم وإن نزلوا. اهـ. قاله الشيخ محمد بن سالم التريمي في فقه المواريث. قال رحمه الله تعالى: (وينزل كل منزلة من يدلي به فإن كان أحدهما يدلي بوارث فالمال له كابن بنت وابن بنت بنت وإن أدليا بغير وارث والجهة واحدة فهو للأقرب كابن خال وبنت ابن خال وإن اختلفت كابن عمه وابن خالة فالجمهور أنه كذلك وقيل بل ينزل كل حتى يلحق بالميت)، يعني كما في الصاوي على الدردير: واعلم أن في كيفية توريث ذوي الأرحام مذاهب أصحها مذهب أهل التنزيل، وحاصله أننا ننزلهم منزلة من أدلوا به للميت درجة فيقدم السابق للميت، فإن استووا فاجعل المسألة لمن أدلوا به. وهو أول وارث بالفرض أو التعصيب مما يلي ذوي الأرحام، وحينئذ يعطى نصيب كل وارث بفرض أو تعصيب لمن أدلى به، فإن أدلى بعاصب أخذه عصوبة، وإن أدلى بذي فرض أخذه فرضًا وردًا، وكيفية إرثهم أنه ينزل كل واحد منهم منزلة من أدلى به إلا الأخوال والخالات فينزلون منزلة الأم وإلا الأعمام للأم والعمات مطلقًا ينزلون منزلة الأب المدلى به؛ لأنه هو أول وارث بالفرض أو بالتعصيب مما يلي ذوي الأرحام، وحينئذ فمن كان أقرب إلى وارث من البقية قدم بإرث

المال كله دون الباقين، وإن استووا في القرب إلى وارث قدر كأن الميت خلف من أدلوا به فيحب بعضهم بعضًا كالمدلى بهم ويستحق كل منهم قدر استحقاق من أدلى به، وقدر أيضًا كأن المدلى بهم ماتوا عن هؤلاء الأرحام فمن ورث منهم في المدلى به ورث هنا ومن لا فلا، وقدر استحقاقهم فهنا قدر استحقاقهم في المدلى بهم اهـ. قال العلامة الشيخ محمد سالم: ثم إن لنا بعد هذا التنزيل ثلاثة أنظار: الأول: أن ننظر في ذوي الأرحام هل سبق بعضهم إلى الوارث أو لا؟ فمن سبق منهم إلى وارث قدم مطلقًا سواء اتحد صنفه هو والباقون أو جهتهم أم لا. وسواء قربت جهته للميت أم بعدت. وذلك كما في بنت بنت بنت مع بنت بنت ابن ابن فالمال كله للثانية لسبقها إلى الوارث، فإن أمها وارثة بخلاف الأولى، فإن أمها غير وارثة، وإن كانت هي أقرب إلى الميت من الثانية. وكما في بنت أخ مع ابن ابن بنت فالمال كله لبنت الأخ لسبقها إلى الوارث ولا شيء معها لابن ابن البنت وهكذا. الثاني: أن ننظر حيث لا سبق إلى الوارث بين الورثة المدلى بهم بمراتب الحجب، وقدر الاستحقاق بتقدير حياتهم. فمن أدلى من ذوي الأرحام بوارث ورث ومن أدلى بمحجوب حجب. وذلك كما لو مات عن عمة وابن أخ لأم فالمال كله للعمة؛ لأنها تنزل منزلة الأب. ولا شيء لابن الأخ لأم؛ لأنه ينزل منزلة الأخ لأم، إذ لا شيء للأخ للأم مع وجود الأب. وكما لو مات عن ابن بنت وابن أخت لأم فالمال كله لابن البنت، ولا شيء لابن الأخت لأم لأنه أدلى بمحجوب. وذلك لأن كلا من ابن البنت وابن الأخت لأم ينزل منزلة أمه. والبنت لكونها فرعًا وارثًا تحجب الإخوة لأم. الثالث: أنه إذا لم يحجب أحد الورثة الآخر ننظر بين ذوي الأرحام بمراتب الحجب وقدر الاستحقاق عصوبة وفرضًا، وذلك أنه قد ينزل من ذوي الأرحام منزلة الأب أو غيره من الورثة اثنان فأكثر، فتجعل حصة من نزلوا منزلته لهم بتقدير أن من نزلوا منزلته مات وترك حصته إرثًا لهم، فيقسم بينهم على حسب ما يأخذونه من

تركة الوارث الذي نزلوا منزلته لو كان هو الميت عصوبة وفرضًا وحجبًا. مثال ذلك: مات عن عمة شقيقة وعمة لأب وعمة لأم وخال شقيق وخال لأب. فالعمات ينزلن منزلة الأب والأخوال ينزلون منزلة الأم. فكأن الميت مات عن أب وأم. حصة الأم الثلث وحصة الأب الباقي وهو الثلثان ثم إن حصة الأب يقدر فيها كأن الأب مات عن أخت شقيقة وأخت لأب وأخت لأم فتقسم أخماسًا: لأن مسألة الرد في حقهم من خمسة: للشقيقة ثلاثة وللأخت لأب واحد وللأخت لأم واحد. وحصة الأم يقدر فيها كأن الأم ماتت عن أخ شقيق وأخ لأب فتعطى جميعها للأخ الشقيق ولا شيء للأخ لأب؛ لأنه محجوب بالشقيق. فأصل المسألة ثلاثة اثنان منها للعمات غير منقسمة على مسألة ردهن وهي الخمسة فنضرب مسألتهن وهي الخمسة في أصل المسألة يكون الخارج خمسة عشر ومنه تصح المسألة، للخال الشقيق من ذلك خمسة حصة الأم وللعمات عشرة حصة الأب منها للعمة الشقيقة ستة. وللعمة للأب اثنان وللعمة للأم اثنان اهـ. وأما قول المصنف: وإن اختلف إلخ فلا حاجة تدعو إلى تكرار بيان زائد عما قدمناه لك فتأمل. انظر بقية الأمثلة لمسألة الرد وذوي الأرحام في فقه المواريث للشيخ المذكور جزاه الله في الدارين خير جزاء. ولنختم مسائل الرد بما نقله الصاوي عن الشنشوري على الرحبية أنه قال: واعلم أن مسائل الرد التي ليس فيها أحد الزوجين كلها مقتطعة من ستة، وأنها قد تحتاج لتصحيح، فإن كان هناك أحد الزوجين فخذ له فرضه من مخرج فرض الزوجية فقط وهو واحد من اثنين أو أربعة أو ثمانية واقسم الباقي على مسألة من يرد عليه، فإن كان من يرد عليه شخصًا واحدًا وصنفًا فأصل مسألة الرد مخرج فرض الزوجية، وإن كان من يرد عليه أكثر من صنف فأعرض على مسألة الرد الباقي من مخرج فرض الزوجية، فإن انقسم فمخرج فرض الزوجية أصل المسألة الرد كزوجة وأم وولديها. وإن لم ينقسم ضربت مسألة من يرد عليه في مخرج فرض الزوجية؛ لأنه لا يكون إلا مباينًا فما بلغ فهو أصل مسألة

فصل في الميراث

الرد وقد تحتاج مسألة الرد التي فيها أحد الزوجين لتصحيح أيضًا، إذا تقرر ذلك فأصول مسائل الرد كان فيها أحد الزوجين أم لا ثمانية أصول: اثنان كجدة وأخ لأم. وكزوج وأم. وثلاثة كأن وولديها. واربعة كأم وبنت وكزوجة وأم وولديها. وأربعة كأم وبنت وكزوجة وأم وولديها. وخمسة كأم وشقيقة. وثمانية كزوجة وبنت. وستة عشر كزوجة وشقيقة وأخت لأب. واثنان وثلاثون كزوجة وبنت وبنت ابن. وأربعون كزوجة وبنت وبنت ابن وجدة اهـ. تنبيه: إذا وجد زوج أو زوجة مع ذي الرحم أخذ فرضه تامًا، فلا يحجب الزوج من النصف إلى الربع ولا الزوجة من الربع إلى الثمن بأحد من الفروع الوارثين بالرحم، ولا يدخل على أحد منهم ضرر العول بازدحام الفروض. وما بقي بعد فرض أحد الزوجين فلذوي الأرحام يقسم عليهم كما يقسم الجميع لو انفردوا كأن لم يكن أحد الزوجين اهـ. قاله العلامة الشيخ أبو بكر بن شهاب الدين في فتوحات الباعث شرح تقرير المباحث. ولما أنهى الكلام على ما تعلق بمسائل الخنثى وأحكام الرد وذوي الأرحام وغير ذلك انتقل يتكلم على ما إذا اجتمع إقرار وإنكار في الميراث وما يتعلق بتصحيح المسائل في جميع ذلك فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في الميراث أي في بيان ما يتعلق بمسائل الإقرار والإنكار في الميراث، وتقدم بعض مسائل الإقرار من هذا الكتاب، والآن نتكلم عن اجتماع الإقرار والإنكار في الميراث وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله: (إذا اجتمع مسألتا ميراث: وإقرار وإنكار صححتهما)، يعني إذا اجتمع إقرار وإنكار في الميراث فإنه ينظر في فريضة الإنكار والإقرار معًا. قال الدردير: إن أقر أحد الورثة فقط بوارث فللمقر له ما نقصه الإقرار، تعمل فريضة الإنكار ثم فريضة الإقرار ثم انظر ما بينهما من تداخل وتباين وتوافق وتماثل وإليه

أشار رحمه الله تعالى بقوله: (فإن توافقتا ضربت الوفق في الآخر كالبنتين وابن أقر بآخر)، يعني أي إذا توافقتا فإنك تضرب الوفق في الآخر، وذلك كما إذا مات شخص وترك ابنًا وبنتين أقر الابن بابن آخر وكذبته الابنتان ففريضة الإنكار من أربعة وفريضة الإقرار من ستة وبينهما توافق بالأنصاف فتضرب اثنين في ستة أو ثلاثة في أربعة يحصل اثنا عشر فاقسمها على مسألة الإنكار يحصل للابن ستة ولكل بنت ثلاثة، وعلى مسألة الإقرار يخص المقر أربعة ولكل بنت سهمان فقد نقص المقر من حصته اثنان يدفعهما للمقر به، هذا حكم التوافق في المسألة. قال رحمه الله تعالى: (وإن تباينتا فإحداهما في الأخرى كشقيقتين وعاصب أقرت واحدة بأخ)، يعني أنه إذا تباينت مسألتا الإنكار والإقرار فاضرب إحداهما في الأخرى، وذلك كشقيقتين وعاصب أقرت واحدة من الأختين بأخ شقيق وأكذبها الباقون من الورثة، فمسألة الإنكار من ثلاثة ومسألة الإقرار من أربعة وبينهما تباين فتضرب ثلاثة في أربعة باثني عشر ثم تقسمها على الإنكار لكل أخت أربعة وللعاصب أربعة، وعلى الإقرار لكل أخت ثلاثة وللأخ ستة فقد نقص من حصة المقرة سهم تدفعه للمقر به، هذا حكم التباين. قال رحمه الله تعالى: (وإن تداخلتا فمن أكثرهما كشقيقتين وعاصب أقرت واحدة بثالثة)، يعني أنه إذا تداخلت مسألتا الإنكار والإقرار فإنك تكتفي بأكثرهما وذلك كشقيقتين وعاصب أقرت واحدة من الأختين بأخت شقيقة وكذبها الباقون من الورثة ففريضة الإنكار من ثلاثة وفريضة الإقرار تصح من تسعة لإنكار السهمين على الأخوات الثلاث فتضرب عدد الرؤوس المنكسر عليها سهامها في أصل المسألة وهو ثلاثة يخرج تسعة، فالثلاثة داخلة في التسعة فتقسم التسعة على الورثة باعتبار فريضة الإنكار لكل أخت ثلاثة وللعاصب ثلاثة ثم تقسمها على الورثة باعتبار فريضة الإقرار فلكل

أخت سهمان وللعاصب ثلاثة فقد نقصت المقرة سهمًا فتدفعه للمقر لها، هذا حكم التداخل في المسألة. قال رحمه الله تعالى: (وفي تماثلهما من أحدهما كأم وأخت لأب وعاصب أقرت بشقيقة)، يعني أن مسألتي الإنكار والإقرار إذا تماثلتا فهي من أحدهما كما قال رحمه الله ومثل ذلك بقوله: كأم وأخت لأب وعاصب أقرت بشقيقة، فالمعنى إذا أقرت أخت بأخت أخرى شقيقة للميت وأنكرتها الأم ففريضة الإنكار من ستة: للأم اثنان وللأخت ثلاثة وللعاصب الباقي وهو واحد، وكذلك فريضة الإقرار من ستة أيضًا. للشقيقة النصف وللأخت للأب السدس تكملة الثلثين وللأم السدس واحد وللعاصب ما بقي وهو واحد فقد نقصت حصة الأخت للأب سهمين تدفعهما للشقيقة المقر بها. قال العلامة الصاوي: أي فقد صار للأم سهمان وللعاصب سهم وللأخت المقرة سهم وللمقر بها سهمان. فلو أقرت بالشقيقة الأم فقط دفعت لها سهمًا وبقي لها سهم، ولا يلتفت للعاصب في الإقرار ولا في الإنكار لاستواء نصيبه فيهما. وإلى جميع ما تقدم أشار رحمه الله تعالى بقوله: (فمن له شيء من الإقرار يأخذه مضروبًا في مسألة الإنكار أو وفقها وبالعكس)، يعني إذا ضربت كل مسألة من هذه المسائل المتقدمة وحصل ما حصل من المضروبات فإن كل وارث يأخذ ما حصل له من النصيب مضروبًا في مسألة الإنكار أو الإقرار أو في وفق مسألة من أحدهما وهو معنى قوله: وبالعكس فتأمل اهـ. أفاد جميع ذلك الدردير بتوضيح من الصاوي وغيره. وأما عبارة ابن جزي لهذه المسائل على ما ذكره في الفصل الثاني في مسائل الإقرار والإنكار قال: إذا أقر وارث بوارث حيث لا يثبت النسب فإنما يأخذ المقر به ما يوجب الإقرار من نقص للمقر، فإن لم يوجب له نقصًا لم يأخذ شيئًا كزوجة أقرت بأم، وإن أقر بمن يحجبه أعطاه جميع نصيبه كابن ابن أقر بابن، وإن أقر بمن ينقصه أعطاه فضل ما يحصل له في الإنكار على ما يحصل له في الإقرار. والعمل في ذلك

أن تصحح فريضة الإنكار ثم فريضة الإقرار وتنظر بين عدديهما حتى يصحا معًا من عدد واحد فإن كانتا متماثلتين كفت إحداهما وأعطيت المقر به فضل ما بيد المقر في الإنكار وإن كانتا متداخلتين كفت الكبرى فقسمتها على الصغرى ثم ضربت ما بيد كل وارث من الصغرى في الخارج من القسمة. وإن كانتا متباينتين ضربت إحداهما في الأخرى ثم ضربت ما بيد كل وارث من هذه في عدد هذه وما بيد كل وارث من هذه في عدد هذه. وإن كانتا متوافقتين ضربت وفق أحدهما في جميع الأخرى ثم ضربت ما بيد كل وارث من هذه في وفق هذه وما بيد كل وارث من هذه في وفق هذه. مثال ذلك: زوج وابن أقر الابن ببنت ففريضة الإنكار من أربعة وكذلك الإقرار وبيد المقر في الإنكار ثلاثة وفي الإقرار اثنان فأعط المقر به واحدًا وهو فضل ما بيد المقر، فإن أقر الابن بابن كانتا متداخلتين، فمسألة الإنكار من أربعة والإقرار من ثمانية وبيد المقر في الإنكار ستة وفي الإقرار ثلاثة فأعط المقر به ثلاثة، فإن كان ثلاثة إخوة أقر أحدهم بأخ رابع كانتا متباينتين لأن الإنكار من ثلاثة والإقرار من أربعة فتضرب إحداهما في الأخرى باثني عشر يكون للمقر على الإنكار أربعة وعلى الإقرار ثلاثة فيأخذ المقر به واحدًا، ويتصور في هذا الباب أربع صور: الأولى: أن يتحد المقر والمقر به فالعمل على ما تقدم. الثانية: أن يتحد المقر به ويتعدد المقر فيأخذ المقر به من يد كل مقر ما نقصه الإقرار ويجمع له ذلك. الثالثة: أن يتحد المقر ويتعدد المقر به فيقسمون فضل ما بيد المقر على حسب محاصتهم. الرابعة: أن يتعدد المقر والمقر به فيأخذ كل مقر به ما بيد كل من أقر به اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: (فإن اجتمع ميراث ووصية صححت مسألة الوصية وأخذت جزءها فإن انقسم الباقي تم العمل وإلا صححت الفريضة أيضًا فإن وافقت الباقي بعد الوصية ضربت الوفق في الأخرى وإلا إحداهما في الأخرى)، يعني أنه إذا اجتمع ميراث ووصية فلا بد من تصحيح مسألة الوصية، وكيفية ذلك كما في القوانين

فصل في التركة

لابن جزي أنه قال: إذا أوصى بجزء معلوم كالثلث أو الربع أو العشر أو جزء من أحد عشر أو غير ذلك ففي العمل وجهان: أحدهما: أن تصحح الفريضة ثم تزيد عليها من العدد ما قبل الجزء الموصى به فإن أوصى بثلث زدت نصف الفريضة، وإن أوصى بربع زدت ثلثها، وإن أوصى بعشر زدت تسعها. الوجه الثاني: أن تنظر مقام الجزء الموصى به فتعطي للموصى له وصيته منه وتقسم الباقي على فريضة الورثة فإن انقسم صحت الفريضة والوصية من المقام وذلك في المماثلة والمداخلة، وإن لم تنقسم ضربت في المباينة عدد الفريضة في مقام الوصية وصحتا من المجموع وضربت في الموافقة راجع أحدهما في كل الآخر وصحتا في المجموع، مثال ذلك: ماتت امرأة وتركت زوجًا وثلاثة بنين وأوصت بالخمس فالفريضة من أربعة، فعلى الوجه الأول: تزيد عليها واحدًا وهو ربعها فتصحان من خمسة، وعلى الوجه الثاني: تأخذ مقام الخمس وهو خمسة فتعطي الموصى له واحدًا وتقسم الأربعة على الفريضة فتبقى كما كانت للتماثل، فلو أوصت بالثلث فعلى الوجه الأول يزيد عليها نصف الفريضة وهو اثنان فتصحان من ستة، وعلى الثاني تنظر مقام الثلث وهو ثلاثة فتعطي الموصى له واحدًا ويبقى اثنان لا تنقسم على الفريضة وتوافقها بالنصف فتضرب اثنين وهو راجع الفريضة في مقام الثلث وهو ثلاثة بستة ومنها تصحان ولولا الموافقة لضربت الفريضة كلها في مقام الثلث باثني عشر اهـ. ولما أنهى الكلام على ما تعلق بمسائل الجمع بين الإنكار والإقرار في الميراث انتقل يتكلم على ما هو أهم وهو الكلام على قسمة التركة فقال رحمه الله تعالى: فَصْلٌ في التركة أي في بيان ما يتعلق بقسمة التركة وكيفية العمل فيها ليأخذ كل وارث نصيبه بعد تخليص جميع الحقوق عنها. قال بعض الأفاضل: قسمة التركات هي الثمرة المقصودة من

هذا الفن وما تقدم من تأصيل المسائل وتصحيحها إنما هو وسيلة لها. قال رحمه الله تعالى: (وإذا أردت قسمة تركة معلومة القدر جعلتها أصل المسألة وصححت الفريضة)، يعني أنك إذا أردت أن تقسم التركة بعد علم قدرها فاجعلها أصل المسألة وصحح فريضتها بعد معرفة ما يلزم معرفته كالقيراط وغيره مما هو لازم في القسمة. قال بعضهم: اعلم أن كل شيء يقسم أربعة وعشرين قسمًا فيسمى أحدها قيراطًا وكل قيراط يقسم أربعة وعشرين قسمًا فيسمى أحدها دانقًا وكل دانق يقسم أربعة وعشرين قسمًا فيسمى أحدها (¬1) حبة ولقسمة التركة بهذه القاعدة أن تعرف قيراط المسألة بأن تقسم مصحح المسألة على مخرج القيراط أربعة وعشرين فما خرج بالقسمة من صحيح أو صحيح وكسر فهو قيراط المسألة ثم حول كل نصيب من مصحح المسألة إلى القيراط أي طريقة شئت. ومنها أن تقسم نصيب الوارث من المصحح على قيراط المسألة يخرج نصيبه من مخرج القيراط قراريط، فإن بقي بعد القسمة باق فاضربه اهـ. وإلى ذلك أشار رحمه الله تعالى بقوله: (فإن تباينا ضربت سهام كل في التركة ثم قسمت على الفريضة كزوج وأم وأخوين لأم والتركة خمسة وعشرون تقسمها على ستة يخرج النصيب أربعة دنانير وثلاثة قراريط وحبة فهو نصيب الأم ولكل من الأخوين مثله وللزوج ثلاثة أمثاله)، يعني إذا كان في المسألة تباين ضربت سهام كل وارث في التركة يخرج نصيب كل وارث ثم قسمها على الفريضة كزوج أي ماتت امرأة وتركت زوجها وأمها وأخويها لأم والتركة خمسة وعشرون دينارًا مثلاً وإذا قسمتها على الستة وهي أصل المسألة يخرج للزوج النصف وهو اثنا عشر دينارًا وتسعة قراريط وثلاث حبات ويخرج للأخوين للأم لكل واحد منهما أربعة دنانير وثلاثة قراريط وواحد حبة وهو الثلث ويخرج للأم أربعة دنانير وثلاثة قراريط وواحد حبة وهو السدس، هذا معنى عبارة المصنف فتأمل. ¬

(¬1) قوله: كل دانق ... إلخ، المشهور أن الدانق سدس القيراط والحبة ثلثه.

قال رحمه الله تعالى: (وإن توافقا والمسألة بحالها والتركة أربعة وعشرون ضربت سهم كل في وفق التركة وقسمت على وفق الفريضة)، يعني وإن توافقا والمسألة بحالها أي كما صورها المصنف بقوله: كزوج وأم وأخوين للأم وأصلها ستة كما تقدم فإنك تضرب سهم كل وارث في وفق التركة وتقسم على وفق الفريضة يخرج نصيبه من ذلك الوفق كما تقدم لكن التركة هنا أربعة وعشرون للموافقة، وبإسقاط واحد الدينار أسقطنا القراريط وما بعدها فتأمل. قال رحمه الله تعالى: (فإن كانت عينًا وعرضًا كعشرة دنانير وثوب فأخذت الأم الثوب بحقها فاجعل العين مالاً ذهب سدسه فأضف عليه مثل خمسه فهو قيمته. وإن أردت معرفة ما له من الدينار فانظر نسبة سهامه من التركة وأعطه مثل تلك النسبة من الدينار والله أعلم)، يعني إن كان في التركة عين وعرض كالدنانير أو الدراهم أو الثياب وغيرها أو كانت العروض من العقارات أو الحيوانات فأخذ بعض الورثة شيئًا من ذلك في نصيبه وأردت أن تعرف ثمن تلك العروض بالنسبة لذلك في سهام الآخذ فافعل كما أمرك المصنف بأن تجعل العين مالاً ذهب سدسه فأضف عليه مثل خمسه فهو قيمته اهـ باختصار. وإليه أشار خليل بقوله: وإن أخذ أحدهم عرضًا فأخذ بسهمه وأردت معرفة قيمته فاجعل المسألة سهام غير الآخذ ثم اجعل لسهامه من تلك النسبة. فإن زاد خمسة ليأخذ فزدها على العشرين ثم اقسم اهـ. قال الخرشي: قوله: وإن أخذ أحدهم، الضمير يرجع للزوج وللأم وللأخت المذكورين في المختصر، فإن أخذ أحدهم عرضًا من التركة في المسألة السابقة فأخذه عن جملة نصيبه من غير تعين لقيمته وأخذ باقيهم العين وأردت معرفة قيمة ذلك العرض والمراد بالقيمة ما يتراضى عليه الورثة لا ما يساويه للعرض في السوق فوجه العمل في ذلك أن تصحح الفريضة وتسقط منها سهام آخذ العرض وتجعل القسمة على الباقي، فإذا أخذ الزوج العرض فاقسم العشرين على سهام الأم

والأخت وذلك خمسة يكن الخارج لكل سهم أربعة فاضرب للزوج أربعة في ثلاثة سهامه باثني عشر وذلك ثمن العرض فتكون جملة التركة اثنين وثلاثين وكذلك لو أخذته الأخت وإن أخذته الأم كان الباقي بعد إسقاط سهمهما ستة فاقسم العشرين عليها يخرج ثلاثة وثلث هي جزء السهم اضربها في سهمهما يخرج ستة وثلثان هي قيمة العرض فالتركة ستة وعشرون وثلثان اهـ باختصار. وفي القوانين: إذا ضم أحد الورثة في نصيبه عرضًا أو عقارًا وأخذ سائرهم العين، فإن كانت قيمته قدر حظه فلا إشكال، وإن كانت أزيد دفع لسائر الورثة ما زاد، وإن كانت أقل دفع له سائر الورثة ما نقص ثم يقسم سائر الورثة ما كان في التركة من عين ويضيفون إلى ذلك ما زادهم أو ينقصون منه ما زادوه. وحاصل ما ذكره في قسمة التركة: أنه إن كان المال مما يعد أو يكال أو يوزن فاقسم عدده على العدد الذي صحت منه الفريضة، وإن كان عروضًا أو عقارًا فيقوم وتقسم قيمته أو يباع ويقسم ثمنه على عدد الفريضة فما خرج ضربت فيه ما بيد كل وارث فذلك ما يحصل له من المال، وإن شئت سميت ما بيد كل وارث من أصل الفريضة فذلك الاسم نصيبه من المال. مثاله: زوج وأم وابن فالفريضة من اثني عشر والمال ستون، فإذا قسمته على أصل الفريضة خرج خمسة فتضربها فيما بيد كل وارث فيكون للأم عشرة وللزوج خمسة عشر وللابن خمسة وثلاثون. وإن سميت يكن للأم سدس المال وهو عشرة وللزوج ربعه وهو الخمسة عشر وللابن ثلاثة أسداس ونصف سدس وهو الخمسة والثلاثون اهـ. وأما عبارة الشنشوري على شرح الرحبية في قسمة التركات أنه قال: وهي مبنية على الأربعة أعداد المتناسبة التي هي أصل كبير في استخراج المجهولات وهي مذكورة في كتب الحساب، وذلك أن نسبة ما لكل وارث من تصحيح المسألة إلى تصحيح المسألة كنسبة ماله من التركة إلى التركة، إذا تقرر ذلك فتارة تكون التركة مما لا تمكن قسمته

كالعقارات والحيوانات، فبقدر تلك النسبة تكون حصته من ذلك الموروث ثم تارة يعبر المفتي عنها بالقراريط وتارة يعبر عنها بالكسور المشهورة فهو مخير، والأولى مراعاة عرف ذلك البلد، ولو جمع بينهما كأن يقول مثلاً: للأم السدس أربعة قراريط لكان أولى، وتارة تكون التركة مما تمكن قسمته كالنقد أو ما يقدر بالوزن أو الكيل أو العدد أو ثمن أو قيمة ما لا تمكن قسمته أو أريد قسمة ما تمكن قسمته أو ما لا تمكن بالقراريط فيقدر مخرج القراريط وهو أربعة وعشرون كتركة مقدارها أربعة وعشرون دينارًا مثلاً ففي هذه الصور كلها إن كانت التركة مماثلة للتصحيح فالأمر واضح لا يحتاج لعمل كزوجة وبنت وأبوين والتركة عبد مثلاً أو أربعة وعشرون دينارًا فتصح المسألة من أصلها أربعة وعشرين: للزوجة ثلاثة وللبنت اثنا عشر وللأم أربعة وللأب خمسة، ومخرج القيراط أو التركة مساو كل منهما للتصحيح، فللزوجة ثلاثة قراريط من العبد أو ثلاثة دنانير وللبنت اثنا عشر قيراطًا من العبد أو اثنا عشر دينارًا وللأم أربعة قراريط من العبد أو أربعة دنانير وللأب خمسة قراريط من العبد أو خمسة دنانير. وإن كانت التركة غير مساوية لمصحح المسألة ففي قسمة التركة خمسة أوجه بل أكثر. الأول: وهو المشهور أن تضرب نصيب كل وارث من التصحيح في التركة أو مخرج القيراط وتقسم الحاصل على التصحيح يخرج ما لذلك الوارث، ففي المباهلة وهي زوج وأم وأخت شقيقة أو لأب لو كانت التركة عقارًا أو أربعة وعشرين دينارًا، فأصل المسألة ستة وتعول لثمانية ومنها تصح كما تقدم فاضرب للزوج ثلاثة في أربعة وعشرين مخرج القيراط أو عدد الدنانير يحصل اثنان وسبعون فاقسمها على الثمانية يخرج تسعة فللزوج تسعة قراريط في العقار أو تسعة دنانير وللأخت كذلك واضرب للأم اثنين في الأربعة والعشرين واقسم الحاصل وهو ثمانية وأربعون على الثمانية يخرج لها ستة قراريط في العقار أو ستة دنانير. ومنها وهو أصل الأوجه وهو أعمها نفعًا أن تنسب كل حصة من المصحح إليه

وتأخذ من التركة أو من مخرج القيراط بتلك النسبة ففي المثال المذكور انسب للزوج حصته وهي ثلاثة إلى الثمانية مصحح المسألة تكن ربعًا وثمنًا فله ربع الأربعة والعشرين وثمنها وذلك تسعة قراريط أو دنانير وإن شئت قلت: له ربع التركة وثمنها وللأخت كذلك. وانسب للأم اثنين إلى الثمانية تكن ربعًا فلها ربع الأربعة والعشرين ستة دنانير أو قراريط، وإن شئت قلت: لها ربع التركة اهـ. ومن أراد معرفة بقية الأوجه مع زيادة فعليه بشرح الترتيب للعلامة الشنشوري فقد أتى فيه بعجب العجائب من هذا الفن، والله أعلم. ولما أنهى الكلام على ما تعلق بقسمة التركة ومسائلها انتقل يتكلم على المسائل الجامعة على ما يأتي ولما مر من الأمور والأحكام مما يجب أن يعتني به الإنسان من أمر دينه ودنياه وذلك في أمور شتى. قال رحمه الله تعالى:

كتاب جامع

كتاب جامع أي هذا كتاب تجتمع فيه أشياء كثيرة وأمور شتى متنوعة ولا شك أن هذا الكتاب قد احتوى من العلوم النافعة ما لا ينحصر، وفي ما ينبغي أن يتمسك به من أمور الدين مما لا يوجد مجموعًا في غيره، فيجب على الإنسان امتثال الأوامر واجتناب النواهي؛ لأنه هو يعلم النافع على الحقيقة، بل هو عين التقوى والمقصود بتلك الترجمة، إنه يشتمل على علم وعمل ثم إن العلم المقصود منه العمل ثم إن العمل منه ما يتعلق بالألسنة وهي الأقوال وما يتعلق بالأبدان وبالقلوب وبالأموال وفي كل قسم مأمورات ومنهيات ومنها ما هو في خاصة الإنسان وفيما بينه وبين الناس وسيأتي جميع ذلك مفصلاً إن شاء الله تعالى. قال رحمه الله تعالى: (جماع الخير كله في تقوى الله واعتزال أشرار الناس)، وفي رواية: رأس الحكمة مخافة الله، فالمعنى أنه أخبر أن التقوى واعتزال أهل الشر نجاة وهو جماع الخير كله، وذلك معنى قول القائل: خير الصنائع تقوى الله فاتقه ... يكفيك في الحشر ما تخشى من الندم فالنار تحرق من يدنو بجانبها ... وإن (¬1) تباعد عنها فاز بالسلم ولا شك أن هاتين الخصلتين كل واحدة منهما من المنجيات التي أمر الله تعالى بها في الآيات الكثيرة الصريحة مما لا تعد ولا تحصى والأحاديث الصحيحة. أشار أبو محمد ببعضها في الرسالة بقوله: وجماع آداب الخير وأزمته تتفرع عن أربعة أحاديث: قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت))، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه))، وقوله عليه الصلاة والسلام للذي اختصر له في الوصية: ((لا تغضب))، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((المؤمن يحب ¬

(¬1) وفي نسخة: ومن.

لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه))، وهذه الأحاديث الأربعة جمعت جميع الأخلاق المحمودة كما ذكروا ذلك فتأمل. قال رحمه الله تعالى: (ومن التقوى النظر في المكاسب وآداب النفس في تحصيل القوت من الحلال فمن كان ماله حرامًا لم تجز معاملته وأكل طعامه وقبول هديته وإن كان مشتبهًا كره والأولى التنزه)، يعني من تقوى الله تعالى أن ينظر المكلف في أمر المعيشة في المكاسب لطعامه وشرابه هو وعياله حتى يكون من الحلال؛ لأن الله أمر بأكل الطيب وهو الحلال لقوله: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} [البقرة: 172]، وقوله: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا} [المؤمنون: 51]، قال بعض المفسرين: نبه سبحانه بتقديم أكل الطيب على العمل الصالح، على أن العمل لا ينتفع به صاحبه إلا بعد إصلاح الرزق باكتسابه من باب الحلال، لما في صحيح مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين))، وذكر الآيتين المتقدمتين، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له. وفي الترمذي: قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به))، والسحت: الحرام. وفي رواية أخرى عن ابن عباس: ((لا يقبل الله صلاة من في بطنه حرام))، وعنه أيضًا: ((من أكل لقمة من حرام لم يقبل منه عمله أربعين صباحًا))، وفي أخرى: ((طلب الحلال واجب على كل مسلم))، ففي جميع ذلك حث على الاجتهاد في القوت وتحصيله من جهة تسكن إليها نفسه بحيث لا يعلم أن للغير فيه حقًا اهـ. قاله النفراوي عند قول صاحب الرسالة: وأمر بأكل الطيب وهو الحلال فلا يحل لك أن تأكل إلا طيبًا. فراجعه إن شئت. وأما قول المصنف: فمن كان ماله حرامًا لم تجز معاملته إلخ. وبيان ذلك كما قال في القوانين:

مسألة في معاملة أصحاب الحرام، وينقسم حالهم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون الحرام قائمًا بعينه عند الغاصب أو السارق أو شبه ذلك، فلا يحل شراؤه منه ولا البيع به إن كان عينًا ولا أكله إن كان طعامًا ولا لبسه إن كان ثوبًا ولا قبول شيء من ذلك هبة ولا أخذه في دين، ومن فعل شيئًا من ذلك فهو كالغاصب. والقسم الثاني: أن يكون الحرام قد فات من يده ولزم ذمته فله ثلاث أحوال: الأولى: أن يكون الغالب على ماله الحلال، فأجاز ابن القاسم معاملته وحرمها أصبغ. الثانية: أن يكون الغالب على ماله الحرام فتمنع معاملته على وجه الكراهة عند ابن القاسم، والتحريم عند أصبغ. والثالثة: أن يكون ماله كله حرامًا، فإن لم يكن له قط مال حلال حرمت معاملته، وإن كان له مال حلال إلا أنه اكتسب من الحرام ما أربى على ماله واستغرق ذمته فاختلف في جواز معاملته بالجواز، والمنع والتفرقة بين معاملته بعوض فيجوز كالبيع وبين هبته ونحوها فلا يجوز. اهـ. قاله ابن جزي. وفي سراج الإخوان للعارف بالله عثمان بن فودى: فاعلموا يا إخواني أن الحلال هو ما جهل أصله، والحرام ما حقق أنه ملك للغير، والشبهة ما لم يتعين حله ولا حرمته. قال أحمد زروق في مفتاح السداد شرح إرشاد السالك: يعني هذا الكتاب الحلال ما انحلت منه التبعات من حقوق الله وحقوق عباده وهو ما جهل أصله على الصحيح، والشبهة ما لم يتعين حله ولا حرمته اهـ. وينبغي للمكلف أن يسلك سبيل السلف في الورع وهو على ثلاث درجات: ورع عن الحرام وهو واجب، وورع عن الشبهات وهو متأكد وإن لم يجب، وورع عن الحلال مخافة الوقوع في الحرام وهو فضيلة وهو ترك ما لا بأس به حذرًا مما به البأس، والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ

لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه))، إلى آخر الحديث، ولذا قال المصنف: والأولى التنزه. اهـ. ابن جزي بتوضيح. قال رحمه الله تعالى: (ويحرم استعمال أواني النقدين وعلى الرجال لباس الحرير والتحلي بالذهب ومن الفضة بغير الخاتم)، يعني أنه يحرم على المكلف استعمال أواني الذهب وأواني الفضة مطلقًا ما عدا خاتم الفضة قدر الدرهمين فأقل فيجوز مطلقًا سواء للرجال والنساء أو الصبيان إلا في الإحرام فيحرم للرجال فقط كما تقدم في باب الحج، وكذلك يحرم عليه لبس الحرير لما في الصحيحين عن حذيفة عنه عليه الصلاة والسلام قال: ((لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)) اهـ. فراجع كتاب الطهارة في الجزء الأول عند قول المصنف: ويحرم من النقدين، وقد جلبنا هناك نصوص المذهب في هذه المسألة بما فيه غنى مما لا حاجة لنا إلى إعادة البيان هنا. قال رحمه الله تعالى: (ووليمة العرس مندوبة وإجابتها مستحبة ما لم يكن هناك منكر ويكره لأهل الفضل التسارع إلى الولائم)، يعني أنه يندب لمن تزوج أن يصنع الوليمة لقوله عليه الصلاة والسلام لعبد الرحمن بن عوف: ((أولم ولو بشاة))، والوليمة مندوبة وإجابتها واجبة لمن عين ومستحبة لغير معين ولو لصائم ما لم يكن هناك منكر، وإذا كان فيها منكر أو أمر ممنوع شرعًا كإذاية الحاضر فلا يأتها لا وجوبًا ولا استحبابًا، ويكره لأهل الفضل التسارع إلى الولائم أي كثرة إتيانهم إليها. وفي القوانين: المسألة الثالثة في الوليمة وهي مأمور بها ومحلها بعد البناء وتجب الإجابة على من دعي إليها، وقيل: تستحب وذلك إذا لم يكن فيها منكر ولا أذى كالزحام وشبهه وهو في الأكل بالخيار ويحضر الصائم فيدعو. قال خليل: وإن صائمًا، وفي الخرشي: يعني

أن الإجابة إلى الوليمة واجبة على من عينه صاحب الوليمة بنفسه أو مندوبة سواء كان المدعو صائمًا أو غير صائم وسواء أكل المفطر أو لم يأكل، وشرط في وجوب الإجابة على من عين بألا يحضر من يتأذى بحضوره، وألا يكون هناك منكر كفرش حرير يجلس عليه أو يستند به، ومما يسقط الإجابة أن يكون قوم يأكلون وعلى رؤوسهم قوم ينظرون إليهم، ومن ذلك أن يخص بها الأغنياء. وفي الحديث: ((شر الطعام طعام وليمة يدعى لها الأغنياء ويترك المساكين، ومن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله)). رواه الموطأ عن أبي هريرة ورواه البخاري ومسلم عنه مرفوعًا. ومما يسقط الإجابة إحضار التماثيل أي الصور التي لها ظلال قائمة فهي حرام شرعًا ولو كانت على الجدران، بخلاف الرقوم في الثوب فيكون خلاف الأولى أو المكروه، وبخلاف تصوير الأشجار فيجوز ومما يسقط الإجابة أن يكون هناك كلب لا يحل اقتناؤه بل يتأذى به الداخل فيجوز بذلك التخلف عن الإجابة. وأما اللعب الخفيف فلا بأس به، فلا يجوز التخلف عنها لأجله ولو لذي هيئة على الصحيح. أما غير الخفيف ففيه خلاف بين المنع والجواز والكراهة كآلة الملاهي. قال في القوانين: ويستحب الغناء فيها بما يجوز وضرب الدف وهو المدور من وجه واحد كالغربال. وفي المزهر: الجواز والمنع والكراهة وهو المدور من وجهين. وأجاز ابن كنانة البوقات والزمارات التي لا تلهي للشهرة، ويكره نثر السكر واللوز وغيرهما ليتخطفه من حضر الوليمة؛ لأنه من النهب المنهي عنه وأجازه أبو حنيفة اهـ. أما الدخيل وهو غير المدعو فلا يدخل إلا بإذن أو تبعًا لغيره. ثم قال رحمه الله تعالى: (ومن آداب المطعم والمشرب أن يسمي الله في ابتدائه ويحمده في انتهائه ويأكل ويشرب بيمينه ومما يليه إلا أن يكون طعامًا مختلفًا أو في أهله ولا يقرن ولا ينفخ في طعامه وشرابه وليرق القذى ويزل الإناء للتنفس ويناول الأيمن فالأيمن)، يعني أنه قد اختلفت العبارات في هذا الباب لكن المعاني

متقاربة والمقصود شيء واحد وإن تنوعت العبارة. قلت: والآداب جمع أدب وهو ما ينبغي أن يفعله الشخص في كل مشروع. والآن نحن نشرع في بيان آداب الأكل والشرب. قال أبو محمد في عبارته لهذا الباب: وإذا أكلت أو شربت فواجب عليك أن تقول: باسم الله وتتناول بيمينك فإذا فرغت فلتقل: الحمد لله، وحسن أن تعلق يدك قبل مسحها. ومن آداب الأكل أن تجعل بطنك ثلثًا للطعام وثلثًا للشراب ولثلثًا للنفس، وإذا أكلت مع غيرك أكلت مما يليك ولا تأخذ لقمة حتى تفرغ الأخرى ولا تتنفس في الإناء عند شربك ولتبعد القدح عن فيك ثم تعاوده إن شئت، ولا تعب الماء عبًا ولتمصه مصًا وتلوك طعامك وتنعمه مضغًا قبل بلعه وتنظف فاك بعد طعامك، وإن غسلت يدك من الغمر واللبن فحسن، وتخلل ما تعلق بأسنانك من الطعام، ونهى الرسول عليه والصلاة والسلام عن الأكل والشرب بالشمال، وتناول إذا شربت من على يمينك، وينهى عن النفخ في الطعام والشراب والكتاب وعن الشرب في آنية الذهب والفضة، ولا بأس بالشرب قائمًا، ولا ينبغي لمن أكل الكراث والثوم أو البصل نيئًا أن يدخل المسجد، ويكره أن يأكل متكئًا، ويكره الأكل من رأس الثريد، ونهى عن القران في التمر، وقيل: إن ذلك مع الأصحاب الشركاء فيه ولا بأس بذلك مع أهلك أو مع قوم تكون أنت أطعمتهم، ولا بأس في التمر وشبهه أن تجول يدك في الإناء لتأكل ما تريد منه، وليس غسل اليد قبل الطعام من السنة إلا أن يكون بها أذى، وليغسل يده وفاه بعد الطعام من الغمر، وليمضمض فاه من اللبن، وكره غسل اليد بالطعام أو بشيء من القطاني وكذلك بالنخالة وقد اختلف في ذلك اهـ. وعبارة ابن جزي في هذا الباب أنه قال: وآدابهما عشرة. الأول: تسمية الله عند الابتداء وحمده عند الفراغ. الثاني: التقليل من الأكل فيجعل ثلثًا للطعام وثلثًا للشراب وثلثًا للنفس.

الثالث: الأكل والشرب باليمين. الرابع: الأكل مما يليه إلا أن يكون الطعام ألوانًا مختلفة، ورخص ابن رشد أن يأكل من غير ما يليه مع أهله وولده. الخامس: ألا يأكل متكئًا. السادس: ألا ينفخ في الطعام ولا في الشراب ولا يتنفس في الإناء. السابع: أن يوافق من يأكل معه في تصغير اللقم وإطالة المضغ والتمهل في الأكل. الثامن: أن يغسل يده وفمه من الدسم، وكره مالك تعمد غسل اليد للأكل. التاسع: ألا يشرب من فم السقاء. العاشر: ألا يقرن التمر، ويجوز الشرب قائمًا خلافًا لقوم، وإذا كان جماعة فأدير عليهم ماء يشربون فيأخذ بعد الأول الأيمن فالأيمن اهـ. وفي هذه العبارة زيادة البيان كما في عبارة الدردير في أقرب المسالك وهي قوله: سن لآكل وشارب تسمية، وندب تناول باليمنى كحمد بعد الفراغ ولعق الأصابع مما تعلق بها وغسلها بكأشنان وتخليل ما بالأسنان مما تعلق وتنظيف الفم وتخفيف المعدة والأكل مما يليك إلا نحو فاكهة، وألا يأخذ لقمة إلا بعد بلع ما في فيه وبما عدا الخنصر، ونية حسنة كإقامة البنية، وتنعيم المضغ ومص الماء وإبانة القدح ثم عود مسميًا حامدًا ثلاثًا ومناولة من على اليمين إن كان وكره عبه والنفخ في الطعام والشراب كالكتاب والتنفس في الإناء والتناول باليسرى والاتكاء والافتراش ومن رأس الثريد وغسل اليد بالطعام كالنخالة والقران في كتمر والشره في كل شيء وقد يحرم اهـ. وهذه العبارات كلها متقاربة كما قدمنا ولنقتصر عليها عن جلب الشروح؛ لأن فيها كفاية في هذا الباب. ثم قال رحمه الله تعالى: (والابتداء بالسلام سنة ورده آكد منه ولا بأس به على القواعد ويجزئ الواحد من الجماعة كالدر)، يعني أن الابتداء بالسلام سنة من سنن

الإسلام والرد منه واجب أوكد من السنة، هذا في الرجال. وأما النساء فلا يسن السلام عليهن خشية الفتنة بالمكالمة بهن، وإن ابتدأن عليك بالسلام فهل يكره الرد أو يندب. الظاهر الندب إن لم يخف منهن الافتتان وإلا حرم عليك الرد، وإليه أشار بعضهم بقوله: أما النساء فيكره على الرجل أن يسلم عليهن. وفي الموطأ: سئل مالك: هل يسلم على المرأة؟ فقال: أما المتجالة فلا أكره، وأما الشابة فلا أحب ذلك. هذا معنى قول المصنف: ولا بأس به أي بالسلام على القواعد أي اللاتي قعدن عن الولادة والحيض والزوج لكبرهن. قال الباجي في شرح الموطأ: ومعنى ذلك والله أعلم أن المتجالة: الهرمة لا فتنة في كلامها ولا يتسبب به إلى محظور، بخلاف الشابة فإن في مكالمتها فتنة ويتسبب به على المحظور، والسلام عليها يقتضي ردها وذلك من باب المكالمة، وأصل هذا أن السلام شعار الإسلام شرع إفشاؤه عند لقاء كل مسلم ممن عرفت وممن لم تعرف إلا أن يمنع منه ما يخاف من الفتنة والتعريض للفسوق كما منع من الرؤية بمثل ذلك وأمر بالحجاب اهـ. وإذا سلم واحد من الجماعة أجزأ عنهم وكذلك إذا رد واحد منهم. ويسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد، ولا يسلم على أهل الأهواء كالمعتزلة ولا على أهل اللهو حال تلبسهم به، ولا تبدأ أهل الذمة بالسلام وإذا بدؤوكم فرد عليهم بغير واو. وفي الموطأ عن عبد الله بن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن اليهود إذا سلم عليكم أحدهم فإنما يقول: السام، فقل: عليك))، وفي الحديث أيضًا: ((لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى الإشارة بالكف))، ويكره تقبيل اليد في السلام إلا لمن ترجى بركته. وصفة السلام المشروع أن يقول: السلام عليكم بالألف واللام، أو يقول: سلام عليكم بالتنكير، ويقول الراد: وعليكم السلام بالواو والمعرفة أو كما قيل له، ولا بد من الإتيان بميم الجمع ولو كان المسلم عليه واحدًا؛ لأن معه جمعًا من الملائكة. اهـ أبو الحسن بتوضيح. وفي القوانين: والابتداء به سنة على الكفاية ورده واجب على

الكفاية، فلذلك يجزئ الواحد عن الجماعة في الابتداء والرد، ولا يزاد فيه على البركة، ويسلم الراكب على الماشي والصغير على الكبير والقليل على الكثير. فأما الداخل على شخص أو المار عليه فيسلم عليه مطلقًا. ولا يبتدئ اليهود ولا النصارى بالسلام، ومن سلم عليهم لم يحتج أن يستقبلهم خلافًا لابن عمر، وإذا بدؤوا رد عليهم: عليكم بغير واو، وقيل: وعليكم بإثباتها، ولا يسلم على المرأة الشابة بخلاف المتجالة، ولا يسلم على أهل البدع كالخوارج والقدرية وغيرهم، ولا على أهل اللهو حال تلبسهم به، ولا يسن السلام على المصلي، ويكره على من يقضي حاجته، ومن دخل منزله فليسلم على أهله، وإن دخل منزلاً ليس فيه أحد فليقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين اهـ. ومثله في الرسالة وانظرها إن شئت. قال رحمه الله تعالى: (وتشميت العاطس وليعلن بالحمد لله ويخمر وجهه)، يعني أن تشميت العاطس سنة واجبة على الخلاف كما يأتي عن قريب. والتشميت بالشين المعجمة وبالسين المهملة وهو مستحب وكذلك جوابه. وقيل: واجب على الكفاية فيجزئ واحد عن الجماعة، وقيل: على العين، فلا يجزئ أحد عن غيره، وينبغي للعاطس أن يقول: الحمد لله ولمن سمعه أن يشمته وهو أن يقول له: يرحمك الله فيجيبه العاطس بقوله: يغفر الله لنا ولكم أو يهديكم الله ويصلح بالكم، ولا يشمت من لم يحمد الله، وليرفع صوته بالحمد ليسمع فيشمت، ومن توالى عطاسه شمت إلى الثلاثة ولم يشمت فيها بعدها اهـ. قاله ابن جزي بتصريف. قال رحمه الله تعالى: (ولا يهجر مسلم مسلمًا فوق ثلاث إلا لبدعة وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)، يعني كما في القوانين وغيره: أنه لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، والسلام يخرجه عن الهجران، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام، ويهجر أهل البدع والفسوق؛ لأن الحب في الله والبغض في الله من الإيمان اهـ. وفي الموطأ عن مالك

بإسناده عن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) اهـ. وردت الأحاديث بجواز هجران أهل البدع والفسوق ومنابذي السنة، وأنه يجوز هجرانهم دائمًا، والنهي عن الهجران فوق ثلاث إنما هو لمن هجر أخاه لحظ نفسه ومعاش الدنيا، وأما أهل البدع ونحوهم فهجرانهم دائم. وما زالت الصحابة والتابعون فمن بعدهم يهجرون من خالف السنة أو من أدخل عليهم من كلامه مفسدة اهـ. نقله الزرقاني في شرح الموطأ عن النووي. ثم قال رحمه الله تعالى: (والاستئذان ثلاث فإن أذن له وإلا انصرف وليسم نفسه)، يعني كما في الحديث: ((الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك فادخل وإلا فارجع))، رواه مالك في الموطأ عن أبي موسى الأشعري. واعلم أنه لا يجوز لأحد أن يدخل على أحد بيته حتى يستأذن عليه. وصفة الاستئذان أن يقول: السلام عليكم أأدخل؟ يستأذن ثلاثًا ولا يزيد على ذلك إلا أن يغلب على ظنه عدم السماع، وإذا استأذن فقيل له: من هذا فليسم نفسه باسمه أو بما يعرف به من الكنية ولا يقول: أنا. وعبارة ابن جزي في القوانين: صفته أن يقول: السلام عليكم أأدخل؟ ثلاثًا، فإن أذن له وإلا انصرف. والاستئذان واجب، فلا يجوز لأحد أن يدخل على أحد بيته حتى يستأذن عليه أجنبيًا كان أو قريبًا، ويستأذن على أمه وعلى أخيه وعلى كل من لا يحل له النظر إلى عورتها، وإذا استأذن فقيل له: من أنت فليسم نفسه أو بما يعرف به ولا يقول: أنا اهـ. قد اتفق المعبرون على أن لفظ أنا مبهم لا يفاد منه شيء وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كرره ممن أجابه بأنا حين خرج وهو يقول: أنا أنا كأنه منكر له فافهم هذا. كثير من العوام يقولون: أنا بعد الاستئذان وهو غير مفيد في محل طلب الإفادة فتأمل. بتوضيح.

ثم قال رحمه الله تعالى: (ولا ينظر في منزل قوم وهم لا يشعرون ولا يستمع حديثهم)، يعني أنه لا يجوز لشخص أن ينظر أي أن يطالع منزل قوم وهم في غفلة عنه ولا يشعرون به ولا يحل له أن يستمع كلامهم ولو لم ينقله إلى غيره، والأصل في هذه المسألة ما في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينيك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)) اهـ. قال الشارح: قوله: ((لو أعلم أنك تنظر)) الخطاب فيه لرجل اطلع من حجر في دار النبي صلى الله عليه وسلم قيل: هو الحكم بن أبي العاص بن أمية والد مروان. فسبب ذلك كما في الصحيحين: اطلع رجل في حجرة من حجر دار النبي صلى الله عليه وسلم ومعه صلى الله عليه وسلم مدرى وفي رواية بمشقص وفي أخرى: ومع النبي صلى الله عليه وسلم مدرى يحك بها رأسه، والمدرى: حديدة يسرح بها الشعر وهي بكسر الميم بالقصر تؤنث وتذكر، ولذلك ورد في بعض روايات هذا الحديث: يحك به رأسه، على التذكير وفي بعضها: يحك بها، على التأنيث، قال: ((لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر))، قوله: ((إنما جعل ...)) إلخ، بضم الجيم وكسر العين أي إنما شرع الاستئذان في الدخول من أجل البصر؛ لئلا يقع على عورة أهل البيت ويطلع على أحوالهم، واستنبط من قوله عليه الصلاة والسلام: ((لطعنت بها في عينك))، أن من خالف ونظر في دار المسلم بدون استئذان لو رماه ذلك المسلم بنحو حصاة فأصاب عينه فعمي أو سرت على نفسه فتلف فهدر. اهـ. بحذف واختصار نقله العلامة حبيب الله الشنقيطي في زاد المسلم. وقال ابن القيم في زاد المعاد: فصل في قضائه صلى الله عليه وسلم فيمن اطلع في بيت رجل بغير إذنه فحذفه بحصاة أو عود ففقأ عينه فلا شيء عليه. ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح))، وفي لفظ فيهما: ((من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم ففقأوا عينه فلا دية له ولا

قصاص))، وفيهما أن رجلاً اطلع في حجرة من حجر النبي صلى الله عليه وسلم فقام إليه بمشقص وجعل يختله ليطعنه. فذهب إلى القول بهذه الحكومة وإلى التي قبلها فقهاء الحديث، منهم الإمام أحمد والشافعي رحمهما الله، ولم يقل بها أبو حنيفة ومالك اهـ بحروفه. والحاصل أنه لا يحل لشخص أن يطلع على أحد إلا بعد إذن وإنذار، ولا يجوز له أن يتعمد استماع كلام أحد لينقله إلى غيره، بل ولو لم ينقله إلى أحد؛ لأن ذلك بدون إذنه ربما يكون ذلك من باب النفاق أو النميمة أو السمعة وكلها من الكبائر. ثم قال رحمه الله تعالى: (ولا يدخل الحمام إلا مستورًا ويكره للنساء إلا لضرورة)، يعني كما في الرسالة، ونصها: ولا يدخل الرجل الحمام إلا بمئزر، ولا تدخله المرأة إلا من علة. قال شارحها: والحمام معروف وهو مذكر باتفاق، ولا يجوز أن تدخله المرأة ولو بمئزر إلا من علة لقوله عليه الصلاة والسلام: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخلن حليلته الحمام))، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((ستفتح عليكم أرض العجم وستجدون فيها بيوتًا يقال لها: الحمامات، فلا يدخلها الرجال إلا بإزار وامنعوها النساء إلا مريضة أو نفساء))، والظاهر من كلام المصنف صاحب الرسالة: جواز دخوله للرجل بالمئزر ولو لغير علة ولو مع وجود غيره، وأما بغير مئزر مع رؤية من يحرم عليه نظره فلا يجوز وجواز الدخول بالمئزر لا ينافي قول ابن القاسم: ترك دخوله أحسن لاحتمال الانكشاف، ولذا قال شيخه الإمام مالك، رضي الله عنه: والله ما دخوله بصواب، وما ورد من منع دخوله فمحمول على الدخول بغير مئزر مع وجود من لا يحل نظره إليه، ويجوز للمرأة دخوله عند العلة المحوجة إلى دخوله كحيض أو نفاس أو جناة أو مرض مع زوجها، وأما مع امرأة فعورتها معها كعورة الرجل مع الرجل حيث كانت مسلمة اتفاقًا، وأما مع الكافرة فقيل: إن المسلمة معها كالأجنبية مع

الرجل اتفاقًا. وقال القرطبي وابن عطية في تفسيرهما: إنه لا يحل للمسلمة كشف شيء من بدنها بين يدي الكافرة إلا أن تكون أمتها، ويتفرع على هذا جواز دخولها مع المرأة بشرط ستر ما لا يحل نظر تلك المرأة إليه. قال العلامة الأجهوري: واعلم أن دخوله له شروط جواز كغض البصر وستر العورة واستيفاء الحقوق بإعطاء الواجب وأخذ المعتاد وتغيير ما يقدر عليه من المنكر وألا يمكن الدلاك ولو مملوكه من ذلك عورته وهي ما فوق الركبة إلى جوفه، ولو من فوق حائل؛ لأن الجس أخص من النظر إلا أن تكون زوجته أو أمته. وله آداب: أن يدخله بالتدريج ويخرج منه كذلك، وصب الماء البارد على القدمين عند الخروج منه؛ لأنه أمان من النقرس (¬1)، وأن يتذكر عذاب جهنم وحالة الموت، ومن الآداب: الدخول مع الاعتدال من حيث الجوع والشبع، فإن دخوله من غير اعتدال فيه ضرر على الداخل لخروجه منه قبل عرقه فيه والإقامة فيه زيادة على الحاجة. اهـ. قاله النفراوي ومثله في القوانين؛ لأنه أتى بشروط عشرة على التفصيل فراجعه إن شئت. قال رحمه الله تعالى: (ويحرم حضور مجالس اللهو وأهل المنكر ولينه عنه ويأمر بالمعروف)، يعني أنه لا يحل للمكلف أن يحضر مجالس اللهو وأهل المنكر والمعاصي، لما فيه من الاغتفال عن الله تعالى والميل إلى الهوى وهما ممنوعان شرعًا، وعليه منع المنكر إذا رآه وكان قادًا على ذلك، وأن يأمر بالمعروف إذا كان أهلاً لذلك بقدر الحال والإمكان، إما بيده أو بلسانه أو بقلبه وهو أضعف الإيمان كما في الحديث. وقد عقد ابن جزي فصلاً في قوانينه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعرفه بقوله: وهو الاحتساب، وأركانه أربعة: المحتسب. والمحتسب فيه. والمحتسب عليه. والاحتساب. فأما المحتسب فله شروط: وهي أن يكون عاقلاً بالغًا مسلمًا قادرًا على ¬

(¬1) النقرس مرض معروف. انظر المصباح.

الاحتساب عالمًا بما يحتسب فيه، وأن يأمن أن يؤدي إنكاره المنكر إلى منكر أكبر منه مثل أن ينهى عن شرب خمر فيؤول نهيه إلى قتل نفس، وأن يعلم أو يغلب على ظنه أن إنكاره المنكر مزيل له وأن أمره بالمعروف نافع، وفقد هذا الشرط الأخير يسقط الوجوب فيبقى الجواز والندب، وفقد ما قبله يسقط الجواز. واختلف هل يجوز للفاسق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أم لا؟ وأما المحتسب عليه فكل إنسان سواء كان مكلفًا أو غير مكلف. وأما المحتسب فيه فله شروط: وهي أن يكون منكرًا لا شك فيه، فلا يحتسب فيما هو في محل الاجتهاد والخلاف، وأن يكون موجودًا في الحال، فلا يحتسب فيما مضى لكن يقيم فيه الحدود أهل الأمر، ولا فيما يستقبل إلا بالوعظ، وأن يكون معلومًا بغير تجسس، فكل من ستر على نفسه وأغلق بابه لا يجوز أن يتجسس عليه. وأما الاحتساب فله مراتب: أعلاها التغيير باليد، فإن لم يقدر على ذلك انتقل إلى اللسان، فإن لم يقدر على ذلك أو خاف عاقبته انتقل إلى الثالثة وهي التغيير بالقلب، ولتغيير اللسان مراتب: وهي النهي والوعظ برفق وذلك أولى ثم التعنيف ثم التشديد اهـ. قال رحمه الله تعالى: (ويلزم نفسه ترك الغيبة والنميمة)، يعني وجب على الشخص المكلف إلزام نفسه عن ترك الغيبة والنميمة؛ لأنهما خصلتان محرمتان إجماعًا، وحقيقة الغيبة هي ذكرك أخاك في غيبته بما يكره، إن كان فيه ما ذكرت فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما ذكرته فقد بهته كما في الحديث. قال العلامة عبد اللطيف المرداس في عمدة البيان: وقوله: أي مما يحرم على المكلف الغيبة وهي أن يذكر في الإنسان ما يكره أن لو سمعه إن كان ما يكره موجودًا فيه فإن لم يكن موجودًا فهو البهتان إلى أن قال: والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((هل تدرون ما الغيبة؟))، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((ذكرك أخاك بما يكره، فإن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه

ما تقول فقد بهته)). وقوله: والنميمة أي مما يحرم عليه أيضًا النميمة وهي أن يقول: قال فلان فيك كذا وكذا فتحصل بذلك العداوة والفتنة بين المنقول عنه والمنقول إليه. وبالجملة فالغيبة والنميمة خصلتان ذميمتان يقع بهما البغض والفتنة وهما من الكبائر، ويصدق ذلك قوله تعالى: {ولا يغتب بعضكم بعضًا} [الحجرات: 12] الآية، فشبه المغتاب بآكل لحم أخيه وهو مما تكرهه النفوس أشد الكراهة. قال صلى الله عليه وسلم: ((كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة قاطع))، فقيل: ما القاطع؟ فقال: ((هو القاطع بين الناس بالنميمة))، ويجب على من نقلت إليه النميمة أن يكذب الناقل وينهاه عن ذلك المنكر المنهي عنه شرعًا، وألا يظن بأخيه الغائب سوءًا؛ لقوله تعالى: {إن بعض الظن إثم} [الحجرات: 12] الآية اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: (ويستحب عند النوم إغلاق الباب وإطفاء المصباح (¬1) وإيكاء الإناء)، يعني أنه يستحب لمن أراد النوم إغلاق الأبواب وإطفاء المصابيح وإيكاء الإناء من السقاء وتغطية المواعين؛ لئلا يحصل شيء مما يكره وهو نائم، وكل ذلك من آداب النوم التي ينبغي أن يتحفظها قبل اضطجاعه للنوم، كما يستحب له أن يتوضأ عند إرادة النوم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة))، ومنها ما أشار إليه رحمه الله تعالى بقوله: (فإذا أخذ مضطجعه اضطجع على شقه الأيمن ويقول: اللهم إني أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت)، وفي رواية: فاغفر لي ما دمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت إلهي لا إله إلا أنت ربي قني عذابك يوم تبعث عبادك، زاده في الرسالة. ¬

(¬1) الحديث: ((لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون)). راجع شرحه في زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم.

قال رحمه الله تعالى: (ثم يسبح الله عشرًا ويحمده عشرًا ويكبره عشرًا)، وحاصل ما في قرة العيون أنه قال: ومنها أي من آداب النوم أن ينام على شقه الأيمن كما مر، ويضع كفه اليمنى تحت خده الأيمن وكفه اليسرى على فخذه الأيسر كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل. ومنها أن يذكر الله تعالى عند النوم حين يأخذ مضجعه، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند النوم: (اللهم باسمك وضعت جنبي وباسمك أرفعه اللهم إن أمسكت نفسي فاغفر لها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين))، وورد أن من ذكر الله تعالى عند نومه لم يجد الشيطان إليه سبيلاً، ومن لم يذكر الله بات الشيطان يلعب به كيف شاء. وعن علي كرم الله وجهه: من قرأ كل ليلة عند النوم: {وإلهاكم إله واحد} إلى قوله: {يعقلون} [البقرة: 163] لم يتفلت القرآن من صدره. ومنها أن من صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند النوم عشر مرات بات في حفظ الله وحرزه. ومنها أن يتوب إلى الله؛ لأن الإنسان إذا تهيأ للنوم فكأنما تهيأ للموت. وفي التوراة: يا ابن آدم كما تنام تموت وكما تستيقظ تبعث. وفي الصحيحين عن حذيفة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام قال: ((باسمك اللهم أموت وأحيا))، وإذا استيقظ من منامه قال: ((الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور)). وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله: (فإذا استيقظ قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور). وزاد في رواية: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، يا قوي من للضعيف سواك، يا قدير من للعاجز سواك، يا عزيز من للذليل سواك، يا غني من للفقير سواك، اللهم أغننا بك عمن سواك اهـ. ومما يقوله عليه الصلاة والسلام كلما أصبح وأمسى: ((اللهم بك نمسي وبك نحيا وبك نموت))، ويقول في

الصباح: ((وإليك النشور))، وفي المساء: ((وإليك المصير))، وهذا الحديث خرجه أصحاب السنن بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: ((اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت))، وإذا أمسى قال: ((اللهم بك أمسينا وبك أصبحنا وبك نحيا وبك نموت وإليك المصير))، كما في النفراوي، وروى مع ذلك: اللهم اجعلني من أعظم عبادك عندك حظًا ونصيبًا في كل خير تقسمه في هذا اليوم وفيما بعده من نور تهدي به أو رحمة تنشرها أو رزق تبسطه أو ضر تكشفه أو ذنب تغفره أو شدة تدفعها أو فتنة تصرفها أو معافاة تمن بها برحمتك إنك على كل شيء قدير. اهـ. وقال العلامة الأقفهسي: إذن هذا المروي حديث، واعلم أن كل ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم ولم يثبت اختصاصه به ولم يكن فعله لمجرد بيان الجواز فيطلب منا فعله؛ لأنا مأمورون بالاقتداء به عليه الصلاة والسلام بخلاف ما ثبت اختصاصه به كنكاحه أكثر من أربع فيحرم علينا الاقتداء فيه وبخلاف ما فعله لمجرد الجواز كالاقتصار في الوصوء على غسله في المغسولات مرة واحدة فيكره ذلك لغير العالم كما تقدم اهـ. نقله النفراوي بتوضيح. ثم انتقل يتكلم على مسائل الرؤيا في المنام فقال رحمه الله تعالى: (فإن رأى في منامه ما يكره فليتعوذ بالله من شرها ويتفل عن يساره ثلاثًا ويتحول على الشق الآخر)، يعني كما في حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، ومن رأى منكم ما يكره في منامه فإذا استيقظ فليتفل عن يساره ثلاثًا وليقل: اللهم إني أعوذ بك من شر ما رأيت في منامي أن يضرني في ديني ودنياي)) اهـ. هذا لفظ الموطأ كما في الرسالة. وفي زاد المعاد للعلامة محمد بن القيم الحنبلي قال: صح عنه صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصالحة من الله والرؤيا السوء من الشيطان، فمن رأى رؤيا يكره منها شيئًا فلينفث عن

يساره وليتعوذ بالله من الشيطان فإنها لا تضره، ولا يخبر بها أحدًا، وإن رأى رؤيا حسنة فليستبشر ولا يخبر بها إلا من يحب، ثم قال: وأمر من رأى ما يكرهه أن يتحول عن جنبه الذي كان عليه وأمره أن يصلي، فأمره بخمسة أشياء: أن ينفث عن يساره، وأن يستعيذ بالله من الشيطان، وألا يخبر بها أحدًا، وأن يتحول عن جنبه الذي كان عليه، وأن يقوم يصلي، ومتى فعل ذلك لم تضره الرؤيا المكروهة بل هذا يدفع شرها اهـ. وفي النفراوي: لا يجوز التعبير اعتمادًا على مجرد ما يراه في كتب التفسير، كما لا يجوز الإفتاء بالاعتماد على المسطر في الكتب من غير أخذ عن شيوخ، لاحتمال خفاء قيد في المسألة، والاحتياط لمن رأى ما يحب كتم ما رآه إلا عن حبيب عالم بتأويل الرؤيا، بخلاف من رأى المكروه فإن المطلوب منه بعد قيامه الصلاة والسكوت عن التحديث بما رأى كما في رواية مسلم اهـ. ومثله في أقرب المسالك انظره إن شئت. وفي القوانين: ولا ينبغي أن يعبر الرؤيا إلا عارف بها، وعبارتها على وجوه مختلفة: فمنها مأخوذ من اشتقاق اللفظ ومن قلبه ومن تصحيفه ومن القرآن ومن الحديث من الشعر ومن الأمثال ومن التشابه في المعنى ومن غير ذلك، وقد تعبر الرؤيا الواحدة لإنسان بوجه ولآخر بوجه حسبما تقتضيه حالهما. تنبيه: قال صلى الله عليه وسلم: ((من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي))، وفي رواية: من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي. رواهما البخاري ومسلم. انظر (¬1) شرحهما في زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم للعلامة محمد حبيب الله الشنقيطي رحمه مولاه آمين، وفي الشرح المذكور كفاية لمن أراد البيان في هذين الحديثين. ¬

(¬1) أي من 180 ص إلى 190 ج 3.

ثم قال رحمه الله تعالى: (ومن الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والختان)، قال العلامة النفراوي: إن الشيوخ اختلفوا في تفسير الفطرة: فمنهم من فسرها بالسنة القديمة التي اختارها الله لأنبيائه واتفقت عليها الشرائع حتى صارت كأنها أمر جبلي فطروا عليه. ومنهم من فسرها بالخصال التي يتكمل بها الإنسان بحيث يصير بها على أشرف الأوصاف كالختان. ومنهم من فسرها بالدين لقوله تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} [الروم: 29] وربما يدل على هذا التفسير قوله عليه الصلاة والسلام: ((كل مولود يولد على الفطرة))، الحديث. وهذه الفطرة هي التي أمر الله تعالى نبيه إبراهيم عليه السلام بقوله: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} [البقرة: 124] أي أداهن تامات ولم يفرط منها شيئًا. واختلف العلماء فيها أيضًا على خمسة أقوال كما اختلفوا في عددها. قال الحافظ السيوطي في تفسير الكلمات التي أتمها: هي الأوامر والنواهي التي كلفه بها، قيل: هي مناسك الحج، وقيل: المضمضة والاستنشاق والسواك وقص الشارب وفرق الرأس وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والختان والاستنجاء. وقال العلامة الصاوي: قوله بكلمات قيل: هن ثلاثون من شريعتنا: عشرة في براءة وهي التائبون العابدون إلى وبشر المؤمنين. وعشرة في الأحزاب وهي: إن المسلمين والمسلمات إلى قوله: {أعد الله لهم مغفرة} [الأحزاب: 35] الآية. وتسعة في المؤمنون: من أولها إلى أولئك هم الوارثون. وواحدة في سأل وهي: والذين هم بشهاداتهم قائمون. وقيل: هي التكاليف بخدمة البيت، وقيل: ذبح ولده والرمي في النار وهجرته من الشام إلى مكة والنظر في الشمس والقمر والكواكب لإقامة الحجة على قومه. وبضميمة ما ذكره المفسر تكون أقوالاً خمسة، ولا مانع من إرادة جميعها اهـ. قال ابن جزي في خصال

الفطرة: وهي عشر: خمس في الرأس وهي السواك والمضمضة والاستنشاق وقص الشارب لا حلقه وإعفاء اللحية إلا أن تطول جدًا فله الأخذ منها. وخمس في الجسد وهي الاستنجاء والختان ونتف الإبطين وحلق العانة وتقليم الأظفار، وعد بعضهم فيها فرق الشعر بدلاً من ذكر السواك وبعضهم والاستحداد كما في رواية أبي هريرة وهي قوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط)) رواه الجماعة. وعدها أبو محمد في الرسالة خمسة حيث قال: ومن الفطرة خمس: قص الشارب هو الإطار وهو طرف الشعر المستدير على الشفة لا إخفاؤه والله أعلم وقص الأظفار ونتف الجناحين وحلق العانة ولا بأس بحلق غيرها من شعر الجسد، والختان للرجال سنة والخفاض للنساء مكرمة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تعفى اللحية وتوفر ولا تقص. قال مالك: ولا بأس بالأخذ من طولها إذا طالت كثيرًا وقاله غير واحد من الصحابة والتابعين. اهـ. قوله: والختان يعني أن الختان من خصال الفطرة وهو سنة للرجال كما في الرسالة، وحقيقته إزالة الجلدة الساترة لرأس الذكر، وفي عبارة: الختان اسم لفعل الخاتن وسمي به محل الجلدة التي تقطع وقد كانت تغطي الحشفة. وذلك في حق الصغير حين أمر بالصلاة، ويكره اختتانه يوم السابع عند مالك. أما الكبير فإنه يؤمر باختتان نفسه إن أمكن كمن أسلم بعد البلوغ لحرمة نظر عورة البالغ، فإن تعذر ذلك منه أو يحصل عليه الضرر ترك ويكون به نقص في الدين؛ لأنه تكره إمامته وشهادته. وروى ابن حبيب عدم جواز إمامة وشهادة تاركه عمدًا اختيارًا كما في النفراوي. قال العلامة الصاوي في حاشيته على الجلالين: ورد أن أول من اختتن إبراهيم عليه السلام وهو أول من قص الشارب وأول من قلم الأظفار وأول من رأى الشيب فلما رآه قال: يا رب ما هذا؟ قال: الوقار، قال: يا رب زدني وقارًا اهـ. أما الخضاب فلم يكن معدودًا في الفطرة، وحكمه الجواز، ويكره صبغ الشعر بالسواد،

قال في الرسالة: ويكره صباغ الشعر بالسواد من غير تحريم، ولا بأس به بالحناء والكتم. وفي القوانين: يجوز صبغ الشعر بالصفرة والحناء والكتم اتفاقًا. واختلف هل الأفضل الصبغ أو تركه؟ وكان من السلف من يفعله ومن يتركه. واختلف في جواز الصبغ بالسواد وكراهته. فقال مالك: ما سمعت فيه شيئًا وغير أحب إليّ، وكرهه قوم، لحديث أبي قحافة: ويكره نتف الشيب، وإن قصد به التلبيس على النساء فهو أشد في المنع قلت: ومثل نتف الشيب تصبيغ الشعر لقصد التدليس فهو محرم كما في المصنف إلا عند الحرب لترهيب الأعداء فيجوز؛ لأن الحرب خداع. ثم قال رحمه الله تعالى: (ولا بأس بالتداوي والرقى والتعوذ بأسماء الله تعالى)، يعني أنه يجوز استعمال الدواء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أباحه وأذن فيه فقال: ((ما أنزل الله داء إلا وله دواء علمه من علمه وجهله من جهله فتداووا عباد الله))، وتحمل النقول المخالفة لهذا على حالة الاختيار والجواز على حالة الاضطرار فيتفق النقلان اهـ. النفراوي. وإلى ذلك اشار ابن جزي في القوانين بقوله: المسألة الثانية: من الناس من اختار التداوي لقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تداووا فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء))، ومنهم من اختار تركه توكلاً على الله وتفويضًا إليه وتسليمًا لأمره تبارك وتعالى. وروي ذلك عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، وبه أخذ أكثر المتصوفة. وأما الرقى فلا بأس بها بكتاب الله تعالى ولو بآية منه قال تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} [الإسراء: 82]. ويرقى بالفاتحة وآخر ما يرقى به منها: {وإياك نستعين} [الفاتحة: 5]. ومما يرقى به كثيرًا آيات الشفاء ومحاه بماء النيل وسقاه لمن به مرض مثقل، فإن قدر له الحياة شفاه الله بأسرع وقت، وإن قدر له الموت سكن ألمه وهون عليه الموت وقد جرب مرات كثيرة فصح. وآيات الشفاء ست: الأولى: {ويشف صدور قوم مؤمنين} [التوبة: 14]، الثانية: {وشفاء لما في الصدور} [يونس: 57]، الثالثة: {يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء

للناس} [النحل: 69]. الرابعة: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} [الإسراء: 82]. الخامسة: {وإذا مرضت فهو يشفين} [الشعراء: 80]. السادسة: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء} [فصلت: 44] اهـ. النفراوي. وقال ابن جزي في آخر قوانينه: ورد في الحديث الصحيح رقية اللديغ بأم القرآن وأنه برء وقال صلى الله عليه وسلم: ((من عاد مريضًا لم يحضره أجله فقال عنده سبع مرات: أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عافاه الله من ذلك المرض))، وكان صلى الله عليه وسلم إذا عاد مريضًا قال: ((أذهب البأس رب الناس واشف فأنت الشافي شفاء لا يغادر سقمًا)). وأخبر صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام رقاه بهذه الرقية: ((باسم الله أرقيك والله يشفيك من كل داء فيك {ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد} [الفلق: 4، 5]، وكان صلى الله عليه وسلم يعود الحسن والحسين، رضي الله عنهما، فيقول: أعيذكما بكلمات الله التامات من شر كل شيطان رجيم وهامة ومن شر كل عين لامة ويقول: هكذا كان أبي إبراهيم يعود إسحاق وإسماعيل عليهما السلام. وروينا حديثًا مسلسلاً في قراءة آخر سورة الحشر مع وضع اليد على الرأس وأنها شفاء من كل داء إلا السام والسام هو الموت وقد جربناه مرارًا عديدة فوجدناه حقًا. اهـ. وقد نقل عن القاضي عياض الإجماع على جواز الرقى بكتاب الله تعالى وعلى منعها بالأسماء الأعجمية. وفي زاد المسلم: وقد تتبعت كتب أهل المذاهب الأربعة متونًا وشروحًا وحواشي فوجدتهم متفقين على جواز الرقية بشروط: أن تكون بكلام الله تعالى أو أسمائه وصفاته، وباللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره بشرطه، وأن يعتقد أن الرقية غير مؤثرة بنفسها بل بتقدير الله عز وجل. وفي الموطأ أن أبا بكر، رضي الله عنه، قال لليهودية التي كانت ترقي عائشة: ارقيها بكتاب الله. وروى ابن وهب عن مالك: كراهة الرقية بالحديدة والملح وعقد الخيط والذي يكتب ختم سليمان وقال: لم يكن ذلك من أمر الناس القديم. قال الأبي: والعقد عند مالك أشد كراهة لما فيه من مشابهة السحر كأنه تأول النفاثات في العقد. وقال القسطلاني:

قال الربيع: سألت الشافعي عن الرقية فقال: لا بأس أن يرقى بكتاب الله عز وجل وبما يعرف معناه من ذكر الله، قلت: أيرقي أهل الكتاب المسلمين؟ قال: نعم إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله وذكر الله اهـ, وقال في موضع آخر: وهذا مما لا خلاف فيه بين علماء المذاهب الأربعة وغيرهم إذا كان على نحو ما سبق من الشروط. فحمل الحروز المشروعة إذا كان مع حسن النية واعتقاد النفع من الله تعالى ببركة آياته وأسمائه جائز باتفاق المذاهب الأربعة وغيرهم. وقد أشار خليل في مختصره لجواز حمل الحرز من القرآن، إذا كان عليه ساتر يقيه وصول الأذى من جلد أو غيره بقوله عاطفًا على ما لا منع في حمله: وحرز بساتر وإن لحائض. أي لا منع في حمل المسلم الصحيح أو المريض للحرز من القرآن بشرطه وإن لامرأة حائض ونفساء أو جنب. وأما الكافر فيمنع حمله للحرز من القرآن؛ لأنه يؤدي إلى امتهانه. ويجوز تعلق الحرز منه على بهيمة لدفع عين أو مرض أو غير ذلك، فجعل الجزء من القرآن حرزًا بشرطه متفق عليه، وفي جعل المصحف الكامل حرزًا قولان: فقيل: لا يجوز لأن الشأن في المصحف الكامل ألا يجعل حرزًا محمولاً على الدوام، وهذا هو الأحسن صونًا للمصحف عن حمله في حالة الحدث. وقيل: يجوز طردًا لحكم الجواز اهـ. وقوله رحمه الله تعالى: والتعوذ بكسر الذال المعجمة مجرور بالباء في التداوي معطوف عليه. والمعنى أن المعاذة جائزة لا بأس بها كالتداوي والرقى قال في الرسالة: ولا بأس بالمعاذة تعلق وفيها القرآن. يعني كما تجوز الرقى بالقرآن تجوز المعاذة وفيها آيات من آي القرآن. وفي المدخل نقلاً عن المأزري: ولا بأس بالتداوي بالنشرة تكتب في ورق أو إناء نظيف سور من القرآن أو بعض سور أو آيات متفرقة من سورة أو سور مثل آيات الشفاء. ثم قال: وما زال الأشياخ من الأكابر رحمة الله عليهم يكتبون الآيات من القرآن والأدعية فيسقونها لمرضاهم ويجدون العافية عليها اهـ. وفي القوانين لابن جزي:

المسألة الخامسة: يجوز تعليق التمائم وهي العوذة التي تعلق على المريض والصبيان وفيها القرآن وذكر الله تعالى إذا خرز عليها جلد، ولا خير في ربطها بالخيوط، هكذا نقل القرافي. ويجوز تعليقها على المريض والصحيح خوفًا من المرض والعين عند الجمهور وقال قوم: لا يعلقها الصحيح. وأما الحروز التي تكتب بخواتم وكتابة غير عربية فلا تجوز لمريض ولا لصحيح؛ لأن ذلك الذي فيها يحتمل أن يكون كفرًا أو سحرًا اهـ. بلفظه. ومن أراد زيادة البيان فيراجع زاد المسلم (¬1) للعلامة الحافظ محمد حبيب الله الشنقيطي رحمه مولاه، ففيه كفاية واستغناء إن شاء الله تعالى؛ لأنه قد ساق الأحاديث التي وردت في هذا الباب فجزاه الله عن المسلمين خير جزاء. ثم قال رحمه الله تعالى: (ولا تظهر المرأة زينتها لغير محارمها ولا تمشي في ثوب يظهر تكسير أعطافها ولا باس بدخول عبدها المأمون عليها)، يعني لا يجوز للمرأة أن تظهر عورتها الخفيفة إلا لمحارمها، وأما المغلظة فلا تجوز إظهارها إلا لزوجها أو سيدها. قال النفراوي: وحاصل المعنى أنه يحرم على المرأة لبس ما يرى منه أعلى جسدها كثديها أو أليتها بحضرة من لا يحل له النظر إليها، فالواصف هو الذي يحدد العورة، ومثل الواصف: الذي يشف أي يرى منه لون الجسد من كونه أبيض أو أسود. وأما لبس النساء الواصف أو الذي يشف بحضرة من يحل له النظر إليها كزوجها أو سيدها فلا حرج عليها فيه. والدليل في ذلك قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن} [النور: 31] الآية. وأما عبدها فحكمه جواز نظره عليها بشرط الأمن. قال في القوانين: ولا يجوز أن تواكل المرأة عبدها إلا إذا كان وغدًا دنيًا يؤمن منه التلذذ بالنساء بخلاف من لا يؤمن ذلك منه. أي فلا يجوز له مواكلتها ولا نظر شيء من عوراتها وإن كان قد ¬

(¬1) من ص 82 - 88 في ج 4.

استثنوا عبد المرأة. قال النفراوي: ويستثنى من كلام المصنف خلوة المرأة بعبدها. قال خليل: ولعبد بلا شرك ومكاتب وغدين نظر شعر السيدة وبقية أطرافها التي ينظرها محرمها والخلوة بها، وأما عبد زوجها فيجوز بشرطين أن يكون خصيًا وأن يكون قبيح المنظر، وأقول: ينبغي تقييد هذا بالمرأة المشهورة بالدين وإلا فقد تميل المرأة للنصراني الخادم في أسفل الدار اهـ. وما ذكروه من جواز نظر عبدها محمول على الأمن كما قال المصنف رحمه الله تعالى. ثم قال: (ولا يجاوز ثوب الرجل كعبيه ولا يجره خيلاء)، يعني كما في الرسالة ونصها: ولا يجر الرجل إزاره بطرًا ولا ثوبه من الخيلاء، وليكن إلى الكعبين فهو أنظف لثوبه وأتقى لربه. وفي موضع آخر: وأزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه. لما ورد في الحديث: أزروة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، لا جناح عليه فيما بينه وبين قدميه وما سفل عن ذلك ففي النار. وفي شرح الرسالة: يجوز للمرأة أن تجر ثوبها وترخيه ذراعًا لقصد الستر كما في الموطأ، ولا يجوز لها الزيادة على ذلك. ثم قال: وهذا كله حيث لا خف لها ولا جورب اهـ. النفراوي بلفظه. وفي حديث آخر عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا ينظر الله تعالى إلى من جر ثوبه خيلاء))، رواه البخاري ومسلم. ولفظ الثوب شامل سواء كان إزارًا أو رداء أو قميصًا أو جبة أو سراويل أو عمامة كما في أبي داود والنسائي وابن ماجه من رواية سالم بن عبد الله عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الإسبال في الإزار والقميص والعمامة من جر منها شيئًا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة))، وفي أخرى: فقالت أم سلمة: فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ فقال: ((يرخين شبرًا))، فقالت: إذن تنكشف أقدامهن قال: ((فيرخين ذراعًا لا يردن عليه)) اهـ.

قال رحمه الله تعالى: (ولا باس بالمصافحة) يعني أن المصافحة حسنة مليحة جميلة لا بأس بها. قال العلامة الدردير: والمصافحة مندوبة على المشهور. وقيل: مكروهة وهو وضع أحد المتلاقيين بطن كفه على بطن كف الآخر إلى آخر السلام أو الكلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((تصافحوا يذهب الغل عنكم وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء))، ولخبر: ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا. ولا تجوز مصافحة الرجل المرأة ولو متجالة؛ لأن المباح الرؤية فقط، ولا المسلم الكافر إلا لضرورة. وفي النفراوي: وإنما تحسن المصافحة بين رجلين أو بين امرأتين لا بين رجل وامرأة وإن كانت متجالة، ولا بين مسلم وكافر أو مبتدع. والدليل على حسن المصافحة ما قدمناه من الأحاديث، وقوله صلى الله عليه وسلم لمن قال له: يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: ((لا))، قال: أفيلزمه ويقبله؟ قال: ((لا))، قال: أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: ((نعم)). وأفتى بعض العلماء بجواز الانحناء إذا لم يصل إلى حد الركوع الشرعي. اهـ. وفي شرح العزية للعلامة عبد الباقي الزرقاني: المصافحة حسنة أي مستحبة لرجل مع مثله أو لامرأة مع مثلها لا مع رجل ولو لمتجالة؛ لأنها من المباشرة إن لم يكن محرمها، ولا يصافح كافرًا ولا مبتدعًا، لخبر: من صافح مبتدعًا فقد خلع الإيمان عروة عروة، ولا يقبل يد صاحبه ولا يد نفسه. وقال الزرقاني: يقبل كل يد نفسه. ثم ذكر كيفية المصافحة كما تقدم بقوله: والمصافحة وضع الكف على كف أخرى عند التلاقي مع ملازمة لهما قدر ما يفرغ من السلام أو سؤال إن عرض لهما أو كلام، ولا يشد أحدهما يده على يد صاحبه. وقال بعضهم: يشدها أي ندبًا لكونه يشعر بالمبالغة في المودة، ويكره اختطاف اليد إثر التلاقي. اهـ. انظر زروق على الرسالة. ثم قال رحمه الله تعالى: (وتكره المعانقة وبوس اليد)، يعني أن المعانقة وبوس اليد كل واحد منهما مكروه. قال العلامة ابن جزي في القوانين: وتكره المعانقة بعد أن ذكر حكم

المصافحة وقال: والمعانقة جعل عنقه على عنق صاحبه، وهي مكروهة عند مالك كما في الرسالة. وإنما كرهها الإمام لأنه لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعلها إلا مع جعفر حين قدومه من الحبشة فاعتنقه عليه الصلاة والسلام وقبله بين عينيه كما في خبر طاوس عن ابن عباس ولم يصحبها عمل من الصحب بعده عليه الصلاة والسلام. اهـ. وأول من فعل المعانقة إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام، فإنه حين كان بمكة وقدمها ذو القرنين وعلم به عليه الصلاة والسلام قال: ما ينبغي لي أن أركب في بلدة فيها خليل الرحمن، فنزل ذو القرنين ومشى إلى إبراهيم فسلم عليه إبراهيم عليه السلام واعتنقه وكان أول من عانق اهـ. النفراوي. قوله: وبوس اليد معطوف على المعانقة، فالمعنى أن بوس اليد أي شدها عند المصافحة مكروه وأجازه بعضهم كما تقدم. قال النفراوي: وفي شد كل واحد يده على يد مصافحه قولان: بالجواز وعدمه، ومثل شد اليد اختطافه عند المصافحة فهو مكروه كما تقدم. ثم قال رحمه الله تعالى: (وتعظم المساجد وتخلق وتجنب النار والصبيان والمجانين وشهر السلاح ولا يلقى فيها نخامة ولا قلامة ولا قصاصة شعر)، يعني أنه ينبغي للمسلم أن يعظم المساجد؛ لأنها بيوت الله، فإن تعظيمها تعظيم الله تعالى، وتعظيمها يكون بتحسين بنائها وعمارتها بالعبادة. وفي الخبر عن الأوزاعي، رضي الله عنه، قال: خمس كان عليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون بإحسان: لزوم الجماعة وابتاع السنة وعمارة المسجد وتلاوة القرآن والجهاد في سبيل الله تعالى. اهـ. قال أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه: من أسرج في المسجد سراجًا لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له ما دام ذلك في المسجد. وقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: المساجد بيوت الله في الأرض والمصلي فيها زائر الله وحق على المزور أن يكرم زائره اهـ. ومن تعظيم المساجد أن تخلق أي أن يجعل لها خلوق، بأن تطيب بالخلوق تعظيمًا لمكان عبادة الله تعالى قال تعالى:

{وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدًا} [الجن: 18] ومن تعظيمها أن يجنبها النار والصبيان والمجانين وشهر السلاح، لما ورد من النهي في جميع ذلك، ولا يلقى في المسجد قمامة ولا قلامة ولا نخامة ولا قصاصة شعر. وفي الرسالة: ويكره العمل في المساجد من خياطة ونحوها، ولا يغسل يديه فيه ولا يأكل فيه إلا مثل الشيء الخفيف كالسويق ونحوه، ولا يقص فيه شاربه ولا يقلم فيه أظفاره، وإن قص أو قلم أخذه في ثوبه، ولا يقتل فيه قملة ولا برغوثًا، وارخص في مبيت الغرباء في مساجد البادية. اهـ. قال شارحها: قوله: من خياطة ونحوها كالنسخ للكاتب. وأما ما يقدره أو يضيق على مصل فيحرم؛ لأن المساجد وضعت للعبادة، وأجيزت القراءة والذكر وتعليم العلم تبعًا للصلاة حيث لا يشوش شيء منها على مصل وإلا منع كما يمنع كل ما يقذر من حجامة أو فصادة أو لصلاح النعال العتيقة، ومن المكروه رفع الصوت فيه بالعلم زيادة على المطلوب. قال خليل: وكره أن يبصق بأرضه وتعليم صبي وبيع وشراء وسل سيف وإنشاد ضالة وحتف بميت ورفع صوت كرفعه بعلم ووقيد نار ودخول كخيل لنقل وفرش أو متكأ، ومن المكروه فعله في المسجد الاستياك والقراءة في المصحف قلت: وما ذكره من كراهة الاستياك في المسجد فذلك خيفة خروج الدم من فمه فيحتاج للخروج لغسل ذلك وإلا فلا كراهة في استياكه فيه، وأما كراهته في قراءة المصحف فقد عللوه برفع الصوت، فإن لم يكن فيه رفع الصوت فلا كراهة فتأمل، وأما غرس الشجر أو الزرع فيه فيحرم كما صرح به شراح خليل، كما يحرم حفره والجفن فيه، وما غرس فيه من الأشجار يقطع قال ابن سهل: وهي حلال أي في الأكل للفقير والغني؛ لأن سبيل ذلك كالفيء اهـ. بتوضيح. وفي القوانين فيما تنزه عنه المساجد قال: وذلك كالبيع وسائر أبواب المكاسب وإنشاد الضالة ورفع الصوت حتى بالعلم والقرآن والبزاق وكفارته دفنه، وإنشاد الشعر إلا ما يجوز شرعًا، وكره سحنون الوضوء فيه ويخفف النوم فيه نهارًا للمقيم والمسافر

والمبيت فيه للغريب، ولا ينبغي أن يتخذ مسكنًا إلا لمن تجرد للعبادة، ويرخص في الأكل اليسير فيه ويمنع منه الصبيان والمجانين من أكل الثوم والبصل ويرخص للنساء الصلاة فيه إذا أمن الفساد، ويكره للشابة الخروج إليه، ولا يتخذ المسجد طريقًا ولا يسل فيه سيف وإنما يفعل فيه ما بني له، ولا يجوز دخول المشرك المسجد وجوزه الشافعي إلا في المسجد الحرام وأبو حنيفة في كل مسجد اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: (ويندب إلى عيادة المرضى)، يعني أنه يستحب للإنسان أن يعتني بحقوق المرضى بالتفقد في أحوالهم بالعيادة والتمريض. قال ابن جزي في القوانين: فالعيادة مستحبة وفيها ثواب. والتمريض فرض كفاية فيقوم به القريب ثم الصاحب ثم الجار ثم سائر الناس. وفي الحديث: ((ما من رجل يعود مريضًا ممسيًا إلا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يصبح وكان له خريف في الجنة، ومن أتاه مصبحًا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يمسي وكان له خريف في الجنة)) اهـ. رواه أبو داود عن علي، كرم الله وجهه. وفي الرسالة: من حق المؤمن على أخيه المؤمن أن يعوده إذا مرض. قال شارحها: لما في العيادة من ثواب عظيم فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من عاد مريضًا لم يزل يخوض في الرحمة حتى يجلس فإذا يغمس فيها)). ويطلب من الزائر أمور ليحصل له بها كمال الأجر: منها قلة السؤال عن حاله وإظهار الشفقة عليه من ذلك المرض، ومنها قلة الجلوس عنده إلا لحاجة أو يطلب منه ذلك، ومنها الدعاء له، ومنها وضع يده على بعض جسده إلا أن يكون يكره ذلك، ومنها أن يجلس عنده بخشوع من غير نظر في عورة منزله، ومنها أن يبشره بالمثوبات. وأما ما يحصل به كمال أجر المرض من تكفير الذنوب لما ورد من أن الأمراض كفارات للذنوب فهي أن يحافظ على طاعة ربه في مرضه ما استطاع فلا يضيعها بل يأتي بصلاته ولو من جلوس أو اضطجاع بقدر طاقته، وأن يكثر الرجاء ولا يقنط من عفو ربه ولا يكثر الشكوى إلا عند صالح ترتجى

بركة دعائه، وألا ينطق لسانه بالكلام الذي لا ينبغي في حق الباري بل يلاحظ أنه المالك للعباد يفعل فيهم كيف شاء فإن خفف فبمحض فضله وإن شدد فبعدله لا يسأل عما يفعل، وأن يعتقد أن الشافي هو الله ولو كان عنده حكيم يداويه؛ لأن المداوي حقيقة هو الذي خلق المرض، وجواز التداوي لا ينافي التوكل والاعتماد على الله، على القول المعتمد من قول الصوفية وغيرهم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتعاطى الأسباب للتداوي مع أنه أعظم المتوكلين على الله سبحانه اهـ. النفراوي باختصار. قال رحمه الله تعالى: (وتشييع الجنائز) هذه الجملة معطوفة على عيادة المرضى فالمعنى أنه يندب للإنسان أن يعتني بتشييع الجنائز؛ لأنه من حق المؤمن على أخيه المؤمن أن يحضر جنازته إذا مات لأجل الصلاة عليه والدفن؛ لأن تجهيز الأموات والقيام بأمورهم من فروض الكفاية كما تقدم، وفي حضور ذلك ثواب عظيم، قال عليه الصلاة والسلام: ((من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن كان له قيراطان))، قيل: وما القيراطان؟ قال: ((مثل الجبلين العظيمين)). رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإليه أشار أبو محمد في الرسالة بقوله: وفي الصلاة على الميت قيراط من الأجر وقيراط في حضور دفنه، وذلك في التمثيل مثل جبل أحد ثوابًا كما في رواية مسلم، والمراد: يعظم الثواب وأنه يرجع بنصيب كبير من الأجر كما في زاد المسلم. قال رحمه الله تعالى: (والسعي في حوائج الإخوان) وهذه الجملة أيضًا معطوفة على عيادة المرضى، فالمعنى أنه يندب للإنسان أن يعتني بخدمة الإخوان ويقوم بقضاء حوائجهم حضرًا وسفرًا، لما في ذلك من كثرة الثواب وجزيل الأجر. وفي الحديث: ((سيد القوم خادمهم)). رواه الخطيب وفي رواية: ((سيد القوم خادمهم وساقيهم آخرهم شربًا)). وفي أخرى: ((سيد القوم في السفر خادمهم فمن سبقهم بخدمة لم يسبقوه بعمل إلا الشهادة)).

وهذه الروايات كلها منقولة من الجامع الصغير بأسانيد مذكورة هناك. قال العلامة المناوي في فيض القدير في معنى الأحاديث المتقدمة: أي ينبغي كون السيد كذلك لما وجب عليه من الإقامة بمصالحهم ورعاية أحوالهم، أو معناه أن من يخدمهم وإن كان أدناهم ظاهرًا فهو في الحقيقة سيدهم لحيازته للثواب. قلت: وعلى كل حال أن من قام بخدمة الإخوان حاز فضلاً وفاز بالثواب، فينبغي للعاقل أن يغتنم ذلك كما فعل بعض الصالحين. قال الغزالي حكاية عن بعضهم: صحب المروزي أبا علي الرباطي فقال أبو علي: أنت الأمير أم أنا؟ قال: أنت، فلم يزل يحمل الزاد على ظهره وأمطرت السماء فقام طول الليل على رأس رفيقه بكساء فكلما قال له: لا تفعل يقول: ألم تسلم الإمارة لي فلم تحكم علي؟! قال: فوددت أني مت ولم أؤمره اهـ. وأنشد في ذلك العلامة البيهقي، رضي الله عنه، فقال: إذا اجتمع الإخوان كان أذلهم ... لإخوانه نفسًا أبر وأفضلا وما الفضل في أن يؤثر المرء نفسه ... ولكن فضل المرء أن يتفضلا نقله المناوي في فيض القدير شرح الجامع الصغير، وتقدم لنا الكلام في شيء من مواساة الإخوان وخدمتهم في الإرفاق فراجعه إن شئت. ثم قال رحمه الله تعالى: (ويحرم اللعب بالنرد والشطرنج وجميع آلة القمار)، يعني يحرم على المكلف اللعب بالنرد وهو معروف وكذا بالشطرنج، ومثلهما جميع آلة اللعب التي بها مغالبة بأخذ النقود وغيرها كالقمار، وهي مما حرمه الله تعالى في كتابه العزيز، وهي من أكل أموال الناس بالباطل، وتقدم لنا في البيوع أنه من المنهي عنه بيع الملاهي وما لا يجوز بيعه شرعًا من آلات القمار وغيرها من الملهيات، فراجع قول المصنف وآلات القمار وما عطف عليه في البيوع، وقد جلبنا هناك نصوص المذهب في هذه المسألة لكنا ذكرنا هناك تحريم بيعها وهنا نذكر تحريم الاستعمال بها. قال شارح العزية العلامة

عبد الباقي الزرقاني عند قول صاحب المتن: ويحرم اللعب بالشطرنج سواء كان اللعب قليلاً أو كثيرًا على جعل أو بلا شيء، وقيل: إن كان بجعل فحرام؛ لأنه من القمار وإلا فمكروه. قلت: المشهور الأول. والقمار هو ما يأخذه الشخص من غيره بسبب المغالبة عند اللعب بالشطرنج ونحوه وهو حرام. ويكره الجلوس إلى من يلعب بها وكذا السلام عليه حال تلبسه بها كما تقدم. ويحرم اللعب بالطاب. قال النفراوي: تنبيه: وقع الخلاف في اللعب بالطاب وهو معروف عند العامة وكذا في المنقلة، والذي ذكره بهرام في شرح خليل في الطاب وجعله مثل النرد، وأما المنقلة فاستظهر بعض الشيوخ الكراهة فيها، وكل هذا حيث لا قمار وإلا فالحرمة فيهما من غير نزاع اهـ. قال أبو محمد في الرسالة: ولا يجوز اللعب بالنرد ولا بالشطرنج ولا بأس أن يسلم على من يلعب بها، ويكره الجلوس إلى من يلعب بها والنظر إليهم. قال شارحها قوله: لا يجوز بمعنى يحرم ولو مجانًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه)). وقال عليه الصلاة والسلام أيضًا: ((من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله)) رواه مالك في الموطأ. والنردشير هو النرد. قوله: لا بالشطرنج وما ذكرناه من عدم جواز اللعب بالشطرنج هو الذي ارتضاه الحطاب، فإنه حمل الكراهة الواقعة في كلام بعض على التحريم وهو قول أحمد بن حنبل والشافعي أيضًا حتى قال إمامنا مالك، رضي الله عنه: الشطرنج ألهى من النرد واشر اهـ النفراوي باختصار انظره إن شئت. ثم قال رحمه الله تعالى: (ولا بأس بقتل الوزغ وتستأذن حيات البيوت ثلاثًا فإن بدت بعد قتلها) يعني أن الوزغ يجوز قتلها بل يستحب قتلها في أي محل وجدت، ولا يتوقف على استئذان ولو لم يحصل منها أذية ولا كثرة، لأنه صلى الله عليه وسلم حث ورغب في قتل الوزغة حيث قال: من قتلها في المرة الأولى فله مائة حسنة ومن قتلها في المرة الثانية فله سبعون حسنة وقيل: خمسون، ومن قتلها في الثالثة فله خمس

وعشرون. قال ابن ناجي: هذا لما في مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتل الوزغ وسماه الفويسقة وفيه أيضًا: من قتل وزغة في أول ضربة كتب له مائة حسنة وفي الثانية دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك. قال ابن رشد: وكذلك يقتل ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله من العقرب والفأرة والحدأة والغراب والكلب العقور اهـ. وفي الرسالة: وجاء فيما ظهر من الحيات بالمدينة أن تؤذن ثلاثًا وإن فعل ذلك في غيرها فهو حسن، ولا تؤذن في الصحراء ويقتل ما ظهر منها، ويكره قتل القمل والبراغيث بالنار، ولا بأس إن شاء الله بقتل النمل إذا آذت ولم يقدر على تركها ولو لم تقتل كان أحب إلينا اهـ. قال شارحها قوله: وجاء أي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ظهر من الحيات بالمدينة المنورة وفيما ظهر في بيوتها وأزقتها أن تؤذن ثلاثة من الأيام على جهة الوجوب كما هو مقتضى صيغة الأمر الآتية في الحديث، والدليل على طلب استئذانها ما في الموطأ وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منها شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنه الشيطان)). والاستئذان له ثلاث صيغ: الأولى: أن يقول: أنشدكن بالعهد الذي أخذه عليكن سليمان ألا تؤذونا. والثانية: أن يقول لها: يا عبد الله إن كنت مؤمنًا بالله واليوم الآخر وأنت مسلم فلا تظهر لنا خلاف اليوم. والثالثة: أن يقول لها: أقسم عليك بالله وباليوم الآخر لا تبد لنا ولا تخرج فإن ظهرت لنا قتلناك، وهذه الصيغ كلها واردة في الروايات. وإن فعل ذلك في غير المدينة المنورة من العمران فحسن. فتلخص أن وجوب استئذان الحيات إنما يجب بالمدينة وأما غيرها فيندب في العمران وأما غير العمران فلا يجب ولا يندب. ومحل وجوب الاستئذان غير الأبتر وذي الطفيتين وأما هما فلا يجب استئذانهما ويقتلان من غير استئذان ولو

بالمدينة. وذو الطفيتين هو الذي على ظهره خطان أحدهما أخضر والآخر أزرق. والأبتر هو الصغير الذنب وقيل: هو الأزرق، وإنما أمر بقتل هذين الحيين بغير استئذان لأنهما يخطفان البصر ويطرحان ما في بطون الأمهات، وأما الحيات التي في الصحراء والأدوية فلا تستأذن لا وجوبًا ولا استحبابًا بل تقتل لبقائها على الأمر بقتلها في قوله عليه الصلاة والسلام: ((خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحدأة والغراب والحية والفأرة والكلب العقور)) اهـ. النفراوي بحذف. وفي القوانين: المسألة الرابعة في قتل الدواب المؤذية أما الحيات التي في البيوت فتؤذن ثلاثة أيام فإن بدا بعد ذلك قتل. واختلف هل ذلك عام في جميع البيوت أم خاص بالمدينة؟ ولا يؤذن ما يوجد من الحيات في غير البيوت كالصحاري والأودية بل تقتل. وأما الوزغ فيقتل حيثما وجد، وكذلك الحدأة والغراب والفأرة والكلب العقور؛ لأنها الفواسق التي أمر بقتلها في الحل والحرم كذلك الزنبور، وأما النمل والنحل فلا يقتل إلا أن يؤذي، ولا يقتل شيء من الحيوان بالنار اهـ. ولم يتكلم المصنف على قتل الضفادع، وتكلم فيها صاحب الرسالة بقوله: ويكره قتل الضفادع جمع ضفدع بالضاد المعجمة وبالفاء والعين بينهما الدال وهي دويبة أكثر مكثها في الماء وهي أنواع، وفي النفراوي: حيوان معروف يلازم الماء غالبًا، وعلة الكراهية في قتلها ما قيل: من أنها أكثر الحيوانات تسبيحًا حتى قيل: إن صوتها جميعه ذكر؛ ولأنها أطفأت من نار إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثلثيها، وصيغة تسبيحها: سبحان من يسبح له في لجج البحار، سبحان من يسبح له في الأرض القفار، سبحان من يسبح له في رؤوس الجبال، سبحان من يسبح له بكل شفة ولسان، هكذا وجدته بخط بعض الفضلاء قاله النفراوي. قلت: ليس تسبيح الضفادع بأعجب من تسبيح الجمادات؛ لأن الله سبحانه يسبح له كل شيء من الحيوانات والنبات والأشجار والجبال وجميع الجمادات واليابسات وجميع الرطبيات في البر والبحر في السموات

والأرضين؛ لقوله سبحانه وتعالى في سورة الإسراء: {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليمًا غفورًا} [الإسراء: 44] وكان نبي الله داود عليه السلام كثير الذكر والتسبيح، وتسبح معه الجبال والوحوش والطير وغيرها صباحًا ومساء، قال تعالى: {إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والإشراق} [ص: 38] الآيتين، وفي كتاب الزاهر لأبي عبد الله القرطبي: أن داود عليه السلام قال: لأسبحن الله الليلة تسبيحًا ما سبحه به أحد من خلقه فنادته ضفدعة من ساقية في داره: يا داود تفتخر على الله بتسبيحك وإن لي لسبعين سنة ما جف لساني من ذكر الله تعالى، وإن لي لعشر ليال ما طعمت خضرًا ولا شربت ماء اشتغالاً بكلمتين، فقال: ما هما؟ قالت: يا مسبحًا بكل لسان ومذكورًا بكل مكان، فقال داود في نفسه: وما عسى أن أقول أبلغ من هذا اهـ. وفي رواية البيهقي في شعبه عن أنس بن مالك أنه قال: إن نبي الله داود عليه السلام ظن في نفسه أن أحدًا لم يمدح خالقه بأفضل مما مدحه به فأنزل الله عليه ملكًا وهو قاعد في محرابه والبركة إلى جنبه فقال: يا داود افهم ما تصوت به هذه الضفدعة فأنصت إليها فإذا هي تقول: سبحانك وبحمدك منتهى علمك، فقال له الملك: كيف ترى؟ فقال: والذي جعلني نبيًا إني لم أمدحه بهذا اهـ. وروى ابن عدي حديثًا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقتلوا الضفادع فإن نقيقها تسبيح)) قاله البيهقي اهـ. ولذلك نهي النبي عن قتلها. وأما حكم أكلها فالمشهور في مذهب المالكية الجواز. قال النفراوي ومثله في العدوي على الرسالة: ومن أراد أكلها فله أكلها بالذكاة إن كانت برية. ومفهومه: أما إن كانت بحرية فلا يحتاج إلى الذكاة بل بما تموت به كخشاش الأرض وجميع البحري. قال الدردير في أقرب المسالك عاطفًا على المباح: والبري وإن ميتًا أو كلبًا أو خنزيرًا كما مر في الجزء الأول، فظهر لك أن أكل الضفادع جائز بشرط عدم الضرر. قال العلامة عبد الرحمن الجزيري في الفقه في قول المالكية: لا نزاع عندهم في تحريم كل ما يضر،

فلا يجوز أكل الحشرات الضارة قولاً واحدًا، أما إذا اعتاد قوم أكلها ولم تضرهم وقبلتها أنفسهم فالمشهور عندهم أنها لا تحرم اهـ. انظر قول المالكية في الفقه إن شئت والله أعلم. وأما الجراد فالمعروف أنها تؤكل بما تموت به من قطع الرأس والرجلين والأجنحة وغير ذلك مما تموت به كما في المدونة وغيرها من كُتب المذهب. مما لا خلاف فيه بين أهل المذهب. وقد بسطنا الكلام في الجراد وجلبنا النصوص عند قول المصنف: (والظاهر أنه لا تُؤكَل ميتة الجراد ودود الطعام منفردًا عنه) فراجع كتاب الأطعمة والأشربة إن شئت. وأما النمل والنحل وغيرهما فقد ورد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن قتل أربع من الدواب: (النملة والنحلة والهدهد والصرد): قال شارح الحديث في غاية المأمول: أما النحلة فإن كانت نحلة العسل فلكثرة فائدتها. وأما النملة والهدهد فلسر علمه الشارع؛ لأن خلقهما لا يخلو من فائدة؛ قال تعالى: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين} [الأنبياء: 16] فلا يجوز قتل النمل ولا فرق بين صغيرة وكبيرة إلا إذا كثر وصار ضارًا فلا بأس من قتله. والصرف بضم ففتح طائر كبير الرأس يصطاد العصافير وهو أول طائر صام لله تعالى اهـ. وللبيهقي: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الخطاطيف. وله أيضًا: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل الرخمة. قلت: قد علمت أن مذهب السادة المالكية لم يحرم شيئًا من الطيور حتى الجلالة إلا الوطواط فإنه مكروه. قال المواق من المدونة: لا بأس بأكل الضفادع وإن ماتت؛ لأنها من صيد الماء وقد تقدم ولو طالت حياته ببر. وقال ابن القاسم في الطير: ولم يكره مالك أكل شيء من الطير كله الرخام والعقبان والنسور والأحدية والغربان وجميع سباع الطير وغير سباعها ما أكل الجيف منها وما لم يأكلها، ولا بأس بأكل الهدهد والخطاف اهـ كما تقدم. ولما أنهى الكلام على ما احتوى عليه كتاب الجامع من الأشياء الكثيرة المتنوعة

فصل في المسابقة

والأمور النافعة انتقل يتكلم على ما يتعلق بالمسابقة، لكن لو وضع هذا الفصل عقب الجهاد في سبيل الله لكان أحسن كما فعل غيره من المصنفين؛ لأن مراد الشارع بالأمر بالمسابقة تمرين وتعليم للجهاد كما هو معلوم ضروري والله أعلم بمراد المصنف رحمه الله تعالى في وضعه هذا الفصل وجعله في آخر كتابه بقوله: فَصْلٌ في المسابقة أي في بيان ما يتعلق بالمسابقة وأحكامها، فهي لغة: مشتقة من السبق بسكون الباء مصدر سبق إذا تقدم وبفتحها: المال الذي يجعل بين أهل السباق، وهي المفاعلة من الجانبين باعتباره إرادة كل منهما السبق. وحكمها الجواز كما سيأتي على التفصيل وإليها أشار رحمه الله تعالى بقوله: (تجوز المسابقة في الخُف والحافر على جُعْل) يعني أن المسابقة جائزة في الإبل والخيل على ما يجعله المتبرع مثل أن يخرج الإمام أو غيره الجُعْل فيجعله لمن سبق من المتسابقين، فهذه الصورة مما لا اختلاف فيها بين أهل العلم كما يأتي البيان عند ذكر بقية الصور. قال النفراوي: واعلم أن المسابقة إن وقعت بغير جُعْل تجوز بالمذكورات وغيرها من نحو الحمير والطير والسفن والرمي بالحجارة إذا وقعت لغرض صحيح؛ قال خليل: وجاز فيما عداه مجانًا، وأما بالجعل فإنما يجوز في الخيل والإبل وبينهما والسهم، بشرط أن يكون الجُعل مما يصح بيعه، وتعيين المبدأ والغاية والمركوب وتعيين فرس كل وجهل كل سَبَق فَرَسِه. وإنما الشرط ألا يعلم أحدهما بسبق فرسه، ولا يشترط معرفة الراكب عليهما من كونه جسيمًا أو لطيفًا، وإنما يُشترط بلوغهما. ومثل تعيين المبدأ والغاية بالفعل جرى العُرْف بشيء معين، وإنما اشترط ما ذكر فيها مع الجُعْل؛ لأنها من العقود اللازمة كالإجارة. ويشترط في الرمي تعيين عدد الإصابة ونوعها من خرق أو غيره بخلاف السهم فإنه لا يشترط تعيينه ولا تعيين الوتر ولا موضع

الإصابة اهـ. والأصل في جواز المسابقة ما في الموطأ وغيره عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي قد أضمرت من الحفياء وكان أمدها ثنية الوداع. وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق وأن عبد الله بن عمر كان ممن سابق بها. وفيه أيضًا: أن سعيد بن المسيب كان يقول: ليس بِرهان الخيل بأسٌ إذا دخل فيها مُحَلل، فإن سبق أخذ السبق وإن سُبق لم يكن عليه شيء. قال رحمه الله تعالى: (ويشترط تعيين الغاية والمراكيب) وتقدم بعض الشروط فيما مر؛ فالمعنى كما في شرح الرسالة لابن ناجي أنه قال: شروط المسابقة أن يجهل كل واحد منهما فرس صاحبه، وأن يكونا بالغين ومعرفة انتهاء الغاية، وأن يخرج أحدهما مثل ما يخرجه الآخر. وقيل: يجوز التفاضل وهو المشهور، وأن يقصد بذلك القوة على الجهاد اهـ. قال الصاوي: المراد بالمبدأ: المحل الذي يبدأ منه من رماحه أو رمي بالسهم. والمراد بالغاية: المحل الذي ينتهي إليه. ولا يشترط المساواة فيهما، وأما المركوب فلا بد من تعيينه بالإشارة الحسية وفي معناه بأن يقول: أسابقك على فرسي هذه أو بعيري هذا أو أنت على فرسك هذه أو بعيرك هذا أو فرسك أو فرسي وكانا معهودين بينهما، ولا يكتفى بالتعيين بالوصف كأسابقك على فرس أو بعير صفته كذا، وهذا ما يدل عليه قول ابن شاس: من شروط السبق معرفة أعيان السباق اهـ. قال رحمه الله تعالى: (فإن جعله أجنبيًا ليُحرزه من سبق منهما جاز) يعني أن الأجنبي الذي ليس من المتسابقين إذا تبرع بإخراج السبق ليأخذه من سبق فهذه الصورة اتفق الأئمة على جوازها، قال الجزيري في الفقه: ويُشترط أن يكون الجُعل من شخص آخر متبرع غير المتسابقين، فإذا عين شخص مالاً أو غيره مكافأة لمن يسبق بفرسه أو جمله فإنه يحل للسابق أخذه اهـ.

ثم قال رحمه الله تعالى: (وإن جعله أحدهما ليرجع إليه لم يجز) يعني كما في الفقه قال: أما الجُعل الذي يخرجه أحد المتسابقين دون الآخر كأن يعين أحد المتسابقين مالاً أو غيره ليأخذه الآخر إن سبق ولم يعين شيئًا فإن سبق الذي لم يعين شيئًا حل له أخذ الجُعل، وإن سبق مخرج الجُعل فلا يحل له أخذ ماله الذي أخرجه بل يأخذه الحاضرون. وقال ابن جزي: لا يعود إليه ويأخذه من سبق سواه أو من حضر اهـ. قال رحمه الله تعالى: (وإن جعلاه وبينهما محلل لا يأمنان سبقه ليُحرزهما إن سبق جاز وإلا فلا يجوز) يعني كما قال الجزيري: أما إذا أخرج كل واحد منهما مالاً معينًا يأخذه الثاني إذا سبق فإنه لا يصح؛ لأنه يكون قمارًا في هذه الحالة. وإذا أخرج كل من المتسابقين مالاً ليأخذه السابق وكان معهما ثالث لم يخرج شيئًا فلا يخلو إما أن تكون فرسه معلومة وأنه يسبق الاثنين اللذين أخرجا الرهان أو لم تكن معلومة ولم يمكن سبقهما، فإن كان الأول فلا يصح له أخذ الرهان لحديث: ((من أدخل فرسًا بين فرسين وهو يعلم أنه يسبقهما فهو قمار))، وإن كان الثاني أي بأن كان لا يمكن سبقهما فصار الثالث مسبوقًا وأصبح السابق أحد الاثنين اللذين أخرجا الجُعل فلا يحل للسابق أن يأخذ المال المجعول لا من صاحبه ولا من الثالث، ومفهوم كون الثالث لم يخرج شيئًا، أنه لو أخرج معهما لكانت الصورة ممنوعة اتفاقًا، وأما إن لم يخرج من عنده شيء جاز له أخذ ما جعله إن سبق. وبقيت الصورة الممنوعة وهي إذا تسابقا على أن المسبوق يعطي للسابق جُعلاً فلا يجوز اهـ بتوضيح. وفي عبارة لابن جزي. فإنه وضَّح وبين في قوانينه قال: المسابقة في الخيل جائزة، وقيل: مرغب فيها فإن كانت بغير عِوض جازت مطلقًا في الخيل وغيره من الدواب والسفن وبين الطير لإيصال الخبر بسرعة، ويجوز على الأقدام وفي رمي الأحجار والمصارعة، وإن كانت بعوض وهو الرهان فلها ثلاث صور:

الأولى: أن يخرج الوالي أو غيره ما لا يأخذه السابق فهذه جائزة اتفاقًا، الثانية: أن يخرج كل واحد من المتسابقين مالاً فمن سبق منهما أخذ مال صاحبه وأمسك متاعه وليس معهما غيرهما فهذه ممنوعة اتفاقًا، فإن كان معهما ثالث وهو المحلل فجعلا له المال إن كان سابقًا وليس عليه شيء إن كان مسبوقًا، فأجاز ذلك ابن المسيب والشافعي ومنعه مالك. الثالثة: أن يخرج المال أحد المتسابقين فيجوز إن كان لا يعود إليه ويأخذه من سبق سواه أو من حضر. والرمي كالسبق فيما يجوز ويمنع، ويجعل للسبق أمد وللرمي إشارة اهـ. وقال الدردير في أقرب المسالك: المسابقة جائزة بُجعل في الخيل والإبل وبينهما وفي السهم وإن صح بيعه، وعين المبدأ والغاية والمركب والرمي وعدد الإصابة ونوعها، ولزمت بالعقد وأخرجه متبرع ليأخذه السابق أو أحدهما، فإن سبقه غيره أخذه وإلا فلمن حضر لا إن خرجا ليأخذه السابق ولو بمحلل إن أمكن سبقه اهـ. قال رحمه الله تعالى: (وتجوز المناضلة بالسهام وهي كالمسابقة فيما يجوز ويمتنع، ولا بد من اشتراط رشق معلوم أو نوع من الإصابة والله أعلم) المناضلة هي المباراة في الرمي سواء بالسهام أو بغيرها. وفي الصحاح: ناضله أي رماه، وتناضلوا أي رموا للسبق. فالمعنى أن المسابقة بالسهام جائزة وتسمى المناضلة، وهي كالمسابقة بالخيل والإبل فيما يجوز ويمنع إلا ما يخص به المناضلة. قال المواق نقلاً عن ابن عبد الحكم: ليس على المتناضلين وصف سهم أو وتر برقة أو طول أو مقابليهما، ولمن شاء بدل ما شاء بغيره وقوسًا بالأخرى من جنسها لا عربية بغير العربية، ويجوز تعاقهما على فارسية وعربية ثم لكل منهما بدل قوسه بأي صنف شاء من القسي ولا أحب شرط ألا يراميه إلا بقوس معينة بخلاف الفرس؛ لأن الفرس هو المسابق وفي الرمي الرامي لا القوس اهـ. قوله: ولا بد من اشتراط رشق معلوم، الرشق: بمعنى الرمي قال في المصباح: رشقته بالسهم رشقًا من باب قتل، وأرشقته بالألف لغة: رميته به، والرشق بالكسر: الوجه

من رمي إذا رمي القوم بأجمعهم جميع السهام، وحينئذ يقال: رمى القوم رشقًا. وقال ابن دريد: الرشق: السهام نفسها التي تُرمى والجمع أرشاق مثل حمل وأحمال وربما قيل: رشقته بالقول وأرشقته اهـ. وقوله: أو نوع من الإصابة أي كيفية من إصابة الهدف وهو الغرض. قال خليل عاطفًا على ما يُشترط في المسابقة؛ وعدد الإصابة ونوعها من خزق أو غيره .. قال المواق نقلاً عن ابن شاس: الرمي كالسبق بين الخيل فيما يختص به الرمي من كونهما يشترطا رشقُا معلومًا ونوعًا من الإصابة معينًا من خزق أو إصابة من غير خزق وسبق إلى عدد مخصوص من الإصابة المرة أو المرتين اهـ. الخزق بخاء وزاي معجمتين وهو ثقب الغرض من غير أن يثبت السهم فيه وخسق بخاء معجمة وسين مهملة ساكنة وقاف وهو ثَقْبُه وسكون السهم فيه. قال الدردير خلافًا لما في المواق من قوله هو أن يثقب السهم ولا يثبت يعني كالخزق فتأمل. وأما الخرم بخاء معجمة وسكون الراء وهو إصابة طرف الغرض فيخدشه. قال الخرشي أو خاصرًا بالخاء المعجمة والصاد والراء المهملتين، وهو إصابة أحد جانبي الغرض ولا يخدش منه شيئًا اهـ. ثم ذكر ما لا يسبق بوقوعه في السباق فقال: وإن عرض للسهم عارض أو انكسر أو للفرس ضرب بوجه فعاقه أو نزع سوط لم يكن مسبوقًا بخلاف: ضياعه أو قطع لجام أو حرن الفرس. ثم قال: وجاز عند الرمي افتخار أي ذكر المفاخر بالأنساب إلى أب أو قبيلة، وكذلك جاز رجز وتسمية نفسه وصياحٍ كالحرب قال أي خليل: والأحب ذكر الله لحديث الرمي. والمراد بحديثه: ما تقدم من الافتخار وما عطف عليه وفي نسخة: لأحاديث الرمي بالجمع وهو المروي عنه عليه الصلاة والسلام وهي متعلقة بجاز أي جاز الافتخار لأجل الأحاديث في الرمي اهـ الخرشي بتوضيح. قال المواق نقلاً عن ابن عرفة: والافتخار والانتماء للقبيلة عند ظن الإصابة بالرمي جائز، وبذكر الله

أحب إلي كقوله: أنا الفلاني؛ لأنه إغراء لغيره، رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى فقال: ((أن ابن العواتك)). ورمى عمر بن الهدفين فقال: (أنا بها أنا بها). وقال مكحول: (أنا الغلام الهذلي). قال ابن عرفة: (وهذا في حين الحرب أوضح). فمنه قوله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين حين نزل عن بغلته واستنصر: ((أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب))، ومنه حديث مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: خرجت في أثر القوم أرميهم بالنبل وأرتجز وأقول: أنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرُّضع قال ابن أبي زيد: وكذلك أمور الحروب بين المسلمين وعدوهم، وكل ما كان من القوة عليهم فلا بأس بالمفاخرة فيه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي دجانة حين تبختر في مشيته في الحرب: ((إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن))، وأجاز المسلمون تحلية السيوف، وما ذلك إلا لما أجيز من التفاخر فيه ذّكّرّه في النوادر اهـ بحذف. قال الله تعالى: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} [الحديد: 21] الآيات. اللهم اجعلنا مع الذين سبقوا إلى الخيرات وإلى مغفرة منه آمين. ولنختم شرحنا هذا المبارك بما ختم به أبو البركات كتابه المسمى بأقرب المسالك. لما في تلك الخاتمة من المناسبة حيث قال:

خاتمة

خاتمة كل كائنة في الوجود فهي بقدرة الله تعالى وإرادته على وفق علمه القديم، ولا تأثير لشيء في شيء، ولا فاعل غير الله تعالى، وكل بركة في السماوات والأرض فهي من بركات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل خلق الله على الإطلاق، ونوره أصل الأنوار، والعلم بالله تعالى وبرسله وشرعه أفضل الأعمال، وأقرب العلماء إلى الله تعالى وأولاهم به أكثرهم له خشية وفيما عنده رغبة الواقف على حدود الله تعالى من الأوامر والنواهي المراقب له في جميع أحواله، قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13]، واعلم أن الدنيا دار ممر لا دار قرار، وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار، فينبغي للعاقل أن يتجافى عن دار الغرور بترك الشهوات والفتور، ويقتصر على الضرورات تاركًا لفضول المباحات شاكرًا ذاكرًا صابرًا مسلمًا لله تعالى أمره، ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتوكل على الله فهو حسبه. والنية الحسنة روح العلم ولربما قبلت المعصية طاعة، وكثرة ذكر الله تعالى موجبة لنور البصيرة، وأفضله لا إله إلا الله، فعلى العاقل الإكثار من ذكرها حتى تمتزج بدمعه ولحمه فيتنوع من مجمل نورها عند امتزاجها بالروح والبدن جميع أنواع الأذكار الظاهرية والباطنية التي منها التفكر في دقائق الحُكْم المنتجة لدقائق الأسرار، ومنها التفكر في دقائق الكتاب والسنة الموصل لمعرفة الأحكام الشرعية، ومنها مراقبة الله عند كل شيء حتى لا يستطيع أن يفعل المنهي عنه ومنها طمأنينة القلب بكل ما وقع في العالم من انزعاج ولا اعتراض فيتم له التسليم للعليم الحكيم، ومنها وفور محبة الله تعالى حتى تميل إلى عالم الغيب والقُدُس أكثر من ميلها إلى عالم الشهادة والحس فتشتاق إلى لقاء

بارئها أكثر من اشتياقها لأمها وأبيها، فإذا تم أجلها جازاها ربها بالقبول وحسن الختام وهيأ لها دار السلام وناداها ربها: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي دار السلام بسلام، دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين اهـ {وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب} [فاطر: 34، 35]. يقول الشارح: قد سهل الله لنا إكمال هذا الشرح بعونه تعالى وحسن توفيقه، الحمد لله على ذلك وأسأله تعالى أن يسهل طبعه بكل سهولة على أحسن طبع، كما نرجو لكل راغب فيه إدراك مأموله في أسهل حال، وأسأله سبحانه أن يكون خالصًا لوجهه وذًخرًا ليوم الجزاء، وأن ينفع به كما نفع بأصله كل من قرأه أو حصله أو سعى في شيء منه أو نظر فيه بعين الرضا والقبول إنه تعالى جواد كريم رؤوف رحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وعلى آلهم وصحبهم أجمعين وسلم تسليمًا كثيرًا والحمد لله رب العالمين. * * * وكان الفراغ من تبييضه مساء يوم الاثنين الموافق يوم السادس من شهر ربيع الثاني سنة ألف وثلاثمائة وثلاث وثمانين هجرية 6/ 4/1383 هـ وكان ابتداء تأليف هذا الشرح يوم الخميس الموافق 12/ 2/1375 هـ وكانت مدة مكثنا في هذا الشرح وتحريره من يوم ابتدائنا إلى يوم انتهاء تبييضه مدة سبع سنوات وشهر واثني عشر يومًا، وما ذلك إلا لكثرة الاشتغال بأعمال أخرى وكثرة العوائق والمسائل اللازمة الضرورية.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ثم أعتذر لكل ذي لب وعقل سليم وهو أهل أن يصلح الخلل الواقع في الشرح بعد تفكر وتأمل أو الرجوع إلى المنقول؛ لأنه قلما يخلص مصنف من الهفوات أو ينجو مؤلف من العثرات، والإنسان محل الخطأ والنسيان. ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا. ربنا نسألك صلاح أمورنا وأحوالنا وأحوال المسلمين أجمعين إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.

تنبيه

تنبيه في الوصية الدينية الوعظية للشارح المذكور بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على الناطق بالحكمة والصواب سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهدنا أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الصادق الأمين. أما بعد: يقول الراجي لرحمة ربه المتوكل على الله المنيب إليه خادم طلبة العلم والإخوان في بلد الله الحرام أخوكم في الله أبو بكر بن حسن الكشناوي ثم المكي غفر الله مساويه آمين: هذه وصية نافعة أوصيت بها نفسي ومن اعتنى بها من إخواننا المسلمين، واعلموا أيها الإخوان أن الأمور قد التبست وأن بحر الذنوب قد طم وغرق فيه الكثير من الناس فإنا لله وإنا إليه راجعون. فعليكم أيها المسلمون بتقوى الله العظيم وبترك المعاصي؛ فإن بالتقوى يستوجب العبد كرامة عند مولاه وينال منه سعادة الدارين، وبالمعاصي يستحق منه المقت والغضب، وعليكم بمجاهدة النفس عن هواها؛ فإن النفس لأمارة بالسوء والفحشاء، وإن الشيطان مع النفس والهوى وهما قرينا سوء ومن ترك هوى نفسه دخل الجنة، ومن اتبع هواه هلك وضل ضلالاً بعيدًا؛ قال الله سبحانه: {فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى. وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى}. فعليكم بالعمل بكتاب الله وسنة نبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، واستمسكوا بهما فمن استمسك بهما فقد استمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها. وعليكم بالعمل بما صح في كتب السنة وكتب الفقه مما بينه لنا علماء

السنة المتقدمون، فإن فيها هدىً ونورًا. ولا تميلوا إلى الدنيا، فإنها دار غرور وقد اغتر بها كثير من الناس، وهي مضلة قد ضل فيها كثير من الناس وهم لا يشعرون، وزخارفها زائلة لا تدوم، ولا تطمئنوا فيها فإنها ليست بدار أمان، ولا تأخذوا منها إلا قدر ما يعينكم على طاعة الله؛ لأنها ملعونة إلا ما كان لله وما والاه كما في الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) وعليكم يا إخواني بالصبر على طاعة الله وعن معاصيه. وعليكم بإقامة الصلوات في الجماعة في أول الأوقات، فإن الصلاة في أول وقتها فيها فضل عظيم، وإن يد الله مع الجماعة. وإياكم من البدعة فإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة صاحبها في النار. ولا يغرنكم كثرة أهلها وفاعلها. وإياكم عن الجدال في الدين، ولا تشغلوا بكثرة المراء والجدال ولو كان معكم الحق: فإن المراء والجدال يضيعان الأوقات وهما الشؤمان اللذان يورثان الشر والعداوة بين الناس وعليكم بكثرة السكوت والتزام الصمت إلا لحاجة، وكذلك ملازمة مكارم الأخلاق. وعليكم بدوام ذكر الله تعالى صباحًا ومساءً؛ لأنه ينور القلوب. وعليكم بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه في كل وقت. وعليكم بمداومة الصلاة في ظلمة الليل وكثرة الصيام في ضياء النهار مع ملازمة تلاوة القرآن العظيم، وقراءته فيه ثواب جزيل. وينبغي للإنسان أن يتصدق بما تيسر في كل يوم. وعليكم بالنصيحة لعباد الله بقدر الطاقة والإمكان. وعليكم بحسن الظن لعباد الله وبمحبة العلماء والأدب معهم. عليكم بطاعة الله ورسوله وأولي الأمر منكم، قال الله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59]؛ لان مَنْ أطاع الرسول فقد أطاع الله، وطاعة أولي الأمر طاعة الله وطاعة رسوله، وهي واجبة ما لم يأمروا بمعصية الله، وإذا أمروكم بمعصية الله فإنه لا سمع ولا طاعة، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)). وعليكم بالعدل وترك الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، ولا تحتقروا أحدًا

من الناس عسى أن يكون هو خيرًا منكم عند الله، ولا تتبعوا أهواء الذين قد ضلوا عن السبيل، فإن اتبعتم أهواءهم فقد ظلمتم أنفسكم، فالواجب عليكم التوبة والرجوع إلى الله، إن الله غفور لمن تاب وأناب، ولقد رأينا كثيرًا من الناس تركوا كثيرًا من شعائر دين الإسلام بالتبديل والتغيير، فهؤلاء قد ضلوا وأضلوا يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. وإياك عن قول الزور والمنكر والفحشاء وعن الزنا وأكل الربا وأكل أموال اليتامى وأكل أموال الناس بالباطل كالكذب في أي باب من أبواب المكاسب وكالرشوة في الحُكْم؛ فإنها حرام وكذلك الغصب والسرقة والغش في جميع المعاملات. وإياكم عن الحسد والغيبة والنميمة والسمعة والعجب والرياء. وإياكم عن شرب الخمر وأكل لحم الخنزير وعن سوء الظن وغير ذلك مما حرم الكتاب والسنة، وكل ذلك من الكبائر حرام إجماعًا. وعليكم بغض الأبصار عن المحارم كالعورات. وإياكم عن النظر في الأجنبية؛ قال الله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم} [النور: 30] الآية. وعليكم بالوفاء في المكيال والميزان، فاذكروا قوله تعالى: {ويل للمطففين} [المطففين: 1] الآية. وأوصيكم بالصدق والوفاء بالعهود؛ لأن العهد كان عنه مسئولاً. وعليكم بالإيمان في القدر خيره وشره حُلوه ومره، كل ذلك بقدرة الله تعالى وإرادته وعلمه. وعليكم بالصدق في الطاعة في الغضب والرضا، وحيثما كنتم سرًا وعلانية في أي مكان وزمان فاعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. فتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون، فاحفظوا وصيتي يا إخواني؛ فإنها نافعة، وما يذكر إلا أولو الألباب. نسأل الله التوفيق لي ولكم وسائر المسلمين إنه ولي الرشد والهداية وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا والحمد لله رب العالمين.

§1/1