أسرار ترتيب القرآن
السيوطي
مقدمات
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمات: تقديم: الحمد لله الذي أنزل الكتاب متناسبًا سوره وآياته، متشابهًا فواصله وغاياته، وأشهد أن لا إله إلا الله الذي تمت كلماته، وعمت مكرماته، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده الذي خُتمت به نُبوَّاته، وكملت برسالته رسالاته، توالت عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأحبابه صلواته، وتواتر تسليمه وبركاته ما دامت حياته وبقيت ذاته وصفاته.. وبعد: فهذا كتاب لطيف، تناول فيه مؤلفه من علوم القرآن، ألا وهو ترتيب السور وتناسقها ومناسباتها، وإيضاح ما في ذلك من إعجاز وبيان ومقاصد، وسوف يتجلى لنا من خلال عرض هذا الكتاب الدقائق التي فتح الله بها على مصنِّفه، وتلكم اللمحات الزكية التى أكثرها من نتاج فكره، وولاد نظره، وغير ذلك من فوائد، يجنيها القارئ. وقد قلَّ اعتناء المفسرين بهذا النوع لدقته، وممن أكثر منه الإمام فخر الدين الرازي1 في تفسيره: أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط. وقال بعض الأئمة: من محاسن الكلام أن يرتبط بعضه ببعض؛ لئلا يكون منقطعًا. وهذا النوع يهمله بعض المفسرين -أو كثير منهم- وفوائده غزيرة، قال
القاضي أبو بكر بن العربي1: ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة، متسقة المعاني، منتظمة المباني -علم عظيم، لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة، ثم فتح الله عز وجل لنا فيه، فلما لم نجد له حَمَلة، ورأينا الخلف بأوصاف البطلة ختمنا عليه، وجعلناه بيننا وبين الله ورددناه إليه2. ثم إنك لا ترى علمًا هو أرسخ أصلًا، وأبسق فرعًا، وأحلى جنًى، وأعذب وِرْدًا، وأكرم نِتَاجًا، وأنور سراجًا، من علم البيان، الذى لولاه لم ترَ لسانًا يحوك3 الوَشْيَ، ويصوغ الحَلْيَ، ويلفظ الدر، وينفث السحر، ويقري4 الشهد، ويريك بدائع من الزهر، ويجنيك الحلو اليانع من الثمر، والذى لولا تَحَفِّيه5 بالعلوم، وعنايته بها، وتصويره إياها، لبقيت كامنة مستورة، ولما استبنت لها يد الدهر6 صورة، ولاستمر السرار7 بأهلَّتها، واستولى الخفاء على جملتها، إلى فوائد لا يدركها الإحصاء، ومحاسن لا يحصرها الاستقصاء8. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام9: المناسبة علم حسن؛ ولكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يشترط فيه ارتباط أحدهما بالآخر10.
وقال برهان الدين إبراهيم البقاعي1: "وعلم المناسبات -الأهم من مناسبات القرآن وغيره- علم تعرف منه علل الترتيب، وموضوعه أجزاء الشيء المطلوب علم مناسبته من حيث الترتيب، وثمرته الاطلاع على الرتبة التي يستحقها الجزء بسبب ما له بما وراءه، وما أمامه من الارتباط والتعلق الذي هو كلحمة النسب، فعلم مناسبات القرآن علم تعرف منه علل ترتيب أجزائه، وهو سر البلاغة لأدائه إلى تحقيق مطابقة المعاني لما اقتضاه من الحال، وتتوقف الإجادة فيه على معرفة مقصود السورة المطلوب ذلك فيها، ويفيد ذلك معرفة المقصود من جميع جملها؛ فلذلك كان هذا العلم في غاية النفاسة، وكانت نسبته من علم التفسير نسبة علم البيان من النحو"2. أما ترتيب السور: فقد اختلف العلماء في ترتيب السور: - فالقول الأول: إنه توقيفي، تولاه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كما أخبر به جبريل عن أمر ربه، فكان القرآن على عهد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- مرتَّب السور، كما كان مرتب الآيات على هذا الترتيب الذي لدينا اليوم، وهو ترتيب مصحف عثمان الذي لم يتنازع أحد من الصحابة فيه مما يدل على عدم المخالفة والإجماع. - والقول الثاني: إن ترتيب السور باجتهاد من الصحابة؛ بدليل اختلاف مصاحفهم في الترتيب؛ كمصحف ابن مسعود، ومصحف أُبي. - والقول الثالث: إن بعض السور ترتيبه توقيفي، وبعضه باجتهاد من الصحابة؛ حيث ورد ما يدل على ترتيب بعض السور في عهد النبوة، فقد
ورد ما يدل على ترتيب السبع الطوال والحواميم والمفصل في حياته عليه الصلاة والسلام. وقد ناقش بعض العلماء1 هذه الآراء الثلاثة، وانتهى إلى ما يلي: - أن الرأى الثاني الذي يرى أن ترتيب السور باجتهاد الصحابة لم يستند إلى دليل يُعتمد عليه. فاجتهاد بعض الصحابة في ترتيب مصاحفهم الخاصة كان اختيارًا منهم قبل أن يجمع القرآن جمعًا مرتبًا، فلما جمع في عهد عثمان بترتيب الآيات والسور على حرف واحد، واجتمعت الأمة على ذلك تركوا مصاحفهم، ولو كان الترتيب اجتهاديًّا لتمسكوا بها. وحديث ابن عباس رضى الله عنهما: "قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينها ... "2. وهذا الحديث يدور إسناده في كل رواياته على "يزيد الفارسي" الذي يذكره البخاري في الضعفاء، وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور؛ كأن عثمان كان يثبتها برأيه، وينفيها برأيه؛ ولذا قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه عليه بمسند الإمام أحمد: "إنه لا أصل له". وغاية ما فيه أنه يدل على عدم الترتيب بين هاتين السورتين فقط3. - أما الرأى الثالث: الذي يرى أن بعض السور ترتيبها توقيفي، وبعضها ترتيبه اجتهادي، فإن أدلته ترتكز على ذكر النصوص الدالة على
ما هو توقيفي، أما القسم الاجتهادي فإنه لا يستند إلى دليل يدل على أن ترتيبه اجتهادي؛ إذ إن ثبوت التوقيفي بأدلته لا يعني أن ما سواه اجتهادي، مع أنه قليل جدًّا. وبهذا يترجح أن ترتيب السور توقيفي كترتيب الآيات1. وقال أبو بكر بن الأنباري2: "أنزل الله القرآن كله إلى سماء الدنيا، ثم فرقه في بضع وعشرين، فكانت السورة تنزل لأمر يحدث، والآية جوابًا لمستخبر، ويوقف جبريل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على موضع الآية والسورة، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف كله عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فمن قدم سورة أو أخَّرها فقد أفسد نظم القرآن"3. وقال الزركشي: قال بعض مشايخنا المحققين: قد وهم من قال: لا يطلب للآي الكريمة مناسبة؛ لأنها على حسب الوقائع المتفرقة، وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلًا، وعلى حسب الحكمة ترتيبًا، فالمصحف كالصحف الكريمة على ما في وفق الكتاب المكنون، مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف، وحافظ القرآن العظيم لو استفتي في أحكام متعددة، أو ناظر فيها، أو أملاها لذكر آية كل حكم على ما سئل، وإذا رجع إلى التلاوة لم يتل كما أفتى، ولا كما نزل مفرقًا؛ بل كما أنزل جملة إلى بيت العزة، ومن المعجز البين أسلوبه، ونظمه الباهر؛ فإنه {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] . قال: والذي ينبغي في كل آية أن يبحث عن كونها مكملة لما قبلها، أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسباتها لما قبلها؟ ففي ذلك علم جَمٌّ، وهكذا في السور يُطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له.
وإذا اعتبرت افتتاح كل سورة وجدته في غاية المناسبة لما خُتم به السورة قبلها، ثم هو يخفى تارة ويظهر أخرى؛ كافتتاح سورة الأنعام بالحمد، فإنه مناسب لختام سورة المائدة من فصل القضاء؛ كما قال سبحانه وتعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75] وكافتتاح سورة فاطر بـ {الْحَمْدُ} أيضًا، فإنه مناسب لختام ما قبلها من قوله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} [سبأ: 54] وكافتتاح سورة الحديد بالتسبيح: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحديد: 1] فإنه مناسب لختام سورة الواقعة من الأمر به: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيم} [الواقعة: 74] . وكافتتاح البقرة بقوله: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} إشارة إلى {الصِّرَاطَ} في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم، قيل لهم: ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب. وهذا معنى حسن يظهر فيه ارتباط سورة البقرة بالفاتحة1. ومن لطائف سورة الكوثر أنها كالمقابلة للتي قبلها "الماعون"؛ لأن السابقة قد وصف الله فيها المنافق بأمور أربعة: البخل، وترك الصلاة، والرياء فيها، ومنع الزكاة، فذكر هنا في مقابلة البخل: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أي: الكثير. وفي مقابلة ترك الصلاة: {فَصَلِّ} أي: دُمْ عليها. وفي مقابلة الرياء: {لِرَبِّكَ} أي: لرضاه لا للناس.
وفي مقابلة الماعون: {وَانْحَرْ} وأراد به: التصدق بلحم الأضاحي، فاعتبر هذه المناسبة العجيبة1. وكذلك مناسبة فاتحة سورة الإسراء بالتسبيح، وسورة الكهف بالتحميد؛ لأن التسبيح حيث جاء مقدَّم على التحميد، يقال: سبحان الله، والحمد لله2. هذا، وأسأل الله أن ينفع بهذا العمل، وأن يرد الأمة الإسلامية إلى كتابها الكريم وهذا الفرقان، معتصمة به، تالية له، ومتدبرة لما فيه، ومتمسكة بسُنة نبيها خاتم النبيين محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- وما كان عليه السلف الصالح من الصحابة ومن تبعهم، فلا معين إلا الله، ولا دليل إلا رسول الله، ولا زاد إلا التقوى، ولا عمل إلا الصبر عليه، ولا عز لنا إلا في إسلامنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. مرزوق علي إبراهيم في مساء الجمعة 26 محرم 1422هـ 20 إبريل 2001م مدينة نصر- القاهرة
نبذة عن مصحف عثمان "رضي الله عنه"
نُبْذَةٌ عن مصحف عثمان "رضي الله عنه": من المآثر الخالدة لذي النورين ما فعله حين جمع الناس على مصحف واحد، وجمع القرآن فيه؛ وبذلك صلح أمر الناس من السلف والخلف، ولولا الذي فعله عثمان -رضي الله عنه- لألحد الناس في القرآن إلى يوم القيامة، كما قال الحسن البصري. قال الزركشي: وقد اشتهر أن عثمان هو أول من جمع المصاحف؛ وليس كذلك؛ بل أول من جمعها في مصحف واحد الصديق، ثم أمر عثمان حين خاف الاختلاف في القراءة بتحويله منها إلى المصاحف1. وقال القاضي أبو بكر الباقلاني2 في "الانتصار للقرآن": "لم يقصد عثمان -رضي الله عنه- قَصْدَ أبي بكر في جمع نفس القرآن بين لوحين؛ وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وإلغاء ما ليس كذلك، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أُثْبِتَ مع تنزيل، ومنسوخ تلاوته كتب مع مثبت رسمه ومفروض قراءته وحفظه؛ خشية دخول الفساد والشبهة على ما يأتي بَعْدُ"3. والذي حمل الصحابة -رضوان الله عليهم- على جمع القرآن ما جاء في الحديث أنه كان مفرقًا في: العسب واللخاف وصدور الرجال، فخافوا ذَهَاب بعضه بذهاب حفظته، فجمعوه وكتبوه كما سمعوه من النبي -صلى الله عليه وسلم- من غير أن يُقدِّموا شيئًا أو يؤخروا، وهذا الترتيب كان منه
-صلى الله عليه وسلم- بتوقيف لهم على ذلك، وأن هذه الآية عقب تلك الآية، فثبت أن سعي الصحابة في جمعه في موضع واحد لا في ترتيبه؛ فإن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب الذي هو في مصاحفنا الآن، أنزله الله جملة واحدة إلى سماء الدنيا؛ كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] ثم كان ينزل مفرقًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مدة حياته عند الحاجة؛ كما قال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106] . فترتيب النزول غير ترتيب التلاوة؛ وكان هذا الاتفاق من الصحابة سببًا لبقاء القرآن في الأمة، ورحمة من الله على عباده، وتسهيلًا وتحقيقًا لوعده بحفظه؛ كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وزال بذلك الاختلاف، واتفقت الكلمة. ولقد كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرءون القراءة العامة، وهي القراءة التي قرأها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان زيد قد شهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بها حتى مات؛ ولذلك اعتمده الصديق في جمعه، وولاه عثمان كتابة المصحف. ورُوي عن علي -رضى الله عنه- أنه قال: رحم الله أبا بكر! هو أول من جمع بين اللوحين، ولم يحتج الصحابة في أيام أبي بكر وعمر إلى جمعه على وجه ما جمعه عثمان؛ لأنه لم يحدث في أيامهما من الخلاف فيه ما حدث في زمن عثمان، ولقد وُفِّق لأمر عظيم، ورفع الاختلاف وجمع الكلمة، وأراح الأمة. وقد قال علي رضى الله عنه: لو وُلِّيت ما وُلِّي عثمان لعملت بالمصاحف ما عمل1.
فائدة: من الأدلة التي ساقها الباقلاني على صحة نقل القرآن وصحة تأليفه وترتيبه: "ومما يدل على ذلك قول تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وقوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17] وقد ثبت بإجماع الأمة -منا ومنهم- أن الله تعالى لم يرد بهاتين الآيتين أنه تعالى يحفظ القرآن على نفسه ولنفسه، وأنه يجمعه لنفسه، وأهل سمواته دون أهل أرضه، وأنه إنما عَنَى بذلك أنه يحفظه على المكلفين للعمل بموجبه، والمصير إلى مقتضاه ومتضمنه، وأنه يجمعه لهم فيكون محفوظًا عندهم، ومجموعًا لهم دونه، ومحروسًا من وجوه الخطأ والغلط والتخليط والإلباس، وإذا كان ذلك كذلك وجب بهاتين الآيتين القطع على صحة مصحف الجماعة، وسلامته من كل فساد ولبس؛ لأنه لو كان مغيرًا أو مبدلًا أو منقوصًا منه أو مزيدًا فيه، ومرتبًا على غير ما رتبه الله سبحانه؛ لكان غير محفوظ علينا، ولا مجموع لنا، وكيف يسوغ لمسلم أن يقول بتفريق ما ضمن الله جمعه، وتضييع ما أخبر بحفظه"1.
عملنا في الكتاب
عملنا في الكتاب: كان العمل في تحقيق هذا الكتاب على المنهج التالي: - قابلنا النسخة المطبوعة بتحقيق الأستاذ عبد القادر عطا "وهي نسخة دار الكتب المصرية" على نسخة دمشق1 المطبوعة، التي اعتمد محققها على نسخة الظاهرية. - رمزنا لنسختنا المصرية بـ"المطبوعة". - رمزنا لنسخة دمشق بـ"ظ"، وتميزت هذه النسخة بأنها أتم من النسخة المصرية في الغالب، وفيها ترضية على الصحابة، وبعد ذكر النبي أو الأنبياء يأتي بعد ذلك "عليه السلام" أو "عليهم السلام"، وكذلك حينما يأتي ذكر العلماء، يأتي بعدهم بـ"رحمه الله"، فضلًا عن الثناء على الله تعالى إذا ذكر الله عز وجل. - وضعنا الزيادة من نسخة "ظ" بين معقوفين، وكذلك إذا كانت هناك إضافة من الأصول، أو تتمة لنقص وضعناها كذلك بين معقوفين. - أبقينا التعليقات التى علق عليها الأستاذ عبد القادر عطا، وإن كان فيها خطأ صوبناه، وما كان من نقص أتممناه. - الرجوع إلى المصادر التى أخذ عنها المؤلف، وكذلك المصادر التي دارت حول هذا الموضوع، وكل ذلك ساعد على تقويم النص، وخروجه بشكل أتم مما كان عليه سابقًا. - قمنا بتصحيح ما وقع من تصحيف، وتحرير ما وقع من تحريف في النص.
عظمة القرآن ووحدته الموضوعية
عظمة القرآن ووَحْدَتُه الموضوعية: بقلم: عبد القادر أحمد عطا قالت الجن حينما سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} 1، واهتزت عقيدة الشرك في قلب رجل من صناديد الكفر هو الوليد بن المغيرة حينما سمع بعض آياته من الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما هو بقول البشر"، وفزع أئمة الكفر من قريش حينما شاهدوا تأثير القرآن على القلوب، فقالوا لزعمائهم: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} 2، وسعى أهل النباهة من فتيان العرب -من أمثال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه- إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله، علمني من هذا القرآن" حينما استأسر قلبه لسلطانه، واستشرف على عتبات الإسلام. تلك واحدة من دلائل عظمة القرآن هي: سلطانه الروحاني الخفي على القلوب، وولايته المطلقة على مدارك الإنس والجن على السواء، وجاذبيته المضيئة لقلوب المهتدين والجاحدين جميعًا. وقد يكون لبعض المكتوبات البشرية سلطان على المشاعر، وجاذبية للنفوس؛ ولكنها لم تصل في ماضي الزمان، ولن تصل في مستقبله إلى أعماق الروح، ولا إلى مستقر الإيمان واليقين، ولا إلى قمة التضحية في سبيلها بالمال والنفس، كما وصل الرواد الأوائل للإسلام إيمانًا بالقرأن، ويقينًا بسلطانه، واستشهادًا في سبيل دعوته، واحتمالًا لما لا يطيقه بشر في سبيل إعلاء كلمته. تلك دلالة لا شك فيها من دلائل عظمة القرآن بالنسبة للمؤمنين،
يقابلها على نفس الطريق عنف المقاومة لهذا السلطان من جانب الكفار، وجبروت التعذيب الذي تسلطوا به على المؤمنين في مطلع الدعوة، فما لبثوا أن فجروا جديدًا من ينابيع الإيمان بما ابتكروا من وسائل التعذيب، ووحدوا شتات الدعاة الأوائل تحت راية الرسول -صلى الله عليه وسلم- بما نفثوا من سموم الحقد والعداء، فكان القرآن هو محور هذا الصراع الرهيب العجيب الذي دارت رحاه على رمال جزيرة العرب، والذي طاشت في نهايته أحلام المعارضين على وفرة المال والرجال والسلاح حينما ذلت رقابهم أمام قلة من الرجال، وقلة من المال، وإعواز في السلاح يحدوها طوفان غامر من اليقين، وإيمان راسخ بالقرآن، وانطباع كامل بأخلاقه، فتحطمت إلى الأبد شوكة الكفر، وشمخ إلى الأبد صرح القرآن. وثانية الدلائل على عظمة القرآن: صموده أمام دعوات الهدم على مدى التاريخ الطويل، وتصديه لهجمات الإلحاد الضارية في ميدان الحرب وفي ميدان الفكر، فلم تزده تلك الهجمات إلا انطلاقًا إلى آفاق جديدة من الأرض، وانبلاجًا لنوره على صدر الزمان، وأعماقًا بعيدة لجذوره في القلوب، ولئن ذبلت في بعض أحقاب التاريخ همم أهل الحضارة القرآنية تحت تأثير الصدمات المتوالية واستجابة المؤمنين إلى أهواء النفوس، فما كان هذا الذبول إلا غفوة أعقبها استجماع للقوة، ورؤية مضيئة لحركة التاريخ كما حددها القرآن، فعاد الذبول نضارة، وكان من الضعف قوة، ومن آمال أهل الإلحاد تمزق وخيبة وانحلال، وكان من هذا التمزق دفع لمجتمع المؤمنين إلى ذروة التاريخ. لقد عانت حضارة القرآن تسلط قريش، وجبروت الروم، وجدل الفرس، وسلاح الصليبية، ولؤم اليهودية العالمية، وأخيرًا عانت بريق المذاهب السياسية والاقتصادية وأخصها الشيوعية اليهودية، وكان من أبناء الإسلام أعوان لهؤلاء المتآمرين حاولوا قهر الأعزة على أوهام الشيوعية، فأعزوا في سبيل ذلك أهل الأهواء؛ ولكن أولئك جميعًا ذلوا
أمام صلابة الحق في القرآن، وذهلوا حينما عجز المال والسلاح والتكتل الدولي عن النيل من إيمان أهل القرآن. وثالثة الدلائل على عظمة القرآن بعد الصمود الذي لا يستطيعه إلا الكتاب الحكيم: أنه كتاب حضارة تندرج تحت لوائه الأمم والشعوب، وتستسلم حضاراتها لحضارته، فما تلبث أن يحتويها الإطار الشامل للإسلام الرحيب، وتتخذ نفس الصفة الشرعية لخير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر داخل النفس وخارجها، وداخل الأمة وبين الأمم الأخرى، وتؤمن بالحق والعدل عن الله فيصلًا وحكمًا بين الجميع، فلا عنصرية ولا عصبية، ولا استمساك بالذات؛ بل هو إنكار لها، وعمل للمجموع مع الاحتفاظ بكرامة الفرد وكيانه بعيدًا عن أي لون من ألوان الامتهان. فعظمة القرآن نابعة من أنه لا يستجدي الشعوب أن يتبعوه، ولا الحضارات أن تذوب في حضارته؛ بل يعرض أمام العالم وجهه السمح الكريم، ويكشف عن رحابته النادرة بين دساتير الحضارة، ويعلن حربه الضارية على الظلم وامتهان الإنسان للإنسان، وامتهان الإنسان لنفسه وعقله، ويكشف الستر البراق عن عفن اللؤم البشري، وعن الحبائل التى ينصبها أعداء العدل، ومتلصصة الفكر، أولئك الذين يحاربون الله ورسوله لا لشيء إلا لأن الإيمان بهما يقف سدًّا منيعًا أمام أطماعهم وشهواتهم التي لا تدع قيمة إلا حطمتها، ولا مثلًا أعلى إلا شوهته وأذلت أهله، والداعين إليه. وعلى مر القرون ما زال كبار المفكرين في العالم كله يشيدون بتلك السمة التى استعصى عليهم الجهر بها هذا الردح الطويل من الزمان. ورابعة الدلائل على عظمة القرآن: سرعته المذهلة في بناء الحضارات إذا أتيح له من ينفذ تعاليمه من القادة على نفسه وأهله قبل أن ينفذها بين
جمهور المؤمنين، وهو الأمر الذي أهاب الله تعالى بالمؤمنين أن يحرصوا عليه، وضمن لهم في سبيل ذلك تمكينًا سريعًا، وزحفًا منصورًا، وعونًا من جند الله يفوق كل قوة وكل جبروت وكل سلاح، وصادف هذا النصح الإلهي من القلوب حبًّا لا يقاوم للقرآن. وتدعيمًا لذلك فقد كان القرآن دستورًا حضاريًّا للعمل على مستوى الأمة كلها، عن طريق الحفظ والدرس والتلاوة الواعية والتدبر والاقتناع والتذكر والتطبيق السلوكي الدقيق، والدليل على أن تحويل القرآن إلى سلوك لم يفرض على المؤمنين بعصا السلطان؛ وإنما جاء عن طريق الدرس والتدبر والاقتناع بعظمة القرآن -ما رواه أبو عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا الذين كانوا يقرءون القرآن -كعثمان وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما وغيرهما- أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعملوا بما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا؛ ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة. وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد في أعيننا، وأقام عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- على حفظ البقرة ثماني سنين. ويضيق بنا المقام إذا استقصينا أقوال الصحابة في هذا الصدد؛ ولكن الذي نريد أن نوضحه هنا هو أن سرعة الحضارة القرآنية في الانتشار والتأصل نابعة من هذا الينبوع العريق في الأصالة، فلا تتعثر الحضارات إلا من جهل الشعوب بالدساتير وأهدافها، أو من قصور تلك الدساتير في ذاتها، أو في إقناع الشعوب بجدواها، وفي كلا الحالين تختلف الشعوب مع السلطات، وتتمرد على القانون، ومن هنا لا تسرع الحضارة في سيرها نحو غايتها على فرض صلاحيتها، فضلًا عن النفقات الهائلة التي
يتطلبها إيقاف التيار المتمرد على السلطة، وتعويق السلطة لذلك عن المضي إلى غايتها. أما حضارة القرآن فتختلف عن جميع الحضارات من هذه الوجهة، فالقرآن هو الفطرة البشرية التي لا تختلف فيها أمة ولا جنس، فهو مقنع لجميع الناس بجدواه وعظيم فائدته، ودافع لهم بما يحتويه من وجوه الحكمة الملائمة لجميع الأجناس إلى الدرس والتدبر الذي لا يزيد الناس إلا إيمانًا وإمعانًا في استكشاف الحِكَم التي لا تنتهي، ولا تضعف في قوتها على كثرتها الكاثرة، ومن هنا كان العلم بدستور الحضارة الإسلامية إلى جانب الاقتناع به عاملًا رئيسيًّا من عوامل السرعة في البناء، والقوة في الأسس التي تقوم عليها الحضارة، وتوفير جهود السلطات الحاكمة؛ حيث تتفرغ لارتياد آفاق جدية لإقامة صرح الإسلام على أرضها. لقد أمر رب القرآن بتدبر القرآن فقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} 1، ونعى على من لا يتدبرونه فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} 2، ولا يمكن أن يكون التدبر إلا مقرونًا بفقه المعاني والأهداف والحكمة؛ ولهذا لم يؤثر خلاف بين الصحابة على معاني القرآن إلا نادرًا، ولم يتهرب المخالفون للشريعة من الحدود المشروعة لأمثالهم؛ بل تقدموا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طالبين إقامة الحد عليهم، رغم محاولات ردهم عن الاعتراف، والمشروعة للتثبت من أهلية طالب الحد، وجديته في طلب التطهير من الذنب؛ حيث وصل هذا التطهير إلى الموت رجمًا بالحجارة، وما كان ذلك إلا لأن هؤلاء قد وصلوا إلى درجة من الوعي القرآني والإسلامي لم يصل إليها واضعو الدساتير الأرضية فضلًا عن الشعوب المحكومة بها.
تلك عظمة لا تساق إليها الشعوب بالعصا؛ وإنما تقوم على رعايتها الشعوب بمحض الإيمان والغيرة والعلم والتطلع إلى مزيد من النجاح، الأمر الذي استطاع به الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه بناء أعظم حضارة عرفها التاريخ في ربع قرن من الزمان، لا يكفي لإصلاح مدينة واحدة تحت لواء دستور أرضي في أي دولة من دول العالم، وفي جميع أحقاب التاريخ. ولعل هذا المعنى العظيم هو الذي يفسر لنا الحوافز التى شرعها الله تعالى لحفَّاظ القرآن، والتالين له في مختلف الأوقات -لا سيما قرآن الفجر المشهود- حيث يصل الإنسان في هذا الوقت إلى درجة عليا من الصفاء الذي يهيئ لمن يصاحب القرآن فيه فهمًا لا يمكن أن يتيسر في وقت آخر، حتى لقد شجع النبي -صلى الله عليه وسلم- من يقرأ القرآن بلا فهم تذرعًا إلى دفعه إلى درجة من الفهم فيما بعد، وكذلك من تشق عليهم القراءة تدريبًا لهم على أن يألفوا القرآن فتسهل عليهم قراءته، ثم فهمه وتدبره، وكان القرآن شرطًا لصحة الصلاة، وأفضل ما يتقرب به العبد إلى ربه، إلى آخر ما هو مسطور في السنة النبوية المشرقة. وخامسة الدلائل على عظمة القرآن: أن إجماع أهله حجة على الناس جميعًا في مختلف العصور، ولم يمنح الله تلك الصفة على المستوى العالمي لأمة غير أمة القرآن، وما كانت عظمة تلك الأمة على هذه الصورة العجيبة إلا من عظمة دستورها: كتاب الله الحكيم. والذي يتصل بالقرآن من دلائل حجية إجماع المسلمين على العالم قول الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} 1، ولا خروج إلى النور إلا بالقرآن، فإذا أجمعوا على باطل كانت نتيجة إجماعهم إما بقاء الناس في الظلمات، وإما إعادة الناس من النور إلى الظلمات، وهو ما يشهد التاريخ بخلافه؛ إذ أمة القرآن بقيادة رسولهم -صلى الله عليه وسلم- ومن بعده من
الأئمة جاهدوا الناس لإنقاذهم من شؤم الظلام إلى وضح النور، وما زال إجماعهم هكذا في مجال الرأي والفكر والاستنباط. وحينما أعطى الله تعالى أمة القرآن سلطان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان ذلك سلطانًا من الله تعالى لهم أن يصيبوا الحق فيما كان معروفًا أو منكرًا عند الله حينما يجمعون على أحدهما أو عليهما معًا أو يختلفون فلا يعدوهم الحق، وكذلك يقول الله تعالى عن أمة القرآن: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} 1 فالوسط: من يُرتضى قوله، والشاهد: من يكون قوله حجة في مجلس القضاء للفصل في الخصومات، وهو إيذان بأن الحق لا يعدوهم مجتمعين أو مختلفين. وهذه الصفة وإن كانت لأمة القرآن فإنما اكتسبوها من القرآن، فلولا أن القرآن مهيمن على جميع الكتب، ورسوله شاهد على شهداء الأمم كلها، وفيصل بين الحق الذي هو من عند الله وبين باطل تلك الأمم، لما كان لأهله تلك الصفة، ولا تلك العظمة المستمدة من القرآن على مستوى العالم كله في الدنيا، والتي تتعدى الدنيا إلى مجلس القضاء في الآخرة؛ حيث يشهد رسول القرآن -صلى الله عليه وسلم- على شهداء الأمم جميعًا. وأخيرًا، فإن إعجاز القرآن هو العظمة الذاتية التي حار العلماء والمفكرون في الكشف عنها، وما زالوا يكتشفون منها كل يوم جديدًا، ولا يزالون كذلك ما دام القرآن متلوًّا أو محفوظًا في الصدور. وليس القول بالإعجاز في القرآن موجهًا نحو العجز عن فهمه بالقدر الذي تقوم به الشريعة كما يحلو لبعض هواة الجدل حول الدين أن يتلمسوا معنًى بعيدًا عن نطاق الفكر الإسلامي كهذا المعنى الذى لم يقل به أحد، فيقيموا حوله سوقًا لئيمًا من الجدل، ويطلقوا القول بعدم
إعجازه من هذه الوجهة التي لم تخطر على بال مسلم من العامة فضلًا عن الخاصة، فيظن بعض البسطاء في نهاية تلك السوق نفي الإعجاز عن القرآن بالكلية؛ نتيجة لذلك اللؤم في الفكر، أو لهذه الهواية البهلوانية مما يشبه ألعاب "السيرك" من الكلام يقتل به صاحبه نفسه، ويقتل غيره، وحسبه أن تلوك الألسنة اسمه على أي صفة وأي صورة من الصور والصفات حتى ولو كانت باللعنات المترادفات. عظمة القرآن في أنه آية من آيات الله واضحة المعنى والهدف بالقدر الذي يحتمله البشر، ويفهم منه القانون الإلهي، سهل الأسلوب؛ حتى ليخيل لمن مارس طريقته أنه يستطيع مثله، فإذا حاول عجز عجزًا كاملًا، واعتراه النقص والتخبط مهما أجهد عقله ونفسه، وراضها على تلك الحكمة الأسلوبية الناصعة الوضوح في القرآن. ولهذا كان وصف الوليد بن المغيرة للقرآن واضحًا في أن نسق القرآن مغاير تمامًا لنسق الكلام البشري، فما هو إلا ضرب من القول فوق قدرات البشر سماه: "سحرًا يؤثر". قال الوليد لأبي جهل: والله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني، ولا برجزه، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته. فلما قال له أبو جهل: إن هذا القول لا يرضى به قومه، فكر طويلًا فلم يجد إلا أن ينسبه إلى قوة من القوى غير المنظورة، وغير المقدورة، فقال: "سحر يؤثر"، وبطلان نسبة القرآن إلى السحر معلوم؛ ولكن نسبة الوليد إياه إلى تلك القوة غير المنظورة يبطن العجز عن معارضته، وشلل القدرة العربية -على الأقل في ذلك العصر وفي وسط الكفار الذين يتلمسون وجهًا للمعارضة- عن الإتيان بمثله، فهو وإن لم
يعزل القرآن عن القدرة البشرية عزلًا كاملًا؛ بل أبقى من يستطيع السحر قادرًا على مثله، فقد زلزل بهذا الرأي عموم القدرة الإنسانية على مثله، وشهادة العدو بذلك شهادة بالإعجاز إذا راعينا جانب الكفر واللدد في الخصومة في وزن هذا القول بميزان علمي دقيق. ومن أحسن ما قيل في تعليل إعجاز القرآن ما قاله ابن عطية في مقدمة تفسيره "1/ 278": "إن الله قد أحاط بكل شيء علمًا، فإذا ترتبت اللفظة من القرآن عَلِمَ بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولى، وتبين المعنى بعد المعنى، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره، والبشر يعمهم الجهل والنسيان والذهول، ومعلوم ضرورة أن أحدًا من البشر لا يحيط بذلك، فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة، وبهذا يبطل قول من قال: إن العرب كان في قدرتها الإتيان بمثله فصرفوا عن ذلك، والصحيح أنه لم يكن في قدرة أحد قط؛ ولهذا ترى البليغ ينقح القصيدة أو الخطبة حولًا، ثم ينظر فيها فيغيِّر فيها، وهلم جرًّا، وكتاب الله لو نزعت منه لفظة، ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم يوجد ... وقامت الحجة على العالم بالعرب؛ إذ كانوا أرباب الفصاحة، ومظنة المعارضة". لقد كان العرب أشد الناس أنفة، وأكثرهم مفاخرة، والكلام سيد عملهم، فكان من المحال أن يطيقوا ثلاثًا وعشرين سنة من التحدي ولا يعارضونه لو استطاعوا إلى ذلك السبيل. ونقل السيوطي عن حازم في منهاج البلغاء ما يتم به كلام ابن عطية؛ إذ قال: وجه الإعجاز في القرآن من حيث استمرت الفصاحة والبلاغة فيه من جميع أنحائها في جميعه استمرارًا لا يوجد له فترة ولا يقدر عليه أحد من البشر، وكلام العرب ومَن تكلم بلغتهم لا تستمر الفصاحة والبلاغة من جميع أنحائها في العالي منه إلا في الشيء اليسير المعدود، ثم
تعرض الفترات الإنسانية، فينقطع طيب الكلام ورونقه، فلا تستمر لذلك الفصاحة في جميعه؛ بل توجد في تفاريق وأجزاء منه. وأي عظمة تعدل عظمة العجز عن معارضة نظم القرآن وأسلوبه على مدى أربعة عشر قرنًا من الزمان وإلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها؛ حتى أصبح الكلام في هذا الموضوع في عصرنا ضربًا من صرف الناس عن عظمة التشريعات القرآنية، ولعبة لئيمة يمارسها الأعداء من جبابرة اللؤم والخداع. وقد فطن المرحوم الأستاذ الدكتور محمد أحمد الغمراوي في الكتاب الأول من كتابه "الإسلام في عصر العلم" إلى دلالة نص من القرآن على عظمة القرآن وإعجازه الذي لن يزال ماضيًا في الأمم من وجهة نظر العلم؛ ذلك النص هو قول الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 1، وقد لفت -رحمه الله- النظر إلى كلمات "الفطرة" و"الناس" و"لا تبديل لخلق الله"، فالفطرة هي السنن الإلهية الثابتة التي تقوم عليها الخلقة في أصلها، والناس لفظ شامل لمن عاش ومن سيعيش على ظهر الأرض من كل الشعوب والأمم، وعدم التبديل يدحض زيف العلماء التجريبيين الذين يحلو لهم مهاجمة الإسلام وغيره من الأديان بالتعارض مع العلم؛ وإنما التعارض وقع في تجاربهم لا في السنن الثابتة التي لما يصلوا إليها بعد، فظنوا القصور في أصل القوانين، بينما القصور ما زال في عقولهم وتجاربهم. ويقول رحمه الله: "ومن أعجب عجائب تلك الآية الكريمة وصف الإسلام -دين القرآن- بأنه نفس الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهذا شيء فوق العقل البشري أن يتصوره فضلًا عن أن يسبق إليه في القديم
والحديث، والإنسانية كلها إلى الآن لا تعقل حتى إمكان تحقيقه، فلا فلاسفتها ولا مشرعوها يحدثون أنفسهم بالوصول يومًا إلى نظام ينطبق على الفطرة من جميع وجوهها، والمسلمون في شغل بما ينبذ إليهم الغرب من الآراء والمذاهب، غافلين عن الكنز الذي بين أيديهم، والنور الذي فوق أبصارهم، والنعمة الكبرى التى مَنَّ الله عليهم بها في الإسلام. وحسب القرآن من العظمة أنه المعجزة الباقية على مدى الدهر؛ حيث اندثرت معجزات الرسل السابقين جميعًا بعد أداء وظيفتها في إقامة الدليل على صدق أولئك الرسل. وحسبه كذلك من العظمة أنه يتصل بالحياة ما بقيت الحياة، فبه حياة القلوب بالإيمان، وبه حياة الإيمان بالجهاد، وبه قيام الجهاد بمنهجه الأمثل في تربية إنسان الحضارة الأمثل، وبهذا الإنسان الموصول بالقرآن تنبض الحياة بالعدل، وبه يدبر الظلم والإلحاد، وما كانت معجزات الرسل السابقين كذلك؛ فقد كانت كلها إما متصلة بحياة جسد، أو متحدية وهم السحر، أو حجة على قوم بعينهم مردوا على الكفر فهلكوا بعدها بوسيلة تدمير غيبية، وما كذلك معجزة القرآن التى بقيت لتحقق مزيدًا من الاتساع في قاعدة الإيمان على مدى الزمان. وَحْدَةُ الموضوع في القرآن: لا أريد أن أطيل القول في موضوع تلاحم آيات القرآن من الوجهة التي طرقها الإمام السيوطي، وطرقها في عصره الإمام برهان الدين البقاعي في كتابه "نظم الدرر في تناسب الآي والسور" وهو موسوعة جيدة جدًّا في ستة مجلدات مخطوطة -كبار- وطرقها حديثًا المرحوم الأستاذ سيد قطب في كتابه "في ظلال القرآن"؛ وإنما أريد أن أحدد القول في وحدة موضوع القرآن من حيث هو قوانين فطرية تتدرج إلى قانون واحد فطري من وجهة الاجتماع البشري، لا يمكن بأي حال أن يتبدل ولا يتغير؛ بل إنه يحكم التصرفات البشرية في كل مكان،
ويخضعها لسنته وتجاربه المنظورة وغير المنظورة في ثنايا القرآن والتي تتنافر مع أهواء الناس، وتتفق تمامًا مع الوعي العقلي الموصول بوعي البصيرة والروح؛ أي: الوعي العقلي المنفصل عن الهوى. أقول: إن القانون الرئيسي الذي تدور حوله مواضيع القرآن الفرعية هو: أن الإنسان عبد فقير مأمور محبوس في مملكة عدوه، والله معبود غني مانح للحرية من سجن الدنيا إلى حقيقة الحرية في جواره الأعلى، ولا تجد تشريعًا في القرآن وفي أي باب من أبواب الفقه الإسلامي إلا وهو متصل بهذا القانون الرئيسي؛ بحيث تتضافر التشريعات كلها لتحقيق هذا الأصل وتحويله إلى عقيدة شاملة هي "لا إله إلا الله محمد رسول الله". ولقد جاء القرآن الكريم بهذا الأصل الفطري مؤيِّدًا بنصوصه فروعه الأربعة: فنحن نراه يؤكد عبودية الإنسان وغيره من الكائنات في نصوص أشملها قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} 1، ويؤكد فقر العباد بقوله: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} 2، وأكد أن الإنسان خاضع للأمر وليس بآمر ولا حاكم بقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} 3، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 4 إلى آخر ما ورد في القرآن من الأوامر الموجَّهة إلى الإنسان على وجه الإلزام، وأكد حبس الإنسان في مملكة عدوه بقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} 5، فبين أن الدنيا للذين لا نصيب لهم في الآخرة، وهم أعداؤنا، وأريد هذا المعنى الذي يكون شطرًا كبيرًا في العقيدة بقوله:
{وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ، وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} 1. وآيات الله في النفس إذا تأملها الإنسان مجردًا عن الكتب والرسالات السماوية تبينت له تلك القوانين الفطرية، وتأكد له أن القرآن لم ينزل إلا بهذه الفطرة التي هي الخلقة الإلهية بقوانينها العلمية الثابتة التي يواجهها إنسان العصر فاغرًا فاه من الدهشة متصورًا أنه على ضد في هذه الحياة؛ لكثرة ما اعتراه من النسيان، وصلابة ما غلف قلبه من رين الغفلة؛ حتى ظن الباطل حقًّا والحق باطلًا إلا من عصم الله، وقليل ما هم. فالإجماع قد انعقد في جميع الأفهام على أن العبد: اسم خاص للمملوك من جنس العقلاء، والمملوك: اسم لعاقل قهره غيره فاستولى عليه استيلاء السيد على العبد، سواء أكان القاهر له إنسانًا مثله، أو شهوة من شهواته، أم طاغوتًا من الطواغيت، أم شيطانًا من الشياطين، أم هو قوة خفية لا يستطيع أن يميزها، ولا يتبين لها وجهًا ولا جهة، قاهرة عليا فوق كل القوى. وتَأَمُّلُ الإنسان في نفسه دون تقيد بكتاب ولا رسول يؤكد له في أصل الفطرة أنه عاقل مقهور بالتكوين والإنشاء من العدم، وإذا كان مقهورًا بأصل الفطرة على هذه الصورة فقد انعدمت في فطرته المشيئة؛ لأن المشيئة عبارة عن نهاية الملكية، والإنسان قد فطر على ضدها من المملوكية التي أوضحناها، والدليل على فقدان الإنسان للمشيئة من واقع سلوكه أنه يشاء الكثير من الخير، ولا يصيب إلا المقدور له، والمقسوم منذ الأزل السحيق.
وإذا تحققت العبودية في فطرة الإنسان، وتحقق عدم أهليته للملكية كان فقيرًا بفطرته، والفقر يقتضي الحجر وعدم التصرف إلا بإذن وسلطان من المالك الحق. وإذا كان الإنسان في أصل الفطرة على ما وصفنا من العبودية والفقر يعيش على تلك البسيطة الهائلة من الأرض، ولا يستطيع النفوذ من أقطارها، كان مقامه عليها على تلك الصورة بحكم الحبس للمحنة والابتلاء، ولا يتصورها مملكة إلا من عجز عن إدراك الفطرة، واتخذ إلهه هواه، وادَّعى الحرية، وعلا في الأرض على الملوك على مدرجة الضلال. والبلاء الذي يمتحن به الإنسان هو اختلاف بني جنسه حول تلك الحقائق الفطرية اختلافًا هائلًا، ومن وجهات مختلفة، فاختلف الناس حول الإذعان لتلك الحقائق، أو ادعاء ضدها من الحرية والغنى والحاكمية والسيادة، ثم اختلفوا حول الحق حينما اتفق بعضهم على أن عبودية الإنسان جبلة فطرية في أصل خلقته، ثم اختلقوا طرائق وشواكل حول الغيبيات كلها، لا سيما البعث الذي شكل الخلاف حوله مذهبًا دهريًّا على حكمة الفطرة من أولها إلى آخرها، فكان بعث الرسل وإنزال الكتب ضرورة لا محيص عنها؛ لإقامة الحجة، وهداية الناس، وحمايتهم من عواقب الخلاف حول الفطرة، وإن كان الخلاف في أصله هو الآخر فطرة وسنة من سنن الله في الخلق {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} 1، فإن الكتب والرسالات كانت لقمع الجنوح النفسي تحت تأثير الخلاف إلى فوضى مدمرة لا تبقي ولا تذر. كان من أمهات المسائل التى عُنِيَ القرآن بفصل القول فيها: مسألة العبودية لله، ومسألة البعث للجزاء والكشف عن الحقيقة العظمى التي
اختلف حولها الإنسان في عالم الجسد المادي بما له من مقتضيات الخلاف واللدد في الخصومة، وتلك الحقيقة العظمى هي الوجود الإلهي، وإذعان كل الكائنات لسلطانه طوعًا أو كرهًا؛ ولذلك ارتبط إثبات البعث بإثبات الوجود الإلهي، وإثبات الدلائل على شمول علمه وقدرته، وارتبط كل ذلك بأصل الفطرة على الوجه الذي بيناه في هذه العجالة، وكان من تلك المسائل شطر كبير من القرآن، تبعًا لجهل أكثر الناس بها، ونسيان فطرتهم وهم يحاولون علمها، وتشددهم في إنكارها أو الغفلة عنها {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ، إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 1. فلما كان الخلاف مركوزًا في الفطرة، لم تكن هناك سبيل إلى إدراك حقيقة البعث المؤكد للحقيقة الإلهية العظمى إلا حين يرتفع الخلاف بنقل الحياة إلى صورة أخرى ذات فطرة لا خلاف فيها، فيتحقق وجود حالة من الحياة مغايرة لتلك الحياة التي يحياها الإنسان في الدنيا ينكشف فيها الغطاء، ويحد البصر، فيرى ما لم يكن يراه من قبل {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} 2، فلا خلاف ولا تطاحن حول الحقائق. ويطول بنا القول لو ذهبنا نستقصي منهج القرآن في إثبات هذا الشطر من فطرة الإنسان؛ ولكننا نشير إلى قسم آخر من أقسام تلك الفطرة؛ هو الحرية الإنسانية التي ترتبط هي الأخرى بموضوع البعث ارتباطًا وثيقًا؛ بحيث تشكل معه ومع العبودية والفقر إلى الله موضوعًا واحدًا، يتصل بموضوعات أخرى فرعية هي مقومات أو شواهد على صدق تلك الفطرة الإلهية الحكيمة، وتستغرق شطرًا كبيرًا من القرآن.
لا حرية مطلقة للإنسان في هذه الدنيا، هكذا تنطق شواهد الفطرة التي جبل الله عليها الإنسان، وقامت عليها الشواهد في شريعته مما يمارسه نفس ذلك الإنسان الذي يدَّعي لنفسه الحرية والسيادة والغنى وهمًا وسرابًا لا حقيقة له في الذات ولا في الصفات، كما قرر القرآن. والنموذج الواضح الذي يمكن الوصول من خلاله إلى هذه النتيجة الفطرية هو الغنى الذي ساد الناس بزعمه من جبابرة المال وملوك الأرض، حتى ملك العبيد، وخضعت له الرقاب، وجمع الجنود، واستولى على الأرض، فما له من منازع في أمر، ولا معقب في رأي، مطاع على عزة وامتناع في أنظار العامة من غير المستبصرين الباحثين عن الحقيقة في أصل الفطرة. ويقول الإمام أبو زيد الدبوسي ردًّا على تلك الدعوى العريضة: إن هذا المدعِي للحرية والملك ما استقر سلطانه، وعلا مكانه بفطرته؛ وإنما بجنوده، وبأس عبيده، لا يستغني عنهم ساعة لاستدامة ما هو فيه، فهو يطلبهم بهواهم، وينيلهم مناهم، صدقًا برغبته فيهم، والناس يطيعونه رياء لخوفهم منه، أو طمعًا فيما في يده، وهو يطيع هوى من دونه، وهم يطيعون من فوقهم، وطاعته لهوى الناس ضرورية، وطاعة الناس له ليست ضرورية؛ لبقاء منزلتهم في أنهم عبيد فقراء مأمورون بلا وال، غير أن طاعة الناس له بأجسامهم، وطاعته لأهوائهم بقلبه فاستترت وما ظهرت إلا لأهل البصائر. ويمضي الإمام الدبوسي في بيان العجيب إلى أن يقول مخاطبًا هذا النوع ممن يدعون الحرية والغنى: فعميت وجلست على سرير العبودية للعبيد، وكان ائتمارك للجنود، وأحاطت بقلبك المكاره والآفات، وظننت أنك ملك، هيهات. ما أنت إلا مأمور حشمك، والرعية مأمور ملكهم، غير أن النفس لبست عليك مقام الائتمار بمسارعتك إلى الفعل قبل الأمر.
ويمضي الإمام الدبوسي في بيانه العجيب إلى أن يقول مخاطبًا هذا النوع من الناس فيقول: إن تصرفك في أموالك كلها متردد بين جائز مأمور به، وفاسد منهي عنه، وما هكذا علامة الملك والقهر؛ لكنه علامة الإذن على الفقر، غير أن الله تعالى خلقك للابتلاء مدة بقائك، وقرن بقاءك بغذائك، وخلق مما في الأرض منفعة لك إلى وقت انقضائك، فقسم لكل عبد نصيبًا مفرزًا؛ كي لا يتغالبوا فيتفانوا وجعل عليهم من أصلحهم قيمًا وهو السلطان، فهم يتمتعون بالأنصباء من يد القيم من أحوال طفولتهم وصغرهم، فإذا عقلوا سلمت إليهم الأنصباء لحق الإذن في التجارة دون إثبات الملك، فإذا بلغوا وكملت الحالة، ضربت عليهم الضرائب للمولى، وخوطبوا بأدائها مدة الحياة ليعتقوا إذا أدوا، وسلمت إليهم للحال الأنصباء لحق الإذن تسليم يد؛ ليتصور الأداء بحكم تباين الأيدي، وإن لم يكن في الحقيقة ملكًا للمؤدي، حتى لم يملكوا من أموالهم إلا بمقدار ما فك الله الحجر عنهم بالعقد. وهنا يتصل هذا الموضوع بموضوع الرق في القرآن والشريعة بعدما انحسم القول في مشكلة الملك والحرية، والنصوص القرآنية المتعارضة في الظاهر، من حيث يثبت الملك في بعض النصوص للإنسان، ويرجع الملك كله لله وينتفي عن الإنسان في النصوص الأخرى، ثم يتصل الموضوع الواحد للقرآن بالتشريعات المالية وفروعها تحقيقًا للملك الإلهي والقدر المتاح للعباد بالتصرف، ثم بموضوع البقاء الإنساني بالتكاثر بعدما بقي المال، وما يتبع ذلك من أبواب التشريع، ثم بموضوع المجتمعات الإنسانية وحضاراتها التي لا تزدهر إلا تحت الأمر الإلهي، ولا تندثر إلا تحت التمرد على تلك الأوامر، وبموضوع القصص القرآني وتوجيه النظر نحوه في حركة التاريخ تحقيقًا لهذا الأصل الفطري الذي تدرج حتى وصل إلى قاعدة أوسع يحتمل فيها النسيان؛ ولهذا شرعت العبادات والذكر لدوام التذكر.
ولا يخلو موضوع من موضوعات التشريع من دليل واضح على تلك الفطرة الثابتة، وخير ما يمكن أن ندرك من خلاله موضوع الحرية الإنسانية هو موضوع الرق وما يتصل به من تشريعات؛ إذ إن الرق والعبودية لما كانا من فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها، وأن الملكية للإنسان في الدنيا ما هي إلا ابتلاء ينال الإنسان من خلالها ومن خلال الأوامر المتصلة بها حقيقة الحرية، فقد شرع الله من التشريعات السلوكية في هذا الصدد ما تتضح به تلك الفطرة لكل ذي عينين. يملك الرجل أخاه ملك يمين بسبب مشروع هو أن يكون أو أحد أصوله ممن تمردوا على دعوة العبودية لله بالسلاح فأسروا في الحرب الدينية؛ ولكن رحمة الله اقتضت أن يشرع له وجه من وجوه الحرية هو "المكاتبة"، والكتابة باب واسع في الفقه الإسلامي، يشتري العبد حريته من سيده بمال معلوم، ولما كان العبد لا يملك، فقد ندب السيد إلى أن يأذن له في العمل بجزء من المال إحسانًا، ويتصرف العبد بقدر ما انفك عنه الحجر، كأنه مالك وليس إلا عبدًا، فإذا أدى عتق، وإذا عجز بقي عبدًا، ومن هذه القضية التي يمارسها الإنسان بأمر الله يمكن الفصل في قضية الحرية الكبرى على المستوى الغيبي، بعد دراستها على المستوى المشهود. فالحرية الممنوحة من الله تعالى لعباده الذين أدوا ما وجب عليهم في دار الابتداء تشمل الذات في الدنيا والصفات في الآخرة جميعًا، ويشهد لذلك قوله تعالى عن هؤلاء الأحرار في دار النعيم: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} 1، فما يريده هؤلاء الأحرار يتحقق بمجرد المشيئة، وتحقق المراد بمجرد المشيئة وإن كان حقًّا لله فقد أكرم الله به عبده المطيع بتكوين ما يشاؤه. فإذا كانت الحرية في الدنيا هي خلاص حق الحر في نفسه وماله، فما
لأحد على الفائز بالجنة حق في شيء من أحواله، فيكون عبدًا في ذاته من حيث التكوين، عتيقًا في أفعاله من حيث الإنعام والتكريم. وهكذا يكون مثل ما في التشريع، وصلًا بين حياتين يدرك المستبصر من خلالهما كل أسرار الفطرة التى لم يخرج عنها القرآن في أي موضوع فرعي من مواضيعها، ومن هذه النافذة يمكن أن تتصل موضوعات القرآن في وَحْدَةٍ متماسكة لا خلل فيها. وجانب آخر متلاحم مع هذا الأصل الفطرى الذي دار حديثنا حوله، ودارت حوله الكثير من آيات القرآن الكريم هو: العدل باعتباره الفطرة التي بنى الله تعالى عليه هذا الكون المنظور وغير المنظور، وردنا من خلال تلك الفطرة إلى موضوع المعبود الحق الذي تقوم على أساسه الحضارة القرآنية، والدعوة العالمية إلى الإسلام ونجاحها اليقين من حيث تعثرت خطى الدعاة في عصرنا الحاضر حينما أخلوا بتلك الفطرة. وأصل هذا الجانب الرئيسي: أن الله -عزت قدرته- علق بقاء الأنفس بالمال، وعلق بقاء الجنس بازدواج الذكر والأنثى، فأنت ترى أن أسباب البقاء والتكاثر هي شهوات الطبيعة التي فطر الله الناس عليها؛ لتكون تلك الشهوات سائقة إلى أسباب البقاء، ثم أعلن سبحانه أنه ما خلقهم للاستغراق في تلك الشهوات؛ بل ليوحدوه ويعبدوه بأمره على خلاف الطبع؛ ولهذا نرى القرآن يدعو إلى العمران ويشرع النكاح، وينعى على من يحرم الطيبات من الرزق، وفي الوقت نفسه يمقت الترف والإغراق، ويدعو إلى إيثار الآخرة على الأولى، ويعلق ملك الآخرة بالتوحيد والهدى، في مقابلة تعليق الحاضرة على الشهوات والهوى، وهنا كان الابتلاء الذي لا ينجو الإنسان منه إلا بالعدل وإقامة الموازين الدقيقة في شئون المال والعلاقات الجنسية بين الرجال والنساء. عدل الإنسان مع نفسه، فلا ينساق إلى الترف في الجسد والعقل، وعدل الإنسان في علاقته بربه، فلا تطغى عليها الدنيا بشهواتها،
ولا تطغى العبادة على العمران، وعدل الإنسان في علاقته مع غيره من بني جنسه؛ إبقاء على الأخوة الضرورية لنجاح الأمة في شريعة الجهاد في سبيل الله، وقد أفاض القرآن في هذه المواضيع وربطها بما أشرنا إليه من مواضيع في شطر كبير جدًّا من آياته. وغاية العدل: أن يصل الإنسان إلى أن كل سلطان عليه غير سلطان الله فهو شرك وضلال، وكل عبودية لسواه ذل، وعلى الإنسان أن يوفق بين ارتباط مصالحه الدنيوية بغيره من الناس وبين العبودية لله، فلا يمنح الإنسان أكثر من حقه في أنه عبد مسخر للعمل وتبادل المنافع مع غيره، ولا يتحدث عن الخالق الأعلى حديثه عن العبيد، ولا يخلط بين الفاني ومانح الحياة. وعلى هذا النهج تخلص عقيدة المؤمن من الشرك الخفي والجلي، وعلى العكس إذا اختلت موازين العدل بين الإنسان ونفسه، فمال إلى الشهوات؛ فإنه حينئذ يصبح إنسانًا مختلًّا في توازنه بين مطالب الروح ومطالب الجسد، ويضعف أو ينعدم شعوره بسلطان الله وقهره ما دام مقهورًا للشهرة، مدفوعًا بسلطان المال، ومن هذا تكون الفوضى، ويتحطم بناء المجتمع باختلال نظام الأسرة. فالإنسان لا يصبح سويًّا صالحًا لممارسة شعائر الإيمان الحق كما يريده الله تعالى إلا إذا عدل بين مطالب جسده، ومطالب عقله، ومطالب روحه: فمطالب الجسد: إبقاؤه حيًّا متكاثرًا دون سرف ولا تقتير. ومطالب العقل: النظر في العلوم والمعارف التى تؤدِّي إلى رقي الإنسان وتساميه عن وحل الانحراف. ومطالب الروح: وصلها عن طريق العبودية والعبادة بمصدر الوجود الحق، وإسناد التوفيق إليه، والبراءة من الحول والقوة، والفرار إليه في كل المهمات. وظلم الإنسان لنفسه في جانب من الجوانب الثلاثة ينتهي به إلى مرتبة
الأنعام حينما يعبد هواه، وإلى الشرك حينما يصبح الظلم عظيمًا بالغفلة عن الله، وعن مراقبته، ومراقبة إنعامه، ونسبة شيء من ذلك إلى العبيد باللسان أو بالوجدان أو بالعمل. ولقد بث الله تعالى تعاليمه للمؤمنين -وحدة الموضوع القرآني- عن طريق العدل في المطالب البشرية الفطرية في مواضع كثيرة من أظهرها أوائل سورة الروم. فقد افتتحها الله تعالى بتذكير المؤمنين بأن النصر من عند الله ولكنهم لا يعلمون؛ لأنهم يغفلون عن مطالب الروح فلا يعلمون إلا ظاهرًا من الدنيا، ثم أرشد إلى منهاج الوفاء بمطالب العقل والروح، ووجه الأنظار إلى التفكر في أنفسهم وفي خلق السماوات والأرض بالحق لعاقبة الجزاء، وإلى دراسة تواريخ الأقدمين من جبابرة الكفر، وكيف انتهى بهم الحال إلى ذل مقيم، ثم وجه الأنظار إلى استمرار خط الحياة بعد الموت، وبسط القول في الثواب والعقاب، وأمدهم بمادة التفكر الموصلة إلى حقيقة الإيمان والتوحيد، وكيف أن الملك الحق يفعل ما يريد. ثم انتهى القول الكريم إلى مخاطبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتوجيهه نحو عناصر الفطرة في هذا البيان الحكيم، فقال تعالى قولًا فصلًا فيه كل العلم لأهل البصائر والذكرى. {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} 1. وهذا هو الموضوع الواحد الذي شرحه القرآن، وعرضه على مختلف
المناهج حتى يستحق وصف الله تعالى له بأنه كتاب البشرية كلها، جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس كافة في كل العصور والأجيال. فسبحان الله الذي أقام بالعدل والقسط والميزان هذا الكون الهائل، وأنطق بالعدل حركات الكواكب، ودرجات الحرارة والبرودة، وموج المحيط، وهدير السحاب، وسوق الماء، واضطرب الأرض بالنبات، وكل سر لله في خلقه منظور ومحسوس ومغيب عن مدارك الإنسان، وربط بين العدل والفطرة، وربط بين الفطرة والقرآن، وأنزله كتابًا واحد الموضوع، كتاب الهدى والتوحيد والفطرة. عبد القادر أحمد عطا
ترجمة الإمام السيوطي
ترجمة الإمام السيوطي 1: "849-911هـ/1445-1505م": نادرة زمانه، وفريد عصره وأوانه، إمام الشيوخ، وعمدة أهل التحقيق والرسوخ، قطب الشارحين، وتاج المدققين، حامل لواء الفصاحة وحُلة البلاغة. جلال الدين، أبو الفضل، عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق الدين الخضيري السيوطي، الحافظ المحدث، اللغوي الأصولي الفقيه المفسر، ولد سنة 849هـ، شب يتيمًا فحفظ القرآن، وطلب العلم، فألح في طلبه، وأغرم منذ نعومة أظافره بالجلوس للشيوخ والعلماء، ولما بلغ سن الأربعين اعتزل الناس وخلا بنفسه في روضة المقياس بالقاهرة على نيل مصر، وانهمك في التأليف والتصنيف، له كتب كثيرة؛ منها: 1- جمع الجوامع. 2- الجامع الصغير. 3- تاريخ الخلفاء. 4- تنوير الحوالك. 5- الحاوي. 6- حسن المحاضرة. 7- تدريب الراوي. 8- الإتقان في علوم القرآن. 9- طبقات الحفاظ. 10- طبقات المفسرين. توفي بروضة المقياس، ودفن بالقاهرة في حوش قوصون خارج باب القرافة المعروف الآن ببوابة السيدة عائشة سنة 911هـ.
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف: وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم: [قال الشيخ الإمام العالم، العامل، الحجة، البحر الفهَّامة، رحلة الطالبين، عمدة المفتين، لسان المتكلمين، محيي السنة في العالمين، أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن الشيخ العلامة كمال الدين، السيوطي، الشافعي، فسح الله تعالى في مدته، ونفعنا والمسلمين ببركته، وجعلنا وإياه من حزب محمد وعترته] 1: الحمد لله الذي أنزل كتابه المجيد على أحسن أسلوب، وبهر بحسن أساليبه وبلاغة تركيبه القلوب، نزله آيات بينات، وفصله سورًا وآيات، ورتبه بحكمته البالغة أحسن ترتيب، ونظمه أعظم نظام بأفصح لفظ وأبلغ تركيب، صلى الله على مَن أُنزل إليه لينذر به وذكرى، ونزله على قلبه الشريف، فنفى عنه الحرج، وشرح له صدرًا، وعلى آله وصحبه مُهَاجِرة ونصرًا.. وبعد: فإن الله سبحانه مَنَّ عليَّ بالنظر في مواقع نجومه، وفتح لي أبواب التطرق2 إلى استخراج ما أودع فيه من علومه، فلا أزال أسرِّح النظر في بساتينه من نوع إلى نوع، وأَسْتَسنح3 الخاطر في ميادينه فيبلغ
الغرض ويرجع وهو يقول: لاروع، فتقت1 عن أنواع علومه ولقبتها، وأودعت ما أوعيت منها في دواوين وأعيتها، ونقبت2 عن معادن معانيه وأبرزتها، وأوقدت عليها نار القريحة وميزتها، وألفت في ذلك جامعًا ومفردًا، ومطنبًا ومقصدًا3، ومن خلق لشيء فإلى تيسره، ومن أحب شيئًا أكثر من ذكره. وإن مما ألفت في تعلقات القرآن كتاب "أسرار التنزيل"4 الباحث عن أساليبه، المبرز أعاجيبه، المبين لفصاحة ألفاظه وبلاغة تراكيبه، الكاشف عن وجه إعجازه، الداخل إلى حقيقته من مجازه، المطلع على أفانينه، المبدع في تقرير حججه وبراهينه، فإنه اشتمل على بضعة عشر نوعًا: الأول: بيان مناسبات ترتيب سوره، وحكمة وضع كل سورة منها. الثاني: بيان أن كل سورة شارحة لما أُجْمِلَ في السورة التي قبلها. الثالث: وجه اعتلاق فاتحة الكتاب بخاتمة التي قبلها. الرابع: مناسبة مطلع السورة للمقصد الذى سيقت له، وذلك براعة الاستهلال. الخامس: مناسبة أوائل السور لأواخرها. السادس: مناسبات ترتيب آياته، واعتلاق بعضها ببعض، وارتباطها وتلاحمها وتناسقها. السابع: بيان أساليبه في البلاغة، وتنويع خطاباته وسياقاته. الثامن: بيان ما اشتمل عليه من المحسنات البديعية على كثرتها،
كالاستعارة، والكناية، والتعريض، والالتفات، والتورية، والاستخدام واللف والنشر، والطباق، والمقابلة، وغير ذلك، والمجاز بأنواعه، وأنواع الإيجاز والإطناب. التاسع: بيان فواصل الآي، ومناسبتها للآي التي ختمت بها. العاشر: مناسبة أسماء السور لها. [الحادي عشر: الألفاظ التى ظاهرها الترادف وبينهما فرق دقيق] 1. الثاني عشر: بيان وجه اختيار مرادفاته ولِمَ عُبِّرَ به2 دون سائر المرادفات3. الثالث عشر: بيان القراءات المختلفة، مشهورها، وشاذها، وما تضمنته من المعاني والعلوم، فإن ذلك من جملة وجوه إعجازه. الرابع عشر: بيان وجه تفاوت الآيات المتشابهات في القصص وغيرها؛ بالزيادة والنقص، والتقديم والتأخير، وإبدال لفظة مكان أخرى، ونحو ذلك. وقد أردت أن أفرد جزءًا لطيفًا في نوع خاص من هذه الأنواع؛ هو مناسبات ترتيب السور؛ ليكون عجالة لمريده، وبغية لمستفيده، وأكثره من نتاج فكري، وولاد نظري؛ لقلة من تكلم في ذلك، أو خاض في هذه المسالك، وما كان فيه لغيري صرحت بعزوه إليه، ولا أذكر منه إلا ما استُحْسِن، ولا انتقاد عليه، وقد كنت أولًا سميته
"نتائج الفكر في تناسب السور" لكونه من مستنتجات1 فكري كما أشرت إليه، ثم عدلت وسميته "تناسق الدرر في تناسب السور"؛ لأنه أنسب بالمسمَّى، وأزيد بالجناس. وبالله تعالى التوفيق، وإياه أسأل حلاوة التحقيق، بِمَنِّهِ ويُمْنِهِ.
مقدمة في تريتب السور
مقدمة في تريتب السور مدخل ... مقدمة في ترتيب السور: اختلف العلماء في ترتيب السور، هل هو بتوقيف من النبي -صلى الله عليه وسلم- أو باجتهاد من الصحابة؟ بعد الإجماع على أن ترتيب الآيات توقيفي، والقطع بذلك. فذهب جماعة إلى الثاني؛ منهم: مالك، والقاضي أبو بكر1 في أحد قوليه، وجزم به ابن فارس2. ومما استدل به لذلك: اختلاف مصاحف السلف في ترتيب السور، فمنهم من رتبها على النزول، وهو مصحف علي، كان أوله: "اقرأ" ثم البواقي على ترتيب نزول المكي، ثم المدني، ثم كان أول مصحف ابن مسعود "البقرة" ثم "النساء" ثم "آل عمران" على اختلاف شديد، وكذا مصحف أبي بن كعب وغيره، على ما بينته في الإتقان3. وفي المصاحف لابن أشتة بسنده عن عثمان أنه أمرهم أن يتابعوا الطُّوَل4.
وذهب جماعة إلى الأول؛ منهم: القاضي أبو بكر في أحد قوليه وخلائق، قال أبو بكر بن الأنباري1: أنزل الله القرآن كلَّه إلى سماء الدنيا، ثم فرقه في بضع وعشرين سنة، فكانت السورة تنزل لأمر ينزل، والآية جوابًا لمستخبر، ويوقف جبريلُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- على موضع الآية والسورة، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف كله2 عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فمن قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم القرآن3. وقال الكرماني في البرهان: ترتيب السور هكذا هو عند الله تعالى في اللوح المحفوظ4 على هذا الترتيب، وكان يعرض النبي -صلى الله عليه وسلم- على جبريل ما اجتمع لديه منه، وعرضه -صلى الله عليه وسلم- في السنة التى توفي فيها مرتين5، وكذلك قال الطيبي6.
وقال ابن الحصار1: [ترتيب السور] 2 ووضع الآيات موضعها إنما كان بالوحي. وقال البيهقي في المدخل: كان القرآن على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم -مرتبًا سوره وآياته على هذا الترتيب، إلا الأنفال وبراءة للحديث الآتي فيها3. ومال ابن عطية4 إلى أن كثيرًا من السور كان قد علم ترتيبها في حياته -صلى الله عليه وسلم- كالسبع الطوال، والحواميم، والمفصل، وأن ما سوى ذلك يمكن أن يكون قد فَوَّضَ الأمر فيه إلى الأمة بعده5. وقال أبو جعفر بن الزبير: الآثار تشهد بأكثر مما نص عليه ابن عطية، ويبقى منها القليل يمكن أن يجرى فيه الخلاف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران"، "رواه مسلم"6، وكحديث سعيد بن خالد أنه -صلى الله عليه وسلم- "صلَّى
بالسبع الطوال في ركعة، وأنه كان يجمع المفصل في ركعة" "أخرجه ابن أبي شيبة"1. وأنه -صلى الله عليه وسلم- "كان إذا أوى إلى فراشه قرأ قل هو الله أحد، والمعوذتين" "أخرجه البخاري"2. وفيه عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء: "إنهن من العِتَاق الأُوَل، وهنَّ من تِلَادِي"3. وقال أبو جعفر النحاس4: المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من سول الله -صلى الله عليه وسلم- لحديث: "أعطيت مكان التوراة السبع الطوال، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفُضِّلت بالمفصَّل"، "أخرجه أحمد وغيره"5. قال: فهذا الحديث يدل على أن تأليف القرآن مأخوذ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه من هذا الوقت هكذا.
وقال الحافظ ابن حجر: ترتيب معظم السور توقيفي؛ لحديث أحمد وأبي داود عن أوس الثقفي قال: كنت في وفد ثقيف، فقال [لنا] 1 رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طرأ عليَّ حزبي من القرآن، فأردت ألا أخرج حتى أقضيه". قال أوس: فسألنا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلنا: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: نحزبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة سورة، وثلاث عشرة سورة، وحزب المفصل، من "ق" حتى نختم2. قال: فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو عليه في المصحف الآن كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم3: لترتيب وضع السور في المصحف أسباب تطلع على أنه توقيفي صادر من حكيم: الأول: بحسب الحروف؛ كما في الحواميم، وذوات {الر} . الثاني: لموافقة آخر السورة لأول ما بعدها4؛ كآخر الحمد في المعنى وأول البقرة. الثالث: الوزن في اللفظة كآخر {تَبَّتْ} وأول "الإخلاص". الرابع: لمشابهة جملة السورة لجملة الأخرى؛ كـ"الضحى" و {أَلَمْ نَشْرَحْ} 5.
وقال بعضهم: إذا اعتبرت افتتاح كل سورة وجدت في غاية المناسبة لما ختمت به السورة التى قبلها، ثم [هو] 1 يخفى تارة، ويظهر أخرى. وأخرج ابن أشتة2 عن ربيعة أنه سئل: لِمَ قدمت البقرة وآل عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة بمكة، وإنما نزلتا بالمدينة؟ فقال: قدمتا، وأُلِّفَ القرآن على علم ممن ألفه [به ومن كان معه فيه واجتماعهم] 3 على علمهم بذلك، فهذا مما ينتهى إليه، ولا يُسأل عنه4. فإن قلت: فما عندك في ذلك؟ قلت: الذي عندي أولًا: تحديد محل الخلاف، وأنه خاص بترتيب سور الأقسام الأربعة، وأما نفس الأقسام الأربعة؛ من تقديم الطوال، ثم المئين، ثم المثاني، ثم المفصل، فهذا ينبغي أن يقطع بأنه توقيفي، وأن يدَّعى فيه الإجماع، وإن لم أرَ من سبقني إلى ذلك؛ وإنما دعاني إلى هذا أمران: أحدهما: ما تقدم من الأحاديث قريبًا، وحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- الآتي في الأنفال. والثاني: أن المصاحف التي وقع فيها الاختلاف في الترتيب اتفقت
على ذلك؛ فإن مصحف أبي بن كعب وابن مسعود كلاهما قدم فيه الطوال، ثم المثاني، ثم المفصل؛ كمصحف عثمان؛ وإنما اختلفا في ترتيب سور كل قسم كما بينت [ذلك] 1 في الإتقان2. [وهذا دليل قوي في دعوى القطع بأن ذلك توقيفي] 3. فإذا تحرر ذلك، ونظرنا إلى محل الخلاف، فالمختار عندي في ذلك: ما قاله البيهقي؛ وهو: أن ترتيب كل السور توقيفي، سوى الأنفال وبراءة. ومما يدل على ذلك ويؤيده: توالي الحواميم، وذوات {الر} 4 والفصل بين المسبحات، وتقديم {طس} على القصص، مفصولًا بها بين النظيرتين [طسم الشعراء، وطسم القصص] في المطلع والطول، وكذلك الفصل بين الانفطار والانشقاق بالمطففين، وهما نظيرتان في المطلع والمقصد، وهما أطول منها، فلولا أنه توقيفي لحكمة لتوالت المسبحات، وأخرت "طس" عن القصص، وأخرت "المطففين" أو قدمت، ولم يفصل بين {الر} و {الر} 5. وليس هنا شيء أعارض به سوى اختلاف مصحف أبي وبن مسعود -رضي الله عنهما- ولو كان توقيفيًّا لم يقع فيهما اختلاف، كما لم يقع في [ترتيب] الآيات6.
وقد مَنَّ الله عليَّ بجواب لذلك نفيس؛ وهو: أن القرآن وقع فيه النسخ كثيرًا للرسم، حتى لسور كاملة، وآيات كثيرة، فلا بدع أن يكون الترتيب العثماني هو الذي استقر في العرضة الأخيرة؛ كالقراءات التي في مصحفه، ولم يبلغ ذلك أبيًّا وابن مسعود -رضي الله عنهما- كما لم يبلغهما نسخ ما وضعاه في مصاحفهما من القراءات التي تخالف المصحف العثماني؛ ولذلك كتب أبي في مصحفه سورة الحفد، والخلع، وهما منسوختان1. فالحاصل أني أقول: ترتيب كل [من] 2 المصاحف بتوقيف، واستقر التوقيف في العرضة الأخيرة على [الترتيب العثماني، كما أن جميع القراءات والمنسوخات] 3 المثبتة في مصاحفهم بتوقيف، واستقر التوقيف في العرضة الأخيرة على القراءات [العثمانية، ورتب أولئك ما كان عندهم] 4 ولم يبلغهم النسخ.
سورة الفاتحة
سورة الفاتحة: افتتح سبحانه كتابه بهذه السورة؛ لأنها جمعت مقاصد القرآن؛ ولذلك كان من أسمائها: أم القرآن، وأم الكتاب، والأساس1، فصارت كالعنوان وبراعة الاستهلال. قال الحسن البصري2: إن الله أودع علوم الكتاب السابقة في القرآن، ثم أودع علوم القرآن في المفصل، ثم أودع علوم المفصل في الفاتحة، فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع الكتب المنزلة "أخرجه البيهقي في شعب الإيمان"3. وبيان اشتمالها على علوم القرآن قرره الزمخشري4 باشتمالها على الثناء على الله بما هو أهله، وعلى التعبد، والأمر والنهي، وعلى الوعد والوعيد، وآيات القرآن لا تخلو5 عن هذه الأمور6. [و] قال الإمام فخر الدين7: المقصود من القرآن كله تقرير أمور
أربعة: الإلهيات، والمعاد، والنبوات، وإثبات القضاء والقدر، فقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} يدل على الإلهيات، وقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يدل على نفي الجبر، وعلى إثبات أن الكل بقضاء الله وقدره، وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخر السورة يدل على إثبات قضاء الله، وعلى النبوات، فقد اشتملت هذه السورة على المطالب الأربعة، التي هي المقصد الأعظم من القرآن1. وقال البيضاوي2: هي مشتملة على الحِكَم النظرية، والأحكام العملية، التي هي سلوك الصراط المستقيم، والاطلاع على مراتب السعداء، ومنازل الأشقياء3. وقال الطيبي: هي مشتملة على أربعة أنواع من العلوم التي هي مناط الدين: أحدها: علم الأصول، ومعاقده معرفة الله عز وجل وصفاته، وإليها الإشارة بقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ومعرفة المعاد4، وهو المومأ إليه بقوله: [ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . وثانيها: علم الفروع، وأسُّه العبادات، وهو المراد بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ] 5.
وثالثها: علم ما يحصل به الكمال، وهو علم الأخلاق، وأجله الوصول إلى الحضرة الصمدانية، والالتجاء إلى جناب الفردانية، والسلوك لطريقة الاستقامة فيها، وإليه الإشارة بقوله: [ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} . ورابعها: علم القصص والإخبار عن الأمم السالفة والقرون الخالية، السعداء منهم والأشقياء، وما يتصل بها من وعد محسنهم ووعيد مسيئهم، وهو المراد بقوله:] 1 {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} . قال: وجميع القرآن تفصيل لما أجملته الفاتحة؛ فإنها بُنيت على إجمال ما يحويه القرآن مفصلًا؛ فإنها واقعة في مطلع التنزيل، والبلاغة فيه: أن تتضمن ما سيق الكلام لأجله؛ ولهذا لا ينبغي أن يقيد شيء من كلماتها ما أمكن الحمل على الإطلاق2. وقال الغزالي3 في "خواص القرآن": مقاصد القرآن ستة: ثلاثة مهمة، وثلاثة تتمة: الأول: تعريف المدعو إليه، كما أشير إليه بصدرها. وتعريف الصراط المستقيم، وقد صرح به فيها. وتعريف الحال عند الرجوع إليه تعالى، وهو الآخرة، كما أشير
إليه بقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . والأخرى: تعريف أحوال المطيعين، كما أشار إليه بقوله: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} . [حكاية أقوال الجاحدين، وقد أشير إليها بـ: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} و {الضَّالِّينَ} ] 1. وتعريف منازل الطريق، كما أشير إليه بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 2.
سورة البقرة
سورة البقرة: قال بعض الأئمة1: تضمنت سورة الفاتحة: الإقرار بالربوبية، والالتجاء إليها في دين الإسلام، والصيانة عن دين اليهود والنصارى. وسورة البقرة تضمنت قواعد الدين، وآل عمران مكملة لمقصودها. فالبقرة بمنزلة إقامة الدليل على الحكم، وآل عمران بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم؛ ولهذا ورد فيها كثير من المتشابه لما تمسك به النصارى. فأوجب الحج في آل عمران، وأما في البقرة فذكر أنه مشروع وأمر بإتمامه بعد الشروع فيه2، وكان خطاب النصارى في آل عمران، كما أن خطاب اليهود في البقرة أكثر؛ لأن التوراة أصل، والإنجيل فرع لها، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لما هاجر إلى المدينة دعا اليهود وجاهدهم، وكان جهاده للنصارى في آخر الأمر3، كما كان دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل الكتاب؛ ولهذا كانت السور المكية فيها الدين الذي اتفق عليه الأنبياء، فخُوطب به جميع الناس، والسور المدنية فيها خطاب من أقرَّ بالأنبياء من أهل الكتاب والمؤمنين، فخُوطبوا بـ: يأهل،
الكتاب، يا بني إسرائيل، يأيها الذين آمنوا. وأما سورة النساء فتضمنت أحكام الأسباب التي بين الناس، وهي نوعان: مخلوقة لله، ومقدورة لهم، كالنسب والصهر؛ ولهذا افتتحت بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} 1 [ثم] 2 قال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} 3. فانظر إلى هذه المناسبة العجيبة، والافتتاح، وبراعة الاستهلال؛ حيث تضمنت الآية المفتتح بها ما في أكثر السورة من أحكام؛ من نكاح النساء ومحرماته، والمواريث المتعلقة بالأرحام، وأن ابتداء هذا الأمر بخلق آدم، ثم خلق زوجته منه، ثم بث منهما رجالًا كثيرًا ونساء في غاية الكثرة. [و] 4 أما المائدة فسورة العقود، [و] 4 تضمنت بيان تمام الشرائع، ومكملات الدين، والوفاء بعهود الرسل، وما أخذ على الأمة، وبها تَمَّ5 الدين، فهي سورة التكميل؛ لأن فيها تحريم الصيد على الْمُحْرِم، الذي هو من تمام الإحرام، وتحريم الخمر الذي هو من تمام حفظ العقل والدين، وعقوبة المعتدين من السُّرَّاق والمحاربين، الذي هو من تمام حفظ الدماء والأموال، وإحلال الطيبات، الذي هو من تمام عبادة الله؛ ولهذا ذكر فيها ما يختص بشريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- كالوضوء] 6 والتيمم، والحكم بالقرآن على كل ذي دين.
ولهذا كثر فيها لفظ الإكمال والإتمام، وذكر فيها: أن من ارتد عوض الله بخير منه، ولا يزال هذا الدين كاملًا؛ ولهذا ورد أنها آخر ما نزل1 لما فيها من إرشادات الختم والتمام. وهذا الترتيب بين هذه السور الأربع المدنيات من أحسن الترتيب2. انتهى. وقال بعضهم: افتتحت البقرة بقوله: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} فإنه إشارة إلى الصراط المستقيم في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} كأنهم3 لما سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم، قيل لهم: ذلك الصراط الذي سألتم4 الهداية إليه، كما أخرج بن جرير وغيره من حديث علي -رضي الله عنه- مرفوعًا: "الصراط المستقيم كتاب الله"5 "وأخرجه الحاكم في المستدرك عن ابن مسعود موقوفًا"6. وهذا معنى حسن يظهر فيه سر ارتباط البقرة بالفاتحة7. وقال الخويي8: أوائل هذه السورة مناسبة لأواخر سورة الفاتحة؛ لأن الله تعالى لما ذكر أن الحامدين طلبوا الهدى، قال: قد أعطيتكم ما طلبتم: هذا الكتاب هدى لكم فاتبعوه، وقد اهتديتم إلى الصراط المستقيم المطلوب المسئول.
ثم إنه ذكر في أوائل هذه السورة الطوائف الثلاث الذين ذكرهم في الفاتحة، فذكر الذين على هدى من ربهم، وهم المنعَم عليهم، والذين اشتروا الضلالة بالهدى، وهم الضالون، والذين باءوا بغضب من الله، وهم المغضوب عليهم1. انتهى. [و] 2 أقول: قد ظهر لي بحمد الله وجوهًا من هذه المناسبات: أحدها: أن القاعدة التي استقرأتها3 القرآن: أن كل سورة تفصيل لإجمال ما قبلها، وشرح له، وإطناب لإيجازه، وقد استمر4 معي ذلك في غالب سور القرآن، طويلها وقصيرها، وسورة البقرة قد اشتملت على تفصيل جميع مجملات الفاتحة. فقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} تفصيله: ما وقع فيها من الأمر بالذكر في عدة آيات، ومن الدعاء في قوله: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} "186" الآية، وفي قوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} "286"، وبالشكر في قوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} "152". وقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} تفصيله قوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا
وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} "21، 22"، وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} "29"؛ ولذلك افتتحها بقصة خلق آدم الذي هو مبدأ البشر1، وهو أشرف الأنواع من العالمين، وذلك شرح إجمال2 {رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وقوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قد أومأ إليه بقوله في قصة [توبة] 3 آدم: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} "54"، وفي قصة إبراهيم لما سأل الرزق للمؤمنين خاصة [بقوله: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ} "126"] ، فقال: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} "126"؛ وذلك لكونه رحمانًا. وما وقع في قصة بني إسرائيل: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُم} "52" إلى أن أعاد الآية بجملتها في قوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} "163". وذكر آية الدَّيْنِ4 إرشادًا للطالبين من العباد5، ورحمة بهم، ووضع عنهم الخطأ والنسيان والإصر، وما لا طاقة لهم به، وختم بقوله: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} "286"
وذلك شرح قوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} "الفاتحة: 4" تفصيله: ما وقع من ذكر يوم القيامة في عدة مواضع؛ ومنها قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} "284". والدين [في الفاتحة] : الحساب [في البقرة] . وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} مجمل شامل لجميع أنواع الشريعة الفروعية، وقد فصلت في البقرة أبلغ تفصيل، فذكر فيها: الطهارة، والحيض، والصلاة، والاستقبال، وطهارة المكان، والجماعة، وصلاة الخوف، وصلاة الجمع، والعيد، والزكاة بأنواعها؛ كالنبات، والمعادن1، والاعتكاف، والصوم، وأنواع الصدقات، والبر، والحج، والعمرة، والبيع، والإجارة، والميراث، والوصية، والوديعة، والنكاح، والصداق، والطلاق، والخُلع، والرجعة، والإيلاء، والعِدَّة، والرضاع، والنفقات، والقصاص، والديات، وقتال البُغاة، والردة، والأشربة، والجهاد، والأطعمة، والذبائح، والأَيْمَان، والنذور، والقضاء، والشهادات، والعتق. فهذه أبواب الشريعة كلها مذكورة في هذه السورة2. وقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} شامل لعلم الأخلاق. وقد ذكر منها في هذه السورة الجم الغفير؛ من التوبة، والصبر، والشكر، والرضا، والتفويض، والذكر، والمراقبة، والخوف، وإِلَانَة القول. وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخره. تفصيله3:
ما وقع في السورة من ذكر طريق الأنبياء، ومَن حاد عنهم من النصارى؛ ولهذا ذكر في الكعبة أنها قبلة إبراهيم، فهي من صراط الذين أنعم عليهم، وقد حاد عنها اليهود والنصارى معًا؛ ولذلك قال في قصتها: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} "142"، تنبيهًا على أنها الصراط الذي سألوا الهداية إليه. ثم ذكر: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} "145"، وهم المغضوب عليهم والضالون الذين حادوا عن طريقهم. ثم أخبر بهداية الذين آمنوا إلى طريقهم. ثم قال: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} "213". فكانت هاتان الآيتان تفصيل إجمال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخر السورة. وأيضًا قوله أول السورة: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} "2" إلى آخره في وصف الكتاب، إخبار بأن الصراط الذي سألوا الهداية إليه هو: ما تضمنه الكتاب؛ وإنما يكون هداية لمن اتصف بما ذكر [من صفات المتقين] . ثم ذكر أحوال الكفرة، ثم أحوال المنافقين، وهم من اليهود، وذلك [أيضًا] 1 تفصيل لمن حاد عن الصراط المستقيم، ولم يهتدِ بالكتاب2. وكذلك قوله هنا: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} "136" الآية، فيه تفصيل النبيين المنعَم عليهم. وقال في آخرها: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} "136" تعريفًا
بالمغضوب عليهم والضالين الذين فرقوا بين الأنبياء؛ ولذلك عقبها بقوله: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} "137" أي: إلى الصراط المستقيم، صراط المنعَم عليهم كما اهتديتم1. فهذا ما ظهر لي، والله أعلم بأسرار كتابه. الوجه الثاني: أن الحديث والإجماع على تفسير {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} باليهود، والضالين بالنصارى2، وقد ذكروا في سورة الفاتحة على حسب ترتيبهم في الزمان، فعقب بسورة البقرة، وجميع ما فيها [من] خطاب أهل الكتاب لليهود خاصة، وما وقع فيها من ذكر النصارى لم يقع بذكر الخطاب3. ثم بسورة آل عمران، وأكثر ما فيها من خطاب أهل الكتاب للنصارى4؛ فإن ثمانين آية من أولها نازلة في وفد نصارى نجران، كما ورد في سبب نزولها5، وختمت بقوله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} "آل عمران: 199"، وهي في النجاشي وأصحابه من
مؤمني النصارى، كما ورد به الحديث1. وهذا وجه بديع في ترتيب السورتين؛ كأنه لما ذكر في الفاتحة الفريقين، قص في كل سورة مما بعدها حال كل فريق على الترتيب الواقع فيها؛ ولهذا كان صدر سورة النساء في ذكر اليهود، وآخرها في ذكر النصارى2. والوجه الثالث: أن سورة البقرة أجمع سور القرآن للأحكام والأمثال؛ ولهذا سميت في أثر: "فسطاط القرآن"3، الذي هو: المدينة الجامعة، فناسب تقديمها على جميع سوره. الوجه الرابع: أنها أطول سورة في القرآن، وقد افتتح بالسبع الطوال4، فناسب البُدَاءة بأطولها. الوجه الخامس: أنها أول سورة نزلت بالمدينة، فناسب الابتداء5 بها؛ فإن للأولية نوعًا من الأولوية. الوجه السادس: أن سورة الفاتحة لما6 ختمت بالدعاء للمؤمنين بألا يسلك بهم طريق المغضوب عليهم ولا الضالين إجمالًا، وخُتمت سورة البقرة بالدعاء بألا يسلك بهم طريقهم في المؤاخذة بالخطأ والنسيان، وحمل الإصر، وما لا طاقة لهم به تفصيلًا، وتضمن آخرها
أيضًا الإشارة إلى طريق المغضوب عليهم والضالين بقوله: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِه} "285" فتآخت السورتان وتشابهتا في المقطع، وذلك من وجوه المناسبة في التتالي والتناسق. وقد ورد في الحديث التأمين في آخر سورة البقرة كما هو مشروع في آخر الفاتحة1، فهذه ستة وجوه ظهرت لي، ولله الحمد والمنة.
سورة آل عمران
سورة آل عمران: قد تقدم ما يؤخذ منه مناسبة وضعها. وقال الإمام: لما كانت هذه السورة قرينة سورة البقرة، وكالمكملة لها، افتتحت بتقرير ما افتتحت به تلك، وصرح في منطوق مطلعها بما طوي في مفهوم [مطلع] 1 تلك2. وأقول: قد ظهر لي بحمد الله وجوه من المناسبات: أحدها: مراعاة القاعدة التي قررتها، من شرح كل سورة لإجمال ما في السورة قبلها، وذلك هنا في عدة مواضع: منها: ما أشار إليه الإمام، فإن أول البقرة افتتح بوصف الكتاب بأنه لا ريب فيه. وقال في آل عمران: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} "13"، وذلك بسط وإطناب؛ لنفي الريب عنه. ومنها: أنه ذكر في البقرة إنزال الكتاب مجملًا، وقسَّمه هنا إلى آيات محكمات، ومتشابهات لا يعلم تأويلها إلا الله3. ومنها: أنه قال في البقرة: {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} "البقرة: 4" [مجملًا] 4، وقال هنا: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ، مِنْ قَبْلُ هُدًى
لِلنَّاسِ} "3، 4" مفصلًا. وصرح بذكر الإنجيل هنا؛ لأن السورة خطاب للنصارى، ولم يقع التصريح به في سورة البقرة بطولها؛ وإنما صرح فيها بذكر التوراة خاصة؛ لأنها خطاب لليهود. ومنها: أن ذكر القتال وقع في سورة البقرة مجملًا بقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّه} "190، 244" [وقوله] : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} "البقرة: 216"، وفصلت هنا قصة أُحُد بكمالها1. ومنها: أنه أوجز في البقرة ذكر المقتولين في سبيل الله بقوله: {أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} "البقرة: 154" وزاد هنا: {عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} "169، 170" الآيتين، وذلك إطناب عظيم. ومنها: أنه قال في البقرة: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} "البقرة: 247". وقال هنا: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} "26"، فزاد إطنابًا وتفصيلًا. ومنها: أنه حذر من الرباء في البقرة، ولم يزد على لفظ الربا إيجازًا2 وزاد هنا قوله3: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَة} "130"، وذلك4 بيان وبسط.
ومنها: أنه قال في البقرة: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ} "البقرة: 196"، وذلك إنما يدل على الوجوب إجمالًا، وفصله هنا بقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} "97". وزاد: بيان شرط الوجوب بقوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} "97". ثم زاد: تكفير من جحد وجوبه بقوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} "97". ومنها: أنه قال في البقرة في أهل الكتاب: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ} "البقرة: 83". فأجمل القليل، وفصله هنا بقوله: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} "113، 114" الآيتين. ومنها: أنه قال في البقرة: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} "البقرة: 139". فدل بها على تفضيل هذه الأمة على اليهود تعريضًا لا تصريحًا، وكذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} "البقرة: 143" في تفضيل هذه الأمة على سائر الأمم بلفظ فيه يسير إبهام، وأتى في هذه [السورة] 1 بصريح البيان فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} "110". فقوله: {كُنْتُمْ} أصرح في قدم ذلك من {جَعَلْنَاكُمْ} ثم زاد [بيان] وجه الخيرية بقوله: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} "110"2.
ومنها: أنه قال في البقرة: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} "البقرة: 188" الآية. وبسط الوعيد هنا بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} "77" الآية، وصدره بقوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} "75". فهذه عدة مواضع وقعت في البقرة مجملة، وفي آل عمران تفصيلها. الوجه الثاني: أن بين هذه السورة وسورة البقرة اتحادًا وتلاحمًا متأكدًا؛ لما تقدم من أن البقرة بمنزلة إزالة الشبهة؛ ولهذا تكرر هنا ما يتعلق بالمقصود الذي هو بيان حقيقة الكتاب: من إنزال الكتاب، وتصديقه للكتب قبله، والهدى إلى الصراط المستقيم1. وتكررت هنا آية: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ} "البقرة: 136" بكمالها؛ ولذلك أيضًا ذكر في هذه ما هو تال لما ذكر في تلك، أو لازم في تلك، أو لازم له. فذكر هناك خلق الناس، وذكر هنا تصويرهم في الأرحام2، وذكر هناك مبدأ خلق آدم، وذكر هنا مبدأ خلق أولاده3، وألطف من ذلك: أنه افتتح البقرة بقصة آدم؛ حيث خلقه من غير أب ولا أم، وذكر
في هذه نظيره في الخلق من غير أب؛ وهو عيسى عليه السلام1؛ ولذلك ضرب له المثل بآدم، واختصت البقرة بآدم لأنها أول السور، وآدم أول في الوجود وسابق، ولأنها الأصل، وهذه كالفرع والتتمة لها، فمختصة بالإعراب2 [والبيان] . ولأنها خطاب لليهود الذين قالوا في مريم ما قالوا، وأنكروا وجود ولد بلا أب، ففوتحوا بقصة آدم؛ لتثبت في أذهانهم، فلا تأتي قصة عيسى إلا وقد ذكر عندهم ما يشهد لها3 من جنسها. ولأن قصة عيسى قيست على قصة آدم في قوله: {كَمَثَلِ آدَمَ} "59" الآية، والمقيس عليه لا بُدَّ وأن يكون معلومًا؛ لتتم الحجة بالقياس، فكانت قصة آدم والسورة التي هي فيها جديرة بالتقدم. ومن وجوه تلازم السورتين: أنه قال في البقرة في صفة النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} "البقرة: 24"، ولم يقل في الجنة: أعدت للمتقين، مع افتتاحها بذكر المتقين والكافرين معًا4، وقال ذلك في آل عمران5 في قوله: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} "133"، فكأن السورتين بمنزلة سورة واحدة. وبذلك يعرف أن تقديم آل عمران على النساء أنسب من تقديم النساء عليها.
وأمر آخر استقرأته؛ وهو: أنه إذا وردت سورتان بينهما تلازم واتحاد، فإن السورة الثانية تكون خاتمتها مناسبة لفاتحة الأولى للدلالة على الاتحاد. وفي السورة المستقلة عما بعدها يكون آخر السورة نفسها مناسب لأولها، وآخر آل عمران مناسب لأول البقرة؛ فإنها افتتحت بذكر المتقين، وأنهم المفلحون، وختمت آل عمران بقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} "200". وافتتحت البقرة بقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} "البقرة: 4"، وختمت آل عمران بقوله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} "199"، فلله الحمد على ما ألهم. وقد ورد أنه لما نزلت: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} "البقرة: 245"، قالت1 اليهود: يا محمد، افتقر ربك، فسأل عباده القرض2، فنزل قوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} "181"3 4، فذلك أيضًا من تلازم السورتين. ووقع في البقرة حكاية عن إبراهيم: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} "البقرة: 129" الآية، ونزل في هذه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ} "164"، وذلك أيضًا من تلازم السورتين.
سورة النساء
سورة النساء: قد تقدم وجه مناسبتها. وأقول: هذه السورة أيضًا شارحة لبقية مجملات سورة البقرة. فمنها: أنه أجمل في البقرة قوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} "البقرة: 21"، وزاد هنا: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} "1". وانظر لما كانت آية التقوى في سورة البقرة غاية، جعلها في أول هذه السورة التالية لها مبدأ1. ومنها: أنه أجمل في سورة البقرة: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} "البقرة: 35"، وبين هنا أن زوجته خلقت منه في قوله: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} "1". ومنها: أنه أجمل في البقرة آية اليتامى، وآية الوصية، والميراث، والوارث، في قوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِك} "البقرة: 233"، وفصل ذلك في هذه السورة أبلغ تفصيل2. و [منها أنه] 3 فصل هنا من الأنكحة ما أجمله هناك.
ومنها: أنه1 قال في البقرة: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} "البقرة: 221" فذكر نكاح الأمة إجمالًا، وفصل هنا شروطه2. ومنها: أنه ذكر الصداق في البقرة مجملًا بقوله: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} "البقرة: 299"، وشرحه هنا مفصلًا3. ومنها: أنه ذكر هناك الخلع، وذكر هنا أسبابه ودواعيه؛ من النشوز وما يترتب عليه، وبعث الحكمين4. ومنها: أنه فصل هنا من أحكام المجاهدين، وتفصيلهم درجات، والهجرة، ما وقع هناك مجملًا، أو مرموزًا5. وفيها من الاعتلاق بسورة الفاتحة: تفسير: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} في قوله6: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} "69". وأما وجه اعتلاقها بآل عمران فمن وجوه:
منها: أن آل عمران ختمت بالأمر بالتقوى، وافتتحت هذه السورة به1، وذلك2 من آكد3 وجوه المناسبات في ترتيب السور، وهو نوع من [أنواع] 4 البديع يسمى: تشابه الأطراف. ومنها: أن سورة آل عمران ذكر فيها قصة أحد مستوفاة، وذكر في هذه السورة ذيلها، وهو قوله: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} "88"؛ فإنها نزلت لما اختلف الصحابة فيمن رجع من المنافقين من غزوة أُحُد، كما في الحديث5. ومنها: أن في آل عمران ذكرت الغزوة التى بعد أُحُد بقوله: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} "آل عمران: 172"6، وأشير إليها هنا بقوله: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} "104" الآية7. وبهذين الوجهين8 عرف أن تأخير النساء عن آل عمران أنسب من
تقديمها عليها في مصحف ابن مسعود؛ لأن المذكور هنا ذيل ما في آل عمران وتابعه ولاحقه1، فكانت بالتأخير أنسب. ومنها: أنه [لما] 2 ذكر في آل عمران قصة خلق عيسى بلا أب، وأقيمت له الحجة بآدم، وفي ذلك تبرئة لأمه، خلافًا لما زعم اليهود، وتقريرًا لعبوديته، خلافًا لما ادعته النصارى، وذكر في هذه السورة الرد على الفريقين معًا؛ فرد على اليهود بقوله: {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} "156"، وعلى النصارى بقوله: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} إلى قوله: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} "171، 172". ومنها: أنه لما ذكر في آل عمران: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} "آل عمران: 55"، ورد هنا على من زعم قتله بقوله: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ} "157، 158". ومنها: أنه لما قال في آل عمران في المتشابه3: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} "آل عمران: 7"، قال هنا: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} "162" الآية. ومنها: أنه لما قال في آل عمران: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ
النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} "آل عمران: 14" الآية. فصل هذه الأشياء في السورة التي بعدها على نسق ما وقعت في الآية؛ ليعلم ما أحل الله من ذلك فيقتصر عليه، وما حرم فلا يتعدى إليه؛ لميل النفس إليه. ففصل1 في هذه السورة أحكام النساء ومباحاتها2 للابتداء بها في الآية السابقة في آل عمران، ولم يحتج إلى تفصيل البنين؛ لأن الأولاد أمر3 لازم [للإنسان] 4 لا يترك منه شيء كما يترك من النساء، فليس فيهم مباح فيحتاج إلى بيانه، ومع ذلك أشير إليهم في قوله: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} "9". ثم فصل في سورة المائدة أحكام السراق، وقطاع الطريق5، لتعلقهم بالذهب والفضة الواقعين في الآية بعد النساء والبنين. ووقع في سورة النساء إشارة إلى ذلك في قسمة المواريث. ثم فصل في سورة الأنعام أمر الحيوان والحرث، وهو بقية المذكور في آية آل عمران. فالنظر إلى هذه اللطيفة التي مَنَّ الله بإلهامها!
ثم ظهر لى أن سورة النساء فصل فيها ذكر البنين أيضًا؛ لأنه لما أخبر بحب الناس لهم، وكان من ذلك: إيثارهم على البنات في الميراث، وتخصيصهم به دونهن، تولى قسمة المواريث بنفسه، فقال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} "11"، وقال: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ} "7". فرد على ما كانوا يصنعون من تخصيص البنين بالميراث؛ لحبهم إياهم1، فكان ذلك تفصيلًا لما يحل ويحرم من إيثار البنين، اللازم عن الحب، وفي ضمن ذلك تفصيل لما يحل للذكر أخذه من الذهب والفضة وما يحرم. ومن الوجوه المناسبة لتقدم آل عمران على النساء: اشتراكها مع البقرة في الافتتاح بإنزال الكتاب، وفي الافتتاح بـ {الم} وسائر السور المفتتحة بالحروف المقطعة كلها مقترنة؛ كيونس وتواليها، ومريم وطه، والطواسين، و {الم} العنكبوت وتواليها، والحواميم، وفي ذلك أول دليل على اعتبار المناسبة في الترتيب بأوائل السور. ولم يفرق بين السورتين من ذلك بما ليس مبدوءًا به سوى بين الأعراف ويونس اجتهادًا لا توقيفًا [كما سيأتي] 2، والفصل بالزمر بين {حم} غافر و {ص} وسيأتي. ومن الوجوه في ذلك أيضًا: اشتراكهما في التسمية بالزهراوين في حديث: "اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران" 3، فكان افتتاح القرآن بهما نظير اختتامه بسورتي الفلق والناس، المشتركتين في التسمية بالمعوذتين.
سورة المائدة
سورة المائدة: وقد تقدَّم وجه في مناسبتها. وأقول: هذه السورة أيضًا شارحة لبقية مجملات سورة البقرة؛ فإن آية الأطعمة والذبائح فيها أبسط منها في البقرة1، وكذا ما حرمه2 الكفار تبعًا لآبائهم في البقرة موجز3، وفي هذه السورة مطنب أبلغ إطناب في قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ ... } "103، 104". وفي البقرة ذكر القصاص في القتلى4، وهنا ذكر أول من سن القتل، والسبب الذي لأجله وقع، وقال: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ
النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} "32"، وذلك أبسط من قوله [في البقرة] : {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة} "البقرة: 179". وفي البقرة: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} "البقرة: 58"، وذكرت1 قصتها [هنا مطولة. وذكر في البقرة من ارتد مقتصرًا عليه، وقال] 2 هنا: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} "54". وفي البقرة قصة الأيمان موجزة، وزاد هنا بسطًا بذكر الكفارة3. وفي البقرة قال في الخمر والميسر: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} "البقرة: 219". وزاد في هذه السورة ذمها، وصرح بتحريمها4. وفيها من الاعتلاق بسورة الفاتحة: بيان المغضوب عليهم والضالين في قوله: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} "60" الآية. وقوله: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيل} "77". وأما اعتلاقها بسورة النساء، فقد ظهر لي فيه وجه بديع جدًّا؛ وذلك أن سورة النساء اشتملت على عدة عقود صريحًا وضمنًا،
فالصريح: عقود الأنكحة، وعقد الصداق، وعقد الحلف، في قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} "النساء: 33". وعقد الأيمان في هذه الآية، وبعد ذلك عقد المعاهدة والأمان في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} "النساء: 90"، وقوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ} "النساء: 92". والضمني: عقد الوصية، والوديعة، والوكالة، والعارية، والإجارة، وغير ذلك من الداخل في عموم قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} "النساء: 58"، فناسب أن يعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود، فكأنه قيل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} "1" التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمت، فكان ذلك غاية في التلاحم والتناسب والارتباط. ووجه آخر في تقديم سورة النساء، وتأخير سورة المائدة؛ وهو: أن تلك أولها: {يَا أَيُّهَا النَّاس} "النساء: 1"، وفيها الخطاب بذلك في مواضع، وهو أشبه بخطاب [الكفار وتنزيل] 1 المكي، [وهذه أولها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} "1" وفيها الخطاب بذلك في مواضع، وهو أشبه بخطاب المدني] 2 وتقديم العام3 وشبه المكي أنسب. ثم إن هاتين السورتين في التلازم4 والاتحاد نظير البقرة وآل عمران، فتلكما في تقرير الأصول؛ من الوحدانية، والكتاب،
والنبوة، وهاتان في تقرير الفروع الحكمية1. وقد ختمت المائدة بصفة القدرة، كما افتتحت النساء بذلك2. وافتتحت النساء ببدء الخلق، وختمت المائدة بالمنتهى من البعث والجزاء3، فكأنهما سورة واحدة، اشتملت على الأحكام من المبتدأ إلى المنتهى. ولما وقع في سورة النساء: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} "النساء: 105" الآيات، وكانت4 نازلة في قصة سارق سرق درعًا5، فصل في سورة المائدة أحكام السراق والخائنين. ولما ذكر في سورة النساء أنه أنزل إليك الكتاب لتحكم بين الناس، ذكر في سورة المائدة آيات في الحكم بما أنزل الله حتى بين الكفار، وكرر قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} "44، 45، 46". فانظر إلى هذه السور الأربع المدنيات، وحسن ترتيبها، وتلاحمها، وتناسقها، وتلازمها.
وقد افتتحت البقرة التي هي أول ما نزل في المدينة1، وختمت بالمائدة التي هي آخر ما نزل بها، كما في حديث الترمذي2.
سورة الأنعام
سورة الأنعام: قال بعضهم: مناسبة هذه السورة لآخر المائدة: أنها افتتحت بالحمد، وتلك ختمت بفصل القضاء، وهما متلازمتان كما قال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "الزمر: 75". و [أقول] 1 قد ظهر لي بفضل الله مع ما قدمت الإشارة إليه في آية {زُيِّنَ لِلنَّاسِ} 2: أنه لما ذكر في آخر المائدة: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ} "المائدة: 120" على سبيل الإجمال، افتتح هذه السورة بشرح ذلك وتفصيله. فبدأ بذكر: أنه خلق السماوات والأرض، وضم إليه أنه جعل الظلمات والنور، وهو بعض ما تضمنه قوله: {وَمَا فِيهِنَّ} في آخر المائدة، وضمَّن قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [أول الأنعام] أن له ملك جميع المحامد، وهو من بسط [جميع] 3: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ} [في آخر المائدة] . ثم ذكر: أنه خلق النوع الإنساني، وقضى له أجلًا مسمى، وجعل له أجلًا آخر للبعث، وأنه منشئ القرون قرنًا بعد قرن، ثم قال: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} "12"، فأثبت له ملك جميع المنظورات، ثم قال: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} "13"، فأثبت له ملك جميع المظروفات في4 الزمان، ثم ذكر أنه خلق سائر
الحيوان، من الدواب والطير، ثم خلق النوم واليقظة، والموت والحياة، ثم أكثر في أثناء السورة من ذكر الخلق والإنشاء لما فيهن من النيرين، والنجوم، وفلق الإصباح، وخلق الحب والنوى، وإنزال الماء، وإخراج النبات والثمار بأنواعها، وإنشاء جنات معروشات وغير معروشات، والأنعام، ومنها حمولة وفرش، وكل ذلك تفصيل لملكه ما فيهن، وهذه مناسبة جليلة1. و2 لما كان المقصود من هذه السورة بيان الخلق والملك، أكثر فيها من ذكر الرب الذي هو بمعنى المالك والخالق والمنشئ، واقتصر فيها على ما يتعلق بذلك من بدء الخلق الإنساني والملكوتي، والملكي والشيطاني، والحيواني والنباتي، وما تضمنته من الوصايا، فكلها متعلقة بالمعاش والقوام الدنيوي3، ثم أشار إلى أشراط الساعة [والبعث] 4. فقد جمعت هذه السورة جميع المخلوقات بأسرها، وما يتعلق بها، وما يرجع إليها، فظهر بذلك مناسبة افتتاح السور المكية بها5، وتقديمها على ما تقدم نزوله منها. وهي في جمعها الأصول والعلوم والمصالح الدنيوية نظير سورة البقرة في جمعها [الأصول و] 6 العلوم والمصالح الدينية، وما ذكر فيها من
العبادات المحضة، فعلى وجه الاختصار1 والإيماء؛ كنظير ما وقع في البقرة من علوم بدء الخلق ونحوه، فإنه على وجه الإيجاز2 والإشارة. فإن قلت: فلِمَ لا أفتتح القرآن بهذه السورة مقدَّمة على سورة البقرة؛ لأن بدء الخلق سابق3 على الأحكام والتعبدات؟! قلت: للإشارة إلى أن مصالح الدين والآخرة مقدَّمة على مصالح المعاش والدنيا، ولأن4 المقصود [من الخلق] 5 إنما هو العبادة، فقدم ما هو الأهم في نظر الشرع6، ولأن علم بدء الخلق كالفضلة، وعلم7 الأحكام والتكاليف متعين على كل واحد؛ فلذلك لا ينبغي النظر في علم بدء الخلق وما جرى مجراه من التواريخ إلا بعد النظر في علم الأحكام وإتقانه. ثم ظهر لي بحمد الله وجه آخر -أتقن مما تقدم- وهو: أنه لما ذكر في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} "المائدة: 87" إلى آخره [ثم ذكر بعده: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَة} "المائدة: 103" إلى آخره] 8 فأخبر عن الكفار أنهم حرموا أشياء
مما رزقهم الله افتراء عليه، وكان القصد بذلك تحذير المؤمنين أن يُحرِّموا شيئًا مما أحل الله، فيشابهوا بذلك الكفار في صنيعهم، وكان ذكر ذلك على سبيل الإيجاز، ساق هذه السورة لبيان ما حرمه الكفار في صنيعهم، فأتى به على الوجه الأبين والنمط الأكمل، ثم جادلهم فيه، وأقام الدلائل على بطلانه، وعارضهم وناقضهم، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه القصة1، فكانت هذه السورة شرحًا لما تضمنته المائدة من ذلك على سبيل الإجمال، وتفصيلًا وبسطًا، وإتمامًا وإطنابًا. وافتتحت بذكر الخلق والملك2؛ لأن الخالق والمالك هو الذي له التصرف في ملكه ومخلوقاته إباحة ومنعًا، وتحريمًا وتحليلًا، فيجب ألا يتعدى عليه بالتصرف في ملكه. وكانت هذه السورة بأسرها متعلقة بالفاتحة من وجه كونها شارحة لإجمال قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} وبالبقرة3 من حيث شرحها لإجمال قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} "البقرة: 21"، وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} "البقرة: 29"، وبآل عمران من جهة تفصيلها لقوله: {وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} "آل عمران: 14"، وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} "آل عمران: 185" الآية. وبالنساء من جهة ما فيها من بدء الخلق، والتقبيح لما حرموه على
أزواجهم، وقتل البنات بالوأد1. وبالمائدة من حيث اشتمالها على الأطعمة بأنواعها2. وفي افتتاح السور المكية بها وجهان آخران من المناسبة. الأول: افتتاحها بالحمد. والثاني: مشابهتها للبقرة، المفتتح بها السور المدنية، من حيث أن كلًّا منهما نزل مشيعًا. ففي حديث أحمد: "البقرة سنام القرآن وذروته، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكًا"3، وروى الطبراني وغيره من طرق: "أن الأنعام شيعها سبعون ألف ملك"، وفي رواية: "خمسمائة ملك"4. ووجه آخر؛ وهو: أن كل ربع من القرآن افتتح بسورة أولها الحمد. [فأول القرآن سورة {الْحَمْدُ} ] 5، وهذه للربع الثاني، والكهف للربع الثالث، وسبأ وفاطر للربع الرابع.
وجميع هذه الوجوه التي استنبطتها من المناسبات بالنسبة إلى أسرار القرآن1 كنقطة من 2 بحر. ولما كانت هذه السورة لبيان بدء الخلق، ذكر فيها ما وقع عند بدء الخلق؛ وهو قوله: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة} "12"، ففي الصحيح: "لما فرغ الله من الخلق، وقضى القضية، كتب كتابًا عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي" 3.
سورة الأعراف
سورة الأعراف: أقول: مناسبة وضع هذه السورة عقب سورة الأنعام فيما ألهمني الله سبحانه: أن سورة الأنعام لما كانت لبيان الخلق، وقال فيها: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} "الأنعام: 2"، وقال في بيان القرون: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} "الأنعام: 6"، وأشير فيها إلى ذكر المرسلين، وتعداد كثير منهم، وكانت الأمور الثلاثة على وجه الإجمال لا التفصيل، ذُكرت هذه السورة عقبها؛ لأنها مشتملة على شرح الأمور الثلاثة وتفصيلها. فبسط فيها قصة خلق آدم أبلغ بسط؛ بحيث لم تبسط في سورة كما بسطت فيها1، وذلك تفصيل إجمال قوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} "الأنعام: 2"، ثم فصلت قصص المرسلين وأممهم، وكيفية إهلاكهم2 تفصيلًا تامًّا شافيًا مستوعبًا، لم يقع نظيره في سورة غيرها3، وذلك بسط حال القرون المهلَكة ورسلهم، فكانت هذه السورة شرحًا لتلك الآيات الثلاث. وأيضًا فذلك تفصيل قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ} "الأنعام: 6"؛ ولهذا صدَّر هذه السورة بخلق آدم الذي جعله الله في الأرض خليفة4. وقال في قصة عاد: {جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} "69"
وفي قصة ثمود: {جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} "74". وأيضًا فقد قال في الأنعام: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} "الأنعام: 54" وهو موجز، وبسطه هنا بقوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} "156" إلى آخره، فبيَّن من كتبها لهم. وأما وجه ارتباط أول هذه السورة بآخر الأنعام فهو: أنه قد تقدم هناك: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} "الأنعام: 153"، وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} "الأنعام: 155"، فافتتح هذه السورة أيضًا [بالأمر] 1 باتباع الكتاب في قوله: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} إلى [قوله] 1 {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} "2، 3". وأيضًا لما تقدم في الأنعام: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُون} "الأنعام: 159"، {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} "الأنعام: 164"، قال في مفتتح هذه السورة: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ، فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} "6، 7"، وذلك شرح التنبئة المذكورة. وأيضًا فلما قال في الأنعام: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} "الأنعام: 160" الآية، وذلك لا يظهر إلا في الميزان، افتتح هذة السورة بذكر الوزن، فقال: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَق} "8". ثم ذكر من ثقلت موازينه، وهو مَن زادت حسناته على سيئاته، ثم من خفت موازينه، وهو من زادت سيئاته على حسناته، ثم ذكر بعد ذلك أصحاب الأعراف، وهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم2.
سورة الأنفال
سورة الأنفال: اعلم أن وضع هذه السورة وبراءة1 ليس بتوقيف من الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصحابة، كما هو الراجح في سائر السور؛ بل اجتهاد من عثمان رضي الله عنه. وقد كان يظهر في بادئ الرأي: أن المناسب إيلاء الأعراف بيونس وهود؛ لاشتراك كل [منهما] 2 في اشتمالها على قصص الأنبياء، وأنها مكية النزول، خصوصًا أن الحديث ورد في فضل السبع الطوال، وعدوا السابعة يونس، وكانت تُسمى بذلك كما أخرجه البيهقي في الدلائل3. ففي فصلها من الأعراف بسورتين هما الأنفال وبراءة فصل للنظير من4 سائر نظائره، هذا مع قصر سورة الأنفال بالنسبة إلى الأعراف وبراءة. وقد استشكل ذلك قديمًا حبر الأمة ابن عباس، فأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال: قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني5،
وإلى براءة وهي من المئين1، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر: بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموها في السبع الطوال؟ فقال عثمان: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشئ دعا بعض مَن كان يكتب، فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل [بالمدينة] 2، وكانت براءة من آخر القرآن نزولًا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فقبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر: بسم الله الرحمن الرحيم3، ووضعتها في السبع الطوال4. فانظر إلى بن عباس -رضي الله عنهما- كيف استشكل على عثمان -رضي الله عنه- أمرين: وضع الأنفال وهي قصيرة مع السور الطويلة، ووضعها هي وبراءة في أثناء السبع الطوال، مفصولًا بهما بين السادسة والسابعة، وانظر كيف أجاب عثمان -رضي الله عنه- أولًا بأنه لم يكن
عنده في ذلك توقيف، فإنه استند إلى اجتهاد، وأنه قرن بين الأنفال وبراءة لكونها شبيهة بقصتها في اشتمال كل منهما على [الأمر] 1 القتال، ونبذ العهود، وهذا وجه بيِّن المناسبة جلي، فرضي الله عن الصحابة، ما أدق أفهامهم! وأجزل آراءهم! وأعظم أحلامهم! 2 وأقول: يتم بيان مقصد عثمان -رضي الله عنه- في ذلك بأمور فتح الله بها: الأول: أنه جعل الأنفال قبل براءة مع قصرها؛ لكونها مشتملة على البسملة، فقدمها لتكون كقطعة3منها، وتكون براءة بخلوها منها كتتمتها وبقيتها؛ ولهذا قال جماعة من السلف: إن الأنفال وبراءة سورة واحدة، لا سورتان4. الثاني: أنه وضع براءة هنا لمناسبة الطوال؛ فإنه ليس في القرآن بعد الأعراف أنسب ليونس طولًا منها5، وذلك كافٍ في المناسبة. الثالث: أنه خلَّل بالسورتين [الأنفال وبراءة] أثناء السبع الطوال المعلوم ترتيبها في العصر الأول؛ للإشارة إلى أن ذلك أمر صادر لا عن توقيف، وإلى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قُبِضَ قبل أن يبين محلهما، فوضعا [هنا] 6 كالموضع المستعار بين السبع الطوال، بخلاف ما لو وضعتا بعد السبع الطوال، فإنه كان يوهم أن ذلك محلهما
بتوقيف، وترتيب السبع الطوال يرشد إلى دفع هذا الوهم1. فانظر إلى هذه الدقيقة التي فتح الله بها، ولا يغوص عليها إلا غواص. الرابع: أنه لو أخرهما وقدم يونس، وأتى بعد براءة بهود -كما في مصحف أُبي بن كعب- لمراعاة مناسبة السبع الطوال، وإيلاء بعضها بعضًا، لفات مع ما أشرنا إليه أمر آخر آكد في المناسبة، فإن الأَوْلى بسورة يونس أن تولى بالسور الخمس التي بعدها، لما اشتركت فيه من الاشتمال على القصص، ومن الافتتاح بـ {الر} 2، وبذكر الكتاب، ومن كونها مكيات، ومن تناسب، ما عدا الحجر في المقدار، وبالتسمية باسم نبي، والرعد اسم3 ملك، وهو مناسب لأسماء الأنبياء. فهذه ستة وجوه في مناسبة الاتصال بين يونس وما بعدها، وهي آكد من ذلك الوجه الواحد4 في تقديم يونس بعد الأعراف. ولبعض هذه الأمور قدمت سورة الحجر على النحل، مع كونها أقصر منها، ولو أخرت براءة عن هذه السور الست [لبعدت] 5 المناسبة جدًّا لطولها بعد عدة6 سور أقصر منها بخلاف وضع سورة
النحل بعد الحجر؛ فإنها ليست كبراءة في الطول. ويشهد لمراعاة الفواتح في مناسبة الوضع ما ذكرنا من تقديم الحجر على النحل لمناسبة ذوات {الر} قبلها، وما تقدم من تقديم آل عمران على النساء وإن كانت أقصر منها لمناسبة البقرة في1 الافتتاح بـ {الم} وتوالي الطواسين والحواميم، وتوالي العنكبوت والروم ولقمان2 والسجدة، لافتتاح كل بـ {الم} ولهذا قدمت السجدة على الأحزاب التي هي أطول منها. هذا ما فتح الله به. وأما ابن مسعود فقدم في مصحفه البقرة على: النساء، وآل عمران، والأعراف، والأنعام، والمائدة، ويونس، فراعى [السبع] 3 الطوال، وقدم الأطول فالأطول، ثم ثنى بالمئين، فقدم براءة، ثم النحل، ثم هود، ثم يوسف، ثم الكهف، وهكذا الأطول فالأطول، وذكر الأنفال بعد النور4. ووجه مناسبتها لها: أن كلا منهما مدنية، ومشتملة على أحكام، وأن في النور {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} "النور: 55" الآية. وفي الأنفال: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ} "26" الآية. ولا يخفى ما بين الآيتين من المناسبة؛ فإن الأولى مشتملة على الوعد بما حصل، وذكَّر به في الثانية، فتأمل.
سورة براءة
سورة براءة: أقول: قد عرف وجه مناسبتها، ونزيد هنا أن صدرها1 تفصيل لإجمال قوله في الأنفال: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} "الأنفال: 58" الآية، وآيات الأمر بالقتال متصلة بقوله هناك: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} "الأنفال: 60"؛ ولذا قال هنا في قصة المنافقين: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} "46". ثم بين السورتين تناسب من وجه آخر؛ وهو: أنه سبحانه في الأنفال تولى قسمة الغنائم، وجعل خُمسها خمسة أخماس2، وفي براءة تولى قسمة الصدقات، وجعلها لثمانية أصناف3.
سورة يونس
سورة يونس: أقول: قد عرف وجه مناسبتها فيما تقدم في الأنفال1، ونزيد هنا: أن مطلعها شبيه بمطلع سورة الأعراف؛ فإنه2 سبحانه قال فيها: {أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} "2" فقدم الإنذار وعممه، وآخَّر البشارة وخصصها، وقال تعالى في مطلع الأعراف: {لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} "الأعراف: 2" فخص الذكر وأخَّرها، وقدم الإنذار، وحذف مفعوله ليعم. وقال هنا: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} "3"، وقال في أوائل الأعراف مثل ذلك3. وقال هنا: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} "3". وقال هناك: {مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} "الأعراف: 54". وأيضًا فقد ذكرت قصة فرعون وقومه في الأعراف، واختصر ذكر4 إغراقهم، وبسط5 في هذه السورة أبلغ بسط6. فهي شارحة لما أُجمل في سورة الأعراف منه.
سور هود
سور هود ... سورة هود: أقول: وجه وضعها بعد سورة يونس زيادة على الأوجه الستة السابقة: أن سورة يونس ذكر فيها قصة نوح مختصرة جدًّا مجملة1، فشرحت في هذه السورة وبسطت ما2 لم يبسطه في غيرها من السور3، ولا في سورة الأعراف على طولها، ولا في سورة {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا} [نوح: 1] التي أفردت لقصته. فكانت هذه السورة شارحة لما أجمل في سورة يونس [توفية بالقاعدة، ثم إن مطلعها شديد الارتباط بمقطع سورة يونس] 4، فإن قوله هناك: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} "يونس: 109" هو عين قوله هنا: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} "2".
سورة يوسف
سورة يوسف: أقول: وجه وضعها بعد سورة هود زيادة على الأوجه الستة السابقة: أن قوله في مطلعها: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} "3" مناسب لقوله في مقطع تلك: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} "هود: 120". وأيضًا فلما وقع في سورة هود: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} "هود: 71"، وقوله: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} "هود: 73". وذكر هنا حال يعقوب مع أولاده، وحال ولده الذي هو من أهل البيت مع إخوته، فكان كالشرح لإجمال ذلك. وكذلك قال هنا: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} "6" فكان ذلك كالمقترن بقوله في هود1: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} "هود: 73". وقد روينا عن ابن عباس وجابر بن زيد في ترتيب النزول: أن يونس نزلت، ثم هود، ثم يوسف2. وهذا وجه آخر من وجوه المناسبة في ترتيب هذه السور الثلاث؛ لترتيبها في النزول هكذا.
سورة الرعد
سورة الرعد: أقول: وجه وضعها بعد سورة يوسف زيادة ما تقدم بعدما فكرت فيه طائفة من الزمان: أنه سبحانه قال في آخر تلك: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} "يوسف: 105" فذكر الآيات السمائية والأرضية مجملة، ثم فصل1 في مطلع هذه السورة بقوله2: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ [} تفصيل للآيات السمائية. وقوله: {] 3و َهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} "2-4" تفصيل للآيات4 الأرضية. هذا مع اختتام سورة يوسف بوصف الكتاب، ووصفه بالحق، وافتتاح هذه بمثل ذلك5، وهو من تشابه الأطراف.
سورة إبراهيم
سورة إبراهيم: أقول: وجه وضعها بعد سورة الرعد زيادة على ما تقدم بعد إفكاري فيه برهة: أن قوله في مطلعها: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} "1" مناسب لقوله في مقطع تلك: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} "الرعد: 43" على أن المراد بـ"مَنْ" هو: الله تعالى جل جلاله. وأيضًا ففي الرعد: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} "الرعد: 32"، وذلك مجمل في أربعة مواضع: الرسل، والمستهزئين، وصفة الاستهزاء، والأخذ، وقد فصلت الأربعة في قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ... } "9-16" الآيات1.
سورة الحجر
سورة الحِجْر: أقول: تقدمت الأوجه في اقترانها بالسورة السابقة؛ وإنما أُخرت عنها لقصرها بالنسبة إليها، وهذا القسم من سور القرآن للمئين، فناسب تقديم الأطول1، مع مناسبة ما خُتمت به لبراعة الختام وهو قوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} "99"، فإنه مفسر بالموت2، وذلك مقطع في غاية البراعة. وقد وقع ذلك في أواخر السور المقترنة، ففي آخر آل عمران: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} "آل عمران: 200"، وفي آخر الطواسين: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} "القصص: 88"، وفي آخر ذوات {الر} : {وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} "السجدة: 30"، وفي آخر الحواميم: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ} "الأحقاف: 35". ثم ظهر لي وجه اتصال أول هذه السورة بآخر سورة إبراهيم؛ فإنه تعالى لما قال هناك في وصف يوم القيامة: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ، سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} "إبراهيم: 48-50"، قال هنا: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} "2" فأخبر أن المجرمين المذكورين إذا طال مكثهم في النار، ورأوا عصاة المؤمنين الموحدين قد أُخرجوا منها تمنوا أن
لو كانوا في الدنيا مسلمين، وذلك وجه حسن في الربط، مع اختتام آخر تلك بوصف الكتاب، وافتتاح هذه به1، وذلك من تشابه الأطراف2.
سورة النحل
سورة النحل: أقول: وجه وضعها بعد سورة الحجر: أن آخرها شديد الالتئام بأول هذه؛ فإن قوله في آخر تلك: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} "الحجر: 99" الذي هو مفسر بالموت، ظاهر المناسبة لقوله هنا: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} "1"، وانظر كيف جاء في المقدَّمة بـ {يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [بلفظ المضارع] 1، وفي المتأخرة بلفظ الماضي؛ لأن المستقبل سابق على الماضي، كما تقرر في المعقول والعربية2. ثم3 ظهر لي أن هذه السورة شديدة الاعتلاق بسورة إبراهيم؛ وإنما تأخرت4 عنها لمناسبة الحجر، في كونها من ذوات {الر} . وذلك: أن سورة إبراهيم وقع فيها ذكر فتنة الميت، ومن هو مثبت5 وغيره6، وذلك أيضًا في هذه بقوله: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} "28" الآيات، فذكر الفتنة، وما يحصل عندها من الثبات والإضلال، وذكر هنا ما يحصل عقب ذلك من النعيم والعذاب7.
ووقع في سورة إبراهيم: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} "إبراهيم: 46"، و [قد] 1 قيل: إنها في الجبار الذي أراد أن يصعد السماء بالنسور2، ووقع هنا أيضًا في قوله: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} "26". ووقع في سورة إبراهيم ذكر النعم، وقال عقبها: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} "إبراهيم: 34"، ووقع هنا ذكر ذلك معقَّبًا بمثل ذلك.
سورة بني إسرائيل
سورة بني إسرائيل: اعلم أن هذه السورة والأربع بعدها من قديم ما أنزل1. أخرج البخاري عن ابن مسعود أنه قال في بني إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء: " [هن] 2 من العتاق الأول، وهن من تلادي"3، وهذا وجه في ترتيبها، وهو اشتراكها في قدم النزول، وكونها مكيات، وكلها4 مشتملة على القصص. وقد ظهر لي في وجه اتصالها بسورة النحل: أنه سبحانه لما قال في آخر النحل: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} "النحل: 124" فسر في هذه [السورة] 5 شريعة أهل السبت وشأنهم، فذكر فيها جميع ما شرع لهم في التوراة، كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: " [إن] 6 التوراة كلها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل"7، وذكر عصيانهم وإفسادهم8، وتخريب مسجدهم، ثم ذكر استفزازهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- وإرادتهم إخراجه من المدينة، ثم ذكر سؤالهم إياه عن الروح، ثم ختم السورة بآيات موسى التسع، وخطابه مع فرعون، وأخبر أن [فرعون أراد أن يستفزهم من الأرض، فأُهلك،
وورث بنو إسرائيل من بعده، وفي ذلك تعريض بهم، أنهم كما استفزوا النبي] 1 -صلى الله عليه وسلم- ليخرجوه من المدينة هو وأصحابه كنظير ما وقع لهم مع فرعون لما استفزهم، و [قد] 2 وقع ذلك أيضًا. ولما كانت هذه السورة مصدَّرة بقصة تخريب المسجد الأقصى أُسْرِيَ بالمصطفى إليه، تشريفًا له بحلول ركابه الشريف3، فلله الحمد على ما ألهم.
سورة الكهف
سورة الكهف: قال بعضهم: مناسبة وضعها بعد سورة الإسراء: افتتاح تلك بالتسبيح، وهذه بالتحميد1، وهما مقترنان في القرآن وسائر الكلام؛ بحيث يسبق التسبيح التحميد؛ نحو: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} 2 "الحجر: 98"، وسبحان الله وبحمده. قلت: مع اختتام ما قبلها بالتحميد أيضًا3، وذلك من وجوه المناسبة بتشابه الأطراف. ثم ظهر لي وجه آخر أحسن4 في الاتصال؛ وذلك: أن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ثلاثة أشياء: عن الروح، وعن قصة أصحاب الكهف، وعن قصة ذي القرنين5، وقد ذكر جواب السؤال الأول في آخر سورة بني إسرائيل، فناسب اتصالها بالسورة التي اشتملت على جواب السؤالين الآخرين6. فإن قلت: هلَّا جمعت الثلاثة في سورة واحدة؟
قلت: لما لم يقع الجواب عن الأول بالبيان1، ناسب فصله في سورة. ثم ظهر لي وجه آخر: وهو أنه لما قال فيها: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} "الإسراء: 85"، والخطاب لليهود، واستظهر على ذلك بقصة موسى في بني إسرائيل مع الخضر، التى كان سببها ذكر العلم والأعلم2، وما دلت عليه من إحاطة3 معلومات الله عز وجل التي لا تحصى، فكانت هذه السورة كإقامة الدليل لما ذكر من الحِكَم4. وقد ورد في الحديث أنه لما نزل: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} قال اليهود: قد أوتينا التوراة، فيها علم كل شيء؛ فنزل: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} "109" في هذه السورة5، فهذا وجه آخر في المناسبة، وتكون السورة من هذه الجهة جوابًا عن شبهة الخصوم فيما قدر بتلك. وأيضًا فلما قال هناك: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} "الإسراء: 104" شرح ذلك هنا وبسطه بقوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} إلى {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا، وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} "98-100"، فهذه وجوه عديدة في الاتصال6.
سورة مريم
سورة مريم: أقول: ظهر لى في وجه مناسبتها لما قبلها: أن سورة الكهف اشتملت على عدة أعاجيب: قصة أصحاب الكهف، وطول لبثهم هذه المدة الطويلة بلا أكل ولا شرب، وقصة موسى مع الخضر، وما فيها من الخارقات، وقصة ذي القرنين، وهذه السورة فيها أعجوبتان: قصة ولادة يحيى بن زكريا1، وقصة ولادة عيسى، فناسب تتاليهما2. وأيضًا فقد قيل: إن أصحاب الكهف يُبعثون قبل قيام الساعة، ويحجون مع عيسى ابن مريم حين ينزل3، ففي ذكر سورة مريم بعد [ذكر] 4 سورة أصحاب الكهف مع ذلك -إن ثبت- ما لا يخفى من المناسبة. وقد قيل أيضًا: إنهم من قوم عيسى، وإن قصتهم كانت في الفترة، فناسب توالي [سورة] 5 قصتهم و [سورة] 5 قصة نبيهم6.
سورة طه
سورة طه: أقول: روينا عن ابن عباس وجابر بن زيد في ترتيب النزول: أن طه نزلت بعد سورة مريم، بعد ذكر سورة أصحاب الكهف، وذلك وحده كافٍ في مناسبة الوضع، مع التآخي بالافتتاح1 بالحروف المقطعة. وظهر لي وجه آخر؛ وهو: أنه لما ذكر في سورة مريم قصص عدة من الأنبياء؛ وهم: زكريا، ويحيى، وعيسى، الثلاثة مبسوطة وإبراهيم، وهي بين البسط والإيجاز، وموسى، وهي موجزة بجملة2 أشار إلى بقية النبيين في الآية الأخيرة إجمالًا3. وذكر في هذه السورة شرح قصة موسى التي أجملها هناك، فاستوعبها غاية الاستيعاب، وبسطها أبلغ بسط4، ثم أشار إلى تفصيل قصة آدم، الذي وقع [في مريم] 5 مجرد اسمه هناك6، ثم أورد في سورة الأنبياء بقية قصص من لم يذكر في مريم؛ كنوح ولوط، وداود، وسليمان، وأيوب، وذي الكفل، وذي النون، وأشير إلى قصة من ذكرت قصته
إشارة وجيزة؛ كموسى، وهارون، وإسماعيل، وزكريا، ومريم؛ لتكون السورتان كالمتقابلتين. وبسطت فيها قصة إبراهيم البسط التام فيما يتعلق به مع قومه، ولم تذكر حاله مع أبيه إلا إشارة1 كما أنه في سورة مريم ذكر حاله مع قومه إشارة ومع أبيه مبسوطًا2. فانظر إلى عجيب هذا الأسلوب، وبديع هذا الترتيب.
سورة الأنبياء
سورة الأنبياء: قدمت ما فيها مستوفًى1، وظهر لي في اتصالها بآخر طه: أنه سبحانه لما قال: {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا} "طه: 135"، وقال قبله: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} "طه: 129". قال في مطلع هذه: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} "1" إشارة إلى قرب الأجل، ودنو الأمل المنتظر2. وفيه أيضًا مناسبة لقوله هناك: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} "طه: 131" الآية. فإن قرب الساعة يقتضي الإعراض عن هذه3 الحياة الدنيا؛ لدنوها من الزوال والفناء؛ ولهذا ورد في الحديث: أنها لما نزلت قيل لبعض الصحابة: هلا سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عنها؟ فقال: "نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا"4.
سورة الحج
سورة الحج: أقول: وجه اتصالها بسورة الأنبياء: أنه ختمها بوصف الساعة في قوله: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} "الأنبياء: 97"، وافتتح هذه بذلك، فقال: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} "1، 2".
سورة المؤمنون
سورة المؤمنون 1: أقول: وجه اتصالها بسورة الحج: أنه لما ختمها بقوله: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} "الحج: 77"، وكان ذلك مجملًا، فصَّله في فاتحة هذه السورة، فذكر خصال الخير التي من فعلها فقد أفلح، فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} "1، 2" الآيات. ولما ذكر [في] 2 أول الحج قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} "الحج: 5" الآية. زاده هنا بيانًا [وإطنابًا] 3 في قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} "12، 13" الآيتان. فكل جملة أُوجِزَت هناك في القصة4 أطنب فيها هنا.
سورة النور
سورة النور: أقول: وجه اتصالها بسورة {قَدْ أَفْلَحَ} : أنه لما قال [فيها] 1: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} "المؤمنون: 5"، ذكر في هذه أحكام من لم يحفظ فرجه، من الزانية والزاني، وما اتصل بذلك من شأن القذف، وقصة الإفك، والأمر بغض البصر2، وأمر فيها بالنكاح حفظًا للفروج، وأمر من لم يقدر على النكاح بالاستعفاف، وحفظ فرجه، ونهى عن إكراه الفتيات على الزنا3. ولا ارتباط أحسن من هذا الارتباط، ولا تناسق أبدع من هذا النسق.
سورة الفرقان
سورة الفرقان: ظهر لي بفضل الله بعدما أفكرت مدة1: أن نسبة هذه السورة لسورة النور، كنسبة سورة الأنعام إلى المائدة؛ من حيث أن النور قد ختمت بقوله: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} "النور: 64"، كما ختمت بقوله: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ} "المائدة: 120". وكانت جملة النور أخصر من المائدة، ثم فصلت هذه الجملة في سورة الفرقان فافتتحت بقوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ} إلى قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} "2"، كما افتتحت الأنعام بمثل2 ذلك3. وكان قوله عقبه: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} "3" إلى آخره، نظير قوله هناك: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} "الأنعام: 1". ثم ذكر في خلال هذه السورة جملة من المخلوقات؛ كمد الظل، والليل، والنوم، والنهار، والرياح، والماء، والأنعام، والأناسي، ومرج البحرين، والإنسان، والنسب، والصهر، وخلق السماوات والأرض في ستة أيام، والاستواء على العرش، وبروج السماء، والسراج، والقمر، إلى غير ذلك، مما هو تفصيل لجملة: {لِلَّهِ مَا فِي
ال سَّ مَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 1 "النور: 64"، كما فصل آخر المائدة في الأنعام بمثل ذلك2، وكان البسط في الأنعام أكثر لطولها. ثم أشار في هذه السورة إلى القرون المكذوبة وإهلاكهم3، كما أشار في الأنعام إلى ذلك4، ثم أوضح5 هذه الإشارة في السورة التي تليها -وهي الشعراء- بالبسط التام، والتفصيل البالغ6، كما أوضح تلك الإشارة التي في الأنعام وفصَّلها في سورة الأعراف التى تليها7. فكانت هاتان السورتان في المثاني، نظير تينك السورتين [الأنعام والأعراف] في الطوال، واتصالهما بآخر النور، نظير اتصال تلك بآخر المائدة، المشتملة على فصل القضاء8. ثم ظهر لي لطيفة أخرى؛ وهي: أنه إذا وقعت سورة مكية بعد سورة مدنية، افتتح أولها بالثناء على الله؛ كالأنعام بعد المائدة،
والإسراء بعد النحل، وهذه بعد النور، وسبأ بعد الأحزاب، والحديد بعد الواقعة، وتبارك بعد التحريم1؛ لما في ذلك من الإشارة إلى نوع استقلال، وإلى الانتقال من نوع إلى نوع.
سورة الشعراء
سورة الشعراء: أقول: وجه اتصالها بسورة الفرقان أنه تعالى لما أشار فيها إلى قصص مجملة بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا، فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا، وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا، وَعَادًا وَثَمُودَا وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} "الفرقان: 35-38" شرح هذه القصص، وفصَّلها أبلغ تفصيل في السورة1 التي تليها؛ ولذلك رتبت على ترتيب ذكرها في الآيات المذكورة فبدئ بقصة موسى2، ولو رتبت على الواقع لأخرت كما في الأعراف. فانظر إلى هذا السر اللطيف الذي مَنَّ الله بإلهامه. ولما كان في الآيات المذكورة إشارة إلى قرون بين ذلك كثيرة3، زاد في الشعراء تفصيلًا لذلك قصة قوم إبراهيم، وقوم لوط، وقوم شعيب4. ولما ختم الفرقان بقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} "الفرقان: 63"، وقوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} "الفرقان: 72"
ختم هذه السورة بذكر الشعراء الذين هم بخلاف ذلك، واستثنى منهم مَن سلك سبيل أولئك، وبيَّن ما يمدح من الشعر، و [ما] 1 يدخل في القول2 "سلامًا"، وما يذم منه، ويدخل في اللغو3.
سورة النمل
سورة النمل: أقول: وجه اتصالها بما قبلها: أنها كالتتمة لها، في ذكر بقية القرون، فزاد سبحانه فيها ذكر سليمان وداود، وبسط فيها قصة لوط أبسط مما هي في1 الشعراء2. وقد روينا عن ابن عباس، وجابر بن زيد، في ترتيب [نزول] 3 السور: أن الشعراء نزلت ثم طس4، ثم القصص، وذلك كافٍ في5 ترتيبها في المصحف هكذا. وأيضًا فقد وقع فيها: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} "7" إلى آخره، وذلك تفصيل قوله في الشعراء: {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} "الشعراء: 21".
سورة القصص
سورة القصص: أقول: ظهر لي بعد الفكرة: أنه سبحانه لما حكى في الشعراء قول فرعون لموسى: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ، وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} "الشعراء: 18، 19" إلى قول موسى: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} "الشعراء: 21"، ثم حكى1 في طس النمل قول موسى لأهله: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} "النمل: 7" إلى آخره، الذي هو في الوقوع بعد الفرار، ولما كان [الأمران] 2 على سبيل الإشارة والإجمال، بسط في هذه السورة ما أوجزه في السورتين، وفصل ما أجمله فيهما على حسب ترتيبهما. فبدأ بشرح تربية فرعون له، مصدرًا بسبب ذلك: من علو فرعون، وذبح أبناء بني إسرائيل الموجب لإلقاء موسى عند ولادته في اليم خوفًا عليه من الذبح، وبسط القصة في تربيته، وما وقع فيها إلى كبره، إلى السبب الذي من أجله قتل القبطي، وهى الفعلة التي فعل، إلى الهم بذلك عليه، والموجب لفراره إلى مدين3، إلى ما وقع له [فيها] 4 مع شعيب، وتزوجه بابنته، إلى أن سار بأهله، وآنس من جانب الطور نارًا فقال لأهله: {امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} "29" إلى ما وقع له فيها من المناجاة لربه، وبعثه إياه رسولًا، وما استتبع ذلك، إلى آخر القصة. فكانت السورة شارحة لما أجمل في السورتين معًا على الترتيب5. وبذلك عرف وجه الحكمة في تقدم "طس" على هذه، وتأخيرها عن الشعراء، فلله الحمد على ما ألهم.
سورة العنكبوت
سورة العنكبوت: أقول: ظهر لي في وجه اتصالها بما قبلها: أنه تعالى لما أخبر في أول السورة السابقة عن فرعون أنه: {عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} "القصص: 4" افتتح هذه السورة بذكر المؤمنين الذين فتنهم الكفار وعذبوهم على الإيمان بعذاب دون ما عذب به قوم فرعون بني إسرائيل؛ تسلية لهم بما وقع لمن قبلهم، وحثًّا لهم على الصبر؛ ولذلك قال هنا: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} "3"، وهذه أيضًا من حِكَم تأخير القصص عن1 "طس". وأيضًا فلما كان في خاتمة القصص الإشارة إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم2، وفي خاتمة هذه الإشارة إلى هجرة المؤمنين بقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} "56" ناسب تتاليهما.
سورة الروم
سورة الروم: أقول: ظهر لي في اتصالها بما قبلها: أنها ختمت بقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} "العنكبوت: 69"، وافتتحت1 هذه بوعد من غلب من أهل الكتاب بالغلبة والنصر، وفرح المؤمنين بذلك، وأن الدولة لأهل الجهاد فيه، ولا يضرهم ما وقع لهم قبل ذلك من هزيمة2. هذا مع تآخيها بما قبلها في المطلع، فإن كلا منهما افتتح بـ {الم} غير معقب بذكر القرآن، وهو خلاف القاعدة الخاصة في المفتتح3 بالحروف المقطعة؛ فإنها كلها عقبت بذكر الكتاب أو وصفه، إلا هاتين السورتين وسورة القلم؛ لنكتة بينتها في "أسرار التنزيل"4.
سورة لقمان
سورة لقمان: أقول: ظهر لى في اتصالها بما قبلها مع المؤاخاة في الافتتاح بـ {الم} : أن قوله تعالى هنا: {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} "3، 4" متعلق بقوله في آخر سورة الروم: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} "الروم: 56" الآية، فهذا عين إيقانهم بالآخرة، وهم المحسنون الموقنون بما ذكر1. وأيضًا ففي كلتا السورتين جملة من الآيات2 وبدء الخلق3. وذكر في الروم: {فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} "الروم: 15"، وقد فسر بالسماع4، وفي لقمان: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} "6" وقد فُسر بالغناء وآلات الملاهي5.
سورة السجدة
سورة السجدة: أقول: وجه اتصالها بما قبلها: أنها شرحت مفاتح الغيب الخمسة1 التي ذكرت في خاتمة لقمان. فقوله هنا: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} "5"، شرح لقوله هناك: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} "لقمان: 34"؛ ولذلك عقب هنا بقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} "6". وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} "27"، شرح قوله2: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} "لقمان: 34". وقوله: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} "7" الآيات، شرح لقوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان: 34] . وقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} "السجدة: 5" و {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} "السجدة: 13"، شرح لقوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} "لقمان: 34". وقوله: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} "10، 11"، شرح لقوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} "لقمان: 34"، فلله الحمد على ما ألهم.
سورة الأحزاب
سورة الأحزاب: أقول: وجه اتصالها بما قبلها: تشابه مطلع هذه ومقطع تلك؛ فإن تلك ختمت بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإعراض عن الكافرين، وانتظار عذابهم1، [ومطلع هذه الأمر بتقوى الله، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين، فصارت كالتتمة لما ختمت به تلك، حتى كأنهما سورة واحدة] 2.
سورة سبأ
سورة سبأ: أقول: ظهر لى وجه اتصالها بما قبلها: وهو أن تلك لما ختمت بقوله: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} "الأحزاب: 73" افتتحت هذه بأن له ما في السماوات وما في الأرض1، وهذا الوصف لائق بذلك الحكم؛ فإن الملك العام والقدرة التامة يقتضيان ذلك. وخاتمة سورة2 الأحزاب: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} "الأحزاب: 73"، وفاصلة الآية الثانية من مطلع سبأ: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} "2".
سورة فاطر
سورة فاطر: أقول: مناسبة وضعها بعد سبأ تآخيهما في الافتتاح بالحمد، مع تناسبهما في المقدار. وقال بعضهم: افتتاح سورة فاطر بالحمد مناسب لختام ما قبلها، من قوله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} "سبأ: 54"، كما قال: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "الأنعام: 45"، فهو نظير اتصال أول الأنعام بفصل القضاء المختتم به المائدة1.
سورة يس
سورة يس: أقول: ظهر لي وجه اتصالها بما قبلها: أنه لما ذكر في سورة فاطر قوله: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} "فاطر: 37" وقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} "فاطر: 42"، والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم1، وقد أعرضوا عنه وكذبوه، فافتتح هذه السورة بالإقسام على صحة رسالته، وأنه على صراط مستقيم؛ لينذر قومًا ما أنذر آباؤهم، وهذا وجه بيِّن. وفي فاطر: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} "فاطر: 13"، وفي يس: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} "38، 39"، وذلك أبسط وأوضح. وفي فاطر: {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} "فاطر: 12"، وفي يس: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ، وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ} "يس: 41-43" فزاد القصة بسطًا.
سورة الصفافات
سورة الصفافات ... سورة الصافات: أقول: هذه السورة بعد "يس" كالأعراف بعد الأنعام، وكالشعراء بعد الفرقان، في تفصيل أحوال القرون المشار إلى إهلاكهم1، كما أن تينك2 السورتين تفصيل لمثل ذلك كما تقدم.
سورة ص
سورة ص: أقول: هذه السورة بعد الصافات كطس بعد الشعراء، وكطه والأنبياء بعد مريم، وكيوسف بعد هود، في كونها متممة لها بذكر من بقي من الأنبياء، ممن لم يذكروا فيها؛ فإنه سبحانه ذكر في الصافات: نوحًا، وإبراهيم، والذبيح، وموسى، وهارون، ولوطًا، وإلياس، ويونس، وذكر هنا: داود، وسليمان، وأيوب، وأشار إلي بقية من ذكر، فهي بعدها أشبه شيء بالأنبياء وطس بعد مريم والشعراء1.
سورة الزمر
سورة الزمر: [أقول] 1: لا يخفى وجه اتصال أولها بآخر "ص"؛ حيث قال في "ص": {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِين} "ص: 87"، ثم قال هنا: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} "1"، فكأنه قيل: هذا الذكر تنزيل، وهذا تلاؤم2 شديد؛ بحيث إنه لو أسقطت3 البسملة لالتأمت الآيتان4 كالآية الواحدة. وقد ذكر الله تعالى في آخر "ص" قصة خلق آدم5، وذكر في صدر هذه قصة خلق زوجه [منه] 6، وخلق الناس كلهم منه، وذكر خلقهم في بطون أمهاتهم خلقًا من بعد خلق، ثم ذكر أنهم ميتون، ثم ذكر وفاة النوم والموت، ثم ذكر القيامة، والحساب، والجزاء، والنار، والجنة7، وقال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "75". فذكر أحوال الخلق من المبدأ إلى المعاد، متصلًا بخلق آدم المذكور في السورة التي قبلها.
سورة غافر
سورة غافر: أقول: وجه إيلاء الحواميم السبع1 سورة الزمر: تآخي المطالع في الافتتاح بتنزيل الكتاب، وفي مصحف أُبي بن كعب أول الزمر {حم} 2، وذلك مناسبة جليلة3. ثم إن الحواميم ترتبت لاشتراكها في الافتتاح بـ {جم} ، وبذكر الكتاب بعد حم، وأنها مكية؛ بل ورد في الحديث أنها نزلت جملة4 [واحدة] 5. وفيها شبه من ترتيب ذوات {الر} الست6. فانظر ثانية الحواميم وهي فصلت، كيف شابهت ثانية ذوات {الر} هود في تغيير الأسلوب في وصف الكتاب، وأن في هود: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} "هود: 1"، وفي فصلت: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} "فصلت: 3"، وفي سائر ذوات {الر} 7 {تِلْكَ آيَاتُ
الْكِتَابِ} 1 "الحجر: 1"، وفي سائر الحواميم: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} "غافر: 2" أو {وَالْكِتَابِ} 2 "الدخان: 2". وروينا عن جابر بن زيد، وابن عباس في ترتيب نزول السور: أن الحواميم نزلت عقب الزمر، وأنها نزلت متتاليات كترتيبها في المصحف: المؤمن، ثم السجدة، ثم الشورى، ثم الزخرف، ثم الدخان، ثم الجاثية، ثم الأحقاف، ولم يتخللها نزول غيرها3، وذلك4 مناسبة جلية واضحة في وضعها هكذا. ثم ظهر لي لطيفة أخرى؛ وهي: أنه في كل ربع من أرباع القرآن توالت سبع سور مفتتحة بالحروف المقطعة. فهذه [السور] 5 السبع مصدرة بـ {حم} ، وسبع في الربع الذي قبله [متوالية و] 6 ذوات {الر} 7 الست متوالية، و {المص} الأعراف؛ فإنها متصلة بيونس على ما تقدمت الإشارة إليه، وافتتح أول القرآن بسورتين من ذلك، وأول النصف الثاني بسورتين8. وقال الكرماني في "العجائب"9: ترتيب الحواميم السبع لما بينها
من المشاكل الذي خصت به؛ وهو: أن كل سورة منها استفتحت بالكتاب أو وصفه، مع تفاوت المقادير في الطول والقصر، وتشاكل الكلام في النظام. انتهى. قلت: وانظر إلى مناسبة ترتيبها؛ فإن مطلع غافر مناسب لمطلع الزمر، ومطلع فصلت التي هي ثانية الحواميم مناسب لمطلع هود التي هي ثانية ذوات {الر} 1، ومطلع الزخرف مؤاخٍ لمطلع الدخان، وكذا مطلع الجاثية لمطلع الأحقاف2.
سورة القتال
سورة القتال: [أقول:] 3 لا يخفى وجه ارتباط أولها بقوله في آخر الأحقاف: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} "الأحقاف: 35"، واتصاله وتلاحمه وبحيث إنه لو أسقطت البسملة منه لكان متصلًا اتصالًا واحدًا لا تنافر فيه كالآية الواحدة، آخذًا بعضه بعنق بعض4.
سورة الفتح
سورة الفتح: [أقول:] 1 لا يخفى وجه حُسن وضعها هنا؛ لأن الفتح بمعنى النصر، مرتَّب على القتال، وقد ورد في الحديث: أنها [نزلت] 1 مبينة لما يفعل به وبالمؤمنين، بعد إبهامه في قوله تعالى في الأحقاف: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} 2 "الأحقاف: 9"، فكانت متصلة بسورة الأحقاف من هذه الجملة3.
سورة الحجرات
سورة الحجرات: [أقول:] 1 لا يخفى تآخي هاتين السورتين [الفتح والحجرات] مع ما قبلهما؛ لكونهما مدنيتين، ومشتملتين على أحكام، فتلك فيها قتال الكفار، وهذه فيها قتال البغاة2، وتلك خُتمت بالذين آمنوا، وهذه افتتحت بالذين آمنوا3، وتلك تضمنت تشريفًا له صلى الله عليه وسلم خصوصًا مطلعها، وهذه أيضًا في مطلعها أنواع من التشريف له صلى الله عليه وسلم4.
سورة الذاريات
سورة الذاريات: أقول: لما ختمت "ق" بذكر البعث، واشتملت على ذكر الجزاء، والجنة، والنار، وغير ذلك من أحوال القيامة، افتتح هذه السورة بالإقسام على أن ما توعدون من ذلك لصادق1، وأن الدين -وهو الجزاء- لواقع. ونظير ذلك: افتتاح المرسلات بذلك، بعد ذكر الوعد والوعيد والجزاء في سورة الإنسان2.
سورة الطور
سورة الطور: أقول: وجه وضعها بعد الذاريات: تشابههما في المطلع والمقطع؛ فإن في مطلع كل منهما صفة حال المتقين بقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ} "الذاريات: 15، الطور: 17" الآيات، وفي مقطع كل منهما صفة حال الكفار، بقوله في تلك: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} "الذرايات:60"، وفي هذه: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا} "42"1.
سورة النجم
سورة النجم: أقول: وجه وضعها بعد الطور: أنها شديدة المناسبة لها؛ فإن الطور خُتمت بقوله: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} "الطور: 49"، وافتتحت هذه بقوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} "1". ووجه آخر: [وهو] 2 أن الطور ذكر فيها ذرية المؤمنين، وأنهم تبع لآبائهم3، وهذه فيها ذكر ذرية اليهود4 في قوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ [وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} "32" الآية، فقد أخرج ابن أبي حاتم، وبن المنذر، والواحدي بأسانيدهم عن ثابت بن الحارث الأنصاري، قال: كانت اليهود تقول: إذا هلك صبي صغير هو: صديق، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: $"كذبت يهود، ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمه إلا أنه شقي أو سعيد"، وأنزل الله عند ذلك {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} الآية] 5. ولما قال هناك في المؤمنين: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} "الطور: 21" أي: ما نقصنا الآباء بما أعطينا البنين، مع نفعهم بما عمل آباؤهم، قال هنا في صفة الكفار أو بني الكفار: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} "39" خلاف ما ذكر في المؤمنين الصغار. وهذا وجه بيِّن بديع في المناسبة، من وادي التضاد.
سورة القمر
سورة القمر 1: أقول: لا يخفى ما في توالي هاتين السورتين من حُسْن التناسق [والتناسب] 2 في التسمية؛ لما بين النجم والقمر من الملابسة، ونظيره توالي الشمس والليل والضحى، وقبلها سورة الفجر3. ووجه آخر وهو: أن هذه السورة بعد النجم كالأعراف بعد الأنعام [وكالشعراء بعد الفرقان] 4، وكالصافات بعد يس، في أنها تفصيل لأحوال الأمم المشار إلى إهلاكهم في قوله هناك: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى، وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى، وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} "النجم: 50-53"5.
سورة الرحمن
سورة الرحمن: أقول: لما قال سبحانه وتعالى في آخر القمر: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} "القمر: 46"، ثم وصف حال المجرمين في سقر، وحال المتقين في جنات ونهر، فصَّل هذا الإجمال في هذه السورة أتم تفصيل، على الترتيب الوارد في الإجمال. فبدأ بوصف مرارة الساعة، والإشارة إلى إذهابها1، ثم وصف النار وأهلها2، والجنة وأهلها3؛ ولذا قال [ {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} 41، فلم يقل: "الكافرون" أو نحوه؛ لاتصاله بقوله هناك: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} "القمر: 47"، ثم وصف الجنة وأهلها، وكذا قال] 4 فيهم: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} "46"، وذلك هو عين التقوى5، ولم يقل: [و] 6 لمن آمن وأطاع، أو نحوه؛ لتتوافق الألفاظ في التفصيل والمفصل. وعرف بذلك أن هذه السورة بأسرها شرح لآخر السورة التي قبلها، فلله الحمد على ما ألهم وفهَّم7.
سورة الواقعة
سورة الواقعة: أقول: هذه السورة متآخية مع سورة الرحمن في أن كلًّا منهما في وصف القيامة، والجنة والنار، وانظر إلى اتصال قوله هنا: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} 1 بقوله هناك: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ} "الرحمن: 37"؛ ولهذا اقتصر في الرحمن على ذكر انشقاق السماء، وفي الواقعة على ذكر رجّ الأرض1، فكأن السورتين لتلازمهما واتحادهما سورة واحدة. ولهذا عكس في الترتيب، فذكر في أول هذه السورة ما ذكره في آخر تلك، وفي آخر هذه ما في أول تلك، كما أشرت إليه في سورة آل عمران مع سورة البقرة. فافتتح [في سورة] 2 الرحمن بذكر القرآن، ثم ذكر الشمس والقمر، ثم ذكر النبات، ثم خلق الإنسان، والجان من مارج من نار3، ثم صفة [يوم] 4 القيامة، ثم صفة النار، ثم صفة الجنة. وابتدأ هذه بذكر القيامة ثم صفة الجنة، ثم صفة النار، ثم خلق الإنسان، ثم النبات، ثم الماء، ثم النار، ثم [ذكر] 5 النجوم، ولم يذكرها في الرحمن، كما لم يذكر هنا الشمس والقمر، ثم ذكر القرآن. فكانت هذه السورة كالمقابلة لتلك، وكردِّ العَجُز على الصَّدْر.
سورة الحديد
سورة الحديد: قال بعضهم: وجه اتصالها بالواقعة: أنها بدأت1 بذكر التسبيح، وتلك خُتمت بالأمر به2. قلت: وتمامه: أن أول الحديد واقع موقع العلة للأمر به، وكأنه قيل: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيم} "الواقعة: 96"؛ لأنه {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} "1".
سورة المجادلة
سورة المجادَلة: أقول: لما كان في مطلع الحديد ذكر صفاته الجليلة؛ ومنها: الظاهر والباطن، وقال: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} "الحديد: "4" افتتح هذه بذكر أنه سمع قول المجادِلة التي شكت إليه صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قالت عائشة -رضي الله عنها- حين نزلت: "سبحان الذي وسع سمعه الأصوات، إني لفي ناحية البيت لا أعرف ما تقول"1. وذكر بعد ذلك قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} "7"، وهو تفصيل لإجمال قوله2: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] 3} "الحديد: 4". وبذلك تعرف الحكمة في الفصل بها بين الحديد والحشر، مع تآخيهما في الافتتاح بـ {سَبَّحَ} 4.
سورة الحشر
سورة الحشر: [أقول:] 1 آخر سورة المجادلة نزل فيمن قتل أقرباؤه من الصحابة يوم بدر2، وأول الحشر نازل3 في غزوة بني النضير4، وهي عقبها، وذلك نوع من المناسبة والربط5. وفي آخر تلك: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} "المجادلة: 21"، وفي أول هذه: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} "2". وفي آخر تلك ذكر من حاد الله ورسوله6، وفي أول هذه ذكر من شاق الله ورسوله7.
سورة الممتحنة والصف
سورة الممتحنة والصف ... سورة الممتحنة: أقول: لما كانت سورة الحشر في المعاهَدين من أهل الكتاب عقبت بهذه؛ لاشتمالها على ذكر المعاهَدين من المشركين؛ لأنها نزلت في صلح الحديبية1. ولما ذكر في الحشر موالاة المؤمنين بعضهم بعضًا ثم موالاة الذين [نافقوا الكفار] 2 من أهل الكتاب، افتتح هذه السورة بنهي المؤمنين عن اتخاذ الكفار أولياء؛ لئلا يشابهوا المنافقين في ذلك، وكرر ذلك وبسطه إلى أن ختم به، فكانت في غاية الاتصال؛ ولذلك فصل بها بين الحشر والصف، مع تآخيهما في الافتتاح بـ {سَبَّحَ} 3. سورة الصف: أقول: في سورة الممتحنة ذكر الجهاد في سبيل الله، وبسطه في هذه السورة أبلغ بسط4.
سورة الجمعة
سورة الجمعة: أقول: ظهر لي في وجه اتصالها بما قبلها: أنه تعالى لما ذكر في سورة الصف حال موسى مع قومه، وأذاهم له، ناعيًا عليهم ذلك1، وذكر في هذه السورة حال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفضل أمته؛ تشريفًا لهم؛ ليظهر فضل ما بين الأمتين؛ ولذا لم يعرض فيها لذكر اليهود. وأيضًا لما ذكر2 هناك قول عيسى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} "الصف: 6"، قال هنا: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} "2" إشارة إلى أنه الذي بشر به عيسى، وهذا وجه حسن في الربط. وأيضًا لما ختم تلك السورة بالأمر بالجهاد وسماه تجارة، ختم هذه بالأمر بالجمعة، وأخبر أنها خير من التجارة الدنيوية. وأيضًا فتلك سورة الصف، والصفوف تشرع في موضعين: القتال، والصلاة، فناسب تعقيب سورة صف القتال بسورة صلاة تستلزم الصف ضرورة، وهي الجمعة؛ لأن الجماعة شرط فيها دون سائر الصلوات. فهذه وجوه أربعة فتح الله بها.
سورة المنافقون
سورة المنافقون: أقول: وجه اتصالها بما قبلها: أن سورة الجمعة ذكر فيها المؤمنون، وهذه ذكر فيها أضدادهم، وهم المنافقون؛ ولهذا أخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة يحرض بها المؤمنين، وبسورة المنافقين يفزع بها المنافقين1. وتمام المناسبة: أن السورة التي بعدها فيها ذكر المشركين، والسورة التي قبل الجمعة فيها ذكر أهل الكتاب من اليهود والنصارى2، والتي قبلها وهي الممتحنة فيها ذكر المعاهَدين من المشركين3، والتي قبلها وهي الحشر فيها المعاهدين من أهل الكتاب4؛ فإنها نزلت في بني النضير حين نبذوا العهد وقوتلوا. وبذلك اتضحت المناسبة في ترتيب هذه السور الست هكذا؛ لاشتمالها على أصناف الأمم، وفي الفصل بين المسبحات بغيرها5؛ لأن إيلاء سورة المعاهدين من أهل الكتاب بسورة المعاهدين من المشركين أنسب من ترك ذلك6، وإيلاء سورة المؤمنين بسورة المنافقين أنسب من غيره. فظهر بذلك أن الفصل بين المسبحات التي هي نظائر لحكمة دقيقة من لدن حكيم خبير، فلله الحمد على ما فهم وألهم. هذا وقد ورد عن ابن عباس في ترتيب النزول: أن سورة التغابن نزلت عقب الجمعة7، وتقدم نزول سورة "المنافقون" فما فصل بينهما إلا لحكمة، والله أعلم.
سورة التغابن
سورة التغابن: أقول: لما وقع في آخر سورة المنافقون: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} "المنافقون: 10" الآية، عقب بسورة التغابن؛ لأنه قيل في معناه: إن الإنسان يأتي يوم القيامة، وقد جمع مالًا، ولم يعمل فيه خيرًا، فأخذه وارثه بسهولة، من غير مشقة في جمعه، فأنفقه في وجوه الخير، فالجامع محاسَب معذَّب مع تعبه في جمعه، والوارث منعَّم مثاب، مع سهولة وصوله إليه، وذلك هو التغابن1. فارتباطه بآخر السورة المذكورة في غاية الوضوح؛ ولهذا قال هنا: {وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} "16". وأيضًا ففي آخر تلك: {لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} "المنافقون: 9"، وفي هذه: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} "15"، وهذه الجملة كالتعليل لتلك الجملة؛ ولذا ذكرت على ترتيبها2. وقال بعضهم: لما كانت سورة المنافقون رأس ثلاث وستين سورة، أشير فيها إلى وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} "المنافقون: 11"، وأنه3 مات على رأس ثلاث وستين سنة، وعقبها بالتغابن؛ ليظهر التغابن في فقده صلى الله عليه وسلم4.
سورة الطلاق والتحريم
سورة الطلاق والتحريم ... سورة الطلاق: أقول: لما وقع في [آخر] 1 سورة التغابن: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} "التغابن: 14"، وكانت عداوة الأزواج تفضي إلى الطلاق، وعداوة الأولاد قد تفضي إلى القسوة، وترك الإنفاق عليهم، فعقبت2 ذلك بسورة فيها ذكر أحكام الطلاق، والإنفاق على الأولاد والمطلقات بسببهم. سورة التحريم: أقول: هذه السورة متآخية مع التي قبلها في الافتتاح3 بخطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وتلك مشتملة على طلاق النساء، وهذه على تحريم الإيلاء، وبينهما من المناسبة ما لا يخفى. ولما كانت تلك في خصام نساء الأمة، ذكر في هذه خصومة نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- إعظامًا لمنصبهن أن يذكرن مع سائر النسوة، فأفردن بسورة خاصة؛ ولهذا ختمت بذكر امرأتين في الجنة: آسية امرأة فرعون، ومريم بنة عمران4.
سورة تبارك
سورة تبارك: أقول: ظهر لي بعد الْجُهْد: أنه لما ذكر آخر التحريم امرأتي نوح ولوط الكافرتين، وامرأة فرعون المؤمنة، افتتحت هذه السورة بقوله: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} "2" مرادًا بهما الكفر والإيمان في أحد الأقوال1؛ للإشارة إلى أن الجميع بخلقه وقدرته؛ ولهذا كفرت امرأتا نوح ولوط، ولم ينفعهما اتصالهما بهذين النبيين الكريمين، وآمنت امرأة فرعون، ولم يضرها اتصالها بهذا الجبار العنيد، لما سبق في كل من القضاء والقدر. [ثم ظهر لي] 2 وجه آخر: وهو أن [أول] 3 "تبارك" متصل بقوله في آخر الطلاق: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} "الطلاق: 12"، فزاد ذلك بسطًا في هذه الآية: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} إلى قوله: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} "3-5"، وإنما فصلت بسورة التحريم؛ لأنها كالتتمة لسورة الطلاق4.
سورة ن والحاقة
سورة ن والحاقة ... سورة ن: أقول: لما ذكر سبحانه في آخر [سورة] 1 تبارك التهديد بتغوير الماء2، استظهر عليه في هذه السورة بإذهاب ثمر أصحاب البستان في ليلة بطائف طاف عليه3 وهم نائمون، فأصبحوا لم يجدوا له أثرًا، حتى ظنوا أنهم ضلوا الطريق4، وإذا كان هذا في الثمار وهي أجرام كثيفة، فالماء الذي هو لطيف رقيق أقرب إلى الإذهاب؛ ولهذا قال: {وَهُمْ نَائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} "19، 20"، وقال هناك: {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} "الملك: 30" إشارة إلى أنه يسري عليه في ليلة كما أسري5 على الثمرة في ليلة. سورة الحاقة: أقول: لما وقع في "ن" ذكر يوم القيامة مجملًا في قوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} "القلم: 42" الآية، شرح ذلك في هذه السورة نبأ6 هذا اليوم، وشأنه العظيم7.
سورة سأل ونوح
سورة سأل ونوح ... سورة سأل: أقول: هذه السورة كالتتمة لسورة الحاقة في بقية وصف يوم القيامة والنار1. و [قد] 2 قال ابن عباس: إنها نزلت عقب سورة الحاقة3، وذلك أيضًا من وجوه المناسبة في الوضع. سورة نوح: أقول: أكثر ما ظهر [لي] 4 في وجه اتصالها بما قبلها بعد طول الفكر: أنه سبحانه لما قال في "سأل": {إِنَّا لَقَادِرُونَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ} "المعارج: 40، 41" عقبه بقصة قوم نوح، المشتملة على إغراقهم5 عن آخرهم؛ بحيث لم يبقَ منهم ديار6 وبدل خيرًا منهم [فوقعت موقع الاستدلال والاستظهار لتلك الدعوى، كما وقعت قصة أصحاب الجنة في سورة "ن" موقع الاستدلال والاستظهار] 7 لما ختم به تبارك. هذا مع تآخي مطلع السورتين في ذكر العذاب الموعد به الكافرين8.
سورة الجن والمزمل
سورة الجن والمزمل ... سورة الجن: أقول: قد فكرت مدة في وجه اتصالها بما قبلها، فلم يظهر لي سوى أنه [سبحانه] 1 قال في سورة نوح: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} "نوح: 10، 11"، وقال في هذه السورة [لكفار مكة] 2: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} "16"، وهذا وجه بيِّن في الارتباط3. سورة المزمل: أقول: لا يخفى وجه اتصال أولها: {قُمِ اللَّيْلَ} "2" بقوله في آخر تلك: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} "الجن: 19"، وبقوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} "الجن: 18"4.
سورة المدثر والقيامة
سورة المدثر والقيامة ... سورة المدثر: أقول: هده متآخية مع السورة التي قبلها في الافتتاح بخطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وصدر كليهما نازل في قصة واحدة. وقد ذكر عن ابن عباس في ترتيب نزول السور: أن المدثر نزلت عقب المزمل [كذا] 1 أخرجه ابن الضريس، وأخرجه غيره عن جابر بن زيد2. سورة القيامة: أقول: لما قال سبحانه في آخر المدثر: {كَلَّا بَلْ لا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ} "المدثر: 53" بعد ذكر الجنة والنار، وكان عدم خوفهم إياها لإنكارهم البعث، ذكر في هذه السورة الدليل على البعث [من أوجه] 3، ووصف يوم القيامة، وأهواله، وأحواله، ثم ذكر من قبل ذلك [من خروج الروح من البدن ثم ما قبل ذلك] 4 من مبدأ الخلق، فذكرت الأحوال [الثلاثة] 5 في هذه السورة على عكس ما هي في الواقع.
سورة الإنسان
سورة الإنسان: أقول: وجه اتصالها بسورة القيامة في غاية الوضوح؛ فإنه تعالى ذكر في آخر تلك مبدأ خلق الإنسان من نطفة، ثم ذكر مثل ذلك في مطلع هذه السورة، مفتتحًا بخلق آدم أبي البشر. ولما ذكر هناك خلقه [من نطفة] 1 منهما، قال هنا: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} "القيامة: 39"، ولما ذكر هناك خلقه منهما، قال هنا: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} "2"، فعلق به غير ما علق بالأول، ثم رتب عليه هداية السبيل، وتقسيمه إلى شاكر وكفور، ثم أخذ في جزاء كل. ووجه آخر هو: أنه لما وصف حال يوم القيامة في تلك السورة، ولم يصف فيها حال النار والجنة؛ بل ذكرهما على سبيل الإجمال، فصلهما في هذه السورة، وأطنب في وصف الجنة2، وذلك كله شرح لقوله تعالى هناك: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} "القيامة: 22"، وقوله هنا: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالًا وَسَعِيرًا} "14"، شرح لقوله هناك: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} "القيامة: 25". وقد ذكر هناك: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ، وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} "القيامة: 20، 21"، وذكر هنا في هذه السورة: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} "27"، وهذا من وجوه المناسبة3.
سورة المراسلات
سورة المراسلات ... سورة المرسلات: أقول: وجه اتصالها بما قبلها: أنه تعالى لما أخبر في خاتمتها أنه {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} "الإنسان: 31"، افتتح هذه بالقسم على أن ما يوعدون واقع، فكان ذلك تحقيقًا لما وعد به هناك المؤمنين، وأوعد الظالمين. ثم ذكر وقته وأشراطه بقوله: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} "8" إلى آخره. ويحتمل أن تكون الإشارة بما توعدون1 إلى جميع ما تضمنته السورة من وعيد للكافرين، ووعد للأبرار2.
سورة عم
سورة عم: أقول: وجه اتصالها بما قبلها: تناسبها معها في الجمل؛ ففي المرسلات1: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ، ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} "المرسلات: 16، 17"، {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} "المرسلات: 20"، {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا} "المرسلات: 25" إلى آخره، وفي عم: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} "6" إلى آخره، فذلك نظير تناسب جمل: ألم نشرح، والضحى، بقوله في الضحى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} "الضحى: 6" إلى آخره، وقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَك} "الشرح: 1" مع اشتراك هده السورة والأربع قبلها في الاشتمال على وصف الجنة والنار، ما عدا المدثر في الاشتمال على وصف يوم القيامة وأهواله، وعلى ذكر بدء الخلق، وإقامة الدليل على البعث. وأيضًا في سورة المرسلات: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} "المرسلات: 12-14"، وفي هذه السورة: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا، يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} "17، 18" إلى آخره، فكأن هذه السورة شرح يوم الفصل المجمل ذكره في السورة التي قبلها2.
سورة النازعات وعبس والتكوير
سورة النازعات وعبس والتكوير ... [سورة النازعات: ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها عقب سورة عم، وأولها يشبه أن يكون قسمًا لتحقيق ما في آخر عم، أو ما تضمنته كلها على حد ما تقدم في {وَالْمُرْسَلاتِ} مع {هَلْ أَتَى} ، {وَالذَّارِيَاتِ} مع {ق} ] 1. سورة عبس: أقول: وجه وضعها عقب النازعات مع تآخيهما في المقطع؛ لقوله هناك: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ} "النازعات: 34"، وقوله هنا: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} "33"، وهما من أسماء يوم القيامة2. سورة التكوير: أقول: لما ذكر في [آخر] 3 عبس: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} "عبس: 33، 34" الآيات، ذكر يوم القيامة كأنه رأي عين [شرح حاله في هذه السورة والتي بعدها؛ ولهذا ورد] 4 في لحديث: "من سره أن ينظر يوم القيامة كأنه رأي عين، فليقرأ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} "1" و {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} "الانفطار: 1" و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} 1 "الانشقاق: 5 ".
سورة الانفطار والمطففين
سورة الانفطار والمطففين ... سورة الانفطار: أقول: قد عرف مما ذكرت وجه وضعها هنا، مع زيادة تآخيهما في المقطع1. سورة المطففين: أقول: الفصل بهذه السورة بين الانفطار والانشقاق التي هي نظيرتها من خمسة أوجه: الافتتاح بـ {إِذَا السَّمَاءُ} "الانفطار، الانشقاق"، والتخلص بـ {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَان} "الانفطار، الانشقاق: 6"، وشرح حال يوم القيامة؛ ولهذا ضمت بالحديث السابق، والتناسب في المقدار، وكونها مكية. وهذه السورة مدنية [وأطول منهما] 2، ومفتتحها ومخلَصها غير ما لهما3 لنكتة [لطيفة] 4 ألهمنيها الله، وذلك أن السور الأربع لما كانت في صفة حال يوم القيامة، ذكرت على ترتيب ما يقع فيه. فغالب ما وقع في التكوير، وجميع ما وقع في الانفطار، يقع5 في
صدر يوم القيامة، ثم بعد ذلك يكون الموقف الطويل، ومقاساة العرق والأهوال، فذكره في هذه السورة بقوله: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} "6"؛ ولهذا ورد في الحديث: "يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه" 1. ثم بعد ذلك تحصل الشفاعة العظمى، فتنشر الكتب، فأَخْذٌ باليمين، وأَخْذٌ بالشمال، وأخذ من وراء الظهر، ثم بعد ذلك يقع الحساب. هكذا وردت بهذا الترتيب الأحاديث، فناسب تأخير سورة الانشقاق التي فيها إتيان الكتب والحساب2، عن السورة التي قبلها، والتي فيها ذكر الموقف عن التي فيها مبادئ يوم القيامة. ووجه آخر وهو: أنه جل جلاله لما قال في الانفطار: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ، كِرَامًا كَاتِبِينَ} "الانفطار: 10، 11"، وذلك في الدنيا، ذكر في هذه السورة حال ما يكتبه الحافظان، وهو: كتاب مرقوم جعل3 في عليين، أو في سجين، وذلك أيضًا في الدنيا؛ لكنه عقَّب بالكتابة، إما في يومه، أو بعد الموت في البرزخ كما في الآثار، فهذه حالة ثانية للكتاب4 ذكرت في السورة الثانية. وله حالة ثالثة متأخرة عنها5؛ وهي أخذ صاحبه باليمين أو غيرها، وذلك يوم القيامة، فناسب تأخير السورة التي فيها ذلك، عن
السورة التي فيها الحالة الثانية، وهي الانشقاق، فلله الحمد على ما مَنَّ بالفهم لأسرار كتابه1. ثم رأيت الإمام فخر الدين قال في سورة المطففين أيضًا: اتصال أولها بآخر ما قبلها ظاهر؛ لأنه تعالى بيَّن هناك أن يوم القيامة من صفته [أنه] 2 {لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} "الانفطار: 19" وذلك يقتضي تهديدًا عظيمًا للعصاة؛ فلهذا أتبعه بقوله: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} "11" الآيات3.
سورة الانشقاق والبروج والطارق
سورة الانشقاق والبروج والطارق ... سورة الانشقاق: قد استوفى الكلام فيها في سورة المطففين. سورة البروج والطارق: أقول: هما متآخيتان فقرنتا، وقدمت الأولى لطولها، وذكرا بعد الانشقاق للمؤاخاة في الافتتاح بذكر السماء؛ ولهذا ورد في الحديث ذكر السماوات مرادًا بها السور الأربع1، كما قيل: المسبحات.
سورة الأعلى والغاشية
سورة الأعلى والغاشية ... سورة الأعلى: أقول: في سورة الطارق ذكر خلق [النبات] والإنسان في قوله: {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} 1 "الطارق: 12"، [وقوله: {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِق} إلى {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} "الطارق: 5-8"، وذكره في هذه السورة في قوله: {خَلَقَ فَسَوَّى} "2"، وقوله في النبات: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى، فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} "4، 5"، وقصة النبات في هذه السورة أبسط، كما أن قصة الإنسان هناك أبسط، نعم، ما في هذه السورة أعم من جهة شموله للإنسان وسائر المخلوقات. سورة الغاشية: أقول: لما أشار سبحانه في سورة الأعلى بقوله: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى، وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} إلى قوله: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} "الأعلى: 10-17" إلى المؤمن والكافر، والنار والجنة إجمالًا، فصل ذلك في هذه السورة، فبسط صفة النار والجنة مستندة إلى أهل كل منهما، على نمط ما هنالك؛ ولذا قال [هنا] : {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} "3" في مقابل: {الْأَشْقَى} "الأعلى: 11" [هناك] ، وقال [هنا] : {تَصْلَى نَارًا حَامِيَة} "4" إلى {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوع} "7" في مقابلة {يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} "الأعلى: 12" [هناك] ، ولما قال [هناك] في الآخرة: {خَيْرٌ وَأَبْقَى} "الأعلى: 17" بسط [هنا] صفة أكثر من صفة النار؛ تحقيقًا لمعنى الخيرية.
سورة الفجر والبلد
سورة الفجر والبلد ... سورة الفجر: أقول: لم يظهر لي في1 وجه ارتباطها سوى أن أولها كالإقسام على صحة ما ختم به السورة التي قبلها، من قوله جل جلاله: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} "الغاشية: 25، 26"، وعلى ما تضمنه من الوعد والوعيد، كما أن أول الذاريات قسم على تحقيق ما في "ق"، وأول المرسلات قسم على تحقيق ما في [ {هَلْ أَتَى} وأول {وَالنَّازِعَات} قسم على تحقيق ما في] 2 "عم". هذا مع أن جملة: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} "6" هنا، مشابهة لجملة {أَفَلا يَنْظُرُونَ} "الغاشية: 17" هناك3. سورة البلد: أقول: وجه اتصالها بما قبلها: أنه لما ذم فيها من أحب المال، وأكل4 التراث، ولم يحض على طعام المسكين، ذكر في هذه السورة الخصال التي تطلب من صاحب المال، من فك الرقبة، والإطعام في يوم ذي مسغبة5.
سورة الشمس والليل والضحى
سورة الشمس والليل والضحى: أقول: هذه الثلاثة حسنة التناسق جدًّا؛ لما في مطالعها من المناسبة؛ لما بين الشمس والليل3 والضحى من الملابسة، ومنها سورة الفجر؛ لكن فصلت بسورة البلد لنكتة أهم، كما فصل بين الانفطار والانشقاق، وبين المسبحات؛ لأن مراعاة التناسب بالأسماء والفواتح وترتيب النزول، إنما يكون حيث لا يعارضها ما هو أقوى وآكد في المناسبة. ثم إن سورة الشمس ظاهرة الاتصال بسورة البلد، فإنه سبحانه لما ختمها بذكر أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة، أراد الفريقين في سورة الشمس على سبيل الفَذْلَكَة4، فقوله: [في الشمس] {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} "9" هم أصحاب الميمنة في سورة البلد، وقوله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} "10" [في الشمس] ، هم أصحاب المشأمة في سورة
البلد، فكانت هذه السورة فَذْلَكَة تفصيل تلك السورة؛ ولهذا قال الإمام: المقصود من هذه السورة: الترغيب في الطاعات، والتحذير من المعاصي. ونزيد في سورة الليل: أنها تفصيل إجمال سورة الشمس، فقوله: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} "الليل: 5" وما بعدها، تفصيل {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} "الشمس: 9"، وقوله: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} "الليل: 8" الآيات، تفصيل قوله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} "الشمس: 10". ونزيد في سورة الضحى: أنها متصلة بسورة الليل من وجهين، فإن فيها: {وإن لنا للآخرة والأولى} "الليل: 13"، وفي الضحى: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} "4"، وفي الليل: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} "الليل: 21"، وفي الضحى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} "5". ولما كانت سورة الضحى نازلة في شأنه -صلى الله عليه وسلم- افتتحت بالضحى، الذي هو نور، ولما كانت سورة الليل [نازلة في بخيل في قصة طويلة، افتتحت بالليل الذي هو ظلمة. قال الإمام: سورة الليل] 1 سورة أبي بكر، يعني: ما عدا قصة البخيل2، وكانت سورة الضحى سورة محمد، عقب بها، ولم يجعل بينهما واسطة ليعلم ألا واسطة بين محمد وأبي بكر.
سورة ألم نشرح
سورة {أَلَمْ نَشْرَحْ} : أقول: هي شديدة الاتصال بسورة الضحى؛ لتناسبهما في الجمل؛ ولهذا ذهب بعض السلف إلى أنهما سورة واحدة بلا بسملة بينهما1. قال الإمام: والذي دعاهم إلى ذلك هو: أن قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ} كالعطف على {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} "الضحى: 6" [في الضحى] 2. قلت: وفي حديث الإسراء أن الله تعالى قال: "يا محمد، ألم أجدك يتيمًا فأويت، وضالًّا فهديت، وعائلًا فأغنيت، وشرحت لك صدرك، وحططت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلا ذكرت" الحديث، أخرجه ابن أبي حاتم3، وفي هذا أَوْفَى دليل على اتصال السورتين معنى.
سورة التين
سورة التين: أقول: لما تقدم في سورة الشمس: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} "الشمس: 7" فصل في هذه السورة بقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} "4، 5" إلى آخره. وأخرت هذه السورة لتقدم ما هو أنسب بالتقديم من السور الثلاث1 واتصالها بسورة البلد لقوله: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} "3"، وأخرت لتقدم ما هو أولى بالمناسبة مع سورة الفجر2. لطيفة: نقل الشيخ تاج الدين بن عطاء الله السكندري3 في "لطائف المنن" عن الشيخ أبي العباس المرسي4 قال: قرأت مرة: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} إلى أن انتهيت إلى قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} "4، 5" ففكرت في معنى هذه الآية، فألهمني الله أن معناها5: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم رُوحًا وعقلًا، ثم رددناه أسفل سافلين نفسًا وهوًى6. قلت: فظهر من هذه المناسبة وضعها بعد {أَلَمْ نَشْرَحْ} ، فإن تلك أخبر فيها عن شرح صدر النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك يستدعي كمال عقله ورُوحِه، فكلاهما في القلب الذي محله الصدر، وعن
تبرئته1 من الوِزْر الذي ينشأ عن2 النفس والهوى، وهو معصوم منهما، وعن رفع الذكر؛ حيث نزه مقامه عن كل وصم3. فلما كانت هذه السورة في هذا العلَم الفرد من الإنسان، أعقبها بسورة مشتملة على بقية الأناسي، وذكر ما خامرهم من4 متابعة النفس والهوى.
سورة العلق والقدر
سورة العلق والقدر ... سورة العلق: أقول: لما تقدم في سورة التين بيان خلق الإنسان في أحسن تقويم، بيَّن هنا أنه تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} "2" وذلك ظاهر الاتصال، فالأول بيان العلة الصورية، وهذا بيان العلة المادية1. سورة القدر: قال الخطابي2: لما اجتمع أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- على القرآن، ووضعوا سورة القدر عقب العلق، استدلوا بذلك على أن المراد بهاء الكناية في قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} "1" الإشارة إلى قوله: {اقْرَأْ} "العلق: 1". قال القاضي أبو بكر بن العربي: وهذا بديع جدًّا3.
سورة لم يكن
سورة لم يكن: أقول: هذه السورة واقعة موقع العلة لما قبلها؛ كأنه لما قال سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} "القدر: 1" قيل: لِمَ أنزل؟ فقيل: لأنه لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة، وهو رسول من الله يتلو صحفًا مطهرة، وذلك هو المنزَّل. وقد ثبتت الأحاديث بأنه كان في هذه السورة قرآن نُسخ رسمه وهو: "إنا أنزلنا المال لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو أن لابن آدم واديًا لابتغى إليه الثاني، ولو أن له الثاني لابتغى إليه الثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب"1. وبذلك تشتد المناسبة بين هذه السورة وبين ما قبلها؛ حيث ذكر هناك إنزال القرآن، وهنا إنزال المال، وتكون السورتان تعليلًا2 لما تضمنته سورة اقرأ؛ لأن [في] 3 أولها ذكر العلم، وفي أثنائها ذكر المال، فكأنه قيل: إنا لم ننزل المال للطغيان والاستطالة والفخر؛ بل ليُستعان به على تقوانا، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة4.
سورة الزلزلة
سورة الزلزلة: أقول: لما ذكر في آخر "لم يكن" أن جزاء الكافرين جهنم، وجزاء المؤمنين جنات، فكأنه قيل: متى يكون ذلك؟ فقيل: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} "1" أي: [حين] تكون1 زلزلة الأرض، إلى آخره. هكذا ظهر لي، ثم لما راجعت تفسير الإمام الرازي، ورأيته ذكر نحوه فحمدت2 الله كثيرًا، وعبارته: ذكروا في مناسبة هذه السورة لما قبلها وجوهًا؛ منها: أنه تعالى لما قال: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} "البينة: 8"، فكأن المكلف قال: ومتى يكون ذلك يا رب؟ فقال: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} "1". ومنها: أنه لما ذكر فيها وعيد الكافرين، ووعد المؤمنين، أراد أن يزيد في وعيد الكافرين فقال: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} ونظيره: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} 3 ثم ذكر ما للطائفتين فقال: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} 4 إلى آخره، ثم جمع بينهما هنا في آخر السورة بذكر الذرة من5 الخير والشر. انتهى6.
سورة العاديات والقارعة
سورة العاديات والقارعة ... سورة العاديات: أقول: لا يخفى ما بين قوله في الزلزلة: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} "الزلزلة: 2"، وقوله في هذه السورة: {إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} "9" من المناسبة والعَلاقة1. سورة القارعة: قال الإمام: لما ختم الله سبحانه السورة السابقة بقوله: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} "11" فكأنه قيل: وما ذاك؟ فقال: هي القارعة، قال: وتقديره: ستأتيك القارعة على ما أخبرت عنه في قولي2: {إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} 3 "9".
سورة التكاثر والفيل
سورة التكاثر والفيل ... سورة التكاثر 1: أقول: هذه السورة واقعة موقع العلة لخاتمة ما قبلها؛ كأنه لما قال هناك: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} "القارعة: 9" قيل: لِمَ ذلك؟ فقال: لأنكم {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} "1" فاشتغلتم بدنياكم [عن دينكم] 2، وملأتم موازينكم بالحطام، فخفت موازينكم بالآثام؛ ولهذا عقَّبها بسورة والعصر، المشتملة على أن الإنسان في خسر، بيان لخسارة تجارة الدنيا، وربح3 تجارة الآخرة؛ ولهذا عقَّبها بسورة الهمزة، المتوعَّد فيها مَن {جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ، يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} "الهمزة: 2، 3"، فانظر إلى تلاحم هذه السور الأربع، وحسن اتساقها4. سورة الفيل: [أقول:] 5 ظهر لي في وجه اتصالها بعد الفكرة: أنه تعالى لما ذكر حال الهمزة اللمزة، الذي جمع مالًا وعدَّده، وتعزز بماله وتقوَّى، عقَّب ذلك بذكر قصة أصحاب الفيل، الذين كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالًا وعتوًّا، وقد جعل كيدهم في تضليل، وأهلكهم بأصغر الطير وأضعفه، وجعلهم كعصف مأكول، ولم يغنِ عنهم مالُهم ولا عددُهم6 ولا شوكتُهم ولا فِيلُهُمْ شيئًا. فمن كان قصارى تعززه وتقويه بالمال، وهمز7 الناس بلسانه، أقرب إلى الهلاك، وأدنى إلى الذلة والمهانة.
سورة قريش والماعون
سورة قريش والماعون ... سورة قريش: هي شديدة الاتصال بما قبلها؛ لتعلق الجار والمجرور في أولها بالفعل في آخر تلك؛ ولهذا كانتا في مصحف أبي سورة واحدة1. سورة الماعون 2: أقول: لما ذكر [الله] 3 تعالى في سورة قريش: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} "قريش: 4"، ذكر هنا ذم من لم يحض على طعام المسكين. ولما قال هناك: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} "قريش: 3" ذكر4 هنا من سَهَا عن صلاته5.
سورة الكوثر والكافرون
سورة الكوثر والكافرون ... سورة الكوثر: قال الإمام فخر الدين: هي كالمقابلة للتي قبلها؛ لأن السابقة وصف الله سبحانه فيها المنافقين بأربعة أمور: البخل، وترك الصلاة، والرياء فيها، ومنع الزكاة، وذكر في هذه السورة في مقابلة البخل: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} "1" أي: الخير الكثير، وفي مقابلة ترك الصلاة {فَصَلِّ} "2" أي: دُم عليها، وفي مقابلة الرياء: {لِرَبِّكَ} "2" أي: لرضاه، لا للناس، وفي مقابلة منع الماعون: {وَانْحَرْ} "2" وأراد به: التصدق بلحوم الأضاحي، قال: فاعتبر هذه المناسبة العجيبة1. سورة الكافرون: أقول: وجه اتصالها بما قبلها: أنه تعالى لما قال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} "الكوثر: 2" أمره أن يخاطب الكافرين بأنه لا يعبد إلا ربه، ولا يعبد ما يعبدون، وبالغ في ذلك فكرر، وانفصل منهم على أن لهم دينهم وله دينه.
سورة النصر
سورة النصر: أقول: وجه اتصالها بما قبلها: أنه [لما] 1 قال في آخر ما قبلها: {وَلِيَ دِينِ} "الكافرون: 6" فكان فيه إشعار بأنه خلص له دينه، وسلم من شوائب الكدر2 والمخالفين، فعقَّب ببيان وقت ذلك، وهو مجيء الفتح والنصر، فإن الناس حين3 دخلوا في دين الله أفواجًا، فقد تم4 الأمر وذهب الكفر5، وخلص دين الإسلام ممن كان يناوئه؛ ولذلك كانت السورة إشارة إلى وفاته صلى الله عليه وسلم6. وقال الإمام فخر الدين: كأنه تعالى يقول: لما أمرتك في السورة المتقدمة بمجاهدة جميع الكفار، بالتبري منهم، وإبطال دينهم، جزيتك على ذلك بالنصر والفتح، وتكثير الأتباع7. قال: ووجه آخر؛ وهو: أنه لما أعطاه [الله] 8 الكوثر؛ وهو: الخير الكثير، ناسب تحميله مشقاته وتكاليفه، فعقَّبها بمجاهدة الكفار، والتبري منهم، فلما امتثل ذلك أعقبه بالبشارة بالنصر والفتح، وإقبال الناس أفواجًا إلى دينه، وأشار إلى دنو أجله، فإنه ليس بعد الكمال إلا الزوال. توقع زوالًا إذا قيل تم9
سورة تبت
سورة تبت: قال الإمام: وجه اتصالها بما قبلها: أنه لما قال: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} "الكافرون: 6"، فكأنه قيل: إلهي، وما جزائي؟ فقال الله له: النصر والفتح، فقال: وما جزاء عمي الذي دعاني إلى عبادة الأصنام؟ فقال: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} "1" الآيات. وقدم الوعد على الوعيد ليكون النصر معللًا1 بقوله: {وَلِيَ دِينِ} ، ويكون الوعيد راجعًا إلى قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ} على حد قوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} "آل عمران: 106". قال: فتأمل في هذه المجانسة الحافلة2 بين هذه السور، مع أن سورة النصر من أواخر ما نزل بالمدينة3، والكافرون وتبت من أوائل ما نزل بمكة4؛ ليعلم أن ترتيب هذه السور من الله، وبأمره. قال: ووجه آخر؛ وهو: أنه لما قال: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} "الكافرون: 6" كأنه قيل: يا إلهي، ما جزاء المطيع؟ قال: حصول النصر والفتح، فقيل: وما ثواب العاصي؟ قال: الخسارة في الدنيا، والعقاب في العقبى، كما دلت عليه سورة تبت5.
سورة الإخلاص
سورة الإخلاص: قال بعضهم: وضعت هاهنا للوزان في اللفظ بين فواصلها ومقطع سورة تبت. وأقول: ظهر لي هنا غير الوزان في اللفظ: أن هذه السورة متصلة بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} في المعنى؛ ولهذا قيل: من أسمائها أيضًا الإخلاص، وقد قالوا: إنها اشتملت على التوحيد، وهذه أيضًا مشتملة عليه؛ ولهذا قرن بينهما في القراءة في الفجر، والطواف، والضحى، وسنة المغرب، وصبح المسافر، ومغرب ليلة الجمعة1. وذلك أنه لما نفى عبادة ما يعبدون، صرح هنا بلازم ذلك، وهو أن معبوده أحد2، وأقام الدليل عليه بأنه صمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، ولا يستحق العبادة إلا من كان كذلك، وليس في معبوداتهم ما هو كذلك. وإنما فصل بين النظيرتين بالسورتين3 لما تقدم من الحكمة، وكأن إيلاءها سورة تبت ورد عليه بخصوصه.
سورة الفلق والناس
سورة الفلق والناس: قال: أقول: هاتان السورتان نزلتا1 معًا -كما في الدلائل للبيهقي- فلذلك قُرنتا، مع ما اشتركتا فيه من التسمية بالمعوذتين، ومن الافتتاح بـ {قُلْ أَعُوذُ} ، وعقب بهما سورة الإخلاص؛ لأن الثلاثة سميت في الحديث بالمعوذات وبالقواقل2. وقدمت الفلق على الناس -وإن كانت أقصر منها- لمناسبة مقطعها في الوزان لفواصل الإخلاص مع مقطع تبت3. وهذا آخر ما مَنَّ الله به عليَّ من استخراج مناسبات ترتيب السور، وكله من مستنبطاتي، ولم أعثر فيه على شيء لغيري إلا النزر اليسير الذي صرحت بعزوي له، فلله الحمد على ما ألهم، والشكر على ما مَنَّ به وأنعم، سبحانك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك. ثم رأيت الإمام فخر الدين ذكر في تفسيره4 كلامًا لطيفًا في
مناسبات هذه السور، فقال في سورة الكوثر1: اعلم أن هذه السورة كالمتممة لما قبلها من السور، وكالأصل لما بعدها. أما الأول فلأنه تعالى جعل سورة "الضحى" في مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- وتفصيل أحواله، فذكر في أولها ثلاثة أشياء تتعلق بنبوته: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى، وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} "الضحى: 3-5"، ثم ختمها بثلاثة أحوال من أحواله فيما يتعلق بالدنيا: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} "الضحى: 6-8". ثم ذكر في سورة "ألم نشرح" أنه شرفه بثلاثة أشياء: شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر. ثم شرفه في سورة "التين" بثلاثة أنواع [من التشريف] 2: أقسم ببلده، وأخبر بخلاص أمته من الناس بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} ووصولهم إلي الثواب3 بقوله: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} "التين: 6". وشرَّفه في سورة اقرأ بثلاثة أنواع: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} "العلق"، وقهر خصمه بقوله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ، سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} "العلق: 17، 18"، وتخصيصه بالقرب في قوله: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} "العلق: 19". وشرفه في سورة "القدر" بليلة القدر، وفيها ثلاثة أنواع من الفضيلة: كونها خيرًا من ألف شهر، وتنزل الملائكة والروح فيها، وكونها سلامًا حتى مطلع الفجر.
وشرَّفه في "لم يكن" بثلاثة أشياء: أنهم خير البرية، وجزاؤهم جنات، ورضي عنهم. وشرَّفه في "الزلزلة" بثلاثة أنواع: إخبار الأرض بطاعة أمته، ورؤيتهم أعمالهم، ووصولهم إلى ثوابها حتى وزن الذرة. وشرَّفه في "العاديات" بإقسامه بخيل الغزاة من أمته، ووصفها بثلاث صفات. وشرَّفه في "القارعة" بثقل موازين أمته، وكونهم في عيشة راضية، ورؤيتهم أعداءهم في نار حامية. وفي "ألهاكم التكاثر" هدد المعرضين عن دينه بثلاثة: يرون الجحيم، ثم يرونها عين اليقين، ويسألون عن النعيم. وشرَّفه في "العصر" بمدح أمته بثلاثة: الإيمان، والعمل الصالح، وإرشاد الخلق إليه؛ وهو: التواصي بالحق والصبر. وشرَّفه في سورة "الهمزة" بوعيد عدوه بثلاثة أنواع من العذاب1: ألا ينتفع بدنياه، وينبذ2 في الحطمة، ويغلق عليه. وشرَّفه في سورة "الفيل" أن رد كيد عدوه بثلاث: بأن جعله في تضليل، وأرسل عليهم طيرًا أبابيل، وجعلهم كعصف مأكول. وشرَّفه في سورة "قريش" [بأن راعى مصلحة أسلافه من ثلاثة أوجه] 3: تآلف قومه، وإطعامهم، وأمنهم. وشرَّفه في "الماعون" بذم عدوه بثلاث: الدناءة، واللؤم في قوله:
{فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} "الماعون: 2، 3"، وترك تعظيم الخالق في قوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ} "الماعون: 4-6"، وترك انتفاع1 الخلق في قوله: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} "الماعون: 7". فلما شرَّفه في هذه السور بهذه الوجوه العظيمة قال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أي: هذه الفضائل المتكاثرة المذكورة في هذه السور، التي كل واحدة منها أعظم من ملك الدنيا بحذافيرها، فاشتغل أنت بعبادة ربك، إما بالنفس، وهو قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} "الكوثر: 2"، وإما بالمال وهو قوله: {وَانْحَرْ} ، وإما بإرشاد العباد إلى الأصلح، وهو قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} "الكافرون:1، 2" الآيات، فثبت أن هذه السورة كالتتمَّة لما قبلها. وأما كونها كالأصل لما بعدها فهو: أنه تعالى يأمره بعد هذه أن يكف عن أهل الدنيا جميعًا بقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} إلى آخر السورة، ويبطل أديانهم2، وذلك يقتضي نصرهم على أعدائهم؛ لأن الطعن على الإنسان في دينه أشد عليه من الطعن3 في نفسه وزوجه4، وذلك مما يجبن عنه كل أحد من الخلق؛ فإن موسى وهارون أرسلا إلى فرعون واحد فقالا: {إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} "طه: 45" ومحمد -صلى الله عليه وسلم- مرسَل إلى الخلق جميعًا، فكأن كل واحد من الخلق كفرعون بالنسبة إليه، فدبر الله في إزالة الخوف الشديد تدبيرًا لطيفًا بأن قدم هذه السورة، وأخبر فيها بإعطائه الخير الكثير، ومن
جملته أيضًا: الرئاسة، ومفاتيح الدنيا، فلا يلتفت إلى ما بأيديهم من زهرة الدنيا، وذلك أدعى إلى مجاهرتهم1 بالعداوة، والصدع بالحق؛ لعدم تطلعه إلى ما بأيديهم. ثم ذكر بعد سورة "الكافرين" سورة "النصر"؛ فكأنه تعالى يقول: وعدتك بالخير الكثير، وإتمام أمرك، وأمرتك بإبطال أديانهم، والبراءة من معبوداتهم2، فلما امتثلت أمري أنجزت لك الوعد بالفتح والنصر، وكثرة الأتباع، بدخول الناس في دين الله أفواجًا. ولما تم أمر الدعوة والشريعة، شرع في بيان ما يتعلق بأحوال القلب والباطن؛ وذلك أن الطالب إما أن يكون طلبه مقصورًا على الدنيا، فليس له إلا الذل والخسارة والهوان، والمصير إلى النار، وهو المراد من سورة "تبت"، وإما أن يكون طالبًا للآخرة، فأعظم أحواله أن تصير نفسه كالمرآة التي تنتقش فيها صور الموجودات. وقد ثبت أن طريق3 الخلق في معرفة الصانع على وجهين: منهم من قال: أعرف الصانع، ثم أتوسل بمعرفته إلى معرفة مخلوقاته، وهذا هو الطريق الأشرف، ومنهم من عكس4، وهو طريق الجمهور. ثم إنه سبحانه ختم كتابه المكرم بتلك الطريقة التي هي أشرف، فبدأ بذكر صفات الله، وشرح جلاله في سورة "الإخلاص"، ثم أتبعه بذكر مراتب مخلوقاته في "الفلق"، ثم ختم بذكر مراتب النفس
الإنسانية في "الناس"، وعند ذلك ختم الكتاب. فسبحان مَن أرشد العقول إلى معرفة هذه الأسرار الشريفة [المودَعة] 1 في كتابه المكرم! هذا كلام الإمام2. ثم قال في "الفلق": سمعت بعض العارفين يقول: لما شرح الله سبحانه أمر الإلهية في سورة "الإخلاص"، ذكر هاتين السورتين عقبها في شرح مراتب الخلق على ما قال: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} 3. فعالم الأمر كله خيرات محضة، بريئة عن الشرور والآفات، [و] 4 أما عالم الخلق فهو الأجسام الكثيفة5، والجثمانيات6، فلا جرم قال في المطلع: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} "الفلق: 1، 2". ثم [من الظاهر أن] 7 الأجسام إما أثيرية أو عنصرية، والأجسام8 كلها خيرات محضة؛ لأنها بريئة عن الاختلال9 والفطور، على ما قال: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} "تبارك: 3".
وإما عنصرية، فهي1 إما جمادات، فهي خالية عن جميع القوى النفسانية، فالظلمات فيها خالصة، والأنوار عنها زائلة، وهو المراد من قوله: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} "الفلق: 3". وإما نبات، والقوة العادلة هي التي تزيد في الطول والعمق معًا، فهذه القوة النباتية كأنها تنفث في العقد2. وإما حيوان، وهو محل القوى التي تمنع الروح الإنسانية عن الانصباب إلى عالم الغيب، والاشتغال بقدس جلال الله، وهو المراد بقوله: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} "الفلق: 5". ثم إنه لم يبقَ من السفليات بعد هذه المرتبة سوى النفس الإنسانية، وهى المستعيذة3، فلا يكون مستعاذًا4 منها فلا جرم قطع هذه السورة، وذكر بعدها في سورة "الناس" مراتب ودرجات النفس الإنسانية. انتهى5. ولم يبين المراتب المشار إليها، وقد بيَّنها ابن الزملكاني في أسراره6 فقال: إضافة "رب" إلى "الناس" تُؤْذِنُ بأن المراد بالناس: الأطفال؛ لأن الرب من ربَّه يربُّه، وهم إلى التربية أحوج، وإضافة "ملك" إلى "الناس" تؤذن بإرادة الشباب به؛ إذ لفظ "ملك" يؤذن بالسياسة والعزة [والقوة] 7، والشبان إليها أحوج، وإضافة "إله" إلى "الناس"
تؤذن بأن المراد به الشيوخ؛ لأن ذاته مستحقة للطاعة والعبادة، وهم أقرب، وقوله: {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} "الناس: 5" يؤذن بأن المراد بالناس العلماء والعباد؛ لأن الوسوسة غالبًا عن الشُّبَه1، وقوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} "الناس: 6" يؤذن بأن المراد بالناس الأشرار، وهم شياطين الإنس الذين يوسوسون لهم، والله تعالى أعلم2. تم بحمد الله تعالى وتوفيقه قال مؤلفه -نفعنا الله ببركاته، وأمدنا من نفحاته: فرغت من تأليفه يوم الأحد، الثالث عشر من شعبان سنة ثلاث وثمانين وثمانمائة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
الفهارس الفنية
الفهارس الفنية: فهرس الحديث النبوي والآثار: أعطيت مكان التوراة السبع الطوال ... 44 اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران ... 43-74 أن الأنعام شيعها سبعون ألف ملك ... 84 إن التوراة كلها في خمس عشرة آية ... 103 أن الحواميم نزلت عقب الزمر ... 130 أن الشعراء نزلت ثم طس ... 118 أن المدثر نزلت عقب المزمل ... 149 إن رحمتي سبقت غضبي ... 85 إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ ... 141، 142 أن سورة التغابن نزلت عقب ... 142، 143 أن طه نزلت بعد سورة مريم ... 108 أن يونس نزلت ثم هود ... 96 إنا أنزلنا المال لإقامة الصلاة ... 164 أنه أمرهم أن يتابعوا الطُّوَل ... 41 أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى بالسبع الطوال ... 43، 44 أنه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أوى ... 44 أنه لم نزلت: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} قال اليهود ... 106 أنها عقب سورة عم ... 153 إنهن من العتاق الأُوَل ... 44 البقرة سنام القرآن ... 84 التأمين في آخر سورة البقرة ... 62 سبحان الذي وسع سمعه الأصوات ... 138 الصراط المستقيم كتاب الله ... 55 ضعوا هؤلاء الآيات في السورة ... 89 طرأ عليَّ حزبي من القرآن ... 45 فسطاط القرآن ... 61 قدمتا وألف القرآن على علم ممن ... 46 كان يعرض النبي -صلى الله عليه وسلم- على جبريل ... 42 كذبت اليهود ... 134 كيف تحزبون القرآن ... 45 لما فرغ الله من الخلق وقضى ... 85 ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال ... 88 من سره أن ينظر إلى يوم القيامة ... 153 نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا ... 110 هن من العتاق الأول ... 103 وضع الأنفال وهي قصيرة ... 89 يا محمد ألم أجدك ... 161 يقوم أحدهم في رشحه ... 155
فهرس الأعلام
فهرس الأعلام: "أ" آدم "عليه السلام" 67 - 72 - 86 - 108 - 128 - 150 آسية 144 إبراهيم 59 - 96 - 108 - 109 - 116 - 127 أبي بن كعب 41 - 47 - 48 - 91 - 129 أحمد بن حنبل 44 - 45 - 84 - 88 إسحاق "عليه السلام" 59 - 96 إسماعيل "عليه السلام" 59 - 109 أشتة 41 - 46 إلياس 127 أوس الثقفي 45 أيوب "عليه السلام" 108 - 127 "ب" البخاري 44 - 103 أبو بكر الصديق "رضي الله عنه" 160 أبو بكر "القاضي" 41 - 42 أبو بكر بن الأنباري 42 أبو بكر بن العربي 164 البيضاوي 50 البيهقي 43 - 47 - 49 - 88 "ت" الترمذي 79 - 88 "ث" ثابت بن الحارث 134 "ج" جابر بن زيد 96 - 108 - 118 - 130 - 149 جبريل "عليه السلام" 42 ابن جرير 103 أبو جعفر النحاس 44 أبو جعفر بن الزبير 43 "ح" ابن أبي حاتم 134 - 161 الحاكم 55 - 88 ابن حبان 88 ابن حجر 45 الحسن البصري 49 ابن الحصار 43
"خ" الخضر 106 - 107 الخطابي 163 الخويي 55 "د" داود "عليه السلام" 108 - 118 - 127 أبو داود 45 - 88 "ذ" ذي القرنين 105 - 107 ذي الكفل 108 ذي النون 108 "ر" الرازي "فخر الدين" 49 - 156 - 165 - 169 - 170 - 173 ربيعة 46 "ز" زكريا "عليه السلام" 108 - 109 الزمخشري 49 "س" سعيد بن خالد 43 سليمان "عليه السلام" 108 - 118 - 127 "ش" شعيب "عليه السلام" 116 ابن أبي شيبة 44 "ط" الطبراني 84 - 141 الطيبي 42 - 50 "ع" عائشة "رضي الله عنها" 138 ابن عباس "رضي الله عنه" 46 - 88 - 89 - 96 - 103 - 108 - 118 - 130 - 142 - 147 - 149 - 153 أبو العباس المرسي 162 عثمان بن عفان "رضي الله عنه" 41 - 47 - 88 - 89 - 90 ابن عطاء الله السكندري 162 ابن عطية 43 عيسى "عليه السلام" 67 - 72 - 107 - 108 - 141 "غ" الغزالي 51 "ف" ابن فارس 41 فرعون 94 - 103 - 104 - 119 - 120 - 144 - 145 - 176
ابن الفريس 149 "ك" الكرماني 42 - 130 "ل" لوط "عليه السلام" 108 - 116 - 118 - 127 - 145 "م" مالك 41 مريم بنت عمران 67 - 74 - 109 - 144 ابن مسعود "رضي الله عنه" 44 - 47 - 48 - 55 - 72 - 92 - 103 مسلم 43 ابن المنذر 134 موسى "عليه السلام" 103 - 106 - 107 - 108 - 109 - 116 - 118 - 119 - 127 - 140 - 176 "ن" النجاشي 60 النسائي 88 نوح "عليه السلام" 86 - 95 - 98 - 108 - 116 - 127 - 135 - 145 - 147 "هـ" هارون "عليه السلام" 109 - 116 - 127 - 176 أبو هريرة "رضي الله عنه" 141 "و" الواحدي 134 "ي" يحيى بن زكريا "عليه السلام" 107 - 108 يعقوب "عليه السلام" 59 - 96
فهرس أسماء الكتب
فهرس أسماء الكتب: أسرار التنزيل "قطف الأزهار في كشف الأسرار"، للسيوطي 38، 121 البرهان [في توجيه متشابه القرآن] ، للكرماني 42 الدلائل، للبيهقي 88 خواص القرآن، للغزالي 51 شعبت الإيمان، للبيهقي 49 عجائب القرآن، للكرماني 130 لطائف المنن، لتاج الدين بن عطاء الله السكندري 162 المدحل [إلى السنن الكبرى] ، للبيهقي 43 المصاحف، لابن أشتة 41
فهرس الكتاب
فهرس الكتاب: الصفحة الموضوع 3 تقديم 10 نُبذة عن مصحف عثمان رضي الله عنه 13 عملنا في الكتاب 14 عظمة القرآن ووحدته الموضوعية 36 ترجمة الإمام السيوطي 37 مقدمة المؤلف 41 مقدمة في ترتيب السور 49 سورة الفاتحة 53 سورة البقرة 63 سورة آل عمران 69 سورة النساء 75 سورة المائدة 80 سورة الأنعام 86 سورة الأعراف 88 سورة الأنفال 93 سورة براءة 94 سورة يونس 95 سورة هود 96 سورة يوسف 97 سورة الرعد 98 سورة إبراهيم 99 سورة الحجر 101 سورة النحل 103 سورة بني إسرائيل 105 سورة الكهف 107 سورة مريم 108 سورة طه 110 سورة الأنبياء 111 سورة الحج 111 سورة المؤمنون 112 سورة النور 113 سورة الفرقان 116 سورة الشعراء 118 سورة النمل 119 سورة القصص 120 سورة العنكبوت 121 سورة الروم 122 سورة لقمان 123 سورة السجدة 124 سورة الأحزاب 125 سورة سبأ 125 سورة فاطر 126 سورة يس 127 سورة الصافات 127 سورة ص 128 سورة الزمر 129 سورة غافر 131 سورة القتال 132 سورة الفتح 132 سورة الحجرات 133 سورة الذاريات 133 سورة الطور 134 سورة النجم 135 سورة القمر 136 سورة الرحمن 137 سورة الواقعة 138 سورة الحديد 138 سورة المجادلة 139 سورة الحشر 140 سورة الممتحنة
الصفحة الموضوع 140 سورة الصف 140 سورة الجمعة 141 سورة المنافقون 143 سورة التغابن 144 سورة الطلاق 144 سورة التحريم 145 سورة تبارك 146 سورة ن 146 سورة الحاقة 147 سورة سأل 147 سورة نوح 148 سورة الجن 148 سورة المزمل 149 سورة المدثر 149 سورة القيامة 149 سورة الإنسان 151 سورة المرسلات 152 سورة عم 153 سورة النازعات 153 سورة عبس 153 سورة التكوير 154 سورة الانفطار 154 سورة المطففين 156 سورة الانشقاق 156 سورة البروج والطارق 157 سورة الأعلى 157 سورة الغاشية 158 سورة الفجر 158 سورة البلد 159 سورة الشمس والليل والضحى 161 سورة "ألم نشرح" 161 سورة التين 163 سورة العلق 163 سورة القدر 164 سورة "لم يكن" 165 سورة الزلزلة 166 سورة العاديات 166 سورة القارعة 167 سورة التكاثر 167 سورة الفيل 168 سورة قريش 168 سورة الماعون 169 سورة الكوثر 169 سورة الكافرون 169 سورة النصر 171 سورة تبت 172 سورة الإخلاص 173 سورة الفلق والناس 181 الفهارس الفنية 181 فهرس الحديث النبوي والآثار 182 فهرس الأعلام 185 فهرس أسماء الكتب 186 فهرس الكتاب 188 أهم المصادر والمراجع
أهم المصادر والمراجع
أهم المصادر والمراجع: - القرآن الكريم. - الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي "ومعه إعجاز القرآن، للباقلاني" - بيروت - 1398هـ - 1978م. - أحكام القرآن، لابن العربي - ت: علي محمد البجاوي - القاهرة - 1378هـ - 1958م. - آداب الشيخ الحسن البصري، لابن الجوزي - ت: سليمان الحرش - الرياض - 1414هـ - 1993م. - إرشاد الرحمن في الناسخ والمنسوخ والمتشابه، للأجهوري "مخطوط" الأزهرية. - أسباب النزول، للسيوطي، ت: قرني أبو عميرة - القاهرة. - أسباب النزول، لأبي الحسن النيسابوري - بيروت - 1402هـ - 1982م. - الأمد الأقصى، لأبي زيد الدبوسي "مخطوط" بدار الكتب المصرية. - إنباه الرواة على أنباه النحاة، للقفطي، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم - القاهرة - 1401هـ - 1981م. - الانتصار للقرآن، للباقلاني "صورة خطية" عن مخطوطة قره مصطفى باشا - 6 مكتبة بايزيد في إستانبول. - الأنساب، للسمعاني، ليدن - 1912م. - البدر الطالع. - البرهان في توجيه متشابه القرآن لما فيه من الحجة والبيان "أسرار التكرار في القرآن"، ت: عبد القادر أحمد عطا - القاهرة. - البرهان في علوم القرآن، للزركشي، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم - دار المعرفة - بيروت.
- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، للسيوطي، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم - بيروت. - تاريخ دمشق، لابن عساكر، ت. د/ شكري فيصل وآخرين - دمشق - 1389هـ - 1977م. - التحبير في علم التفسير، للسيوطي، بيروت 1408هـ - 1988م. - التفسير الصحيح "موسوعة الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور"، إعداد: أ. د/ حكمت بن بشير بن ياسين - دار المآثر - المدينة المنورة - 1419 هـ. - تفسير القرآن العظيم مسندًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتابعين، لابن أبي حاتم، ت: أسعد محمد الطيب - مكة المكرمة والرياض - 1417هـ - 1997م. - تفسير القرآن العظيم، لابن كثير - القاهرة - مطبعة التوفيق - القاهرة. - تفسير البيضاوي. - التكملة، لابن الأبار. - تلخيص أخبار النحويين المذكورين في كتاب الإنباه للقفطي، لابن مكتوم "مخطوط" بدار الكتب المصرية. - الجامع لأحكام القرآن الكريم، للقرطبي - الرياض. - جامع البيان، لابن جرير الطبري - بيروت - 1389هـ - 1978م. - حسن المحاضرة، للسيوطي، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم - القاهرة - 1387هـ - 1967م. - حقائق التفسير، لأبي عبد الرحمن السلمي "مخطوط" - دار الكتب المصرية. - خواص القرآن، لأبي حامد الغزالي. - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، للحافظ ابن حجر، ت: محمد سيد جاد الحق - القاهرة - 1385هـ - 1966م. - الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للسيوطي - بيروت - 1403هـ - 1983م.
- دلائل الإعجاز، لعبد القاهر الجرجاني، تعليق: محمود محمد شاكر - القاهرة - 2000م. - دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، للبيهقي، ت: د/ عبد المعطي قلعجي - بيروت - 1405هـ - 1985م. - دليل مخطوطات السيوطي وأماكن وجودها، لأحمد الخازندار، والشيباني - الكويت - 1403هـ - 1983م. - الديباج المذهب، لابن فرحون - "ط" المعاهد - 1351هـ. - سنن الترمذي. - سنن أبي داود. - سنن الدارمي. - سنن النسائي. - سير أعلام النبلاء، للذهبي، ت: مجموعة من الباحثين بإشراف: شعيب الأرناءوط - بيروت - 1401هـ وما بعدها. - سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن هشام. - شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الحنبلي - بيروت. - شرح الكشاف، للطيبي "مخطوط" الأزهرية. - شعب الإيمان، للبيهقي. - صحيح البخاري. - صحيح مسلم. - الضعفاء، للذهبي. - الضعفاء والوضاعون، لابن الجوزي "مخطوط" الأزهرية. - الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع، للسخاوي - القاهرة 1352هـ. - طبقات الشافعية، للسبكي - القاهرة. - طبقات القراء، للجزري.
- طبقات النحويين واللغويين، للزبيدي، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم - القاهرة 1373هـ. - العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، لابن الجوزي "مخطوط" الأزهرية. - العلل الواردة في الأحاديث النبوية، للدارقطني، مراجعة د/ محفوظ الرحمن زين الله السلفي - الرياض - 1405 هـ - 1985م. - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، للشوكاني - بيروت 1250م. - قراءة عبد الله بن مسعود "مكانتها - مصادرها - إحصاؤها"، للأستاذ الدكتور محمد أحمد خاطر "حفظه الله" - القاهرة 1999م. - كتاب المصاحف، لابن أبي داود سليمان السجستاني، نشر: آرثر جفري القاهرة - 1355هـ - 1936م. - الكشاف عن حقائق التنزيل، للزمخشري. - كشف المعاني في المتشابه المثاني، لابن جماعة، ت: مرزوق علي إبراهيم - الرياض - 1420هـ - 1999م. - لطائف المنن، لابن عطاء الله السكندري، ت: الإمام عبد الحليم محمود "رحمه الله" - القاهرة - 1999م. - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للهيثمي. - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية الأندلسي، ت: الرحالي الفاروق، ورفاقه - الدوحة - قطر - 1389هـ - 1977م. - المستدرك على الصحيحين، للحاكم النيسابوري. - مسند الإمام أحمد بن حنبل. - مسند الشهاب، للقضاعي، ت: حمدي عبد المجيد السلفي - بيروت 1407هـ - 1986م. - مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور، لإبراهيم بن عمر البقاعي، ت: د/ عبد السميع محمد أحمد - الرياض - 1408هـ - 1987م.
- المطالب العالية في زوائد المسانيد الثمانية، لابن حجر. - معاني القرآن، للنحاس، ت: محمد علي الصابوني - جامعة أم القرى - مكة المكرمة - 1408هـ - 1988م. - مفاتيح الغيب "المشتهر بالتفسير الكبير"، للإمام الرازي، وبهامشه تفسير العلامة أبي السعود - القاهرة - 1289هـ. - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، لابن تغري بردي - القاهرة - 1386هـ - 1949م. - نظم الدرر في تناسق الآيات والسور، لبرهان الدين إبراهيم البقاعي - بيروت - 1415هـ - 1995م. - نكت الانتصار لنقل القرآن، للباقلاني. - وجيز الكلام في الذيل على دول الإسلام، للسخاوي، ت: بشار عود ورفاقه - بيروت 1416هـ - 1995م. - وفيات الأعيان، لابن خلكان، ت: محمد محيي الدين - القاهرة - 1948م. - يتيمة الدهر، للثعالبي، ت: محمد محيي الدين عبد الحميد - القاهرة - 1956م.