أسرار المحبين في رمضان

محمد حسين يعقوب

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

أسرار المحبين في رمضان جمع وترتيب محمَّد حسين يعقوب مكتبة التقوى مكتبة شوق الآخرة

حقوق الطبع محفوظة 1426 هـ = 2005 م رقم الإيداع / 116978 الترقيم الدولي xx-84 - 6092 - 944 مكتبة سُوق الآخرة هاتف 3287189 - 02 0101657173 دار التقوى للنشر والتوزيع شبرا الخيمة هاتف: 4715506 4731824 - 2231103

مقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإخوتي في الله، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة؛ إني أحبكم في الله، وأسأل الله جل جلاله أن يجمعنا بهذا الحب في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، اللَّهم اجعل عملنا كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحدٍ غيرِك شيئًا.

أحبتي في الله .. أجمل شيءٍ في هذه الدنيا أن يستعملك اللهُ عَزَّ وَجَلَّ في الطاعة، الشعورُ أن الله عَزَّ وَجَلَّ يستعملك في طاعته إحساس رائع يتملكك، حتى إنك لتكاد تشعر أن يدًا حانية تلمس خدك لتدير وجهك وتلفت نظرك إلى ما يرضي ربك، وتشعر بهذه اليد تُمسك بيدك بحنوِّ بالغ فيه قوة؛ لتقودَك وترفعك إلى عبادات وطاعات وقربات لم تكن لك علئ بال، وتستشعر هذه اليدَ حانيةً قويةً دافئةً في ظهرِك تمنعُك من التراجع، وتدفعك إلى المتقدم، تمنعك من السقوط وتُشعرك أنك مسنود. سبحان الملك!!، واللهِ إنه لشعورٌ رائع حقًّا، إحساس الإنسان أنه مدفوعٌ لفعل الخير مشغولٌ به، تتفتحُ أمامه أبوابُ الطاعات وتُيسَّر له وُيعانُ عليها. ولك أن تقارن بين هذا الإنسان وبين آخر كلما اتجه إلى طاعة تعسَّرت عليه وصُرِف عنها، وأينما التفت أخذت قلبَه وعينَه ويده ورجلَه معصيةٌ من المعاصي. قال ابن القيم عليه رحمة الله: "إذا أصبح العبد وأمسى وليس همُّه إلا الله وحده، تحمَّلَ الله سبحانه حوائجه كلَّها، وحمل عنه كل ما أهمَّه، وفرَّغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسى والدنيا همُّه؛ حمَّله الله همومَها وغمومَها وأنكادها!، ووَكَلَهُ إلى نفسه. فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم، فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره، كالكير يَنفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره، فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بُلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] " اهـ (¬1). ¬

_ (¬1) الفوائد (159) ط مكتبة المؤيد، تحقيقه: بشير محمَّد عيون.

فإذا سألت كيف أكون ذاك الأول، وأنجو من ذاك الثاني؛ قلتُ: إن الأمر يحتاج ابتداءً إلى رحمة من الله سبحانه وتعالى، فيجعلك من هؤلاء المرحومين، وينأى بك عن هؤلاء الخاسرين. فإن قلت: ألا من سبيل للأسباب؟ قلت: بلى وارد، يحتاج ابتداءً إلى همةٍ عالية، ونيةٍ صحيحة، فإذا رأى الله عز وجل من عبده صدقَ النية، ووصل إليه من العبد عملٌ علىَّ، أخذ بيده إليه واعتنى به أشد من عناية الأب الشفيق بولده؛ فدبر له الأمور، وأصلح له الأحوال، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 4 - 10]. يقول ابن القيم عليه رحمة الله: "المطلبُ الأعلى موقوفٌ حصولُه على همةٍ عالية ونيةٍ صحيحة، فمن فقدهما تعذر عليه الوصول إليه، فإن الهمة إذا كانت عالية تعلقت به وحده سبحانه دون غيره، وإن كانت النية صحيحة سلك العبدُ الطريقَ الموصلة إليه، فالنية تُفْرِد له الطريق، والهمةُ تُفرِد له المطلوب، فإذا تَوَحَّدَ مطلوبُه والطريقُ الموصلةُ إليه كان الوصول غايتَه. وإذا كانت همته سافلةً تعلقت بالسفليات ولم تتعلق بالمطلب الأعلى، وإذا كانت النيةُ غيرَ صحيحةٍ؛ كانت طريقُهُ غيرَ موصلة إليه؛ فمدار الشأن على همة العبد ونيته وهما مطلوبه وطريقُه، ولا يتم إلا بترك ثلاثة أشياء: الأول: العوائد والرسوم والأوضاع التي أحدثها الناس. الثاني: هجر العوائق التي تعوقه عن إفراد مطلوبه وطريقه وقطعها. الثالث: قطع علائق القلب التي تحول بينه وبين تجريد التعلق بالمطلوب (¬1). ¬

_ (¬1) الفوائد (259).

ظهر لك الآن أيها الحبيب جملة الأسباب المطلوبة: (1) جمعُ الهم، فلا يكونُ همُّكَ إلا رضا الله وحده. (2) همةٌ عالية ونيةٌ صحيحة. (3) هجر العوائد، وقطع العلاثق، وتخطي العوائق. ثم إنك -أيها الحبيب المحب- إن كنت تستشعر ثقلًا، وصعوبة في الأخذ بالأسباب التي ذكرتها لك؛ فإن من رحمة الله بعباده وإكرامه لهم سبحانه أن هيأ لهم فرصًا ومناسبات في أيام زمانهم يكون الوصول فيها أسهل وتصبح الإعاناتُ مجانيةً للجميع، قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]، فهناك مواسم ومناسبات يكون الوصول والدخول على الله سبحانه وتعالى في هذه المواسم بمواهب وهدايا ولطائف في يوم أو ليلة بلمحةٍ خاطفة من خفايا لطفه سبحانه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن لله في أيام الدهر نفحات فتعرضوا لها فلعل أحدكم تصيبه نفحة فلا يشقى بعدها أبدًا" (¬1). من هذه المواسم شهر رمضان المعظم، أنعِم وأكرِم، بيومِ واحدٍ منه. في أولِ ليلة من رمضان تُصَفَّد الشياطين، وتغلق أبواب النيران، وتفتح أبواب الجنان، ويأتي المدد من الله الرحمن، بأن يأمر مناديًا ينادي: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصِر، فإذا بك ترى الاستجابةَ السريعةَ في كل مكان، المساجد امتلأت بالمصلين، وسمعت من النوافذ والأبواب صوت الأذان والقرآن، كثرت الصدقات، وتنوقلت المصاحف، وتنافس الأئمة في ختام القرآن، يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني (19/ 233)، وحسنه الألباني (1890) في "السلسلة الصحيحة".

فإذا بك في ساعة واحدة بمجرد رؤية الهلال ترى ثورة شاملة في حياة المجتمع كله، وتغييرًا عميقًا على كل صعيد. *يا باغي الخير أقبل* فرصة ثمينة نادرة فيها الرحمة والمغفرة ودواعيهما متيسرة، والأعوان عليها كثيرون، وعوامل الفساد محدودة ومردة الشياطين مصفدون، ولله عتقاء في كل ليلة، وأبواب الجنة مفتحة، وأبواب النيران مغلقة، فمن لم تنله الرحمة مع كل ذلك فمتى تناله إذن؟، ولا يهلك علئ الله إلا هالك، ومن لم يكن أهلًا للمغفرة في هذا الموسم ففي أي وقت يتأهل لها، ومن خاض البحر اللُّجاج ولم يَطْهُر فماذا يطهره؟! إذا الروضُ أمسى مُجْدِبًا في ربيعهِ ... ففي أيِّ حينٍ يستنيرُ ويَخصُبُ وقد وضعت هذا الكتاب بين يديك إعانةً على الطاعة، وتحذيرًا من الغفلة، فاغتنم ما فيه واستعن بالله وأعن غيرك، ولن أعدِمَ منك دعوةً صالحة بظهر الغيب كل ليلة من رمضان، أستودعكم الله، وأنا أحبكم في الله. وكتب أبو العلاء محمَّد بن حسين آل يعقوب عفا الله عنه وغفر له ولوالديه وزوجاته وأولاده والمسلمين والمسلمات القاهرة: ليلة الجمعة، السابع والعشرون من رجب 1426هـ 1/ 9/ 2005 م

فضائل رمضان الغنيمة الباردة وفرص لا تعوض

فضائل رمضان الغنيمة الباردة وفرص لا تعوض

فضائل رمضان .. وفرص لا تعوض

فضائل رمضان .. وفرص لا تعوض الحمد لله اللطيفِ الرءوفِ العظيمِ المنان، الكبير القدير الملك الديان، الغني العلي القوي السلطان، الحليم الكريم الرحيم الرحمن، الأول فالسبق لسبقه، المنعم فما قام مخلوق بحقه، الموالي بفضله على جميع خلقه بشرائف المنائح على توالي الزمان، {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. جلَّ عن شريك وولد، وعزَّ عن الاحتياج إلى أحد، وتقدس عن نظير وانفرد، وعلم ما يكون وأوجد ما كان، {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. أنشأ المخلوقات بحكمته وصنَعها، وفرق الأشياء بقدرته وجمعَها، ودَحَا الأرض على الماء وأوسعها، {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}. سالت الجوامد لهيبته ولانت، وذلت الصعاب لسطوته وهانت، وإذا بطش {انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}. *سبحانه* يُعز ويذل، وُيفقر يُغني، ويُسعد وُيشقي، ويُبقي وُيفني، ويُشين ويُزين، وَينقض وَيبني، {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ}. قدر التقدير فلا راد لحكمه، وعَلِمَ سِرَّ العبد وباطنَ عزمِه، {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ}، ولا ينتقل قدمٌ من مكان، {خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}. مَدَّ الأرض فأوسعها بقدرته، وأجرى فيها أنهارها بصنعته، وصبغ ألوان نباته بحكمته، فمن يقدر على صبغ تلك الألوان، {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ

وَالرَّيْحَانُ}، ثبتها بالجبال الرواسي في نواحيها، وأرسل السحاب بمياهٍ تُحييها، وقضى بالفناء على جميع ساكنيها، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}. من خدمه طامعًا في فضله نال، ومن لجأ إليه في رفع كربه زال، ومن عامله أربحه وقد قال: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}. *سبحانه* إلهٌ يثيب عباده ويعاقب، ويهب الفضائل ويمنح المناقب، فالفوزُ للمتقي والعز للمراقب، {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}. أنعم على الأمة بتمام إحسانه، وعاد عليها بفضله وامتنانه، وجعل شهرها هذا مخصوصًا بعميم غفرانه، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}. أحمده على ما خصَّنا فيه من الصيام والقيام، وأشكره على بلوغ الآمال وسبوغ الإنعام، وأشهد أنه الذي لا تحيط به العقول والأذهان {يَسْأَلُهُ مَنْ في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ}. وأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أفضل خلقه وبريته، المقدَّم على الأنبياء ببقاء معجزته، الذي انشق ليلةَ ولادته الإيوان، {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. وعلى أبي بكرٍ رفيقِهِ في الغار، وعلى عمرَ فاتحِ الأمصار، وعلى شهيدِ الدار عثمان، وعلى عليٍّ كاشفِ غَمِّهِ سيدِ الشجعان، {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}. إخوتاه .. جاء شهر الصيام بالبركات، فأكرم به من زائرٍ هو آت، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبشر أصحابه بقدوم رمضان، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبشر أصحابه يقول: "قد جاءكم شهُر رمضان، شهرٌ مبارك كَتَبَ الله عليكم

صيامه، فيه تُفتَحُ أبوابُ الجنان، وتُغلق فيه أبوابُ الجحيم، وتُغَلُّ فيه الشياطين، فيه ليلةٌ خير من ألف شهر، من حُرِم خيرَها فقد حُرِم" (¬1). قال بعض العلماء: هذا الحديث أصلٌ في تهنئة الناس بعضهم بعضًا بشهر رمضان، وكيف لا يبشَّر المؤمن بفتح أبواب الجنان؟!، كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران؟!، كيف لا يبشر العاقل بوقت تغل فيه الشياطين؟!، فمن أين يشبه هذا الزمان زمان!!، وكان بعض السلف يدعو ببلوغ رمضان، فكان إذا دخل رجب يقول: "اللَّهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان". إخوتاه .. جاء رمضان بما فيه من خيرٍ وبركة .. جاء رمضان يحمل البشريات للعاملين .. ويبهج بطيب أيامه قلوب المتقين .. جاء رمضان فرصةً للعابدين .. جاء رمضان ليغسل ذنوب التائبين النادمين .. جاء ليرفع في الجنة درجاتٍ المحبين الصادقين .. جاء رمضان إخوتاه فهل من مشمر؟! .. جاء رمضان فإليكم بعض مناقبه؛ لعلكم تَقْدُرُونَ الضيف قَدْرَه، لعلكم تعرفون مكانته وفضله: أولًا: رمضان هو الشهر الذي اختاره الله واصطفاه ليكون ميقاتًا لنزول كتبه ورسالاته، فهو شهر الصلة بين الأرض والسماء، يُنْزِل اللهُ فيه كلامه، ويخاطب فيه خلقه، ويبث فيه نوره، ويوحي فيه إلى صفوة عباده، فأعْظِم به من شهر، سببُ الخير، ومنبعُ النور، ومنطلقُ الرحمة، ومهبطُ البركة من السماء إلى الأرض، فعن واثلة بن الأسقع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لستٍّ مضَت من رمضان، ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد (2/ 230)، وصححه شعيب الأرنؤوط (7148).

وأنزل الإنجيل لثلاثَ عَشْرةَ مضت من رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشر خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان" (¬1). واختصه الله بصفة أخص بنزول أعظم كتاب لأعظم أمة، اختصه من بين الشهور بذلك فقال جل جلاله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]، فالقرآن العظيم الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور نزل في هذا الشهر العظيم الفضيل، فهل بعد هذه مَنقبَة؟! ثانيًا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قال الله عَزَّ وَجَلَّ: كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لى وأنا أجزي به" (¬2)، استأثر الله سبحانه وتعالى بالصيام لنفسه سبحانه من بين سائر الأعمال، ولهذا قال بعد ذلك: "إنه إنما ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي". قال ابن عبد البر: كفى بقوله: "الصومُ لي" فضلًا للصيام على سائر العبادات، وقد اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: "الصوم لي وأنا أجزي به"، مع أن الأعمال كلَّها له، وهو الذي يجزي بها، على أقوال: أحدِها: أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره، قال القرطبي: لما كانت الأعمال يدخلها الرياء، والصوم لا يطلع عليه بمجرد فعله إلا الله، فأضافه إلى نفسه. وقال أبو عبيد في غريبه: قد علمنا أن أعمال البر كلَّها لله وهو الذي يجزي بها، فنرى والله أعلم أنه إنما خص الصيام؛ لأنه ليس يظهر من ابن آدم بفعله وإنما هو شيءٌ في القلب؛ وذلك لأن الأعمال لا تكون إلا بالحركات، إلا الصوم فإنما هو بالنية التي تخفى على الناس. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4/ 107)، وحسنه الألباني (1509) في "صحيح الجامع". (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري (1850)، مسلم (1151).

وكما هو معلوم أن كل ما نُسب إلى الله عَزَّ وَجَلَّ نال شرفًا بذلك فهو أشرف الأمور، فنسب الله تعالى الكعبة بلى نفسه وهي أشرف الأماكن على الإطلاق، ونسب لنفسه شهر المحرم؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الصيام بعد رمضان صوم شهر الله المحرم" (¬1)، ونسب لنفسه الصوم فدل ذلك على أنه من أفضل الأعمال. قال الحافظ ابن رجب -عليه رحمة الله تعالى: وقد كثر القول في معنى "الصوم لي" وذكروا فيه وجوهًا كثيرة، ومن أحسن ما ذُكِر فيه وجهان: أحدهما: أن الصيام هو مجرد ترك حظوظ النفس وشهواتها الأصلية التي جبلت على الميل إليها لله عَزَّ وَجَلَّ، ولا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصيام؛ لأن الإحرام إنما يُترك فيه الجماع ودواعيه من الطِّيب دون سائر الشهوات من الأكل والشرب، وكذلك الاعتكاف مع أنه تابع للصيام، وأما الصلاة فإنه وإن ترك المصلي فيها جميع الشهوات إلا أن مدتها لا تطول، فلا يجد المصلي فَقْدَ الطعام والشراب في صلاته، بل قد نُهي أن يُصلي ونفسُه تَتُوق إلى طعام بحضرته حتى يتناول منه ما يُسَكِّن نفسه؛ ولهذا أُمر بتقديم العَشَاء على الصلاة. وهذا بخلاف الصيام؛ فإنه يستوعب النهار كله، فيجد الصائم فَقْدَ هذه الشهوات، وتتوق نفسه إليها خصوصًا في نهار الصيف لشدة حرِّه وطوله؛ ولهذا روي أن من خصال الإيمان الصوم في الصيف، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم رمضان في السفر في شدة الحر دون أصحابه، كما قال أبو الدرداء: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان في سفر، وأحدنا يضع يده على رأسه من شدة الحر ¬

_ (¬1) أخرجه: مسلم (1163).

وما فينا صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله بن رواحة، وفي الموطأ أنه - صلى الله عليه وسلم - كان بالعَرج يُصَبُّ الماءُ على رأسه وهو صائم من العطش أو الحر. فإذا اشتد تَوَقان النفس إلى ما تشتهيه مع قدرتها عليه ثم تركته لله عَزَّ وَجَلَّ في موضع لا يَطَّلع عليه إلا الله، كان ذلك دليلًا على صحة الإيمان، فإن الصائم يعلم أن له ربًّا يطلع عليه في خلوته، وقد حَرَّم عليه أن يتناول شهواته المجبول على الميل إليها في الخلوة، فأطاع ربه وامتثل أمره واجتنب نهيه، خوفًا من عقابه ورغبًة في ثوابه، فشَكَرَ اللهُ تعالى له ذلك، واختص لنفسه عمله هذا من بين سائر أعماله؛ ولهذا قال سبحانه بعد ذلك: "إنما ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي". قال بعض السلف: طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره. لما علم المؤمن الصائم أن رضا مولاه في ترك شهواته قَدَّم رضا مولاه على هواه، فصارت لذتُه في ترك شهوته لله لإيمانه باطلاع الله عليه، وإيمانه بثوابه وعقابه، فصار ذلك أعظم من لذته في تناول شهوته في الخلوة إيثارًا لرضا ربه على هوى نفسه، بل المؤمن يكره ذلك في خلوته أشد من كراهته لألم الضرب، ولهذا تجد كثيرًا من المؤمنين لو ضُرب على أن يفطر في شهر رمضان لغير عذر لم يفعل؛ لعلمه كراهة الله لفطره في هذا الشهر. وهذا من علامات الإيمان، أن يكره المؤمن ما يلائمه من شهواته إذا علم أن الله يكرهه، فتصير لذته فيما يرضي مولاه، وإن كان مخالفًا لهواه، ويكون ألمه فيما يكرهه مولاه، وإن كان موافقًا لهواه، إذا كان هذا فيما حُرِّم لعارض الصوم من الطعام والشراب ومباشرة النساء؛ فينبغي أن يتأكد ذلك فيما حرم على الإطلاق، كالزنا وشرب الخمر وأخذ الأموال أو الأعراض بغير حق، وسفك الدماء المحرمة؛ فإن هذا يُسْخِط الله على كل حال وفي كل زمان ومكان.

فإذا كَمُل إيمان المؤمن كره ذلك كلَّه أعظم من كراهته للقتل والضرب؛ ولهذا جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - من علامات وجود حلاوة الإيمان: "أن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله كما يكره أن يُلقى في النار" (¬1)، وقال الله سبحانه وتعالى عن يوسف عليه السلام: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33]. سئل ذو النون المصري: متى أحبُّ ربي؟، قال: إذا كان ما يكرهه أَمَرُّ عندك من الصبر، وقال غيره: ليس من أعلام المحبة أن تحب ما يكرهه حبيبك، وكثيرٌ من الناس يمشي على العوائد دون ما يوجبه الإيمان ويقتضيه؛ فلهذا كثيرٌ منهم لو ضُرِبَ ما أفطر في رمضان لغير عذر، ومن الجهال من لا يفطر لعذر ولو تضرر بالصوم جريًا على العادة، مع أن الله يحب منه أن يقبل رخصته، وقد اعتاد مع ذلك ما حرم اللهُ من الزنا وشرب الخمر وأخذ الأموال والأعراض أو الدماء بغير حق، فهذا يجري على عوائده في ذلك كله، لا على مقتضى الإيمان. ومن عَمِلَ بمقتضى الإيمان صارت لذتُهُ في مصابرة نفسه عمَّا تميل نفسه إليه إذا كان فيه سخط الله، وربما يرتقي إلى أن يكره جميع ما يكرهه الله منه، وينفر منه وإن كان ملائمًا للنفوس كما قيل: إنْ كانَ رضاكمْ في سَهَرِي ... فسلامُ اللهِ عَلى وَسَنِي وقال الآخر: عذابُهُ فيكَ عَذْبُ ... وبُعْدُهُ فيكَ قُربُ وأنتَ عِندى كرُوحِي ... بلْ أنتَ منها أَحَبُّ حَسبيِ مِنَ الحبِّ أنِّي ... لِمَا تُحِبُّ أحِبُّ ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (5694)، ومسلم (43).

الوجه الثاني: أن الصيام سرٌّ بين العبد وربه لا يطلع عليه غيره؛ لأنه مُركب من نية باطنة، لا يطلع عليها إلا الله، وتَرْكٌ لتناول الشهوات التي يُسْتَخفى بتناولها في العادة؛ ولذلك قيل: لا تكتبه الحفظة، وقيل: إنه ليس فيه رياء، فإن من ترك ما تدعوه نفسه إليه لله عَزَّ وَجَلَّ حيث لا يطلع عليه غيرُ من أمره. أو نهاه؛ دل ذلك على صحة إيمانه. والله تعالى يحب من عباده أن يعاملوه سِرًّا بينهم وبينه، وأهل محبته يحبون أن يعاملوه سِرَّا بينهم وبينه، بحيث لا يطلع على معاملتهم إياه سواه؛ حتى كان بعضهم يود لو تمكن من عبادةٍ لا تشعر بها الملائكةُ الحفظةُ. وقال بعضهم لما اطُّلِعَ على بعض سرائره، إنما كانت تطيب الحياة لمَّا كانت المعاملة بيني وبينه سرًّا، ثم دعا لنفسه بالموت، فمات. المحبون يغارون من اطلاع الأغيار على الأسرار التي بينهم وبين من يحبهم ويحبونه. وقوله: "ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي"، فيه إشارة إلى المعنى الذي ذكرناه، وأن الصائم يتقرب إلى الله بترك ما تشتهيه نفسه من الطعام والشراب والنكاح، وهذه أعظم شهوات النفس، وفي التقرب بترك هذه الشهوات بالصيام فوائد منها: (أ) كسر النفس؛ فإن الشِّبَع والرِّي ومباشرة النساء تحمل النفس على الأَشَر والبَطَر والغفلة. (ب) تُخَلِّي القلب للفكر والذكر؛ فإن تناول هذه الشهوات قد تُقسِّي القلب وتُغمِيه، وتحولُ بين العبد وبين الذكر والفكر، وتستدعي الغفلة. وخلو الباطن من الطعام والشراب ينوِّر القلب ويوجب رقَّته وُيزيل قسوته ويخلِّيه للذكر والفكر.

(جـ) أن الغنيَّ يعرف قدر سعة الله عليه؛ بإقداره له على ما منعه كثيرًا من الفقراء من فضول الطعام والشراب والنكاح؛ فإنه بامتناعه من ذلك في وقت مخصوص، وحصول المشقة له بذلك يتذكر به من مُنِع من ذلك على الإطلاق؛ فيوجب له ذلك شكر نعمة الله عليه بالغنى، ويدعوه إلى رحمة أخيه المحتاج ومواساته بما يمكن من ذلك. (د) أن الصيام يضيِّق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فتَسْكُن بالصيامِ وساوسُ الشيطان، وتنكسر سَوْرَةُ الشهوة والغضب؛ ولهذا جعل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصومَ وِجاءً؛ لِقَطْعِه شهوةَ النكاح. إشارة مهمة: واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله تعالى بترك هذه الشهوات المباحة في غير حالة الصيام إلا بعد التقرب إليه بترك ما حَرَّم في كل حال، من الكذب، والظلم، والعدوان على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم؛ ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من لم يَدَعْ قولَ الزور، فليس لله حاجةٌ في أن يدعَ طعامه وشرابه" (¬1)، في حديث آخر: "ليس الصيام من الطعام والشراب؛ إنما الصيام من اللغو والرفث" (¬2)، وقال بعض السلف: أهون الصيام ترك الشراب والطعام، وقال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقارٌ وسكينةٌ يومَ صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رُبَّ صائمٍ حظُّهُ من الصيام الجوعُ والعطش، ورُبَّ قائمٍ حظُّهُ من القيام السهر" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1804). (¬2) أخرجه ابن خزيمة (2/ 242)، وصححه الألباني (5376) في "صحيح الجامع". (¬3) أحمد (2/ 373)، وصححه الألباني (759) في "صحيح الجامع".

وسِرُّ هذا: أن التقرب إلى الله تعالى بترك المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات، فمن ارتكب المحرمات ثم تقرب إلى الله تعالى بترك المباحات كان بمثابة من يترك الفرائض ويتقرب بالنوافل، وإن كان صومه مجزئًا عند الجمهور بحيث لا يؤمرُ بإعادته؛ لأن العمل إنما يبطل بارتكاب ما نهي عنه فيه لخصوضه دون ارتكاب ما نهي عنه لغير معنى يختص به" اهـ كلام ابن رجب. ولهذا المعنى والله أعلم ورد في القرآن بعد ذكر تحريم الطعام والشراب على الصائم بالنهار، ذكر تحريم أكل أموال الناس بالباطل، فإن تحريم هذا عامُّ في كل زمان ومكان بخلاف الطعام والشراب، فكان إشارةً إلى أنَّ من امتثل أمر الله تعالى في اجتناب الطعام والشراب في نهار صومه، فليمتثل أمره في اجتناب أكل أموال الناس بالباطل فإنه محرم على كل حال، لا يُباح في وقت من الأوقات. ثالثًا: المنقبة الثالثة من مناقب رمضان: فيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، هذه من بركات الله سبحانه ورحماته وإكرامه لهذه الأمة فنحن أمة مرحومة، لَمَّا كانت هذه الأمة تتراوح أعمارها بين الستين والسبعين وقليلٌ منهم من يجاوز ذلك، أعطاها الله البركة في الأعمال، فالحسنة بعشر أمثالها، وقراءة حرف من القرآن بعشر حسنات، وليلة القدر في رمضان خير من ألف شهر .. هل تأملت هذا المعنى: خيرٌ من ألف شهر؟!، فوالله لا يُحرمُ خيرَها إلا محروم مخذول، وقيامها فيه غفران ما تقدم من الذنوب؛ فيالها من نعمة على المؤمنين سابغة. تأمل معي: أنك لو قمت ثلاثينَ أو أربعينَ ليلةَ قَدْرٍ، كل ليلة ببضع وثمانين سنة؛ لصار عمرك أكثر من ثلاثة آلاف سنة، سبحان الملك!!، اللَّهم زدنا من بركاتك، اللَّهم وفقنا لقيام ليلة القدر ولا تحرمنا أجرها.

رابعًا: تُفتح فيه أبواب الجنة وتُغلق فيه أبواب النار .. أخي في الله .. حبيبي في الله .. هل استشعرت هذا المعنى أيضًا: أن أبواب الجنة تكون مفتحة لطلابها وتغلق فيه أبواب الجحيم، وليست هذه المَنقبة لشهر آخر من المشهور، فاعرف شرف الشهر العظيم .. ولست أدري إن لم تدخل الجنة وهي مفتحة الأبواب متى تدخلها؟، وإذا كنت لا تنصرف عن النار وهي موصدة الأبواب، وترجع راغبًا عنها فمتى تنصرف؟! .. عفا الله عني وعنك. خامسًا: في رمضان تُسلسل الشياطين .. تُغلُّ مردة الجن .. تصير فيه الشياطين مكبلة مقيدة تثبتها الأغلال وتعرقلها القيود، وكل هذا لتنطلق النفس حرةً طليقة في أجواء العبودية لله جل جلاله، فماذا يمنعك من أن تكون رجلًا بذولًا فيه للخير وقد قُيدت الشياطين؟! هكذا أزيلت حجتك، وأبطلت أعذارك، وأزيلت معوقاتك؛ فلا شيطان يوسوس لك، ولا ماردًا يحاربك ويحجبك؛ إنما هي نفسك الأمارة وتسويلها بالسوء، أقبل وتخلص من سلطانها، كفانا الله وإياك شرها. سادسًا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صُفدت الشياطين ومردة الجن وفلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر" (¬1) .. من أراد الطاعة في هذا الشهر الكريم فسبيلها سهلٌ ميسور، فأقبل بكل عزيمتك .. بادر بكل أشواقك .. ومن أراد معصية الله في هذا الشهر نودي: كُفَّ عن عصيانك واحذر .. يا باغي الخير أقبل .. فإنك معان موفق مسدد .. ويا باغي الشر أقصر- فإنك مخذول مكروه منبوذ مطرود .. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (682)، وصححه الألباني (759) في "صحيح الجامع".

سابعًا: جماعية الطاعة في رمضان تبعث في النفس نشاطًا وثباتًا؛ فالناس كلهم صائمون، ويجتمعون في صلاة التراويح، والنفس من عادتها أنها تنشط عند المشاركة وتغتر بالكثرة الكاثرة؛ ولذلك تَثَبَّت كعبُ بن مالك - رضي الله عنه - عنه في قصة توبته بعد ما ضغط عليه أهله حتى كاد يعود فيُكَذِّب نفسه، تَثَبثَّ لما علم برجلين صالحين شهدا بدرًا أصابهم ما أصابه، وكذلك قال موسى عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} [طه: 29 - 34]، هكذا يشتد أزرك في العبادة بكثرة المشاركين لك فيها، فانطلق واعبد وستجد لك أعوانًا ومحبين، فتستفيد ويُستفاد منك. ولذلك يعتبر رمضان ثورة عبادية شاملة، فتجد من بركته إقبال الناس على الخير .. وبحث الناس عن الخير .. تميل القلوب إلى الدين .. وتُقبِل نحو المساجد، فيا دعاة الإِسلام .. يا ورثة الأنبياء هذه فرصتكم فاغتنموها .. لا تضيعوا هذه الفرصة من أيديكم ودلوا الناس على الله .. عرفوا الناس دينهم، فإنهم في هذا الشهر مهيئُون للاستجابة السريعة؛ فاغتنم دعوتهم واكسب أجرهم .. ثامنًا: في رمضان تجتمع أمهات الطاعات .. فالصلاة والصيام وزكاة الفطر فيه فرائض واجبة، ثم هناك تلاوة القرآن .. والذكر .. والدعاء .. والصدقة .. والعمرة .. وإطعام الطعام .. من المستحبات المؤكدات، وحصول هذه الطاعات وغيرها في هذا الشهر يجعله بمثابة توبة أمة؛ ولكن أين المشمرون لاستغلال الفرص؟! تاسعًا: في رمضان أسباب كثيرة لغفران الذنوب والعتق من النار، قال

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" (¬3). خذ هذه الغنيمة البادرة ثلاث فرص في شهر لمغفرة ما تقدم من ذنبك. ثلاث فرص لتتطهر من ماضيك وتبدأ صفحة جديدة على بياض. يالها من فرصة لو كنت رجلًا .. عاشرًا: ثم أيضًا فرصة لتدخل في زمرة الأكابر، جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليتُ الصلوات الخمس، وأديتُ الزكاة، وصمت رمضان وقمتُه، فممَّنْ أنا؟، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من الصدِّيقين والشهداء" (¬4)، سبحان الملك!، أمامك فرصة لتكون ممن قال الله فيهم: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]:، سبحان الله العظيم!، غنيمةٌ واللهِ باردة، وفرصٌ واللهِ لا تُعوض، سبحان الملك!، كم فرصة في الشهر للمغفرة والعتق، بل كم فرصة كل ليلة، حقًّا يا ويلهُ من فاتته تلك الفرص أو أضاعها. وعن جابر بن سَمُرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتاني جبريل فقال: يا محمَّد، من أدرك أَحَدَ والديه فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين، قال: يا محمَّد، من أدرك شهر رمضان فمات ولم يغفر الله ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (38)، ومسلم (760). (¬2) متفق عليه، البخاري (37)، ومسلم (759). (¬3) متفق عليه، البخاري (35)، ومسلم (760). (¬4) أخرجه ابن حبان (8/ 223)، وصححه الألباني (993) في "صحيح الترغيب والترهيب".

فدخل الناو فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين، قال: ومن ذُكرت عنده فلم يصلِّ عليك فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، قلت: آمين" (¬1). الحادي عشر: سُنَّة الاعتكاف في رمضان تعد بمثابهّ غرفة عناية مركزة، لاستئصال سرطان الذنوب من القلوب .. تعتبر بيئة معقمة بعيدة عن شوائب الدنيا وأدرانها، وكان حبيبنا ونبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الأواخر من رمضان، وفي العام الذي تُوفِّىَ فيه اعتكف عشرين يومًا ولما فاته الاعتكاف مرة قضاه فاعتكف العشر الأول من شوال، وفعله هذا يُنبيك عن أهمية هذه العبادة، وحرصه - صلى الله عليه وسلم - عليها يدفعك لأن تحرص عليها. وفي الاعتكاف خَلوة، وقطع التعلق بالبشر، والتخلص من سموم المخالطة، وفوائد أخرى عظيمة منها جمع الهم على الله، وجمع شمل القلب بعد تشتته، وتغيير الطباع البشرية في العادات من الأكل والشرب والنوم، وقضاء الحاجة والوجوه المخالطة، وفي كل هذا فوافد نفيسة لمن استحضرها واستجمعها واستفاد منها فأقبل، واستعن بالله ولا تعجز، اعتكف ولا تهمل، اخسر شيئًا من الدنيا واكسب الآخرة، واعلم أن كل هذه الطاعات والعبادات سبيل لنزرل رحمة الله جل جلاله، فتعرَّض لرحمة الله عساك أن ترحم، اللهم ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين. الثاني عشر: لله في كل ليلة من هذا الشهو عتقاء من النار؛ فكن منهم تسعد في الدنيا والآخرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لله عند كل فطر عتقاء" (¬2). أخي الحبيب .. هل تعرف معنى هذه الجملة؟ (اللَّهم أعتق رقابنا من النار) برغم أنها تتكرر كثيرًا على الألسنة، إلا أننا لم نتدبر معناها جيدًا كما ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان (409)، وصححه الألباني (75) في "صحيح الجامع". (¬2) أخرجه أحمد (5/ 256)، وصححه الألباني (2170) في "صحيح الجامع".

ينبغي، لك أن تتصور في معنى العتق قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد: 13 - 15]. ركز جيدًا على قوله تعالى: {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، تفهم حينئذ أن العتق هو الخروج من هذه الولاية، ألا تكون النار مولاك، وفي الآيات الأخرى: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، فالعتق: التخلي عن هذا المِلْك، ملكية النار للإنسان، سبحان الملك العظيم، أدركت الخطر المُدْلَهِم الذي تنجو منه بالعِتق، اللهم أعتق رقابنا من النار .. اللَّهم اجعلنا من عتقائك من النار ومن المرحومين، هذه فرصة عظيمة في هذا الشهر، فكاكُك من النار. الثالث عشر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن لله عتقاء في كل يوم وليلة لكل عبدٍ منهم دعوةٌ مستجابة" (¬1)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثٌ لا تُرد دعوتهم وذكر منهم "الصائم حتى يفطر" (¬2)، أخي: هل لك إلى الله حاجة؟ أبشر .. مسموحٌ لك في ثلاثين حاجة، سبحان الله العظيم!، كم يشتهي الإنسان أشياء تُقْضَى بدعوةٍ عند الإفطار لأن قبل الأفطار في آخر النهار يكون الإنسان في أحسن حالات استشعار الانكسار، وإظهار الافتقار، ومَدِّ يد الضراعة، وبظهور الذل والحاجة، يستجيب الله دعاء الصائم المسكين. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 254)، وصححه الألباني (169) في "صحيح الجامع". (¬2) أخرجه أحمد (2/ 304)، وصححه الألباني (3030) في "صحيح الجامع".

اغتنم الفرصة واستعد قبل الغروب بتجهيز كشف المطالب والتبرؤ من العيوب، واجعل لنا نصيبًا في دعائك أيها الحبيب المحبوب، ولا تنس أن تجعل من دعائك دعاءً للأمة جميعًا أن يفرج الله عنها جميع الكروب. الرابع عشر: الصيام يشفع لأهله يوم القيامة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: أي رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه؛ فيشفعان" (¬1)، يقول الله تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [النساء: 109]، يحتاج الإنسان يوم القيامة إلى وكيل يدافع عنه، وشفيع يشفع له في مدلهمات هذا اليوم العظيم، فإذا وجد هذا الشفيع المُشَفَّع كانت قمة السعادة، فاحرص أن يعرفك الصيام ويعرفك رمضان، ويعرفك القرآن، ويعرفك الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فيجتمع لك الشفعاء، فتكون النجاة بفضل الله. الخامس عشر: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه" (¬2)، وكم يشتهي الإنسان في هذا الزمان وسط الحزن والنكد، والهم والألم فرحةً تُسعِد قلبَه، وينشرح لها صدرُه؛ فإذا به عند الإفطار يجد فرحةً عظيمةً بثها الله في قلبه، فأما فرحة الصائم عند فطره، فإن النفوس مجبولة على الميل إلى ما يلائمها من مطعم ومشرب ومنكح، فإذا مُنِعت من ذلك في وقت من الأوقات، ثم أبيح لها في وقت آخر؛ فرحت بإباحة ما منعت منه، خصوصًا عند اشتداد الحاجة إليه؛ فإن النفوس تفرح بذلك طَبْعًا، فإن كان ذلك محبوبًا لله كان محبوبًا شرعًا. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 174)، وصححه الألباني (3882) في صحيح الجامع". (¬2) أخرجه البخاري (1805).

وأما فرحته عند لقاء ربه فبما يجده عند الله من ثواب الصيام مُدَّخَرًا، فيجده أحوج ما كان إليه، كما قال الله تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20]، وقال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} [آل عمران: 30]، وقال سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]. ومن أهم مميزات الصيام أنه لا يحبط بالقصاص في أداء مظالم العباد. قال سفيان بن عيينة -رحمه الله: فإذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله حتى لا يبقى إلا الصوم، فيتحمل الله عز وجل ما بقي عليه من المظالم ويدخله بالصوم الجنة. الصيام لله عَزَّ وَجَلَّ، فلا سبيل لأحد إلى أَخْذِ أجرِك من الصيام، بل أَجرُك مُدَّخَر لك عند الله عَزَّ وَجَلَّ، وحينئذ فقد يقال: إن سائر الأعمال قد يكفر بها ذنوب صاحبها، فلا يبقى لها أثر، فإنه روي أنه يوازن يوم القيامة بين الحسنات والسيئات ويقتص بعضها من بعض، فإن بقي من الحسنات حسنة دخل بها صاحبها إلى الجنة، فيحتمل أن يق الذي الصوم: إنه لا يسقط ثوابه بمقاصة ولا غيرها، بل يوفر أجره لصاحبه حتى يدخل الجنة فيوفى أجره فيها. قال سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]. السادس عشر: رمضان شهر التقوى: قال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد": "لما كان المقصودُ من الصيام حبسَ النفس عن الشهوات، وفطامَها عن المألوفات، وتعديلَ قوتها الشهوانية لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حِدَّتها وسَوْرتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضييق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وتحُبْسَ قوى الأعضاء عن

استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها، ويسكن كل عضو وكل قوة عن جماحه، وتُلجم بلجامه، فهو لجامُ المتقين، وجُنَّةُ المحاربين، ورياضةُ الأبرار والمقربين، وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال. فإن الصائم لا يفعل شيئًا، وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده، وهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثارًا لمحبة الله ومرضاته، وهو سرٌّ بين العبد وربه لا يطلع عليه سواه، والعباد قد يَطَّلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده؛ فهو أمرٌ لا يطلع عليه بشر، وذلك حقيقة الصوم. وللصوم تأثيرٌ عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحِمْيتُها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة، التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها؛ فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] " اهـ. بعد هذا الكلام المتين لابن القيم في ذكر أسرار الصيام؛ علمت أن المقصود الأعظم من الصيام التقوى، وهي الدرة المفقددة والغاية المنشودة، وفرصتك في تحصيلها في هذا الشهر أعظم، فبادر والله المستعان. وقفة بعد هذه الفوائد والمناقب والتحف والطرائف لفضائل شهر رمضان المعظم؛ لابد من وقفة: هل تحصيلها بمجرد ترك الطعام والشهوة من الفجر إلى المغرب أم أن لذلك شروطًا أُخَرَ؟

وهنا أقول لك -أيها الحبيب المحب-: إن حقيقة وسر الصيام المطلوب ليست أمرًا شكليًّا يُؤدى كيفما اتفق؛ ولكن هناك أسرار لهذه العبادة العظيمة لا بد من معرفتها وإتقانها علمًا وعملًا، ثم هناك مراتب للصائمين .. ليسوا سواء .. وإنما تتفاوت الأعمال بقدر ما تتفاوت الهمم وأحوال القلوب: قال الحافظ ابن حجر: نقل ابن العربي عن بعض الزهاد أن الصوم على أربعة أنواع: *صيام العوام: وهو الصوم عن الأكل والشرب والجماع. *وصيام خواص العوام: وهو هذا مع اجتناب المحرمات من قول أو فعل. * وصيام الخواص: وهو الصوم عن غير ذكر الله وعبادته. * وصيام خواص الخواص: وهو الصوم عن غير الله، فلا فطر لهم إلى يوم القيامة، وهذا مقامٌ عالٍ. وقال ابن الجوزي: الصوم ثلاثة: صوم الروح وهو قِصَرُ الأمل، وصومُ العقل وهو مخالفة الهوى، وصومُ الجوارح وهو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع. وقال: وما من جارحة في بدن الإنسان إلا ويلزمها الصوم في رمضان وغير رمضان، فصوم اللسان: ترك الكلام إلا في ذكر الله تعالى، وصوم السمع: ترك الإصغاء إلى الباطل وإلى ما لا يحل سماعه، وصيام العينين: ترك النظر والغض عن محارم الله. فيا أخي .. يا من طالت غيبته عن الله أبشر .. أبشر يا من دامت خسارته طول العام؛

فقد أقبلت التجارة الرابحة، من لم يربح في رمضان متى يربح، من لم يتب فيه إلى مولاه؛ فهو على بُعْدِهِ لا يبرح. كم يُنَادي: حي على الفلاح وأنت خاسر، كم تدعى إلى الصلاح وأنت على الفساد مثابر، إذا رمضانُ أتى مقبلًا فأَقْبِل فبالخير يُستقبَل، لعلك تخطئه قابلًا وتأتي بَعْدُ فلا تُقبل. إخوتاه .. من يضمن أن يعيش إلى رمضان؟!، كم من آمل أن يصوم هذا الشهر فخانه أملُه؛ فصار قبله إلى ظلمة القبر! كم مستقبلٍ يومًا لا يستكمله، ومؤمِّلٍ غدًا لا يدركه!! إِخوتاه .. تالله لو قيل لأهل القبور تمنوا لتمنوا يومًا من رمضان .. قيل: الشهور الاثنا عشر كمثل أولاد يعقوب عليه السلام، وشهر رمضان بين الشهور كيوسف بين إخوته، فكما أن يوسف أحب الأولاد إلى يعقوب، كذلك رمضان أحب الشهور إلى علام الغيوب. إن كان في يوسف من الحلم والعفو ما غمر جفاهم حين قال: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف: 92]؛ فذلك شهر رمضان فيه من الرأفة والبركات والنعمة والخيرات، والعتق من النار، والغفران من الملك القهار، ما يغلب جميع الشهور. جاء إخوة يوسف معتمدين عليه في سد الخلل، وإزاحة العلل بعد أن كانوا خطايا زلل، فأحسن لهم الإنزال، واْصلح لهم الأحوال، وبلغهم غاية الآمال، وأطعمهم في الجوع، وأذن لهم في الرجوع، وقال لفتيانه: {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ في رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا} [يوسف: 62]، فسدَّ الواحدُ خَلَلَ أَحَدَ عَشَر؛

كذلك رمضان واحدٌ والشهور أَحَدَ عَشَر، وفي أعمالنا خلل وأي خلل، ويرجو العبد أن يتلافي في شهر رمضان ما فرَّط فيه في سائر الشهور. كان ليعقوب أحد عشر ولدًا ذكورًا بين يديه حاضرين، ينظر إليهم ويراهم ويطلع على أحوالهم وما يبدو من فِعالهم، ولم يرتد بصره بشيء من ثيابهم، وارتد بقميص يوسف بصيرًا، وصار بصره منيرًا، فكذلك المذنب، إذا ثم روائح رمضان، وجلس فيه مع المُذَكِّرين وقُرَّاء القرآن، وصحبهم بشرط الإِسلام والإيمان، وترك الغِيبة والبهتان؛ يصير إن شاء الله مغفورًا له بعد ما كان عاصيًا، وقريبًا بعد ما كان قاصيًا، ينظر بقلبه بعد العمى، ويسعد بقربه بعد الشقا، ويقابل بالرحمة بعد السخط. فاللهَ اللهَ؛ اغتنموا هذه الفضيلة، في هذه الأيام القليلة، تعقبكم النعمة الجزيلة، والدرجة الجليلة، والراحة الطويلة. والحالة الرضية، والجنة السرية، والعيشة الرضية، لا تُنال إلا بالوقار لهذا الشهر، ومن لا يُوقِّره كان مصيره إلى النار. من رُحِمَ في رمضان فهو المرحوم، ومن حرم خيره فهو المحروم، ومن لم يتزود لمعاده فهو ملوم .. فإلى متى أنت في ثياب البَطَر، أما تعلم مصيرَ الصُّوَر؟، أما ينفعك ما ترى من العبر؟، أَصُمَّ السمعُ أم غَشِيَ البصر؟، تالله إنك لعلى خطر .. آن الرحيل ودنا السفر، وعند الممات يأتيك الخبر .. كلما خرجت من ذنوبٍ دخلت في أُخَر؟!، يا قليل الصفا إلى كم هذا الكدر؟!، أنت في رمضان كما كنت في صفر؟! .. إذا خسرت في هذا الشهر فمتى تربح؟!، وإذا لم تسافر فيه نحو الفوائد فمتى تبرح؟! .. يا من إذا تاب نقض، يا من إذا عاهد غدر، يا من إذا قال كذب، كم سترناك على معصية، كم غطيناك على مخزية!!

يا ذا الذي ما كفاهُ الذنبُ في رجبٍ ... حتى عصى ربَّهُ في شهرِ شعبان قد أظلكَ شهرُ الصومِ بعدهما ... فلا تصيِّرهُ أيضًا شهرَ عصيان ورتِّل القرآنَ وسبِّح فيهِ مجتهدًا ... فإنه شهرُ تسبيح وقرآن واحمل على جسدٍ ترجو النجاةَ له ... فسوفَ تُضرَمُ أجسادٌ بنيران كم تعرفُ ممَّنْ صامَ في سَلَفٍ ... مِن بينِ أهلٍ وجيرانٍ وإخوان أفناهمُ الموتُ واستبقاكَ بعدهمُ ... حَيًّا فما أقربَ القاصي من الدان ومُعْجَبٌ بثياب العيد يقطعُها ... فأصبحَ بها غدًا أثوابًا وأكفان حتى متى يَعْمُرُ الإنسانُ مَسْكَنَهُ ... مَصِيرُ مَسْكَنِهِ قَبْرٌ لانسان أحبتي في الله .. إنني واثق من أنكم تريدون أن تعرفوا كيف نصوم رمضان، وإن مطالعتك الآن لهذا الكلام دليل على ذلك، فهلَّا تضيفون إلى ذلك العمل .. نويتم أن تعلموا فهل نويتم أن تعملوا؟ .. ولكن اعلموا أنه قبل العمل لا بد من الاستعداد والتهيؤ للعمل؛ فلذلك أبدأ معكم متدرجًا: نبدأ بالاستعداد للعمل .. هيا خذ عُدَّتك .. والبس لَأُمَّتَك .. وأصلح نيتك .. واشحذ عزيمتك .. وامض ولا تلتفت متوكلًا على الله .. خذ كلامي عملًا .. وبادر به الأجلا .. اللَّهم ارزقنا العمل بما علمنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، واجعل ما علمتنا حجةً لنا لا علينا، اللهم ارزقنا العمل، واكتب لنا خير رمضان وما فيه؛ إنك ولي ذلك والقادر عليه. ... أحبكم في الله ...

الاستعداد لرمضان

الاستعداد لرمضان {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ الله انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}

كيف نستعد لرمضان؟

كيف نستعد لرمضان؟ أحبتي في الله لقي أحد السلف أخًا له فقال له: أترضى حالتك التي أنت عليها للموت؟، قال: لا. قال: فهل عرضت عليها توبة من غير تسويف؟، قال: لا. قال: فهل تعلم دارًا تعمل فيها غير هذه؟، قال: لا. قال: فهل للإنسان نفسان إذا ماتت إحداهما عمل بالآخرى؟، قال: لا. قال: فهل تأمن هجوم الموت على حالتك هذه؟، قال: لا. قال: فما أقام على ما أنت عليه عاقل. إنني -إخوتاه- إذا تخيلت أن هذه الأسئلة وجهت إليَّ أو إليكم، فلن نجيب بأكثر مما أجاب هذا الرجل الصالح، إنها أسئلة أود أن أوجهها لكل منكم بذاته وشخصيته، أسألك واجب أنت فيما بينك وبين ربك: (1) أترضى حالتك التي أنت عليها للموت؟، بمعنى هل ترضى أن تموت الآن؟ (2) أترضى أن تقبض روحك هذه الساعة؟ لعل بعض الناس يقول: نعم، لكي أستريح، أقول: وما يدريك أنك ستستريح؟!، لعلك تخرج من نكد الدنيا وعذابها إلى نار الجحيم التي هي أنكى وأشد وأبقى. (3) أترضى حالتك التي أنت عليها للموت؟

لعل بعضنا يقول: نعم وهو لا يدري ماذا في قلبه، إنه لا يرضى بالموت الساعة إلا غافل جاهل. (4) أترضى حالتك التي أنت عليها للموت، لا؟ (5) فهل عزمت على توبة من غير تسويف؟، الصادق سيقول: لا، ذكرت في كتاب "كيف أتوب" أن الذي يقرأ القرآن وينظر إلى النساء، يقوم الليل ثم يدخن .. يصوم ثم يكذب، أن هذا علامة من علامات فساد القلوب، وهو قدح في التوبة. لا بد لهذه التوبة من شروط، وشروطها ثلاث وهي: الإقلاع والندم والعزم، الإقلاع عن الذنب والندم على ما فات والعزم على عدم العودة، فإذا استحضرت هذا وسئلت الآن: هل تنوي توبة من غير تسويف؟، ستقول: لا. ثم يأتيك السؤال التالي: (6) هل هناك دار للعمل غير هذه الدنيا؟ يعني هل هناك زمان للعمل غير عمرك؟، بالطبع لا. (7) فهل لك نفسان إذا ماتت إحداهما تعمل بالآخرى؟، بالطبع لا. (8) فهل تأمن من هجوم الموت عليك الآن؟، بالطبع لا، فهذه حالة لا يقيم عليها عاقل. اللَّهم بلغنا رمضان؛ فإن الذنوب تتكاثر علينا، اللَّهم بلغنا رمضان، فإن القلوب قد اسودت منا، اللَّهم بلغنا رمضان؛ فقد أثقلت الخطايا كواهلنا، اللَّهم بلغنا رمضان فقد اشتد شوقنا إليه، اللَّهم بلغنا رمضان فقد طال انتظارنا له، إننا ننتظر بالفرح حلول رمضان، وكيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان؟!، وكيف لا يسعد المذنب بغلق أبواب النيران؟! فالسعادة في دخول رمضان.

ولكن أي فرح؟، إنه الفرح بفضل الله تعالى، قال سبحانه وتعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]، إننا ننتظر رمضان الساعة تلو الساعة، فلابد أن نعلم بماذا نفرح؟ فالفرح فرحان: فرح بالحق، وفرح بالباطل، الفرح بالحق هو الفرح برحمة الله وفضله، أن تفرح بتوبة الله عليك من المعاصي والذنوب، تفرح بتوفيق الله لك بقيام الليل كل ليلة لمدة شهر، تفرح لأن الله أعطاك فرصة لأن تحسن إلى الخلق فتطعم المساكين، وأن تدعو الله في صيامك وعند فطرك وتشعر أن للصائم دعوة مستجابة. أما الفرح باالباطل فهو كمن يفرحون بالمسلسلات والأفلام، ينتشي أحدهم لأن في رمضان سيكون هناك فوازير ومسرحيات، يفرح لأن في رمضان كرة ومباريات، دورات رياضية واحتفالات، خيام رمضانية وسهرات، فهذا فرح بالباطل، قال تعالى: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ في الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)} [غافر: 75 - 76]. يفرح المؤمن بالحق، فيفرح بفتح أبواب الجنة وغلق أبواب النار، ويستبشر فيه بوقت تغل فيه الشياطين، ولكن لا بد من الاستعداد لهذا الفرح، لا بد من إعداد العدة لهذا المهرجان، لا بد من التجهز قبل قدوم الضيف .. قال الله تعالى: ({وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ الله انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)} [التوبة: 46]، إن من منن الله العظيمة وآلائه الجسيمة ونعمه الكريمة علينا أن يبلغنا رمضان، واعلم أيها الحبيب أن من النعم التي يغفل أكثر الناس عن شكرها نعمة الإمهال. سبحان الملك الحليم!، كَتبَ في كتاب فهو عنده فوق العرش أن رحمته

سبقت غضبه، وأن مؤاخذته سبقت عقابه، سبحانه فهو الكريم، فاشكر نعمة الله على ذلك، كم رآك على معصية طيلة السنة فسترك وعافاك وأمهلك وأخَّرك حتى أدركك رمضان، ومنحك الفرصة لتتوب فيتوب عليك ويكرمك ويعطيك ويمنحك ويغفر لك ما تقدم من ذنوبك طيلة عمرك؛ ولكن لا بد من الاستعداد لهذا الشهر قبل مجيئه، حتى تتروض النفس على الطاعة قبل الشروع فيها، لابد من إعداد العدة وأخذ الأهبة لرمضان. قال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46]، فلما لم يعدوا العدة للخروج عُلم أنهم غير صادقين؛ لذلك عوقبوا بالتثبيط والخذلان، فإن كنت تريد العتق من النار في رمضان .. إن كنت تريد أن تقبل، وتمحي خطيئتك فلابد من إعداد العدة، يقول ابن القيم رحمه الله: "حذارِ حذار من أمرين: أن يأتي واجب الوقت وأنت غير مستعد له ومتهيء لفعله، فتعاقب بالتثبيط عن فعله والتخذيل عن تحصيله، قال تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ الله إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} [التوبة: 83]. وحذار من رد الأمر لأول وهلة لمخالفته هواك؛ فتعاقب بتقليب القلب، قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110] " اهـ. من هنا عُلم أنه لا بد من الاستعداد لشهر رمضان قبل دخوله حتى لا تعاقب بالتثبيط عن أفعال الخير والتخذيل عن زيادة الطاعات في رمضان، وافهم الآية في ضوء هذا الكلام، أن كراهية الله انبعاثهم وتثبيطهم كانت نتيجة عدم استعدادهم أصلًا وعدم صدق رغبتهم في ذلك، إما إذا استعد الإنسان للعمل وتجهز لأدائه وأقبل على الله راغبًا إليه؛ فإن الله سبحانه أكرم من أن يَرُدَّ عبدًا أقبل عليه.

ولذلك كان السلف يستعدون لرمضان استعدادًا حقيقيًّا يبدأ ذهنيًّا، فيدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعون الله ستة أشهر أخرى بعد رمضان أن يتقبل رمضان، فكأن السنة كلها رمضان، ومن الاستعداد أيضًا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر الصيام في شعبان حتى كان يصومه كله إلا قليلًا، وما رؤي في شهر هو أكثر صيامًا من شعبان، وما استكمل صيام شهر قط إلا رمضان. هؤلاء السلف كانوا يعرفون قدر رمضان، قال يحيى بن أبي كثير: كان من دعائهم: اللَّهم سلِّمْنِي إلى رمضان وسلِّم إليَّ رمضان، اللَّهم سلمنا لرمضان وسلم رمضان لنا، وتسلمه منا متقبلًا. بلوغ رمضان نعمة من الله علينا: أيها الإخوة، إن بلوغ شهر رمضان، وصيامه نعمة عظيمة على من أقدره الله عليه، يدل على ذلك هذا الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رجلان من بلى من قُضاعة أسلما مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستشهد أحدهما وأُخِّر الآخر سنة، قال طلحة بن عبيد الله: فأُرِيت الجنة فرأيت فيها المؤخر منهما أُدْخِل قبل الشهيد فعَجِبت لذلك، فأصبحت فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أليس قد صام بعده رمضان، وصلى ستة آلاف ركعة أو كذا وكذا ركعة صلاة السُّنة؟ "، وفي رواية قال: "وأدرك رمضان فصامه، وصلى كذا وكذا سجدة في السَّنة؟ " قالوا: بلى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الذي بينهما لأبعد مما بين السماء والأرض" (¬1). فبلوغ رمضان نعمة، ومن حرم من رمضان فهو المحروم، من حرم خيره فهو المحروم، ومن لم يتزود لاستقباله فهو ملوم .. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 333)، وصححه الألباني (372) في "صحيح الترغيب والترهيب".

أتى رمضانُ مزرعةُ العبادةْ ... لتطهيرِ القلوبِ مِنَ الفسادِ فأدِّ حقوقَهُ قولًا وفعلًا ... وزادَكَ فاتخذهُ للمعادِ فمَنْ زرعَ الحُبوبَ وما سَقَاها ... تَأَوَّهَ نادمًا يومَ الحَصَادِ وقد ذكر العلماء أن شهر رجب شهر البذر، وشعبان شهر السقي، ورمضان شهر جني الثمار، فلكي تجني الثمار في رمضان لا بد من بذر يبذر، وأن يسقى حتى تكون له ثمرة. أيها الإخوة، إننا ينبغي ابتداء أن نستعد لرمضان وذلك بخطوتين: الأولى: إثارة الشوق، بأن يثور من قلوبنا شوق لأن نستقبل رمضان فنرحم فيه وتعتق رقابنا من النار. والثانية: إنك لو اشتقت لشممت ريح رمضان عن بعد كما شمَّ يعقوب ريح يوسف، فلو شممت ريح رمضان ولبست قميصه لعاد قلبك بصيرًا، فالاستعداد لرمضان بخطوتين: الشوق، وبصيرة القلب. أما الشوق فإنه عملية غليانٍ في القلب تحفُّزًا لاستقبال محبوب غائب طال انتظاره، وأما البصيرة والنور في القلب فإنها تجعل الإنسان يرى فضل الأيام وثمرة الأعمال ووعود الآخرة، فيكون ذلك دافعًا لعلو الهمة في الاستقبال والاستعداد. إخوتاه، حريٌّ بنا أن نستعد استعدادًا حقيقيًّا لاستقبال شهر رمضان، أن نعلم كيف نصومه حقًّا. إنك في عبادة من ساعة نويت الصوم عند طلوع الفجر كأنك دخلت الصلاة بتكبيرة إحرام، فإياك أن يلتفت قلبك عن الله أثناء النهار، في أثناء النهار أنت صائم يعني عابد لله، فاحذر من التفات القلب، وهذه هي بصيرة القلب، أن ترى بعين قلبك طيلة نهار الصيام نفسك قائمًا بين يدي الله عَزَّ وَجَلَّ.

وشهر رمضان عند الله شهرٌ معظم، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]، وهذا يكفي تعظيمًا له؛ أن القرآن أنزل فيه، وفيه ليلة القدر خير من ألف شهر، فهو شهر عظيم تعظم فيه الطاعة وتعظم فيه كذلك المعصية، فافهم هذه القضية لتعلم خطورة الجناية على النفس بالمعاصي في رمضان. قال العلماء: إذا قوي الداعي وتم الترك عظم الأجر، وإذا ضعف الداعي وتم الفعل عظم الوزر. وقد استخرجوا هذه القاعدة من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: "ورجلٌ دعته امرأة ذاتُ منصبٍ وجمال؛ فقال: إني أخاف الله" (¬1)، الداعي إلى المعصية هنا قوي؛ لأنها هي الطالبة، ولأنها ذات منصب وجمال، ولكنه ترك ذلك لله، فهو في ظل عرش الرحمن، "وشاب نشأ في عبادة الله" هذا في ظل عرش الرحمن أيضًا؛ لأن الداعي إلى المعصية الحامل عليها قوي، وتم الترك فعظم الأجر. والعكس بالعكس، إذا ضعف الداعي وتم الفعل عظم الوزر، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخٌ زانٍ، وملكٌ كذاب، وعائلٌ مستكبر" (¬2)، شيخ زان أي رجل كبير السن ويقع في الزنا، فهذا إضافة إلى عقوبة الزنا أنه لا يكلمه الله، ولا يزكيه، ولا ينظر إليه، فكيف إذا جئت يوم القيامة فلم يكلمك الله؟، ولم ينظر إليك؟! ¬

_ (¬1) البخاري (1357)، ومسلم (1031). (¬2) أخرجه مسلم (107).

يا له من هجر!، لعلك تتمنى ساعتها أن تكون ترابًا، فليس ثمة عقوبة أشد من أن تحرم من رؤية الله، فكيف إذا أعرض عنك لا يكلمك، ولا يزكيك، ولا ينظر إليك، يا لها من عقوبة!، لو علمتها قلوبنا لانفطرت، اللَّهم لا تصرف وجهك في القيامة عنا .. وفي رمضان يضعف -بلا شك- الداعي إلى المعصية؛ لأن المعين على المعصية مفقود، أبواب الجنة مفتحة، وأبواب النار مغلقة، والشياطين مسلسلة وأكثر المسلمين مشغولون بالطاعات، ثم تعصي الله!! فيكون العاصي في رمضان قد ارتكب عظيمًا اللَّهم عافنا من الذنوب والمعاصي. أخي الحبيب: إنه زمان طاعة، وقد يسر الله لك الأمر وأعانك عليه، بل وذكر سبحانه أيام الصيام فقللَّها بقوله جل وعلا: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184]، فاحترم الشهر ولا تجترم الآثام في تلك الأيام، وأنا أحذرك من قطاع الطريق إلى الله، الداعين إلى معصيته في هذا الشهر من وسائل الإعلام المختلفة في الجرائد والمجلات، والراديو والتليفزيون، والمسارح والسهرات، إياك والمعاصي في هذا الشهر؛ فإنه كما تضاعف الحسنات فيه تضاعف أيضًا السيئات؛ لأنه ينضاف إلى المعصية الظاهرة من زنا العين بالنظر إلى الحرام وكذب اللسان بالزور والفحش والبهتان، ينضاف إلى ذلك معصية قلبية من الكبائر وهي عدم تعظيم حرمات الله؛ فاحذر أن ينزل بك بطش الرحيم الرحمن في شهر رمضان. أيها المسلمون .. عباد الله المؤمنين .. شهر رمضان كله رحمات، وزيادة طاعات، ومضاعفة حسنات، فأبشروا يا معاشر المسلمين، فهذه أبواب الجنة الثمانية في هذا الشهر لأجلكم قد فتحت، ونسماتها على قلوب المؤمنين قد

نفحت، وأبواب الجحيم كلها لأجلكم مغلقة، وأقدام إبليس وذريته من أجلكم موثقة. ففي هذا الشهر يؤخذ من إبليس بالثأر، وتستخلص العصاة من أسره، فما يبقى لهم عنده آثار، كانوا فراخه قد غذَّاهم بالشهوات في أوكاره، فهجروا اليوم تلك الأوكار، نقضوا معاقل حصونه بمعاول التوبة والاستغفار، خرجوا من سجنه إلى حصن التوبة والإيمان؛ فأمنوا من عذاب النار، قصموا ظهره بكلمة التوحيد، فهو يشكو ألم الانكسار، في كل موسم من مواسم الفضل يحزن، ففي هذا الشهر يدعو بالويل لما يرى من تنزل الرحمة ومغفرة الأوزار، غلب حزب الرحمن حزب الشيطان، فما بقي له سلطان إلا على الكفار، عزل سلطان الهوى، وصارت الدولة لسلطان التقوى فاعتبروا يا أولي الأبصار. إخوتاه .. شهر رمضان شهر التيقظ، شهر التحفظ، إخوتاه .. بين أيديكم سفر، والأعمار فيها قصر، وكلكم والله على خطر، كونوا على حذر من الجبار وقد قدر، اعرفوا قَدْرَ من قَدَر، تذكروا كيف عصيتم وستر، وأيم الله لو قمتم على البصر، وسجدتم شكرًا لله سجدتم على الإبر، ما وفيتم شكر نعمة الله ولا على نعمة الستر، أما طوى القبيحَ والجميلَ نشر؟!، أما بعضُ نعمهِ السمعُ والبصر؟!! إخوتاه .. آن الرحيل وما عندكم خبر!، إلى كم توعظون ولا تتعظون؟!، إلى كم توقظون ولا تبصرون، أكلفتم ما لا تطيقون، أكلمتم بما لا تفهمون؟، ما لكم عن مآلكم تعرضون؟، ما هذا الفتور وأنت سالمون؟!، ما هذا الرقاد وأنتم منتبهون؟!، إخوتاه .. أدركوا أنفسكم اليوم بتوبة قبل أن يدرككم الموت .. اللَّهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت راحة، وبعد الموت جنة ونعيمًا.

هذه تهيئة لرمضان، وتقول السيدة عائشة - رضي الله عنه -: "ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم في شهر من السنة أكثر من صيامه من شعبان كان يصومه كله" (¬1)، وفي رواية: "كان يصومه إلا قليلًا"؛ فلذلك استعدَّ لرمضان بكثرة الصيام حتى تتعودَ النفس على الصيام .. قم الليل في شعبان، أكثر من تلاوة القرآن، وأكثر من ذكر الله تعالى .. تمهيدًا للدخول في رمضان. قال السَّرِيُّ السَّقْطِي: السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، وأنفاس العبد ثمرتها، فشهر رجب أيام توريقها، وشعبان أيام تفريعها، ورمضان أيام قطفها، والمؤمنون قطافها. ويقول بعض السلف: رجب شهر الغرس، وشعبان شهر السقي، ورمضان شهر جني الثمار، فإذا أردت جني الثمار في رمضان؛ فلابد من الغرس في رجب وسقي ذلك الغرس في شعبان. إننى عندما أقول لك: صم في رجب وشعبان، وقم الليل فيهما، وتصدق فيهما، واغرس الأعمال الصالحة في رجب وتعاهدها بالسقي في شعبان؛ إنما أقول ذلك لكي تستشعر بعد ذلك في رمضان لذة الصيام، ولذة القيام وقراءة القرآن، ولذة الصدقة وسائر اللذات؛ لأن الأمر يحتاج إلى صبر ومصابرة وطول مُكْث .. لا يأتي من أول وهلة، وأيام رمضان قليلة، ومرور أيامه سريعة؛ فلذلك لا بد من الاستعداد الجِدِّي قبله بفترة كافية. فإذا كنت من أهل الصدق وأردت فعلًا الاستعداد؛ فإليك أيها الحبيب برنامجًا عمليًّا للتأهيل والاستعداد: *هيا إلى العمل* ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1156).

تمرينات الاستعداد

تمرينات الاستعداد التمرين الأول: التدريب على تجويد التوبة: إن أول واجب للاستعداد لرمضان: التوبة، اللَّهم تب علينا توبةً نصوحًا، اللَّهم تب علينا توبةً ترضيك .. وذلك لأن التوبة وظيفة العمر، تلزم العبد في كل لحظة، قال الله عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، وكان - صلى الله عليه وسلم - يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة، وكان يُسمع منه في المجلس الواحد مئة مرة يقول: "رب اغفر لي وتب علي؛ إنك أنت التواب الرحيم" (¬1). وليست التوبة كما تفعل دائمًا: تبت .. تقول: أستغفر الله بلسانك وقلبك غافل لاه .. أو تظن أن التوبة هي التوبة من النظر إلى المتبرجات، أو التوبة من الكذب والغيبة والنميمة فقط لا غير .. إنني أريد التوبة هذه المرة من حياتك .. التوبة من نمط الحياة التي نعيشها .. التوبة من نمط التفكير الذي تفكر به .. التوبة من الآمال العريضة التي نعيش لها .. التوبة من حياتنا ككل. التوبة من هذه الحياة .. إننا نريد حقًّا أن نتوب، إننا نريد تجويد التوبة، نريد تدريبًا عمليًّا على توبةٍ جديدةٍ جيدة. أخي .. قبل دخول شهر رمضان جدِّد التوبة .. حسِّن التوبة .. أتقِنِ التوبة .. اصدُقِ التوبة .. إنك بحاجة إلى أن تتوب أخي لا من الذنوب ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (3434)، وصححه الألباني (731) في "صحيح الترمذي".

والمعاصي فحسب -وإن كانت هي الأُوْلى والأَوْلى؛ ولكننا بحاجةٍ إلى توباتٍ أُخَر .. بعد التوبة من الكبائر الظاهرة والباطنة، والتوبة من المعاصي الملازمة والعارضة .. بحاجة إلى التوبة من أشياء أخر منها: أولًا: التوبة من تضييع الأوقات: (1) الليل: قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 10 - 11]، وقال تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17 - 18]، وحين وصف عباد الرحمن قال عنهم سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64]، فهذه وظيفة الليل في الإِسلام، السكون والراحة والخلوة مع الله والتعبد، هذا هو ليل المسلمين، ولكن مع شديد الأسف! انظر إلى ليل المسلمين هذه الأيام: يا حسرةً على العباد!! تحول ليل المسلمين إلى لشعب ولهو ومعاص وغفلة، وحول بعضهم ليله نهارًا، ونهاره ليلًا، وضاع الليل .. ضمن الأوقات الضائعة .. ضاع الليل بساعاته الغالية وأوقاته النفيسة، ضاع الليل بفرصه الذهبية وفتوحاته الربانية .. ضاع الليل وهم يقولون: شهر رمضان شهر السهر!! .. هذه فرصتك .. فتقرب إلى الله تعالى وتب من تضييع ليلك في المعاصي واللَّهو، وأثبت صدق توبتك هذه بقيامك بين يديه تناجيه وتستجديه أن يغفر لك، فرصة لا تضيعها. (2) بالشرود الذهني في الفراغ: أخي في الله، هل تمر بك أوقات تجلس صامتًا لا تفعل شيئًا، فقط تجلس شاخصًا ببصرك إلى الفراغ وتفكر في لا شيء، هذا هو التجسيد الحقيقي للغفلة .. غفلة مطبقة على القلب .. على العقل .. غفلة مستحكمة، وكلما

ازداد شخوصك هذا زاد تمكنها منك، تب من ذلك ولا تجلس فارغًا، اشغل لسانك وقلبك بذكر الله، واشغل عقلك بالتفكر في هذا الذكر .. توبة يتبعها عمل صالح. (3) مأساة المواصلات: كم من الوقت يضيع منك يوميًّا في الموصلات أخي في الله؟، على الأقل ثلاث ساعات يوميًّا، وتضيع كلها في معصية الله، من الاختلاط بالنساء وإطلاق البصر، وغيرها، ولو شئت في هذه الساعات لذكرت الله .. اغتنم هذا الوقت ولا تضيعه، هذا الوقت يكفيك لآلاف من الذكر يوميًّا، أيضًا جوِّد هذه التوبة بيقينك أن هذه الفترة فرصة سانحة لذكر الله والانشغال به .. جوِّد التوبة. (4) النوم: قلت لكم سابقًا: هذا الشهر يحتاج لهمة عالية، وأصحاب العشر ساعات نوم يوميًّا ليسوا ذوي همة عالية، بل هم أهل البطالة والكسل، فإذا قلت لي: إنك تحتسب نومك هذا لله، قلت: تحتسب عشر ساعات!! بل وثمان أيضًا، كيف تحتسبها؟ الاحتساب أن تقول: يا رب .. سأرقد فقط لأتقوى على طاعتك .. وهل تتقوى على طاعة الله بعشر ساعات نوم، لن أحدد لك عدد ساعات نومك، ولكن كل هذا وقت ضائع من عمرك .. حدِّد أنت ما يكفيك، والتوبة من ذلك أن تتوب من الخداع بأن تعلم أن الله الذي يراقبك يعلم سبحانه ما يكفيك، فجوِّد التوبة ولا تخادع. ثانيًا: التوبة من اللسان: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وأعوذ بك من شر لساني" (¬1)، وفي حديث معاذ بن ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (3492)، وصححه الألباني (2775) في "صحيح الترمذي".

جبل الطويل حين سأل رسول الله عن عمل يقربه من الجنة ويبعده عن النار؛ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نهاية الحديث: "ألا أدلك على رأسِ الأمرِ وعمودِه وذِروةِ سِنَامِه"، ثم قال: "هل أدلك على ملاك ذلك كلِّه"، قال: نعم، قال: "أمسك عليك هذا"، وأمسك بلسان نفسه، فقال معاذ: أوَمؤاخذونَ نحنُ بما نتكلمُ فيه؟، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وهل يَكُبُّ الناس على وجوههم في النار إلا حصادُ ألسنتهم" (¬1). وهل يجرُّ لسانك عليك إلا كُلَّ شر، فأنت إن تركته أهلكك: كذب .. غيبة .. نميمة .. بهتان .. رياء .. عجيب .. احتقار .. زنا .. اللَّهم إنا نعوذ بك من شرور ألسنتنا. ومن مآسي اللسان في عصرنا: (1) مأساة التليفونات: لا شك أن ثورة الاتصالات التي حدثت في عصرنا لها فوائد ونفع الله بها المسلمين في جوانب، وخدمت الدعوة الإِسلامية في نواح متعددة؛ لكن مأساة التليفونات في عصرنا عجيبة، ولابد لها من وقفة شرعية أيها الإخوة، فأكثر الناس في هذه الأيام يحمل أكثر من تليفون في جيوبه، والسؤال لك أيها المسلم الملتزم السُّني، يا طالب الآخرة، يا حريصًا على رضا الله، ماذا تصنع بهذا التليفون؟ دعونا من المراوغة وتعالوا نتكلم في الصميم، إن وجود التليفون في يد كثيرٍ من الناس مجرد منظرة مثل الناس، تقليدٌ أعمى، فليس صاحبنا رجل أعمالٍ خطير، ولا شخصية مهمة، ولا يمثل التليفون بالنسبة له أي ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (5/ 231)، وصححه الألباني (5136) في "صحيح الجامع".

دور ولا أثر، فما الذي كان؟، الآفات الثلاثة التي يكرهها الله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال" (¬1). اجتمعت تلك الآفات الثلاثة في التليفون، فليس في هذه الاتصالات إلا القيل والقال، وفواتير التليفونات وثمن الكروت صار إرهاقًا للميزانية يُقتطع من فم الأولاد. أخي الحبيب، تب إلى الله، وألق عنك هذا الجهاز قبل دخول رمضان، تستجمع شمل قلبك، وتفرغ همك للطاعة، ويقل الانشغال. (2) القصص والحكايات والمنامات، وكرة القدم والفن: أيها الأحبة في الله، الكلام شهوة، حتى إنك تجد بعض الناس لا يكف عن الكلام، وإنك إذا جلست في مجلس -وجوب ذلك- ساكتًا صامتًا تتأمل، نقِّل بصرك وأذنك لتسمع الأطراف المتحاورة، تجد كلامًا فارغًا وحوارات سقيمة وحكايات عقيمة، قصص وحكايات، أخبار وروايات، كلها لا قيمة لها، تضر ولا تنفع. ومما زاد الطين بلة كثرة الافتراءات في ذكر المنامات، فتجد الكل يؤلف ويحكي أنه رأى، والآخر يفتي ويؤَوِّل .. ومثله الكلام عن كرة القدم والفن وأكثره زور وبهتان .. فتب إلى الله أيها الأخ الكريم من القصص والحكايات قولًا وسمعًا، واغتنم الوقت بذكر الله .. ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (1407)، ومسلم (593).

(3) الوصف والمبالغات والنفاق والمجاملات: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه" (¬1)، وآفة الاختلاط بالناس وبدافع الفضول البشري والاستشراف للاطلاع على أسرار الخلق، يجعل كل ذلك شغف الناس بكثرة الكلام، ولكن المصيبة الأكبر أن يحصل نوع من المبالغات أو التوسع في الوصف الدقيق لموضوعات لا تحتاج ولا تحتمل .. والأبشع من كل ما مر: المجاملات الزائفة الكاذبة والنفاق الاجتماعي المتبادل، فهل من توبة من هذا الخطر المستطير الذي يهدد بخسف ومسخ وقذف؟! (4) التهريج والمزاح، والفحش والبذاء: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء" (¬2)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تكثروا الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب" (¬3). صار من سمات الباطل في عصرنا خفة الدم زعموا .. وليس ثمة أثقل من كذوبٍ فاحش يستضحك الناس بالباطل، والأخبث في الموضوع أن يشارك في هذا الأمر من يلتزمون بالدين ويظهرون حب الله ورسوله، فيحولون أكثر المواقف جدية إلى مزاح!! فاتقوا الله يا قومنا، ونزهوا ألسنتكم عن فضول الكلام، فضلًا عن الفحش والبذاء والتهريج والمزاح. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2433)، وصححه الألباني (1886) في "صحيح الترمذي". (¬2) أخرجه الترمذي (2060)، وصححه الألباني (1610) في "صحيح الترمذي". (¬3) أخرجه ابن ماجه، وصححه الألباني (4193) في "صحيح ابن ماجه".

ثالثًا: التوبة من العلاقات: (1) معارف للظروف: كثيرًا ما تسأل أحدهم: كم جزءًا قرأ من القرآن اليوم، ويكون الجواب: أنا أتمنى والله أن أقرأ؛ ولكن المشكلة .. ليس هناك وقت!، وحين تتساءل: أين ضاع الوقت؟، وكيف ضاع الوقت؟؛ فإنك ستجد أن من أخطر ما يضيع الوقت كثرة الاختلاط بالناس .. إننا نستهين بمكالمة لمجرد المجاملة، قد يضيع فيها نصف ساعة، ومصافحة وكلمتين "ع الماشي" بعد الصلاة أمام المسجد يضيع فيها نصف ساعة أخرى، وهكذا، تضيع الأوقات بغير فائدة، والعبد مسئول عن عمره فيما أفناه. أرجو أخي الحبيب قبل دخول رمضان أن تحجِّم علاقاتك .. أن تختصر معارفك .. ليس هناك مجال لأداء حقوق كل هؤلاء .. والتوبة من هذا تكون بتحقيق الإخلاص في العلاقات، بإقامة صرح الحب في الله، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، فتنضبط العلاقات بضابط الحب في الله والبغض في الله فتكون عبادة. (2) مجاملات بالحرام: في العلاقات الكثيرة المتشعبة لا بد من المجاملة، وأحيانًا لا مجال للمجاملة إلا بالكذب، أو على حساب الآخرين وكلاهما حرام، فلابد من التوبة من المجاملات؛ قل الحق ولو كان مرًّا، والساكت عن الحق شيطانٌ أخرى فلا تجامل بالحرام، وكُفَّ لسانك.

(3) الاختلاط المحرم: أكبر آفات العلاقات أن تكون العلاقة آثمة بين رجل وامرأة مهما زعموا أنها علاقة بريئة، دعونا نكون صرحاء، ليست هناك علاقة بريئة، كلها علاقات محرمة، إننا يا قوم عبيد، يحكمنا دين يقوم على أمرٍ ونهي، وليس الحاكم في ذلك العادات والتقاليد أو الهوى والشهوات .. فتجب التوبة قبل دخول رمضان من كل علاقة آثمة حتى يطهر القلب .. رابعًا: توبة القلب: (1) التوبة من الخواطر: أحلام اليقظة متعة بعض الناس، أخي الحبيب: لا يقتلك الوهم، عش الحقيقة وإياك وأحلام اليقظة، إياك من الخواطر الرديئة، اجعل خواطرك تحت السيطرة، لا تدعها تخرج من تحت يدك، إنك إذا تركت الخواطر ترعى في قلبك وعقلك بغير ضابط ولا رابط؛ فستعيش الوهم وتصدقه، كم من أناسٍ قتلهم وَهْمُ المشيخة، وهم ليسوا على شيء، وآخرون قتلهم وهم طلب العلم وعاشوا أحلام اليقظة في ثياب فضفاضة ليست من ثيابهم. أخي الحبيب .. قبل رمضان عش الحقيقة وأنس الوهم، وتب إلى الله، انشغالك بالعمل يخرجك من هذا الوهم. (2) التوبة من التعلق بغير الله: قال الله سبحانه وتعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81 - 82]، إياك أخي الحبيب والتعلق بغير الله، الكل سيخذلك ويتخلى عنك إلا الله العظيم، فلا تنشغل

بالآخرين، واجعل انشغالك بمن ينفعك انشغالك به، تب من التعلق بالأسباب والتعلق بغير الله. (3) التوبة من الأماني والتسويف وطول الأمل: تلكم الثلاثة أمراض خطيرة تقتل الإيمان .. إخوتي في الله: أحذركم من السين وسوف .. أحذركم من الاغترار بالأماني، قال الحسن البصري رحمه الله: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قومًا غرتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، قالوا نحسِنُ الظن بالله وكذبوا؛ لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل. (4) التوبة من العجب والكبر والغرور ورؤية النفس: وهذه الأمراض أيضًا تقتل الإيمان، وتذهب بالعبد إلى الجحيم، فالمعجب محبط عمله، ولن يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، والغرور قتال، ورؤية النفس تجعلك تختال، فاحذر يا مسكين، فإنك لا تدري بم يختم لك، تب من كل ذلك وانكسر واخضع وذل لربك لعل أحد هؤلاء الذين تزدريهم قد سبقك إلى الجنة بمراحل، ولله في خلقه شئون، فاحذر .. عجل بالتوبة، ومن تواضع للهَّ رفعه. خامسًا: التوبة من الكسل: (1) كم بين العلم والعمل: ونحن على أبواب رمضان، والكل بلا استثناء يعرف فضائل رمضان، ويحفظ الوعود على الأعمال، ولكن ماذا أفاد هذا العلم؟، وبم نفع هذا الحفظ؟، أين العمل؟!

تب أيها المسكين من الكسل، فقد استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - منه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين، وغلبة الرجال" (¬1)، فاستعذ بالله وانتفض قائما، واعمل بما علمت، هذه توبة .. (2) ضعف اليقين في الوعد والوعيد: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قال: سبحان الله العظيم وبحمده، غرست له نخلة في الجنة" (¬2)، أنا قلت الآن: سبحان الله وبحمده ونظرت في الساعة فإذا هي ثانية واحدة، لو ثبت يقينك في هذا الوعد أنك تكتسب بالثانية الواحدة نخلة في الجنة، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من نخلة في الجنة إلا وساقها من ذهب" (¬3) فوزن ساق نخلة من ذهب مئات الكيلوات، هذا ثمن كل ثانية من عمرك، وأنت تضيعه شذر مذر .. لا تبالي ولا تذر، وإنما أتيت من ضعف يقينك، لو ثبت يقينك في ذلك الوعدة ما ضيعت لحظة من عمرك وما ركنت إلى الكسل وترك العمل .. اعمل يا كسلان. (3) الترخص المهين: بعض الناس يريد التفلت من الدين ولكن بدين، فهو يبحث عن الرخص، ويتخذ الخلاف بين العلماء مسوغًا للهروب، فكل المسائل عنده فيها خلاف بين العلماء، وهو يرجح فيها بهواه، ويختار ما يوافق شهوته، ويظن أنه على شيء، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (2736)، ومسلم (4/ 2088). (¬2) أخرجه الترمذي (5/ 511)، وصححه الألباني (6429) في "صحيح الجامع". (¬3) أخرجه الترمذي (4/ 671)، وصححه الألباني (5637) في "صحيح الجامع".

التمرين الثاني: التدريب على تعظيم الشعائر

عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19]. تب أخي الحبيب من هذا الترخص المَهين واستعن بالله على الأخذ بالعزائم، والعمل الجاد المثمر، والله المستعان. وقد جعلت الكسل آخر هذه العناصر؛ حتى لا نكسل في التوبة، فلنسارع الآن .. حالًا .. ونتوب إلى الله .. إخوتاه .. هذه توبة لازمة .. ليست استعدادًا لرمضان فحسب؛ فلعلنا لا ندرك رمضان؛ ولكنها لازمةٌ استعدادًا للموت، فقد تموت الآن في هذه اللحظة؛ إذا فتب ولا تسوف. التمرين الثاني: التدريب على تعظيم الشعائر: غفلة القلب من أضر الأشياء على العبد؛ ولذلك لا بد في الاستعداد لرمضان من التدريب على يقظة القلب، ولا شك أن من يقظة القلب أن يراعي شعائر الله وأن يعطيها حظها من التوقير والتعظيم وحفظ الحرمة، وهذا مطلبٌ خطير يجب أن يراعى في الاستعداد لرمضان. فيجب أن نكون من داخلنا خائفين قلقين؛ أن يفوتنا رمضان من غير أن نعتق من النار ونكتب من أهل الجنة .. أصحاب السبت لما لم يعظموا أمر الله في عدم الصيد يوم السبت؛ مسخهم الله قردة، قال تعالى: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166]. والله سبحانه وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، فهذا أمر وفرض وشعيرة عظيمة، من عظَّمها فهو المتقي، قال الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].

التمرين الثالث: التدريب استقامة القلب

التمرين الثالث: التدريب استقامة القلب: لكي نستعد لرمضان لا بد من استقامة القلب، بأن يكون اللهُ أحبَّ إلينا من كل شيء، فنقدم محبته على كل شيء، وأن نعظم أمره ونهيه؛ لأن تعظيم الأوامر والنواهي من تعظيم الآمر الناهي، وأن نقوم بعملية تطهير ظاهري وباطني. ويكون ذلك بأمور منها: 1 - التعلق بالله: أن يتعلق القلب بالله وحده، وإنَّ من أكبر عوامل فساد القلب التعلق بالأسباب، لا تظن أنك بهذه الأسباب وحدها ستوفق لطاعة الله؛ بل لا بد من عون من الله لك، لا بد أن يتعلق قلبك بالله، فأنت لا حول لك ولا قوة، والحول والقوة لله وحده، ومن أخطر نتائج التعلق بالأسباب أن يحول الله بينك وبين قلبك، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24]. لا بد لك من شوق محرق يأخذ بيدك إلى ربك، ولا يحصل لك ذلك إلا بأن تطالع أسماء الله وصفاته، وتشاهد منن الله عليك وفضله السابغ، وتطالع جنايتك فتتحسر على فوات الزمان في غير طاعة الله، فتتشوق لاستدراك الفائت، وتهفو نفسك إلى عمل صالح يكفر ما قد كان من فعالك، تذكر سبق السابقين وأنت لازلت قابع في شهواتك، تذكر يوم الوعيد وأنت تأكل يديك حسرةً وأهل الإيمان في الفردوس الأعلى قد تناءوا عن أمثالك.

التمرين الرابع: تدريب القلب على الأنفة من المعاصي

2 - استيعاب القلب لأسرار الطاعات: واستلهام حلاوة الإيمان .. فإذا فقه القلب أسرار الطاعة، وذاق لذة الطاعة، انصلح حاله. إن آفة الأعمال أيها الأحبة أن تجري على الشكليات .. على المناظر .. على ما يبدو في الظاهر .. هكذا نشأ أكثر أهل عصرنا، يتوضئُون ويصلون ويصومون ويعتمرون ويحجون، وكل العبادات يؤدون كما رأوا آباهم وأجدادهم يفعلون، هكذا يستمرون، كما يفعل الناس يفعلون، دون دراسة حقيقية لأسرارها أو فقه لروحها، وبالتالي ضاع أثرها. وُعْدتَ ترى صلاةً بغير خشوع، وقرَآنًا بغير تدبر، وصيامًا بغير تبتل، وحَجًّا وعمرة بغير حُبٍّ وشغفٍ وشوق .. كل العبادات تؤدى شكليًّا أداءً للواجب؛ ولكن دون وعيٍ صحيح بأسرار العبادة؛ فكانت النتيجة أن تجد أعمالًا بغير نتيجة، ولا أثر لها على شخصية العبد ولا على حاله مع الله. إننا أيها الأحبة .. إذا أردنا أن نذوق طعم العبادة، ولذة الطاعة فلابد من معرفة حقيقية لأسرار العبادة، ورمضان له أسرار، وأسرار الصيام أعظم، ولعلك إن قرأت هذا الكتاب بكامله تجمع لك من متفرقه أسرار هذه الطاعة العظيمة. التمرين الرابع: تدريب القلب على الأنفة من المعاصي: الأصل في القلب وجود هذه الأنفة بالفطرة، ولكن الفطرة تتبدل كما هو معلوم، وكما قيل: كثرة المساس تفقد الإحساس؛ فلذلك ينبغي على الإنسان أن يتحرى قبل رمضان إعادة هذه الحاسة إلى قلبه عند عدمها، أو تقويتها حال ضعفها، فيستنكف أن يعصي الله عَزَّ وَجَلَّ وخصوصًا إذا استشعر حالته الإيمانية أثناء الصيام. ولابد لكي تُدرِّب القلب على الأنفة من المعاصي قبل

التمرين الخامس: الترويض على الانكسار لله عز وجل

رمضان من معايشة المعاني الروحية العليا، كي تعوِّد القلب على النفور من الكذب واستهجان الغيبة والنميمة وإنكار المعاصي والحذر منها، ولابد أن يعايش معاني تدبر القرآن وتفهم الأذكار، ويذوق لذة المناجاة والتضرع بين يدي الله، فمن ذاق الحلاوة أَنِفَ من مرارة المعاصي؛ فتصبح همته متطلعة إلى معالي الأمور وتكره سفسافها. وفرصة الاستعداد لرمضان تدريب فِعلي على الأنفة من المعاصي بكثرة الصيام وتلاوة القرآن، وحال الانشغال بذلك لا يتصور عاقل أن يمارس المعصية حال أدائه للطاعة، والأمر يحتاج إلى استنكار عقلي، ثم رفض ذهني، ثم انصراف فعلي عن المعاصي. التمرين الخامس: الترويض على الانكسار لله عَزَّ وَجَلَّ: قال سبحانه وتعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7]، إن رؤية الإنسان لنفسه بعين الغنى تجره إلى الطغيان ومجاوزة الحد، فلا يليق بالمؤمن إلا الفقر، وهو أصل خلقته، ولكن هذا الفقر الداخلي يحتاج إلى استشعار حقيقي ليظهر أثره على الجوارح وفي الفكر والتعبد. ومعلومٌ أن الفقر وصفٌ ذاتيٌّ لكل مخلوق، وصفٌ لازم له، كما أن الغنى وصفٌ ذاتي للخالق جل جلاله، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]؛ فلابد أن تُظهر فقرَك وذُلَّك وانكسارَك بين يديه سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123] .. وحينما تنظر في الفرق بين المسلمين يوم بدر ويوم أحد؛ ماذا تجد؟ .. يوم بدر: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} .. يوم أحد: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143] .. هناك فرق بين من

خرجوا للجهاد حفاة .. عراة .. جياعًا .. والرسول - صلى الله عليه وسلم - يناجي ربه: "إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض" (¬1)، وبين: ليرينَّ اللهُ ما أصنع. في الأولى كانوا فيها في قمة الذل والانكسار .. وفي الثانية كان هناك شيء من رؤية النفس .. لم ينكسروا تمام الانكسار فكسرهم .. سبحانه عزيز لا يغالب. أيها الإخوة، الطاعات مدد وأرزاق .. وحينما تدخل على الملك وأنت فقير يعطيك، وإذا دخلت عليه وأنت مستعلٍ طردك؛ لا بد أن تدخل بفقرك وضعفك وحاجتك ومسكنتك. وهذا الباب -باب الذل- بابٌ عظيم يوصل إلى رضا الرب الكريم جل جلاله، كما قال بعض السلف: أتيت الله من الأبوب كلها فوجدتها ملأى؛ فأتيته من باب الذل فوجدته خاليًا، وكان شيخ الإِسلام ابن تيمية يفتخر بفقره لربه، وبأنه عريق النسب في الفقر إلى الله، فيقول: أنا المُكَدِّي وابنُ المُكَدِّي ... وهكذا كانَ أبي وَجَدِّي إن إظهارك الافتقار لله يستجلب لك رحمة الله وعفوه، فأنت فقير إلى الله، والله غني عنك وعن عملك، وكل ما تعمل من عمل إنما هو لنفع نفسك: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [يونس: 108]، فالله سبحانه وتعالى لا تنفعه طاعة ولا تضره معصية، ولو أن خلقه كلهم أولهم وآخرهم وإنسهم وجنهم كانوا على أتقى قلب رجلٍ منهم؛ ما زاد ذلك في ملكه شيئًا، ولو أن أولهم وآخرهم وإنسهم وجنهم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منهم؛ ما نقص ذلك من ملكه شيئًا. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1763).

التمرين السادس: استئصال الأورام الخبيثة

التمرين السادس: استئصال الأورام الخبيثة: أيها الإخوة .. قد يتسرطنُ عيب .. وقد يتجدرُ ذنب .. وقد تتأصلُ عادة .. ولا يُجدي مع هذا أساليب العلاج التقليدية .. إنما هي عملية جراحية قبل دخول رمضان لاستئصال كل عيب. أحد عشر شهرًا قضيناها في اللعب والتهريج، لذلك فإن علاج أمراض ومآسي وذنوب ومخالفات وغفلة سبعة أشهر ليس بالأمر السهل؛ لأنه من الممكن في هذه الفترة أن يظهر عيبٌ صغير، ولكن تركه سبعة أشهر كاملة يتسبب في انتشار سرطاني في الإيمان. ومشكلة السرطان أنه يتفشى وينتشر ويملأ ما حوله .. فلابد من الإسراع في معالجة هذه العيوب والذنوب والعادات السيئة، لئلا تهيج وتقضي على القلب .. وعلاجها ليس تقليديًّا بالمهدئات والمسكنات .. لا .. بل تحتاج لاستئصال سريع لإسعاف الحالة الإيمانية .. والاستئصال يتطلب خطوات ثلاثة: 1 - همة عالية .. شحذتهَا بالأعمال: قال الله سبحانه وتعالى {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:3 - 4]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كان الإيمان في الثريا؛ لناله رجال" (¬1). وقال ابن القيم عليه رحمه الله: الوصول إلى المطلوب موقوفٌ على همةٍ عالية ونية صحيحة. ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (4615)، مسلم (2546).

أحبتي في الله .. الكلام سهل، والوصف والتوصيف غاية في البساطة، والوهم قاتل، والأماني تغر، والمَحَكُّ هو العلم، فأين الأعمال؟، كثيرًا ما نسمع كلامًا ونحصل على وعود ولا نرى عملًا حقيقيًّا مؤثرًا، كما قيل: أسمعُ ضجيجًا ولا أرى طحنًا. كثير من الشباب في غاية الكسل، لا يعمل ولا يتحرك ثم يشتكي الفتور! .. ويشكو عدم الخشوع، ويشكو قسوة القلب، ودواؤه بين يديه، قم واعمل، قال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]. إننا وبين يدي رمضان، نحتاج إلى همة عالية، نحتاج أن ندخل رمضان بنفسية التحدي، أكون أو لا أكون .. وكأني بالصحابي الجليل أنس بن النضر وكان قد غاب عن غزوة بدر، ونزل قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا في سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218]، قال: والله لئن أشهدني الله مشهدًا ليرين ما أصنع .. إنني أتعجب من هذه العزيمة .. أنا في غاية الإعجاب بهذه الكلمة. أخي الحبيب .. كم فات في عمرك رمضان، لم تعتق رقبتك فيه على كثرة الفرص؟! كم فات من عمرك رمضان لم تغفر ذنوبك المتقدمة على كثرة الفرص؟! كم فات من عمرك رمضان، ولم تدرك ليلة القدر كما ينبغي على كثرة الفرص؟! ليتك تصنع كما صنع أنس بن النضر فتقول كما قال: والله لئن بلغني الله رمضان .. ليرين ما أصنع ..

ولكن، القضية كما ذكرت لك سابقًا ليست كلامًا، إنها تحدٍّ وقوة وعزم .. لأننا رأينا من قالها قبل ذلك في أول رمضان ثم نام .. وإنما كانت صادقة من أنس بن النضر حتى إنه أشهد الله من نفسه البطولة في غزوة أحد بعدها مباشرة؛ لأنه انصدع قلبه عندما علم بأجر المجاهدين الذي فاته، فتحرق قلبه لنيل هذا الأجر، فاستعد له قبل دخوله؛ لذلك فإنني أريدك من الآن وقبل رمضان أن تستعد وتتهيأ. فيلزمنا العزم .. والقوة .. والعمل المكثف المستمر .. مع الهمة العالية، حتى نبدأ في استئصال الأمراض القلبية التي تفشت مع الغفلة الإيمانية خلال السنة الماضية، فالخطوة الأول أن تكف عن الشكوى، وتترك الكلام، وتبدأ العمل. 2 - لا تستعمل أي مخدر: إننا نحتاج إلى بداية حقيقية، دعونا من الخدل، خداع النفس وخداع الآخرين، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:142 - 143]، بالمصارحة أقول: دعك من المسكنات، ودعك من حقن التخدير، وأطباء التخدير الذي يصفون العلاج المؤقت ويعالجون بالوهم. إننا حين نريد أن نستقبل رمضان بنفسية التحدي التي اتفقنا عليها سابقًا -أكون أو لا أكون- لا يصلح أن أقول لك: تدرج في العبادات، في الصيام والقيام والذكر وتلاوة القرآن؛ فإن هذا الكلام لا يصلح اليوم، إنما يصلح في الأوقات العادية حينما يكون هناك متسع من الوقت، أما الآن وفي الاستعداد لرمضان .. ابدأ فورًا .. لا تستعمل المسكنات، ولا ترضى بالتخدير، وتحمل

ألم البتر، بتر البطالة والكسل، بتر الغفلة واللَّهو واللعب، بتر الأماني والخداع والجهل، بتر كل الأمراض ليصح الإيمان .. ابدأ فورًا. 3 - ابدأ العملية الجراحة فورًا: فورًا .. فورًا .. لا تسويف .. لك أسوة في أئمتك من الرسل والأنبياء، انظر إلى سيدنا موسى عليه السلام كما جاء في الحديث: "أُرْسِلَ ملكُ الموت إلى موسى، فلما جاءه صكَّه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فرد الله عينه وقال: ارجع إليه وقيل له: يضع يده على متن ثور فله بكل ما غطت يده بكل شعرة سنة، قال: أي رب ثم ماذا؟!، قال ثم الموت، قال: فالآن" (¬1). نعم إن كان الموت لا بد منه فالآن .. عزيمة ماضية. وكذلك سيدنا النبي محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، لما خير بين مفاتيح خزائن الأرض والخلد فيها وبين ما عند الله، اختار ما عند الله. ولما استعد - صلى الله عليه وسلم - للخروج إلى غزوة أحد ثم حاول بعض الصحابة أن يقنعوه بالمكث في المدينة، قال: "ما كان لنبي لَبِسَ لَأْمَةَ العرب أن يضعها حتى يفصل الله بينه وبين عدوه" (¬2). في الاستعداد لرمضان، لبست لأمة العرب وبدأت الاستعداد؛ فابدأ فورًا بدون تسويف وبدون تأجيل، لا تقل: سأحاول، قل: قررت، لا تقل شيئًا، ابدأ فعلا في التخلص من أمراضك القلبية ومعاصيك الظاهرة والباطنة، تخلص من الغفلة والجهل، تخلص من كل ما يحرمك من رضا الله ويحول بينك وبين دخول الجنة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2372). (¬2) أخرجه أحمد (3/ 351)، وصححه الألباني (1100) في "السلسلة الصحيحة".

التمرين السابع: إجراء بعض تمارين العزيمة والهمة

التمرين السابع: إجراء بعض تمارين العزيمة والهمة: قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:1 - 6]، قالت السيدة عائشة - رضي الله عنها -: أنزل الله صدر سورة المزمل وفرض فيها القيام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه سنتين، حتى تورمت سوقهم حتى كأنها جذوع النخل، ثم أُنزِل آخرها وفيه التخفيف. إنها تمارين العزيمة والهمة، في بداية أمر الدعوة والأمر شاق والحمل ثقيل، فلابد من تمارين العزيمة، بدأها جبريل عليه السلام بغطة أو ثلاث غطات لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما وصفها صلوات الله وسلامه عليه حين قال: "فَغَطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني وقال اقرأ" (¬1)، ثم فُرِضَ القيام سنتين؛ تدريب وتربية. كذلك لا بد من إجراء بعض تمارين العزيمة والهمة قبل دخول رمضان، لندخل رمضان بهمة عالية. وكان أبو مسلم الخولاني قد عَلَّقَ سَوْطًا في مسجد بيته، يؤدب به نفسه، وكان إذا فترت رِجلُه عن القيام يضربها بالسوط وهو يقول: قومي فوالله لأزحفنَّ بك زَحْفًا، حتى يكون الكَلَلُ منكِ لا مني، ويقوم قائلًا: أيظن أصحابُ محمدٍ أن يستأثروا به دونَنا، كلا واللهِ لنزاحمنَّهم عليه، حتى يعلموا أنهم خَلفوا وراءهم رجالًا. هيا يا رجال .. كونوا رجالًا .. زاحموا الأكابر .. لَا تَكَلُّوا ولَا تَمَلُّوا .. وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه - لصُبَيح: يا صبيح؛ تعوَّد العبادة؛ فإن لها عادة، وإنه ليس على الأرض في شيءٌ أثقل عليها من كافر. ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (3)، ومسلم (160).

التمرين الثامن: ترويض الحواس

لا بد من استعداد حقيقي، استعداد عملي قبل رمضان، لا بد من تمارين العزيمة. فليلة تصلى فيها ركعة بخمسة أجزاء كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حين صلى في ركعة بالبقرة والنساء وآل عمران. وليلة تقول: هذه ليلة الركوع، فيطول فيه التسبيح والتملق وتعظيم الرب. وليلة تقول: هذه ليلة السجود، وتنقضي الليلة في سجود طويل يتسم بالذل والبكاء والخوف والرجاء .. وليلة تقوم الليل كله بآية واحدة ترددها وتبكي وتتوسل بها حتى الصباح. وهكذا تمارين، يوم للتسبيح، ويوم للتهليل، ويوم للصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتمارين سرد الصيام ووصال ليلة إلى السحر .. تمارين، وهكذا أخي الحبيب ابدأ تمارين العزيمة والهمة، استعن بالله ولا تعجز، واعلم أن النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، وأن بعد العسر يسرًا. التمرين الثامن: ترويض الحواس: وذلك بأن تعود حواسك على الطاعة، فتعود عينك على النظر في المصحف، وتمنعها من النظر إلى المتبرجات، تعود أذنك على سماع القرآن، على سماع العلم، وتمنعها من سماع الأغاني والمسلسلات والكذب والفحش والزور، تعود لسانك على إدمان الذكر والإكثار منه، تعوده على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تروضه أن يقول الصدق، وأن يبذل النصيحة للمؤمنين؛ لأن هذه الحواس إنما هي منافذ للقلب، فالعين توصل إليه النظرات، والأذن توصل إليه الكلمات، واللسان يوصل إليه السيئات، والإنسان مسئول عن جوارحه وحواسه هذه يوم القيامة قال تعالى: {إِنَّ اَلسَّمعَ

التمرين التاسع: الاستحضار الذهني للعبادات قبل الشروع فيها

وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، فلابد من ترويضها استعدادًا؛ لأن تكون لينة منقادة لك في رمضان، ويسهل عليك فيه قيادها. ولابد من الصبر على التمرين، واليقين من أن الله سيفتح عليك مع مداومة الوقوف ببابه، فالزم الباب واصطبر؛ فإنما هي ساعات .. والله سبحانه وتعالى كريم شكور، إذا رآك تجاهد فيه وتتدرب على طاعته فلن يُضَيِّعك بل سيعينك ويوفقك هذا هو الظن به وهو الكريم؛ فاستمر في الترويض والتدريب ولا تيأس إن تأخرت لذة الطاعة، طالما أنك في مقام التزلف إلى الله و"التليين" لرضاه، فهو القائل سبحانه: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ في السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218 - 219]، ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل؛ يقول دعوت فلم أر يستجب لي" (¬1)، ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور: 48]، ويقول سبحانه: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} [المعارج: 5]، فمع الصبر والترويض تصل إلى ما تريد إن شاء الله. التمرين التاسع: الاستحضار الذهني للعبادات قبل الشروع فيها: هل رأيت نفسك وأنت ساجد؟ حاول أن تتخيل هذا المشهد؛ جبهتك على الأرض .. أنفك يضغط على الأرض .. بطنك تتدلى على الأرض .. خشوع عجيب غير مفتعل في العينين .. اليدين ترتكز بقوة على الأرض وكذلك الركبتين؛ لأنك لم تر هذا الوضع وتتأمله في نفسك لا تشعر به؛ لذلك أدعوك للتصور الذهني لأي عبادة قبل الشروع فيها، هذا يساعدك على تحصيلها كما ينبغي وإتقانها كما يجب. فقبل أن تصلي بربع ساعة تفكر: من الذي ستقف أمامه؟ .. أغمض ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (5981)، مسلم (2735).

التمرين العاشر: لزوم جناب الاحتشام ودوام الإطراق

عينيك وأستحضر أنني واقف أمام الله، {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: 46] .. وأستحضر عظمة الله، فينزعج القلب ويفزع، فيخاف ويخشع، والعلماء يقولون: الخشوع في العبادات قبل الشروع فيها؛ سببٌ للخشوع فيها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أقيمت الصلاة، فلا تأتوها تسعون، ولكن ائتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا" (¬1)، وفي الرواية الأخرى: "إذا أتيتم الصلاة- ائتوها بسكينة ووقار"، قال ابن حجر في شرح هذا الحديث: يستفاد منه أنه يعتمد للسير إلى الصلاة ما يعتمد في الصلاة .. كما يأتي المدد على قدر حضور القلب واستجماع الفكر والتركيز في العمل. فلابد أخي الحبيب من فهم قضية الصيام والحكمة منه، واستشعار اللذة، خذ مثلًا للاستحضار الذهني من الآن مشهد إنسان قبل الأذان بدقيقة أو دقيقتين، هو في غاية الجوع والعطش والضعف والخور، وأمامه وبين يديه ملك يمينه جميع أنواع الأطعمة والمشروبات، ولا يرضى ولا يقبل أن يمد يده ليشرب أو يأكل، وإن قيل له: ما الفرق بين الآن وبعد دقيقتين؟ إن الاستحضار الذهني لهذا المشهد يجيبك أن الفرق كبير جدًّا جدًّا، وعظيم مجمله كلمة واحدة: حتى يأتي الإذن من الله. إن الاستحضار الذهني لهذا المعنى هو الصيام، لا مجرد الترك، فافهم وجرِّب وقاوم وأنت في فترة الاستعداد. التمرين العاشر: لزوم جناب الاحتشام ودوام الإطراق: من أنت؟، هل تعرف نفسك؟، هل تعرف قدرك؟، هل تعرف ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (609)، مسلم (603).

وضعك؟، اسمع معي هذا الحديث ثم قرر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُذن لي أن [حدث عن ديك، قد مرقت رجلاه من الأرض، وعنقه مُنْثَنِ تحت العرش يُسبح الله فيقول: سبحانك ما أعظمك!، فيقول الله عَزَّ وَجَلَّ: ما عَلِم بهذا من حلف بي كاذبًا" (¬1). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رأيت ليلة ما أسري بي جبريل وهو على هيئته، له ستمائة جناح كل جناح يسد الأفق" (¬2)، تأمل معي هذه المخلوقات خَلْقٌ من خلق الله، وما بالك بالكواكب والنجوم والسموات والأرضين. إن هذا التأمل يجعل الإنسان يتصاغر فيلزم الاحتشام ويديم الإطراق ولا يجرؤ على رفع رأسه، من أنت؟!، وماذا أنت؟! ثم تسمع قول الله عَزَّ وَجَلَّ وفي وسط آيات الصيام: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، إن استشعار هذا المعنى في الصيام خصوصًا في غاية الأهمية؛ لأن الصيام سر بين العبد وربه، فيحتاج إلى دوام المراقبة، ومع دوام المراقبة نصل إلى المعنى الأعمق، وهو استشعار المعية، فيطرق الإنسان حياء ويحتشم خجلًا، وخصوصًا حال ذكر الله، قال ربنا سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: "أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه" (¬3)، وأيضًا: "من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي" (¬4)، وقال سبحانه في كتابه العزيز: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]، ولما علت أصوات الصحابة بالتسبيح قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم (4/ 330)، وصححه الألباني (150) في "السلسلة الصحيحة". (¬2) أخرجه أحمد (1/ 460)، وصححه الألباني (3464) في "صحيح الجامع". (¬3) أخرجه البخاري (6/ 2736). (¬4) متفق عليه، البخاري (6970)، مسلم (2675).

التمرين الحادي عشر: ملاحظة المنة

لا تدعون أَصَمَّ ولا غائبًا؛ إنكم تدعون سميعًا قريبًا، أقربُ إلى أحدكم من عنق راحلته" (¬1). إنني أريد أن تنزل النصوص السابقة على قلبك دواء نقطة نقطة، لعلاج الأمراض القلبية الخطيرة، قبل دخول رمضان مثل: الكبر، والعجب، والغرور، ورؤية النفس، والتعالي على الآخرين، والأنانية وحب الذات، والأثرة، والافتخار، والمَنّ، والتألي. قال ابن الجوزي -عليه رحمة الله: "تضاعَفْ ما أمكنك؛ فإن اللطف مع الضعف أكثر". أنت تحتاج إلى لطف الله بك ليعافيك ويعينك، فأظهر ضعفك وانكسارك ولا تشمخ بأنفك فيعرض عنك فتخسر الدنيا والآخرة. التمرين الحادي عشر: ملاحظة المنة: قال ابن القيم -عليه رحمة الله: "والعبد يسير إلى الله بين مشاهدة المنة، ومطالعة عيب النفس والعمل". وأنت تتمرن على الطاعات استعدادًا لرمضان؛ ينبغي أيضًا أن تلاحظ فضل الله عليك لنوالك شرف الطاعة والتوفيق لها .. ملاحظة المنة لنوالك شرف القيام بين يدي الله .. لنوالك شرف ذكره .. وكرامة ورود كلماته على لسانك .. لنوالك شرف جريان العبادة على جوارحك رغم كثرة معاصيك .. أدخلك بيته ومَنَّ عليك بالحج والعمرة، وعافاك وقوَّاك .. وسمح لك وهو العظيم، وزاد فضلُهُ عليك فاختارك واصطفاك؛ على الرغم من عدم استحقاقك .. إذًا استشعرت أنه سبحانه الأول الذي يُبتدأ من عنده الخير والرحمة؛ فهو ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (2830)، مسلم (2704).

التمرين الثاني عشر: تهدئة نمط الحياة

المعد وهو الممد، فبداية طاعتك من الله ونهايتها إلى الله، قال سبحانه: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة: 118]، وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة:104 - 105]. وقال عَزَّ وَجَلَّ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]، وأنت تعيش بين هذين الاسمين الأول والآخر .. استشعر ذلك حتى يحدث لك التبري من الحول والقوة؛ وعندئذ لا ترى عملك، وإنما ترى فقط أن الكريم سبحانه هو الذي مَنَّ عليك وشغلك بطاعته .. وأكرمك عنده .. اللَّهم أكرمنا ولا تهنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا. ملاحظة المِنة تطهر القلب من رؤية العمل، وحظ النفس، والرياء والسمعة .. اللَّهم ارزقنا شكر نعمتك وحسن عبادتك .. اللَّهم إنا نحمَدُك حمَدا كثيرًا يوافي نعمَك ويكافِئ مزيدَك. التمرين الثاني عشر: تهدئة نمط الحياة: تخفيف سرعة حركة الحياة تمهيدًا للتوقف في رمضان، والتخفف من أعباء الدنيا ومحاولة إزالة همومها العارضة، والحذر من الانشغال بها والتلهي بها عن طاعة الله، فلابد من روية .. لا بد من دقة في التوفيق بين أعمال الآخرة التي هي خير وأبقى وبين أعمال الدنيا التي هي ذاهبة زائلة. إننا نعيش في هذا الزمان حياة مليئة بالحركة والسرعة، فعلًا نعيش في هذه الأيام سرعة التغيير ودوام التغيير ومفاجأة التغيير، فلا توجد فرصة حقيقية للإنسان للتفكير قبل التغيير، وهذه أكبر أخطار هذا العصر؛ لذلك قبل رمضان نحتاج أن يمهل الإنسان نفسه، يعطي نفسه فرصة للَّهدوء الذهني والقلبي، فرصة لمراجعة

نمط الحياة، وتهدئة هذه السرعة؛ ليحصل التروِّي والتعقل في أخذ القرار بإيثار الآخرة على الدنيا فيكون الاستمرار لأن القرارات السريعة تتغير بنفس السرعة. هيا أيها الحبيب .. الهدوء .. الهدوء .. السكينة .. السكينة. أيها الإخوة .. هيَّا استعدوا لرمضان ولا يكن حظكم منه الخسران والخذلان، يا أيها المجتهد، هذا ربيع جِدِّك، أيها الطالب هذه أوقات رِفدك، تيقظ أيها الغافل من سِنَةِ البطالة، تحفظ أيها الجاهل من شُبَهِ الضلالة، اغتنم سلامتك في شهرك، قبل أن تُرتهَنَ في قبرك، قبل انقضاء مدتك، وعدم عدتك، وانقطاع صوتك، وعثور قدمك، وظهور ندمك؛ فإن العمر ساعات تذهب وأوقات تنهب، وكلها معدودة عليك، والموت يدنو كل لحظة منك. يا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي، يا شموس التقوى والإيمان اطلعي، يا صحائف أعمال الصائمين ارتفعي، يا قلوب الصائمين اخشعي، يا أقدام المتهجدين اسجدي لربك واركعي، يا عيون المتهجدين لا تهجعي، يا ذنوب التائبين لا ترجعي، يا أرض الهوى ابلعي ماءك، ويا سماء النفوس أقلعي، يا بروق الأنوار للعشاق المعي، يا خواطر العارفين ارتعي، يا همم المحبين بغير الله لا تقنعي، قد مدت في هذه الأيام موائد الإنعام للصُّوَّام؛ فما منكم إلا قد دُعي، ويا همم المؤمنين أسرعي، فطوبى لمن أجاب فأصاب، وويلٌ لمن طُرد عن الباب وما دُعِي. {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ في الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ في ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:31 - 32]، اللَّهم أعنَّا ووفقنا للإعداد لرمضان .. بحولك وقوتك يا كريم.

كيف نستقبل رمضان

كيف نستقبل رمضان حفاوة الاستقبال من كانت له بداية محرقة .. كانت له نهاية مشرقة

استقبال رمضان "الوصايا العشر قبل دخول الشهر"

استقبال رمضان "الوصايا العشر قبل دخول الشهر" قال الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، أمر الملك سبحانه أن من شهد فليعمل، وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: "لا تجعل يوم صومك كيوم فطرك، لا تجعلهما سواء"، لا بد من التغيير. إنه بمجرد ظهور هلال رمضان في السماء تفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النار وتصفد الشياطين وينادي المنادي. سبحان الملك!، تغير جذري عجيب في الكون كله، يجب أن يستشعره المؤمن صاحب العقل اليقظ والقلب الحي، ويحصل منه استقبال لهذا الشهر، استقبالًا حقيقيًّا، فيظهر أثر ذلك الاستقب الذي تغيير نمط الحياة؛ لأنه يتعامل مع الكون، فإذا تغير الكون يجب أن يتغير هو أيضًا؛ لذلك أول ما نستقبل به الشهر: فُكَّ الشدَّ العصبي في العِراك مع الحياة لتحصل المصالحة .. لا بد من عقد هدنة بين جميع الأطراف خلال هذ الشهر لنصل إلى الهدف المنشود بسلام: العتق من النار، فإليك هذه الوصايا العشر، اعمل بها يرحمك الله. الوصية الأولى: هدنة مع المناقشات والجدال: في المنزل مع الزوجة والأولاد، وتهيئة بيئة رمضانية إيمانية، قال سبحانه: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} [النحل: 80]، ويكون ذلك بما يلي:

الوصية الثانية: إقامة هدنة في العمل الزملاء والمسؤلين

(1) محاولة فض جميع المشاكل والمنازعات قبل دخول الشهر، حتى لا تعكر عليك جوك الإيماني، وحتى لا تعرقل طاعاتك التي تريد القيام بها , لا بد أن تتخلص من هذه المشكلات وأن تضع لها حلولًا جذرية حتى لا تؤثر على عبادتك. (2) إجراء محاضر صلح بين أفراد الأسرة جميعًا، فتنقي البيئة من حولك من شائبة الاختلافات والخصومات، واعمل على أن تُوجِد جوًّا من المحبة والتواد والتقارب بين أفراد الأسرة؛ فإن ذلك مما ييسر السبيل أن يطيعوك ويطيعوا ربهم سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء: 53]. (3) عقد اجتماع طارئ وعاجل مع جميع أفراد الأسرة للاتفاق على المبادئ والأصول التي سيتم السير في ظلالها خلال شهر رمضان، ومن هذه المبادئ: * التخلي عن التلفاز ومشاهدته، وإقناعهم أنهم لن يخسروا شيئًا إذا فعلوا، وتعالوا نجرب أن نستبدل ذلك بأعمال إيمانية وقربات نافعة. * إيقاف سيول الأغاني الجارفة التي تقتل الإيمان. * ضبط اللسان والحذر من انحرافه إلى ما يغضب الله. * إلغاء السهرات والعزومات والدعوات أو التقلل منها، قدر الإمكان (4) اتخاذ السبل الجادة لإنقاذ جميع أفراد الأسرة من النار، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، قال ابن عباس - رضي الله عنه -: أي علِّموهم الخير وأدبوهم. الوصية الثانية: إقامة هدنة في العمل الزملاء والمسؤلين: وذلك يكون بالتجاوز عن الخصومات ومصالحة الجميع ونسيان الخلافات،

الوصية الثالثة: إقامة هدنة مع نفسك للتخلص من سموم القلب

والبدء بصفحة نقية بيضاء، لا نريد زوبعة المشاكل في العمل، ولا نريد الانشغال بقيل وقال، لا نريد ضياع الأوقات في فضول الكلام، ولابد من الإصلاح بين المتخاصمين والوصول إلى حل وسط لإرضاء جميع الأطراف في غير معصية الله، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1]. نريد أن يكون تعاملك مع زملائك في العمل مبنيًّا على حصول المكاسب لك في الدين، وإن خسرت الدنيا, ولابد كذلك من إتقان العمل وإحسانه لا سيما وأنت صائم تراقب الملك سبحانه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه" (¬1). الوصية الثالثة: إقامة هدنة مع نفسك للتخلص من سموم القلب: وسموم القلب خمسة: فضول الطعام، وفضول الكلام، وفضول النوم، وفضول الاختلاط، وفضول النظر. 1 - هدنة مع الأكل، إنه شهر صيام وتقلل لا شهر أكل ونهم وتوسع: الطعام وقود الشهوات، وامتلاء المعدة بالطعام سبب لكسل البدن عن العبادة، وإذا أكل المرء كثيرًا شرب كثيرًا، فنام كثيرًا وخسر كثيرًا، وتأمل كيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الشاب العَزَب بالصيام؛ وعلل ذلك بأن الصيام "وِجاء" أي قاطع للشهوة، يقضي عليها ويهذبها، وقد علمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فِقْهَ الطعام فقال: "ما ملأ ابن آدم وعاء شر من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا بد فاعلًا، فثلثٌ لطعامه وثلثٌ لشرابه وثلثٌ لنَفَسِه" (¬2)، نريد ¬

_ (¬1) أخرجه أبو يعلى والطبراني في "الكبير" (24/ 306)، وصححه الألباني (1880) في "صحيح الجامع". (¬2) أخرجه ابن ماجه (2/ 111)، وصححه الألباني (1983) في "صحيح إرواء الغليل".

هدنة مع الأكل، قال سبحانه: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)} [طه: 81]، اكتف بلقيمات كما أمرت. 2 - هدنة مع الكلام: رجاء .. أغلق فمك في رمضان: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت" (¬1)، كل كلمة تخرج من فمك فهي إما ثواب وإما عقاب، قال الله جل جلاله: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، وكثرة الكلام مَدعاة للخطأ. وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صمتَ نجا" (¬2)، وقد جعل الله لك لسانًا واحدًا وأذنين ليكون ما تسمع أكثر مما تتكلم، والبلاء موكلٌ بالنطق، فاحذر فضول الكلام، واحذر الاسترسال في الحديث عن الدنيا فإن ذلك يقسي القلب، وإن استطعت ألا ترد على الهاتف إلا لأمر ضروري فافعل، وأن تأمر زوجتك بالتوقف عن المكالمات التي تمتد لساعات بلا فائدة، والتي تضيع الوقت، وعادة ما تؤدي إما إلى الحديث في أمور الدنيا، وإما في الغيبة والنميمة فهكذا أحاديث النساء دائمًا. فلا تستخدم الهاتف إلا لطاعة الله كأن تبر والديك أو تصل رحمك أو تنهي أعمالا مهمة أو تدل على خير، وألجم لسانك عن قول ما لا يرضي الله عز وجل، وقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يدخل الناس النار قال: "الفم والفرج" (¬3). ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (5672)، مسلم (47). (¬2) أخرجه أحمد (2/ 159)، وصححه الألباني (536) في "السلسلة الصحيحة". (¬3) أخرجه أحمد (2/ 392)، وصححه الألباني (1723) في "صحيح الترغيب والترهيب".

وهما أيضًا سبب لدخول الجنة، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة" (¬1)، وهذا يدلك على خطر اللسان وخطر كل ما يخرج منه. الشاهد إخوتاه: لا بد أن تتخلص من فضول الكلام؛ فإنه من سموم القلب، واستقبل رمضان بالصوم أيضًا عن الكلام. 3 - هدنة السرير .. دعه يستريح منك شهرًا: النوم نعمة من الله على عباده، لكنها إذا تعدت حد الإفراط أفسدت القلب، سيأتي معنا في برنامج الصائم اليومي أنه يكفيك أن تنام أربع ساعات في اليوم في رمضان؛ لأنك تطلب شيئًا عظيمًا، بل تطلب أعظم شيء وهو جنة الله، اللَّهم إنا نسألك الجنة يا رب، فلابد أن تقلل من ساعات نومك؛ لأنك في حالة طوارئ، تتعب في تحصيل غاية كبيرة، بل هي أكبر غاية، فاحذر كثرة النوم حتى لا يضيع عمرك ويضيع دينك وقلبك. كلما حدثتك نفسك بالنوم والتكاسل عن العبادة، أغمض عينيك وتخيل الجنة، وقل لنفسك: أترضين أن نخسر الجنة؟، أتنامين وهناك من يسبقنا الآن إليها، أما علمت أن فلانًا يتلو القرآن الآن، وفلانًا يصلي من الليل الآن، فماذا سيفيدك النوم إذا سبقك هؤلاء إلى الجنة بدرجات!! لذلك أنصحك -أخي- أن تجعل لك صديقًا مخلصًا ذا همة عالية تتنافس معه في العبادات، تتنافسان من يختم القرآن أولًا وكم مرة، تتنافسان على قيام الليل، وعلى ذكر الله، ويوقظ كل منكما الآخر فإن ذلك يجلب لك همة ونشاطًا، قال الله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6109).

4 - هدنة مع الناس .. أنفاس الناس دخان القلوب: ومخالطة الناس بلاء، قال بعض السلف: هذا أوان السكوت ولزوم البيوت. إن الناس يثبطونك ويخذِّلونك عن الطاعة، وقلما تجد منهم ناصحًا أمينًا، فاحذر مخالطة أهل الدنيا، فإن خلائقَ السفهاء تُعدي، وكما يقول علماء التربية: "الطِّباعُ سَرَّاقة"؛ و"الإنسان ابن بيئته"، فإن كان لا بد من مخالطة فلتكن يسيرة، ولتكن بالصالحين، وعليك بذوي الهمم العالية منهم، من إذا دللته على خير سبقك إليه لا يثبطك عنه. ابحث عمن تعلم أن همته في الثريا وليست في الثرى. وقد أُمِر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يصبر نفسه مع المؤمنين المجدين في السير إلى الله؛ فقال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ} [الكهف: 28]، ثم أمره تعالى بأن يجتنب مخالطة الغافلين وطاعتهم فقال: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، وقد حذرنا ربنا عَزَّ وَجَلَّ كذلك من الركون إلى الظلمة ومخالطتهم، وهذا يشمل العصاة المجاهرين بالعصيان كذلك، فرؤيتهم تقسي القلوب، كما أن رؤية الصالحين تذكر بالله، قال تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113]. 5 - هدنة مع العينين .. أغمض عينيك .. أرح بصرك: قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30]، وفي الآية التي تليها مباشرة: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 31]، والنظر إلى المتبرجات يفتت عزم القلب .. يشتت القلب ويهلكه لأنه سم، وإطلاق البصر سبيل لحصول الظلمة في القلب، كما

أن غض البصر سبيل لحصول النور والبصيرة في القلب، ولذا جاءت آيات النور بعد آيات الأمر بغض البصر، وليس غض البصر عن النساء فقط، وإنما كذلك غضه عن النظر إلى متاع الدنيا الذي يُنسي ويُلهي، قال تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]. لا بد من راحة للبصر لكي تنطلق البصيرة، وسبيل ذلك أن يسعك بيتك ولا تنطلق في الشوارع، اشغل نفسك ببعض الطاعات: لا تجد وقتًا للخروج، واشغل بصرك بالنظر في المصحف، لا ترى أحدًا. الوصية الرابعة: عمل هدنة الأرحام والوالدين: إن شعورك -مجرد شعورك- أن كل الناس يحبونك ويعجبون بك. مجرد شعور أنك ليس لك أعداء ولا أحد يحقد عليك. هذا الشعور بمجرده يجلب راحة نفسية وهدوءا قلبيًّا وراحة ضمير، وراحة بال مطلوبة يحتاج الإنسان إليها. وأنت أحوج لأن تستشعر هذا الأمر من المحيطين بك، وأقرب الناس إليك، أن ترى رضاهم عنك وسرورهم بك وحبهم لك، إننا نطلب هذا لا لنعجب بأنفسنا ولا طلبًا لراحة قلوبنا فقط وهدوئنا النفسي فحسب ولكن: لنستطيع أن نجمع الهم ويسكن روع القلب، كي نعبد ربنا كما ينبغي .. إن الأجواء الإيمانية تتسم بالهدوء والسكينة واللطف .. ولاستقبال رمضان كما ينبغي لا بد من تهيئة هذه الأجواء، ولكن كيف؟!! .. الإحسان إلى الجميع .. إراحة الجميع .. ولو على حساب نفسك .. مسامحة الكل والتنازل عن الحقوق، وأداء جميع الواجبات تجاه الجميع، ابذل كل ما تستطيع لعقد هدنة مع كل من حولك من الأقارب.

الوصية الخامسة: عمل هدنة النفس لترك الذنوب والمعاصى والسيئات

طاعة الوالدين فرض واجب ما لم يأمرا بمعصية الله، فيجب عليك طاعتهما والإحسان إليهما والبر بهما , ولابد أن تصل رحمك وأن تحذر من قطع الأرحام، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1]، يعني واتقوا الأرحام أن تقطعوها، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله خلق الرحم، حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك، قالت: بلى يا رب، قال: فهو لك" (¬1)، ومن وصل رحمه وصله الله ومن قطعها قطعه الله؛ لذلك لا بد من زيارة الأرحام والسؤال عنهم ومساعدتهم إذا استدعى الأمر، كي يصلك الله برحمته في هذا الشهر الكريم، فابدأ شهرك بصلة رحمك. قال سبحانه: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] فلهؤلاء حق وليس تفضلًا منك يا مسلم. وإذا كان حق المسلم على المسلم ست؛ فإن ذا الرحم يزداد حقه على ذلك بصفة الرحم، والوالدان حقهما أعظم، ولا بأس من حمل شيء من الهدايا، والهدية تذهب وَحْرَ الصدر، الهدية تكون سببًا في المودة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تهادوا تحابوا" (¬2). الوصية الخامسة: عمل هدنة النفس لترك الذنوب والمعاصى والسيئات: (1) هدنة في الحرب مع الله: قال سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4552). (¬2) أخرجه البيهقي (6/ 169)، وحسنه الألباني (3004) في "صحيح الجامع".

الظَّالِمُونَ (229)} [البقرة: 229]، حاول أن تعقد اتفاقًا مع نفسك لكي تكف عن الحرب بترك الذنوب والمعاصي تمامًا .. ابدأ فورًا بإقامة العهد مع النفس بالإقلاع عن الذنوب، والتوبة إلى الله جل جلاله. ولابد أن تكون هذه التوبة نصوحًا، بأن تكون شاملة لكل الذنوب، وأن تندم على كل ما عملت، وأن تعزم وتنوي ألا ترجع إليها مرة أخرى. والتوبة واجبة من كل ذنب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8]، وتأمل كيف أمر الله المؤمنين جميعًا بالتوبة وعلق عليها فلاحهم فقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]. لا بد أن تعاهد نفسك على ترك المعاصي والسيئات، لا بد أن تتوب، وإن لم تتب فأنت ظالم بنص كلام الله جل جلاله، قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]، ولابد أن تتخلص من إصرار النفس على الذنوب؛ فإن الإصرار على الذنب ذنب آخر. (2) البعد عن أسباب المعاصي، فلابد أن تغلق باب المعصية عن نفسك، ابتعد عن أماكن الاختلاط، ابتعد عن التلفاز، ابتعد عن قراءة المجلات والجرائد التي تدعو إلى الفتن، ابتعد عن كل سبب من أسباب المعاصي، حتى تحافظ على إيمانك، فإن للمعصية ظلمة في القلب وسوادًا في الوجه وبغضًا في قلوب الخلق. لماذا تضع نفسك بين الفتن ثم تحارب لتنجو منها. ولماذا تقترب من أسباب المعصية مع علمك بأن أسلم طريقة للنجاة من الفتن البعد عنها؟، وأنت تعرف حديث قاتل المئة كيف أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بترك أرضه التي كان يعيش فيها؛ لأنها أرض سوء .. أسباب المعصية فيها

الوصية السادسة: هدنة مع طول الغياب خارج المنزل وكثرة الارتباطات والمواعيد واللقاءات

متوفرة، وأمره أن يذهب إلى أرض كذا وكذا؛ لأن فيها قومًا صالحين ليعبد الله معهم، فأمره بالبعد عن سبب المعصية، والاقتراب من سبب الطاعة. (3) العزم على عدم العودة؛ أن تنوي نية حقيقية صادقة ألا تعود إلى الذنب؛ لأن في الرجوع إلى الذنب هلاكك؛ لأنه قد يكون في رجوعك إليه سقوطك من عين الله .. إنك إذا رجعت إلى الذنب قد تموت عليه فتلقى الله عاصيًا، فانهض إلى طاعة ربك وأتبع السيئات الحسنات، ولا تلتفت بقلبك إلى الذنب، واحذر أن تقع فيه؛ بل اعزم على عدم العودة إليه أبدًا. الوصية السادسة: هدنة مع طول الغياب خارج المنزل وكثرة الارتباطات والمواعيد واللقاءات: ابدأ في التقليل من الخروج وكثرة الارتباطات والمواعيد واللقاءات .. تفرغ في رمضان لعبادة ربك، لمعالجة نفسك والعمل على تهذيبها، أنت في فترة عناية مركزة للقلب، لماذا تكثر الخروج من البيت؟، تشتري كذا وتزور فلانًا وتكلم فلانًا، يمكنك أن تشتري حاجيات رمضان قبل دخوله حتى لا تنشغل بغير العبادة، يمكنك أن تشتري ملابس العيد قبل دخول رمضان وتتركها حتى العيد، الأشياء الأخرى التي تريدها في العيد اشترها من الآن. سأل عقبة بن عامر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النجاة فقال: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك" (¬1) .. الوصية السابعة: هدنة مع كثرة النفقات والتبذير: شُرع الصيام للتقلل من الطعام والشراب؛ ولكن للأسف الشديد! تجد الناس ينفقدن في الطعام والشراب في رمضان ما لا ينفقون في غيره!! والتبذير ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2406)، وصححه الألباني (2741) في "صحيح الترغيب والترهيب".

ليس من أخلاق المؤمنين، بل هو من صفات الشياطين، قال تعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 26 - 27]، وقد أمرنا ربنا بالاعتدال في الإنفاق وحرم التبذير فقال: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29]، ويمكن أن تتفق مع الأسرة على أمور: (1) الاتفاق على صدقة: والصدقة برهان على صدق المرء في إيمانه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها" (¬1)، فاتفق على أن تتصدق كل يوم ولو بشيء قليل؛ فإن الله يضاعفه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يقبل الصدقة من أحدكم فيربيها له كما يربي أحدكم مهره حتى تكون اللقمة مثل الجبل" (¬2)، قالت السيدة عائشة - رضي الله عنها - لما سألها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بقي من الشاة؟ "، قالت: كتفها، قال - صلى الله عليه وسلم -: "بقيت كلها إلا كتفها" (¬3)، تصدق أنت مرة، وأعط زوجتك هي الأخرى، وأعط ولدك يتصدق؛ لكي يتعود على العطاء والبذل، والله يضاعف لمن يشاء. (2) إفطار الصائمين: اجتهد أن تُفَطِّر صائمًا أو صائمين أو ثلاثة أو عشرة كل يوم قدر استطاعتك؛ فإن لك مثل أجره كل يوم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من فطَّر صائمًا فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء" (¬4)، أبرم مع الله عقد ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (223). (¬2) أخرجه مسلم (1014). (¬3) أخرجه أحمد (6/ 50)، وصححه الألباني (2544) في "السلسلة الصحيحة". (¬4) أخرجه أحمد (4/ 114)، وصححه الألباني (6415) في "صحيح الجامع".

الوصية الثامنة: هدنة مع العقول والقلوب من التفكير والتدبير للدنيا

تأمين على الصيام، هل تريد أن يكتب لك رمضان ستمائة يوم؟، الأمر يسير جدًّا، ما عليك إلا أن تفطر كل يوم عشرين صائمًا فتكون في خلال ثلاثين يومًا قد فطرت ستمائة صائم؛ فكتب لك رمضان ستمائة يوم. 3 - إطعام المساكين: قال الله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]، وإطعام الطعام قربة يتقرب بها العبد إلى الله سبحانه وتعالى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام" (¬1)، وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يفطر كل يوم مع المساكين. 4 - مساعدة المحتاجين: تُرشِدُ ضالًّا، تعين ضعيفًا في طلب حقه، تؤازر مسكينًا، تنصر مظلومًا، من احتاج شيئًا تثبته له. ذهب جماعة إلى الحسن البصري في حاجة فقال: مروا على فلان في المسجد وخذوه معكم، فذهبوا إليه فقال: إني معتكف، فقال: ارجعوا وقولوا له: يا أعمش، أما علمت أن مشيك في حاجة أخيك حتى تثبتها له خير من اعتكافك، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "واللهُ في عونِ العبدِ، ما كان العبد في عونِ أخيه" (¬2). الوصية الثامنة: هدنة مع العقول والقلوب من التفكير والتدبير للدنيا: الدنيا لا تستحق أن تفكر فيها، الدنيا أهون من ذلك، وأحقر من أن تنشغل بها وتدبر لها؛ لذلك اجعل تفكيرك كله في الآخرة: ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (5/ 451)، وصححه الألباني (569) في "السلسلة الصحيحة". (¬2) أخرجه مسلم (2699).

الوصية التاسعة. هدنة مع إستهلاك الأعضاء

(1) فكر في حسنة جديدة تعملها، ابحث عن عبادة مهجورة لتقوم بها، ابحث عن ذكر مهجور لا يقوله كثيرٌ من الناس أو لم تقله أبدًا واذكر الله به، فكِّر كيف تجمع الحسنات وتدَّخِر الأجر عند الله جل جلاله. (2) فكر في خدمة المسلمين كيف تخدمهم، كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -وهو خليفة المسلمين يحلب للحي شياههم، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يذهب إلى عجوز مُقعَدَة ضعيفة ليخدمها، فوجد أن رجلًا سبقه إليها قد نظف بيتها وأزال عنها الأذى وملأ لها آنيتها؛ فتعجب من هذا الذي سبقه إليها وقام بهذا فوجد أنه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -!! كانوا يتسابقون في خدمة المسلمين وبذل الخير لهم. (3) التفكير في خدمة الدين: تفكر كيف تخدم دينك، وكيف تبذل في سبيله، تعطي شريطًا هدية، تقوم بإلقاء موعظة، تهدى، كتيبًا، تدعو رجلًا لترك التدخين، وتدعو آخر للمحافظة على الصلوات، تقوم بعمل مجلة حائط، تقوم على حلقة لتحفيظ القرآن وتجويده .. وتفكر في خدمة دينك، وديننا يحاج إلى كل يد تكتب عنه وتدافع عنه، وإلى كل لسان يبيِّن عظمته وحقيقته للناس، وإلى كل قلب ينبض بحبه. (4) التفكير في لذة أخروية: تفكر كيف تفوز غدًا بالجنة، كيف تستشعر قرب الله إذا ذكرته، كيف تحقق الخشوع في الصلاة، كيف تخلو بربك في ساعة النزول الإلهي، تبكي بين يديه وتتضرع إليه، فتشعر بقربه منك وقربك منه وحبه لك، قيل للحسن: مالنا نرى أهل الليل أحسن الناس وجوهًا؟، قال: خَلَوْا بالرحمن فألبسهم من نوره. الوصية التاسعة. هدنة مع إستهلاك الأعضاء: في رمضان أرح عينيك بعدم التطلع إلى الدنيا، بعدم النظر إلى

الوصية العاشرة: هدنة مع الهموم

المتبرجات، تريحها بالنظر إلى كلام الملك جل جلاله، تريح عينك من عناء الذنوب، وتريح أذنك من ضجيج الكلام وصخب الهموم والغموم .. تريح أذنك من سماع الغيبة والنميمة والكذب، تريح أذنك من سماع الأغاني، وتريح رجليك من كثرة الانتقال هنا وهناك بغير فائدة، تريح رجلك بالاستقرار في بيتك أو مسجدك، تريح رجليك من كثرة السعي لتحصيل ما لا فائدة من ورائه. وتريح عقلك من هموم الدنيا ونكدها .. تنشغل بالطاعات والأذكار والاستغفار فلا يبقى عندك مكان لهذه الهموم التي تنخر في جسمك وتؤذيك، وتريح معدتك بعدم دس الطعام فيها على الدوام، بل تبقى في نهار رمضان خالية مستريحة، تريحها من ثقل الطعام، وتريح أمعاءك كذلك، تريح قلبك من التعلق بالبشر والتعلق بالأسباب والانشغال بغير الله، اجمع همك وأرح جوارحك تستمتع بحب الله. الوصية العاشرة: هدنة مع الهموم: أريدك أن تطرح الهموم عن صدرك .. لا تشغل ذهنك بها، فهذا رجل طلب منه أولاده ملابس المدرسة، وكتب المدرسة، وكراريس المدرسة، فلم يدر من أين يأتي بالمال لكي يشتري لأولاده ما يريدون، وظل الهم في صدره، ونام وعقله مشغول بذلك، ولكنه استراح من ذلك الهم فجأة، أتدرون ماذا حدث؟، مات .. راحة أبدية من هذه الدنيا .. لذلك أقول: واللهِ .. إن هذه الدنيا لا تستحق أن تقتل نفسك من أجلها. لذلك: اجعل الهم همًّا واحدًا، وهو رضا الله سبحانه وتعالى، اجعل هذا همك: أن ترضي الله وحده، فلو رضي عنك لنالك كُلُّ خيرِ وبِرٍّ وبركةٍ

وفضل، هذا الهم لا يؤجل وجميع الهموم تؤجل، فليكن همُّكَ في رمضان هو عتق رقبتك من النار، والفوز برضوان الله عَزَّ وَجَلَّ. إذا كانت هذه الهدنة التامة .. كانت الراحة التامة .. فكان الاستقبال لرمضان بحفاوة بالغة .. وبداية موفقة .. وعناية مركزة .. فنعيش رمضان .. هيا: *كيف نعيش رمضان؟ *

كيف تعيش رمضان

كيف تعيش رمضان برنامج عملي للحفاظ على الإشراقة الإيمانية

أولا: تحديد الأهداف

كيف تعيش رمضان؟ أيها الأحبة في الله .. كيف يعيش المسلم يومًا من أيام رمضان؟، يأتي هذا الكلام؛ لأن الأمة -وللأسف الشديد- لم تذق طعم رمضان منذ أن ذاقت طعم الهزيمة، منذ أن عاشت معنى الذل للأعداء، منذ أن تخبطت وتلونت ولم تذق طعم النصر ولم تَتَوَجَّه إلى الله عَزَّ وَجَلَّ وحده، ولو صامت الأمة يوما كما ينبغي منذ جرى لها ذلك؛ لتغيرت، ولو تغيرت لغير الله حالها، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]. ولكي نعيش رمضان كما ينبغي ونصنع فيه صناعة الرجال، فلابد من السير على الخطوط الرئيسية الآتية: أولًا: تحديد الأهداف: أيها الأخوة، إننا بحاجة إلى تحديد الأهداف التي ندخل بها رمضان، ثم رسم الطريق لتحقيق هذه الأهداف، ثم وضع خطة للتقويم .. تقويم العمل، ثم متابعة تحصيل الثمار. إن الناس اليوم إذا أراد أحدهم أن يقوم بمشروع يستثمر فيه أمواله؛ فإنه قبل كل شيء لا بد أن يقوم بعمل دراسة جدوى، وقبل أن يجتمع المجتمعون في أي اجتماع ذي شأن لا بد أن يضعوا برنامج عمل أو جدول أعمال، هذا في عرف أهل الدنيا، هذا أصل عندهم، أفلا يكون هذا أصلًا عند أهل الآخرة، لا سيما وهم يطلبون أعلى شيء وهو الجنة؟!، فهم بهذا أولى. نعم والله: أهل الآخرة أحق أن يقوموا بعمل دراسة جدوى لصيام

رمضان، هل ستكون له نتيجة حقيقية، هل سيكون له ثمرة فعلية، وما المطلوب أن أعمله لكي تأتي الثمرة المرجوة .. إن من يريد تقويم عمله؛ ينظر في ثمرته أولًا بأول، إذًا فلابد أن نقف في كل ليلة من رمضان مع أنفسنا لننظر، ولأن لله في كل ليلة عتقاء من النار؛ فلابد أن يكون في كل ليلة وقفة: هل أنا في هذا اليوم كنت ممن أُعتَق، وماذا أفعل لأتدارك ما فات من عتق ومغفرة، اللَّهم أعتق رقابنا من النار يا رب .. أيها الإخوة، لكي تعتق رقابنا من النار، فلابد من تحديد الأهداف، لا بد من رسم خطة العمل، ووضع الوسيلة للوصول إلى هذه الأهداف، ووضع نموذج لتقويم العمل وتحصيل الثمار، وأولًا إليكم الأهداف: الهدف الأول: تشوق القلب للرحمة: لا بد أن تهدف لأن ينال قلبك رحمةُ الله، ولابد أن يسمو، ويتمنى، ويرجو، ويحب، ويأمل أن ينال من الله رحمة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لن يدخل أحدكم الجنة عمله"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟، قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته" (¬1)، سبحان الله!!، حتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو رسول الله .. حبيب الله .. إمام الخلق .. وحبيب الحق محمَّد - صلى الله عليه وسلم - لن يدخل الجنة إلا برحمة الله. إذًا فأنت محتاج لأن تُرحم، وعندما ينزعج قلبك لطلب الرحمة؛ هنا ستنزل عليك -إن شاء الله- رحمة الله، وخصوصًا أن لله في كل ليلة من رمضان رحمات يختص بها من يشاء من عباده، قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ في رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان:29 - 31]. ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (5349)، مسلم (2816).

الهدف الثاني: استحضار نية المغفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" (¬1)، هذا الحديث يحتاج إلى وقفة. ينبغي أن تنتبه لتلاحظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترط أن تصوم إيمانًا واحتسابًا، فهل أنت تصوم إيمانًا واحتسابًا؟! هل تعرف بدايةً ما معنى إيمانًا واحتسابًا؟، لعلك تصوم كما يصوم الناس فتمتنع عن الأكل والشرب والجماع من الفجر حتى المغرب، إذا أذن المغرب تفطر وإذا أذن الفجر تمسك "أتوماتيكيا"، أين النية؟!، أين الاحتساب؟! إن من العجيب أن تجد بعض الناس يتساءل، هل لا بد أن تنوي لصيام رمضان؟، أقول: نعم، لا بد أن تُبَيِّتَ النية، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من لم يبيِّتَ الصيامَ من الليل فلا صيامَ له" (¬2)، لا بد من النية. دعك من هذه الآلية في الحياة، قد يقال: سمعت بعض الناس يقولون: السحور نية، أقول لك: نحن لا نأمرك أن تقول: نويت أصوم يومًا من أيام رمضان فرضًا عليَّ لله العلي العظيم، هذا بدعة، لكن الذي أريده: أن يستحضر قلبك أنك ستصوم لله. لماذا؟؛ إيمانًا: يعني استسلامًا للملك سبحانه وتعالى؛ يا رب، أمرتني أن أصوم فصمت. واحتسابًا: أن تحتسب الأجر عند الله. ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (38)، مسلم (760). (¬2) أخرجه البيهقي (4/ 202)، وصححه الألباني (6535) في "صحيح الجامع".

وقد أوقعتني هذه المسألة في حيرة مدة من الزمان، واستشرت فيها كثيرًا من المشايخ وهي: هل الاحتساب شرط لحصول الأجر؟، أي لو أن رجلًا جلس في المسجد دون أن يستحضر نية الاعتكاف ونزول الرحمة وغير ذلك من النوايا؛ فهل هذا ليس له أجر؟، والراجح أنه ليس له أجر؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" (¬1)، وهذا لم ينو شيئًا فليس له شيء. فلابد أن تستحضر في كل عمل نية الاحتساب والاستسلام لأمر الله. يا رب، تركت هذا لأجلك؛ لأحتسب عندك الأجر .. عندما تغمرك هذه النية وتملأ قلبك؛ حينها تحصل على الأجر، لذلك لا بد من استحضار نية المغفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة، كي يغفر لك، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنك مطالب أن يكون قلبك يقظًا دائمًا متحفزًا سميعًا مجيبًا لأوامر الشرع. الهدف الثالث: سمو الروح للعتق من النار: لا بد من استشعار معنى العتق، أن تستشعر أنك قد تكون فعلًا من أهل النار. * تصدَّقَ يونس بن عبيد يوم أضحى بلحم كثير ثم قال لغلامه: والله ما أراه يتقبل مني شيئًا؛ وإني والله أخشى أن أكون من أهل النار. قال الإِمام الذهبي في السير: كل من لم يخشَ أن يكون من أهل النار؛ فهو مغرور قد أَمِن مكر الله به. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907).

فلا تأمن من أخي مكر الله وخصوصًا أنك كثير المكر واحذر أن تكون من أهل النار وأنت لا تشعر. ولابد للتخلص من هذا أن تعتق رقبتك من النار، فإذا كان لله في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار، فما أشد خسارتك إذا مرت عليك ليلة واحدة من رمضان ولم تعتق، وإذا علمت خطر النار وشدة حرها، وشدة عذابها , لهان عندك أن تقدم الأعمال الصالحات لكي تكون سببًا لعتقك منها؛ لو عرفت النار وأدركت خطرها وعرفت أن أمامك فرصة للعتق منها؛ لبذلت الغالي والنفيس للحصول على هذا العتق، ولصار هذا الأمر همك طيلة الشهر، اللَّهم أعتق رقابنا من النار يا رب. الهدف الرابع: سمو الروح للارتفاع عن كثافة المادة وهم الفرج والبطن: يقول ابن القيم في كتاب "زاد المعاد" في الطب النبوي: "إن الصوم جُنَّةٌ من أدواء الروح والقلب والجسد، وجنة يعني وقاية"، فلذلك لا بد أن تنوي بالصيام أن يشفى قلبك من حب الدنيا، وتجعل ذلك هدفًا لك في الصيام، وتتسامى روحك عن هم البطن والفرج .. عن الطين .. عن الأرض .. عن غذاء الجسم .. الهدف الخامس: إقامة حاكمية الله على النفس: إن الإنسان في حياته العادية يعيش في غفلة شديدة غالبًا، يتابع نفسه في كل ما تشتهيه: تطلب نفسه الطعام فيأكل، وتشتهي الشراب فيشرب، وتنزع إلى الخروج فيخرج .. وهكذا ... فتستأسد النفس وتطغى، فإذا جاء رمضان ومنعها الإنسان ملذوذ مباحها؛ فينبغي على الإنسان استشعار هذا المعنى: إقامة حاكمية الله على النفس.

يعني: أن يُشْعِر نفسه أنها ليست الآمرة الناهية الطاغية المستولية، إنما هي أَمَةٌ مأمورة خادمة مطيعة منقادة للملك الكبير سبحانه يقول: كُلْ ساعة كذا واترك ساعة كذا فتسمع وتطيع وليس لها أن تخالف .. إن استشعار هذا المعنى وإذاقة النفس مرارة الذل والطاعة المطلقة لله وأنها لا تطاع بل تطيع، وإنها يجب عليها أن تستجيب لكل ما تؤمر به غاية وهدف من رمضان وفرض صيامه ودوام ذلك لمدة ثلاثين يومًا، وينبغي أن يرصد هذا الهدف لنخرج به من هذا الشهر الفضيل. الهدف السادس: إقامة دستور الأخلاق: قال بعضهم: الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين، وشهر رمضان شهر التقوى .. شهر الأخلاق، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصوم جنة، فإذا كان يومُ صومِ أحدِكم؛ فلا يَرفُث، ولَا يَفْسُق، ولا يَصْخَب، ولا يَجْهَل، وإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم" (¬1). المحافظة على دستور أخلاق الإِسلام شهرًا كاملًا بألا يلفظ بلفظ يخالف الشرع، وأن يتحكم في انفعالاته، ويتذكر دوما تلبسه بالعبادة بقوله لمن قاتله: "إني صائم"، مدرسة تربوية عظيمة، نجعلها هدفًا نخرج به من رمضان. الهدف السابع: التدريب على المداومة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل" (¬2)؛ ولذلك كان عمله - صلى الله عليه وسلم - دِيمة. إن آفة الأعمال الانقطاع والاستحسار وترك العمل، وفي ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 306)، وصححه الألباني (978) في "صحيح الترغيب والترهيب". (¬2) متفق عليه، البخاري (6100)، مسلم (782).

ثانيا: الطريق لتحقيق الأهداف

هذا الشهر تدريب النفس على أن تستمر على العمل الصالح، فهذه ثلاثون يومًا صيامًا، وثلاثون ليلةً قيامًا؛ لتألف النفس العمل فتستمر عليه دائمًا. هذه بعض الأهداف، وهناك حوالي خمسة وعشرين صنفًا من الأهداف، وإنما نختصر اختصارًا، هذه هي الأهداف إخوتاه، فما هو الطريق لتحقيق هذه الأهداف؟ ثانيًا: الطريق لتحقيق الأهداف: أيها الإخوة، لا بد من إعداد العدة، ويكون ذلك بما يلي: * أولًا: تقليل ساعات النوم. * ثانيًا: تقليل كمية أكل ما أمكن. * ثالثًا: تقليل الكلام. * رابعًا: تقليل الخلطة بالبشر. يعني إجمالًا: التخلص من سموم القلب الضارة. إن البرنامج الذي سنضعه لتحصيل هذه الأهداف لن يستطيع أن يقوم به من ينام في الليلة عشر ساعات أو ثمان ساعات أو ست في رمضان، إنما يكفيك في رمضان أن تنام أربع ساعات، وأنا وأنت نعرف أن كثيرًا من أهل الدنيا ينامون أقل من ذلك، سل أي طالب في الثانوية العامة كم ساعةً ينامها أيام الامتحانات؟، تجده يقول لك: ساعتين على الأكثر، هذا واقع. وهذا كله من أجل الحصول على شهادة الثانوية العامة، وأنت تريد الجنة، فأيهما أغلى؟!، كم تدفع لتدخل الجنة؟، إننا لا نريد منك غير التضحية بيسير من النوم والطعام والكلام والاختلاط، ضَحِّ .. وإن لم تضح في رمضان؛ فلن تضحيَ أبدًا .. أليس كذلك؟!

لا بد أن تضحيَ بشيءِ من النوم، سنكتفي فقط بأربع ساعات من النوم في اليوم والليلة، وعشرون ساعة شغل مع الله، إذا كان عندك استعداد فهيا شمَّر عن ساعد الجِد، وإلا فلا تَبْرَحْ مكانَك، وانتظر مآل اللاعبين. هذه الأهداف التي ذكرناها أهداف غالية، وبهذا تصنع الأمة في رمضان، وإن لم تصنع بهذا في رمضان فأبدًا لن تكون، إننا بحاجة إلى تجربة: هل آمتنا تصلح للتمكين أم لا، فهيا لنبدأ البرنامج بإذن الله، ولكن هل أنت مستعد لأن تبذل، هل أنت مستعد لأن تضحي بعمرك كله؟!، استعن بالله وقل: نعم .. إن شاء الله.

روحانيات صائم

روحانيات صائم خطة اليوم الرمضاني وتهيئة الرقبة للعتق

خطة اليوم في رمضان

خطة اليوم في رمضان يوم في حياة صائم: بدايةً: بركة اليوم. التبكير إلى صلاة الصبح وسماع الأذان في المسجد: والتبكير له فضل، وله بركته، ولكن للأسف الشديد! تجد كثيرًا الناس ولا سيما الإخوة الملتزمين لا يبكرون إلى المسجد إلا بسبب أن شيخًا مشهورًا سيستمعون إليه؛ فيضطر للتبكير ليراه وليقترب منه وليصافحه، ولكنه لا يبكر لوجه الله، أما المسجد الذي يصلي فيه في حيه فإنه يتأخر عن صلاة الجمعة والجماعة، يأتي في نصف الخطبة، أو يجلس قريبًا من الباب؛ لتكون مغادرته للمسجد سريعًا بعد إنتهاء الخطيب، أسال الله أن يهدينا ويهديهم ويتوب علينا وعليهم. أيها الإخوة، انتبهوا .. نريد أن نبكر إلى صلاة الصبح، ونسمع الأذان ونحن في المسجد، وهناك فوائد كثيرة للتبكير إلى المسجد وانتظار الصلاة، منها: (1) ترديد الأذان والدعاء بعده. (2) المحافظة على صلاة الجماعة. (3) المحافظة على تكبيرة الإحرام. (4) إدراك الصف الأول، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا" (¬1)، وقال ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (590)، مسلم (437).

النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها" (¬1)، سبحان الله!! تصلي في الجماعة الأولى في المسجد وتكون من شر صفوف الرجال؟!؛ فلذلك ينبغي أن تسارع إلى الصف الأول. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول" (¬2)، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستغفر للصف المقدم ثلاثًا، وللصف الثاني مرة (¬3)، ثم يسكت ويلتفت ويصلي. لذلك فإن مسألة الاحتساب تحتاج إلى بحث، ابحث عن فضائل الأعمال، وهناك كتاب في فضائل الأعمال للمقدسي ارجع إليه تجد خيرًا كثيرًا بإذن الله. (5) إدراك ميمنة الصف، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف" (¬4). (6) إدراك التأمين وراء الإِمام في الصلاة الجهرية، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قال الإمام: ولا الضالين فقولوا آمين؛ فإن من وافق قولُهُ قولَ الملائكة؛ غُفر له ما تقدم من ذنبه" (¬5). قلت: يا لَلْخَيبة إنْ لم يَغفرِ اللهُ لنا!؛ لأنها مسألة سهلة جدًّا أنك بمجرد قولك: آمين منضبطة خلف الإِمام مع الإِمام يغفر لك فماذا يمنعك؟!، والوعود بمغفرة الذنوب المتقدمة كثيرة جدًّا، فبعد هذا كله إذا لم يغفر لك ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (440). (¬2) أخرجه أحمد (4/ 268)، وصححه الألباني (493) في "صحيح الترغيب والترهيب". (¬3) أخرجه أحمد (4/ 126)، وصححه الألباني (9083) في "صحيح الجامع". (¬4) أخرجه ابن حبان (2160)، وحسنه شعيب الأرنؤوط. (¬5) متفق عليه، البخاري (749)، مسلم (410).

فكيف ومتى يغفر لك؟!، قال تعالى: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [يونس: 108]، وقال جل جلاله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]. اللَّهم إنا نسألك الجنة يا رب. (7) التبكير إلى المسجد تمكِّنك من الإتيان بالنوافل المشروعة بين الأذان والإقامة. (8) التبكير إلى الصلاة دليل على أن القلب معلق بالمساجد، فمن السبعة الذين يظلهم الله بظل عرشه "ورجلٌ قلبُهُ معلق بالمساجد" (¬1)، فإنه إذا اقترب موعد الصلاة فاذهب مسرعًا إلى المسجد، قال سعيد بن المسيب - رضي الله عنه -: لي أربعين سنة لم يؤذن المؤذن لصلاة من الصلوات الخمس إلا وأنا في المسجد، سبحان الله!، أربعين سنة يا من لا تقدر على أربعين يومًا، إن للعمل الصالح ثوابًا وللمداومة ثوابًا، والقلب المعلق بالمسجد لا يفارقه، بل يحب المكث فيه ويسارع بالعودة إليه. (9) التبكير إلى المسجد وانتظار الصلاة سبب لحضور القلب، وإقبال المرء على صلاته، وهذا الأمر هو لب الصلاة، كلما طال مكثه في المسجد وذكر الله؛ زالت مشاغله ومتعلقاته الدنيوية، وأقبل على ما هو فيه من قراءة وذكر. فمهما كان عندك من الهموم والمشاكل في العمل ومع الأهل والزوجة؛ فصل ركعتين {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]، سترتفع عن الهموم الأرضية، وتحلق في سماء الطاعة، أما إذا جئت متأخرًا إلى الصلاة فاتك كل هذا الفضل والخير. فأقبل على الصلاة مبكرًا، واقعد بين الأذان والإقامة؛ ليمحو الله همومك ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (1357)، ومسلم (1031).

بالذكر والصلاة وإقبالك بكليتك على الله، إن الذي يأتي إلى الصلاة متأخرًا سيظل قلبه مشغولًا بما هو فيه من هموم الدنيا أثناء الصلاة؛ ولذلك تلاحظ أن أول الناس دخولًا إلى المسجد هم آخر الناس خروجًا، والعكس صحيح، وما ذلك إلا لما ذكرته لك. (10) المبكر إلى الصلاة يتمكن من قراءة القرآن بين الأذان والإقامة، لقد ذكرت لك مرارًا كيف تختم القرآن كل ثلاثة أيام، وذلك بأن تبكر إلى الصلاة وتقرأ جزءًا قبل الصلاة بين الأذان والإقامة، وبعد الصلاة تقرأ جزءًا آخر، إذًا تقرأ في كل صلاة جزئين، في الخمس صلوات تكون قد قرأت عشرة أجزاء؛ فتختم القرآن في ثلاثة أيام. (11) يتمكن المبكر إلى الصلاة من الدعاء بين الأذان والإقامة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد" (¬1)، وكذلك تتمكن من الإتيان بأذكار الصباح والمساء بعد الصبح وقبل المغرب. (12) إن من يأتي إلى الصلاة مبكرًا يأتي غالبًا بسكينة ووقار فيكون ممتثلًا لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيحوز حبه، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، ولكن ائتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلُّوا، وما فاتكم فأتموا" (¬2)، وفي الرواية الأخرى: "إذا أتيتم الصلاة ائتوها بسكينة ووقار"، من يأتي إلى الصلاة مبكرًا يأتي ماشيًا، ومن يأتي متأخرًا يأتي مسرعًا. هذه بعض فوائد التبكير إلى الصلاة، والتبكير يكون في كل الصلوات، ولكني أخص بالذكر الفجر والمغرب، وأحب أن أنبهك أن تستيقظ لصلاة الفجر لله وليس للعمل أو للسحور والأكل والشرب أو غير ذلك، بل لله ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (3/ 119)، وصححه الألباني (265) في "صحيح الترغيب والترهيب". (¬2) متفق عليه، البخاري (609)، مسلم (603).

وحده؛ لأن الله تعالى قال في الحديث القدسي: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا وأشرك فيه غيري تركته وشركه" أو "فهو للذي أشرك" (¬1)، فالعمل قليله وكثيره إذا كان منه شيء لغير الله لم يقبله الله جل جلاله، فقم الفجر لله، ولا تقم لغير الله؛ لأن الله لا يتقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا وابتغي به وجهه. واخرج إلى الصلاة لا تريد إلا الصلاة لتحصل على الأجر كاملًا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا ينزعه إلا الصلاة، لم تزل رجله اليسرى تمحو سيئة، وتكتب الأخرى حسنة حتى يدخل المسجد" (¬2). في صلاة الفجر بعد أن تصل إلى المسجد صل ركعتين فقط ولا تزد على ركعتين؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يصلى بين الأذان والإقامه في الفجر إلا ركعتي النافلة، ثم استحضر الخشوع والسكينة وعليك بالدعاء؛ لأن قرآن الفجر مشهود تشهده الملائكة، والله سبحانه وتعالى ينزل في الثلث الأخير من الليل نزولا يليق بجلاله حتى تنتهي صلاة الصبح. وجمهور المفسرين على أن المراد بقرآن الفجر في قول الله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، أنه القرآن الذي يُقرأ في الصلاة، لتهيئ بذلك قلبك لقرآن الفجر. احتفظ بحرارة الخشوع بعد الصلاة، وذلك بالمكث في المسجد أكبر فترة ممكنة بعد الصلاة، لا بد أن تعتكف حتى الشروق وبعد شروق الشمس بعشرين دقيقة تصلي ركعتين. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2985). (¬2) متفق عليه، البخاري (620)، مسلم (649).

ماذا تصنع بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس؟ أولًا: تقول أذكار الصباح ثانيًا: تقرأ وردك من القرآن. ثالثًا: الكلمات الخمس. لا بد أن توطن نفسك على هذا، على أن تمكث في المسجد أطول فترة ممكنة، كان شيخ الإِسلام ابن تيمية إذا قضى صلاة الصبح أقبل بوجهه إلى الحائط في محرابه حتى الضحى ولا يلتفت ويقول: هذه غَدوتي إذا تركتها سقطت قوتي، يعني هذا غذائي إن لم أفعله أموت. لذلك أقول لك: إذا جلست في المسجد بعد صلاة الفجر فممنوع أن تتكلم، ممنوع التعامل مع أحد، ممنوع الانشغال بشيء غير الأذكار، لا تلتفت، لا تنظر إلى أحد، وجِّه وجهك إلى الحائط، وقيل الأذكار، واقرأ وردك من القرآن، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من صلى الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة" (¬1)، ولا تنس الكلمات الخمس التي هي وصايا مهمة لا بد منها: المشارطة، المراقبة، المجاهدة، المحاسبة، المعاتبة، والمعاقبة. أولًا: المشارطة: أن تشترط على نفسك وتقول لها: يا نفس، إن معنا رأس مال وهو العمر، ومعنا أدوات وهي الجوارح، ومطلوب أن نتاجر مع الله ونحصل على أكبر ربح وهو الجنة، فإن استطعت -أيتها النفس- أن تأخذي رأس المال ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (586)، وصححه الألباني (3403) في "السلسلة الصحيحة".

والأدوات وتعطيني بعد ذلك الجنة فعلت وإلا فلا، فإذا استصعبتْ عليك نفسك فألزمها بالمكث في المسجد عقابًا لها. كان محمَّد بن المنكدر يجلس في المسجد يخاصم نفسه يقول لها: لماذا تحبين الخروج من بيت ربك؟!، تريدين أن تنظري إلى دار فلان ودار فلانة؟!، واللهِ ليس لكِ إلا هذه العجوز (يعني زوجته)، والله ليس لكِ طعام إلا هذه الكِسرة، وليس لك شرابٌ إلا هذه الشربة من ماء المسجد، أترضين أم تحبين أن تموتي؟، يقول: فأراها تقول: رضيتُ .. رضيتُ، فهكذا افعل مع نفسك، لكن النفس مخادعة أمارة بالسوء توافقك ظاهرًا، وتريد أن تخالفك وترفض ما تشترط عليها؛ فتأتي الكلمة الثانية وهي المراقبة. ثانيًا: المراقبة: راقب نفسك وكن رقيبًا على تصرفاتك، ولا تدع للنفس فرصة للتفلت منك، إنك قد تخرج من المسجد فتقع عينك على امرأة متبرجة، فتجاهد نفسك وتمنعها من النظر وتقول لها: ألم نشترط الجنة؟!، كان أحد السلف يمشي في الشارع فوقعت عينه على امرأة؛ فضرب عينه حتى نفرت (يعني تورمت) وجعل يقول: مالي أراك تتطلعين إلى ما لا يحل لك. فراقب نفسك وألجمها وامنعها مما لا يحل لها، خذ بزمامها وخطامها وألزمها الصراط المستقيم، ولا تغفل عنها لكي تنجو. ثالثًا: المجاهدة: وأشد شيء جهاد النفس، فهي مقيدة بقيد الجسم، مقيدة في هذا الجسم، ثم هي مقيدة بقيد العبودية، ثم أنت تتوعدها بقيد ثالث وهو قيد المكث في المسجد، فالنفس تحتاج إلى مجاهدة، وهذه المجاهدة لا بد لها من صبر وثبات أمام طغيان هذه النفس وتملصها، جاهدها لكي لا تضيعك وتسير في طريق جهنم، جاهدها ما استطعت.

رابعًا: المحاسبة: لا بد من محاسبة النفس، قال الله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} [آل عمران: 30]، وقال سبحانه: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ: 40]، سترى عملك بعينك وتسمعه بأذنك؛ لذلك يجب أن تجلس مع نفسك وتنظر في أعمالك لتصلحها قبل أن تراها يوم القيامة، اكتب أعمالك وضعها أمامك، وقل لنفسك: أتحبين أن تقابلي ربك بهذه الصحيفة؟!، هل ستأخذين كتابك باليمين أم بالشمال؟، هل هذا تدخلين به الجنة أم تدخلين به النار؟، هل هذا يرضي الله عنك أم يسخطه عليك؟، وهذا هو توبيخ النفس وزجرها؛ لتعلم حقيقتها وقدرها. خامسًا: المعاتبة والمعاقبة: وذلك بأن تعاتب نفسك وتؤدبها وتعاقبها بأن تمنعها مثلًا من بعض المباحات تأديبًا وزجرًا، وتهذيبًا وتربية، أو تعاقبها بأن تلزمها وتفرض عليها استغفار عشرة آلاف مرة وتمنعها من النوم، تعاقبها بأن تأكل خبزًا جافًّا بغير إدام وتشرب بعد الخبز ماءً فقط. بعض السلف أراد أن يعالج نفسه من الغيبة فما استطاع أن يعالجها بعد أن جرب معها بعض العلاجات، ثم عاقبها بأنه إذا اغتاب إنسانًا تصدق، فكلما اغتاب إنسانًا تصدق، حتى قال: فغلبني حبُّ الدنانير فتركت الغِيبة، فعاقب نفسك لعلك تستطيع قيادة زمامها. تتمة الأعمال: ثم بعد ذلك هناك صلاة الضحى فصلها ركعتين أو أربع أو ست أو ثمان، ثم انصرف من المسجد، إن كان ثمة وقت للنوم أو المضي إلى العمل فامْضِ، ثم المحافظة على الأذكار الموظفة كأذكار دخول المسجد والخروج

منه، ودخول البيت والخروج منه، أذكار النوم، دعاء الأكل والشرب، دعاء الركوب، وعليك في هذا الشأن بكتاب حصن المسلم للقحطاني، أو كتاب مختصر النصيحة في الأذكار والأدعية الصحيحة (¬1). فإذا مضيت إلى عملك فاعلم أنك في عبادة من ساعة نويت الصوم عند طلوع الفجر، كأنك دخلت الصلاة بتكبيرة الإحرام؛ فإياك أن تلتفت بقلبك عن الله أثناء النهار. نعم: إنَّ نية الصيام عند الفجر بمثابة تكبيرة الإحرام، فأنت منذ ذلك الوقت في هذه العبادة -أي الصيام- متلبث بها، فلا تنصرف بقلبك عنها، فلا يصح أن تكون في عبادة وتكذب أو تغتاب أو تنم أو تنظر إلى امرأة متبرجة؛ لذلك قال بعض السلف: أهون الصيام ترك الطعام والشراب، وقال جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: إذا صمت فليصم سمعك، وبصرك، ولسانك من الكذب، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء. ليصم سمعك عن الحرام، ليصم عن الأغاني والغيبة، ليصم عن النفاق والنميمة، ليصم عن البذاءة والفحش، ليصم عن السب والشتم واللعان، ليصم سمعك عن سماع كل ما يغضب الله عَزَّ وَجَلَّ، وليصم بصرك عن النظر إلى النساء المتبرجات في الشوارع، في المجلات، في الأفلام والمسلسلات، في الفوازير والمسرحيات، في الإنترنت والفضائيات، ليصم بصرك عن الحسد واحتقار الناس، ليصم بصرك عن النظر إلى متاع الدنيا، ليصم بصرك فلا يرى إلا الخير والنور .. لا يرى إلا القرآن .. لا يرى إلا صفحة الكون المنظورة التي تزيده إيمانًا ويقينًا وخوفًا وتعظيمًا لله جل جلاله. ¬

_ (¬1) للشيخ محمَّد بن إسماعيل المقدم -حفظه الله.

إنك قد تجد بعض الناس يصوم عن الحلال ويفطر على الحرام، يصوم عن زوجته الحلال ويفطر على النساء في الشوارع، يصوم عن الطعام الحلال ويأكل لحم أخيه ميتا بالغيبة والنميمة وهو حرام، يجلس أمام التلفاز فيرى النساء العاريات ويسمع الكذب والبذاءة، إخوتي، انتبهوا فإن المعصية في رمضان تختلف عن المعصية في غيره، والطاعة فيه تختلف عن الطاعة في غيره، فللأوقات المعظمة عظمة وحرمة، وقد قال الله تعالى في الأشهر الحرم: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]، تعظيمًا لهذه الأشهر. لذا كان من علامات التوفيق إقبال الطاعات وإدبار المعاصي، ومن علامة الخذلان إقبال المعاصي واستثقال الطاعات، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)} [محمَّد: 17]. شهر القرآن: ثم انتبه إلى أن رمضان شهر القرآن، فينبغي أن يكون العمل مضاعفًا في هذا الشهر، لا بد أن تكثف وتكثر في هذا الشهر من تلاوة القرآن. أخي الحبيب، ألست تحب الله؟، فلماذا لا تكثر من تلاوة كلامه؟ لو أحببت الله لأطعته، وأنا أقول لك: نعم وليس شرط المحب العِصمة، ولكن شرطه كلما زل أن يتلافى تلك الوَصْمة. قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، فكأن وجود القرآن قبل التكليف بالعبادة، فكأنه قيل: احتفلوا بالقرآن .. وتفرغوا لقراءة القرآن .. ولكن -للأسف الشديد- تفرغ المسلمون اليوم للدورات الرمضانية في كرة القدم، ومشاهدة المسلسلات، وصنع الطعام والكنافة، شيء عجيب!، الله فرغنا لتلاوة كتابه ونحن نعرض عنه!!

كان حال السلف في رمضان مع القرآن عجيبًا، أذكر لك حال الشافعي عليه رحمة الله، كان يختم في رمضان ستين ختمة، في اليوم يختم ختمتين، ختمة بالليل وختمة بالنهار، ولهذا علق الحافظ ابن رجب رحمه الله على حديث أنه "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث" (¬1)، بأنه يجوز في الأماكن الفاضلة والأزمنة الفاضلة أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث حيث ورد هذا عن كثير من السلف وعن الصحابة، فقد ورد عن عثمان - رضي الله عنه - أنه ختم القرآن في ركعة أوتر بها في الحِجر. قال ابن رجب: كان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها. كان الأسود يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين، وكان يختم في غير رمضان في كل ست ليال. كان قتادة يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة. قال النووى: روى ابن أبي داود بإسناده الصحيح أن مجاهدًا - رحمه الله - كان يختم القرآن في رمضان فيما بين المغرب والعشاء، وكانوا يؤخرون العشاء في رمضان إلى أن يمضي ربع الليل. قال ابن الحكم: كان الإِمام مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم. وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 164)، وصححه الألباني (466) في "السلسلة الصحيحة".

وكانت عائشة - رضي الله عنها - تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان، فإذا طلعت الشمس نامت. قال ابن مسعود: ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، ونهاره إذا الناس يفطرون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبورعه إذا الناس يخلطون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وبحزنه إذا الناس يفرحون. قال أبو الحسين محمَّد بن علي صاحب الجنيد: صحبت أبا العباس بن عطاء عدة سنين متأدبا بآدابه، وكان له في كل يوم ختمة، وفي كل شهر رمضان في كل يوم وليلة ثلاث ختمات. أين نحن من هؤلاء!! .. إذًا فليستحوذ القرآن على غالب وقتك بالنهار قراءًة وتدبرًا وترتيلًا .. ولتحرص على الختمة دائمًا فلا تترك المصحف من يدك أبدًا، أما إذا كنت في عملك فالزم الذكر ولا تفتر مطلقًا. احذر الذين يأكلون وقتك: بعد أن تذهب إلى كليتك أو عملك ستجد من يقابلك فيقول لك: هل سمعت فزورة أمس؟، تعال نلعب لكي نسلي صيامنا .. هل رأيت المسلسل؟ .. هل رأيت المسرحية؟ .. يريد أن يضيع وقتك ويعطلك عن طاعة ربك؛ لأن قلبه فارغ فيريد منك أن تكون مثله، وأشر ما على القلب خلطة البشر، لذلك أريدك -أيها الحبيب- أن تحُول الحوار لصالح الدين، أن تحول مجلس الغيبة والنميمة واللغو إلى مجلس لذكر الله، إذا قال لك: هل رأيت المسلسل؛ فقل له: وهل سمعت أنت أن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].

هكذا يبتعد عنك أو تكون قد أفدته وعمَّمت الخير ودعوت إلى هدى، فإذا قرأ عشر آيات فكأنك قرأتها؛ لكني أريدك أن تنجو بنفسك .. أن تعبد الله وحدك بجد ونشاط؛ فقد فاتت سنين طويلة وأنت تسوف وتؤجل، فها هو رمضان قد جاء فلا تضيع وقتك، فليس هناك مجال لتضييع الوقت، وإذا مدت إليك فتاة يدها لتصافحك؛ فقل لها: "إني لا أصافح النساء" (¬1) كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا قلت ذلك فسوف تتخلص من هذه المشكلة نهائيًا. واحذر أن تضيع رمضان في المزاح, دعك من الضحك واللَّهو وتضييع الأوقات بالنكات الكاذبة الفجة المنكرة، إنما ينبغي أن يعلوك الحزن؛ لأنك تخاف ذنوبك، وتخاف يومًا تشيب فيه النواصي، فهل تستطيع أن تضحك في هذا اليوم والله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71]، أريد أن تمتنع عن الضحك والمزاح قليلًا .. خفف منه ما استطعت. عكس المطلوب: وكذلك تقلل من الأكل، والمصيبة أن الناس جعلوا رمضان موسمًا للأكل، شرع الله الصيام للامتناع عن الطعام بالنهار، فانفتح الناس فيه بالليل، وتجد تكلفة الطعام عنده في رمضان ضعف غيره من الشهور، لو قلت له: إنك تأكل في غير رمضان ثلاث وجبات، وفي رمضان وجبتين فقط، فلماذا لا تجعل الثالثة للفقراء؛ فيقول: ومن أين؟، إنني أقترض في رمضان من أجل الطعام .. هذا هو الواقع عند كثير من الناس، صاموا عن الطعام بالنهار، وتوسعوا فيه بالليل .. صاموا عن شهوة الفرج في النهار، فسخر بهم شياطين الإنس ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (6/ 357)، وصححه الألباني (2529) في "السلسلة الصحيحة".

بالمسلسلات والأفلام والفوازير ليزيدوا لهم من هذه الشهوة في الليل، وهكذا حَصَّل الناسُ عكسَ المقصود من مشروعية الصيام في رمضام، فزادت الشهوات التي شُرِع رمضان لعلاجها وضبطها، وتلك عقوبة. قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]، وقال سبحانه: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]؛ لذلك أقول لك: انس الضحك والكلام في نهار رمضان، أغلق فمك واكتب عليه: (مغلق للتحسينات والافتتاح في آخر رمضان إن شاء الله) .. تعوَّد على المجاهدة، كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يضع على لسانه حصاة يثقل بها لسانه حتى لا يتكلم. اخرج للعمل وأنت ذَكَّار .. وأريدك أن تعد الأذكار حتى تتشجع، قل سيد الاستغفار خمسمائة مرة .. قلها مئة مئة .. قل مئة، فإذا شعرت بلذة الذكر فاستمر وأكمل، فلا تدري متى يغلق عنك باب هذه اللذة، وهكذا ينفتح لك باب الأذكار .. قل: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ألف مرة أو أكثر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان, حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" (¬1)، حبيبتان إلى الرحمن!، سبحان الله العظيم!!، الله يدلك على ما يحبه ثم أنت لا تقوله!!، قل: رب اغفر لي وتب عليَّ إنك أنت التواب الرحيم، أو صَلِّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة الإبراهيمية أو بأي صيغة أخرى من صيغ الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. صلينا الصبح في جماعة، وجلسنا في المسجد حتى شروق الشمس، ثم ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (6043)، مسلم (2694).

صلينا الضحى، ثم ذهبنا إلى العمل، وفي العمل تنشغل بعملك فقط وتتقنه، وإن لم يكن هناك عمل فانشغل بالقرآن أو بالذكر، وحتى وأنت تعمل تستطيع أن تعمل بيدك، ولسانُك وقلبُك منشغلان بذكر الله، انشغل طوال يومك بالذكر في الطريق، في السيارة، في البيت، في كل وقت انشغل بذكر الله، لا تغفل .. لا تفتر. متابعة أهل البيت: أخي الحبيب، الآن عدت من العمل، عندما تدخل بيتك، قبل أن تسأل زوجتك عن الطعام سلها عن الصلاة: هل صليتِ العصر .. هل صليتِ الظهر .. هل قلتِ الأذكار .. كم مرة استغفرت اليوم؟، كم جزءًا قرأتِ في هذا اليوم؟، وتتابع أولادك: تعال يا بني ماذا حفظت اليوم؟، استغفرتَ اليوم كم مرة؟، صليت على النبي - صلى الله عليه وسلم - كم مرة؟، بماذا دعوت الله اليوم؟، قل يا بني: من ربك؟، ما دينك؟، من نبيك؟، قل يا بني: ما معنى الإِسلام .. ما معنى اليقين .. ما معنى الإخلاص؟، تعلَّم وعلِّم ولدك وزوجتك .. هات المصاحف واجلسوا في حلقة تقرأ فيها معهم القرآن وتتدارسوه. اللَّهم املأ بيوت المسلمين قرآنا وخيرًا وبركة، آمين. البيوت اليوم مليئة بالمشاكل؛ لأنه لا يذكر الله فيها إلا قليلًا، البيوت مليئة بالمشاكل؛ لأن الزوجة ترى الزوج غافلًا فتزدادَ غفلة .. ترى الزوج يعصي الله فتزدادَ هي عصيانًا .. ترى الزوج لا يطيع الله فتجترىء عليه. قال بعض السلف: إني لأرى ذنوبي في خُلُق دابتي وامرأتي .. اللَّهم أصلح زوجات المسلمين يا رب. أخي الحبيب، لا تغفل عن السؤال عن الصلاة والصيام والذكر والقرآن ..

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كانت الآخرةُ همَّه جمع الله عليه شملَه، وجعل غِناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة" (¬1)، اجلس مع أولادك وزوجتك قبل المغرب اقرءوا جزءًا من القرآن، واجتمعوا للدعاء لأنفسكم وللمسلمين .. فيصبح البيت جنة، تعيش في جنة مع زوجة من الجنة وأولاد من الجنة. انشغل بأذكار المساء حتى يؤذن المغرب، ثم تفطر على ثلاث تمرات، ثم تشرب شيئًا من الماء، وعندما تفطر لا تنس دعاء وذكر الإفطار: ذهبَ الظمأ وابتلتِ العروق وثَبَتَ الأجرُ إن شاء الله .. نسأل الله أن يأجرنا وأن يكتب لنا الأجر كاملًا، ثم صل بعد الأذان سنة المغرب القبلية، فيجتمع لك أمران: أن الوقت بين الأذان والإقامة يستجاب فيه الدعاء، وأن هذه ساعة إفطار يستجاب فيها الدعاء، وأنك وأنت ساجد يُستجاب لك الدعاء، فجمعت بين هذه الثلاثة؛ فاجعل من الدعاء دعاء للأمة، اللَّهم اكشف الغمة عن جميع الأمة. صلاة المغرب في المسجد: ثم سارع إلى صلاة المغرب جماعًة في المسجد، إذا أُذِّنَ للمغرب أفطِر، يباح الأكل مع الأذان وأنت تردده، ولا تنس أن للصائم عند فطره دعوةً مستجابة، فيا ترى ما هو الذي ستطلبه في هذا الدعاء؟، اطلب الجنة وأسبابها، اللَّهم إنا نسألك الجنة وما يقرب إليها من قولٍ أو عمل، ونعوذ بك من النار وما يقرب إليها من قولٍ أو عمل. حين يؤذن المؤذن تذكر أنك مطالبٌ بصلاة فريضة، لا تجعل الارتباط بالأذان هو الأكل فقط، إنما الأذان نداء للصلاة، حي على الصلاة .. حي على الفلاح، والأفضل أن تذهب إلى المسجد قبل الأذان وتقف تنتظر ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2465)، وحسنه الألباني (94) في "السلسلة الصحيحة".

الصلاة، وساعتها تتذكر يوم يقوم الناس لرب العالمين، وتجتهد في الدعاء أن ينجيك الله في هذا اليوم، فوائد كثيرة وكلها نافعة. إن بعض الناس يقول: سوف أفطر ثم أخرج إلى الصلاة، وهذا غالبا ما تفوته ركعة لاستعجال الناس بصلاة المغرب، أقول: بل خذ معك تمرًا واذهب إلى المسجد، فإذا لقيت أحدًا في الطريق فأعطه تمرة يفطر عليها، فيكون لك مثل أجره، وادعه لصلاة المغرب معك في المسجد، وتكون قد أَمَّنْتَ على عبادتي الصيام والصلاة. وتلك هي هواية التأمين على العبادات .. من الناس من يهوى التأمين على السيارات والعمارات وعلى الحياة، وشركات التأمين حرام لا يجوز، فكن أنت من هواة التأمين على العبادات، عندما تذهب إلى الصلاة اصطحب معك أحد الناس، فلو خرجت من صلاتك بخمسين بالمائة فتكمل هذا النقص بصلاة هذا الذي صلى معك؛ لأن لك مثل أجره، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه" (¬1). فكذلك عند الصيام، فَطِّر صائمًا يكتب لك مثل أجر صيامه، حاول أن تؤمن على عباداتك بأن تجعل لك رصيدًا مؤخرًا ينفعك إذا حصل منك نوع تقصير، أعط صائمًا تمرة وقيل له: أفطر على هذه وادع لي، فإن للصائم دعوةً مستجابة، فعسى أن يدعو لك فيستجاب له، واحرص على أن يفطر معك كل يوم مسكينٌ، قد تقول: كيف أفطر مع مسكين وأترك أهلي وأولادي، أقول لك: اجمع بين الخيرين، واجعله هو يفطر مع أهله ولتفطر أنت مع أهلك بأن تعطيه جزءًا من الطعام الذي تعده لنفسك وأهلك الذي غالبًا تأكلون نصفه ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2674).

وترمون الباقي، من الآن اشتر العمود الذي يوجد فيه أوان بعضها فوق بعض ويُحمل في اليد، لتملأه بأصناف الطعام كل يوم وتعطيه للفقير. الإفطار الأمثل: ثم تعود إلى بيتك سعيدًا منشرحًا، تلقي السلام وتبشرهم بالدعاء، ثم اجلس إلى الإفطار متذكرًا نعمة الله عليك، مستحضرًا حال من لم يجد الطعام، ولا تشغلك النعمة عن المنعم، وتذكر أن الله تعالى أمرك بالنظر قبل الأكل: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [الأنعام: 99]، قبل أن يقول: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]، فلابد أن تنظر إلى طعامك وتأمر أولادك بذلك لكي تشكروا نعمة الله، وتتدبروا رزق الله، وتشعروا بنعمة الله عليكم، هذه فائدة فاغتنمها. ثم تذكر حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فاعلًا: فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه" (¬1)، وإني أحذرك من مجاوزة الحد والطغيان الحاصل في بيوت المسلمين في رمضان في موضوع الطعام والشراب، قال الله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه: 81]، إياك والطغيان، وهو مجاوزة الحد، يجوز الشبع أحيانًا، لكن اعلم أنه إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة. فإذا استوفيت الإفطار تكدر الليل بالنوم، وإذا استوفيت السحور تخبط النهار بالكسل، بل تأكل عند الإفطار الثلث حتى تشعر عند السحور بالجوع، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4/ 132)، وصححه الألباني (2265) في "السلسلة الصحيحة".

فتستيظ للسحور طاعة لأمر الله وطلبا لمرضاته، والتماسا لصلاة الله وملائكته على المتسحرين، وأيضًا لدفع الجوع الحاصل، والتقوي بالطعام على الطاعة؛ لكي تستطيع أن تعمل في النهار، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه"، صلى الله عليك وسلم يا رسول الله، كان يمر الهلال والهلال والهلال ولا يوقد في بيوت آل محمَّد نار، وهو سيدنا وسيد الخلق أجمعين - صلى الله عليه وسلم -. سبحان الملك!، يظل شهرين ولا يذوق فيهما شيئًا قد طُهي على النار، فعلام كان يعيش هو وأزواجه؟، كانوا يعيشون على التمر والماء، فهل تستطيع أنت أن تعيش على التمر والماء؟، لماذا لا؟، ماذا سيحدث لو فعلت ذلك؟ إذا امتلأت بطنك، وأوشك الطعام أن يخرج من حلقك؛ سوف تستطيل الصلاة، ولن تخشع فيها، وتضطر للخروج إلى الحمام ويطول مكثك فيه، وإذا أردت أن تعرف مقامك، فانظر أين أقامك؛ لذلك خفف، كُلِ الثلثَ فقط، وخير الهدي هدي محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. تخير الإِمام والمسجد: ثم عَجِّلْ بالخروج إلى صلاة العشاء مبكرا لتقف خلف الإِمام، وتخير مسجدًا تستريح له وإمامًا تستمتع بصوته، ابتعد عن هؤلاء الذين يغنون، وابتعد عن ضجيج المساجد المشهورة، وابحث عن مسجد هادئ نظيف، وابحث عن إمام إذا قرأ حسبته يخشى الله تعالى، ولو كان بعيدًا عن بيتك، لا تبخل فالخطوات محسوبة وأجرك مدفوع. فإنك عندما تدخل هذا المسجد تشعر بالسكينة، وعندما يقرأ هذا الإِمام تريد ألا ينتهي، ابحث عن هذا لعله يُرحم فتُرحم معه، رأى علي بن أبي

طالب رجلًا يحمل أمه في الطواف، فطاف خلفه وقال: والله إني لأطوف وما كانت لي نية في الطواف؛ لأني لمَّا رأيت هذا يحمل أمه علمت أنه ستنزل عليه رحمة فأردت أن يصيبني شيءٌ منها .. فأنت عندما تصلي وراء إمام مخلص تشعر بأن الرحمة تنزل عليه وتصل إليك هذه الرحمة، ولا تمل من الصلاة خلفه. تدبر القرآن آية آية .. تذكر كيف كانت هذه الآيات تنزل على قلب النبي محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، كيف كان الصحابة يعملون بها، وعندما تصلي خلف إمام واحد طيلة الشهر ستعرف بماذا يقرأ غدًا، فاقرأ القدر الذي سيقرؤه قبله أثناء النهار، وإذا لم تفهم كلمة وأنت تقرأ ارجع إلى كتب التفسير حتى تعيش المعنى الحقيقي للآية عندما يقرؤها الإِمام في القيام، فإذا عشت هذا المعنى فعلًا؛ فلن تمل حتى ولو قرأ الإِمام طيلة الليل. كيف أُحصِّل الخشوع في القيام؟ ولكي تحصل الخشوع يجب أولًا أن تعرف فائدة الخشوع، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن العبد إذا قام يصلي أُتِيَ بذنوبه كلها فوضعت على رأسه وعاتقيه، فكلما ركع أو سجد سقطت عنه ذنوبه" (¬1)، قال الإِمام المُنَاوي في "فتح القدير": المراد أنه كلما أتم ركنًا سقط عنه ركن من الذنوب، حتى إذا أتم الصلاة تكامل السقوط، وهذا شرط في صلاة متوفرة الشروط والأركان والخشوع كما يؤذِن به لفظ العبد والقيام، "إن العبد إذا قام يصلي" .. فالشرط أن يكون عبدًا وقام، إذ هو إشارة إلى أنه قام بين يدي ملك الملوك مقامَ عبدٍ ذليل. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان (1734)، وصححه الألباني (1398) في "السلسلة الصحيحة".

فائدة تحصيل الخشوع: أولًا: أنك كلما ركعت أو سجدت سقطت عنك الذنوب. ثانيًا: أن الأجر المكتوب بحسب الخشوع. ثالثًا: ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها. رابعًا: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من امرئ مسلم تحضره صلاةٌ مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها وسجودها إلا كانت كفارةً لما قبلها" (¬1). خامسًا: أن الخاشع في صلاته إذا انصرف منها وجد خِفةً من نفسه، وأحس بأثقالٍ قد وضعت عنه، يجد نشاطًا وراحة، وتصبح الصلاة قرةَ عينه وروحه، وجنةَ قلبِهِ ومستراحِهِ في الدنيا، فلا يزال كأنه في سجن وضيق حتى يدخل فيها فيستريح بها لا منها، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا بلال، أرحنا بالصلاة" (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "وجُعِلَت قرةُ عيني في الصلاة" (¬3). هذه خمس فوائد للخشوع اجعلها سببًا لتحصيل الخشوع، لتخشع في الصلاة المفروضة، وصلاة القيام وتظل مع الإِمام حتى يتم صلاته. استمر في الصلاة مع الإِمام حتى ينتهي، فقد جاء في حديث أبي ذر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الرجل إذا صلى مع الأمام حتى ينصرف حُسِبَ له قيامُ ليلة" (¬4). ماذا افعل بعد الرجوع من القيام؟ ثم تعود إلى البيت، لتجري مسابقة نافعة لأولادك مثلًا، استخرج آية من ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (228). (¬2) أخرجه أحمد (5/ 364). (¬3) أخرجه أحمد (3/ 128)، وصححه الألباني (3098) في "صحيح الجامع". (¬4) أخرجه أحمد (5/ 159)، وصححه الألباني (1615) في "صحيح الجامع".

التي كان الإِمام يقرؤها فتقول لولدك أو زوجتك: متى سَمِعْتَ هذه الآية آخر مرة؟، فمن أجاب أعطه جائزة: تمرة .. أو كتيبًا .. أو ورقة أذكار .. أو شريطًا جديدًا .. أو ملابس العيد .. أو هدية مناسبة، أو اجعلهم يتنافسون من يختم القرآن أولًا، تفنن في أن تحبب الله إلى أولادك وزوجتك. اجعلهم يحبون الله، أعطهم وأحسن إليهم وقل لهم: لولا أن الله أمرني بهذا ما فعلت هذا معكم أبدًا، فيحبون الله، فيحبونك، اجعل ابنك يحب الله لكي يحبك؛ لأنه لو أحبك من أجل أنك تعطيه، فسوف يكرهك عندما تمنعه، لكن لو أحب الله لأحبك سواء أعطيته أو منعته؛ لأن الله أمره بهذا، وكذلك فافعل مع زوجتك، وبعد أن ترجع من المسجد إياك أن تغفل، احتفظ بحرارة الخشوع، ولست أطلب منك أن تختم القرآن كل يوم مرة، ولا كل ثلاثة أيام، اختمه في كل أسبوع مرة، يعني اقرأ كل يوم خمسة أجزاء. اقرأ جزءًا في الصباح قبل الصلاة، وجزءًا في المواصلات، وجزءًا بعد العصر مع الأولاد، وجزءًا قبل النوم، ونصف جزء تقوم به ركعتين في البيت، فتختم القرآن أربع مرات، فتكون قد كَوَّنْتَ ثروةً كبيرة من الحسنات، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الجنة .. تذهب إلى البيت تقرأ جزءًا من القرآن، وتجلس للمحاسبة، ثم تنام مبكرًا لتستطيع أن تستيقظ مبكرًا. التهجد: قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 179] تصلي التهجد ركعتين فقط كي تصيب السنة؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "أفضل الصلاة طول القنوت" (¬1)، وعندما تقوم لا تنس أن تقيم امرأتك معك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (758).

"رحم الله رجلًا قام من الليل فصلى ركعتين وأيقظ أهله، فإن أَبَتْ نَضَحَ في وجهها الماء" (¬1)، اجتهد أن تقوم ساعة أو أكثر قبل أذان الفجر، فهذا وقت التنزل الإلهي كل ليلة، ينادي ربنا جل جلاله كل ليلة في السحر في ثلث الليل الآخر: "هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه، هل من سائل فأعطيه" (¬2)، حتى يطلع الصبح وذلك كل ليلة، فلا يفوتنك هذا الفضل العظيم، وكن من الذاكرين في هذه الساعة فهي بركة اليوم وكل يوم. قال بعض السلف: ما علَّمني القيام إلا ولدي، قرأ يومًا: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 1 - 2] فقال: يا أبت، ما معنى قم الليل؟، قلت: يا بني أن يصلي العبد في الليل، قال: يا أبت فمالي لا أراك تقوم، قلت: هذه الآية خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما تعلم الولد: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17]، قال: يا أبت، من هؤلاء؟، قلت: عباد الله المؤمنون، قال: فمالي لا أراك تقوم؟، قلت: سأقوم من الليلة يا بني، قال: يا أبت دعني إذا قمت أقوم معك، فقلت: يا بني أنت صغير لم تكلف بعد، فنم حتى تستريح، قال: يا أبت، أرأيت لو بعثني الله يوم القيامة فسألني: لِمَ لَمْ تقم؟!، أقول له: أبي قال لي: ثم؟!، فبكى الرجل وقال: يا بني قم. فهكذا ينبغي أن نعلم أولادنا القيام، أن نربيهم على ذلك، اليوم كثيرٌ منا لا يستطيع أن يصلي الصبح؛ لأنه لم يتربَّ في بيتٍ يصلي أو كان أهل البيت يصلون لكنهم لم يوقظوه، وإن استيقظ لا يصلي في المسجد، فلهذا ينبغي أن نعود زوجاتنا وأولادنا على الاستيقاظ من النوم للصلاة؛ بل يجب أن تكون أنت وزوجتك متناوبين؛ توقظها وتوقظك للصلاة، وتتعاتبا وتتعاقبا إن لم تقوما. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 250)، وصححه الألباني (3494) في "صحيح الجامع". (¬2) أخرجه مسلم (758).

تقوم قبل الفجر بساعة أو بساعتين، توقظ أولادك كبيرهم وصغيرهم، وقبل الفجر بنصف ساعة تحضرون طعام السحور، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "السحور أكله بركة؛ فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جَرعة من ماء، فإن الله -عز وجل- وملائكته يصلون على المتسحرين" (¬1)، تأكلون في عشر دقائق، وتذهب إلى المسجد مبكرًا، وتصلي تحية المسجد قبل الأذان وتجلس تستغفر الله، {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18]، وفي الحديث القدسي السابق يقول الله: "هل من مستغفر فأغفر له"، ثم تصلي الصبح، صلاة مشهودة محضورة .. وهكذا تم يومك. إخوتاه .. هل عزمتم؟!، هل من مشمر؟!، أسأل الله -عز وجل- أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، ونسأله أن يوفقنا إلى الخير دائمًا في رمضان وفي غير رمضان .. وهكذا أجبنا -بحول الله وقوته- على سؤال: كيف تعيش يومًا في رمضان؟ البرنامج: (1) التبكير إلى صلاة الصبح في المسجد، فتخرج من بيتك قبل الفجر بربع ساعة، وصلاة المرأة في بيتها أفضل؛ حكم الشرع. (2) صلاة ركعتين تحية المسجد، ولزوم الاستغفار حتى يؤذن للصلاة، ثم صلاة ركعتي السنة. (3) تلاوة جزء من القرآن ما بين الأذان والإقامة إن استطعت وإلا فهو عليك بعد الصلاة. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (3/ 44)، وحسنه الألباني (1844) في "صحيح الجامع".

(4) المكوث في المسجد بعد الصلاة، وقراءة أذكار الصباح، وجزء من القرآن آخر حتى طلوع الشمس، مع مراعاة عدم التحدث مع أحد أو الانشغال بأحد. (5) صلاة ركعتي الضحى ثم الخروج من المسجد. (6) الذهاب إلى العمل أو المدارس والكليات، أو العودة إلى البيت إن كان هناك وقت، والنوم لمدة ساعتين. (7) إذا كنت ستذهب إلى العمل فعليك بالذكر طوال الوقت، ولا تتحدث إلا فيما يرضي الله -عز وجل-، وأتقن عملك، ولا تفسد صيامك، وأحسن خلقك، إياك واللغو والرفث والغيبة والنميمة والكذب والفحش فكلها تنقض الصيام، واقرأ جزءًا من القرآن قبل صلاة الظهر وبعدها، وكذلك في صلاة العصر. (8) إذا كنت ستعود إلى المنزل، أو المرأة التي صلت في بيتها، فستنام لمدة ساعتين وتستيقظ في التاسعة تقرأ القرآن وتذكر الله حتى صلاة الظهر. (9) عند العودة من عملك، أو انتهاء المرأة من إعداد الطعام وأعمال المنزل عليك بجمع أولادك حولك تتابعهم وتسألهم ماذا أنجزوا من عباداتهم. (10) يمكنك عمل حلقة قرآن في البيت مع زوجتك وأولادك، تقرؤون القرآن حتى قرب المغرب، ثم عليكم بالدعاء فإنه لا يرد. (11) الإفطار على ثلاث تمرات وشربة ماء، وصلاة السنة القبلية للمغرب في البيت، ثم الخروج لصلاة المغرب في المسجد. (12) عليك بأخذ بعض التمر معك، أو العجوة، أو العصير؛ لإفطار الصائمين الذين لم يعودوا إلى منازلهم بعد.

(13) صلاة ركعتين تحية المسجد إن كان هناك وقت لذلك، ثم صلاة المغرب، ثم العودة إلى بيتك للإفطار مع أهلك، وتكون زوجتك قد صلَّت المغرب مع أولادها الصغار. (14) لا تنس إفطار الفقراء والمساكين، واشكر نعمة الله. (15) التبكير إلى صلاة العشاء في المسجد لكي تقف خلف الإِمام، ويمكنك أن تأخذ زوجتك وأولادك معك، وصلِّ مع الإِمام حتى ينتهي. (16) عد إلى بيتك واقرأ جزئي قرآن. (17) نم حتى الساعة الثانية صباحًا. (18) الاستيقاظ وصلاة ركعتي تهجد، وراع فيهما طول القنوت "الوقوف". (19) السحور قبل الفجر بنصف ساعة. (20) الاستغفار، ثم الذهاب إلى المسجد لصلاة الفجر. نصائح: (1) المحافظة على الأذكار الموظفة (الصباح والمساء، دخول البيت والخروج منه، دخول المسجد والخروج منه، دعاء الركوب، دخول الخلاء والخروج منه ....). (2) التقليل من الكلام والإكثار من ذكر الله. (3) التقليل من الطعام، والتقليل من الإنفاق والتبذير. (4) التقليل من النوم، والمحافظة على ورد تلاوة القرآن. (5) التقليل من المواعيد والارتباطات واللقاءات والمكالمات الهاتفية.

(6) التقليل من الخروج من المنزل. (7) التقليل من مخالطة البشر. (8) غض البصر، حسن الخلق، الزهد في الدنيا. (9) حفظ اللسان من آفاته جميعًا مثل: (غيبة، نميمة، كذب، رياء، بهتان، لغو، رفث، فضول ...). (10) المحافظة على جميع السنن القبلية والبعدية للصلوات. (11) المحافظة على السواك. (12) دوام صدق التوبة باستمرار كل ساعة. (13) صلة الرحم، بر الوالدين، صدقة كل يوم. (14) إفطار صائمِين، إطعام فقراء ومساكين. (15) تجريد النية وتحقيقها. (16) علو الهمة والمنافسة. (17) ختم القرآن أربع مرات على الأقل خلال الشهر مرة كل أسبوع. (18) المحافظة على وردك من الذكر يوميًّا خمسة آلاف مرة (ألف استغفار، ألف سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، ألف الباقيات الصالحات، ألف صلاة على النبي، وألف وِرد مختلف يوميًّا: تهليل، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم وبحمده، لا حول ولا قوة إلا بالله، حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)، ومن زاد فهو أفضل.

(19) عدم مشاهدة التلفاز. (20) الدعاء بظهر الغيب لجميع المسلمين. (21) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. (22) الكف عن المعاصي تمامًا في رمضان وتجديد التوبة كل ساعة. وصيتي لك .. أيام رمضان أيام تُصان، هي كالتاج على رأس الزمان، وصل توقيع القدم من الرحيم الرحمن: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]. ياله من وقت عظيم الشأن تجب حراسته مما إذا حل شأن، كأنكم به قد رحل وبان، ووجه الصالح مع الله ما بان، فسوف يكون عليك شاهد {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}. فمن اللازم أن تحُرس فيه العينان، من الواجب أن يُحفظ فيه اللسان، من المتعين أن تُمنع الخُطا في الخطأ القدمان فإنه شهر عظيم الشَّان: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}. إخوتاه .. زِنوا أعمالكم في هذا الشهر بميزان، اشتروا خَلَاصَكُم بما عز وهان، فإن عجزتم فسلوا المعين وقد أعان، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}. إخوتاه .. قد ذهبت السَّنَةُ وضاعت البضاعة ما بين التفريط والإضاعة، والتسويف يمحق ساعةً بعد ساعة، والشمس والقمر بحسبان، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}. يا واقفًا في مقام التحير، هل أنت على عزمِ التغير، إلرل متى ترضى بالنزول في منازل الهوان، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}.

في زمن مضى هل مضى من أيامك يومٌ صالح، سلِمتَ فيه من جرائم القبائح، تالله قد سبق الرابح، وأنت راضٍ بالخسران في شهر رمضان، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}. عينك مطلقةٌ في الحرام، ولسانك منبسطٌ في الآثام، ولأقدامك على الذنوب إقدام، والكل في الديوان حتى في {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}. قلبك غائب في صلواتك، وفكرك ينقضي في شهواتك، فإن ركن إليك رَاكِنٌ في معاملاتك؛ دخلت به خَانَ مَنْ خَان، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}. يا هذا .. أكثرُ كلامِك لهوٌ وهَذَر، والوقت بالتفريط شَزَرَ مَزَر، فإن اغتبت مسلمًا لم تُبْقِ ولم تَذَر، الأمان منك الأمان ولو في {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}. تالله لو عَقَلْتَ حالك، أو ذكرت ارتحالك، أو تصورت أعمالك؛ لبنيت بيت الأحزان، واعتكفت في {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}. أخي في الله، سيشهد رمضان عليك، بنطق لسانك، ونظر عينيك، وسيُشار يومَ الجمع إليك: شقي فلان بن فلان؛ لأنه ضيع {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}. أخي .. في كل لحظة تقترب من قبرك، فانظر لنفسك في تدبير أمرك، وما أراك إلا في أول شهرك الأول والآخر سِيَّان، متى تصبح في {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}.

إخوتاه .. قد ذهب العام ومن شعبان النصف، وما أرى من عملك النصف، فإن كان في الماضي قد قبح الوصف؛ فقم الآن .. قم الآن وادع الله أن يصلحك في {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}.

مشاهد العبودية في رمضان

مشاهد العبودية في رمضان رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا

المشهد الأول: مشهد التوحيد

مشاهد العبودية في الصيام إخوتاه .. شهر رمضان أيام قلبية في الزمن؛ متى أشرفت على الدنيا فكأن الزمان يقول لأهله: هذه أيام من أنفسكم لا من أيامي، ومن طبيعتكم لا من طبيعتي، فيقبل العالم كله على حالة نفسية بالغة السمو، ويتعهد فيها النفس برياضتها على معالي الأمور ومكارم الأخلاق، ويفهم الحياة على وجه آخر غير وجهها الكالح، ويراها كأنما أجيعت من طعامها اليومي كما جاع هو، فيزهد فيها، وكأنما أفرغت من خسائسها وشهواتها كما أفرغ هو فتسمو أخلاقه، وكأنما ألزمت معاني التقوى كما ألزمها هو، وما أجمل وأبدع أن تظهر الحياة في العالم كله -ولو يومًا واحدًا- صائمة نهارها، قائمة ليلها .. ! فكيف بها على ذلك شهرًا من كل سنة؟ ولذلك فإن الصيام تغيير كامل للحياة لا مجرو الامتناع عن الطعام والشهوة مدة من الزمن؛ ولهذا لا بد أن يكون للصائم مشاهد في هذه العبادة يجد آثارها في قلبه. فإن هذه العبادة تُطْلِعُه على رياض مونقة من أنواع العبودية المختلفة ومن مشاهد العبودية في الصيام: المشهد الأول: مشهد التوحيد: قال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 14]، وقال سبحانه: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75].

استدل الله جل جلاله على نفي ألوهية عيسى وأمه بأنهما كانا يأكلان الطعام، فإن الذي يأكل الطعام يحتاج إلى الإخراج، وفيه ما فيه .. فأول مشهد يشهده الصائم مشهد التوحيد، فيشهد قلبه عظمة الله جل جلاله وعلوه على خلقه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فهو الغني لا يحتاج إلى شيء، ولا يحتاج إلى أحد، ويشهد العبد من نفسه ذله وفقره وفاقته وحاجته، فامتناعه عن الطعام والشراب سويعات قليلة يرخي جسمه، ويفتر عقله، ويثقل لسانه، ويمنع عقله عن التفكير إلا فيما هو محتاج إليه من الأكل والشرب. وشهود العبد مشهد التوحيد هذا نافع له في صيامه وإفطاره، فإنه يشهد عظمة ربه وغناه وقدرته سبحانه: {يَسْأَلُهُ مَنْ في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ} [الرحمن: 29]، وقال -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3]، وشعور القلب بهذه العظمة يملؤه غنى، ويمنح القلب قوة في السير إليه سبحانه، وهذا الشعور بالغنى يستغني به العبد عن رؤية المخلوقين والتوكل عليهم والارتباط بهيم والتعلق بهم، وتطهير القلب من آفات لا تعد ولا تحصى. ويقوى هذا المشهد في رمضان دون غيره لاستدامة الصيام ورؤية هذا الحال في الناس، فإن ثلاثين يومًا يرى فيها العبد انكسار الناس وذلهم لفقد الطعام والشراب وحرمانهم منه، والغنى العالي الذي يبدو على من شهد مشهد التوحيد يجعله مسرورًا بما يجده، ألم تر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آثر الصيام على الإفطار، فكان يواصل، ويشبعه مشهد التوحيد هذا فيقول: "أبيت عند ربي فيطعمني ويسقيني" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2374)، وصححه الألباني (2080) في "صحيح أبي داود".

المشهد الثاني: مشهد الصبر والشكر

فمشهد التوحيد في الصيام أجل مشاهد العبد وأكثرها نفعًا وأكثرها صلة بالفعل، فافهم واتكىء ولا تتكل. المشهد الثاني: مشهد الصبر والشكر: الدين نصفان: نصفٌ شكر، ونصفٌ صبر. تكلم العلماء في مسألة أيهما أفضل: الشكر أم الصبر؟، وخلاصة الكلام والله أعلم أن كل حال للعبد كان لواقعه أوفق فهو له أفضل إذا كان لله أرضى. والإنسان لا ينفك عن الشكر والصبر، فإنه يعيش حياته ما بين نعم مترادفة تحتاج إلى شكر، وبين فتن متكاتفة تحتاج إلى صبر، والصبر أنواع، صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على البلاء، والشكر أنواع: شكر نعم راسخة، وشكر نعم متجددة، وشكر نعم حادثة، وشكر صرف النبلاء، وشكر دفعه ... وغيرها. وعظمة رمضان أنه في كل يوم منه يأتي العبد بكل هذه الأنواع من العبودية، فإن الإنسان يصوم النهار، فيحتاج إلى الصبر؛ الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية في ذات الوقت، وهو أيضًا صائم ويرى الطعام والشراب يلمعان بين عينيه ولا يقدر عليهما، فيتذكر ألم المحرومين الذين يرون ما يشتهون ولا يقدرون عليه لفقر أو مرض أو غير ذلك فينشغل بالشكر. ويظل يومه هكذا، ما بين صبرٍ وشكر، فإذا أفطر في الليل وتناول حاجته من الطعام والشراب وأرضى شهوته؛ احتاج إلى شكر أعمق وعمل أكثر، فعاد مرة أخرى إلى الصبر على الطاعة ليقوم الليل، والصبر عن المعصية ليمتنع عما يدعوه إليه قطاع الطريق إلى الله في وسائل الإعلام وغيرها من المسلسلات والفوازير والأفلام وكل المعاصي الظاهرة والباطنة.

المشهد الثالث: مشهد القبض والبسط

فيظل العبد المؤمن يعيش أيام رمضان ولياليه متلبسًا بتلك العبودية المترادفة بين الشكر والصبر، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]، وقال سبحانه: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ} [النحل: 126 - 127]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عجبًا لأمر المؤمن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له" (¬1). المشهد الثالث: مشهد القبض والبسط: هل الحياة مملة؟! .. إن الذين لا يفهمون الحياة لا يعرفون كيف يعيشون هذه الحياة، فإذا لم يعيشوها كما ينبغي شكوا الملل!!، ولا أدري هل هو عقوبة؟ إن الذين لا يفهمون مراد الله منهم، فيعيشون الحياة على وتيرةٍ واحدة، فلا يشعرون بالتجديد والتجدد في معاني الحياة وملذوذاتها؛ يشكون السأم والضجر والملل .. أما العبد الرباني، الذي يعيش على مراد الله منه لا على مراده من الله؛ فإن حياته متجددة، فهو في كل لحظة بعبادة، وكل ساعة بنية، وهذا المشهد يتضح أكثر ما يكون في رمضان؛ فإن الصائم يعيش ما بين المنع في النهار فيشهد مشهد القبض ثم يفطر وتنفتح له أبواب خيرات الله فيشهد مشهد البسط، وهكذا ما بين نوم ويقظة، وإفطار وإمساك، ونشاط وراحة، يعيش المسلم في رمضان بلا سأم ولا ملل، فإنه كل ساعة في انتظار تغيير يحدثه تجدد عبادة من العبادات. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2999).

المشهد الرابع: حسن الخلق

المشهد الرابع: حسن الخلق: قال الله سبحانه وتعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 199 - 200]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق" (¬1)، وشهر رمضان له علاقة حميمة بالأخلاق السامية، والمعاني الرفيعة، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصوم جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق ولا يصخب ولا يجهل، وإن سابه أحدٌ أو قاتله، فليقل: إني صائم" (¬2). وكأن هذا الحديث وضع أصولًا لأخلاق الصائمين: أولها: أن الصائم هادئ النفس، ليِّن الطبع، في غاية الاحترام، فإنه يستشعر المراقبة حال الصيام، فلا يرفث أي لا يتكلم في الجماع ومقدماته. ثانيها: لا يفسق: أي إنه لا يخرج عن حدود الأدب، لا في القول ولا في العمل، بل هو منضبطٌ إلى أقصى حد. ثالثها: لا يصخب: لا يرتفع صوته؛ لأن الصيام نوعٌ من السكون، يقال صامتِ الدابة أي سكنت عن الحركة، وصامت الخيل أي سكتت عن الصهيل، فأصل الصيام نوع سكون، وقد فهم الصائم هذا النوع من التعبد فلا يصخب، إنه يكره الضجيج ويحب السكون والسكوت؛ لأنه أجمع لشمل قلبه على ربه. رابعها: ولا يجهل: والجهل أنواع، وأبو جهل لا يبالي، وآباء الجهل كثيرون، الصائم لا يجهل، وكل معصية جهالة، وكل ما عصي الله به فهو ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 381)، وصححه الألباني (2349) في "صحيح الجامع". (¬2) أخرجه أحمد (2/ 306)، وصححه الألباني (978) في "صحيح الترغيب والترهيب".

جهل، وكل عاص جاهل، والذي يعامل الناس بما يكرهون يجهل عليهم لأنه يجهل حقهم وهو معاملتهم بالحسنى؛ لذلك أمر الصائم أن يتذكر دومًا ليعلم أنه صائم فيقول: إني صائم. خامسها: وهو الأهم أنه إذا أوذي أو اعتدى عليه أو أضر به أحد، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فإن سابه أحد أو قاتله"؛ فإن المبدأ الإِسلامي العظيم يبرز هنا جليًّا وهو: رد السيئة بالحسنة. هذا الخلق المفقود في حياة المسلمين اليوم، وإني أعتقد أن كثيرًا من منظومة الأخلاق في الإِسلام مفقودة، والأخطر من ذلك أن تستبدل هذه الأخلاق وتتحول أخلاقيات أهل الغرب هي الأصل، وتصبح الأمثلة الشعبية والمقولات العامية أصولًا لأخلاق المسلمين في عصرنا، فصارت الدعوة إلى ظلم الناس لئلا تظلم هي الأصل عند الكثير. قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34 - 36]، فانظر كيف وعدك الله سبحانه وتعالى أنك إن أحسنت إلى من أساء إليك أحبك حتى صار كأنه ولي حميم، والآخرون يقولون لك: إن سامحته طمع فيك وعلى هذا فقس. ترى إعراض الناس عن وعود الشرع في مسألة الأخلاق، والاعتماد على تجاربهم الحياتية، ومن أجل ذلك خذلوا، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من شيء أثقل في ميزان العبد من حسن الخلق" (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (6/ 448)، وصححه الألباني (5390) في "صحيح الجامع".

المشهد الخامس: الزهد في الدنيا

"إن كمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وإن حسن الخلق ليبلغ درجة الصوم والصلاة" (¬1). فانتهز أخي الحبيب فرصة رمضان الكريم، وحسِّن أخلاقك لكي تكون في أعلى درجة في هذا الصيام، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا زعيمٌ ببيتٍ في أعلى الجنة لمن حَسُنَ خلقه" (¬2). المشهد الخامس: الزهد في الدنيا: المفروض أن رمضان شهر الزهد، فإنما شرع الصيام ليقع التقلل، وفرض الله الصيام على الأمة شهرًا كل عام ليعرف الناس قدر الدنيا، وقيمة الطعام والشراب والشهوات، وليتمكنوا من التحكم فيها، فلا تحكمهم ولا تكون أهدافهم وآمالهم في حياتهم، ويتم التدريب على ذلك لمدة شهر يتكرر كل عام للتذكير بهذه القضية التي يمكن أن نسميها حقًّا: الزهد في الدنيا، ولذلك من مشاهد المعبودية في الصيام الزهد، فما هو الزهد حقيقة. ذكر ابن القيم -عليه رحمة الله- في كتاب "طريق الهجرتين وباب السعادتين" عند كلامه عن الزهد كلامًا نفيسًا، ننقله هنا بنصه، فاقرأ وأعد وافهم ثم اعمل: "الزهد على أربعة أقسام: أحدها: فرض على كل مسلم، وهو الزهد في الحرام، وهذا متى أَخَلَّ به مسلم انعقد سببُ العقاب، فلابد من وجود مسببه ما لم ينعقد سبب آخر يضاده. الثاني: زهد مستحب، وهو على درجاتٍ في الاستحباب بحسب المزهود ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 250)، وصححه الألباني (284) في "السلسلة الصحيحة". (¬2) أخرجه الترمذي (1993)، وصححه الألباني (273) في "السلسلة الصحيحة".

فيه، وهو الزهد في المكروه، وفضول المباحات والتفنن في الشهوات المباحة. الثالث: زهد الداخلين في هذا الشأن، وهم المشمرون في السير إلى الله وهو نوعان: أحدهما: الزهد في الدنيا جملة، وليس المراد تخليتها من اليد ولا إخراجها وقعوده صِفرًا منها، وإنما المراد إخراجها من قلبه بالكلية، فلا يلتفت إليها، ولا يدعها تساكن قلبه، وإن كانت في يده، فليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك وهي في قلبك، وإنما الزهد أن تتركها من قلبك وهي في يدك، وهذا كحال الخلفاء الراشدين، وعمر بن عبد العزيز الذي يضرب المثل بزهده مع أن خزائن الأموال تحت يده، بل كحال سيد ولد آدم - صلى الله عليه وسلم - حين فتح الله عليه من الدنيا ما فتح، ولا يزيده ذلك إلا زهدًا فيها. ومن هذا الأثر الشهور: "ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال؛ ولكن الزهد في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك مما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك". والذي يصحح هذ الزهد ثلاثة أشياء: أحدها: علم العبد أنها ظل زائل وخيال زائر، وأنها كما قال الله تعالى فيها: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ في الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} [الحديد: 20]، وقال الله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ

وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24]، وقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45]. وسماها سبحانه "متاع الغرور"، ونهى عن الاغترار بها، وأخبرنا عن سوء عاقبة المغترين بها وحذرنا من مصارعهم، وذم من رضي بها واطمأن إليها، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مالي وللدنيا، إنما أنا كراكبٍ قَالَ في ظل شجرة ثم راح وتركها" (¬1). وفي المسند عنه - صلى الله عليه وسلم - حديثٌ معناه: أن الله جعل طعام ابن آدم وما يخرج منه مثلًا للدنيا، فإنه وإن قَزَّحه ومَلَّحه فلينظر إلى ماذا يصير؟، فما اغتر بها ولا سكن إليها إلا ذو همة دنية وعقل حقير، وقدر خسيس. الثاني: علمه أن وراءها دارًا أعظم منها قدرًا وأجلَّ خطرًا وهي دارُ البقاء، وأن نسبتها إليها كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع" (¬2)، فالزاهد فيها بمنزلة رجل في يده درهم زَغَل قيل له: اطرحه فلك عوض مائة ألف دينار مثلًا، فألقاه من يده رجاء ذلك العِوض، فالزهد فيها لكمال الرغبة فيما هو أعظم منها زُهدٌ فيها. الثالث: معرفته أن زهده فيها لا يمنعه شيئًا كتب له منها، وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يُقْضَ له منها، فمتى تيقن ذلك وصار له به علم يقين هان عليه الزهد فيها، فإنه متى تيقن ذلك وثلج له صدره، وعلم أن مضمونه منها ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 301)، وصححه الألباني (438) في "الصحيحة". (¬2) أخرجه مسلم (2858).

سيأتيه، بقي حرصه وتعبه وكده ضائعًا، والعاقل لا يرضى لنفسه بذلك، فهذه الأمور الثلاثة تُسَهِّل على العبد الزهد فيها، وتثيت قدمه في مقامه، والله الموفق لمن يشاء. النوع الرابع من أنواع الزهد: الزهد في نفسك، وهو أصعب الأقسام وأشَقُّها، وأكثر الزاهدين إنما وصلوا إليه ولم يلجوه، فإن الزاهد يسهل عليه الزهد في الحرام لسوء مغبته وقبح ثمرته، وحمايةً لدينه وصيانةً لإيمانه، وإيثارًا للذة والنعيم على العذاب، وأنفة من مشاركة الفجار والفجرة، وحميَّةً من أن يستأثر لعدوه، ويسهل عليه الزهد في المكروهات وفضول المباحات: علمُه بما يفوته بإيثارها من اللذة والسرور الدائم والنعيم المقيم. ويسهِّل عليه زهده في الدنيا معرفته بما ورائها، وما يطلبه من العوض التام والمطلب الأعلى، وأما الزهد في النفس فهو ذَبحُها بغير سكتتين، وهو نوعان: أحدهما: وسيلةٌ وبداية، وهو أن تميتها فلا يبقى لها عندك من القدر شيء، فلا تغضب لها ولا ترضى لها ولا تنتصر لها ولا تنتقم لها، قد سَبَّلت عِرْضَها ليومِ فقرها وفاقتها، فهي أهون عليك من أن تنتصر لها أو تنتقم لها أو تجيبها إذا دعتك أو تكرمها إذا عصتك أو تغضب لها إذا ذُمَّت، بلى هي عندك أخسُّ مما قيل فيها، أو تُرَفِّهها عما فيه حظُّك وفلاحك، وإن كان صعبًا عليها، وهذا وإن كان ذبحًا لها وإماتةً عن طباعها وأخلاقها، فهو عين حياتها وصحتها، ولا حياة لها بدون هذا ألبتة. وهذه العقبة هي آخرُ عقبةٍ يشرف منها العبد على منازل المقربين، وينحدر منها إلى وادي البقاء، ويشربُ من عين الحياقس، ويخلِّص روحَه من سجون المحن والبلاء وأَسْرِ الشهوات، وتتعلق بربها ومعبودها ومولاها الحق، فيا قرة عينها به، ويا نعيمها وسرورهما بقربه، ويا بهجتها بالخلاص من عدوها، واللجوء إلى مولاها ومالك أمرها ومتولي مصالحها

المشهد السادس: الإيثار

وهذا الزهد هو أول نقدة من مهر الحب، فيا مفلس تأخر. والنوع الثاني: غايةٌ وكمالٌ، وهو أن يبذلها للمحبوبِ جملة، بحيث لا يستبقي منها شيئًا، بل يزهد فيها زهد المحب في قدر خسيس من ماله قد تعلقت رغبة محبوبه به، فهل يجد من قلبه رغبة في إمساك ذلك القدر وحبسِهِ عن محبوبه؟، فهكذا زهد المحب الصادق في نفسه قد خرج عنها وسلمها لربه، فهو يبذلها له دائما بِتعرُّضٍ منه لقبولها. وجميع مراتب الزهد المتقدمة مَبَادٍ ووسائل لهذه المرتبة، ولكن لا يصح إلا بتلك المراتب، فمن رام الوصول إلى هذه المرتبة بدون ما قبلها فمتعنٍ متمنٍ كمن رام الصعود إلى أعلى المنارة بلا سُلَّم، قال بعض السلف: إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول، فمن ضيع الأصول حرم الوصول". اهـ كلام ابن القيم أخي الحبيب .. إذا عرفت الزهد كما ينبغي، وليس بعد كلام الإِمام كلام، ففرصتك في رمضان أن تشهد هذا المشهد، خصوصًا أنك مُعَان، لقلة الطعام وقلة الشراب وقلة الفراغ، والإجهاد من الصيام والقيام وتلاوة القرآن، هذه هي الحياة فازهد في الدنيا ووسائلها. المشهد السادس: الإيثار: شهر رمضان مدرسةٌ عظيمة، والدروس المستفادة من هذا الشهر وظائف للعمر وذكريات في الحياة، وهو تدريب عملي على مدار أيامه الثلاثين للفهم وتذوق هذه المعاني الإيمانية العالية لكي تكون الحياة على هذا النمط بعد رمضان؛ لأن في هذه المداومة تربية للنفس وتخليص لها من آفاتها. ومن الآفات التي يفيد الصيام في التخلص منها أجل فائدة: الشح؛ لأن

النفس مجبولة عليه، قال تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128]، وقال سبحانه: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]، وقال سبحانه: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء: 100]، فشرع الله الصيام ولمدة شهر لعلاج هذا المرض، وذلك بتعويد الإنسان على ضده وهو الإيثار. وابن القيم -عليه - رحمة الله - أستاذ القلوب في مدرسة الربانية، قد أفاد وأجاد فبدأ الكلام في هذا الباب وتفصيله في كتاب طريق الهجرتين أيضًا، فننقل كلامه هنا بطوله بنصه، لعل الله ينفعنا جميعًا به، فما بعد العلم إلا العمل، فخذه هنيئًا مريئًا. يقول - رحمه الله -: "الدين كله والمعاملة في الإيثار، فإنه تقديم وتخصيص لمن تؤثره بما تؤثره به على نفسك، وقيل: من آثر الله على غيره آثره الله على غيره. والإيثار إما أن يتعلق بالخلق، وإما أن يتعلق بالخالق، وإن تعلق بالخلق فكماله أن تؤثرهم على نفسك بما لا يُضَيِّع عليك وقتًا، ولا يفسد عليك حالًا، ولا يهضم لك دينًا، ولا يسُدُّ عليك طريقًا، ولا يمنع لك واردًا، فإن كان في إيثارهم شيء من ذلك، فإيثار نفسك عليهم أولى، فإن الرجل من لايؤثر بنصيبه من الله أحدًا كائنًا من كان. وهذا في غاية الصعوبة على السالك، والأول أسهل منه، فإن الإيثار المحمود الذي أثنى الله على فاعله: الإيثار بالدنيا لا بالوقت والدين وما يعود بصلاح القلب، قال الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]. فأخبر أن إيثارهم إنما هو بالشيء الذي إذا وُقِيَ الرجلُ الشُّحَّ به كان من

المفلحين، وهذا إنما هو فضول الدنيا، لا الأوقات المصروفة في الطاعات، فإن الفلاح كل الفلاح في الشح بها، فمن لم يكن شحيحًا بوقته تركه الناس على الأرض عيانًا مفلسًا، فالشح بالوقت هو عمارة القلب وحفظ رأس ماله. ومما يدل على هذا أنه سبحانه أمر بالمسابقة في أعمال البر والتنافس فيها والمبادرة إليها، وهذا ضد الإيثار بها، قال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، وقال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]، وقال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول لاسْتَهَمُوا عليه" (¬1) أي: لكانت قرعة. والقرعة إنما تكون عند التزاحم والتنافس لا عند الإيثار، فلم يجعل الشارع الطاعات والقربات محلًّا للإيثار، بل محلًّا للتنافس والمسابقة، ولهذا قال الفقهاء: لا يستحب الإيثار بالقربات. فإن قيل: فما الذي يسهل على النفس الإيثار بالدنيا دون الآخرة، فإن النفس مجبولة على الأثرة لا على الإيثار؟، قيل: يسهله أمور: أحدُها: رغبةُ العبد في مكارم الأخلاق ومعاليها، فإن من أفضل أخلاق الرجل وأشرفها وأعلاها الإيثار، وقد جبل الله القلوب على تعظيم صاحبِه ومحبته، كما جبلها على بغض المستأثر ومقته، لا تبديل لخلق الله، والأحلاق ثلاثة: خلق الإيثار، وهو خُلُقُ الفضل، وخلق القسمة والتسوية، وهو خلق العدل، وخلق الاستئثار والاستبداد وهو خلق الظلم. فصاحب الإيثار محبوبٌ مُطَاعٌ مَهِيب، وصاحب العدل لا سبيل للنفوس ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (590)، ومسلم (437).

إلى أذاه والتسلط عليه، ولكنه لا تنقاد إليه انقيادها لمن يؤثرها، وصاحب الاستئثار النفوس إلى أذاه والتسلط عليه أسرع من السيل في حُدُوِرِه، وهل أزال الممالك وقلعها إلا الاستئثار؟!، فإن النفوس لا صبر لها عليه، ولهذا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالسمع والطاعة لولاة الأمر وإن استأثروا عليهم، لما في طاعة المستأثر من المشقة أو كره الاستئثار. الثاني: النفرة من أخلاق اللئام، ومقت الشح وكراهته له. الثالث: تعظيم الحقوق التي جعلها الله سبحانه وتعالى للمسلمين بعضهم على بعض، فهو يرعاها حق رعايتها، ويخاف من تضييعها، ويعلم أنه إن لم يبذل فوق العدل لم يمكنه الوقوف مع حده، فإن ذلك عسير جدًّا، بل لا بد من مجاوزته إلى الفضل أو التقصير عنه إلى الظلم، فهو لخوفه من تضييع الحق والدخول في الظلم يختار الإيثار بما لا يُنْقِصُه ولا يضره، ويكتسب به جميل الذكر في الدنيا وجزيلَ الأجر في الآخرة، مع ما يجلبه له الإيثار من البركة وفيضان الخير عليه، فيعود عليه من إيثاره أفضل ما بذله، ومن جرَّبَ هذا عرفه، ومن لم يجربه فليستقرئ أحوال العالم، والموفق من وفقه الله سبحانه وتعالى. الإيثار المتعلق بعبادة الله: والإيثار المتعلق بالخالق أجَلُّ من هذا وأفضل، وهو إيثالر رضاه على رضا غيره، وإيثار حبه على حب غيره، وإيثار خوفه ورجائه على خوف غيره ورجائه، وإيثار الذل له والخضوع والاستكانة والضراعة والتملق على بذل ذلك لغيره، وكذلك إيثار الطلب منه والسؤال وإنزال الفاقات به على تعلق ذلك بغيره، فالأول آثر بعض العبيد على نفسه فيما هو محبوبٌ له، وهذا آثر الله على غيره، ونَفْسُه من أعظم الأغيار، فآثر الله عليها فترك محبوبها لمحبوب الله.

وعلامة هذا الإيثار شيئان: أحدهما: فعل ما يحب الله وإن كانت النفس تكرهه وتهرب منه. الثاني: ترك ما يكرهه ربه وإن كانت النفس تحبه وتهواه. فبهذين الأمرين يصح مقام الإيثار، ومؤنة هذا الإيثار شديدة لغلبة الأغيار وقوة داعي العادة والطبع، فالمحنة فيه عظيمة والمؤنة فيها شديدة والنفس عنه ضعيفة، ولا يتم فلاح العبد وسعادته إلا به، وإنه ليسيرٌ على من يسره الله عليه، فحقيقٌ بالعبد أن يسمو إليه وإن صعب المرتقى، وأن يشمر إليه وإن عظمت فيه المحنة، ويحتمل فيه خطرًا يسيرًا لمُلْكٍ عظيم وفوزٍ كبير؛ فإن ثمرة هذا في العاجل والآجل ليست تشبه ثمرة شيء من الأعمال، ويسيرٌ منه يُرَقَّى العبد، ويسيِّره ما لا يرقي غيرُه إليه في المُدَدِ المتطاولة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولا تتحقق المحبة إلا بهذا الإيثار. والذي يسهله على العبد أمور: أحدها: أن تكون طبيعته لينة منقادة سلسة ليست بجافية ولا قاسية، بل تنقاد معه بسهولة. الثاني: أن يكون إيمانه راسخًا ويقينه قويًا، فإن هذا ثمرة الإيمان ونتيجته. الثالث: قوة صبره وثباته. اهـ كلام ابن القيم -عليه رحمة الله-. ومشهد الإيثار مشهد عظيم رائع، يظهر في رمضان أكثر من غيره، فإن مجرد تركك للطعام والشراب رغم شهوتك الشديدة إلى تناوله طلبًا لرضا الله؛ هذا هو معنى الإيثار، فاشهد هذا المشهد، وعامل الله به دومًا، وقد ذكر لك الإِمام معاني الإيثار بالتمام والكمال، فما بقي عليك إلا العمل بعد الفهم العميق للكلام، هذه هي العبادة؛ فهل من سألك؟!

المشهد السابع: استشعار المعانى الإيجابية للصوم

المشهد السابع: استشعار المعانى الإيجابية للصوم: بعض الناس يظن أن الصيام كبت وحرمان، ولكني أقول لهم: إن الهدف من الصيام ليس الكبت والحرمان، وإنما الصيام وسيلة إلى غاية نبيلة، إنه التدريب على السيادة والقيادة، قيادة النفس وضبط زمامها، وكلها عن أهوائها ونزواتها، بل إنه التسامي بتلك القيادة إلى أعلى مراتبها، فلقد كنت في بحبوحة الإفطار إنما تحمي جوفك عن تناول السحت والخبيث، فأصبحت في حظيرة الصيام تفطمه حتى عن الحلال الطيب. ولقد كنتَ بالأمس تكف لسانك عن الشتم والإيذاء، فأصبحت اليوم تصونه حتى عن رد الإساءة وعن إجابة التحريش والاستفزاز، فإن خاصمك أحد أو شاتمك، لم تزد على أن تقول: إني صائم، هكذا ملكت بالصيام زمامي شهوتك وغضبك. وإنه لصبر يجر إلى صبر، ونصر يقول إلى نصر، فلئن كان الصيام قد علمك أن تصبر اليوم طائعًا مختارًا في وقت الأمن والرخاء، فأنت غدًا أقدرُ على الصبر والمصابرة في البأساء والضراء وحين البأس، ولئن كان الصيام قد علمك كيف تنتصر اليوم على نفسك، فلقد أصبحت به أجدر أن تنتصر غدًا على عدوك، وتلك عاقبة التقوى، التي أراد الله أن يرشحك لها بالصيام. إن هذا الهدف الذي صورناه وحددناه، إنما يقوم في منتصف الطريق الذي رسمه الله للصائمين، وإن في نهاية هذا الطريق هدفًا آخر، بل أهدافًا أخرى أهم وأعظم. وفي الحق أنه لو كان كل ما يطلب من الصائم هو أن يكف نفسه عن شهواتها وانفعالاتها، ولم يكن أمامه عمل إيجابي جديد يسد به هذا الفراغ، إذًا لكانت تجربة الصيام انتقاصًا للطاقة العاملة من ناحية، دون إمداد لها من ناحية

أخرى، وإذًا لكانت على حد تعبير العلماء "تخلية" بلا "تحلية"، أو تجارة مأمونة الخسارة، ولكنها لا ربح فيها ولا غنيمة. فهل شريعة الصيام في الإِسلام هى تلك الصور العارية الجرداء؟ كلا .. إنها عبادة ذات شطرين، وليس شطرها الأول إلا تمهيدًا وإعدادًا لشطرها الثاني، إنها شجرة جذعها الصبر، ولكن الله لا يريد للصائم أن يترك هذا الجذع قاحلًا ماحلًا، بل يريد أن ينبت على جوانبه أغصانًا من الشكر، وأن يتوج هامته بأوراق وثمار من الذكر والفكر، وإن من تأمل كلمة التقوى التي عبر بها القرآن الكريم في حكمة الصيام، يجدها منطوية على هذين الشطرين. فهي في شطرها الأول: كف وانتهاء، وابتعاد واجتناب. لكنها في شطرها الثاني: إقبال واقتراب، وإنشاء وبناء. وإذًا فليس الشأن كل الشأن في أن يغلق الصائم منافذ حسه، ويسكت صوت الهوى في نفسه؛ فذلك إنما يمثل إغلاق أبواب النيران؛ ولكن الشأن الأعظم في أن يكون إغلاق منافذ الحس فتحًا لمسالك الروح، وأن يكون إسكات صوت الهوى تمكينًا لكلمة الحق والهدى، فتلك هي مفاتيح أبواب الجنان. ومن كان في شك من أن هذا الجانب الإيجابي، هو الهدف الأخير لشريعة الصوم، فليقرأ كتاب الله يجد دلائله مبثوثة في تضاعيف آيات الصيام، وليطالع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يجد معالمه مبسوطة في هديه النبوي قولًا وفعلًا، والعجيب في هذا التوجيه أن الإِسلام لم يترك الأمر بالصيام دعوة مرسلة، بل وضع له مناهج معينة، ورسم له خططًا مفصلة؛ ذلك أنه لمَّا جعل شهر الصيام موسمًا لانطلاق الروح من عقالها؛ فتح فيه للأرواح بابين تتدفق منهما: بابًا إنسانيًّا، وبابًا ربانيًا. فأما انطلاق الروح الباب الإنساني: فذلك أنه أرشدنا إلى أن يكون

زهدنا في الطعام والشراب ليس قبضًا وإمساكًا بالحفظ والادخار، بل بسطًا وسخاء بالبذل والإيثار: لا تسد أيها الصائم جوعتك، ولا تنقع غلتك فحسب، ولكن أطعم الجائع واسق الظمآن، وهذا هو الصوم كما فهمه إمامنا الأعظم صلوات الله عليه، فقد كان أجود ما يكون في رمضان، حتى إنه كان فيه أجود من الريح المرسلة. وما زكاة الفطر في آخر رمضان إلا الحلقة الختامية، والمظهر العلني الجماعي لهذه الحركات النفسية الفردية، التي تحولت فيها فضيلة الصبر، إلى فضيلة الشكر، اتباعا لإرشاد القرآن الكريم حين يقول: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]. وأما انطلاق الروح في رمضان من الباب الرباني؛ فذلك أن الإِسلام فتح فيه للطاعة مسالك مسلوكة، ورسم لها سُبُلًا ذُلُلًا، تسبيح وتحميد، تكبير وتمجيد: {لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}، تضرع وابتهال، ودعاء وسؤال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، ركوع وسجود، وقيام وتشمير ونهوض: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" (¬1)، وما الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان إلا نهاية الشوط في السير، إقبالا على الله وانقطاعا بالكلية إليه: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]. ألا وإن ذِروة الأمر وسِنامُه في هذا الجانب الرباني، إنما هو في مناجاة الله بكلامه، وفي مدارسة كتابه، كما كان يفعل الرسول المصطفى من البشر، والرسول المصطفى من الملائكة، إذ كانا يتدارسان القرآن في رمضان في كل عام، ولأمر ما نَوَّه الله بهذه الصلة الوثيقة بين رمضان وبين القرآن، وجعلها ¬

_ (¬1) متفق عليه البخاري (38)، مسلم (760).

أولى المناقب والمزايا التي اختص بها هذا الشهر المعظم، فقال جلت حكمته: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]؛ فكان ذلك إيماء لنا بأن نجعل حظ رمضان من القرآن أوفر الحظوظ. لما كان الأصل العمل والجهاد في سبيل الله؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاهد في رمضان ليصل إلى أعلى درجة في العبادة، دائمًا في المركز الأعلى، فكان عند الموت يقول: "بل الرفيق الأعلى" (¬1)، شرط بشرط، ولكل سلعة ثمن. أما صوم النُّوَّم .. أما صوم البطالين .. فمال هؤلاء والجنة؟! مالك أنت والمحبة وأنت أسيرُ الحبة، تعلقتَ بها تعلقَ الرضيع بالظِئر، والقوم ما أعاروها الطرف .. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم ويجاهد .. يصوم ويقوم .. يصوم ويتلو .. يصوم ويدعو .. يصوم ويصلي .. يصوم ويعلِّم .. يصوم ويتلقى القرآن ويعلمه ويدعو به وإليه .. بأبي أنت وأمي ونفسي يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. لذلك إخوتاه فإن الصيام ليس موسمًا للنوم، إنك مسلم، فلابد أن تكون عالي الهمة تطلب القمة؛ لأنك صاحب دين قيِّم .. في هذه الآية: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا}، توجد قراءة أخرى وهي دينًا قيِّمًا، وذلك الدين القيِّم يجعلك حين تسلم وتستسلم: تصوم وتبذل جهدك وتستعين بالله جل جلاله، قال الله سبحانه: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]، أيها الناس .. أيها الإخوة .. أيها الأخوات .. إذا أردتم النجاح؛ فاستعينوا بالصبر والصلاة .. والتزموا العبودية أينما حلَّت ركائبها. ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (4176)، مسلم (2444).

المشهد الثامن: الجود والإحسان

المشهد الثامن: الجود والإحسان: قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكونُ رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من شهر رمضان فيدارسه القرآن. كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يلقاه جبريل - عليه السلام - أجودَ بالخير من الريحِ المُرْسَلَة" (¬1). الله الكريم يحبُّ أن يرى أثر نعمته على عبده، قال سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]، ومن أسماء الله الحسنى "المنَّان"؛ فهو سبحانه يحبُّ المدح، ورمضان شهرٌ كثير البركات عظيمُ الخيرات، جَادَ اللهُ فيه على عباده بأنواعٍ من النعم؛ فوجب أن يكون للعبد في المقابل أنواعٌ من الجُود شكرًا لهذه النعم؛ أسْوةً بالنبي محمَّد - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه وإن كان أجودَ من الريح المرسلة في غير رمضان؛ إلا أنه كان يصير أجودَ من ذلك في رمضان. إننا نريدُ أيها الأخُ الكريم أن تُظهر لله أنواعًا من الجود في رمضان: - أطعم الفقراء والمساكين، من طعامك الذي تأكله على مائدتك أو أفضل. - تصدق بصدقة من أعزِّ ما تملِك. - أكرم فقيرًا بأكثر مما يتمنى. نريد منك مظاهر جود لم تحدث من قبل .. اقتسم عمرُ مالَهُ مع الله، وخرج أبو بكر من مالِهِ كُلِّه، فماذا أنت فاعل؟ واعلم أنه لم تُستجلب نِعمُ اللهِ قط وإكرامُهُ وفضلُه بمِثلِ الجودِ وإكرامِ خلقِه. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي (4/ 125)، وصححه الألباني (2095) في "صحيح النسائي".

رمضان والقران

رمضان والقران شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ

رمضان والقرآن {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]. رمضان شهر القرآن العلاقة بينهما وثيقة والارتباط عظيم. فلابد من الحديث عن القرآن بتفصيل شديد والعناية به في هذا الشهر الفضيل عناية خاصة ولذلك إليكم هنا الفصل الماتع عن القرآن الكريم فاقرأ بِرَوِيَّة ولا تتعجل كى تعمل. القرآن. . كتاب الله الخالد، الذي أخرج الله به هذه الأمة من الظلمات إلى النور فأنشأها النشأة الأولى وبدلَّها من بعد خوفها أمنا، ومكّن لها في الأرض، ووهبها مقوماتها التي بها صارت أمة، ولم تكن من قبل شيئًا، وهي بدون هذه المقومات ليست أمة وليس لها مكان في الأرض، ولا ذكر في السماء، فلا أقل من شكر الله على نعمة هذا القرآن بالاستجابة إلى صوم الشهر الذي نزل فيه القرآن .. القرآن .. كتاب هذه الأمة، هو روحها وباعثها، وقوامها وكيانها وهو حارسها وراعيها، وهو بيانها وترجمانها، هو دستورها ومنهجها، وهو زاد الطريق .. ولكن ستظل هناك فجوة عميقة بيننا وبين القرآن ما لم نتمثل في حسنا، ونستحضر في تصورنا أن هذا القرآن خوطبت به أمة ذات وجود حقيقي، ووجهت به أحداث وإقعية في حياة هذه الأمة، وأديرت به معركة ضخمة في داخل النفس البشرية وفي رقعة من الأرض كذلك.

سيظل هناك حاجز سميك بين قلوبنا وبين القرآن طالما نحن نتلوه كأنه مجرد تراتيل تعبدية مهومة، لا علاقة لها بواقع الحياة البشرية، بينما هذه الآيات نزلت لتواجه نفوسًا ووقائع وأحداثًا حية. آيات منزلة من حول العرش، فالأرض بهذه الآيات سماء وهذه الآيات لتلك السماء كواكب، بل الجند الإلهي قد نشر له من الفضيلة علم، وانضوت إليه من الأرواح مواكب، أغلقت دونه القلوب فاقتحم أقفالها، وامتنعت عليه أعراف الضمائر فابتز أنفالها. ضمائر العرب امتنعت عن القرآن بما استوعر فيها من العادات والأخلاق، فنفد إليها وابتزها وغلبها على أمرها .. كم صدوا عن سبيله صدًّا، ومن ذا يدافع السيل إذا هدر؟، واعترضوه بالألسنة ردا، ولعمري من يرد على الله القدر؟ ألفاظٌ إذا اشتدت فأمواج البحر الزاخرة، وإذا لانت فأنفاس الحياة الآخرة، متى وُعِدت من كرم الله جعلت الثغور تضحك في وجوه الغيوب. وإن أُوعِدت بعذاب الله جعلت الألسن ترعد من حُمَّى القلوب. معان هي عذوبة ترويك من ماء البيان، ورقة تستروح منها نسيم الجنان، ونور تبصر به في مرآة الإيمان وجه الأمان، تَرِفُّ بندى الحياة على زهرة الضمير، وتحلق في أرواحها من معاني العبرة معنى العبير .. يجري في الخواطر كما تصعد في الشجر قطراتُ الماء. ويتصل بالروح فكأنما يَمُدُّ لها بسبب إلى السماء .. ألفاظٌ لم تعهد كَلْمَ أحداقِها، وثمراتٌ لم تَنْبُت في قَلَمِ أوراقها، ونورٌ عليه رونق الماء فكأنما اشتعلت به الغيوم، وماءٌ يتلألأ من النُّور فكأنما عُصِر من النجوم ..

فضائل القرآن

وهل رأوا إلا كلاما تضيءُ ألفاظُه كالمصابيح، فعصفوا عليه بأفواههم كما تعصف الريح، يريدون أن يطفئوا نور الله، وأين سراج النجم من نفخة ترتفع إليه كأنما تذهب تطفيه، وأين نور القمر من كفٍّ يحسِب صاحبُها أنها في حجمه فيرفعها كأنما يخفيه! وهيهات هيهات، دون ذلك دَرْجُ الشمسِ وهي أم الحياة في كفن، وإنزالُها بالأيدي وهي روح النار في قبر من كهوف الزمن. لا جرم أن القرآن سر السماء، فهو نور الله في أفق الدنيا حتى تزول، ومعنى الخلود في دولة الأرض إلى أن تدول، ولذلك إن تمادى أهل الباطل في طغيانهم يعمهون، فستظل آياته تلقف ما يأفكون، {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 118] (¬1). فضائل القرآن: (1) القرآن رحمة: قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ في ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]، أولم يكفهم أن يعيشوا مع السماء بهذا القرآن، يشعرهم أن عين الله عليهم، وأنه معنيٌّ بهم يتنزل عليهم كلامه، يحدثهم بما في نفوسهم، وهم هذا الخلق الصغير الضئيل التائه في ملكوت الله الكبير .. واللهُ بعد ذلك يكرمهم حتى أنه ينزل عليهم كلماته تتلى عليهم، والذين يؤمنون هم الذين يجدون مسَّ رحمةِ الله في نفوسهم، وهم الذين يتذكرون فضل الله وعظيم منته على البشرية بهذا التنزيل، ويستشعرون كرمه وهو ¬

_ (¬1) إعجاز القرآن للرافعي (29 - 31).

(2) القرآن طمأنينة

يدعوهم إلى حضرته وإلى مائدته وهو العلي الكبير، وهم الذين ينفعهم هذا القرآن؛ لأنه يحيا في قلوبهم، ويفتح لهم عن كنوزه، ويمنحهم ذخائره ويشرق في أرواحهم بالممعرفة والنور .. (2) القرآن طمأنينة: الإيمان بكلام الله والعيش معه طمأنينة في القلب واستقامة على الطريق، وثبات على الدرب، وثقة بالسند، واطمئنان للحِمى، ويقين بالعاقبة، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]، وقال تعالى: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23]. الحياة في ظلال القرآن نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها، نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه، أي تكريم للإنسان يفوق هذا التكريم العلوي الجليل أن يخاطبه الله جل جلاله ويفهم؟!، أي نعمهّ أعظم من نزول القرآن؟!، نعمة لا يسعها حمد البشر، فحمد الله نفسه على هذه النعمة فقال جل جلاله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف: 1]. أي رفعة للعمر يرفعها هذا التنزيل؟، أي مقام كريم يتفضل به على الإنسانِ القليل الصغير خالقُه الكريم؟ هي منة الله على الإنسان في هذه الأرض .. المِنَّة التي وُلِد الإنسان معها ميلادًا جديدًا، ونشأ بها الإنسان نشأة جديدة .. وليس أشقى على وجه الأرض ممن يُحرْمون طمأنينة الإنس إلى الله، ليس أشقى ممن ينطلق في هذه الأرض مبتور الصلة بما حوله في الكون؛ لأنه

(3) القرآن صانع الرجال

انفصم من العروة التي تربطه بالله، ليس أشقى في الحياة ممن يشق طريقه وحيدًا شاردًا في فلاة، عليه أن يكافح وحده بلا ناصر ولا هاد ولا معين .. هذا القرآن العجيب، الذي لو كان من شأن قرآن أن تسير به الجبال أو تقطع به الأرض أو يكلم به الموتى، لكان في هذا القرآن من الخصائص والمؤثرات ما تتم معه هذه الخوارق والمعجزات، ولكنه جاء لخطاب المكلفين الأحياء. (3) القرآن صانع الرجال: لقد صنع هذا القرآن في النفوس التي تلقته وتكيفت به أكثر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى، ولقد صنع في هذه النفوس وبهذه النفوس خوارق أضخم وأبعد آثارًا، فكم غَيَّر الإِسلامُ والمسلمون من وجه الأرض، إلى جانب ما غيروا من وجه التاريخ. الذين تلقوه وتكيفوا به سيروا ما هو أضخم من الجبال وهو تاريخ الأمم والأجيال، وقطعوا ما هو أصلب من الأرض، وهو جمود الأفكار والتقاليد، وأحيوا ما هو أخمد من الموتى، وهو الشعوب التي قتل روحها الطغيان والأوهام. قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور، بين ظاهر الإنسان وباطنه، في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة، في علاقات الناس بعضهم ببعض .. (4) القرآن شفاء: قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]، في القرآن شفاء، القرآن رحمة لمن خالطت

(5) القرآن حماية بعد الهداية

قلوبهم بشاشة الإيمان فأشرقت، وتفتحت لتلقي ما في القرآن من روح وطمأنينة .. في القرآن شفاء من الوسوسة والقلق والحيرة، فهو يصل القلب بالله، فيرضى ويستروح الرضا عن الله والرضى عن الحياة. والقلق مرض، والحيرة نصب، والوسوسة داء، ومن ثمَّ هو رحمة للمؤمنين .. وفي القرآن شفاء من الهوى والدنس والطمع والحسد ونزغات الشيطان. وفي القرآن شفاء من الاتجاهات المختلة في الشعور والتفكير، فهو يعصم العقل من الشطط. وفي القرآن شفاء من العلل الاجتماعية التي تخلخل بناء المجتمعات. (5) القرآن حماية بعد الهداية: قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]، وأسوأ ما يفعله قرين بقرينة أن يصده عن السبيل الواحدة القاصدة، ثم لا يدعه يفيق أو يتبين الضلال فيتوب؛ إنما يوهمه أنه سائر في الطريق القاصد القويم، حتى تفاجئهم النهاية وهم سادرون، هنا يفيقون كما يفيق المخمور، ويفتحون أعينهم بعد العشى والكلال. فالقرآن يحميك في طريقك إلى الله، ويصرف عنك شياطين الجن، ويعطيك من الحجة ما تغلب به شياطين الإنس. (6) القرآن حياة القلوب: وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ

الْحَقِّ} [الحديد: 16]، لا يأس من قلبٍ خَمَد وجمد وقسا وتبلَّد، فإنه يمكن أن تَدُبَّ فيه الحياة، وأن يشرق فيه النور، وأن يخشع لذكر الله، فالله يحيي الأرض بعد موتها، فتنبض بالحياة، وتزخر بالنبت والزهر، وتمنح الأُكُل والثمار، وكذلك القلوب حين يشاء الله، وفي هذا القرآن ما يحيي القلوب، كما تحيا الأرض وما يمدها بالغذاء والري والدفء. قال تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} [الإسراء: 107 - 108]، هم لا يسجدون ولكن: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا}، لا تكفي الألفاظ في تصوير ما يجيش في صدورهم منه، فإذا الدموع تنطلق معبرة عن ذلك التأثر الغامر الذي لا تصوره الألفاظ .. هذا أثر القرآن في القلوب المتفتحة لاستقبال فيضه، العارفة بطبيعته وقيمته، وإني لأعجب لقراء القرآن كيف يهنيهم النوم ومعهم القرآن، أما والله لو علموا ما حملوا لطار النوم عنهم فرحًا. رمضان والقرآن: قال ابن رجب - رحمه الله - في "لطائف المعارف": "الصيام يشفع لمن منعه الطعام والشهوات المحرمة كلها، سواء كان تحريمها يختص بالصيام كشهوة الطعام والشراب والنكاح ومقدماتها، أو لا يختص كشهوة فضول الكلام المحرمة، والنظر المحرم والسماع المحرم، والكسب المحرم، فإذا منعه الصيام من هذه المحرمات كلها فإنه يشفع له عند الله يوم القيامة، ويقول: يا رب .. منعته شهواته فشفعني فيه، فهذا لمن حفظ صيامه ومنعه من شهواف، فأما من ضيع صيامه ولم يمنعه مما حرم الله عليه، فإنه جدير أن يضرب به وجه صاحبه ويقول له: ضيعك الله كما ضيعتني.

قال بعض السلف: إذا احتُضرِ المؤمن يقال للملك: شُمَّ رأسه، قال: أجد في رأسه القرآن، فيقاله: ثم قلبه، فيقول: أجد في قلبه الصيام، فيقال: شم قدميه، فيقول: أجد في قدميه القيام، فيقال: حفظ نفسه حفظه الله -عز وجل-. وكذلك القرآن إنما يشفع لمن منعه من النوم بالليل، من قرأ القرآن وقام به فقد قام بحقه فيشفع له، أما من كان معه القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل به بالنهار، فإنه ينتصب القرآن خصما له يطالبه بحقوقه التي ضيعها" اهـ. وقد "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان جبريل يلقاه كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة" (¬1). قال ابن رجب: "دل الحديث على استحباب دراسة القرآن في رمضان والاجتماع على ذلك، وعَرْضِ القرآن على من هو أحفظ له، وفيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان. وفي الحديث أن المدارسة بين جبريل عليه السلام وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت ليلًا، فيدل ذلك على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن ليلًا، فإن الليل تنقطع فيه الشواغل ويجتمع فيه الهم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر كما قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 6] " اهـ. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ بمائة آية في ليلة كتب له قنوت ليلة" (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "يأتي القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حَلِّه، فيلبس تاج ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (6)، ومسلم (2308). (¬2) أخرجه أحمد (4/ 103)، وصححه الألباني (644) في "الصحيحة".

الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حُلَّة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيرضى عنه، فيقول: اقرأ وارْقَ، ويُزاد بكل آيةٍ حسنة" (¬1). قال أحمد بن الحواري: إني لأقرأ القرآن وانظر في آية فيُحَيَّر عقلي بها، وأعجب من حفاظ القرآن كيف يهنيهم النوم، ويسعهم أن يشتغلوا بشيء من الدنيا وهم يتلون كلام الله، أما إنهم لو فهموا ما يتلون، وعرفوا حقه وتلذذوا به، واستحلوا المناجاة به؛ لذهب عنهم النوم فرحًا بما رزقوا. وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن .. وكان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم. وكان علي الأزدي يختم فيما بين المغرب والعشاء في كل ليلة من رمضان .. وقال ربيع بن سليمان: كان الشافعي يختم القرآن في شهر رمضان ستين ختمة، ما منها شيء إلا في صلاة. وكان قتادة يختم القرآن في كل سبع مرة، فإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة، فإذا دخل العشر ختم في كل ليلة مرة .. وكان النخعى يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة، وفي بقية الشهر في ثلاث .. وكان الأسود يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين، وفي غير رمضان في كل ست ليال .. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2915)، وحسنه الألباني (8030) في "صحيح الجامع".

إخوتاه .. هذا شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن عباد الله، وفي بقيته للعابدين مستمتع، وهذا كتاب الله يتلى فيكم بين أظهركم ويُسْمَع. وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعًا يتصدع، ومع هذا فلا قلب يخشع، ولا عين تدمع، ولا صيام يصان عن الحرام فينفع، ولا قيام استقام فيرجى في صاحبه أن يشفع، وتراكمت علينا ظلمة الذنوب فهي لا تبصر ولا تسمع .. كم تتلى علينا آيات القرآن وقلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة، وكم يتوالى علينا رمضان وحالنا فيه كحال أهل الشقوة، لا الشباب منه ينتهي عن الصبوة، ولا الشيخ ينزجر عن القبيح فيلتحق بالصفوة، أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة، وإذا تليت عليهم آيات الله جلت قلوبهم جلوة، وإذا صاموا صامت منهم الألسنة والأسماع والأبصار، أفمالنا فيهم أسوة؟، ما بيننا وبين حال الصفا أبعد مما بين الصفا والمروة، كلما حسنت مِنَّا الأقوال ساءت الأعمال .. فهل من توبةٍ صادقة وعزيمةٍ ماضية .. نتلو كتاب الله بالتدبر والفهم فيكون لنا شافعًا عند ربنا فيرفع ما بنا من غمة .. هيا لنفهم القرآن مع كيفية تحصيل لذة القرآن: أيها الإخوة .. إذا عرفنا الآن أهمية القرآن في العودة بالأمة .. وعرفنا كيف نحفظه ونتعلمه كما حفظه الصحابة؛ لنتربى عليه وعرفنا ما هو المطلوب منا بالنسبة للقرآن في نقاط محددة .. بقي أن نعرف كيف نحصل لذة تلاوته وقراءته، لا سيما ونحن في شهر القرآن.

تحصيل لذة التلاوة وقراءة القرآن

تحصيل لذة التلاوة وقراءة القرآن (¬1): اعلم أن هذه اللذة لن تحصل إلا بتوافر آداب ظاهرة وآداب باطنة عند تلاوة القرآن العظيم .. أما الآداب الظاهرة: (1) آداب في القارئ: أن يكون القارئ على وضوء، وأن يكون واقفًا على هيئة الأدب والسكون إما قائمًا وإما جالسًا، مستقبل القبلة، مُطْرقًا برأسه، غير متربع ولا متكئ، ولا جالسًا على هيئة التكبر، فإن قرأ على غير وضوء أو كان مضطجعًا في فراشه؛ كان له أيضًا فضل؛ ولكنه دون ذلك، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 191]، فأثنى على الكل؛ ولكن قدم القيام في الذكر، ثم القعود، ثم الذكر مضجعًا. (2) آداب في مقدار القراءة: وللقراءة عادات مختلفة، في الاستكثار والاختصار، والمأثور عن عثمان وزيد بن ثابت وابن مسعود وأُبيِّ أنهم كانوا يختمون القرآن في كل جمعة، يقسمونه سبعة أحزاب. (3) الترتيل: الترتيل هو المستحب في تلاوة القرآن؛ لأنا سنبيِّن أن المقصود من القراءة التفكير، والترتيلُ مُعِينٌ عليه؛ ولذلك نعتت أمُّ سلمة - رضي الله عنها - عنها قراءة ¬

_ (¬1) انظر: إحياء علوم الدين للغزالي (1/ 277 - 288) باختصار.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفًا حرفًا، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: لأن أقرأ البقرة وآل عمران أرتلهما وأتدبرهما أحب إليَّ من أن أقرأ القرآن كله هَذْرَمَةً، وجَلِيُّ أن الترتيل والتؤدة أقرب إلى التوقير والاحترام وأشد تأثيرًا في القلب من الهذرمة والاستعجال. (4) البكاء: وهو مستحب مع القراءة، ومنشؤه الحزن؛ وذلك أن يتأمل ما فيه من التهديد والوعيد، والمواثيق والعهود، ثم يتأمل تقصيره في أوامره وزواجره؛ فيحزن لا محالة ويبكي. (5) أن يراعى حق الآيات: فإذا مر بآية سجدة سجد، وكذلك إذا سمع من غيره سجدة سجد إذا سجد التالي، ولا يسجد إلا إذا كان على طهارة، وقد قيل في كمالها: إنه يكبر رافعًا يديه لتحريمه من وقوف ثم يهوي ساجدًا، ثم يرفع ويستكمل القراءة. (6) آداب الترتيل: أن يقول في مبتدإ قراءته: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وفي أثناء القراءة إذا مر بآية تسبيح سبح وكبر، وإذا مر بآية دعاء واستغفار دعا واستغفر، وإن مر بمرجوٍّ سأل، وإن مر بمخوِّفٍ استعاذ، يفعل ذلك بلسانه أو بقلبه. (7) الإسرار بالقراءة: فهو أبعد عن الرياء والتصنع؛ وهو أفضل في حق من يخاف ذلك على نفسه، فإن لم يخف ولم يكن في الجهر ما يشوش على مُصَلٍّ؛ فالجهر أفضل؛ لأن العمل فيه أكثر، ولأنه يوقظ قلب القارئ، ويجمع همه إلى الفكر

وأما الآداب الباطنة

فيه، ولأنه. يطرد النوم في رفع الصوت، ويزيد في نشاطه للقراءة، ويقلل من كسله، فمتى حضره شيءٌ من هذه النيات؛ فالجهر أفضل. (8) تحسين القراءة: وترتيبها من غير تمطيط مفرط يغيِّر النظم؛ فذلك سُنَّة، وفي الحديث: "زيِّنوا القرآن بأصواتكم" (¬1)، وفي آخر: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" (¬2)، فقيل: أراد به الاستغناء، وقيل: أراد به الترنم وترديد الألحان به، وهو أقرب عند أهل اللغة، واستمع - صلى الله عليه وسلم - إلى قراءة أبي موسى فقال: "لقد أوتي هذا من مزامير آل داود" (¬3)، وُيروى أن أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانوا إذا اجتمعوا أمروا أحدهم أن يقرأ سورةً من القرآن. وأما الآداب الباطنة: (1) فهم عظمة الكلام: فهم عظمة الكلام وعلوه والاعتراف بفضله سبحانه وتعالى ولطفه بخلقه في نزوله عن عرش جلاله إلى درجة إفهام خلقه، فلينظر كيف لطفّ بخلقه في إيصال معاني كلامه إلى أفهام خلقه؟، وكيف تجلت لهم تلك الصفة في طيِّ حروفٍ وأصوات هي صفات البشر، إذ يعجز البشر عن الوصول إلى فهم صفات الله -عز وجل- إلا بوسيلة صفات نفسه، ولولا استتار كُنْهِ جلالة كلامه بكسوة الحروف لما ثبت لسماع الكلام عرشٌ ولا ثرى، ولتلاشى ما بينهما من عظمة سلطانه وسَبُحَات نوره، ولولا تثبيت الله -عز وجل- لموسى - عليه السلام -، لما أطاق سماع كلامه كما لم يطق الجبل مبادي تجليه حيث صار دَكًّا. ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (4653)، مسلم (792). (¬2) البخاري (7089). (¬3) متفق عليه، البخاري (4761)، مسلم (793).

لا بد لك أيها التالي للقرآن أن تعرف أن القرآن كلام الله وأن صفة التكليم من صفات الجلال للرب جل وعلا، وربك جل جلاله إذا تجلى لشيء لم يقم لعظمة جلاله سبحانه شيء، {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143]. فافهم واعرف أيها الحبيب المحب أن صفة الكلام من صفات الملك جل جلاله ولها عظمة من عظمته سبحانه، وكما أنه سبحانه كما ثبت في الحديث أن "حجابه النور لو كشفه لأحرفت سبحات وجهه ما امتد إليه بصره من خلقه" (¬1)؛ فلابد من حجاب لهذه الصفة. فجعل الله وهو الرحيم بعباده الكريم الحروفَ والأصوات كأنها حجاب لصفة الكلام؛ لتستطيع القلوب والعقول مطالعة هذه الصفة وإلا لصار الخلق دكًّا كما جرى للجبل، قال سبحانه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ} [الحشر: 21]. فأحمد الله أيها التالي للقرآن على هذه المنة العظيمة أن تتمكن من تلاوة القرآن الذي هو كلام الله، والكلام صفة من صفات الله -عز وجل-، قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17]. (2) التعظيم للمتكلم: فالقارئ عند البداية بتلاوة القرآن ينبغي أن يحضر في قلبه عظمة المتكلم، ويعلم أن ما يقرؤه ليس من كلام البشر، وأن في تلاوة كلام الله -عز وجل- غايةُ الخطر، فإنه تعالى قال: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]، وكما أن ظاهر جلد المصحف وورقُه محروسٌ عن ظاهر بشرة اللامس إلا إذا كان ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه، وصححه الألباني (1860) في "صحيح الجامع".

متطهرًا، فباطنُ معناه أيضًا بحُكم عِزِّه وجلالِه محجوبٌ عن باطن القلب إلا إذا كان القلب متطهرًا من كل رجْس، ومستنيرًا بنور التعظيم والتوقير. وكما لا يصلح لِمَسِّ جِلدِ المصحفِ كلُّ يَدٍ، فلا يصلح لتلاوةِ حروفه كلُّ لسان، ولا لنيل معانيه كلُّ قلب. فتعظيمُ الكلام تعظيمُ للمتكلم، ولن تَحْضُرَه عظمةُ المتكلم ما لم يتفكر في صفاته وجلاله وأفعاله، فإذا حضر بباله العرشُ واستواءُ ربِّه عليه، والكرسيُّ الذي وَسِع السموات والأرض، واستحضر مشهد السموات والأرض وما بينهما من الجن والإنس والدواب والأشجار، وعلم أن الخالق لجميعها والقادر عليها والرازق لها واحد، وأن الكل في قبضته مترددون بين فضله ورحمته، وبين نقمته وسطوته، إن أنعم فبفضله، وإن عاقب فبعدله، وأنه الذي يقول هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي، وهذا غاية العظمة والتعالي، فبالتفكر في أمثال هذا يحضر تعظيم المتكلم ومن ثَمَّ تعظيم الكلام. (3) حضور القلب وترك حديث النفس: قيل في تفسير: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]، أي بجدٍّ واجتهاد، وأَخْذُه بالجد أن يكون متجردًا له عند قراءته منصرف الهمة إليه عن غيره، وقيل لبعضهم: إذا قرأت القرآن تُحَدِّث نفسك بشيء؟، فقال: أو شيءٌ أحبُّ إليَّ من القرآن حتى أحدِّثَ به نفسي! وكان بعض السلف إذا قرأ آية لم يكن قلبه فيها أعادها ثانية. وهذه الصفة تتولد عمَّا قبلها من التعظيم، فإن المعظِّمَ للكلام الذي يتلوه يستبشر به ويستأنس ولا يغفل عنه، ففي القرآن ما يستأنس به القلب إن كان

التالي أهلًا له، فكيف يُطْلَبُ الإنس بالفكر في غيره وهو متنزه ومتفرج، والذي يتفرج في المتتزهات لا يتفكر في غيرها، فقد قيل: إن القرآن ميادين، وبساتين، ومقاصير، وعرائس، وديابيج، ورياض. فإذا دخل القارئ الميادين، وقطف من البساتين، ودخل المقاصير، وشهد العرائس، ولبس الديباج، وتنزه في الرياض، استغرقه ذلك وشغله عما سواه، فلم يعزب قلبه، ولم يتفرق فكره. (4) التدبر: وهو وراء حضور القلب، فإنه قد لا يتفكر في غير القرآن ولكنه يقتصر على سماع القرآن من نفسه، وهو لا يتدبره، والمقصود عن القراءة التدبر؛ ولذلك سُنَّ الترتيل في الظاهر ليتمكن من التدبر بالباطن. قال عليٌّ - رضي الله عنه -: لا خير في عبادة لا فِقه فيها، ولا في قراءةِ لا تدبر فيها. وإذا لم يتمكن من التدبر إلا بترديد الآية فليردد إلا أن يكون خلف إمام، فإنه لو بقي في تدبر آية وقد اشتغل الإِمام بآية أخرى كان مسيئًا، مثل من يشتغل بالتعجب من كلمة واحدة ممن يناجيه عن فهم بقية كلامه، وكذلك إن كان في تسبيح الركوع وهوِ متفكر في آية قرأها إمامه فهذا وسواس. روي عن عامر بن عبد قيس أنه قال: الوسواس يعتريني في الصلاة، فقيل: في أمر الدنيا؟، فقال: لأن تختلف فيَّ الأسنة أحب إليَّ من ذلك؛ ولكن يشتغل قلبي بموقفى بين يدي ربي -عز وجل-، وأني كيف، أنصرف، فَعَدَّ ذلك وَسْواسًا، وهو كذلك؛ فإنه يشغله عن فهم ما هو فيه، والشيطان لا يقدر على مثله إلا بأن يشغله بمهم ديني، ولكن يمنعه به عن الأفضل. وعن أبي ذر قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنا ليلة فقام بآية يرددها وهي:

{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، وقام تميم الداري ليلة بهذه الآية: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] وقام سعيد بن جبير يردد هذه الآية {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59] وقال بعظهم: إني لأفتح السورة فيوقفني بعض ما أشهد فيها عن الفراغ منها حتى يطلع الفجر. وكان بعضهم يقول: آية لا أتفهمها ولا يكون قلبي فيها لا أَعُدُّ لها ثوابًا وحُكِيَ عن أبي سليمان الدارني أنه قال: إني لأتلو الآية فأقيم فيها فيها أربع ليال أو خمس ليال، ولولا أني اقطع الفكر فيها ما جاوزتها إلى غيرها. وعن بعض السلف أنه بقي في سورة هود ستة أشهر يكررها ولا يفرغ من التدبر فيها، وقال هبعضهم: لي في كل جمعة ختمة، وفي كل شهر ختمة، وفي كل سنة ختمة، ولي ختمة منذ ثلاثين سنة ما فرغتُ منها بعد، وذلك بحسب درجات تدبره وتفتيشه، وكان هذا أيضًا يقول: أقمت نفسي مقام الأُجَرَاء، فأنا أعمل مياومة ومجامعة ومشاهرة ومسانهة. (يعني باليومية فهناك ختمة يومية. ومجامعة: يعني كل جمعة. ومشاهرة: يعني كل شهر. ومسانهة: يعني كل سنة). (5) التفهم: وهو أن يستوضح عن كل آية ما يليق بها؛ إذ القرآن يشتمل على ذكر صفات الله -عز وجل- وذكر أفعاله، وذكر أحوال الأنبياء عليهم السلام، وذكر أحوال المكذبين لهم وأنهم كيف أهلكوا، وذكر أوامره وزواجره، وذكر الجنة والنار. أما صفات الله -عز وجل- فكقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ

الْبَصِير} [الشورى: 11]، وكقوله تعالى: {هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 23]، فليتأمل معاني هذه الأسماء والصفات لينكشف له أسرارها، فتحتها معانٍ مدفونة لا تنكشف إلا للمُوَفقين، وإليه أشار عليٌّ - رضي الله عنه - بقوله لما سئل: هل عندكم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء سوى القرآن؟، فقال: لا والذي خلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يعطي الله عبدا فهما في كتابه. وأما أفعاله تعالى فكذكره خلق السموات والأرض وغيرها، فليفهم التالي منها صفات الله -عز وجل- جلاله، إذا الفعل يدل على الفاعل فتدل على عظمته. وأما أحوال الأنبياء - عليهم السلام -: فإذا سمع منها كيف كُذِّبوا وضُربوا وقُتِلَ بعضهم؛ فليفهم منه صفة الاستغناء لله -عز وجل- عن الرسل والمرسَلِ إليهم، وأنه لو أهلك جميعهم لم يؤثر في مُلْكه شيء، وإذا سمع نصرتهم في آخر الأمر فليفهم قدرة الله -عز وجل- وإرداته لنصرة الحق. وأما أحوال المكذبين، كعاد وثمود وما جرى عليهم، فليكن فهمه منه استشعار الخوف من سطوته ونقمته، وليكن حظه منه الاعتبار في نفسه، وأنه إن غفل وأساء الأدب واغتر بما أمهل فربما تدركه النقمة وتنفذ فيه القضية، وكذلك إذا سمع وصف الجنة والنار وسائر ما في القرآن، فلا يمكن استقصاء ما يفهم منه لأن ذلك لا نهاية له، وإنما لكل عبد من القرآن بقدر رزقه: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109]. فالغرض مما ذكرناه التنبيه على طريق التفهيم لينفتح بابه، فأما الاستقصاء فلا مطمع فيه، ومن لم يكن له فَهْمٌ في القرآن ولو في أدنى الدرجات دخل في

قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 16]، والطابع هي الموانع التي سنذكرها في موانع الفهم. (6) التخلي عن موانع الفهم: لا بد من التخلية قبل التحلية؛ فإن أكثر الناس منعوا عن فهم معاني القرآن لأسباب وحَجُب أسدلها الشيطان على قلوبهم، فعُمِّيَت عليهم عجائب أسرار القرآن. وحُجُبُ الفهم ثلاثة: أولها: أن يكون الهم منصرفًا إلى تحقيق الحروف بإخراجها من مخارجها، وهذا يتولى حفظه شيطان وُكِّلَ بالقراء ليصرفهم عن فهم معاني كلام الله -عز وجل -، فلا يزال يحملهم على ترديد الحرف، يخيل إليهم أنه لم يخرج من مخرجه، فهذا يكون تأمله مقصورًا على مخارج الحروف فأنى تكشف له المعاني؟، وأعظم ضحكة للشيطان ممن كان مطيعًا لمثل هذا التلبيس. ثانيها: أن يكون مقلدًا لمذهب سمعه بالتقليد، وجمد عليه، وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة، فهذا شخص قيده معتقده عن أن يتجاوزه فلا يمكنه أن يخطر بباله غير معتقده، فصار نظره موقوفًا على مسموعه. فإن لمع له برق على بعد، وبدَا له معنى من المعاني التي تُبَاين مسموعه؛ حَمَلَ عليه شيطان التقليد حملةً وقال: كيف يخطر هذا ببالك وهو خلاف معتقد آبائك، فيرى أن ذلك غرورٌ من الشيطان فيتباعد منه ويتحرز عن مثله، ومثله من يقرأ قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وما يحتويه

معنى الآية من علو الله -عز وجل- على كل مخلوقاته وهيمنته وتصرفه في كل الموجودات، فيجيئه تقليد المعتقدات الموروثة في التأويل ووجوب تنزيه الله عن الجهة، فيُحرَم من تجليات تأمل صفة العلو والاستواء، وهي من الصفات التي تكررت في القرآن بغرض التنبيه على جلال الله وعظمته وحقيقة علوه على خلقه. ثالثها: أنا يكون مُصِرًّا على ذنب أو متصفًا بكبرٍ أو مبتلى في الجملة بهوَى في الدنيا مطاع؛ فإن ذلك سببُ ظلمة القلب وصدئه،، وهو كالخبث على المرآة، وهو أعظم حجابٍ للقلب، وبه حُجِبَ الأكثرون. وكلما كانت الشهوات أكثر تراكمًا كانت معاني الكلام أشدَّ احتجابًا، وكلما خف عن القلب أثقال الدنيا، قَرُبَ علي المعنى فيه، فالقلب مثل المرآة، والشهوات مثل الصدأ، ومعاني القرآن مثل الصور التي تتراءى في المرآة، والرياضة للقلب بإماطة الشهوات مثل تصقيل الجلاء للمرآة، وقد شرط الله -عز وجل- الإنابة في الفهم والتذكير فقال تعالى: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 8]، وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد: 19]، فالذي آثر غرور الدنيا على نعيم الآخرة؛ فليس ذوي الألباب؛ ولذلك لا تنكشف له أسرار الكتاب. (7) التخصيص: وهو أن يقدِّر أنه المقصود بكل خطاب في القرآن، فإن سمع أمرًا أو نهيًا قَدَّر أنه هو المنهي والمأمور، وإن سمع وعدًا أو وعيدا فكمثلِ ذلك أن هذا الوعيد يَخُصُّه، وإن سمع قصص الأولين والأنبياء عَلِمَ أن السمر غيرُ مقصود، وإنما المقصود ليعتير به وليأخذ من تضاعيفه ما يحتاج إليه، فما من قصة في القرآن إلا وسياقها لفائدة في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته، ولذلك قال تعالى: {وَكُلًّا

نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَآءَكَ في هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]، فليُقَدِّر العبدُ أن الله ثبَّت فؤاده بما قصه عليه من أحوال الأنبياء وصبرهم على الإيذاء وثباتهم في الدين لانتظار نصر الله تعالى. وكيف لا يُقدِّر هذا والقرآن ما أُنْزِل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرسول الله خاصة؛ بل هو شفاء وهدى ورحمة ونور للعالمين؛ ولذلك أمر الله تعالى الكافة بشكر نعمة الكتاب فقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231]، وقال -عز وجل-: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10]، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]، وقال سبحانه: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر: 55]، وقال عز وجل: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138]. وإذا قُصِد بالخطابِ جميعُ الناس فقد قُصِدَ الآحادُ، فهذا القارئ الواحد مقصودٌ، فماله ولسائر الناس، فليقدر أنه المقصود، قال الله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، قال محمَّد بن كعب القرظي: من بلغه القرآن فكأنما كلمه الله، وإذا قدر ذلك لم يتخذ دراسةَ القرآن عملَه، بل يقرؤه كما يقرأُ العبدُ كتابَ مولاه الذي كتبه له ليتأمله ويعمل بمقتضاه، ولذلك قال بعض العلماء: هذا القرآن رسائل أتتنا من قَبِلِ ربنا -عز وجل- بعهود نتدبرها في الصلوات ونقف عليها في الخلوات وننفذها في الطاعات والسنن المتبعات، وكان مالك بن دينار يقول: ما زرع القرآن في قلوبكم يا أهل القرآن؟، إن القرآن ربيع المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض، وقال قتادة: لم يجالس أحدٌ القرآن إلا قام بزيادة أو نقصان، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82].

(8) التأثر: وهو أن يتأثر قلبه بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات فيكون له بحسب كل آية يقرؤها فهمٌ وحال يتصف به قلبه من الحزن والخوف والرجاء وغيرها، ومهما تمت معرفته كانت الخشية أغلب الأحوال على قلبه، فإن التقييد غالب على آيات القرآن، فلا يرى ذكر المغفرة إلا مقرونًا بشروط يقصر العارف عن نيلها كقوله -عز وجل-: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ} ثم أتبع ذلك بأربعة شروط: {لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82]، وقوله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3]، ذكر أربعة شروط، وحيث اقتصر شَرَطَ شرطًا جامعًا، فقال تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]، فالإحسان يجمع الكل، وهكذا من يتصفح القرآن من أوله إلى آخره، ومن فهم ذلك فجدير بأن يكون حالُه الخشيةَ والحزن. ولذلك قال الحسن: واللهِ ما أَصبح اليوم عبدٌ يتلو القرآن يؤمن به إلا كثر حزنه، وقل فرحه، وكثر بكاؤه، وقل ضحكه، وكثر نَصَبه وشغله، وقَلَّت راحته وبطالته. وقال وُهيب بن الورد: نظرنا في هذه الأحاديث والمواعظ فلم نجد شيئًا أرق للقلوب ولا أشد استجلابًا للحزن من قراءة القرآن، وتفهمه، وتدبره، فتأثر العبد بالتلاوة أن يصير بصفة الآية المتلوة. فعند الوعيد وتقييد المغفرة بالشروط يتضاءل من خيفته كأنه يكاد يموت؛ وعند التوسع ووعد المغفرة يستبشر كأنه يطير من الفرح. وعند ذكر الله صفاته وأسمائه يتطأطأ خضوعًا لجلاله واستشعارًا لعظمته.

وعند ذكر الكفار ما يستحيل على الله -عز وجل- كذكرهم لله -عز وجل- ولدًا وصاحبة -تعالى الله عن ذلك- يغض الصوت وينكسر في باطنه حياءً من قبح مقالتهم، وعند وصف الجنة ينبعث بباطنه شوقًا إليها. وعند وصف النار ترتعد فرائصه خوفًا منها، ولما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعود: "اقرأ علي" قال: فافتتحت سورة النساء، فلما بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]، رأيت عينيه تذرفان بالدمع؛ فقال لي: "حسبك الآن" (¬1)؛ وهذا لأن مشاهدة تلك الحالة استغرقت قلبه بالكلية - صلى الله عليه وسلم -. ولقد كان من الخائفين من خَرَّ مغشيًا عليه عند آيات الوعيد، ومنهم من مات في سماع الآيات. فمثل هذه الأحوال يخرجه عن أن يكون حاكيًا في كلامه، فإذا قال: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: 15]، ولم يكن خائفًا كان حاكيًا. وإذا قال: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4]، ولم يكن حاله التوكل والإنابة كان حاكيا. وإذا قال: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا} [إبراهيم: 12]، فليكن حاله الصبر أو العزيمة عليه حتى يجد حلاوة التلاوة. فإن لم يكن بهذه الصفات ولم يتردد قلبه بين هذه الحالات؛ كان حظه من التلاوة حركة اللسان مع صريح اللعن علي نفسه في قوله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، وقال تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا ¬

_ (¬1) البخاري (4763).

تَفْعَلُونَ} [الصف: 3]، وقال -عز وجل-: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ في غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1]، إلى غير ذلك من الآيات .. وكان داخلًا في معنى قوله -عز وجل-: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78]، يعني التلاوة المجردة، وقوله -عز وجل-: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105]؛ لأن القرآن هو المبين لتلك الآيات في السموات والأرض، ومهما تجاوزها ولم يتأثر بها كان معرضًا عنها؛ ولذلك قيل: إن من لم يكن متصفًا بأخلاق القرآن فإذا قرأ القرآن ناداه الله تعالى: مالكَ ولكلامي وأنت معرضٌ عني، دع عنك كلامي إن لم تتب إليَّ. ومثال ذلك: العاصي إذا قرأ القرآن وكرره، مثال من يكرر كتاب الملك كل يوم مرات، وقد كتب إليه في عمارة مملكته وهو مشغول بتخريبها ومقتصرٌ على دراسة كتابه؛ فلعله لو ترك الدراسة عند المخالفة لكان أبعد عن الاستهزاء واستحقاق المقت. ولذلك قال يوسف بن أسباط: إني لأَهُمُّ بالقرآن فإذا ذكرتُ ما فيه خشيت المقت فأعدل إلى التسبيح والاستغفار. والمعرض عن العمل به أريد بقوله -عز وجل-: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187] ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فلستم تقرءونه" (¬1)، وفي بعض الروايات "فإذا اختلفتم فقوموا عنه"، قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (4773)، مسلم (2667).

وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن أحسن الناس صوتًا بالقرآن إذا سمعته رأيت أنه يخشى الله تعالى" (¬1). وقال بعض القراء: قرأت القرآن على شيخ لي ثم رجعت لأقرأ ثانيًا فانتهرني وقال: جعلتَ القرآن عليَّ عملًا، اذهب فاقرأ على الله -عز وجل-، فانظر بماذا يأمرك وبماذا ينهاك. لهذا كان شغل الصحابة - رضي الله عنهم - في الأحوال والأعمال، فمات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عشرين ألفًا من الصحابة، لم يحفظ القرآن منهم إلا ستة اختلف في اثنين منهم، وكان أكثرهم يحفظ السورة والسورتين، وكان الذي يحفظ البقرة والأنعام من علمائهم، ولما جاء واحدٌ ليتعلم القرآن فانتهى إلى قوله -عز وجل-: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]، قال: يكفي هذا وانصرف، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "انصرف الرجل وهو فقيه" (¬2)، وأنما العزيز مثلُ تلك الحالة التي مَنَّ الله -عز وجل- بها على قلب المؤمن عقيب فهم الآية. فأما مجرد حركة اللسان فقليل الجدوى، بل التالي باللسان المعرض عن العمل جدير بأن يكون هو المراد بقول الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]، وبقوله -عز وجل-: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 126]، أىِ تركتها ولم تنظر إليها ولم تعبأ بها، فإن المقصر في الأمر يقال: إنه نسى الأمر، وتلاوة القرآن حق تلاوته هو أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب، فحظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل، وحظ العقل تفسير المعاني، وحظ القلب الاتعاظ والتأثير بالانزجار والائتمار، فاللسان يرتل، والعمل يترجم، والقلب يتعظ. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (1339)، وصححه الألباني (110) في "صحيح ابن ماجه". (¬2) قال الهيثمي في "المجمع" (7/ 141): رجاله رجال الصحيح.

(9) الترقي: وأعني به أن يترقى إلى أن يسمع الكلام من الله -عز وجل- لا من نفسه، فدرجات القرآن ثلاث. أدناها: أن يقدر العبد كأنه يقرؤه على الله -عز وجل- واقفًا بين يديه وهو ناظر إليه ومستمع منه، فيكون حاله عند هذا التقدير: السؤال والتملق والتضرع والابتهال. الثانية: أن يشهد بقلبه كأن الله -عز وجل- يراه ويخاطبه بألطافه ويناجيه بإنعامه وإحسانه، فمقامه الحياء والتعظيم والإصغاء والفهم. الثالثة: أن يرى في الكلام المتكلم، وفي الكلمات الصفات فلا ينظر إلى نفسه ولا إلى قراءته، ولا إلى تعلق الإنعام به من حيث إنه مُنْعمْ عليه، بل يكون مقصورَ الهم على المتكلم، موقوف الفكر عليه، كأنه مستغرقٌ بمشاهدة المتكلم عن غيره، وهذه درجة المقربين، وما قبله درجة أصحاب اليمين، وما خرج عن هذا؛ فهو من الغافلين. (10) التبري: وأعني به أن يتبرأ العبد من حوله وقوته والالتفات إلى نفسه بعين الرضا والتزكية، فإذا تلا بآيات الوعيد والمدح للصالحين فلا يشهد نفسه عند ذلك؛ بل يشهد الموقنين والصديقين فيها، ويتشوق إلى أن يلحقه الله -عز وجل- بهم، وإذا تلا آيات المقت وذم العصاة والمقصرين؛ شهد على نفسه هناك، وقدَّرَ أنه المخاطب خوفًا وإشفاقًا. ولذلك كان ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: أستغفرك لظلمي وكفري، فقيل له: هذا الظلم، فما بال الكفر؟، فتلا قوله -عز وجل-: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]. وقيل ليوسف بن أسباط: إذا قرأت القرآن بماذا تدعو؟، قال: أستغفر الله -عز وجل- من تقصيري سبعين مرة.

فإذا رأى نفسه بصورة التقصير في القراءة كانت رؤيتُه تقصيره سببَ قربه، فإن من شهد البعد في القرب لُطِف به في الخوف، حتى يسوقه الخوف إلى درجة أخرى في القرب وراءها، ومن شهد القرب في البعد مُكِرَ به في الأمن، الذي يفضيه إلى درجة أخرى في البعد أسفل مما هو فيه. ومهما كان مشاهدًا نفسه بعين الرضا صار محجوبًا بنفسه عن الله" انتهى كلام الغزالي - رحمه الله -. هذه هي المراتب العشرة لتحصيل لذة تلاوة القرآن أيها الحبيب، ولن تستطيع فهمها بمجرد مرور نظرك عليها لأول مرة؛ بل تحتاج إلى تأمل ومذاكرة مع غيرك من إخوانك أو مشايخك لتلقيح الأفكار وتفتيح الأفهام، ثم العمل. ولن يفتح لك من أول مرة إدراك ما ذكرت لك، لكن الأمر يحتاج إلى مجاهدة وصبر نأنٍ لكي يحصل لك. هيا ابدأ فرصة رمضان مع فتوحاته ونوره .. هيا أبدأ لتنطلق في هذه الأيام المباركة .. هذا هو العلم؛ فأين العمل أيها الطالب لرضا ربك؟ إخوتاه .. الذكر دواء الحياة ومشاكلها، وجلاء القلوب وقوتها، من لزمه سعد في دنياه وأُخراه، وكيف لا والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخيرٌ لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخيرٌ لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ "، قالوا: بلى، قال: "ذكر الله تعالى" (¬1). وأفضل الذكر القرآن .. وقد جاءكم موسم القرآن .. شهر رمضان شهر ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (5/ 195)، وصححه الألباني (2629) في "صحيح الجامع".

استدرك مهم

القرآن .. فالبدارَ البدارَ يأ أمة القرآن، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه" (¬1)، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة؛ يقول الصيام: أي رب منعته "الطعام والشراب في النهار فشفعني فيه، ويقول القرآن أي رب منصته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان" (¬2). إخوتاه .. القرآن كلام الله، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه .. فداوموا على تلاوته، وأكثروا من قراءته في شهر رمضان، والتزموا بما ذكرناه آنفًا من الآداب، الظاهرة والباطنة .. وفقنا الله وإياكم لما قاله ربُّنا سبحانه وتعالى في أول كتابه: {فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]. استدرك مهم أيها الأخوة .. بعد أن ذكرنا أهمية القرآن وحال السلف مع القرآن في رمضان لا يفوتني أيها الإخوة استدراك هام. هذا الاستدراك توبة للأمة ككل؛ لإصلاح حال الأمة مع القرآن كي يصلح الله حال الأمة في الواقع المرير، فافهم معي علمني الله وإياك الحكمة وفصل الخطاب: إن توصيف واقع الأمة الإِسلامية اليوم هو كلمة واحدهّ: "التِّيه". . نعم: الأمة الآن في مرحلة التِّيه -نسأل الله أن يعفو عنا-. . ولن نخرج من هذه ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (5/ 254)، وصحيح الألباني (3992) في "الصحيحة". (¬2) أخرجه أحمد (2/ 174)، وصححه الألباني (3882)، في "صحيح الجامع".

المرحلة إلا بتغيير أنفسنا ليتغير واقعنا؛ فإن لله سننًا ربانية؛ لا تتغير ولا تتبدل، وهو سبحانه القائل: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165]، وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقال سبحانه: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]. وبعد أن جرَّبتِ الأمة مرارًا وتكرارًا كل الوسائل في إعادة كرامتها ومقدساتها؛ لم يعد أمامها إلا الحل الأول والأولى والأصل الذي غفلت عنه .. القرآن الكريم. ولذا فإن الأمة بحاجة إلى مشروع قومي تتفق عليه في التربية على القرآن، وتتوحد حوله ليخرجها مما في فيه، ليعيدها إلى مجدها السليب ونهضتها المفقودة. أيها الإخوة .. "لقد أنزل الله القرآن كتاب هداية وشفاء وتغيير وتقويم لهذه الأمة، وهذا هو سر معجزته، وإن تعلُّم قراءته، وترتيله، وحفظه، وسائل مساعدة يتيسر من خلالها الانتفاع بتلك المعجزة، ومما يدعو للأسف أن الأمة قد ابتعدت طوال القرون الماضية عن جوهره، والسبب الذي أنزل عن أجله، فتعاملت مع تلك الوسائل على أنها غايات، وتسابق المسلمون على قراءته وحفظه في أقل وقت ممكن، دون أن يصاحب ذلك اهتمام بالمعاني الإيمانية التي تحملها آياته. القرآن حاضرٌ معنا بقُرَّائه وحُفَّاظِه، وغائبٌ عنا بالأفراد القرآنيين الذين يُعرفون بسيمهاهم، قرآنا يمشي على الأرض. القرآن حاضرٌ معنا في المساجد وحلقات التعليم ومدارس التحفيظ والإذاعات ووسائل الإعلام؛ لكنه غائبٌ عنا بأثره ومفعوله.

القرآن حاضرٌ معنا بطبعاته الفاخرة، وتغليفاته المبهرة، وآياته التي تزين الجدران، وتُرسم على المشغولات الذهبية؛ لكنه غائبٌ عن دوره الحقيقي في قيادة الحياة وتوجيهها إلى الله -عز وجل-. نفتتح به الحفلات، ونصنع منه المسابقات، وننشئ له الكليات، ومع ذلك لا نجني من وراء هذا الاهتمام ثمارًا حقيقية تظهر في واقعنا، وتصطبغ بها حياتنا. فماذا حدث نتيجة هذا التعامل الشاذ القرآن؟ توقفت المعجزة القرآنية، أو كادت تتوقف عن العمل، وابتعد المسلمون عن سر عزهم ومجدهم وعلوهم عند الله، قال تعالى {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10] فازدادت الفجوة بين الواجب والواقع، والقول والعمل، ولم يعد يظهر في الأمة أجيال قرآنية يتمثل فيها القرآن كما حدث في الجيل الأول، ذلك الجيل العظيم. ألسنا من أهل القرآن؟! قد يقول قائل: ولكني أقرأ القرآن وأختمه مرة كل شهر -على الأقل- وأحفظه، بل وأعمل على تعليمه للناس، وأعتبر نفسي من أهل القرآن، بل ويتعامل مَنْ حولي معي على هذا الأساس، رغم أنني أشعر داخلي بغير ذلك، فلا يوجد فارق في السلوك بيني وبين غيري ممن لا يهتمون بالقرآن كاهتمامي به؛ بل إنني أشعر مثلهم بتلك القيود التي تكبلني وتمنعني من فعل ما يرضي الله والتضحية من أجله. نعم، هذا وصفٌ دقيق لحال البعض مع القرآن، وهذا مما يَزيد الأمر صعوبة، أن يعتبر الواحد منا أن اهتمامه بلفظ القرآن وشكله قد جعله من أهل القرآن، مع أن أهل القرآن هم العاملون به، المنتفعون بمعجزته.

قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "حامل القرآن حامل راية الإِسلام لا يلهو مع من يلهو ولايسهو مع من يسهو". إن تلاوة ألفاظ القرآن، وحفظ آياته يقدر عليها الصغير والكبير، المؤمن والمنافق، البر والفاجر، بل والكفار، وبالتالي لايمكن لهؤلاء أن يصبحوا من أهله بمجرد حفظهم وكثرة قراءتهم لألفاظه، ولله دَرُّ عمر بن الخطاب حين قال: لا يغرركم من قرأ القرآن؛ ولكن انظروا من يجمل به. ويؤكد هذا المعنى ابن القيم فيقول: قال بعض السلف: نزل القرآن ليعمل به، فاتخذوا تلاوته عملًا .. ولهذا كان أهل القرآن هم العالمون به، والعاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب، وأما من حفظ القرآن ولم يفهمه ولم يعمل به، فليس من أهله وإن أقام حروفه إقامةَ السهم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذكر علامات الساعة: "يخرج في آخر الزمان قومٌ أحداثُ الأسنان، سفهاء الأحلام، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يَمْرُوقون من الدين كما يمرق السهمُ من الرَّمِيَّة" (¬1). إن المطلوب من قراء القرآن بالإضافة إلى القراءة والحفظ، شيءٌ آخر في غاية الأهمية، المطلوب هو الانتفاع بمعجزته في تغييرنا ووضعنا في القالب الذي يُرضي الله -عز وجل-، المطلوب أن نستخدم القرآن كوسيلة تقودنا للصلح مع الله، ومن ثم نتأهل للدخول في دائرة حمايته وكفايته ونصرته، وهذا لن يتم من خلال قراءته باللسان فقط ولو آلاف المرات. هذا لن يتم بحفظ حروفه وترك لآلئه وكنوزه .. هذا لن يتم إذا جعلنا المذياع يذيع آياته طيلة الليل والنهار، ونحن غافلون عنه، منشغلون بغيره .. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 131)، وصححه الألباني (3654) في "صحيح الجامع".

لن يصبح أولادنا قرآنيين بمجرد حفظهم لألفاظ القرآن, وإن حفظوه كله .. سيصبح أولادنا قرآنيين عندما يتعلمون ما في الآيات من معان وإيمان, ويطبقون ما فيها من عمل , بعد أن يحفظوها, وإن أدى إلى حفظهم لأجزاء قليلة من القرآن, فهذا خيرٌ لهم ولأمتهم من أن يكونوا مجرد حفظة وفقط, وإن جمعوا الأمرين -أقصد حفظه كاملًا مع فهمه والعمل به- فهو الأولى بل وهو المطلوب في هذه الأيام؛ فهذا علو همةٌ, وزيادة طاعة, ونصرة الأمة. جاء رجل إلى أبي الدراداء فقال: إن ابني جمع القرآن, فقال: اللَّهم غُفْرًا؛ إنما جمع القرآن من سمع له وأطاع". كيف ربى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة على القرآن؟ ما ذكرناه هو أيضًا للشباب والكبار .. وانظر كيف تربى الصحابة, يقول الإِمام القرطبي رحمه الله في مقدمة تفسيرة تحت عنوان "باب كيف التعلم والفقه لكتاب الله تعالى وسنه نبيه - صلى الله عليه وسلم - , وما جاء على أنه سُهِّلَ على من تقدم العمل به دون حفظه": ذكر أبو عمرو الداني عن عثمان وابن مسعود وأُبَيّ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشرٍ أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل؛ فيعلمنا القرآن والعمل جميعًا, وعن أبي عبد الرحمن السُّلَمِيّ قال: كنا إذا تعلمنا عشرَ آياتٍ من القرآن؛ لم نتعلم العشر التي بعدها حتى نعرف حلالها وحرامها وأمرها ونهيها. وعن نافع عن ابن عمر قال: تعلم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة, فلما ختمها نحر جَزورًا.

وقال عبد الله بن مسعود: إنا صَعُبَ علينا حفظ ألفاظ القرآن، وسَهُلَ علينا العملُ به، وإن مَنْ بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن، ويصعب عليهم العمل به. وعن مجاهد عن ابن عمر قال: كان الفاضل من أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها، ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يقرءون القرآن، منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به. وقال خلف بن هشام البزار: ما أظن القرآن إلا عارية في أيدينا؛ وذلك أنا روينا أن عمر بن الخطاب حفظ البقرة في بضع عشرة سنة، فلما حفظها نحر جزورًا شُكرًا لله، وإن الغلام في دهرنا هذا يجلس بين يديَّ فيقرأ ثلث القرآن لا يُسقط منه حرفًا، فما أحسب القرآن إلا عاريةً في أيدينا. وقد قال أهل العلم بالحديث: لا ينبغي لطالب الحديث أن يقتصر على سماع الحديث وكَتْبِه، دون معرفته وفَهْمه؛ فيكون قد أتعب نفسه من غير أن يظفر بطائل، وليكن تحفظه للحديث على التدريج قليلًا قليلًا مع الليالي والأيام. وممن ورد عنه ذلك من حفاظ الحديث: شعبة وابن عطية ومَعْمر، قال معمر: سمعت الزهري يقول: من طلب العلم جملة فاته جملة؛ وإنما يُدرك العلم حديثًا وحديثين، والله أعلم. وقال معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: اعلموا ما شئتم فلن يأجرَكم الله بعلمكم حتى تعملوا. وقال ابن عبد البر: رُوي أن العلماء همتهم الدِّراية، وأنَّ السفهاء همتهم الرواية" اهـ.

ولابد من تعليق أيها الأحبة في الله بعد كل ما سبق، وإنما ذكرت لكم كل ما سبق جملة واحدة وإن كان يبدو على خلاف منهجنا في الأمر بتلاوة القرآن وحفظه بتدبر وبغير تدبر وحفظ القرآن بعلم أو بغير علم، سُقتُ ما سبق لننتقل خطوة إلى الإِمام؛ لذلك ألخص أهدافنا في موضوع القرآن جملة واحدة فأقول: أولًا: الاهتمام بالقرآن وجعله نصب أعيننا لا يفارقها ليل نهار. ثانيًا: التلاوة للقرآن أهم من الحفظ وهي نوعان لا يُستغنى بأحدهما عن الآخر. 1 - تلاوة تدبر وتفكر: وهي ختمة لا يتسرع بالوصول إلى آخر القرآن فيها؛ بل يهتم فيها بالعلم فتعطي كل آية حظها من التدبر، والبحث عن العلم بها، والتنقيب عن أسرارها بالقراءة في التفاسير وكتب العلم وسؤال أهل العلم. 2 - تلاوة الأجر: وهي الختمات التي نطالب بها يوميًّا وفي رمضان وغيره؛ إنما هي ابتغاء الأجر، بكل حرف عشر حسنات، فهذه يُتغاضى فيها عن التدبر، وتُصرَف الهمة إلى تحصيل الأجر من الله فحسب؛ فإن الوعد بأنَّ على كل حرف عشر حسنات لم يُشترط فيه التدبر. ثالثًا: حفظ القرآن وظيفة الأمة ومطلب شرعي، ولا يزهدك في ذلك ما سقناه من نقولات عن بعض السلف؛ وإنما كان التركيز السابق من أجل العمل؛ فلابد أن تحفظ القرآن؛ لأن درجتك في الجنة بقدر حفظك؛ بدليل حديث: "يقال لقارئ القرآن: اقرأ وارْق، ورتِّل كما كنت ترتل في دار الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، وصححه الألباني (8122) في "صحيح الجامع".

إخوتى في الله: إنني أريد أن أحذِّر بعض قومنا الذين يأخذون بعض الكلام ويتركون بعضه لأهواء في أنفسهم فينتقون من الكلام ما يؤيدون به أهواءهم ورغباتهم. أؤكد مرة أخرى أن كل ما هو مطلوب منك: - حفظ القرآن. - تلاوة القرآن. - فهم القرآن. - تدبر القرآن. - العمل بالقرآن. - إسلام زمامك للقرآن. أن يربيك القرآن، وأن يصنعك الله بالقرآن، وأن يقودك القرآن، وأن يحكم القرآن حياتك .. لتكون من أهل القرآن .. الذين هم أهل الله وخاصته .. اللَّهم اجعلنا وأهلينا وذرِّياتنا من أهلِ القرآن أهلِكَ وخاصَّتِه

قيام رمضان

قيام رمضان ليس في الدنيا شيء يشبه نعيم أهل الجنة إلا حلاوة المناجاة في القيام

صلاة التراويح في رمضان

صلاة التراويح في رمضان شهر رمضان شهر كله خير وبركة، وسبحان الله الكريم، أعطى فيه من فرص المغفرة للمؤمنين ما يفوق الأمنيات، ولكن وسبحان الملك العليم القدير تجد في شهر رمضان علامة مميزة عجيبة دون غيره من الشهور، كأنها شامة في جبين هذا الشهر ألا وهي قيام رمضان. ففضلًا عن أن قيام رمضان يستوجب مغفرة الذنوب المتقدمة، فلقيام رمضان لذة وبهجة خاصة عجيبة ليس كمثلها شيء. سبحان الملك!، قد يقوم الإنسان كثيرًا وطويلًا على مدار السنة؛ ولكن قيام رمضان له مذاق خاص يختلف عن جميع السنة، وسبحان الملك أيضًا القرآن في رمضان له مذاق خاص يختلف عن جميع أيام السنة، وفي القيام: القرآن. والليل في رمضان له مذاق خاص أيضًا يختلف عن جميع ليالي السنة. وأيضًا هذه من خصوصيات رمضان، أن تجد القيام سهلًا على جميع الناس، حتى إنك لتجد بعض من لا يصلي الفرائض في غير رمضان يصلي القيام في رمضان، ومن خصوصيات هذا الشهر الكريم أيضًا نداوة الأصوات، فأحلى قرآن تسمعه في حياتك تسمعه في ليالي رمضان. وإليك أخي الحبيب بعض المنشطات لقيام رمضان أولها فوائد هذه العبادة. فوائد صلاة التراويح: (1) قيام رمضان من الإيمان؛ ومغفرة لسالف الذنوب:

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" (¬1)، قال الشيخ الألباني رحمه الله: هذا الترغيب وأمثاله بيان لفضل هذه العبادات، بأنه لو كان على الإنسان ذنوب؛ فإنها تغفر له بسبب هذه العبادات، أما إذا لم يكن للإنسان ذنب، يظهر هذا الفضل في رفع الدرجات كما في حق الأنبياء المعصومين من الذنوب. (2) استحقاق قائمه اسم الصديقين والشهداء: وهذا فيض الكريم وجوده، يسوقه - صلى الله عليه وسلم - وفيه الغُنْم كل الغنم: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان وقمته، فممن أنا؟، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من الصديقين والشهداء" (¬2). (3) من قام مع إمامه كتب له قنوت ليلة: فقد جاء في حديث أبي ذر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الرجل إذا صلى مع الأمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة" (¬3)، فاتق الله في عمرك، وأقبل على صلاة التراويح يقبل الله عليك، أن تُحْسبَ لك عند الله ليلة فكل ليالي العمر هَدَر وضياع لا قيمة لها إلا أن تقومها لله -عز وجل-؛ فعندها يُحْسب لك عند الله قيام ليلة واحتساب هذا الأجر عند الله عظيم؛ فاصبر على إمامك حتى ينصرف ولا تستعجل فتخسر ليلتك. ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (37)، مسلم (759). (¬2) أخرجه ابن حبان (3438)، وصححه الألباني (993) في "صحيح الترغيب والترهيب". (¬3) أخرجه أحمد (5/ 159)، وصححه الألباني (1615) في "صحيح الجامع".

(4) اختر لنفسك اسمًا عند الله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قام بعشر آيات لم يُكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كُتِبَ من القانتين، ومن قام بألف آية كُتِبَ من المقنطرِين" (¬1). إذا علم المسلم اطلاع الله على حاله، وقربه منه، وذِكْرَ الله للعبد، علم أن له إسمًا عند الله يعرف به عند الله سبحانه وتعالى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدِّيقًا، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا" (¬2)، وفي هذا الحديث الذي معنا أسماء الناس في الليل، فاختر عملًا يكتب لك به أسمًا عند الله. (5) القيام شرف: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "شرف المؤمن قيام الليل" (¬3)، وسبحان الملك!، هذا سبيلٌ يتشرف به الإنسان ليكون عند الله شريفًا، وإن البحث عن هذه الصفة، والانشغال بالوصول إليها، والانتساب إلى هذا الاسم؛ لواجب حتم على كل من يبتغي الرفعة؛ فهيا إلى قافلة الشرفاء، وواظب على قيام الليل تكن من الشرفاء. (6) قافلة الصالحين: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم" (¬4)، نعم .. من أراد أن ينضم إلى قافلة الصديقين والشهداء ثم انضاف إلى قافلة ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1398) , وصححه الألباني (6439) في "صحيح الجامع". (¬2) أخرجه مسلم (2607). (¬3) أخرجه الحاكم (4/ 360)، وحسنه الألباني (831) في "السلسلة الصحيحة". (¬4) أخرجه الترمذي (3549)، وحسنه الألباني (2814) في "صحيح الترمذي".

الشرفاء؛ فليجعل قيام الليل دأبه لأنه دأبهم وعلامتهم، وكأنك تستشعر من كلمة الدأب المداومة والصبر والاجتهاد في هذا العمل، فاجتهد فيه كجهدهم تكن منهم. (7) القيام شفاء وعافية: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد" (¬1)، سبحان الله العظيم الذي من عرفه لم يبخل عليه بِنَفَسٍ من أنفاس حياته، فإنه نِعْمَ التعامل مع الكريم، إذا ضحيت لله بجزء من راحتك عوضك عن ذلك راحة أكثر وصحة أفضل، بل إنه سبحانه يجعل قيامك له وأنت تغالب شهوة النوم فتطردها، فيجعل الجزاء من جنس العمل، أن يطرد مقابل ذلك: الداءَ عن جسدك، فإلى الباحثين عن الصحة، عليكم بقيام الليل فإن رضى الله وقَبِل؛ طرد الأمراض والأدواء عن أجسادكم. (8) عصمة من الذنوب: مر معنا في الحديث السابق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر في مناقب قيام الليل أنه منهاة عن الإثم، نعم والله: كيف لقلبٍ ذاق حلاوة قيام الليل أن يصبح فيعصي ربه: كيف لقلبٍ استشعر في الليل وهو قائم رؤية الله له ومباهاته، به ثم يصبح فيعصي الله. كيف لقلب بات يناجي ربه ويتلذذ بكلمات الله، ثم يصبح تاركًا طاعة به، إنها المكافأة. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (3549)، وحسنه الألباني (2814) في "صحيح الترمذي".

كما قال الحسن: من أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله. (9) الله يباهي بالقائمين: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قام الرجل من الليل يصلي فغلبته عيناه فنام في سجوده؛ فإن الله يقول لملائكته: انظروا يا ملائكتي، هذا عبدي روحه عندي وجسده بين يدي، اكتبوا له قيامه، واجعلوا نومه صدقة مني عليه" (¬1)، سبحان الملك الكريم!، الله يباهي ملائكته بساجد نائم، فما بالك بالمتيقظ المُقَاوِم؟ .. هذا شرف لا يُقَاوَم. (10) سبيلٌ لمحبة الله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثة يحبهم الله ويستبشر بهم ويضحك إليهم" وذكر منهم "رجلٌ عنده امرأة حسنة، وفراش حسن، ثم قام يصلي، فيقول الله -عز وجل- لملائكته: انظروا يا ملائكتي، هذا عبدي، عنده فراش حسن، وزوجة حسنة، فتركهما، ثم قام يصلي يتملقني، ويتلو آياتي، ولو شاء رقد" (¬2)، انظر أيها الحبيب المحب، كيف أن كل ما تبذله لله له قدر عند الله، ويقع عند الله بموقع، والشاهد: قوله سبحانه للملائكة: "ولو شاء رقد"؛ فالله يحفظ لك جميل أنك غالبت الرقود وآثرتَ القيام؛ فأحبك، واستبشر بك، وضحك لك. (11) القيام نور الوجوه والقلوب: قيل للحسن: ما بال القائمين أحسن الناس وجوهًا؟، فقال: إنهم خَلَوْا بالله في السحر فألبسهم من نوره. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (1344)، وصححه الألباني (1105) في "صحيح ابن ماجه". (¬2) أخرجه الحاكم (1/ 77)، وصححه الألباني (3478) في "صحيح الترغيب والترهيب".

نعم نشهد، وقد رأينا أن أهل القيام أحسن ناس وجوهًا , إذا رأيتهم ذكرت الله، ورعُهم ظاهر، وحلاوتهُم فائقة، وملاحتهم بادية على سرائرهم. فاعلم يا أخي- هدانا الله وإياك إلى سبيله الأقوم -أن الناصح لنفسه لا تخرج عنه مواسم الطاعات عطلًا؛ لأن الأبرار ما نالوا البر إلا بالبر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة-، ورمضان إلى رمضان، مكفراتٌ لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر" (¬1). فهلمَّ يا باغي الخير إلى شهر يُضاعف فيه الأجر للأعمال، فنَصَبُ المجتهدين في خدمة مولاهم في هذا الشهر هو الراحة، هبَّتْ على القلوب نفحةٌ من نفحات نسيم القرب في رمضان، وسعى سمسارُ الوعظ للمهجورين في الصلح، ووصلت البشارةُ فيه للمنقطعين بالوصل، وللمذنبين بالعفو، والمستوجبين النار بالعتق، فلم يبق للعاصي عذر. كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة, ثم يقول: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" (¬2). قال الخطابي: إيمانًا واحتسابًا: أي نية وعزيمة، وهو أن يقومه على التصديق والرغبة في ثوابه، طيبة به نفسه، وقال البغوي: احتسابًا: أي طلبًا لوجه الله. ومن المعلوم أن قيام رمضان يسمى بصلاة التراويح، قال الحافظ ابن حجر: التراويح جمع ترويحة، وهي المرة الواحدة من الراحة كتسليمة من السلام، سميت الصلاة في الجماعة في ليالي رمضان التراويح؛ لأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل تسليمتين. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (233). (¬2) متفق عليه، البخاري (37)؛ مسلم (759).

وقد أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - الجماعة فيها, فقد خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة في رمضان فرأى ناسًا في ناحية المسجد يصلون، فقال: ما يصنع هؤلاء، قال قائل: يا رسول الله, هؤلاء ناس ليس معهم قرآن, أبي بن كعب يقرؤهم معه يصلون بصلاته, فقال: "قد أحسنوا, أو قد أصابوا", ولم يكره ذلك لهم (¬1). وقد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - التراويح, فعن النعمان بن بشير قال: قمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة ثلاث وعشرين في شهر رمضان إلى ثلث الليل الأول, ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل, ثم قام بنا ليلة سبع وعشرين حتى ظننا أن لا ندرك الفلاح , قال: وكنا ندعو السحورَ الفلاحَ. وعن أنس بن مالك قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلى في رمضان, فجئت فقمت إلى جنبه, وجاء رجلٌ آخر فقام أيضًا حتى كنا رهطًا, فلما أحس النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا خلفه جعل يتجوز في الصلاة , ثم دخل رحله فصلى صلاة لا يصليها عندنا, قال: قلنا له حين أصبحنا: أفطنت لنا الليلة؟ , فقال: "نعم, ذاك الذي حملني على الذي صنعت" (¬2). * إحياء عمر لسنة الجماعة في التراويح: كان الناس يقوم كل واحد منهم رمضان في بيته منفردًا, حتى انقضى صدر من خلافة عمر. يقول عبد الرحمن القارئ: خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى االمسجد, فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه, ويصلي الرجل ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي (4386) , وحسنه الألباني (1) في "صلاة التراويح". (¬2) أخرجه مسلم (1104).

فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أُبَيِّ بن كعب، ثم خَرَجتُ معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: "نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون -يريد آخر الليل- وكان الناس يقومون أوله" (¬1). * فضل أداء التراويح جماعة: عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: صمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمضان، فلم يقم بنا شيئًا من الشهر حتى بقي سبع -أي سبع ليال- فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، فلما كانت السادسة لم يقم بنا، فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل، فقلت: يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة، فقال: "إن الرجل إذا صلى مع الإِمام حتى ينصرف حسب له قيام الليلة" (¬2)، فلما كانت الرابعة لم يقم، فلما كانت الثالثة جمع أهله ونسائه والناس، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح، قلت: وما الفلاح؟، قال: السحور، ثم لم يقم بنا بقية الشهر. والشاهد من هذا الحديث قوله: من قام مع الإِمام، فإنه ظاهر الدلالة على فضيلة قيام رمضان مع الإِمام. قال صاحب "عون المعبود": حصل له ثواب قيام ليلة تامة. وقيل للإمام أحمد: يعجبك أن يصلي الرجل مع الناس في رمضان أو وحده؟، قال: يصلي مع الناس. وقال: يعجبني أن يصلي مع الإمام ويوتر معه، لحديث النبي "إذا قام مع الأمام ... ". ¬

_ (¬1) أثر صحيح. الألباني (15) في "صلاة التراويح". (¬2) أخرجه أحمد (5/ 159)، وصححه الألباني (1615) في "صحيح الجامع".

• وبذلك يكون تطور التراويح في العصر النبوي: أولًا: بدأت بالترغيب فيها دون أن يعزم عليهم. ثانيًا: انتقلت إلى السنة والندب مقرونه بفريضة الصيام. ثالثًا: أُدِّيتْ بالفِعل، أداها أوزاعٌ من الناس. رابعًا: تسلل الناس إلى مصلاه - صلى الله عليه وسلم - فائتموا به - صلى الله عليه وسلم -، وهو لا يشعر بهم، ثم أقرهم على ذلك وهو لا يقر على باطل. خامسًا: تقريره - صلى الله عليه وسلم - لمن يصلي بالناس سواء في المسجد أو في البيت. سادسًا: صلاته هو - صلى الله عليه وسلم - بالفعل بأهل بيته. سابعًا: صلاته هو - صلى الله عليه وسلم - بأهل بيته والناس عدة ليال متفرقة. عدد ركعات قيام رمضان: قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن نفس قيام رمضان لم يوقِّت فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عددًا معينًا؛ بل كان هو - صلى الله عليه وسلم - لا يزيد على ثلاث عشرة ركعة؛ لكن كان يطيل الركعات، فلما جمعهم عمر على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة، ثم يوتر بثلاث، وكان يخفف القراءة بقدر ما زاد من عدد الركعات؛ لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة. والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين؛ فإن كان فيهم احتمال لطول القيام بعشر ركعات وثلاث بعدها كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي لنفسه فهو الأفضل، وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين أفضل، وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين، فإنه وسط بين العشرين وبين الأربعين، ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد مؤقت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يزاد منه ولا ينقص فقد أخطأ.

وكذلك لم يذكر أنه - صلى الله عليه وسلم - حدد مقدار القراءة في كل ركعة؛ بل يختلف ذلك بحسب نشاط القوم، فقد أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميم الداري أن يقوما بالناس في رمضان، وقال قائلهم: "فكان القارئ يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد على العِصِّيِّ من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في بزوغ الفجر". وقال أبو داود: سئل أحمد عن الرجل يقرأ القرآن مرتين في رمضان يؤم الناس؟، قال: هذا عندي على قدر نشاط القوم، وإن فيهم العُمَّال. اهـ كلام ابن تيمية رحمه الله. أخي الحبيب: لا تنشغل بمناقشة عدد ركعات القيام مع الآخرين ولا تجادل وتضيع رمضان، عليك بالعمل: فاجتهد في أن تقوم أكثر الليل ولا تضيع وقتك مع البطالين. ويجوز للنساء حضور الجماعة في قيام رمضان، إذا تأدبن بآداب الخروج الشرعية من الحجاب، وعدم التطيب، وعدم رفع أصواتهن أو الاختلاط بالرجال في المواصلات والشوارع ونحو ذلك، وغض البصر، وعدم البقاء لوقت متأخر خارج المنزل دون محرم، وإلا فصلاتهن في بيوتهن أفضل، ويمكن لرجل من أهل. البيت أن يؤمهن للصلاة، فعن جابر قال: جاء أبي ابن كعب في رمضان فقال: يا رسول الله كان مني الليلة شيء، قال: "ما ذاك يا أبي؟ "، قلت: نساء داري قلن: إنا لا نقرأ القرآن، فنصلي خلفك بصلاتك، فصليت بهن ثمان ركعات والوتر، فسكت عنه وكان شبه الرضا (¬1). ويمكن أيضًا أن تؤم المرأةُ النساءَ في قيام رمضان، عن أم ورقة الأنصارية: ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان (254)، وحسنه الألباني (79) في "صلاة التراويح".

أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تؤم أهل دارها، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزورها ويسميها الشهيدة، وكان لها مؤذن. وإذا لم يكن الإِمام قارئًا، جاز له أن يصلي بالناس ويقرأ من المصحف، فقد كانت السيدة عائشة تأمر مولى لها يؤمها في شهر رمضان في المصحف، وعدة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو داود: سمعت أحمد قيل له: زعم الزبيري أنه إذا ختموا القرآن رفعوا أيديهم ودعوا في الصلاة؟، فقال: هكذا رأيتهم بمكة يفعلون، وسفيان يومئذ حي، يعني في قيام رمضان، وكذلك الاستراحة بعد كل أربع ركعات بجلسة يسيرة فعله السلف، ولا يدعو إذا استراح. أخي .. وحبيبي: الصلاة مكيال .. فمن وَفَّى وُفِّيَ له، ومن طَفف؛ فقد علمتم ما قيل في المطففين، أما يستحي من يستوفي مكيال شهوته، ويطفف في مكيال قيامه وصلاته؟!، ألا بعدًا لمدين. إذا كان الويل لمن طفف في مكيال الدنيا، فكيف حال من طفف في مكيال الدين؟، كيف حال المسيئين في عباداتهم؟، أرحموا من حسناته كلها سيئات، وطاعاته كلها غفلات. كيف لا تجري للمؤمن على هذه الأيام دموع, وهو لا يدري هل بقي له من عمره رجوع، متى يصلح من لا يصلح في رمضان؟ من رد في ليلة القدر متى يصلح؟، كل ما لا يثمر من الأشجار في أوان الثمار فإنه يُقطع. شهر رمضان شهر المصابيح، شهر التهجد والتراويح، واهًا لأوقاته من

زواهر ما أشرفَها، ولساعاته التي كالجواهر ما أظرفَها، أشرقت لياليها بصلاة التراويح، وأنارت أيامها بالصيام والتسبيح، حِليتُها الإخلاص والصدق، وثمرتها الخلاص والعتق. فطوبى لعبدٍ صام نهاره، وقام أسحاره .. يا حُسنه ومصابيح النجوم تزهر، والناس قد ناموا وهو في الخير يسهر، غسلَ وجهَهُ من ماء عينهِ، وعينُ العينِ أطهر وأطهر. إذا ما الليلُ أظلم .. كابدوه: حبيبي في الله .. لعل أطيب أوقات المناجاة أن تخلو بربك والناس نيام، والخَلِيُّون هُجَّع، وقد سكن الكون كله، وأرخى الليلُ سدولهَ، وغابت نجومه، فتستحضر قلبك، وتتذكر ربك، وتتمثل ضعفك وعظمة مولاك، فتأنس بحضرته، ويطمئن قلبك بذكره، وتفرح بفضله ورحمته، وتبكي من خشيته، وتشعر بمراقبته، وتلح في الدعاء، وتجتهد في الاستغفار، وتفضي بحوائجك لمن لا يعجزه شيء، ولا يشغله عن شيء شيء، إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن، فيكون، وتسأله لدنياك وآخرتك، وجهادك ودعوتك، وأمانيك ووطنك وعشيرتك، ونفسك وإخوانك. الليل سكون وهدوء، وفي الهدوء تركيز وصفاء والناس نيام، وفي ذلك بعد عن الرياء، الليل خَلوة مع الله، وفي الخلوة قرب وأنس ومناجاة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الصيام بعد رمضان شهرُ الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل" (¬1)، وإنما كانت صلاة الليل أفضل؛ لأن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1163).

القلب فيها يكون أكثر إقبالًا على الله، وابعد عن الشواغل، ولما كان وقت الليل والتهجد فيه أفضل أوقات التطوع بالصلاة، فيها يكون العبد قريبًا من ربه، فيها تفتح أبواب السماء ويستجاب فيها الدعاء، فينبغي عليك أن تواظب عليها خلال شهر رمضان. قال الأزدي: سمعت الخَوَّاص يقول: دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين. ولكن لا ينهض إلى قيام الليل إلا أهل المجاهدة والمغالبة وأولو العزم، فالنهوض إلى الله في هذه الساعات أشد وطئًا على النفس وأثقل من النهوض إليه بغيرها؛ ولذا كان قيام الليل من مقاييس العزيمة الصادقة وسمات النفوس الكبيرة، فعلينا أن نُدْخِل هذا في حسابنا ولا نغفل عنه؛ حتى لا تخدعك نفسك وتضيِّع عليك عملًا من أفضل الأعمال التي يتقرب بها إلى الله - عز وجل- في هذا الشهر وغيره، وإنما تفاوت القوم بالهمم لا بالصور، ومن تلمح حلاوة العاقبة هان عليه مرارة الصبر. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أقربُ ما يكون العبد من الرب في جوف الليل، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن" (¬1). وصف المتهجدين وليلهم: في وصف ليلة واحدة من ليالي أهل القرب والصفاء أهل السبق والنقاء أهل الله المخلصين: يقول ابن القيم -عليه رحمة الله: "أما السابقون المقربون فنستغفر الله ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (3579)، وصححه الألباني (2053) في "صحيح الجامع".

الذي لا إله إلا هو, أولًا من وصف حالهم وعدم الاتصاف به, بل ما شممنا له رائحة, ولكن محبة القوم تحمل على تعرف منزلتهم والعلم بها, وإن كانت النفوس متخلفة منقطعة عن اللحاق بهم, فاسمع الآن وصف القوم واحضر ذهنك لشأنهم العجيب وخطرهم الجليل, فإن وجدت من نفسك حركة وهمة إلى التشبه بهم فاحمد الله وادخل فالطريق واضح والباب مفتوح. فنبأ القوم عجيب, وأمرهم خفي إلا على من له مشاركة مع القوم, فإنه يطلع على ما يريه إياه القدر المشترك, وجملة أمرهم أنهم قوم قد امتلأت قلوبهم من معرفة الله, وغمرت بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته, فسرت المحبة في أجزائهم فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب. فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه, واجتمع همه عليه, متذكرًا صفاته العلى وأسمائه الحسنى, مشاهدًا له في أسمائه, وقد تجلت على قلبه أنوارها, فانصبغ قلبهُ بمعرفته ومحبته, فبات جسمه على فراشه يتجافى عن مضجعه, وقلبه قد أوى إلى مولاه وحبيبه فآواه إليه, وأسجده بين يديه خاضعًا خاشعًا ذليلًا منكسرًا من كل جهه من جهاته, فيا لها سجدةً ما أشرفَها من سجدة, لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء. وقيل لبعض السلف: أيسجد القلب بين يدي ربه؟ , قال: إي واللهِ, بسجدةٍ لا يرفع رأسه منها إلى يوم القيامة, فشتان بين قلب يبيت ربه قد قطع في سفره إليه بيداء الأكوان, وخرق حُجُبَ الطبيعة, ولم يقف عند رسم, ولا سكن إلى علم, حتى دخل على ربه في داره, فشاهد عِزَّ سلطانه وعظمة جلاله وعلو شأنه وبهاء كماله. فإذا صارت صفات ربه وأسماؤه مشهدًا لقلبه أَنْسَتْهُ ذِكرَ غيره, وشغلته عن حب من سواه. وبالجملة: فيبقى قلب العبد -الذي هذا شأنه- عرشًا للمثل الأعلى -أي

عرشًا لمعرفة محبوبه ومحبته. وناهيك بقلبٍ هذا شأنه، فياله من قلب مِنْ ربه ما أدناه!! فهؤلاء قلوبهم قد قطعت الأكوان، وسجدت تحت العرش، وأبدانهم في فرشهم كما قال أبو الدرداء: "إذا نام العبد المؤمن عُرج بروحه حتى تسجد تحت العرش، فإن كان طاهرًا أُذن لها في السجود، وإنْ كان جُنُبًا لم يؤذن لها بالسجود" وهذا -والله أعلم- هو السر الذي لأجله أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الجنب إذا أراد النوم أن يتوضأ. فإذا استيقظ هذا القلب من منامه، صعد إلى الله بهمته وحبه وأشواقه، مشتاقًا إليه، طالبًا له، محتاجًا له، عاكفًا عليه، فحاله كحال المحب الذي غاب عنه محبوبه الذي لا غنى له عنه، ولابد له منه، وضرورته إليه أعظم من ضرورته إلى النَّفَس والطعام والشراب , فإذا نام غاب عنه، فإذا استيقظ عاد إلى الحنين إليه وإلى الشوق الشديد والحب المقلق، فحبيبه آخر خطراته عند منامه وأولها عند استيقاظة كما قال بعض المحبين لمحبوبه: وآخِرُ شيءٍ أنتَ في كُلِّ هَجْعَةٍ ... وأولُّ شيءٍ أنتَ عِنْدَ هُبُوبي فأُفٍّ لقلبٍ لا يصلح لهذا ولا يُصَدِّق به، لقد صُرف عنه خيرُ الدنيا والآخرة. فإذا استيقظ أحدهم، وقد بدر إلى قلبه هذا الشأن، فأول ما يجري على لسانه ذكر محبوبه والتوجه إليه، واستعطافه والتملق بين يديه، والاستعانة به أن لا يُخَلِّي بينه وبين نفسه وألا يكله إليها فيكله إلى ضعفٍ وعجز وذنبٍ وخطيئة، بل يكلأه كَلاءَةَ الوليد الذي لا يملك ضَرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نَشُورًا. فأول ما يبدأ به: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور" متدبرًا

لمعناها؛ من ذكر نعمة الله عليه بأن أحياه بعد نومه الذي هو أخو الموت، وأعاده إلى حاله سَوِيًّا سليمًا محفوظًا مما لا يعلمه ولا يخطر بباله من المؤذيات والمهلكات، التي هو عَرَضٌ وهدف لسهامِه كلِّها، التي تقصده بالهلاك أو الأذى، والتي من بعضها شياطين الإنس والجن. فمن الذي كلأه وحرسه وقد غاب عنه حسه وعلمه وسمعه وبصره، قال سبحانه: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 42] فإذا تصور العبد ذلك فقال: "الحمد لله" كان حمده أبلغ وأكمل من حمد الغافل عن ذلك. ثم تفكر في أن الذي أعاده بعد هذه الإماتة قادرٌ على أن يعيده بعد موتته الكبرى، ثم يقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله"، ثم يدعو ويتضرع، ثم يقوم إلى الوضوء بقلبٍ حاضرٍ مستصحبِ لما فيه، ثم يصلي ما كتب الله له صلاةَ محبٍّ ناصحٍ لمحبوبه، متذللٍ منكسر بين يديه، لا صلاة مُدِلّ بها عليه، يرى من أعظم نعم محبوبه عليه أن أقامه وأنام غيره، واستزاره وطرد غيره، وأهَّلَهُ وحرم غيره، فهو يزداد بذلك محبةً إلى محبته، ويرى أن قُرَّةَ عينه، وحياةَ قلبه، وجنة روحه ونعيمه ولذته وسروره في تلك الصلاة، فهو يتمنى طول ليله، ويهتمُّ بطلوع الفجر كما يتمنى المحب الفائز بوصل محبوبه ذلك، فهو كما قيل: يَوَدُّ أَنَّ ظلامَ الليلِ دامَ لَهُ ... وزِيْدَ فيهِ سَوادُ القلبِ والبصرِ فهو يتملق فيها مولاه تملق المحب لمحبوبه العزيز الرحيم، ويناجيه بكلامه معطيًّا لكل آية حظها من العبودية. 1 - فتجذب قلبه وروحه إليه آياتُ المحبة والوِداد، والآيات التي فيها

الأسماء والصفات، والآيات التي تعرَّف بها إلى عباده بآلائه وإنعامه عليهم، وإحسانه إليهم. 2 - وتُطيِّبُ له السير آياتُ الرجاء والرحمة وسَعة البر والمغفرة، فتكون له بمنزلة الحادي الذي يطيب له السير ويهونه. 3 - وتقلقه آيات الخوف والعدل والانتقام وإحلال غضبه بالمعرضين عنه العادلين به غيره، المائلين إلى سواه، فيجمعه عليه ويمنعه أن يشرد قلبه عنه. فتأمل هذه الثلاثة وتفقه فيها، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وبالجملة: فيشاهد المتكلم سبحانه وقد تجلَّى في كلامه، ويعطي كل آية حظها من عبودية قلبه الخاصة الزائدة على مجرد تلاوتها والتصديق بأنها كلام الله، بل الزائدة على نفس فهمها ومعرفة المراد منها. ثم شأنٌ آخر لو فطن له العبد لعلم أنه كان قبلُ يلعبُ، كما قيل: وكنتُ أرى أَنْ قَدْ تَناهى بيَ الهوى ... إلى غايةٍ ما بعدَهَا لي مذهبُ فلما تلاقَيْنَا وعاينتُ حُسْنَها ... تيقنتُ أني إنما كنتُ ألعبُ فوآأسفاه وواحسرتاه كيف ينقضي الزمان وينفد العمر والقلب محجوب ما شم لهذا رائحة، وخرج من الدنيا كما دخل إليها وما ذاق أطيب ما فيها، بل عاش فيها عيش البهائم، وانتقل منها انتقال المفاليس، فكانت حياته عجزًا وموته كمدًا، ومعاده حسرة وأسفًا. فإذا صلى ما كتب الله له جلس مطرقًا بين يدي ربه هيبةً له وإجلالًا، واستغفره استغفار من قد تيقن أنه هالك إن لم يغفر له ويرحمه، فإذا قضى من الاستغفار وطرًا وكان عليه بعد ليل، اضطجع على شقه الأيمن مُجِمًا لنفسه مُريحًا لها، مقوِّيًا لها على أداء وظيفة الفرض؛ فيستقبله نشيطًا بجِدِّهِ وهمته

كأنه لم يزل نائمًا طول ليلته لم يعمل شيئًا" (¬1). انتهى كلام طبيب القلوب وريحانة المتهجدين ابن القيم رحمه الله. بكاؤهم .. وبحرُ الدُّمُوِع: ولا يُذكر الليل إلا ويقارنه ذكرُ الدموع، والبكاءُ من أعظم ما تقرب به العابدون، واسترحم به الخائفون، ومن أرق من المتهجدين أفئدة حين أتخذوا من الدمع رسولهم لربهم، فالدمعُ ألَحُّ شفعائهم، فقد كاتبوا الله بدموعهم وهم ينتظرون الجواب. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عينان لا تمسهما النار أبدًا: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله" (¬2)، قيل لصفوان بن محرز عند طول بكائه وتذكر أحزانه: إن ذلك يورث العمى، فقال: ذلك شهادة لها فبكى حتى عمي. وقال عبد الرحمن بن مهدي: ما عاشرت رجلًا أرق قلبًا من سفيان الثوري، وكنت أرمقه الليلة بعد الليلة، فما كان ينام إلا أول الليل، ثم ينتفض مرعوبا ينادي: النار .. النار، شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات، ثم يتوضأ ويقول على إثرِ وضوءه: اللَّهم إنك عالمٌ بحاجتي غير مُعَلَّم، وما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار، إلهي، إن الجزع قد أرقني، وذلك من نعمك السابغة علي، إلهي، لو كان لي عذر في التخلي، ما أقمت مع الناس طرفة عين، ثم يُقْبِل على صلاته، وكان البكاء يمنعه من القراءة حتى إن كنتُ لا أستطيع سماع قراءته من كثرة بكائه. ¬

_ (¬1) طريق الهجرتين (205 - 211). (¬2) أخرجه أبو يعلى (7/ 307)، وصححهُ الألباني (4113) في "صحيح الجامع".

أما الحسن البصري شيخ البكائين الذي وصفوه بأنه إذا بكى فكأن النار لم تخلق إلا له، لما قيل له: ما يبكيك؟، قال: أخاف أن يطرحني غدًا في النار ولا يبالي. وفي رواية: وما يؤمنني أن يكون قد اطلع على بعض ذنوبي فقال اذهب فلا غفرت لك. إذا قمت .. أيقظ أهلك: إن عباد الرحمن لا يكفيهم أنهم يبيتون لربهم سجدًا وقيامًا فحسب، بل ويرجون ذريةً تسير على نهجهم، وأن تكون لهم أزواجٌ من نوعيتهم فتقر بهم أعينهم، وتطمئن لهم قلوبهم. قال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]. وتأمل معي قول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -: "من استيقظ من الليل وأيقظ أهله فصليا ركعتين جميعًا، كتبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات" (¬1). وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "رحم الله رجلًا قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء" (¬2)، وهذا النضح من باب المداعبة بين الرجل وزوجته، فهما متعاونان على طاعة الله تعالى، ولا يحب أحدهما أن ينفرد بالخير دون الآخر. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1451)، وصححه الألباني (1288) في "صحيح أبي داود". (¬2) أخرجه أحمد (2/ 250)، وصححه الألباني (3494) في "صحيح الجامع".

لِمَ كُلَّ هذا الاهتمام بالليل؟ لخمسة أمور: الأول: أن الإنسان عندما يقوم الليل يكون هذا أخلص لربه جل وعلا؛ لأنه يكون في وقت سر لا يطلع عليه أحد. الثاني: أنه أشق على النفس ولذلك يكون الأجر أكثر، فالأجر على قدر المشقة. الثالث: مع خلو البال من مشاغل الحياة وسكون الليل والفراغ من الدنيا والكد فيها يكون القلب أكثر مواطأة وموافقة للسان في الذكر. الرابع: أن الليل موطن لتنزل الرحمات ولنزول رب الأرض والسموات، فعظمت العبادة فيه. الخامس: أن قيام الليل عبادة جامعة لطهارة القلب. وقد قال قتادة: "كان يقال: سَهِرَ الليلَ منافق" يعني في قيام الليل. ما يعين على التهجد: الأسباب الظاهرة: (1) قلة الطعام وعدم الإكثار منه: فكما قلت لك سابقًا -أخي الحبيب- حاول أن تقلل من كمية الطعام، فقلة الطعام سحاب، وإذا قل الأكل مُطِرَ القلبُ الحكمةَ، فالواجب على الناصح لنفسه ألا يكثر الأكل، فيكثر الشرب، فيغلبه النوم، ويثقل عليه القيام، أما يرعبك حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أقصر من جُشائك, فإن أكثر الناس شَبعًا في الدنيا أكثرهم جوعًا في الآخرة" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم (4/ 135)، وحسنه الألباني (1179) في "صحيح الجامع".

ْرأى معقل بن حبيب قومًا يأكلون كثيرًا فقال: ما نرى أصحابنا يريدون يصلون الليلة. وقال وهب بن منبه: ليس من بني آدم أحب إلى شيطانه من الأكول النوام. وقال أبو سليمان الدارانى: من شبع دخلت عليه ست آفات: فقد حلاوة المناجاة، وتعذر عليه حفظ الحكمة، وحرمان الشفقة على الخلق، وثقل العبادة، وزيادة الشهوات، وإن سائر المؤمنين يدورون حول المساجد، والشباعون يدورون حول المزابل. (2) الاقتصاد في الكد نهارًا: لا تتعب نفسك بالنهار في الأعمال التي تعيا بها الجوارح، وتضعف بها الأعصاب، فإن ذلك مجلبة للنوم، وعليك بالقصد في هذه الأعمال، وأن تتجنب فضول الكلام، وفضول المخالطة التي تشتت القلب. (3) الاستعانة بالقيلولة نهارًا: فعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قِيلوا فإن الشياطين لا تقيل" (¬1). (4) ترك المعاصي: لا تحتقب الأوزار بالنهار فتُفْسِد عليك صيامك، وتُقَسِّي قلبك، وتحول بينك وبين قيام الليل. قال رجل للحسن البصري: يا أبا سعيد، إني أبيت معافى، وأحب قيام الليل، وأعد طهوري؛ فما بالي لا أقوم؟، فقال: ذنوبك قيدتك. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني (1/ 13) في "الأوسط"، وحسنه الألباني (1647) في "السلسلة الصحيحة".

وقال الثوري: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته, قيل: وما هو؟ , قال: رأيت رجلًا يبكي فقلت في نفسي: هذا مراء .. رحمهم الله قَلَّت ذنوبهم فعلموا من أين أُتوا, ونحن كثرت ذنوبنا فلم ندر من أين أتينا. وقال الفضيل بن عياض: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار؛ فاعلم أنك محروم مكبل كبلتك خطيئتك. (5) طِيب المطعم: قال بعض العلماء: إذا صمت يا مسكين, فانظر عند من تفطر, وعلى أي شيء تفطر, فإن العبد ليأكل أكلة فينقلب قلبه عما كان عليه ولا يعود إلى حالته الأولى, فالذنوب كلها تورث قساوة القلب, وتمنع من قيام الليل, وأَخَصُّهُ بالتأثير تناول الحرام. ولذلك قال بعضهم: كم من أكلة منعت قيام ليلة, وإن العبد ليأكل أكلة فيحرم قيام الليل سنة. (6) عدم المبالغة في حشو الفراش: فإن مما يعين على قيام الليل عدم المبالغة في حشو الفراش؛ لأنه سبب لكثرة النوم والغفلة, ومجلبة للكسل والدعة, ولقد كان فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحصير الذي خَطَّ في جنبه, وكانت وسادته التي ينام عليها بالليل من أَدَم حشوها ليف. فلا تتدثر بالبطاطين, وتضع المدفأة إلى جوارك, على سرير وثير مريح, فأنت بذلك تستعد لنوم طويل لن تستطيع الاستيقاظ منه أبدًا, تعمد أن يكون نومك غير مريح حتى تستطيع القيام بسهولة. (7) النوم على الجانب الأيمن, والوضوء والتسوك قبل النوم وأذكار النوم هذه سنه النبي - صلى الله عليه وسلم - والأحاديث فيها محفوظة مشهورة فأعمل ولا تكسل.

الأسباب الباطنة: (1) الإخلاص: من صفا صفي له , ومن كدر كُدِّر عليه, وإنما يكال للعبد كما كال. إذا اطلع الخبير على ما في الضمير فلم يجد غير الخبير أقامك بين يديه في الدياجي, فإن قيامك في الليل علامة من علامات المحبة لله, وهي عبادة عنوانها وتاجها الإخلاص. يا أخي .. كم من سراج قد أطفأته الريح, وكم من عبادة أفسدها العجب, وساعة يزري العبد فيها على نفسه خير له من عبادة يُدِل فيها بعمله, وأضر الطاعات على العبد ما أنسته مساويه وذكَّرته حسناته. (2) يقينك أن الكبير المتعال هو الذي يدعوك للقيام: إنها دعوة من السماء .. ويكفي أنها من الله لتلبى وتنفذ, كفاك جزاء على الطاعة أن رضيك لها أهلا .. انظر إلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجب له؟ , من يسألني فأعطيه؟ , من يستغفرني فأغفر له" (¬1) .. قف بوادي الذل .. وقيل في الدياجي: يا أيها العزيز .. مسنا وأهلنا الضر .. (3) نعم الرجل إن كان يقوم من الليل: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم الرجل عبد الله إن كان يقوم من الليل" (¬2) , فمن كان يصلي من الليل يوصف بكونه نعم الرجل, وهذه شهادة غالية عالية من الحبيب محمَّد - صلى الله عليه وسلم -, وقد ساق إليك عشرات الأحاديث في فضائل المتهجدين, فكيف تضيع على نفسك أن تكون منهم!! ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي, وصححه الألباني (8021) في "صحيح الجامع". (¬2) أخرجه أحمد، وصححه الألباني (6771) في "صحيح الجامع".

(4) يقينك أنك بعين الله: الله يسمع ويرى صلاتك بالليل .. هان سهر الحراس لما سمعوا أن أصواتهم بسمع الملك، قال سبحانه تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ في السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218 - 219]. (5) نبيك - صلى الله عليه وسلم - قام، وأنت تنام!! كان - صلى الله عليه وسلم - يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، وكان لا يترك القيام وهو مريض ولا في سفر، وأنه - صلى الله عليه وسلم - ما ترك القيام في وقت الجهاد، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكيف بك وقد ضج الليل من نومك وضجت الأرض من معاصيك. (6) وضع الجنة نُصْبَ عينيك: ويقينك بأن التهجد يورثك أعلى الجنان .. وتفكرك فيما أعد الله للمتهجدين في الغرف من نعيم الجنة .. ووقوفك طويلًا مع أخبار المتهجدين في ليلهم ونومهم مع الحور العين. (7) وضع النار وعذابها وأغلالها وأنكالها نصب عينيك أيضًا: فمن سهر هنا في طاعة الله متهجدا باكيًا مناجيًا؛ لا يسهر في النار مع الضريع والزقوم والغسلين، وسهر الليل بالقيام أهون من مقطعات الحديد وشرب الصديد. (8) النوم على نية القيام للتهجد. (9) سؤال المولى -عز وجل- ودعاؤه أن يمن عليك بالقيام. (10) علمك بمدى اجتهاد الصحابة الكرام في القيام. (11) معرفة مدى اجتهاد نساء السلف في القيام:

أمالك بالرجال أسوة؟!! .. أتسبقك وأنت رجل نسوة؟!! (12) الشيطان يمنعك من القيام، أتطيعه؟!! (13) دوام محاسبة النفس: وتوبيخها على قيام الليل إن فرطت فيه. (14) النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتفقد أصحابه ويوقظهم للقيام. (15) علمك ببكاء السلف وتحسرهم على فوات القيام. (16) اتهام النفس: بالتقصير في القيام، وقولك لها: قومي يا مأوى كل سوء، فلأنت أحق بالضرب من شر الدواب، أيظن أصحاب محمَّد أن يستأثروا به دوننا .. كان الرجل من السلف لا يأتي فراشه إلا زحفًا، ومع هذا يعاتب نفسه على التقصير في حق ربه. (17) معاقبة النفس: على ترك القيام، ومنعها من لذاتها أيامًا، والتصدق بالمال، نام الصحابي تميم الداري ليلةً فلم يقم للتهجد، فقام سنة لم ينم فيها عقوبة للذي صنع. (18) الزهد في الدنيا: فمن زهد في الدنيا وتقلل منها، وصحب الدنيا ببدنه صارت روحُه معلقةً بالملأ الأعلى، وعَلَق قلبُه بالآخرة، صفى وقته بمناجاة ربه في القيام، واتخذ القرآن دثارًا وشعارًا، ومن عرف قيمة الدنيا وقلة المقام بها، أمات فيها الهوى طلبًا لحياة الأبد، فاستيقظ من نوم الغفلة واسترجع بالقيام ما انتهبه العدو منه في زمن البطالة، ومن لم تبك الدنيا عليه، لم تضحك الآخرة إليه.

(19) علمك بأن الحيوانات تذكر ربها، وأنت نائم!! لماذا تسبح الحيوانات ربها في السحر؟ وهي التي لم تقترف ذنبًا ولم ترتكب جناية، وأنت في نومك وغطيطك!!، وتجتهد الديوك في عبادة الله وأنت في لعبك وتفريطك .. أما تستحي!! (20) كثرة ذكر الموت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: "يا أيها الناس، اذكروا الله، جاءت الراجفة، من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه" (¬1). (21) قراءة تراجم المتهجدين والعيش معهم: والتربية بالقدوة خير وسيلة تعين على القيام، والحكايات عن الصالحين المتهجدين وكيف أنهم ما كانوا يريدون العيش في الدنيا إلا للتهجد .. لما أتى معاذَ بن جبل الموتُ قال: مرحبًا بالموت مرحبًا، زائر مُغِبّ وحبيبٌ جاء على فاقة لا أفلح من ندم، اللَّهم، إني كنتُ أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللَّهم، إنك تعلم أنني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لغرس الأشجار، ولا لكري الأنهار، ولا لجني الثمار؛ ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالرُّكَب في حِلَقِ العلم". هذه الحكايات جند من جنود الله يثبت الله بها قلوب من يريدون سلوك طريق التهجد، فيمقت العبد نفسه، وهو يرى أناسًا مصيرهم ومصيره إلى الله واحد، ومع هذا سهرت عيونهم ونامت عينه! ¬

_ (¬1) أخرجه الحكم (4/ 343)، وحسنه الألباني (954) في "السلسلة الصحيحة".

ما ذاقت أعينهم غمضًا وهو ينام وله غطيط! بكوا تحت ستر الليل وهو لاعب! خافوا وهم قد نصبوا أقدامهم حتى تورمت ومالوا في الأسحار إلى الاستغفار وهو الآمن الغافل النائم! فإذا أراد أن يلحق بالمتهجدين السادة .. فليترك مخاللة الفراش والوسادة .. وأما الميسرات الباطنة لقيام الليل فأربعة أمور: الأول: سلامة القلب عن الحقد على المسلمين، وعن البدع وعن فضول هموم الدنيا. الثاني: خوف غالب يلزم القلب مع قصر الأمل، فإنه إذا تفكر أهوال الآخرة ودركات جهنم طار نومه وعظم حذره. الثالث: أن يعرف فضلَ قيام الليل بسماع الآيات والأحاديث والآثار، حتى يستحكم به رجاؤه فيهيجه الشوق لطلب المزيد. الرابع: وهو أشرف البواعث: حب الله وقوة الإيمان بأنه في قيامه لا يتكلم بحرف إلا وهو مناج ربه وهو سبحانه معه مطلع عليه. آداب القيام: 1 - الإخلاص وترك العجب: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الرجل تطوعًا حيث لا يراه الناس تعدل صلاته على أعين الناس خمسًا وعشرين" (¬1)، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - ينام السحر الأعلى ليذهب النوم بصفوة القيام وهو أبعد الناس عن الرياء. اتباع هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) صححه الألباني (3821) في "صحيح الجامع".

2 - الاغتسال والتطيب ولبس الثياب الحسنة: فعن مجاهد بن جبير قال: كانوا يكرهون أكل الثوم والكرات والبصل من الليل، وكانوا يستحبون أن يمس الرجل عند قيامه من الليل طيبًا يمسح به شاربه وما أقبل من اللحية. 3 - التسوك لقيام الليل: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن العبد إذا تسوك ثم قام يصلي، قام الملك خلفه، فسمع لقراءته، فيدنو منه حتى يضع فاه على فيه، وما يخرج من فيه شيء من القرآن إلا صار في جوف الملك، فطهروا أفواهكم للقرآن" (¬1)، فانظر رحمك الله إلى حرص الملائكة واعتنائهم باستماع القرآن من البشر، والذي نفسي بيده لو لم يكن في فضيلة السواك ليلًا إلا هذا الحديث لكفى. 4 - غسل اليد قبل غمسها في إناء الوضوء. 5 - الحرص على أذكار القيام والاستفتاح والتأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في كيفية صلاته. 6 - ترديد الآية وتدبر ما فيها. 7 - ترديد السورة. 8 - البكاء. 9 - حسن الصلاة وحضور القلب. 10 - ترك القيام مع النعاس والفتور: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم؛ فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البزار (2/ 214)، وصححه الألباني (213) في "السلسلة الصحيحة". (¬2) متفق عليه، البخاري (209)، مسلم (786).

11 - النهي عن تخصيص ليلة الجمعة بقيام: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم" (¬1). 12 - إيقاظ الأهل والصبية ومن يليه لقيام الليل. واعلم -أخي- أنه من اعتاد على القيام نُبِّه لذلك إذا غفل عنه، فعن ابن مسعود قال: إذا نام الرجل وهو يريد القيام من الليل أيقظه إما سنور، وإما صبي، وإما شيء فيستيقظ، فيفتح عينيه وقد وكل به قرينان: قرين سوء وقرين صالح، فيقول قرين السوء: افتح بِشَرٍّ، ثم عليك ليلًا طويلًا ما تسمع صوتًا ولا قيام أحد، فإن نام حتى يصبح أتاه الشيطان فبال في أذنه، فأصبح ثقيلًا كسلانًا خبيث النفس مغبونًا، أما الآخر فيقول له الملك: افتح بخير، قم فاذكر ربك وصل، فإن قام فتوضأ ثم دخل المسجد فذكر الله وأثنى عليه، وصلى على النبي محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فإذا فرغ من صلاته استقبله الملك فقبله، ثم يصبح طيب النفس قد أصاب خيرًا. أخي في الله .. ألق نفسك في الدجى على باب الذل. وقل: إلهي، كم لك سواي ومالي سواك .. عبيدك سواي كثير وليس لي سيد سواك. فبفقري إليك وغناك عني، بقوتك وضعفي، بعزك وذلي إلا رحمتني وعفوت عني، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك. أسألك مسألة المسكين .. وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل .. وأدعوك ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1144).

دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، وذل لك قلبه .. إلهي .. أنا الذي كلما طال عمري زادت ذنوبي، أنا الذي كلما هممت بترك خطيئة عرضت لي أخرى .. واذنوباه! خطيئة لم تبل وصاحبها في أخرى .. واذنوباه! إن كانت النار لي مقيلا ومأوى .. واذنوباه! إن كانت المقامع لرأسي تهيأ .. رب أفحمتني ذنوبي وانقطعت مقالتي فلا حجة لي، فأنا الأسير ببليتى، المرتهن بعملي، المتردد في خطيئتي، المتحير عن قصدي، المنقطع بي، قد أوقفت نفسي موقف الأشقياء المجترئين عليك، المستخفين بوعدك، سبحانك أي جرأة اجترأتها عليك، وأي تغرير غررت بنفسي. مولاي ارحم كبوتي لحسر وجهي وزلة قدمي، وعد بحلمك على جهلي وبإحسانك على إساءتي، فأنا المقر بذنبي المعترف بخطيئتي .. وهذه يدي وناصيتى، أستكين بالقوَد من نفسي، ارحم ضعفي ونفاد أيامي واقتراب أجلي، وقلة حيلتي ومسكنتي، مولاي وارحمني إذا انقطع من الدنيا أثري، وانمحى من المخلوقين ذكري، وكنت في المنسيين كمن قد نُسِي، مولاي وارحمني عند تغير صورتي وحالي، إذا بلى جسمي وتفرقت أعضائي وتقطعت أوصالي، يا غفلتي عما يراد بي. مولاي وارحمني في حشري ونشري، واجعل في ذلك اليوم مع أوليائك موقفي، وفي أحبائك مصدري، وفي جوارك مسكني يا رب العالمين، سبحانك اللَّهم وحنانيك، سبحانك اللَّهم وتعاليت.

الاعتكاف

الاعتكاف حين يخلو كل حبيب بحبيبه

الاعتكاف الاعتكاف .. وما أدراك ما الاعتكاف .. جئنا إلى بيت القصيد والمَحَكِّ الصادق للحبِّ الحقيقي .. حين يخلو كُلُّ حبيبٍ بحبيه حين يُذكر الاعتكاف تهفو إليه النفوس المؤمنة والقلوب الصادقة. الاعتكاف بيتُ المشاعر .. وعمقُ الإيمان .. وصدقُ التوجه .. وحلاوةُ الغربة .. الاعتكاف .. ملازمةُ الباب .. والوقوفُ في المحراب: ولذةُ أُوْلِي الألباب .. الاعتكاف .. لا بد منه لكل صادق؛ فإنه مطلبٌ رئيس يحتاجه في حياته .. في القلب شعث لا يَلُمُّهُ إلا الإقبال على الله .. وفي القلب فاقة .. لا يسدها إلا الأنس به واستشعار معيته .. هَمُّ الحياة وكبدها .. شتاتُ القلبِ وتفرقه .. مأساةُ التعامل مع الناس ودنياهم .. كل ذلك يجعل الإنسان يتوق إلى خَلوة حصينة يخلو فيها مع ربه وإلهه .. وحبيبه ومعبوده وسيده ومطلوبه .. يجعل الإنسان يشتاق إلى لحظاتٍ يتخلص فيها من كل شيء، ومن كل أحد .. ويجتمع همُّ قلبه وكلُّ مشاعره وأحساسيه بل وكلُّ حواسه على الله وحده.

وفرحة اعتكاف رمضان لمن أراد أن يغتنمها فرصةُ الفرص .. فإنه يخص العشر الأواخر من رمضان جوٌّ إيمانيٌّ عَبِق .. جوٌّ روحانيٌّ طَلْق .. فيها هدايا .. وفرائد وفوائد .. ونِعَم لا تحصى تحتاج إلى شكر .. ولك في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوةٌ؛ فإن هذه الخَلوة فترة إعداد وتهيئة وتدريب لأحد عشر شهرًا قادمة. قال بعض أصحاب التفاسير عند الكلام على خَلوة النبي - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء كلامًا نفيسًا أنقله هنا بنصه تتأمله وتستفيد ما يمس قلبك منه قال رحمه الله: "وكان اختياره - صلى الله عليه وسلم - لهذه العزلة طرفًا من تدبير الله له؛ ليُعِدَّه لما ينتظره من الأمر العظيم. ففي هذه العزلة كان يخلو إلى نفسه، وَيخْلُصَ من زحمة الحياة وشواغلها الصغيرة، ويُفَرَّغ لموحيات الكون، ودلائل الإبداع؛ وتسبح روحه مع روح الوجود؛ وتتعانق مع هذا الجمال وهذا الكمال؛ وتتعامل مع الحقيقة الكبرى، وتُمَرَّن على التعامل معها في إدراك وفَهْم. ولابد لأيِّ روح يُراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهةً أخرى .. لابد لهذا الروح من خَلوة وعزلة بعض الوقت، وانقطاع عن شواغل الأرض، وضجة الحياة، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة. لابد من فترة للتأمل والتدبر والتعامل مع الكون الكبير وحقائقه الطليقة. فالاستغراق في واقع الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له، فلا تحاول تغييره. أما الانخلاع منه فترة، والانعزال عنه، والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير، ومن الشواغل التافهة؛ فهو الذي يؤهل الروح الكبير لرؤية ما هو أكبر، ويدربه على الشعور بتكاهل ذاته بدون حاجة إلى عرف الناس، والاستمداد من مصدر آخر غير هذا العرف الشائع!

وهكذا دَبَّرَ -الله لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى، وتغيير وجه الأرض، وتعديل خط التاريخ .. دَبَّرَ له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات. ينطلق في هذه العزلة شهرًا من الزمان، مع روح الوجود الطليقة، ويتدبر ما وراء الوجود من غيبٍ مكنون، حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله" اهـ. أيها الإخوة .. لقد كان محور حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الرئيسي عبادة الله -عز وجل-، فهو خير من عبد الله -عز وجل- في هذا الكون، فكانت له عباداته اليومية التي كان يواظب عليها من فروض ونوافل، من أداء الصلوات الخمس، وأداء للرواتب، وصلاة الضحى، وقيام الليل، وعيادة مريض، وتجهيز غاز، وقضاء حوائج الناس، وغير ذلك من سلوكه اليومي. وقد كانت له عبادات أسبوعية، مثل: صيام الاثنين والخميس، وصلاة الجمعة. وعبادات حولية، مثل: صيام شهر رمضان، وقيامه، واعتكافه في العشر الأواخر منه. وكل هذه الأمور التعبدية التي كان يحيا بها - صلى الله عليه وسلم - لها توجيهاتها التربوية في حياة الإنسان المسلم، لذلك كان لزامًا على المسلم معرفة التوجيهات التربوية في عبادات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتنوعة، حتى يستطيع العمل على نهج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه القدوة في كل أمورنا على حد سواء وهذا هو الاتباع بإحسان. والاعتكاف عبادة ليست كغيرها من العبادات، فهي تعني الانقطاع إلى الله -عز وجل- بالكلية، وهجر ملذات الدنيا، التي تعترض عادة السمو الروحي للإنسان، والصلة المتكاملة بالله -عز وجل- من أجل تحقيق الصفاء الروحي في علاقة الإنسان المسلم بالله -عز وجل-.

فالجانب الروحي في الشر وظيفته الرئيسية إيجاد صلة مستمرة بين العبد وخالقه -عز وجل- من خلال دائرة العبادة الواسعة، التي تشمل حياة هذا الإنسان بكليته؛ مبتغيًا بذلك مرضاة الله -عز وجل-، متبعًا فيه شريعة الحق تبارك وتعالى، وتنقطع هذه الصلة الروحية عند انحراف هذا الإنسان عن ابتغاء مرضاة الله -عز وجل-، وتطبيق شرعه القويم، وتعود بعودة الإنسان إليها. وفي الاعتكاف فرصة كبيرة لتحقيق هذه الصلة المستمرة بين العبد وربه -عز وجلَّ-، وذلك لِتَوَفر بُغْيَة مرضاة الله -عز وجل-، واتباع شرعه تبارك وتعالى بصورة مستمرة أثناء الاعتكاف، والجوانب التربوية لسنة الاعتكاف لا تنحصر في تربية النفس على تحري ليلة القدر، أو في تربية الجانب الروحي في حياة الإنسان المسلم، وإنما هناك جوانب تربوية متعددة تمكننا أن نقول: إن الاعتكاف يعتبر بحق مدرسة إسلامية تنعقد بصورة سنوية. وعندما تعمل التربية الإِسلامية على الوصول بالإنسان المسلم إلى درجة {أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}، كان لا بد وأن تُعيرَها السُّنَّةُ جُلَّ اهتمامها، وتعمل على ترسم خطا النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحواله كما كان يفعل ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، فكانوا نماذج بشرية عالية الهمم، أمثال: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وغيرهم - رضي الله عنهم - وعن الصحابة أجمعين، كانوا يعملون باستمرار في اتباعه - صلى الله عليه وسلم - في جميع أموره حتى وإن لم يعرفوا الحِكْمَة في سلوكه - صلى الله عليه وسلم - في أي موقف من مواقف حياته. ولا أدل على ذلك من أنه قد ورد عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال: "ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ "، قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، فقال

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن جبريل عليه السلام أتاني فأخبرني أن فيهما قذرًا"، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذرًا أو أذًى فليمسحه وليصلِّ فيهما" (¬1). فكانت تلك المبادرة الفورية التلقائية لمتابعة سلوك الرسول - صلى الله عليه وسلم - ألقى نعله فألقوا نعالهم وهكذا دومًا في كل الأحداث، ونتج عن ذلك بطبيعة الحال الاستسلام الكلي لشرع الله -عز وجل-، الذي كان أساسه ارتفاع درجة الإيمان بالله في تلك النفوس. وعندما بدأ نور الإيمان يخفت، وتدنت مؤشراته في نفوس كثيرٍ من المسلمين -إلا من رحم ربي- بدأ التفلت من دائرة الشريعة الإِسلامية، وخاصة سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وقد نبتت نابتة شَرٍّ باعتبار أن كثيرًا مما جاء في حياته - صلى الله عليه وسلم - سُنَّة، ولا بأس من تركها!! ترى بعض العلماء والمتفقهين من أهل عصرنا، ممن عُرِفَ بالتساهل في التمسك بالسنن، إذا قيل له في تركه بعض السنن، قال: هي سنة، وهي جائزة الترك، وينسى أو يُغفِل المعنى الإيجابي لحب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو المقتضي للاتباع والاقتداء، واللائق بالمسلم الحصيف غير هذا، فقد كان السلف الأُول يفعلون كل مطلوب شرعًا -ولو كان رغيبة أو فضيلة- ودون تمييز بين ما يطلب على سبيل الفرض أو الواجب، وبين ما يطلب على سبيل الترغيب أو الندب. فالسُّنَّةُ المندوبة حِصنٌ للفرائض الواجبة، وبابٌ لزيادة الحسنات والأنوار على المتسنن بها، وعنوان الحب والاتباع لهدي الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - في شأنه ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (650)، وصححه الألباني (13) في "مشكاة المصابيح".

كله، فالحرص على السنن النبوية والتمثل بها من كبر الغنائم، وأجمل الصفات، وأفضل القربات والطاعات؛ فعليك به أيها الأخ المسلم. والاعتكاف سنةٌ مؤكدة، واظبَ عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته بعد هجرته إلى المدينة المنورة، وقد هُجِرت هذه السُّنة وغيرها من السنن النبوية في حياة الكثير من مسلمي اليوم -إلا من رحم ربي- وذلك لأسباب منها: (1) ضعف الجانب الإيماني في تلك النفوس. (2) الإقبال المتزايد على ملذات الحياة الدنيا وشهواتها، والذي أدى إلى عدم القدرة في الابتعاد عنها ولو لفترة بسيطة، وبالتالي شغل الوقت والفكر بها. (3) اقتصار محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجانب اللفظي دون العملي، والذي يتمثل في تطبيق جوانب السنة المحمدية المتعددة، ومنها الاعتكاف. قال الزهري: عجبًا من الناس!، كيف تركوا الاعتكاف، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل الشيء ويتركه، وما ترك الاعتكاف حتى قبض. الاعتكاف الذي كان يحياه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في العشر الأواخر من رمضان، واقتصرت مدته الزمنية بين تسعة إلى عشرة أيام، إلا أنها تعتبر بمثابة مدرسة تربوية مستقلة متكاملة، تتخللَّها كثير من أنواع العبادة لله -عز وجل-، والتي تعمل على إيقاظ كثير من الجوانب الحياتية في الإنسان، وجعلها في دائرة واحدة متجهة إلى خالقها -عز وجل-، فهي بمثابة دورة تربوية مكثفة لها نتائجها الإيجابية الفورية على حياة الإنسان في أيام وليالي الاعتكاف. ولها أيضًا أثرها الإيجابي على حياة الإنسان فيما يستقبله من أيام خلال حياته التي يحياها إلى رمضان آخر، فحريٌّ بنا أبناء أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - العمل بهذه

هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاعتكاف

السنة، والإقبال عليها سَنةً بعد سَنة، للإفادة من جوانبها المتعددة، وإحياءً لسُّنةِ الحبيب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - الذي قال: "من أحيا سنتي ففد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة" (¬1). هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاعتكاف: وهديه - صلى الله عليه وسلم - في الاعتكاف كان أكمل هدي وأيسره. فكان إذا أراد أن يعتكف وُضع له سريره وفراشه في مسجده - صلى الله عليه وسلم -، وبالتحديد وراء اسطوانة التوبة كما جاء في الحديث عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه كان إذا اعتكف طرح له فراشه، أو يوضع له سريره وراء اسطونة التوبة" (¬2). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُضرب له خِبَاءً على مثل هيئة الخيمة، فيمكث فيه غير أوقات الصلاة حتى تتم الخَلوة له بصورة واقعية، وكان ذلك في المسجد، ومن المتوقع أن يُضرب ذلك الخباء على فراشه أو سريره، وذلك كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فكنت أضرب له خِبَاءً، فيصلي الصبح، ثم يدخله" (¬3). وكان دائم المكث في المسجد لا يخرج منه إلا لحاجة الإنسان من بولٍ أو غائط؛ وذلك لحديث عائشة - رضي الله عنها - حين قالت: "وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكلفًا" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2678)، وضعفه الألباني (501) في "ضعيف الترمذي". (¬2) أخرجه ابن ماجه (1774)، وضعفه الألباني (392) في "ضعيف ابن ماجه". (¬3) متفق عليه، البخاري (1928)، مسلم (1172). (¬4) متفق عليه، البخاري (1925)، مسلم (297).

مقاصد الاعتكاف

وكان - صلى الله عليه وسلم - يُؤتى إليه بطعامه وشرابه إلى معتكفه، وكان - صلى الله عليه وسلم - يحافظ على نظافته؛ إذ كان يُخرِج رأسَهُ إلى حجرة عائشة - رضي الله عنها - لكي تُرَجِّل له شعرَه، فعنها - رضي الله عنها -: "أنها كانت تُرَجِّل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهي حائض، وهو معتكفٌ في المسجد، وهي في حجرتها، يناولها رأسه" (¬1). وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يعود مريضًا، ولا يشهد جنازة؛ وذلك من أجل التركيز والانقطاع الكُليِّ لمناجاة الله -عز وجل-، ففي الحديث عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمر بالمريض وهو معتكف فيمر كما هو ولا يُعَرِّج يسأل عنه" (¬2)، وأيضًا عنها أنها قالت: "السُّنَّة في الاعتكاف أن لا يعود مريضًا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع". وكان أزواجه - صلى الله عليه وسلم - يزرنه في معتكفه، وحدث أنه خرج يوصِّل إحداهن إلى منزلها وكان ذلك لضرورة، إذ كان الوقت ليلًا، فرأى - صلى الله عليه وسلم - أن خروجه معها - رضي الله عنها - لا بد في ذلك الليل، فخرج معها من معتكفه؛ ليوصلها إلى بيتها. وخلاصة القول: إن هديه - صلى الله عليه وسلم - في اعتكافه كان يتسم باليسر، فقد كان جُلُّ وقته مُكثٌ في المسجد، وإقبالٌ على طاعة الله -عز وجل-، وترقبٌ لليلة القدر. مقاصد الاعتكاف: (1) تحري ليلة القدر. (2) الخَلوة بالله -عز وجل-، والانقطاع عن الناس ما أمكن؛ حتى يتم أنسه بالله -عز وجل- وذكره. ¬

_ (¬1) نفس الحديث السابق. (¬2) أخرجه ابن ماجه (1776)، وصححه الألباني (1438) في "صحيح ابن ماجه".

حكم الاعتكاف

(3) إصلاح القلب، ولَمُّ شَعَثِه بالإقبال على الله تبارك وتعالى بكُليته. (4) الانقطاع التام للعبادة الصِرف من صلاةٍ ودعاءٍ وذكرٍ وقراءة قرآن. (5) حفظ الصيام من كل ما يؤثر عليه من حظوظ النفس وشهواتها. (6) التقلل من المباح من الأمور الدنيوية، والزهد في كثير منها مع القدرة على التعامل معها. حكم الاعتكاف: سُنَّة مؤكدة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ففي الحديث عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية على سدتها حصير، قال: فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبة، ثم أطلع رأسه فكلم الناس، فدنوا منها، فقال: "إني اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة، ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أتيت فقيل: إنها في العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف"، فاعتكف الناس معه، قال: "وإني أُريتها وترًا وإني أسجد صبيحتها في طين وماء"، فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ليلة إحدى وعشرين وقد قام إلى الصبح فمطرت السماء، فوكف المسجد، فأبصرت الطين والماء، فخرج حين فرغ من صلاة الصبح وجبينه وروثة أنفه فيهما الطين والماء؛ وإذا هي ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر (¬1). شروط الاعتكاف: (1) الإِسلام: إذ لا يصح من كافر، وكذلك المرتد عن دينه. ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (780)، مسلم (1167).

أركان الاعتكاف

(2) التمييز: إذ لا يصح من صبي غير مميِّز. (3) الطهارة من الحدث الأكبر (من جنابة، وحيض، ونفاس)، وإن طرأت مثل هذه الأمور على المعتكف أثناء اعتكافه وجب عليه الخروج من المسجد؛ لأن مكثه على هذه الحالف في المسجد حرام. (4) أن يكون في مسجد: والأفضل أن يكون الاعتكاف في مسجد جامع تقام فيه الجمعة، حتى لا يضطر إلى الخروج من المسجد لأجل صلاة الجمعة. أركان الاعتكاف: (1) النية: وهي أمرٌ ضروري، وفيه إخلاص العمل إلى الله -عز وجل-، وهو كذلك في سائر الأعمال. (2) المكث في المسجد: وذلك لقوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]، وفي هذا تأكيد على أن مكان الاعتكاف هو المسجد. زمانه وبداية وقته: إذا كان في رمضان فآكدُ وقتِهِ العشرُ الأواخر منه، ويجوز في أي وقت في رمضان أو غيره، فهو لا يختص بزمنٍ معين؛ لأنه أمرٌ مستحب في جميع الأوقات، وخاصةً إذا ألزم المسلم نفسه بنذر، وأما بالنسبة لبداية وقته فقبل غروب الشمس لمن أراد أن يعتكف ليلة أو أكثر. محظورات الاعتكاف: (1) الخروج من المسجد: يبطل الاعتكاف إذا خرج من المسجد لغير حاجة.

أهداف الاعتكاف

(2) مباشرة النساء: ومنها الجماع، فهذا الأمر يبطل الاعتكاف؛ لورود النهي عنه صريحا في قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]. (3) الحيض والنفاس: فإذا حاضت المرأة المعتكفة أو نفَسَت وجب عليها الخروج من المسجد؛ وذلك للحفاظ على طهارة وقدسيه المسجد، وكذلك الجنب حتى يغتسل. (4) قضاء العِدَّة: وذلك إذا تُوفِّي زوج المعتكفة وهي في المسجد، وجب عليها الخروج لقضاء العدة في منزلها. (5) الرِّدَّة: حيث إن من شروط الاعتكاف الإِسلام، فيبطل اعتكاف المرتد. أهداف الاعتكاف: لا بد أيها الأحبة في الله من تحديد الأهداف المطلوبة وراء هذا العمل العظيم؛ لأن معرفة الأهداف وتحديدها يجعل النفس تتشرف لها وتتطلع إليها دومًا وتحرص على تحصيلها .. وهي كثيرة: (1) تطبيق مفهوم العبادة بصورتها الكلية: يؤصل الاعتكاف في نفس المعتكف مفهوم العبودية الحقة لله -عز وجل-، ويدرِّبه على هذا الأمر العظيم الذي من أجله خلق الإنسان؛ إذ يقول بالحق تبارك وتعالى: ({وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، حيث إن المعتكف قد وهب نفسَه كلَّها ووقته كله متعبدا لله -عز وجل-، فالإنسان كثيرًا ما يضيع أوقاتًا ثمينة، قضاها في أمورٍ مُباحة دون أن ينويَ بها طاعة الله -عز وجل-، وفي هذا المدار تسير حياته، ويعيش كثيرًا من ساعات الغفلة

وخاصة في زمننا المعاصر الذي كثرت فيه المغريات والصوارف عن طاعة الله. فالمعتكف بَادِئَ ذِي بَدْء نجد أنه ينوي الاعتكاف مخلصًا لله -عز وجل-، ويبدأ ذلك بلزومه المسجد من أجل طاعة ربه، ويكون شغله الشاغل في زمن الاعتكاف هو مرضاة الله -عز وجل-، فهو يشغل بدنَه وحواسَّه ووقته من أجل هذا الأمر، بالصلاة من فرض ونفل، وبالدعاء، والذكر وقراءة القرآن، وغيرها، ويبتعد في نفس الوقت عن صوارف هذه الطاعة، فيبتعد عن مجالس الكلام المباح، وإن تكلم مع أخيه ففي حدود الحاجة وفي مدار طاعة الله -عز وجل-. وبذلك يتحقق في واقعه مفهوم العبادة لله -عز وجل- التي عرفها شيخ الإِسلام ابن تيمية عليه رحمة الله بقوله: العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة، والصيام، والحج، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم، والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين أو البهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له، والصبر لحُكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك من العبادة لله. اهـ. وبهذه الدُّرْبة في مثل أيام العشرة الأخيرة من شهر رمضان المبارك يتربى المعتكف على كيفية تطبيق مفهوم العبودية لله -عز وجل- في حياته العامة والخاصة، ويضع موضع التطبيق قول الحق تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 - 163].

وبعد انقطاع وقت الاعتكاف يجتهد المعتكف قدر استطاعته ليجعل حياته الخاصة والعامة في دائرة العبادة، ولم يفطن كثيرٌ من الناس أن النية هي المحوِّل العجيب، إلا أنها لا تحوِّل الجماد إلى نوع آخر من الجماد؛ ولكنها تحول العبادة العادية التي تضمحل وتزول بمجرد الانتهاء منها إلى أعمال باقية خالدة؛ فالطعام والشراب والنكاح كل ذلك زائل ذاهب، فإذا قصد العبد به نيةً صالحة؛ كأن ينوي التقوِّي بالطعام والشراب على طاعة الله، وكأن يعف نفسه عن الزنا بالنكاح، ويطلب الولد الصالح الذي يعبد الله ويجاهد في سبيله؛ فإن هذه الأعمال تتحول إلى أعمال باقية صالحة. وبهذا التوجه في النفس الإنسانية المسلمة تستقيم هذه النفس في حياته كلها، وإذا كثر عدد الأفراد من هذه النوعية في أي مجتمع إسلامي استقام ذلك المجتمع أيضًا. (2) تحري ليلة القدر: يكدح الإنسان في حياته من رمضان إلى رمضان اثني عشر شهرًا بأيامها ولياليها، {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانش قال: 6] ويبقى الإنسان المسلم في عملية أخذ وعطاء في ميدان الطاعة والمعصية، ويغفل القلب في كثيرٍ من الأحيان عن ميدان الطاعة، وتتفلت الجوارح في الخطايا، وتتكاثر الذنوب على كأهل هذا الإنسان من حيث يدري ومن حيث لا يدري، وفي واقع الإنسان المسلم الحصيف نجده مستغفرًا منيبًا إلى الله عند درايته بوقوعه في المعصية والخطأ، وهذه من سمة الإنسان؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون" (¬1). فتدوم توبة الحصيف ويضيع الكثير على الغافل. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (3/ 198)، وحسنه الألباني (4515) في "صحيح الجامع".

وتبقى بذلك الخطايا التي لم يعلم بها، ولكن هذا الواقع لا يتوافر في حياة الكثير من مسلمي اليوم، الذين يعيشون في عصرٍ سمته الغفلة عن مرضاة الله -عز وجل-؛ وذلك لكثرة صوراف وشواغل الدنيا، وكثرة المُلْهِيَّات والمنكرات، التي أصبحت في عرف هذا العصر من المعروف، كل هذا يستوجب على الإنسان تحَيُّن الفرص التي يقف فيها لمحاسبة نفسه، والتخلص قدر الاستطاعة من تراكم الذنوب. ومن رحمة الله -عز وجل- بالإنسان المسلم أن أوجد له مواسم للطاعات يتقرب فيها الإنسان إلى ربه -عز وجل-، وتحط عنه من خلال هذا التقرب تلك الخطايا والمعاصي، ومن هذه المواسم شهر رمضان، وأخص ما في هذا الشهر ليلة القدر، إذ يقول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -: "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" (¬1). ففي الاعتكاف فرصة دورية للمعتكف لمراجعة حياته السابقة، وتأمُّل ما عمل فيها من سوء، وعقد النية على عدم الرجوع إليه، والتوبة والندم عليه، والتضرع إلى الله العلي القدير أن يعفو عنه ويغفر له، وخاصةً في ليلة القدر، وأولى الناس بشهود ليلة القدر من بداية وقتها وحتى انتهائه هو المعتكف؛ لأنك تجده قابعًا في المسجد في ذلك الوقت ذاكرًا لله في جميع أحراله بمختلف أنواع الذكر متحريًا هذه الليلة المباركة. وشعور الإنسان المسلم بمغفرة الله -عز وجل-، وأنه قد تخفف من كثيرٍ من الذنوب التي أزيحت عن كاهله يعطيه نوعًا من الدافعية للانطلاق في طاعة الله -عز وجل-، ومرضاته في أعماله المختلفة، لكسب المؤيد من الحسنات التي تثقل موازينه يوم العرض على الله -عز وجل-. ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (35)، مسلم (760).

(3) تعوُّد المكث في المسجد: في الاعتكاف تدريب وتربية للنفس على تعود المكث في المساجد، الذي له أهميته في حياة الإنسان المسلم؛ فالمعتكف قد ألزم نفسه البقاء في المسجد مدة معينة، وفي شهر رمضان عادةً ما تكون ما بين تسع إلى عشر ليال يقضي وقته كله في مرضاة الله -عز وجل-، وقد لا تَقبل النفس الإنسانية مثل هذا القيد في بداية الاعتكاف؛ ولكن عدم القبول هذا عادةً ما يتبدد سريعًا لما تلقاه النفس المسلمة من راحة وطمأنينة في بقائها في بيت الله. ومعرفة المعتكف بأهمية بقائه في المسجد أثناء اعتكافه، وبالتالي المبادرة إلى المسجد قبل الأذان أو بعده بعد رمضان، يجعله يحرص على هذا الأمر في حياته بصورة مستمرة لأهميته التي تتجلى في الأمور التالية: 1 - رجل تعلق قلبه بالمساجد: أن الرجل الذي يمكث في المسجد قد أحب المسجد من قلبه، وذلك الحب يجعله من الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ففي الحديث: "ورجل قلبه معلق بالمساجد" (¬1). 2 - فضيلة المكث في المسجد: أن الذي يمكث في المسجد ينتظر الصلاة له أجرُ صلاة، وأن الملائكة تستغفر له مادام في مُصَلَّاه ولم يُحْدِث. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في إثر صلاة لا لغو بينهما كتابٌ في عليين" (¬2). ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (1357)، مسلم (1031). (¬2) أخرجه أبو دواد (2/ 27)، وحسنه الألباني (1288) في "صحيح أبي داود".

3 - فرح الله بالعبد: فرح الله -عز وجل- باتخاذ المؤمنِ المسجدَ موطنًا يَقصد اللهَ فيه ويذكره، وهذه من النعم الجليلة من الله الجليل -عز وجل- على هذا العبد الفقير، ففي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما توطن رجلٌ مسلم المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبشَ الله له كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم" (¬1). الله أكبر!، لك أن تتصور من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل ولا تأويل تبشبش الله لك حال قدومك إليه وإقبالك عليه. ومعرفة هذه الفضائل ضرورية بالدرجة الأولى للمعتكف؛ إذ أنها تعطيه دافعًا للاستمرار في اعتكافه بجدٍّ واجتهاد في طلب رضا الله -عز وجل-؛ حتى تستمر له هذه الحسنات والأجور. (4) البعد عن الترف المادي: فُتحت الدنيا على كثيرٍ من مسلمي اليوم، وتوفرت وسائل الراحة المختلفة التي كلما أَخلد إليها الإنسان ازداد في طلبها، وبذلك عملت وسائل الراحة هذه في زيادة الغفلة في حياة المسلم، ويشعر في كثيرٍ من الأحيان أن وسائل العيش المترف أمرٌ أساسي في حياته لا يستطيع أن يتخلى عنه. ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوةٌ حسنة، إذ كان راضيًا من الدنيا بالكَفَاف، وهو الذي كان يعطي عطاءَ مَنْ لا يخشى الفقر، ويتمتع بالطيبات متى تيسرت من غير سَرَفٍ ولا مخِيلَة؛ ليوضح لأمته حقيقة الزهد لتستَنَّ به فيه؛ لأنه إمام الزاهدين وقدوة المؤمنين ورحمة الله للعالمين. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 328)، وحسنه الألباني (5604).

ففي عِيْشِهِ - صلى الله عليه وسلم - تقول عائشة - رضي الله عنها -: "ما شَبعَ آلُ محمدِ منذ قدم المدينة من طعام بُرٍّ ثلاث ليال تِباعًا حتى قبض" (¬1). وفي إدامه يقول جابر - رضي الله عنه -: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل أهله الأُدْمَ فقالوا: ما عندنا إلا خَلّ، فدعا به فجعل يأكل ويقول: "نعم الأدم الخل، نعم الأدم الخل" (¬2). وفي مسكنه في حديث عمر الطويل، يقول عمر: "فدخلت عليه، فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش، قد أثرَ الرمال بجنبه، متكئٌ على وِسادة من أَدَمِ حشوها لِيف ... " (¬3). فهذا واقعُ خير خلق الله -عز وجل- في هذه الدنيا، وهذا موقفه من وسائل العيش التي جعلت الكثير منا -إلا من رحم الله- يتمادى في طلبها بصورة تزيده غفلةً عن طاعة الله -عز وجل- ويبيع دينه من أجلها. وفي الاعتكاف يتخفف المعتكف من هذه الأمور، فيعرف قيمتها الحقيقية وأنها لا أهمية لها ويصبح كأنه إنسان غريب في هذه الدنيا، فهو من أجل مرضاة الله -عز وجل- ارتضى أن يقبع في ناحيةٍ من المسجد ليس لديه في الغالب إلا وسادة يضع عليها رأسه وغطاء يتغطى به، فراشه هو فراش المسجد؛ فهو قد ترك فراشه الوثير وعاداته الخاصة من أجل ذلك الرِّضَى. وكذلك طعامه، فهو عادةً لا يُؤتَى إليه بالكثير من الطعام، فيأكل كما يأكل الغريب، ويأكل كما يأكل العبد الفقير إلى ربه. وبهذا يتربى الفرد على حقيقةٍ لها أصالتها في التربية الإِسلامية، وهي أن ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (5100)، مسلم (2970). (¬2) أخرجه مسلم (2052). (¬3) متفق عليه، البخاري (4629)، مسلم (1479).

الحياة الدنيا دار ابتلاء واختبار، وأنها دار ممر وعبور إلى حياةٍ أخرى. سرمدية خالدة، يجب أن يعمل لها الإنسان جُلَّ وقته من خلال تعامله مع هذه الحياة الفانية، فيترفع عن التعلق بالكثير من الأمور المعاشية، التي كانت تشغل باله في السابق عن مرضاة الله -عز وجل-. (5) الإقلاع عن كثير من العادات الضارة: في ظل غياب مفهوم التربية الإِسلامية في كثير من المجتمعات الإِسلامية، نشأت لدى أفراد هذه المجتمعات كثيرٌ من المعاصي المنتشرة التي استهان بها الناس، ومنها: التدخين، وسماع الموسيقى والأغاني، ومشاهدة ما يُبَثُّ في الفضائيات من أحاديث تخدش عقيدة المسلم، ومن مناظر تعمل على هدم أساسيات الأخلاق الإِسلامية. فيتعرف الإنسان المسلم في فترة الاعتكاف، وقد خلا إلى خالقه، على مفهوم العبادة بصورتها الشاملة، وأنه يجب أن يكون متعبدًا لله -عز وجل- على مدار الساعة في حياته العامة والخاصة، وأن يبتغي مرضاة الله -عز وجل- في كل حين فشغله بالطاعة انشغال عن المعصية، وهذه المعرفة لمفهوم العبادة تجعله يقف على زيف لذة هذه المعصي السيئة، فهو عندما يتخذ حب ومرضاة الله -عز وجل- كميزان يزن به كل عمل يقوم به؛ يجد أن تلك المعاصي لا تتفق مع هذه المحبة لله -عز وجل-، بل تعمل في اتجاهٍ معاكس لها، ويجد بذلك أن مثل تلك المعاصي تخرجه من دائرة العبودية الصادقة لله؛ وإذا كان الأمر كذلك فيجب عليه أن يتخلص منها في أسرع وقتٍ ممكن. فالمسلم العاقل الذي أخلص نيته لله -عز وجل- في اعتكافه يحرص كل الحرص على سلامة وكمال طاعته وعبادته لله -عز وجل-؛ فإذا كان قد ابتلي بشيء من هذه المعاصي؛ فالاعتكاف فرصة سنوية يستطيع فيها المعتكف أن

يتخلص من هذه البلايا عن طريق التوبة والالتجاء إلى الله -عز وجل- أولًا، وعن طريق فطام النفس عن تلك البلايا في فترة الاعتكاف، وعدم تحقيق رغبة النفس منها وتعويدها على ذلك، وفي هذا كله تربيةٌ للنفس على القدرة على التخلص من كثيرِ من العادات التي لا تُرضي الله -عز وجل- فضلًا عن المعاصي والذنوب. (6) حفظ اللسان والجوارح عما لا ينفع الإنسان: يُستحب للمعتكف أن يشتغل بالصلاة وتلاوة القرآن وذكر الله وما إليها من القربات، وعليه أن يُنَزِّه اعتكافه عما لا يَعنيه من الأقوال والأفعال، وأن يتجنب الجِدال والمِراء والسِّباب، فهذه الأمور تُكره لغير المعتكف، فمنهُ أشدُّ كراهة، ولا بأس أن يتكلم بما فيه حاجته ومصلحته مما لا إثم فيه. ومن أطلق عَذَبَةَ اللسان، وأهمله مَرْخِيَّ اْلعَنَان، سلك به الشيطان في كل ميدان، وساقه إلى شفا جرف هار إلى أن يضطره إلى البوار، ولا يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم، ولا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع، فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة، ويكفه عن كل ما يخشى غائلته في عاجله وآجله. وغض البصر أيضًا من الأمور التي أمر الإِسلام بها، فينبغي على المعتكف ألا يستخدم بصره إلا في أمور الطاعة من قراءة قرآن، وطلب علم، وتدبر، وتأمل في ملكوت الحق تبارك وتعالى، وهو بذلك ممتثلٌ لأمر الله -عز وجل- في حالته هذه في مقامه بالمسجد الذي قد يرتاده النساء، كما هو الحال في المسجد الحرام، أو في حالة خروجه لحاجاته المختلفة إلى خارج المسجد. وكذلك بقية الجوارح لا يستخدمها إلا في طاعة الله -عز وجل-، حتى القلب والفكر لا يجوز استخدامهما في تمني أمور لا تُرضي الله -عز وجل-.

(7) التفكر في آلاء الله -عز وجل-: في عصر الغفلة الذي نعيشه، وسعي الإنسان الحثيث وراء متطلبات الحياة المادية؛ تقل الفرص التي تتيح للإنسان المسلم إعمال العقل والفكر في مجال الآيات الكونية والشرعية. وفي فترة الاعتكاف تصفو النفس المسلمة في اتصالها بخالقها، وينفض الإنسان يديه من مشاغل الحياة الدنيا، ويتفرغ لما يُرضي الحق تبارك وتعالى، وتُتاح له الفرصة تِلْوَ الفرصة للقيام بعمليات التفكر والتدبر، وذلك من جراء الوقت الفسيح الذي يعيشه المعتكف، وقد أخلى قلبه من كل شيء إلا الله -عز وجل-، فلو تفكر المعتكف في أمر كُلٍّ من الصيام والاعتكاف فقط؛ لعرف ووقف على كثيرٍ من الحِكَم التي تقف وراءهما، ولارتفع مؤشرُ الإيمان لديه. (8) الصبر وقوة الإرادة: في واقع الاعتكاف يتعرض الإنسان المسلم إلى مواقف متعددة هي بمثابة تمرين عملي للعبد على الصبر، فعلى سبيل المثال: * هناك صبر على طاعة الله -عز وجل-، فهو أمرٌ لم يكن المعتكف معتادًا عليه في حياة ما قبل الاعتكاف، وهو الآن بعيد تمامًا عن أي صوارف تصرفه عن هذه الطاعة، وهذه الطاعة المستمرة لله -عز وجل- تحتاج إلى صبرٍ مستمر من قِبَل المعتكف، وفي هذا تربية للإرادة وكبحٌ لجماح النفس التي عادةً ما ترغب في التفلت من هذه الطاعة إلى أمور أخرى تهواها. * وهناك الصبر على ما نقص مما ألفت عليه النفس من أنواع الطعام مثلًا. * وهناك الصبر على نوع الفراش الذي ينام عليه؛ فليس بالإمكان أن يوضع له سرير في المسجد.

* وهناك الصبر على ما يجد في المسجد من مزاحمة الآخرين له، ومن عدم توفر الهدوء الذي كان يألفه في منزله إذا أراد النوم. * وهناك الصبر على الزوجة إذ يُحَرَّم عليه مباشراها عند دخوله إلى منزله للحاجة وهي حلاله، وفي هذا الأمر تتجلى قيمة الصبر وقيمة القوة في الإرادة وضبط النفس. (9) الاطمئنان النفسي: إن ذكر الله -عز وجل- بعموميته جالبٌ لطمأنينة النفس لا محالة، وتتأكد الطمأنينة في واقع المعتكف بصورةٍ أساسية؛ لأن حياته في معتكفه تدور حول هذا الأمر بطريقةٍ مستمرة، فصحوته ذكر، ومنامه ذكر، وطعامه ذكر، وحركاته وسكناته كلها ذكر، وهنا تشرق على نفسه طمأنينة لم يكن يعهدها في حياته قبل الاعتكاف؛ لأنه رَكَنَ واستكان إلى جنب الله، فهو ضيفٌ على الله في بيتٍ من بيوته، وقد يتساءل عن سر تلك الطمأنينة ومصدرها، فيجد الإجابة تبرز من ثنايا أعماله التي يقوم بها في اعتكافه، والتي منها على سبيل المثال: * الصلاة: لقاء مباشر مع خالقه .. يناجيه .. فيسمعه الله -عز وجل- .. يدعوه في سجوده .. فيستجيب له، فتطمئن النفس إلى هذا اللقاء وتُكْثِر منه. * قراءة القرآن: وهو ذكر الله الذي أنزله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، به طمأنينة قلوب المؤمنين، فإن القلب لا يطمئن إلا بالإيمان واليقين، ولا سبيل إلى حصول الإيمان واليقين إلا من القرآن، فإن سكون القلب وطمأنينته من يقينه، واضطرابه من شَكِّهِ، والقرآن هو المحصِّل لليقين، الدافع للشكوك والظنون والأوهام، فلا تطمئن قلوب المؤمنين إلا به.

* الذكر المقيَّد والمطلَق: من تهليل وتحميد وتسبيح وتكبير .. وفي استمرارية المعتكف في هذا النوع من الذكر كل أوقاته مَدعاةٌ وسببٌ لحصول الأمان والاطمئنان النفسي. يقول ابن القيم: إن ذكر الله -عز وجل- يُذْهِب من القلب مخاوفه كُلَّها، وله تأثير عجيب في حصول الأمن، فليس للخائف الذي قد اشتد خوفه أنفع من ذكر الله -عز وجل-، إذ بحسب ذكره يجد الأمن ويزول خوفه، حتى كان المخاوف التي يجدها أمانٌ له، والغافل خائفٌ مع أمنه، حتى كأن ما هو فيه من الأمن كُلُّه مخاوف، ومن له أدنى حِسّ قد جَرَّبَ هذا، هذا والله المستعان. (10) تلاوة القرآن الكريم: إن معرفة المعتكف بفضائل قراءة القرآن الكريم، والعمل به، وختمه مرة تلو الأخرى، هي تربية على الحرص على تعلم القراءة السليمة للقرآن الكريم، وعلى الحرص كذلك على المداومة على قراءته، وتخصيص ورد يومي يحرص كل الحرص على قراءته، وبذلك يسعد في دنياه وآخرته. (11) التوبة النصوح: في حياة المعتكف نجد أن هناك أمورًا عدة تحثه على التوبة النصوح من كل معاصيه، منها: * أن القلب قد توجه بكليته إلى الله -عز وجل-، وأن الصلة بين هذا الإنسان وخالقه اتسمت بالاستمرارية على مدار اليوم والليلة في أيامٍ وليالٍ متوالية، وحريٌّ بالإنسان المسلم أن يستثمر هذه الصلة بالتوبة والندم والاستغفار؛ وذلك لقربه من الله -عز وجل-.

* أن هناك مجالًا للتفكر والتأمل في حياته: كيف هي من تطبيق شرع الله -عز وجل-؟، وما جوانب النقص في هذا التطبيق؟، وما الأسباب التي أن إلى وجود هذا النقص؟، ومن خلال هذا التأمل تظهر خطايا ومعاصي هذا الإنسان، ومن خلال التأمل يأتي الإقرار والاعتراف من جانبه بهذه الذنوب والمعاصي، ويدفعه ذلك إلى المبادرة بالتوبة والنية والعزم على عدم العودة إليها. * أن المعتكف يحيا بواقعيته شهر المغفرة والتوبة والعتق من النار، وفي هذا دافعٌ حقيقي للتوبة النصوح. * استشعار مرضاة الله -عز وجل- والثقة فيه بأن يغفر الذنوب جميعًا؛ يورِّث النفس طمأنينةً واستقرارًا، ويدفعها إلى الاستمرارية في العمل الصالح، وابتغاء مرضاة الله في كل حين، والمسارعة إلى التوبة والاستغفار كلما بدا منه ذنب أو خطأ أو تقصير، وبذلك تصلح حياته. (12) التعود على قيام الليل: المعتكف يبتغي مرضاة الله -عز وجل- من اعتكافه وقيام الليل، وخاصةً في العشر الأواخر من رمضان، من صلاة التراويح والتهجد، وبذل جهده فيما يزيده رضًا من الله -عز وجل-. ومن خلال قيام الليل يتربى المعتكف على حسن الوقوف بين يدي الله -عز وجل- بنفسٍ صافية، وروحٍ موصولة بالله -عز وجل-، يتربى على حسن المناجاة، ويقف على هذه اللذة، وهو موقنٌ بأن الله -عز وجل- قريبٌ منه .. يراه .. يسمعه .. يستجيب له. وهذا كله يعطى للإنسان دفعةً قوية للمواظبة على قيام الليل، وحريٌّ بمن

تعوَّد على لذة مناجاة خالقه في أوقات السَّحَر، والذي يعتبر من أثمن الأوقات في حياة المسلم، واليقين بأن الله -عز وجل- يراه ويسمعه، حريٌّ به ألا تفوته ليلة من ليالي عمره القصير إلا وقد تلذذ بتلك المناجاة، وأعز نفسه بالالتجاء الحق إلى بارئه. (13) عمارة الوقت: يقول ابن القيم -عليه رحمة الله: "وقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة معيشته الضنك في العذاب الأليم، وهو يمرُّ مَرَّ السَّحَاب، فما كان من وقته لله وبالله فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوبًا من حياته، وإن عاش فيه عيش البهائم، فإذا قطع وقته في الغفلة والسهر والأماني الباطلة، وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة، فموتُ هذا خيرٌ له من حياته" اهـ. والمعتكف قد عمل جهده وحَرِصَ على إنفاق وقته كله في طاعة الله -عز وجل- ومرضاته، وعمل أيضًا على تنظيم وقته، وتعود في فترة اعتكافه على ذلك التقسيم؛ فاستفاد من كل دقيقة في مرضاة الله؛ وهو بذلك قد وقف على قيمة الوقت وحقيقته، فتربى في هذه الفترة الزمنية القصيرة على كيفية استغلال الوقت بصورةٍ سليمة؛ مما يتوقع أن يكون له أثره في حياته بعد الاعتكاف. (14) القرب من الله -عز وجل-، ومحبته تبارك وتعالى للعبد: فالمعتكف قد ابتعد عن الخلق، وأدى ما افترضه الله عليه من صيامٍ وصلاةٍ وزكاة، وتقرب إلى الله -عز وجل- بنوافلَ شتى من اعتكافِ وصلاةٍ وقراءةِ قرآن وذكرٍ وتفكرٍ وتأملٍ وغير ذلك، واعتادت النفس أداء هذه النوافل، فمن طريق هذا القرب من العبد لربه، وبعده عن الخلق، يأتي تبادل المحبة بين العبد وخالقه -عز وجل-، وهذا فضلٌ من الله -عز وجل- في رفع درجة المعتكف عنده

تبارك وتعالى، فهذا وعده سبحانه في الحديث القدسي قال: "لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه" (¬1). وشعور المعتكف بهذه المحبة تجعله يعمل على المحافظة عليها في حياته بعد الاعتكاف؛ لأن محبة الله له أثمن ما يملك الإنسان في الدار الفانية، والدار الباقية، ولابد له من العمل على تنمية هذه المحبة عن طريق زيادة القرب من الله -عز وجل-؛ لأن العبد كلما إزداد تقربًا إلى الله -عز وجل- زاده الله قربًا منه، وأثابه على القليل من هذا التقرب بالأجر والثواب العظيم، فعن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خيرٍ منهم، وإن تقرب إليَّ شبرًا تقربتُ إليه ذراعًا، وإن تقربَ إليَّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هَرْوَلة" (¬2). (15) تزكية النفس: قال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14]، والتزكية هي تطهير النفس، ورفع مكانتها عند الله -عز وجل-، بطاعته تبارك وتعالى، والاعتكاف مَيدانٌ رئيسي في تطهير النفس، وعند استمرارية مفهوم التزكية من اعتكف في مرحلة ما بعد الاعتكاف، فيحرص دائمًا على تطهير النفس من كل أمرٍ ليس فيه رضي الله تبارك وتعالى؛ فيكون ذلك عنوان فلاحه ونجاحه في دنياه وآخرته. (16) صلاح القلب وجمعه على الله -عز وجل-: وهذا مجْموعٌ فيه فضائل الاعتكاف كلها؛ إذ إن المعتكف إن أخلص النية ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (11/ 348، 349). (¬2) متفق عليه، البخاري (6970)، مسلم (2675).

في اعتكافه وحبس نفسه على طاعة الله، واشتغل بذكر مولاه، وابتغى بذلك رضاه، توجه القلب بكليته إلى خالقه يناجيه ويدعوه ويستغفره، ويفتقر إليه في كل شئونه، وفي هذا يقول ابن القيم: "وشَرعَ لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه: عكوف القلب علي الله تعالى وجمعيته عليه، والخَلوة به، والانقطاج عن الاشتغال بالخلق، والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته فيتولي عيليه بدلها، ويصير الهمُّ كله به، والخطرات كلها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيصير أنسه بالله بدلًا من أنسه بالخلق، فَيُعِدُّه بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حيث لا أنيس له، ولا ما يفرح به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم" اهـ. إنَّ الخَلوة والإنس بالله -عز وجل- التي يحياها المعتكف في معتكفه هي بمثابة تربية وتدريب له؛ لكي تستمر تلك الخَلوة والأنس بالله في حياته بعد الاعتكاف؛ حتى يتخلص في حياته العامة بعد ذلك من متعلقات النفس المادية، وتستمر تهيئة النفس للأنس بالله في وحشة القبور، وهذا يعني أن من فوائد الاعتكاف ما لا يقتصر على الدنيا؛ بل يتعداها إلى الحياة الآخرة، فالقبر أول منازل الآخرة. (17) حقيقة اتباع ومحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: اعتكف المعتكف اتباعًا للرسول واستمر في اعتكافه متابعًا لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم -. فاتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في جميع أقواله وأعماله يؤدي إلى أمور أساسية يسعى إليها المعتكف، منها: * محبة الإنسان لله -عز وجل-، وهذا مطلبٌ أساسي.

* محبة الله -عز وجل- لهذا الإنسان، وهي نتيجة أساسية لاتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -. * غفران الذنوب من الله -عز وجل- لهذا الإنسان. * ثم نتيجة تلقائية، وهي محبة الإنسان المسلم للرسول - صلى الله عليه وسلم -، محبة فعلية والتي تأتي عن طريق الاتباع، فالمحب الحقيقي هو المتبع لجميع أعماله وأقواله من غير زيادة أو نقصان، ودرجة التكامل في محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو التمسك بالسُّنَّة الواجبة والمستحبة على السواء؛ لأنها دليلٌ حقيقي على المحبة والاستكثار من الحسنات التي تأتي من طريق متابعة الإنسان المسلم لسلوكه - صلى الله عليه وسلم - بصورة عامة. قال ابن القيم -عليه رحمة الله: "لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفا على جمعيته على الله، ولمِّ شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى، وكان فضول الطعام والشراب وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام، مما يزيده شعثًا، ويشتته في كل واد، ويقطعه عن سيره إلى الله أو يضعفه أو يعوقه ويوقفه. اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله تعالى، وشرعه بقدر المصلحة بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه، ولا يضره ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة. فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره، وقطع نفسه عن كُلِّ شاغلٍ يشغله عنه، وعكف بقلبه وقالبه على ربه وما يقربه منه؛ فما بقي له هَمٌّ سوى الله وما يرضيه عنه" اهـ. ولهذا ذهب الإِمام أحمد إمام السنة إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة

كيف نحصل حلاوة الاعتكاف؟

الناس، حتى ولا لتعليم علم وإقراء قرآن؛ بل الأفضل الانفراد بنفسه، والتخلي بمناجاة ربه وذكره ودعائه. إذًا فمعنى الاعتكاف وحقيقته: قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق، وكلما قويت المعرفة بالله والمحبة له والأنس به؛ أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله بالكلية على كل حال. كان بعضهم لا يزال منفردًا في بيته خاليًا بربه، فقيل له: أما تستوحش؟، قال: كيف أستوحش وهو يقول: "أنا جليس من ذكرني". كيف نحصل حلاوة الاعتكاف؟ أما كون الطاعة ذات حلاوة فيدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ذاق طعم الإيمان" (¬1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثة من كن فيه وجد حلاوة الإيمان" (¬2)، والمقصود أن ذوق حلاوة الإيمان والإحسان أمرٌ يجده القلب، تكون نسبته إليه كنسبة ذوق حلاوة الطعام إلى الفم. واعلم -علمتَ كُلَّ خير- أن حلاوة الطاعة مَلاكها في جمع القلب والهَمِّ والسِّرِّ على الله. ويفسر ابن القيم ذلك قائلًا: الاعتكاف هو عكوف القلب بكليته على الله -عز وجل-، لا يلتفت عنه يَمنةً ولا يَسْرة، فإذا ذاقت الهمة طعم هذا الجمع اتصل اشتياقُ صاحبها وتأججت نيرانُ المحبة والطلبِ في قلبه .. ثم يقول: فلله هِمةُ نفس قطعت جميع الأكوان وسارت، فما ألقت عصا السير إلا بين يدي الرحمن تبارك وتعالى، فسجدت بين يديه سجدة الشكر ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (34). (¬2) متفق عليه، البخاري (16)، مسلم (43).

على الوصول إليه، فلم تزل ساجدةً حتى قيل لها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي في عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 30]، فسبحان من فاوت بين الخلق في هممهم حتى ترى بين الهمتين أبعد ما بين المشرقين والمغربين، بل أبعد مما بين أسفل سافلين وأعلى عليين، وتلك مواهب العزيز الحكيم: {ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4]. ثم يقول: وهكذا يجد لذةً غامرةً عند مناجاة ربه، وأُنسًا به، وقربًا منه، حتى يصير كأنه يخاطبه ويسامره، ويعتذر إليه تارة، ويتملقه تارة، وُيثني عليه تارة، حتى يبقى القلبُ ناطقًا بقوله: أنت الله الذي لا إله إلا أنت، من غير تكلفٍ له بذلك؛ بل يبقى هذا حالًا له ومقامًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه" (¬1). وهكذا مخاطبته ومناجاته له، كأنه بين يدي ربه، فيسكن جأشه ويطمئن قلبه، فيزداد لَهَجًا بالدعاء والسؤال، تذللًا لله الغني سبحانه، وإظهارًا لفقر العبودية بين يدي عز الربوبية؛ فإن الرب سبحانه يحب من عبده أن يسأله ويرغب إليه؛ لأن وصول بره وإحسانه إليه موقوفٌ على سؤاله .. بل هو المتفضل به ابتداء بلا سبب من العبد، ولا توسط سؤاله وطلبه، بل قدَّر له ذلك الفضل بلا سبب من العبد، ثم أمره بسؤاله والطلب منه إظهارًا لمرتبة العبودية، والفقر والحاجة، واعترافًا بعز الربوبية، وكمال غنى الرب، وتفرده بالفضل والإحسان، وأن العبد لا غنى له عن فضله طرفة العين، فيأتي بالطلب والسؤال إتيان من يعلم أنه لا يستحق بطلبه وسؤاله شيئًا، ولكن ربه تعالى يحب أن يُسْأل، ويرغب إليه، ويطلب منه .. ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (4499)، ومسلم (8).

برنامج الاعتكاف

ثم قال: فإذا تم هذا الذل للعبد تم له العلم بأن فضل ربه سَبَقَ له ابتداءً قبل أن يخلقه، مع علم الله سبحانه به وتقصيره، وأن الله تعالى لم يمنعه علمُه سبحانه بتقصير عبده أن يقدِّرَ له الفضل والإحسان، فإذا شاهد العبد ذلك؛ اشتد سروره بربه وبمواقع فضله وإحسانه، وهذا فرحٌ محمود غيرُ مذموم، قال الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] " اهـ (¬1). برنامج الاعتكاف: (1) الدخول إلى المعتكف مغرب يوم 20 رمضان، فليلة الحادي والعشرين هي أول ليلة من ليالي العشر. (2) لا تنس نية الاعتكاف، والأجر على قدر النية "إنما لكل امرئ ما نوى"، والنية تجري مجرى الفتوح من الله تعالى، فعلى قدر إخلاصك يفتح الله عليك بالنيات، مثلًا: * اتباع سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - طلبًا لمحبة الله ورسوله. * التماس ليلة القدر. * جمع شمل القلب. * التخلي عن هموم الدنيا ومشاغلها. * مصاحبة الصالحين والتأسي بهم. * شد المِئزر في العبادة والتخلص من الكسل. * عمارة المسجد. ¬

_ (¬1) تهذيب مدارج السالكين (2/ 872).

* التبتل. * التخلص من العادات وتحقيق معنى العبودية. هذه أمثلة والفتح يأتي من الله. (3) أول اعتكافك الإفطار، وتعوَّد منذ يومك الأول ترك العادات الملازمة والطقوس التي تصاحب الإفطار، تعوَّد البساطة واجتنب التكلف، تمرات وماء وقد أفطرت. (4) تعلَّم في هذا المعتكف ألا تضيع وقتك، فتمرات وكوب من الماء لا تستغرق لحظات، كن يقظًا. (5) ثم اجلس مكانك في الصف الأول خلف الإِمام، استعدادًا لصلاة المغرب مع استحضار النيات في المسارعة والمسابقة إلى الصف الأول. (6) ابدأ المسابقة والمسارعة في المسجد لكل أعمال الخير وإن استطعت ألا يسبقك أحدٌ إلى الله فافعل. (7) أحضر قلبك وكل جوارحك ومشاعرك، واحتفظ بكل حضورك العقلي والذهني في صلاة المغرب، هذه أول صلاة في الاعتكاف، وسل الله بصدق: التوفيق والإعانة وألا تخرج من هذا المكان إلا وقد رضي ربك عنك رضًا لا سخط بعده، وأن يتوب عليك توبة صدق لا معصيةً بعدها، وأن يقبل عملك ويوفقك فيه ويرزقك الإخلاص في القول والعمل، وأن يصرف عنك القواطع والصوارف، وأن يرزقك إتمام هذا العمل ولا يحرمك خيره، ركز في هذه الأدعية وأمثالها، وابتهل إلى ربك وتضرع؛ فإنه لا يرد صادقًا سبحانه. (8) لا تتعجل وتعلَّم وتعوَّد ذلك، ألا تتعجل الانصراف بعد الصلاة؛ فإنك لن تخرج من المسجد، احتفظ بحرارة الخشوع بعد الصلاة أطول فترة

ممكنة، أذكار الصلاة ثم الدعاء .. ثم انشغل بذكر الله حتى يأتي وقت الطعام وتُدعى إليه. (9) اضبط بطنك في هذا الاعتكاف، فإن أخسرَ وقتٍ تفقده هو الذي تقضيه في الحمَّام، فكُلْ ما تيسر ببساطة مما تم إعداده في المسجد، ولا تأمر ولا توص أن يأتيك الطعام من البيت أو من الخارج، ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس. تواضع وكل مما تيسر، وتعلَّم أن ما يَسُدُّ الرَّمَق ويقيم الأَوَد يكفي، فلا تأنف أن تأكل كِسرةً من خبز، ولا تتأفف من تصرفات مَنْ حولك أثناء الطعام، ألزم نفسك الذل لله، وترك التنعم في هذه الرحلة مع الله في الاعتكاف في بيته، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن عباد الله ليسوا بالمتنعمين، وكان يكره كثيرًا من الإرفاه" (¬1). (10) فترة الأكل لا تتجاوز خمس دقائق أو عشر دقائق على الأكثر، وقم فورًا، ادخل الحمام قبل الزحام، جدِّد نشاطك، توضأ، غيِّر ملابسك إن أمكن، خذ مكانك في الصف الأول، صل 6 ركعات بخشوع "صلاة الأوابين" إلى أذان العشاء. (11) اعلم أن القادمين لصلاة العشاء يختلفون عن المعتكفين، فقلوبٌ مقيمة في المسجد تختلف عن قلوبٍ أتت من الدنيا وهمومها؛ فاحذر المخالطة "اختبئ". (12) صلاة العشاء والتراويح يجب أن تختلف عند المعتكف عما ذي قبل: حضور القلب .. استشعار اللذة .. حلاوة المناجاة .. لذة الأنس بالله .. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (5/ 243)، وحسنه الألباني (353) في "السلسلة الصحيحة".

صدق الدعاء .. أنت رجلٌ مقيمٌ في بيت الله، لا خروج .. لا اختلاط .. لا معاصي .. كن أفضل. (13) احرص على كل الخيرات: ترديد الأذان، أو اجعل لك نصيبًا من الأذان، ثم ركعتي السنة فبين كل أذانين صلاة، ثم الدعاء بين الأذان والإقامة والانشغال بالذكر. (14) إذا انقضت صلاة التراويح أسرع إلى خِبَائِك في المعتكف، ودَعْكَ من السلام على الناس، وكثرة الكلام؛ فإن ذلك يقسي القلب، لا بد أيها الحبيب من العزلة الشعورية الحقيقية وأن تجاهد نفسك لكي تَقبل ذلك وتُحِبُّ ذلك وترضى بذلك. أسرع إلى خِبائك، ارقد وانشغل بالذكر، وسَرعان ما ستنام هذه الساعة، وهي مهمة طبعًا لجسدك في أول الليل، ففيها إعانة على النشاط في التهجد. (15) هي ساعة، ستون دقيقة تحديدًا إن بارك الله فيها ستكون كافية جدًّا، استعن بالله واسأل الله البركة في أوقاتك وأعمالك. (16) استيقظ وانطلق بسرعة وبنشاط، جدِّد وضوءك، تطيَّب، جمِّل ملابسك، استعد ببعض الأذكار والأدعية للدخول في الصلاة، صلاة التهجد. (17) تستمر صلاة التهجد إلى ما قبل الفجر بنصف ساعة، واجتهد في هذه الصلاة أكثر من غيرها، فإنه الثلث الأخير من الليل ساعة التنزل الإلهي، أكثر الدعاء واصدق في اللجوء إلى الله، جدِّد التوبة، سلِ اللهَ القبول. (18) السحور بمنتهي البساطة والسرعة لا يتجاوز 10 دقائق، ثم تجديد الوضوء حتى ولو كنت على وضوء، ثم التفرغ للاستغفار بالأسحار. (19) سابق إلى مكانك في الصف الأول خلف الإِمام، وانشغل بالاستغفار

فقط: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18]، حاذر: لا يتسامرون .. لا ينامون .. لا يغفلون .. (20) صلاة الفجر مشهودة، {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، كن في أشد حالات الانتباه، وتدبر الآيات وركز في الدعاء. (21) اجلس في مُصَلَّاك بعد الصلاة، ولا تلتفت بعد أذكار الصلاة .. أذكار الصباح المأثورة كلها لا تترك منها شيئًا. (22) اقرأ الآن بعد الانتهاء من أذكار الصباح ثلاثة أجزاء، وهذه القراءة بنية تحصيل الأجر، أما تلاوة التدبر فلها وقتٌ آخر. (23) صلاة الضحى ثمان ركعات بالتمام والكمال، احرص عليها وقد أديت شكر مفاصلك. (24) آن أوان النوم والراحة، لك أربع ساعات بالتمام والكمال نوم، ثم نومًا هنيئًا، ورُؤًى سعيدة. لا تنس قول معاذ: إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي، فاحتسب تلك الساعات، وأشهِد الله من قلبك أنك لو استطعت ما نمت؛ ولكن هذه النومة لا للغفلة ولكن للتقوي على الاستمرار. (25) استيقظ قبل الظهر بفترة كافية لاستعادة النشاط وتجديد الوضوء، وربع ساعة قبل الأذان في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وبتركيز شديد. (26) ردد الأذان، وصلِّ قبل الفريضة أربعًا واستغل باقي الوقت في الدعاء. (27) صلِّ الفريضة بحضور قلب فللصلاة السرية أسرار في الأنس بالله أكثر من الجهرية.

(28) صلِّ بعد الفريضة أربع ركعات، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من صلَّى قبل الظهر أربعًا وبعد الظهر أربعًا حَرَّمَ الله لحمه على النار" (¬1). (29) تلاوة قرآن، أربعة أجزاء إلى ما قبل أذان العصر بربع ساعة. (30) ربع ساعة قبل الأذان في قول: الكلمتان الحبيبتان "سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" تحببًا وطلبًا لمحبة الله. (31) صَلِّ قبل الفريضة أربعًا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رحم الله امرءًا صلَّى قبل العصر أربعًا" (¬2). (32) اقرأ بعد صلاة العصر ثلاثة أجزاء وقد تمت لك الآن عشرة أجزاء قراءة. (33) قبل المغرب بنصف ساعة أذكار المساء بتركيز ودعاء. (34) الوقت قبل أذان المغرب في غاية الأهمية، استحضر الدعوة المستجابة للصائم، وأنت في نهاية اليوم وفي غاية التعب من كثرة العمل لله، انكسر وذِلَّ واطلب الأجر، واحتسب التعب، واسأل الله بتضرع أن يقبل منك عملك، ولا تنس الدعاء بظهر الغيب لأهلك وللمسلمين، ولن أعدِمَ منك دعوةً لي بظهر الغيب. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (6/ 325)، وصححه شعيب الأرنؤوط. (¬2) أخرجه أحمد (2/ 117)، وحسنه الألباني (3493) في "صحيح الجامع".

نصائح الاعتكاف

نصائح الاعتكاف (1) محظورات: * ممنوع الكلام: إياك وكثرة الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد القلوب عن الله القلب القاسي. * ممنوع الهزار: إياك والضحك؛ فإن كثرة الضحك تُميتُ القلب، دعك من التهريج، اترك المزاح تمامًا أنت في بيت الملك العظيم، الزم السمت الصالح، وكن في هذه الفترة متواصل الأحزان. * ممنوع الاختلاط: لا تنشغل بغيرك، الاعتكاف في المسجد اعتكاف جماعي ومعك أناسٌ كثيرون، الطباع مختلفة، والبيئات متنوعة. لا تشغل عينك بمتابعة النظر إلى الآخرين. لا تشغل أذنك بسماع المناقشات والحوارات. لا تشغل قلبك بالتعليق على الأحداث. لا تنشغل بغيرك .. دع الخلق للخالق .. انشغل بحالك مع الله، حاول أن تنسى الناس.

* ممنوع التليفون داخل المسجد: أغلق تليفونك تمامًا، والأفضل أن تكون قد تركته في بيتك مع الدنيا، ممنوع دخول الدنيا إلى بيت الله، إن وُجِد فهو اتصال واحد يوميًّا يسمح به فقط للاطمئنان على أهلك، لا رنات، ولا رسائل. * ممنوع الخروج من المسجد: آخر حدود عالمك الخاص: حيطان المسجد وأبوابه .. آخر حدود عالمك الخاص: وجوه المصلين من أهل المسجد .. احذر أن يفلت قلبك من بين الجدران ويتجول في الشارع .. احبس قلبك هنا .. * ممنوع الكسل: كل الوقت عمل، وانظر إلى البرنامج، لا تجد دقيقة فراغ، مطلوب علو الهمة في هذه الفترة، فلا تفتر. * ممنوع الشهوات: هذا زمن المجاهدة: قلِّل طعامك. قلِّل نومك ما أمكنك. قلِّل كلامك ما أمكنك. لا تنتصر لنفسك، وأحسن إلى من أساء إليك. غُضَّ بصرك، واجعل عينك على قلبك دومًا. لا تُجب عن الأسئلة، ولا تتعرف على أحد.

* ممنوع الغفلة: جدِّد التوبة دائمًا، ولا تترك نفسك بدون عمل، بل اعمل وادأب، وقاوم الفتور، وإياك والكسل والدَّعَة والنوم، واستعن بالله. * ممنوع الكبر: عند التعامل مع الآخرين، قد تبدو تصرفات غير مقصودة؛ ولكنها تشير إلى أمراض قلبية خطيرة من الكبر، والغرور، والعجب، ورؤية النفس، واحتقار الآخرين وازدرائهم والتعالي عليهم، وكل هذه الأمراض محبطة للأعمال؛ فاحذر واحترس، واضبط نفسك على أدب الإِسلام: لا تنظر إلى أحد شَزَرًا. لا تُشِرْ إلى أحدٍ بإصبعك. لا ترفع صوتك. لا تسخر من أحد. إياك وتصعيرَ الخَد للآخرين. احذر الغيبة والنميمة والبهتان القلبي. فتح ثغرات لذوى الهمم العالية: - ختمة من الفجر إلى المغرب. - ختمة من المغرب إلى الفجر. - صلاة 100 ركعة أو أكثر في ليلة أو يوم، {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]، كل يوم 100 ركعة في 10 يوم = 1000 ركعة. - الذكر 12000 مرة تسبيحة في يوم وليلة كأبي هريرة. - تكوين أكبر رصيد من الحسنات في الاعتكاف.

- الدعاء لمدة ساعة كاملة دون انقطاع. - الدعاء في سجود لمدة نصف ساعة متواصلة. - الدعاء بجميع أدعية السُّنة، وخذ معك كتاب "مختصر النصيحة" للمقدم أو "الدعاء" للقحطاني. - تعوَّد أن تربط المصحف بيدك، أقصد ألا تتركه من يدك أبدًا، لتكون عادةً طبيعية لك بعد رمضان. - فكِّر في القيام بأعمال كبيرة فذَّة ترفعك عند الله، واكتبها في كراس ووقِّت لها قبل دخول الاعتكاف. - راجع موضوع "الطفرات" في "عمرة رمضان". يفتح لك ثغرات أخرى أكثر، والله المستعان. في نهاية فترة الاعتكاف نجد أن الصلة الإيجابية بين العبد وخالقه -عز وجل- قد ازدادت في استمراريتها على مدار الليل والنهار، سكن فيها المعتكف إلى بارئه في بيتٍ من بيوت الله -عز وجل-، أحبَّ الله -عز وجل-، ووجد هذا الحب سبيلًا إلى قلبه عن طريق لزومه لبيت الله -عز وجل-، معرضًا عن حياةٍ دنيا أحبها وجمع لها، وفطم نفسه منها لفترة الاعتكاف. وَجَدَ هذا الحُبُّ سبيلًا إلى قلبه، عن طريق لزوم طاعته -عز وجل-، من أداء الفرائض، وقيام بالنوافل المتعددة، وتعتري النفوس المؤمنة الصادقة مشاعر الحب هذا، وهي تتمنى الشوق إلى لقاء الله؛ لأنها ذاقت لذة هذا الحب، ذاقت لذة المناجاة، وذاقت لذة الخشوع، وذاقت لذة انهمار الدموع من خشيةِ الله وتعظيمه، وذاقت لذة راحة النفس، وذاقت لذة الطاعة بصورتها الكلية؛ فكان هذا الحب الذي جاء نتيحة قرب العبد من ربه -عز وجل-.

عمرة رمضان

عمرة رمضان مكافأة نهاية الخدمة

عمرة رمضان وأقبلت أيام الخير: أحبتي في الله، أقبلت أيام الخير، وهذه الأيام تمر وتجري وتمضي علينا، وينقضي العمر ويأتي الموت بما فيه، وتقوم القيامة وعندئذ يتحسر الإنسان ولا تنفعه الحسرة، ويندم ولات حين مندم، ويقدم أعذاره فلا تقبل: {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 10 - 15]، نسأل الله أن يرزقنا غنيمة الأوقات، قال الله -عز وجل-: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62] جعل الليل والنهار خلفة، يخلف أحدهما الآخر ليستدرك العبد ما فاته، ودخول رمضان غنيمة تحتاج أن تغتنمها اغتنامًا حقيقيًا. عظمة رمضان: أيها الإخوة، أرأيتم لو أن رجلًا رُزِق بزوجة صالحة على خُلُق ودين وجمال وحسب، كيف يكون حاله؟!، إنه قد اجتمع له الخيرُ كله، وهذا المعنى نجده هنا، إذا اجتمع شرف الزمان وشرف المكان وشرف العبادة، والزمان الشريف هو رمضان، رمضان وما أدراك ما رمضان؟، شهر عظيم، عظيم بكل معاني الكلمة، يكفي في ذلك أن الله سماه باسمه في كتابه العزيز فقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]، وفرض صومه: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. يكفيك فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدركه شهر رمضان فلم يففر له فأبعده الله

لماذا نعتمر؟

في النار" (¬1)، ولذلك قلت مرارًا: إنني لا أتخيل السنة بدون رمضان، رمضان هو ترمومتر السنة، هو الضابط للسنة، وكأني بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها" (¬2)، كأني بهذا المعنى في رمضان، كأن المعنى عندي تحترقون تحترقون طوال السنة، فإذا جاء رمضان أطفأ نيران السنة كلها فهو موسم عظيم جدًّا. وكما قلت بأننى لا أتخيل السنة بدون رمضان، فإنني أقول: لا أتخيل والله وجه الأرض بدون الكعبة، وهذا شرف المكان، قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125]، فهذه الكعبة أمان وقيام للدين؛ لأنه إذا هدمت الكعبة قامت القيامة، وقد قال الله -عز وجل-: {جَعَلَ الله الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97]، قال العلماء: تقوم به أديانهم، فقيام الدين بالكعبة أمرٌ ظاهر .. مادامت الكعبة موجودة فالدين موجود. لذلك ينبغي أن تفقه هذا الأمر وتفهمه إذا أردت أن تؤدي عمرة رمضان؛ فاعرف شرف الزمان وشرف المكان. لماذا نعتمر؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" (¬3)، فلابد من تحرير النية وتمحيصها قبل التفكير في أداء عمرة في رمضان، وإلا ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان (409)، وصححه الألباني (75) في "صحيح الجامع". (¬2) أخرجه الطبراني (1/ 91) في "الصغير"، وحسنه الألباني (357) في "صحيح الترغيب والترهيب". (¬3) متفق عليه، البخاري (1)، ومسلم (1907).

فإن هذا العمل العظيم -عمرة رمضان- يصبح عند فساد النية هباءً منثورًا، تعالوا لنحرر ابتداء لماذا نعتمر في رمضان؟ أولًا: الرحلة إلى الله: قال بعض السلف: ذكرتني هذه الرحلة بالرحلة إلى الله. عندما تذهب إلى العمرة، تذهب إلى من؟ .. ترتحل إلى من؟ .. إنك تكون في رحلة إلى الله تعالى، تفهم فيها معنى الفرار إلى الله: {فَفِرُّوا إِلَى اللهِ} [الذاريات: 50]، وترى فيها معنى الهجرة: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه" (¬1). فلابد أن تفهم في العمرة أنك مهاجر إلى الله، فارٌّ إلى الله، مرتحلٌ ذاهبٌ إليه، وهذا كله يدخل في معنى كلمة "لبيك اللَّهم لبيك". ثانيًا: التلبية والفرار إلى الله: كثيرٌ من الناس يردد هذه التلبية ولا يفهم معناها، ولبيك معناها: جئتك يا رب .. أستجبت لأمرك .. كان بعض السلف إذا ضاق صدره دخل بيته وأغلق على نفسه الباب وقال: إلهي .. إليكَ جئتُ، هذا المعنى تجده حقيقة في العمرة، وأنت ذاهب إلى بيت الله تقول: يا رب جئت إليك، لذلك فإن الذي يحس هذا المعنى لا يردد التلبية على أنها نشيد أو أغنية تقال كما يفعل كثيرٌ من الناس، لا .. وإنما يلبي من قلبه، بل يُلبِّي قلبُه، فقلبه هو الذي يردد: لبيك اللَّهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (10).

لذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من مُلَبٍّ يلبي إلا لَبَّى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مَدَر، حتى تنقطع الأرض من ها هنا ومن ها هنا" (¬1)، فيصبح هذا الملبي مركز الكون، كل ما عن يمينه يلبي معه، وكل ما عن شماله يلبي معه، وهو نقطة مركز الدائرة، فاستشعار ذلك يملأ القلب خضوعًا وخشوعًا للملك جلَّ جلالُه، قال جابر - رضي الله عنه -: "خرجنا من المدينة نصرخ بالحج صراخا" (¬2)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خير الحج العَجُّ والثَّج" (¬3). العج هو رفع الصوت بالتلبية، والثج: كثرة إراقة الدماء، لبيك اللَّهم لبيك .. تقول: جئت إليك، جئت إليك بذنوب العمر .. بهموم العمر .. بمآسي السنين .. بكُرَب الحياة .. جئت إليك وليس لي غيرك .. ومن ذا الذي أذهب إليه سواك؟! .. عبيدك سواي كثير وليس لي غيرك .. لبيك .. عندما تقولها بهذا المعنى؛ فسوف تكون من قلبك .. من عقلك .. من عينيك .. تكون لبيك من كل ذرة في جسمك، بكل كِيانك، لبيك حقيقة، فالمعنى الثاني من معاني العمرة: الفرار إلى الله، فرار من الفتن، فرار من الدنيا، فرار من الماضي الحزين إلى الله الرحيم الحَنَّان. ثالثًا: الهجرد إلى الله: والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، وفي قصة قاتل المئة، أمره العالم أن يخرج من بلده. لأنها بلد سوء، وأن يذهب إلى بلد آخر فيها أناسٌ صالحون ليعبد الله معهم، وهذا المعنى نجده في العمرة، فأنت مهاجر إلى الله، تركت ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (828)، وصححه الألباني (5770) في "صحيح الجامع". (¬2) أخرجه مسلم (1247). (¬3) أخرجه الترمذي (827)، وحسنه الألباني (1500) في "الصحيحة".

ذنوبك، ومعاصيك وغفلتك .. تركت أهلك، ودنياك، تركت كل شيء وجئت لربك وليس معك شيء من الدنيا لتعبد الله مع الصالحين من عباده في أطهر بقعة على ظهر الأرض؛ لذلك فلابد أن نتكلم عن النية: لماذا نعتمر؟، لماذا ذهبت إلى عمرة رمضان؟ هل لأنها صارت عادة عندك؟، وهل لو أنك لم تذهب سيتكلم الناس عنك بسوء؟، وقد يكون أحدهم قد مَلَّ من مشاكل الدنيا فيذهب إلى العمرة ليستريح من ذلك العناء، يذهب متفرجًا، ويقول: رمضان هناك له لذة، لا يوجد أولاد ولا مشاكل، أو يذهب إلى الحرم لكي يرى المشايخ ويجلس معهم .. هذه كلها نيات فاسدة، لماذا تذهب؟ جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، الرجل يغزو في سبيل الله يريد الأجر والذكر فما له؟، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا شيء له" (¬1)، فإذا اختلطت عليك النية بإرادة وجه الله وإرادات أُخَر فسد عملك ولا شيء لك ولا أجر لك، لا بد أن تتخلص من كل النيات الفاسدة وكل الآفات المهلكة، فتنوي نية صالحة متجردة خالصة هي: الرحلة، والفرار، والهجرة إلى الله وحده. رابعًا: التبتل: إننا نحتاج أن نعمل أعمالًا جديدة، نريد أن نقوم بأعمال لم نقم بها قبل ذلك، هذه الأعمال الجديدة تجدد الإيمان، تنشط الدورة الإيمانية، ومن هذه الأعمال التبتل، والتبتل معناه الانقطاع: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8]، أي انقطع إليه انقطاعًا .. وأنصحك أن تبحث أحيانًا عن مسجد ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي (3140)، وصححه الألباني (52) في "السلسلة الصحيحة".

بعيد عن حيك، لا تعرف فيه أحدًا، ولا يعرفك فيه أحد .. اذهب وامكث هناك يومًا كاملًا من العشاء للفجر، أو من الظهر إلى العشاء، انقطع تمامًا .. ليس معك تليفون، ولا جَوَّال، ولا أحد يعرفك، ولا أحد يصل إليك ويراك، وتلبس ثيابك وتجلس مسكينًا فقيرًا ذليلًا متمسكنا، تنقطع عن انشغالاتك بالدنيا وتُقبل على الله بكل قلبك. وفرصتك لذلك التبتل في الكعبة أعظم وأفضل عندما تترك زوجتك وأولادك وعملك ومالك وأصدقاءك وزملاءك وتليفوناتك وتنقطع لعبادة الله وحده لا شريك له. إن معنى التبتل الانقطاع، أما أن تذهب إلى هناك ومعك هواتفك وتتابع عملك من هناك .. ماذا فعلتم؟، ماذا اشتريتم؟، ماذا بعتم؟، هذا ليس معنى التبتل. أنت قلت: لبيك لا شريك لك، فلماذا جعلت معه شركاء، لبيك يا الله. أم لبيك للمصنع؟، لبيك يا الله أم لبيك للشركة؟، هل تقول: نعم أنا معك لكن أنا أيضًا مع الناس ومع مصالحي وشهواتي وآمالي الدنيوية ... هذا لا يصح أبدًا. الملك لا يرضى ذلك، ولا يقبله، إما هو وحده وإلا فلا .. تبتل .. انقطع .. اترك كل شيء خلف ظهرك، حاول أن تنسى الدنيا بما فيها ومن فيها، لذلك إياك أن تتكلم وأنت هناك في التليفون كل الأيام بل اجعله للضرورة فقط كأن تطمئن على زوجتك وأولادك، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان معتكفًا وجاءت إليه السيدة صفية - رضي الله عنها - تزوره، وخرج معها فأوصلها إلى بيتها، فتعلمنا من هذا جواز السؤال للاطمئنان على الزوجة والأولاد. كل عمل بدليل إنه شرع ودين.

لا بأس أن تطمئن على أهلك، بل هذا هو المطلوب منك أن تسأل عن أخبارهم، وتطمئن على أحوالهم؛ لأنهم مسئوليتك، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" (¬1)، هذه مسئولية شرعية وليست دنيا، أما المصنع والعمل فدعك من كل هذا. نريد أن نعيش حياتنا يومًا بيوم، فما أسرع موت الناس اليوم، اللَّهم ارزقنا حسن الخاتمة، نريد أن نستفيد من موت الناس من حولنا ألا نعيش الدنيا باتساعها .. بطول الأمل فيها، بل عش كل يوم جزئية مستقلة بذاتها. أيها الإخوة .. نحن اليوم على قيد الحياة، وغدًا في علم الله، لا ندري ماذا يكون فيه، فأتقن عبادتك في يومك ودعك من كثرة الشواغل، وحقق معنى التبتل وهو الانقطاع للعبادة ودعني أنتقل معك مرة ثانية إلى النيات: لماذا نذهب إلى العمرة؟ لأن في هذا جوابُ كثيرٍ من الإشكالات، فإن بعض الناس يذهب إلى العمرة، ثم يأتي يشكو ويقول: ذهبت إلى العمرة، ولكني لم أجد قلبي .. كنت أظن أني سأكون هناك في قمة الإيمان وسأشعر بروحانية كأنني أطير في السماء وأعيش في الجنة، كنت أظن أني سأموت من الفرح والسعادة، ولكني لم أجد شيئًا من ذلك للأسف الشديد!، إن كثيرًا من المسلمين يعيش وهمًا .. وهما حقيقيًّا .. يظن أنه بمجرد أن يذهب ويرى الكعبة سيطير بجناحين!! أقول: لا يا أخي، بل هذا الأمر يحتاج إلى عمل إلى عبادة حتى يتحصل لك ما تتمناه .. أنت لماذا ذهبت إلى هناك، لو قلنا: للتبتل، فهذا يعني أنك ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (853)، مسلم (1829).

ذاهب لعبادة الله، صلاة وذكر ودعاء وطواف وقراءة قرآن واستغفار .. إن فعلت ذلك وداومت عليه وجدت ثمرته وإلا فلا ولكل سلعة ثمن. بعض الناس يذهب فيقوم بالعمرة فقط، ثم يذهب ليجلس في الفندق ويصلي في المسجد المجاور للفندق!، وكأنها سياحة! وبعض الناس -للأسف الشديد! - يقضي أيامه هناك نائمًا، حتى في الاعتكاف في العشر الأواخر، تجده يصلي الظهر ثم ينام، ويصلي العصر ثم ينام، فمن أين إذًا تجد قلبك؟!، وكيف بحالك هذه تجد قلبًا؟! حج الإِمام مسروق بن الأجدع التابعي المعروف فما نام إلا ساجدًا، إنه لم يضع جنبه على الأرض، وما نام على ظهره، وإنما كان يغلبه النوم وهو ساجد، ما نام على سرير، ولا استلقى على ظهره!، كان يصلي طوال الوقت، فكان من طول الصلاة ينام وهو ساجد، هذه هي الهمة، إننا نذهب بنية التبتل، فلابد أن نعمل حقيقة، ونجتهد في هذا العمل. من يذهب بنية التبتل لا بد أن يكون له برنامج عمل يقوم به، ينظر أيهما أفضل: الصلاة أم الطواف أم تلاوة القرآن أم الذكر أم حضور مجالس العلم، ماذا يعمل؟، وماذا يقدم؟. يقول العلماء: إن كل عمل لا يؤدى إلا في محل ووقت فهو واجب الوقت. فأفضل الأعمال ما كان موافقًا لمكانك ووقتك، فعندما تكون في الحرم؛ دروس العلم موجودة لكنها موجودة في أماكن أخرى وفي أوقات أخرى، تستطيع أن تجلس فتنشغل بالذكر، لكن الذكر له أوقات غير محددة، بل تستطيع أن تذكر في أي وقت وفي أي مكان، إذا الطواف يُقَدَّم، تقرأ فيه القرآن وتدعو وتذكر .. لأن الطواف لا يوجد إلا حول الكعبة، فهذا محله وهذا وقته فهو أولى، وهذا من فقه العبادة ..

بعض الناس لا يطوف إلا طواف العمرة فقط، وهذا فهم خاطئ، بل كلما وجدت السبيل للطواف طف، كلما دخلت الحرم ووجدت السبيل للطواف طف. وقد تجد من يقول: الطواف فيه اختلاط، والنساء يسرن إلى جوارك وخلفك وأمامك، أقول: وهل وقت الطواف يشعر فيه الإنسان بالنساء؟، إنك تحتاج إلى علاج قوي من البداية، لا بد أن تفهم أولًا ما هو قدر الكعبة، ولابد أن تفهم معنى الحب معنى حب الله سبحانه. فحين تفهم معنى الحب، وتعرف الله سبحانه، وتعرف أنك في بيته، وتعرف قدر بيته سبحانه وتعالى، وأنت تطوف حول بيت حبيبك بالحب؛ فلن تشعر ساعتها بمن حولك. ولكن بعض الناس أساء إلى الحب، فالحب معنى، والعلماء يقولون: الألفاظ قوالب المعاني، فلو أنك وضعت المعنى في قالب معين فإنك بهذا تُضيِّقُه .. تُصَغِّره، فلو أردت أن تقول لإنسان: ما هو الحب؟، فقد أخطأت في الحب. الحب معنى فلا يوضع في قالب، ولا يُحَجَّم، الحب معنى سام جدًّا، معنًى عالٍ، وخصوصًا إذا تكلمنا عن حب الله، فهو معنى يُحَس .. يُعَاش، ولا يُوصف، هذا ما أطالبك به؛ أن تذهب إلى العمرة بالحب، وبالطبع إضافة الشرطين الآخرين الخوف والرجاء، وكذلك أن تصوم رمضان بالحب والخوف والرجاء، أن تصلي بحب وخوف ورجاء، وهكذا كل عباداتك وأحوالك مع الله، ساعتها ستعيش معانيَ لا تستطيع أن تصفها، إذا سئلت: بماذا تشعر؟، تقول؛ أشعر أني أحب الله جدًّا .. أحس أني أحب الله حبًّا شديدًا، هذا المعنى لا يوسف وإنما يُحَسّ فقط.

وهناك معان في الإِسلام لا تفسر مثل: قرة العين، والسكينة، والحب، فهذه أشياء لا توصف، لا تُعَلَّم، لا أستطيع أن أُعَلِّمك كيف تحب الله؛ وإنما أستطيع أن أقول لك: افعل كذا لكي يحبك .. الشاهد: أنك عندما تشرع في الطواف تتذكر عظمة هذا البيت .. وشدة شوقك إليه، أحد الإخوة عندما ذهب إلى العمرة أول مرة ونظر إلى الكعبة قال: سأصاب بالذهول .. بيت ربنا فيه قطعة من الجنة: الحجر الأسود من الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضًا من اللبن فسودته خطايا بني آدم" (¬1)، فإذا لمست الحجر الأسود فقد لمست شيئًا من الجنة. ذهبت جارية إلى الحج؛ فقالت لمن برفقتها: أين بيت ربي؟، فكانوا يقولون لها: اصبري حتى تري بيت ربك، فلما دخلوا المسجد الحرام ورأوا الكعبة قالوا لها: هذا بيت الله، فجرت وهرولت وهي تقول: بيت ربي .. بيت ربي، حتى وضعت خدها على الكعبة فما رفعوها عن جدار الكعبة إلا ميتة!! هذا هو المعنى، وهؤلاء هم الذين شعروا به وأحسوه، بيت ربي .. بيت ربي!!، إحساسك عندما ترى الكعبة بأن قلبك قد طار والتصق بالكعبة .. ببيت ربك .. بيت حبيبك .. بيت الله، هذا هو المطلوب .. الله الذي لم تر منه إلا خيرًا، هو الذي أوصلك إلى الكعبة، فله الحمد والمنة سبحانه وتعالى. فإذا وصلت إلى هذا البيت ورأيته ولمسته وأنت الآن تطوف حوله، إن ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 307)، وصححه الألباني (2618) في "الصحيحة".

المشتاق ساعتها لا يحس بمن حوله، وإن المحب ساعتها لا يدري من بجواره؛ لأنه يطوف حول بيت حبيبه يناجيه وكأنه وحده معه. سادسًا: صحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حجة: هذه نية غالية بهمة عالية، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عمرة في رمضان كحجة معي" (¬1)، لو استشعرت عظمة هذا الوعد النبوي الصادق، أنك إذا اعتمرت في رمضان عمرة صادقة بنية خالصة ومتبعة بإحسان على منهج النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ تكون كأنك حججت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، يا لها من عمرة!! .. بل ركضة إلى الفردوس الأعلى .. انوِ صادقًا .. وإنما لكل امرئ ما نوى. سابعًا: مغفرة الذنوب المتقدمة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الجمعة إلى الجمعة، والعمرة إلى العمرة، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر" (¬2)، فانظر إذا اجتمعت لك جمعة في رمضان في العمرة فقد اجتمعت لك ثلاثة أسباب لمغفرة الذنوب المتقدمة في وقت واحد، فهذا حري أن تعود كيوم ولدتك أمك وصحيفتك بيضاء نقية لاذنب فيها. فألزم نفسك تلك النية، أنك تريد أن تُغسل مق ذنوبك، وتغتسل من خطاياك وآثامك، وتتطهر من غدراتك وفجراتك، تريد أن تبدأ حياةً جديدة بتاريخ ميلاد جديد؛ لتكون عبدا جديدا لله -عز وجل- .. فأقبل ولا تخف .. ثامنًا: أعالى القصور من أعالى الأجور: لا شك أنَّ تاجرًا حريصًا، وخبيرًا خِرِّيتًا لا يرضى بالغُبن في تجارته، فضلًا عن خسارته، وقد رأينا أنَّ التجار يسافرون إلى أقصى بلاد الأرض طلبًا لربحٍ ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (1764)، مسلم (1256). (¬2) أخرجه مسلم (233).

زائد، فكيف برجلٍ عمرُهُ قصير، وأجلُة قريب، وعملُهُ قليل، وجَهْدُهُ ضعيف؛ أمَامهُ فرصة أن تُحْسَبَ له الركعة بمئة ألف، والتسبيحة بمئة ألف، والحرف من القرآن بمئة ألف. واللهِ، إنه لفوزٌ عظيم، وفرصة لا تُعوَّض، إنها حقًّا غنيمة باردة، لا تعجب من تكرار هذه الكلمة معنا؛ فواللهِ أنا لا أدري كيف أشكرُ الله على هذه النعمةِ العظيمة، ولا أدري إلى أيِّ مدى سيبلغ حبُّ القلب لهُ سبحانه وتعلُّقه به بعد هذه المِنَنِ الجِسام. فإنه سبحانه وَعَدَ على الحسنة بعشر أمثالها، وقلنا: رضينا ربي، ثم وعد على الدرهم بسبعمئة في الإنفاق، فقلنا: رضينا ربي، وجعل النفقة في الحج والعمرة كالنفقة في سبيل الله بسبعمئة ألف أيضًا؛ فقلنا: رضينا ربي؛ فإذا بالكريم يَزيدنا: أنَّ الحسنة هناك في بيته الحرام في الكعبة بمئة ألف، وفي مسجد حبيبه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الحسنة بألف قياسًا على الصلاة، وهذا مذهب ابن عباس - رضي الله عنهما - المسألة: أنَّ كل الأعمال تُضاعف في الحرمين الشريفين. فأقبلْ يا بطَّال؛ فرصةُ العمر، {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 114 - 115] .. اغتنم هذه الفرصة وارحل إلى عمرة رمضان؛ تجد المضاعفات من الخيرات، والبركات والحسنات، والفرص والمكآفات. ولا يفوتني أن أُحَذِّرَك أنَّ مذهب ابن عباس - رضي الله عنها - هذا في غاية الخطورة؛ فإنه ثبت عنه - رضي الله عنه - أنه انتقل من مكةَ إلى الطائف، فقيل له: أترغبُ عن البلد الحرام؛ قال: وما لي لا أرغبُ عن بلدٍ تُضاعَف فيه السيئات كما تُضاعف فيه الحسنات. فكما بشَّرتُك أُحِذرك؛ أنه إذا كانت الحسنةُ بمئة ألف؛ فالسيئة بمئة ألف.

كيف تعتمر؟

ولعلَّه يدلُّك على هذا قولُ الله -عز وجل-: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] فتُوُعِّدَ بعذابٍ أليم لمجرد الإرادة، وهذا مُسَامَحٌ فيه في غير هذا المكان؛ فدَلَّ على أن المعاصي تُضاعف عقوباتهُا لشرفِ المكان. وإني وإن كان يَبهرُني أن يُكتبَ لك مئةُ ألف قيراط في الجنة بصلاة جنازة واحدة، القيراط كجبل أحد، تصديقًا بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إلا أنه يُفزعُنِي أن نظرةً واحدة إلى وجه امرأةٍ في الحرم تُكتب بمئة ألف زَنْيَة. الخلاصة: لماذا نعتمر في رمضان؟ (1) ليجتمع لنا أفضل الأعمال في شرف الزمان، وشرف المكان، وشرف الأعمال. (2) الرحلة إلى الله. (3) الفرار إلى الله. (4) الهجرة إلى الله. (5) التبتل والانقطاع والتفرغ لله. (6) صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة. (7) مغفرة الذنوب المتقدمة. (8) أعالي القصور من أعالي الأجور. ثم تعال إلى العمل نفسه: كيف نعتمر؟ كيف تعتمر؟ (1) النية: وقد قدمنا تحريرها.

(2) لا بد من تعلم أحكام العمرة قبل السفر، واعلم أن ذلك فرض عين عليك في هذا العلم، فلابد من أن تعلم كيف تؤدي العمرة على سنة النبي محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. أحكام الإحرام: لأن كتابنا ليس كتابًا فقهيًّا؛ فإننا سنتحدث عن أسرار شعائر العمرة، ويمكنك مراجعة أحد الكتب الفقهية لإتقان الشعائر، ولكن ببساطة اعلم أن أركان العمرة أربع: الإحرام، والطواف بالبيت سبعًا، والسعي بين الصفا والمروة سبعًا، والحلق أو التقصير. وإليك أخي أسرار الإحرام: أولًا: تعظيم لمقام الملك جل جلاله، ألا تدخل بيته أول قدومك عليه إلا بلباس هو يشترطه. ثانيًا: من أسرار لباس الإحرام أن تخلع كل شيء إلا ثوبين أبيضين، فهو أنقص من الكفن، فالكفن ثلاثة أثواب، لتستشعر بذلك الاستغناء عن الدنيا بأكملها، فأنت لا تحوز منها في هذا الحال إلا هذين الثوبين، غنيًّا به سبحانه وحده، مستغنيًا به عن كل ما سواه. ثالثًا: في هذه الملابس وفرضها على كل من أحرم للحج أو العمرة شعور بأن الناس سواسية أمام الله -عز وجل-، فكلهم غنيهم وفقيرهم، صغيرهم وكبيرهم، الأمير والوزير، والعامل والحقير، الكُلُّ قد كشف رأسه خضوعًا وإذعانًا لذي الجلال، لا يتميز أحد على أحد، الكُلُّ قد خلع اسم دكتور أو مهندس أو وزير أو أمير، وخضع الكل لاسم عبد، وهذا من أَجلِّ ما في الموقف، أن تنسى وظيفتك ومقامك الدنيوي وَيثْبتُ لك نسبتك إلى الله -عز وجل- عبد مربوب مقهور مطيع يلزم رسم الأدب وحدود الطاعة. رابعًا: من أهم مشاهد الإحرام أن تشهد عند نزع ملابس الدنيا ثم اغتسالك

ولبس الإزار والرداء فحسب كأنه أتاك ملك الموت فنزع روحك، وغسلوك وكفنوك، فلما باشرف الأهوال قلت كما يقول كل ميت: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99 - 100] وقد بقيت لك فرصة فقيل لك: ارجع، فرجعت بكفنك تنادي بأعلى صوتك .. لبيك اللَّهم لبيك، إذا استشعرت هذا، كل الذي قلته لك، استشعرته فعلا، فتخرج لبيك اللَّهم لبيك من عين قلبك بكل مشاعر وأحاسيس رجل أُعطِيَ فرصةً أخيرةً لمهلةٍ وجيزةٍ، فأقبل على ربه يقول لبيك .. أي جئتك .. جئتك .. جئتك .. ملازمًا لطاعتك .. خاضعًا لك .. مقيمًا على ذلك .. وأيضًا من أسرار الإحرام أنه تربية شديدة دقيقة لتتعلم الطاعة المطلقة دون تدخل العقل في أوامر الله، فممنوع في الإحرام لبس ساتر خاص غير الإزار لحفظ العورة المغلظة، ممنوع الطيب، ممنوع قص الشعر، ممنوع قص الأظافر، الصيد ممنوع، والزوجة ممنوعة، سبحان الملك إنه إحرام!! خامسًا: إحرام القلب قبل إحرام الجسد، إنك حين تنوي العمرة تبتغي وجه الله، لا بد أن يحرم القلب ابتداء بتوبة نصوح قبل الجسد، فكما يخلع الجسد ملابس الدنيا للإحرام ويلبس ملابس الآخرة، فلابد أن يخلع القلب أيضًا هم الدنيا، ويلبس هم الآخرة، فلا تلفته أثناء العمرة الصوارف ولا تقطعه القواطع. (4) التلبية: لكي تلبي من قلبك؛ لا بد أن تفهم معنى كلمة لبيك، وهي في الشرع كما هي في اللغة، المقصود واحد، فافهم معناها لتلبي ولا تغني، معنى لبيك: إجابةً ولزومًا لطاعتك، وقيل معناها: اتجاهي وقصدي إليك، وقيل معناها:

محبتي لك، وقيل معناها: إخلاصي لك، وقيل معناها: أنا مقيم على طاعتك، وقيل معناها: قربًا منك، وقيل: أنا ملب بين يديك، أي خاضع. والحقيقة أن معنى لبيك هو كل ما سبق .. كل ذلك؛ فقلها من قلبك. (5) رؤية بيت الله .. الكعبة بيت النور: لما أضاف الله تعالى ذلك البيت إلى نفسه ونسبه إليه بقوله -عز وجل- لخليله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26]، تعلقت قلوب المحبين ببيت محبوبهم، فكلما ذكر لهم ذلك البيت الحرام حنُّوا، وكلما تذكروا بُعْدَهم عنه أنُّوا .. فلله دَرُّها من رؤية!! .. رؤية البيت .. لحظات كأنها ليست من الدنيا .. بيتٌ خلق من الحجر .. وأضيف إلى الله فصار مغناطيس أفئدة الرجال .. بيتٌ من وقع عليه طرفه بُشِّرَ بتحقيق الغفران .. بيت من طاف حوله؛ طافت اللطائف بقلبه، فطوفة بطوفة، وشوطة بشوطة، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ بيتٌ ما خسر من أنفق على الوصول إليه ماله. بيتٌ ما ربح من ضن عليه بشيء. بيتٌ من زاره نسي مزاره، وهجر دياره. بيتٌ لا تستبعد إليه المسافة. بيتٌ لا تترك زيارته لحصول مخافة أو هجوم آفة .. بيتٌ من صبر عنه؛ فقلبه أقسى من الحجارة .. بيتٌ من وقع عليه شعاع أنواره، تسلى عن شموسه وأقماره ..

بيتٌ ليس العجب من بَعُدَ عنه كيف يصبر، إنما العجب ممن حضره كيف يرجع! عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ينزل على هذا البيت كل يوم مائة وعشرون رحمة: ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين" (¬1). ولله كم في رؤية البيت من نفحات ونفحات ومعان عطرات .. عجبًا للبيت .. عجبًا للكعبة .. أي سِرٌّ في النظر إليها .. والله إنها ليست من الدنيا هذه اللحظات .. آياتٌ تحير الألباب .. وجمالٌ ينسيك الدنيا بأسرها .. وجلالٌ دموع العين عنه جواب .. أي سر بين البيت والعين إذا ما نظرته .. وبين دموعها .. (6) الطواف: أولًا: لو لم يكن للطواف من فضل إلا قول الله تبارك وتعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26]، لكفاه. فقد استعمل الله الأنبياء لتطهير بيته للطائفين، وقدمهم على غيرهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاة، ولكن الله أحل فيه المنطق، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير" (¬2). ثانيًا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف بالبيت استلم الحجر والركن في كل طواف، وكان يلصق صدره ووجهه بالملتزم. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني (11/ 195) في "الكبير"، وضعفه الألباني (1760) في "ضعيف الجامع". (¬2) أخرجه ابن حبان (3836)، وصححه الألباني (3954) في "صحيح الجامع".

قال المُنَاوي: تبركًا وتيمنًا به سمي الملتزم؛ لأن الناس يعتنقونه ويضمونه إلى صدورهم، وصح أنه ما دعا به ذو عاهة إلا برئ، أي بصدق النية وتصديق الشارع والإخلاص، وغير ذلك مما يعلمه أهل الاختصاص. عن محمَّد بن المنكدر عن أبيه قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من طاف بالبيت أسبوعًا لا يلغو فيه كان كعدل رقبة يعد له" (¬1). ثالثًا: عن محمَّد بن المنكدر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من طاف بهذا البيت أسبوعًا فأحصاه؛ كان كعتق رقبة، لا يضع قدمًا ولا يرفع أخرى إلا حط الله عنه بها خطيئة وكتب له بها حسنة" (¬2). رابعًا: الابتداء بالحجر؛ لأنه وجب عند التشريع أن يعين محَلَّ البداءةِ وجِهَةَ المشي، والحجر أحسن مواضع البيت؛ لأنه نازل من الجنة، واليمين أيمن الجهتين. وطواف القدوم بمنزلة تحية المسجد، إنما شرع تعظيمًا للبيت؛ لأن الإبطاء بالطواف في مكانه وزمانه عند تهيؤ أسبابه سوء أدب، وأول طواف بالبيت فيه رمل واضطباع، وذلك لمعانٍ: منها ما ذكره ابن عباس - رضي الله عنهما -، من إخافة قلوب المشركين، وإظهار صولة المسلمين، فهو فعل من أفعال الجهاد، وهذا السبب قد انقضى ومضى، ومنها تصوير الرغبة في طاعة الله، وأنه لم يزده السفر الشاسع والتعب العظيم إلا شوقًا ورغبة. (7) تقبيل الحجر: وأعظم ما في الطواف تقبيل الحجر: ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان (3697)، وصححه الألباني (1143) في "صحيح الترغيب والترهيب". (¬2) أخرجه أحمد (2/ 3) وصححه الألباني (1140) في "صحيح الترغيب والترهيب".

* الحجر .. وما أدراك ما الحجر!! .. إنه من الجنة .. يا الله .. من الجنة شيءٌ على الأرض ثم لا نشتاق إليه!! .. ثم لا نذرف الدموع عنده وحواليه!! .. ثم لا نلثمه بشفاه القلوب ووجيبها!! .. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحجر الأسود من الجنة" (¬1). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كان الحجر الأسود أشدُّ بياضًا من الثلج حتى سودته خطايا بني آدم" (¬2)، نقل الحافظ في الفتح عن المحب الطبري قوله: في بقائه أسود عبرة لمن لا بصيرة له، فإن الخطايا إذا أَثرَّت في الحجر الصلد، فتأثيرها في القلب أشد. يا هذا .. سودت الخطايا الحجر وهو من الجنة، وأنت من التراب ومن الأرض، فانظر سودته وهو صلد، أفلا تُسوِّد القلبَ إذا عصى وهو من لحمٍ ودم!! * عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا: "إن الحجر والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة، طمس الله نورهما، ولولا ذلك لأضاءا ما بين المشرق والمغرب". * وقال صلى الله عليه وسلم: "إن مسح الحجر الأسود والركن اليماني يحطان الخطايا حطًّا" (¬3)، فيالجود عطاء الملك .. وياله من حجرٍ كريمٍ ميمون يأتي مَسْحُهُ بغفران الذنوب. عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا ما مس ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 307)، وصححه الألباني (2618) في "الصحيحين". (¬2) أخرجه أحمد (1/ 307)، وصححه الألباني (2618) في "الصحيحين". (¬3) أخرجه أحمد (2/ 89)، وصححه الألباني (2194) في "صحيح الجامع".

الحجر من أنجاس الجاهلية ما مسه ذو عاهة إلا شُفي، وما على الأرض شيء من الجنة غيرُه" (¬1). * عن ابن عباس مرفوعًا: "إن لهذا الحجر لسانًا وشفتين، يشهد لمن استلمه يوم القيامة بحق" (¬2)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليأتين هذا الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد على من استلمه بحق" (¬3). * أخي .. لقد بوب العلماء لتقبيله وفضله والمزاحمة عليه. فقد قبل عمر ابن الخطاب الحجر ثم قال: والله لقد علمت أنك حجر، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك. قال القاسم بن محمَّد: رأيت ابن عمر يزاحم على الركن حتى يدمى وقال: هوت الأفئدة إليه، فأريد أن يكون فؤادي معهم. وعن عبد الله بن عمر أنه استلم الحجر ثم قبل يده، وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله. (8) صلاة ركعتين خلف المقام: عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعًا، ثم صلى خلف المَقَام ركعتين (¬4). فبعد أن تنتهي من الطواف أخي الحبيب؛ صلِّ ركعتين سُنَّة الطواف خلف مقام إبراهيم، أو حيث تيسر بقدر إمكان القرب منه، ثم حاول أن تقف على ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي (5/ 75)، وصححه الألباني (2619) في "الصحيحين". (¬2) أخرجه أحمد (1/ 266)، وصححه الألباني (2184) في "صحيح الجامع". (¬3) أخرجه أحمد (1/ 247)، وصححه الألباني (5346) في "صحيح الجامع". (¬4) متفق عليه، البخاري (387)، مسلم (1700).

الملتزم بين الحجر وباب الكعبة، الصق بطنك وصدرك وركبتيك ووجهك بالكعبة، وناج ربك .. وناد ربك من قريب، وهنا تسكب العبرات وتحس بالقرب الحقيقي من باب مولاك .. ثم انطلق بعدها إلى زمزم. (9) التضلع من زمزم: فضل زمزم: * زمزم .. وما أدراك ما زمزم!! .. ركضة جبريل عليه السلام، هزمة الملك، سقيا إسماعيل، برة الشباعة، إيهٍ يا شرب الأبرار .. إيهٍ يا خير ماء .. ويا سيد المياه .. * قال وهب بن منبه: نجدها في كتاب الله، يعني زمزم، شراب الأبرار، مضنونة، طعامُ طُعم، شفاءٌ من سُقم، لا تُنْزِح ولا تُذَم. * غُسل قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء زمزم، اشرب وتضلع واغسل قلبك، عن أنس ابن مالك: كان أبو ذر - رضي الله عنه - يحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فرج سقفي وأنا بمكة، فنزل جبريل عليه السلام ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمةً وإيمانًا، فأفرغها في صدري ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج إلى السماء الدنيا، قال جبريل لخازن السماء الدنيا: افتح، قال: من هذا؟، قال: جبريل" (¬1). * خير ماء على وجه الأرض، خير ماء تشربه لتكون من خير أمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام من طعم، وشفاء من السقم" (¬2). ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (342)، مسلم (163). (¬2) أخرجه مسلم (2473).

* لا يتضلع منه منافق، عن عثمان بن الأسود، حدثني عبد الله بن أبي مليكة قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: من أين جئت؟، فقال: شربت من زمزم، قال: شربتها كما ينبغي؟، قال: وكيف ذا يا أبا العباس؟، قال: إذا شربت منها فاستقبل القبلة واذكر اسم الله، وتنفس ثلاثًا وتضلع منها، فإذا فرغت منها فاحمد الله، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم" (¬1). هذا الحديث قرة عين للمخلصين الصادقين، ويفصح المنافقين فحذار، فإن زمزم اختبار لقلبك، والتضلع: هو الإكثار من الشرب حتى يتمدد الجنب والأضلاع، فيقال: شرب فلان حتى تضلع أي: انتفخت أضلاعه من كثرة الشرب. * ماء زمزم لما شُرِبَ له، لماذا تشرب من زمزم؟، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ماء زمزم لما شُرب له" (¬2). قال الحكيم الترمذي لشارب ماء زمزم: إنْ شَرِبَهُ لشبع أشبعه الله. إن شربه لريٍّ أرواه الله. وإن شربه لشفاء شفاه الله. وإن شربه لسوء خلق حَسَّنَه الله. وإن شربه لضيق صدر شرحه الله. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (3061)، وضعفه الألباني (3052) في "ضعيف ابن حبان". (¬2) أخرجه أحمد (3/ 357)، وصححه الألباني (388) في "الصحيحين".

وإن شربه لانفلاق ظلمات الصدر فلقها الله. وإن شربه لغنى النفس أغناه الله. وإن شربه لحاجة قضاها الله. وإن شربها لأمر نابه كفاه الله. وإن شربه للكربة كشفها الله. وإن شربه لنصرة نصره الله. وبأية نية شربه من أبواب الخير والصلاح وفي الله له بذلك؛ لأنه استغاث بما أظهره الله تعالى من جنته غياثًا. * عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كنا نسميها شباعة -يعني زمزم- وكنا نجدها نعم العون على العيال. * قال وهب بن منبه: والذي نفس وهبٍ بيده لا يعمد إليها أحدٌ فيشرب منها حتى يتضلع إلا نزعت داءً وأحدثت له شفاءً. يقول ابن القيم عليه رحمة الله: جربت أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أمورًا عجيبة، واستشفيت به من عدة أمراض فبرئت بإذن الله. (10) السعي بين الصفا والمروة: * السر في السعي بين الصفا والمروة على ما ورد في الحديث، أن هاجر أُمِّ إسماعيل - عليه السلام - لما اشتد بها الحال، سعت بينهما سعي الإنسان المجهود، فكشف الله عنها الجهد بإبداء زمزم وإلهام الرغبة في الناس أن يعمروا تلك البقعة، فوجب شكر تلك النعمة على أولاده ومن تبعهم، وتذكر تلك الآية الخارقة لتبهت بهيمتهم وتدلهم على الله، ولا شيء في هذا مثل أن يُعْضَدَ عَقْدُ

القلب بهما بفعلٍ ظاهرٍ منضبط مخالفٍ لمألوفِ القوم، فيه تذلل عند أول دخولهم مكة، وهو محاكاة ما كانت فيه من العناء والجهد، وحكاية الحال في مثل هذا أبلغ بكثير من لسان المقال. * إذا دنوت من الصفا فاقرأ قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158]، ثم قل: نبدأ بما بدأ الله به، ثم ابدأ بالصفا فترتقي عليه حتى ترى الكعبة إن أمكنك ذلك، وتستقبل الكعبة وتوحد الله وتكبره وتقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده لا شريك له أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، قل ذلك ثلاث مرات، وتدعو بين التهليلات بما شئت من الدعاء المأثور، ثم أنزل لتسعى بين الصفا والمروة، فامش إلى العلامة الموضوعة عن اليمين وعن اليسار، وهو المعروف بالميل الأخضر، ثم اسعَ سعيًا شديدًا إلى العلم الآخر الذي بعده، وكان في عهده - صلى الله عليه وسلم - وادَي أبطح فيه دقاق الحصى، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُقطع الأبطح إلا شدًّا" (¬1). ثم امش صُعُدًا حتى تأتي المروة فترتقي عليها، وتصنع فيها ما صنعت على الصفا من استقبال الكعبة والتكبير والتوحيد والدعاء، وهذا شوط. * ثم تعود حتى ترقى على الصفا، تمشي موضع مشيك وتسعى موضع سعيك، وهذا شوط ثان، ثم إلى المروة وهكذا حتى يتم لك سبعة أشواط نهاية آخرها على المروة، وإن دعوت في السعي بقولك: "رب اغفر وارحم ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (6/ 404)، وصححه الألباني (2437) في "الصحيحة".

مشاهد العبودية في العمرة

إنك أنت الأعز الأكرم" (¬1)، فلا بأس؛ لثبوته عن ابن مسعود وابن عمر والمسيب بن رافع وعروة بن الزبير. مشاهد العبودية في العمرة: المشهد الأول: استشعار المنة: لا بد في البداية من معرفة فضل الله عليك بأن أذن لك بهذه العمرة، فالكعبة حُجَّةٌ لك أو عليك، الملك جل جلاله أدخلك بيته .. أتستحق هذا؟، والله لا أحد من المخلوقين يستحق ذلك ولكنه فضل الله الكريم، ولو عامل الله العباد بما يستحقون؛ فمن ذا الذي يستحق أن يدخله الله بيته؟!، فلذلك ينبغي أن تظل مستشعرًا فصلى الله عليك، أن أكرمك، وأدخلك بيته؛ فاحمده على ذلك. الكعبة حجةٌ لك أو عليك، فكم من أناسٍ أكثرُ منك مالًا، وأصح منك جسمًا، وأعلى منك همة في طلب الدنيا؛ ولكنه لم يذهب إلى العمرة أليس كذلك؟ .. وكم من أناس معهم المال الكثير ويستطيع أحدهم أن يأتي بتأشيرة العمرة في ساعة واحدة وهو جالسٌ في بيته؛ أو لا يحتاج إلى تأشيرة أصلًا بل هو من أهلها ولكنه حُرِمَ من العمرة؛ لأنه لا يهتم بذلك، لا يعنيه ذلك، لم يقذف الله في قلبه هذه الرغبة، ليس عنده شوق إلى بيت الله؛ لذلك نريد الشوق إلى بيت الله .. كنتُ جالسًا ذات يوم في الحرم أمام الكعبة وفوجئت ببعض الإخوة يقولون: تعالى يا شيخ من فضلك، قلت: ماذا حدث؟، قالوا: هناك رجل نريد أن تراه، دقيقة واحدة، لن نأخذ من وقتك كثيرًا، فذهبت معهم، ¬

_ (¬1) صحيح موقوفًا على ابن مسعود وابن عمر، وصححه الألباني في "مناسك الحج" ص 53.

فوجدت رجلًا كبير السنن يرتدي ملابس الإحرام ويجلس على الأرض فقالوا: هذا الرجل طاف ثلاثة أشواط فقط من طواف العمرة ولا يريد أن يكمل الطواف، فقلت له: لماذا يا حاج؟، هل أديت العمرة؟، قال: لا، قلت: فلابد أن تطوف سبعة أشواط، فقال: لقد تعبت، قلت: إذا نأتيك بكرسي متحرك لتكمل عليه الطواف، فقال: لماذا، وهل أنا مقعد مشلول؟! فقلت: لا عليك، استرح قليلًا، نم ساعة أو ساعتين في الفندق ثم تعال اعمل عمرة من البداية مرة أخرى، أو تكمل الطواف بعد أن تستريح الآن، يمكن أن تستريح ثلث ساعة ومادام الفاصل لم يطل أكمل الطواف وليس ثمة مشكلة، هيا أكمل أربعة أشواط أخرج؛ فقال: لا، يكفي ذلك!، قلت: إذًا ارجع ولكن احتفظ بثياب الإحرام ثم تعال غدا لتؤدي العمرة، فقال: لا، لقد مللت من هذه الثياب وسوف أخلعها!، عندئذ شعرت أني سأجن .. ماذا حدث؟!، كم من ملايين الناس يتمنون المجيء إلى هنا ولا يستطيعون، وهذا يأتي أمام الكعبة ولا يريد إكمال العمرة!!. ولما جلست وحدي أخذت أفكر في هذا، فللَّه الحجة البالغة، قلت: هذا من باب إقامة حجة الرب على العبد؛ لأن العبد يظل يقول: يا رب أريد أن أعتمر .. أتمنى عمرة .. لو أديت العمرة فسوف أهتدي وسوف تتحسن أحوالي، وحتى لا يأتي يوم القيامة ويقول: يا رب لو وفقتني لعمرة لاهتديت، فيقول الله له بهذه المواقف: بل هأنذا أعطيك عمرة، وأتيت بك حتى وصلت إلى بيتي، ولكنك لم تهتد ولم تتحسن، فيكون وجود الكعبة وذهابك إلى هناك وأدائك للعمرة من باب إقامة الحجة عليك أو لك.

المشهد الثاني: شعار العمرة .. لبيك لبيك، لا تنس ملازمة الطاعة والعبادة: أيها الإخوة، إنك إذا ذهبت إلى العمرة، فلابد أن يكون لك برنامج تقوم به، تفاجأ بأن كثيرًا من الناس يضيع وقته في لا شيء، لا يدري أين يذهب، ولا يدري ماذا يصنع، ويبحث عن الشيخ فلان والشيخ فلان فيقول: رأيت الشيخ فلانًا هنا، وتجد من يذهب يتجول في شوارع مكة، ويهتم بالشراء والتليفونات وشراء الملابس والهدايا. لماذا جئت؟!!، هذا السؤال لا بد أن يحكم تصرفاتنا، لماذا جئت؟. لا بد من برنامج: ستطوف كم مرة في اليوم؟، ولا تقل لي: كيف أكثر من الطواف مع هذا الزحام؟، بل طف وأكثر من الطواف. واعلم أن الزحام رحمة، كان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يجلس في الحرم، فرأى رجلًا يطوفُ وهو يحمل أُمَّه على رأسه؛ فأسرع وقام وطاف خلفه، ثم بعد أن قضى طوافه قال: والله ما كانت لي رغبةٌ في الطواف غير أني لما رأيت هذا يطوف وهو يحمل أُمه؛ ظننت أن سينزل الله عليه رحمة؛ فأردت أن يصيبني شيءٌ منها. لذلك أقول لك: قد يكون من بين هؤلاء الطائفين رجلٌ مرحوم فتنزل عليه وعليك رحمة، أنت لا تدري من الذي سيرحم في كل هؤلاء، ولا تدري من هو المخلص في كل هؤلاء الناس، لا تدري من في هؤلاء الناس ينظر الله إليه برحمة، فلا تخف من الزحام. يوم في حياة معتمر: رَتِّب لك برنامجًا، ولو أردنا أن نضع برنامجًا يوميًّا ثابتًا فسيكون لأصحاب

الهمة العالية الراغبين في الفردوس الأعلى من الجنة، الذين يريدون أن يرجعوا من العمرة وقد رضي عنهم ربهم؛ فأقترح عليك: 1 - أن تطوف في اليوم أربع مرات. 2 - تقرأ كل يوم عشرة أجزاء لتختم كل ثلاثة أيام. 3 - تصلي مائة ركعة في اليوم. 4 - استغفر ألف مرة. ولا أقصد ألف مرة تحديدًا وإنما للتكثير، لا أقصد تحديد العمل وإنما أقصد كثرة العمل، لو عشت حياتك الإيمانية هكذا في مكة أثناء العمرة تكون قد وصلت للهدف من العمرة، وإياك والمشاغل الفارغة هناك. * وأريدك وأنت تصلي في الحرم أن ترى الكعبة أمامك، دعك من أولئك الذي يصلون على السطوح بحجة أن صحن الطواف مزدحم وفيه نساء، أريد أن تظل الكعبة أمام عينيك طول الوقت؛ لكي تؤثر فيك، وتلهب مشاعرك، وتوقظك، وتفيقك، اقترب منها، فقد تنزل عليها رحمة فتنال منها نصيبًا، والقرب من الكعبة أيضًا يجعلك في وقار واحترام .. يجعلك في هيبة واحتشام على الداوم. * وأنبهكم إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وصلاة في مسجد الكعبة بمائة ألف صلى فيما سواه" (¬1)، الصلاة في المسجد بمائة ألف صلاة، وخارج باب الحرم بواحدة. المقصود: اجعل لك برنامجًا ولا تترك نفسك على هواها، والتزم ونافس ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني (1/ 700) في "الأوسط"، وصححه ابن عبد الهادي في "التنقيح" (2/ 111).

غيرك، وتابع وحاسب كل ليلة، في هذا البرنامج تنوي أن تطوف أربع مرات في اليوم، هذا على الأقل، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من طاف بالبيت أُسبوعًا لا يلغو فيه غفر له ما تقدم من ذنبه" (¬1)، قف أمام الحجر الأسود وارفع يدك لتشير إليه، وانو بقلبك الطواف، واجعل في نيتك أنك ستطوف ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك. وتجد من يأتي ليسأل: لو لمست امرأة في الطواف ينتقض وضوئي أم لا؟، إذا أحسست أنك مسستها توضأ، ولكن الأصل أنك تطوف بكل جوارحك فلا تشعر بأي شيء يحدث حولك. طف حول الكعبة .. حول بيت ربك وعينك على الكعبة، وتخيل كيف كان سيدنا إبراهيم يبني وإسماعيل يساعده .. وكيف كان المشهد عندما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضع الحجر الأسود .. تتذكر عبد الله بن مسعود عندما ضرب وهو يقرأ سورة الرحمن .. تطوف بالكعبة وتذكر سيدنا موسى وهو يطوف حولها. تتذكر النبي محمَّد - صلى الله عليه وسلم -وهو مضطجع في ظل الكعبة وخباب بن الأرتّ يقول له: يا رسول الله، ألا تدعو لنا؟، ألا تستنصر لنا؟. تلك هي الحياة وهذا هو الإيمان، تلك هي الطاعات، هذا هو الطعم واللذة الحقيقية. نحتاج أن نطوف في ذروة الحر ولا نبالي ولو مرة واحدة، وفي ظلمة الليل ولا نبالي بالنوم .. وفي شدة الزحام وتشعر أنك تطوف وحدك .. عيشوا هذه الحياة أيها الإخوة .. عيشوا هذه المعاني، دعوكم من هذه الحياة الكدرة التي نعيشها هنا .. لنتخلص منها قليلًا، ولنعش معاني الإيمان بقلوبنا. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان (3697)، وصححه الألباني (1143) في "صحيح الترغيب والترهيب".

الركعة هناك بمائة ألف كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لربيعة بن كعب الأسلمي: "فأعني على نفسك بكثرة السجود" (¬1)، وقال لثوبان: "عليك بكثرة السجود، فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة" (¬2). صل ألف ركعة .. صل ألفي ركعة .. صل عشرة آلاف، وهناك يستحب عدم إطالة الصلاة بل تُكْثِرُ الركعات، فليس من الفقه أن تمسك المصحف وتظل طوال الليل في ركعتين، بل زد عدد الركعات. ومن عجيب أن ترى من يجلس والإمام في الصلاة، الإِمام يصلي القيام وهو يجلس يتكلم في الدنيا، قم يا بني صَلِّ، يقول لك: الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يزد في رمضان ولا غيره على أحد عشرة ركعة، ويظل يناقش ويخرج بغير فائدة. دعك منه. أكثِرْ الصلاة، صلِّ صلاة الضحى من بعد الشروق حتى قبل الظهر بثلث ساعة، صل خمسين أو ستين ركعة من الظهر إلى العصر، ومن المغرب إلى العشاء، ومن العشاء إلى الفجر، صل ركعات كثيرة .. الركعة بمائة ألف، ولا تدري ماذا سيقبل؟، ربما تقبل سجدة فترحم بها، صَلِّ وزِد في الصلاة واستشعر معانيها. المشهد الثالث: أنت هنا في بيته، فاطلب وأنت قريب: ومن العجيب أنك تجد في الطواف مجموعة من الناس يمشون خلف واحد منهم يمسك كتابًا ويقرأ أدعية الطواف: دعاء الشوط الأول، وهم يرددون ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (489). (¬2) أخرجه مسلم (488).

خلفه بغير أي فهم لما يقول: هل هو يقرأ أم يدعو؟، هل هم يرددون فقط أم يدعون ويطلبون من الله جل جلاله؟ .. دعك من هذا الكلام الرسمي. أريدك أن تدعو من قلبك .. قل ما في قلبك .. اطلب من الله ما تريده .. اُشكُ لربك .. قل: يا رب، أنا متعب .. أنا ضعيف .. ومفتون. يا رب .. هذه المعاصي التي ارتكبتها لا أدري كيف تجرأت على فعلها! .. يا رب، خذ بيدي .. يا رب تب عليَّ .. يا رب اصرف عني السوء والفحشاء والمعاصي .. يا رب نجني .. يا رب لو تركتني سأضيع .. يا رب ليس لي غيرك، قل ما في نفسك وادع الله بما في قلبك ودعك من التكلف، واستشعر عظمة الطواف، واستشعر وأنت تطوف وعينك على الكعبة أنك تكلم الله من جوار بيته .. يا رب .. جئتُ إليكَ في بيتك فهل ستطردني؟! يا رب، إن كل مزور يكرم زائره، وقد جئتُ إليك، فهل تتركني أرجع بذنوبي كما جئت بها؟!، يا رب، أنت أكرم .. أنت أعظم .. أنت أحلم .. يا رب، اغفر لي .. لن أرجع مرة أخرى إلى داري محملًا بالذنوب، وإلا فالموت هنا أفضل لي .. يا رب، اقبض روحي أمتني، لكن لن أرجع كما جئت .. يا رب، جئت إليك وأنت الطبيب تعالجني .. هكذا كلِّم ربك، ناجه واطلب منه .. اشك إليه .. ابدأ دعاءك بحمد الله ثم الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع

رجلًا يدعو في صلاته فلم يحمد الله ولم يصلِّ على نبيِّه فقال: "لقد عَجَّل هذا" (¬1)، قبل أن تطلب أي شيء من الله ابدأ بالحمد والثناء عليه سبحانه، واشكره على نعمه، ثم صل على النبي محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ثلاثًا، ثم بعد ذلك اطلب. النبي - صلى الله عليه وسلم - علمنا في دعاء القنوت أن نقول: "اللَّهم اهدني فيمن هديت" (¬2)، فهو الذي هدى سحرة فرعون يملك أن يهدينا .. سبحان الملك!!، فلانة الممثلة وفلان المطرب؛ الله هداهم، فتقول: يا رب، اهدني فيمن هديت، يا رب، كما هديت هؤلاء اهدني، وكما تبت عليهم تب علي، وكما أصلحتهم أصلحني .. تضرع إلى الله واخفض صوتك وابك له. اقترب من الكعبة وقف تحت الباب في الملتزم وتعلق، وتكلم من تحت عتبة الباب، باب الكعبة، بث همك لربك، أدخل رأسك في الحجر الأسود وقبله وابك، ثم صل ركعتين في حجر إسماعيل كأنك داخل الكعبة، وارتكن على الكعبة وقل: يا رب، أسلمت ظهري إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك. هكذا عش حياتك الإيمانية؛ طواف وصلاة، وقراءة قرآن وذكر ودعاء، هناك في عمرة رمضان أعمال فذة تمثل طفرات في الإيمان، انفردت وحدك، تركت زوجتك وأولادك وأهلك وجئت هنا في الحرم فلابد أن تنظم وقتك، لا سيما مع عدم وجود المشاكل عندك الآن. وهنا يبدو للبعض أن يسأل: أيهما أفضل: حج المرء مع صحبة أو ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، والألباني في "صفة الصلاة" ص 86. (¬2) أخرجه أحمد (1/ 200)، وصححه الألباني (20) في "مشكاة المصابيح".

الاعتمار مع صحبة، أم وحدك؟، لا شك أن الصحبة معينة، والمنافسة نافعة، والمتابعة مشجعة، ولكن الانفراد هو الأولى؛ فلذلك يمكنك أن تجمع بين الأمرين، أن تجلس معهم ساعة الإفطار، أن تراهم في صلاة الجماعة، وفي غير ذلك انفرد بنفسك بعيدا عنهم، اجلس بين أناس لا يرفك فيهم أحد، اجلس وحدك، وابدأ في عمل بل أعمال لم تعملها قبل ذلك في عمرك، كما فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه، ختم القرآن في ركعة واحدة أوتر بها في الحِجْر. المشهد الرابع: طفرات إيمانية: لا بد من طفرات إيمانية، وفرصتك هناك في العمرة أفضل لكي تخرج من بئر الحرمان، وتجربة الحسرات، ومن وهدة الغفلة، ومن وادي المعاصي، لا بد من طفرات إيمانية ترفعك عاليًا لتخرج من هذه الغفلات المتتالية. أولًا: ختم القرآن في ركعة: في هذه الأوقات والأماكن اختم القرآن في ليلة كما فعل عثمان، قد تقول لي: وهل هذا ممكن؟!، هل يمكن ختم القرآن في ليلة؟!، أقول: نعم، وهذا هو فعل عثمان. استعن بالله وسوف يوفقك الله لذلك، اقرأ بعد الفجر، وبعد الظهر وبعد العصر، وبعد المغرب، وبعد العشاء ستختم ختمة وأنت مستريح بتؤدة .. قم بعملها مرة، إنك محتاح إلى طفرة كهذه .. طفرة كبيرة في أعمال الإيمان؛ لتتلخص من رق الذنوب التي تعيش فيها. ثانيًا: طواف وصلاة: أيضًا من الطفرات المطلوبة أن تطوف سبعة أشواط ثم تصلي ركعتين؛ ثم

تطوف سبعة أخرى وركعتين، ثم سبعة أخرى وركعتين، هكذا طوال الليل من بعد العشاء حتى الفجر، تبقى في الطواف فقط، صحيح ستؤلمك قدماك، وستتألم من ظهرك وقد تصاب بالصداع؛ ولكنها مرة لله -عز وجل-. ثالثًا: قيام الليل مئة ركعة: ومن الطفرات المطلوبة أيضًا أن تصلي من العشاء إلى الفجر ركعتين ركعتين، وتعبر حاجز المائة ركعة لتسجل عند الملك في السابقين الفائزين؛ لأنك ذكرت الله فذكرك. رابعًا: قلة النوم: ومن الطفرات الإيمانية أيضًا أن تقلل ساعات نومك ما استطعت .. رحم الله مشايخنا، كنا قديمًا نعيش الثلاثين يومًا من رمضان في الكعبة على التمر وماء زمزم فقط. طعام خفيف لا تحتاج معه إلى حمام ولا تصاب بمغص في البطن، ولا تشعر بكثرة النوم، بل تجد خفة ورقة، ودائمًا أقول: لو لم يكن في كثرة الأكل آفة إلا كثرة دخول الحمام لكفى. خامسًا: طفرة حياتية: نريد طفرة حقيقية في حياتك عمومًا، جرب أن تقلع عن الشاي شهرا، تترك أكل اللحوم شهرًا، لن يحدث لك شيء لن تموت، لا بد من طفرة في حياتك الإيمانية، أصنع أشياء لم تعملها من قبل، صلِّ صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل؛ صل في الركعة الأولى بالبقرة وآل عمران والنساء، واجعل ركوعك مثل ذلك وسجودك مثل ذلك، ثم تصلي الركعة الثانية بالمائدة والأنعام، فتقضي الليل في ركعتين عملًا بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم كما ثبت في حديث حذيفة في الصحيحين. افعلها ولو لمرة واحدة في حياتك.

المشهد الخامس: الأنس بالله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عمرة في رمضان تعدل حجة معي" (¬1)، ليست مجرد حجة، بل حجة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، تستشعر وأنت تقوم بأداء العمرة في رمضان أنك مع النبي محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، حين تشعر أنك تحج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - تشعر بالأنس، وكثيرًا ما قلت: قال العلماء: إن في معاني الإيمان معالم على الطريق، من لم يرها فإنه لم يسر قط، لم يسلك الطريق. أول معلم منها: الأنس بالله، من لم يشعر بالأنس فهذا لم يسرِ في الطريق؛ فإن أول معلم في الطريق الأنس بالله، هذا المعلم إذا أحسست به اطمأننت أنك تسير في الطريق، نسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا الأنس به، وعلامة الأنس به الاستيحاش من الخلق، فلا تأتنس بالناس، فتحب الخلوة، والانفراد عن الناس؛ لتأنس بالله، وخصوصًا وأنت في بيته عنده سبحانه، جئت إليه فارًّا من الناس، مهاجرًا إليه، طالبًا للجوء الإيماني كي يؤويك، استشعر المعنى ثم اطلبه بإلحاح تجده. المشهد السادس: تعظيم أمر رمضان: رمضان شهر عظيم كريم، وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله كتب أجره ورحمته وبركته للناس قبل أن يدخله" (¬2)، الله كتب رحمته للناس في رمضان قبل دخول رمضان، وكتب إثمه وشقاءه وحرمانه قبل أن يدخله، يكتب الله من هو المرحوم ومن هو المحروم، فمن تعظيم أمر رمضان أن تتحرى مواطن الرحمة، فإذا ذهبت عند الكعبة اجتمع لك شرف ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (1764)، مسلم (1256). (¬2) أخرجه أحمد (2/ 374)، وصححه شعيب الأرنؤوط.

المكان وشرف الزعان ومضاعفة الأعمال، فليس الصيام فقط يتضاعف، بل هناك قيام وذكر وتلاوة قرآن وطواف وإطعام طعام، وأعمال بر وتقى لا تعد ولا تحصى، وشرب ماء زمزم، وسعي بين الصفا والمروة وتقبيل الحجر، وصلاة في الحجر. ومس الركن لليماني، والوقوف في الملتزم، والصلاة خلف المقام، والصلاة في حجر إسماعيل، كل هذه أعمال لا تتيسر إلا هناك؛ فلذلك نعتمر في هذا الشهر التماسًا لبركة تلك الأعمال مجتمعة هناك، فأشعر قلبك أنك أتيت إلى هنا وتفعل كل هذه الأفعال طلبًا لتعظيم هذا الشهر العظيم لأن الله عظمه. مسألة المكث في مكة أفضل من المكث في المدينة: تجد بعض الناس يقول: سوف أنتهي من العمرة ثم أذهب إلى المدينة؛ لأن مكة مزدحمة، وأنا أشعر بارتياح قلبي في المدينة أكثر. وهذه مسألة الترجيح فيها بالهوى، مسألة تقليد الناس واتباع أقوال العامة أن المدينة أكثر راحة عن مكة، وهذا مفهوم خاطئ، ومن تلبيس إبليس. لا نريد أن ننساق وراء كلام الناس، لا بد لن يكون كلامنا منضبطًا بالشرع: في مكة توجد الكعبة بيت الله، وفي المدينة يوجد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي أن نخلط بين ما لله من حق، وما لرسوله - صلى الله عليه وسلم - من حق، الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعا للمدينة فقال: "اللَّهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد" (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهم إن إبراهيم حرَّمَ مكة وأنا أحرِّمُ المدينة" (¬2)، فالدعاء أن تكون ¬

_ (¬1) متفق عليه، للبخاري (1790)، مسلم (1376). (¬2) أخرجه أحمد (3/ 393)، وصححه شعيب الأرنؤوط.

المدينة مثل مكة، والمقارنة بين مكة والمدينة واضحة، الصلاة في مكة بمائة ألف، وفي المدينة بألف، فأيهما يكون أربح؟ إنك تجد في كتاب الله -عز وجل- الثناء كل الثناء على مسجد الكعبة، فأين ما يقابله في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟!، ولست بهذا أهوِّن من أمر مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عياذًا بالله؛ وإنما نضع الأشياء في موضعها الصحيح، نعطي كل شيء حجمه اللائق به، وهذا من العدل الذي أمرنا الله به، ومن الفقه الذي نريد دلالة الأمة عليه حتى لا يفوتها عظيمُ الأجر، أليس النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في مكة: "واللهِ لأنتِ أحبُّ بلادِ اللهِ إلى الله، وأحبُّ بلادِ اللهِ إليَّ" (¬1)، والمسجد الحرام هو أول مسجد وضع على ظهر الأرض، وليس بقعة في الأرض يشترط لدخولها الإحرام والتجرد من الملابس إلا مكة. إن مكة هي مكة، والمدينة هي المدينة، فحدِّد هدفك من عمرتك ولا تختر ما يوافق هواك، بل اختر ما هو خيرٌ لك في آخرتك، إننا نحب مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس من أجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فحسب بل نحبه لله ابتداء، هذه الأمور لا بد أن تنضبط انضباطًا صحيحًا لا غلو فيه ولا جفاء. فاعتكافك في مكة يختلف عن اعتكافك في المدينة، صلاتك في مكة تختلف عن صلاتك في المدينة، لا تظن أني بذلك أنهاك عن الذهاب إلى المدينة، كلا .. بل يستحب زيارة مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فاحرص على ذلك .. أسأل الله جل جلاله أن يتابع لنا بين الحج والعمرة، وأن يرزقنا العمرة في رمضان دائمًا ولا يحرمنا منها، وأن يرزقنا الإخلاص فيها. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو يعلى (5/ 69)، وقال حسين سليم أسد: رجاله رجال الصحيح.

نسائم الأسحار

الفصل الحادي عشر نسائم الأسحار اقعد على جانب وادي السحر؛ فلعل إبل القوم تمر بك .. منهم تعلمتِ الحمام النَّوْح والإبلُ الحنينا .. وآسفَ المتقاعدِ عنهم، واحسرةَ البعيدِ منهم.

نسائم الأسحار قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 185 - 186]. قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]. في وسط سياق الآيات التي تتحدث عن الصوم، نجد لفتة عجيبة إلى أعماق النفس وخفايا السريرة، نجد العوض الكامل الحبيب المرغوب عن مشقة الصوم، والجزاء المعجل على الاستجابة لله، نجد ذلك العوض وهذا الجزاء في القرب من الله، وفي استجابته للدعاء، تصوره ألفاظ شفافة تكاد تنير: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}. فإني قريب .. أجيب دعوة الداع إذا دعان .. آية رقة؟!، وأي انعطاف؟!، وأية شفافية؟!، وأي إيناس. وأين تقع مشقة الصوم ومشقة أي تكليف في ظل هذا الود، وظل هذا القرب؟!! وظل هذا الإيناس. وفي كل لفظ في الآية كلِّها تلك النداوة الحبيبة: إضافة العباد إليه سبحانه، والرد المباشر عليه منهم سبحانه، لم يقل لهم: فقل لهم إني قريب، إنما

تولى بذاته العلية الجواب على عباده بمجرد السؤال .. قريب .. ولم يقل: أسمع الدعاء .. إنما عجل بإجابة الدعاء: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} .. إنها آية عجيبة .. آية تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة، والود المؤنس، والرضى المطمئن، والثقة واليقين .. ويعيش منها المؤمن في جنابٍ رَضَىٍّ وقربى ندية، وملاذ أمين وقرار مكين. وفي ظل هذا الأنس الحبيب، وهذا القرب الودود، وهذه الاستجابة السريعة من الله يوجه الله تعالى عباده للاستجابة له، والإيمان به، لعل هذا يقودهم إلى الرشد والهداية والصلاح، فالثمرة الأخيرة من الاستجابة هي لهم كذلك، وهي الرشد والهدى والصلاح، فالله غني عن العالمين. والرشد الذي ينشئه الإيمان وتنشئه الاستجابة لله هو الرشد المطلوب للحياة السعيدة التي ترضي الله، واستجابة الله للعباد مرجوة حين يستجيبون له وهم يرشدون، وعليهم أن يدعوه ولا يستعجلوه، فهو يقدر الاستجابة في وقتها بتقديره الحكيم، فسبحان من أطمع المطيع والعاصي، والداني والقاصي في الانبساط إلى حضرة جلاله برفع الحاجات والأماني بقوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} .. تدل هذه الآية على تعظيم حال الدعاء من وجوه: الأول: كأنه سبحانه وتعالى يقول: عبدي .. أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير وقت الدعاء، أما في مقام الدعاء فلا واسطة بيني وبينك. الثاني: أن قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي} يدل على أن العبد له، وقوله: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} يدل على أن الرب للعبد. والثالث: لم يقل: فالعبد مني قريب؛ بل قال: أنا منه قريب ..

وانظر إلى كرم الجواد الذي إذا لم يُسأل يغضب، قال تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43]، وقال تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان: 77]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يسأل الله يغضب عليه" (¬1). فالدعاء تذلل وخضوع، وإخبات وانطراح على سُدَّةِ الكريم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حيي كريم، يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صِفرًا خائبتين" (¬2). وإن لم يكن رمضان وقت الدعاء المستجاب، ففي أي شهر يكون الدعاء؟، وهو وقت الشفاة الذابلة والطاعة الكاملة، والبطون الضامرة، وقت نزول الملائكة، وقت فتح أبواب الرحمة وأبواب السماء. ولكن أبواب السماء تحتاج إلى مفاتيح تنفتح بها؛ فإن الله جل جلاله بحكمته ورحمته جعل لكل شيءٍ سببًا، وأمرنا بالأخذ بالأسباب لنصل إلى مراده سبحانه وتعالى من غير أن نتعلق بها؛ فهو سبحانه غنيٌّ عن الأسباب، ولكنها من سنن الله الربانية أن تكون البداية من العبد في إظهار الافتقار والحاجة والله يتمم له ويعطيه أكثر من مراده. ولذلك جمع العلماء للدعاء آدابًا وأسبابًا يُرجى لمن التزمها أن يحوز دعاؤه القبول، أحب قبل أن ندعو وقبل أن أذكر لك طرفًا من عيون دعاء الصالحين؛ أن أسردها لك ابتداءً. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 442)، وصححه الألباني (2418) في "صحيح الجامع". (¬2) أخرجه أبو داود (1488) وصححه الألباني (1757) في "صحيح الجامع".

آداب الدعاء

آداب الدعاء: (1) أن يترصد لدعائه الأوقات الشريفة كيوم عرفة من السنة، ورمضان من الأشهر، ويوم الجمعة من الأسبوع، ووقت السحر من ساعات الليل. (2) أن يغتنم الأحوال الشريفة: وإليك بعض الأوقات والأحوال التي يستجاب فيها الدعاء: * وقت التنزل الإلهي: قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن في الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله تعالى فيها خيرًا من أمر الدنيا والآخرة؛ إلا أعطاه إياه وذلك في كل ليلة" (¬1). * في السجود: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم" (¬2). * أن يبيت على ذكر فيتعار من الليل فيدعو: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يبيت على ذكر طاهرًا فيتعار من الليل فيسأل الله تعالى خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله له" (¬3). * عند الأذان: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا نودي بالصلاة فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (757). (¬2) أخرجه مسلم (479). (¬3) أخرجه أحمد (5/ 234)، وصححه الألباني (5754) في "صحيح الجامع". (¬4) أخرجه أحمد (3/ 342)، وصححه الألباني (803) في "صحيح الجامع".

* بين الأذان والإقامة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد" (¬1). * عند نزول المطر، وعند التقاء الجيوش، وعند إقامة الصلاة: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اطلبوا استجابة الدعاء عند التقاء الجيوش، وإقامة الصلاة، ونزول الغيث" (¬2). * آخر ساعة من نهار الجمعة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة، منها ساعة لا يوجد عبد مسلم يسأل الله تعالى فيها شيئًا إلا آتاه الله إياه، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر" (¬3). * دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب: دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير؛ قال الملك الموكل به: آمين، ذلك بمثل. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب لا يرد" (¬4). * دعوة المسافر، والمظلوم، والوالد لولده، ودعوة الصائم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (3/ 119)، وصححه الألباني (265) في "صحيح الترغيب والترهيب". (¬2) أخرجه البيهقي (6252)، وصححه الألباني (1026) في "صحيح الجامع". (¬3) أخرجه أبو داود (1048)، وصححه الألباني (8190) في "صحيح الجامع". (¬4) أخرجه مسلم (2733). (¬5) أخرجه ابن خزيمة (1901)، وصححه الألباني (3030) في "صحيح الجامع".

* عدم العجلة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: قد دعوت فلم يستجب لي" (¬1). * دعاء رمضان: فهو وقت صيام وزمان شريف، وهناك علاقة وطيدة بين فتح أبواب السماء وأبواب الرحمة وإجابة الدعاء، وهي حاصلة في رمضان، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لله في كل يوم وليلة عتقاء، لكل عبد منهم دعوة مستجابة" (¬2). (3) أن يدعو مستقبل القبلة، ويرفع يديه إلى السماء. (4) خفض الصوت بين المخافتة والجهر، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110]، قالت عائشة - رضي الله عنها -: أي بدعائك، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أيها الناس إن الذي تدعون ليس بأصم ولا غائب" (¬3). (5) أن لا يتكلف السجع في الدعاء، ادع بلسان الذلة والافتقار، لا بلسان الفصاحة والانطلاق. (6) التضرع والخشوع والرغبة والرهبة. (7) أن يجزم بالدعاء، ويوقن بالإجابة ويصدق رجاءه فيه: قال سفيان بن عيينة: لا يمنعن أحدكم من الدعاء ما يعلم من نفسه، فإن الله -عز وجل- أجاب دعاء شر الخلق إبليس لعنه الله: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [الحجر: 36 - 37]. ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (5981)، ومسلم (2735). (¬2) أخرجه أحمد (2/ 254)، وصححه الألباني (2169) في "صحيح الجامع". (¬3) متفق عليه، البخاري (2830)، مسلم (2704).

(8) أن يلح في الدعاء، ويعظم المسألة، ويكرر الدعاء ثلاثًا: قال ابن مسعود: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا دعا ثلاثًا، وإذا سأل سأل ثلاثًا، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا تمنى أحدكم فليكثر؛ فإنما يسأل ربه" (¬1). قال المناوي: إذا تمنى أحدكم خيرا من خير الدارين فليكثر الأماني فإنما يسأل ربه الذي رباه وأنعم عليه وأحسن إليه، فيعظم الرغبة ويوسع المسألة، ويسأله الكثير والقليل حتى شسع النعل، فإنه إن لم ييسره لا يتيسر، فينبغي للسائل إكثار المسألة ولا يختصر ولا يقتصر فإن خزائن الجود سحاء الليل والنهار، ولا يفنيها عطاء، وإن جل وعظم فعطاؤه بين الكاف والنون، وليس ذا بمناقض لقوله سبحانه: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32]، فإن ذلك نهي عن تمني ما لأخيه بغيا وحسدا، وهذا تمني على الله سبحانه خيرا في دينه ودنياه وطلب من خزائنه اهـ. (9) أن يفتتح الدعاء بذكر الله والثناء عليه، وأن يختمه بالصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال رسول الله: "كل دعاء محجوب حتى يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -" (¬2). قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: من أراد أن يسأل الله حاجة فليبدأ بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يسأل حاجته، ثم يختم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله عز وجل يقبل الصلاتين، وهو أكرم من أن يدع ما بينهما. (10) وهو الأدب الباطن، وهو الأصل في الإجابة، التوبة ورد ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (2/ 301، وصححه الألباني (437) في "صحيح الجامع". (¬2) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (1575)، وحسنه الألباني (4523) في "صحيح الجامع".

المظالم والإقبال على الله -عز وجل- بكنه الهمة، فذلك هو السبب القريب في الإجابة. قال مالك بن دينار: إنكم تستبطئون المطر، وأنا أستبطئ الحجارة، أي نزول الحجارة. وقال ابن المبارك: قدمت المدينة في عام شديد القحط، فخرج الناس يستسقون فخرجت معهم، إذا أقبل غلام أسود، فجلس إلى جنبي فسمعته يقول: إلهي .. أخلقت الوجوه عندك كثرةُ الذنوب ومساوئُ الأعمال، وقد حبست عنا غيث السماء لتؤدب عبادك بذلك، فأسألك يا حليمًا ذا أناة .. يا من لا يعرف عباده منه إلا الجميل أن تسقيهم الساعة، فلم يزل يقول: الساعة الساعة حتى اكتست السماء بالغمام وأقبل المطر من كل جانب، قال ابن المبارك: فجئت إلى الفضيل فقال لي: مالي أراك كئيبًا؟، قال: أمرٌ سَبَقَنَا إليه غيرنا فتولاه دوننا، وقصصت عليه القصة فخرَّ الفضيل مغشيا عليه. إخوتاه .. الدعاء والمناجاة والتضرع والافتقار بالأسحار؛ عبادة لها لذة، وفي رمضان لها طعم آخر، لها في رمضان مذاق خاص، والسعيد السعيد من قام في السحر يناجي ربه ويتملقه؛ ليستنشق نسيم الأنس بالله، فوالله ثم تالله لو شممت نسيم الأسحار لاستفاق منك قلبك المخمور. وفي هذا الفصل بالبكاء علي النفس، والرجاء لفضل الله، والخوف من النيران وطلب الجنان، نتعرض لأمثلة عطرة من مناجاة وأدعية السلف الأكابر، لنتعلم كيف نتملق ربنا ونستفتح لديه بالدعاء، ولم نتعرض لأدعية القرآن الكريم والسنة؛ فهي بفضل الله معروفة لديكم ومشهورة.

إخوتاه .. قال يحيى بن معاذ الواعظ: طوبى لعبد أصبحت العبادة حرفته، والفقر منيته، والعزلة شهوته، والآخرة همته، وطلب العيش بلغته، وجعل الموت فكرته، وشغل بالزهد نيته، وأمات بالذل عزته، وجعل إلى الرب حاجته، يذكر في الخلوات خطيئته، وأرسل على الوجنة عبرته، وشكا إلى ربه غربته، وسأله بالتوبة رحمته، وطوبى لمن كان ذلك صفته، وعلى الذنوب ندامته، جئار لليل والنهار، وبكاء إلى الله بالأسحار، يناجي الرحمن، ويطلب الجنان، ويخاف النيران. إخوتاه .. لو رأيتم أرباب القلوب والأسرار، وقد أخذوا أهبة التعبد في الأسحار، وقاموا في مقام الخوف على قدم الاعتذر، {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}. عقدوا عزم الصيام وما جاء النهار، وسجنوا الألسنة فليس فيهم مهذار، وغضوا أبصارهم ولازمٌ غَضُّ الأبصار، فانظر مدحهم إلى أين إنتهى وصار، أحزانهم أحزان ثكلى مالها اصطبار، ودموعهم لولا للتحري لقلت كالأنهار، ووجوههم من الخوف قد علاها الصفار، والقلق قد أحاط بهم ودار، {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}. جَدُّوا في انطلاقهم إلى خلاَّقهم، ورضوا أنفسهم بتحسين أخلاقهم، فإذا بهم قد أذابهم كرب اشتياقهم، أتدري ما الذي حبسك عن لحاقهم: حب الدرهم والدينار. أيقظنا الله وإياكم من هذه السَّنة ورزقنا اتباع النفوس المحسنة، وآتانا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة ووقانا عذاب النار.

من أدعية السلف ... ومناجاتهم: • ربِّ، ما أحكمَك وأمجدَك وأجودَك وأرأفك، وأرحمك وأعدلك وأقربك، وأقدرك وأقهرك، وأوسعَك وأقضاك، وأبينك وأنورك وألطفك وأخبرَك، وأعلمك وأشكرك وأحلمك، وأحكمك وأعطفك وكرمك .. • رب، ما أرفعَ حُجتَك وأكثر مِدحتك، رب ما أبينَ كتابِك وأشدَّ عقابِك، رب ما أكرم مآبك وحسن ثوابك، رب ما أجزل عطاءك وأجل ثناءك، رب ما أحسن بلاءك وأسبغ نعماءك، رب ما أعلى مكانك وأعظم سلطانك، رب ما أمتن كيدك وما أغلب مكرك، رب ما أعز ملكك وأتم أمرك، رب ما أعظم عرشك وأشد بطشك، رب ما أوسع رحمتك وأعرض جنتك، رب ما أعز نصرك وأقرب فتحك، رب ما أعمر بلادك وأكثر عبادك، رب ما أوسع رزقك وأزيد شكرك، رب ما أسرع فرجك وأحكم صنعك، رب ما ألطف خيرك وأقوى أمرك، رب ما أنور عفوك وأجل ذكرك، رب ما أعدل حكمك وأصدق قولك، رب ما أوفى عهدك وأنجز وعدك، رب ما أحضر نفعك وأتقن صنعك .. • إلهي .. تم نورك فهديت فلك الحمد، عَظُمَ حلمك فغفرت فلك الحمد، بسطت يدك فأعطيت فلك الحمد، ربنا وجهُك أكرمُ الوجوه، وجاهُكَ أعظمُ الجاه، وعَطِيتُك أفضل العطية وأهناها، تطاع ربَّنا فتشكر، وتعصى فتغفر، وتجيب المضطر، وتكشف الضر، وتشفي السُّقم، وتغفر الذنب، وتقبل التوبة، ولا يجزي بآلائك أحد، ولا يبلغ مدحك قول قائل. • إلهي .. يا حَسَنَ التجاوز، يا من أظهر الجميل، وستر القبيح، يا من لا يؤاخذ بالجريرة، ولا يهتك الستر، يا واسع المغفرة، يا باسط اليدين بالرحمة، يا صاحب كل نجوى، ويا منتهى كل شكوى، يا كريم الصفح،

يا عظيم المَنّ، يا مبتدئًا بالنعم قبل استحقاقها، يا ربَّنا وسيدَنا ومولانا، ويا غايةَ رغبتِنا، أسألك يا الله؛ أن لا تشوي وجهي بالنار. • اللَّهم، أنت أحق من ذُكر، وأحق من عُبد، وأعظم من ابتغي، وأرأف من ملَك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا نِدَّ لك، كل شيء هالك إلا وجهَك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حُلْتَ دون النفوس، وأخذت بالنواصي، وكتبت الآثار، ونسخت الآجال، القلوب لك مُفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، الخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الرءوف الرحيم، اللَّهم لا تحرمني خير ما عندك بسوء ما عندي. • يا سيدي وأملي، ومن به تم عملي، أعوذ بك من بدن لا ينتصب بين يديك، وأعوذ بك من قلبٍ لا يشتاق إليك، وأعوذ بك من دعاءٍ لا يصل إليك، وأعوذ بك من عينٍ لا تبكي عليك. • يا من آنسني بقربه، وأوحشني من خلقه، وكان عند مسرتي؛ ارحم اليوم عَبرتي. • شهد لك قلبي في النوازل بمعرفة الفضل لك، وكيف لا يشهد لك قلبي بذلك، ولا يحسن بقلبي أن يألف غيرك، هيهات، لقد خاب لديك المقصرون. • إلهي، أصبحت وأمسيت وقلبي مُصِرٌّ على حبك سيدي، ومشتاق إلى لقائك، فعجل بذلك قبل أن يأتيني سواد الليل.

• قام البطالون وقمت معهم، قمنا إليك ونحن متعرضون لجودك، فكم من ذي جُرم قد صفحت له عن جرمه، وكم من ذي كربٍ عظيمٍ قد فرَّجْتَ له عن كربه، وكم من ذي ضُرٍّ كبيرٍ قد كشفت له عن ضره، فبعزتك ما دعانا إلى مسألتك بعد ما انطوينا عليه من معصيتك إلا الذي عرفتنا من جودك وكرمك، فأنت المؤمَّل لكُلِّ خير، والمرجوُّ عند كل نائبة. • سيدي .. قصدَكَ عبدٌ روحُهُ لديك، وقيادُةُ بيديك، وأشتياقه إليك، واحسرتاه عليه، ليله أَرَق، ونهاره قلق، وأحشاؤه تحترق، ودموعه تستبق، شوقًا إلى رؤيتك، وحنينا إلى لقائك، ليس له راحةٌ دونك، ولا أمل غيرك. • سيدي .. أحلى العطايا في قلبي رجاؤك وأعذب الكلام على لساني ثناؤك .. وأحب الساعات إليّ ساعةٌ يكون فيها لقاؤك. • إلهي. . أغلقت الملوك أبوابها، وبابك مفتوح للسائلين، غرات النجوم، ونامت العيون، وأنت الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، إلهي .. فرشت الفرش، وخلا كل حبيب بحبيبه، وأنت حبيب المتهجدين وأنيس المستوحشين .. • إلهي .. إن طردتني عن بابك فإلى باب مَن ألتجي، وإن قطعتنى عن خدمتك فخدمة مَنْ أرتجي .. • إلهي .. إن عذبتني فإني مستحق العذاب والنقم، وأن عفوت عني فأنت أهل الجود والكرم، يا سيدي لك أخلص العارفون، وبفضلك نجا الصالحون، وبرحمتك أناب المقصرون، يا جميل العفو، أذقني برد عفوِك وحلاوة مغفرتك، وإن لم أكن أهلًا لذلك، فأنت أهل التقوى وأهل المغفرة. • إلهي .. أنت الذي خلقتني، وفي الرحم صورتني، فارحمني إلهي،

فكما مننت عليَّ بالإِسلام؛ فامنن عليَّ بطاعتك، وبترك معاصيك أبدًا ما أبقيتني ولا بسرائري، ولا تخذلني بكثرة فضائحي .. • سبحانك خالقي .. أنا الذي لم أزل لك عاصيًا، فمن أجل خطيئتي لا تَقَرُّ عيني، وهلكتُ أن لم تعف عني. • سبحانك خالقي .. بأي وجهٍ ألقاك، وبأي قدم أقف بين يديك، بأي لسانٍ أناطقك، بأي عينٍ أنظر إليك؟، وأنت قد علمت سرائر أمري، وكيف أعتذر إليك إذا ختمت على لساني، ونطقتْ جوارحي بكل الذي قد كان مني!! • سبحانك خالقي .. فأنا تائبٌ إليك، فأقبل توبتي، واستجب دعائي، وارحم شبابي، وأقلني عثرتى، وأرحم طول عَبرتي، ولا تفضحنى بالذى قد كان مني .. • سبحانك خالقي .. أنت غياثُ المستغيثين، وقرة أعين العابدين، وحبيب قلوب الزاهدين، فإليك مستغاثي ومنقطعي؛ فارحم شبابي، واقبل توبتي، واستجب دعوتي، ولا تخذلني بالمعاصى التي كانت مني .. • إلهي .. علمتني كتابك الذي أنزلته على رسولك محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، ثم وقعتُ على معاصيك وأنت تراني، فمَن أشقى مني إذ عصيتك وأنت تراني، وفي كتابك المنزل قد نهيتني، إلهي، أنا إن ذكرتُ ذنوبي ومعصيتي لم تَقَرَّ عيني للذي كان مني؛ فأنا تائب إليك فأقبل ذلك مني، ولا تجعلني لنار جهنم وقودًا .. • اللَّهم .. نوِّر دنيانا بنورٍ من توفيقك، واقطع أيامنا في الاتصال بك، وانظم شتاتنا في سلك طاعتك، عجبًا لمن عرفك ثم أحب غيرك، ولمن

سمع مناديك ثم تأخر عنك، إلهي، لا تعذب نفسًا قد عذبها الخوفُ منك .. ولا تخرس لسانًا كل ما يروي عنك .. ولا تُقِذْ بصرًا طالما يبكي لك .. ولا تخيب رجاءً وهو منوطٌ بك. • إلهي .. ضع في ضعفي قوةً منك، ودع في كَفِّي كفًى عن غيرك، ارحم عبرة تترقرق على ما فاتها منك، برِّد كَبِدًا تحترق على بُعدها عنك. • إلهي .. عرفتنا بربوبيتك، وأغرقتنا في بحار نعمتك، ودعوتنا إلى دار قدسك، ونعمتنا بذكرك وأنسك. • إلهي، إن ظلمة ظلمنا لأنفسنا قد عمت، وبحار الغفلة على قلوبنا قد طمت، فالعجز شامل، والحصر حاصل، والتسليم أسلم، وأنت بالحال أعلم. • إلهي .. ما عصيناك جهلًا بعقابك، ولا تعرضًا لعذابك، ولكن سولت لنا نفوسنا، وأعانتنا شقوتنا، وغرنا سترك علينا، وأطمعنا في عفوك برك بنا، فالآن من عذابك من يستنقذنا؟!، وبحبل من نعتصم إن قطعت حبلك عنا؟، واخجلاه من الوقوف غدًا بين يديك!!، وافضيحتنا إذا عرضت أعمالنا القبيحة عليك!!، اللَّهم اغفر ما علمت، ولا تهتك ما سترت. • إلهي .. إن كنا عصيناك بجهل، فقد دعوناك بعقل، حيث علمنا أن لنا ربًا يغفر الذنوب ولا يبالي .. يا من أقام لي غرس ذكري، وأجرى لي أنهارًا تجري، وجعل لي أيام عيد في اجتماع الورى، وأقام لي فيهم أسواق التقوى؛ أقبلت إليك معتمدًا عليك، ممتلئ القلب من رجائك، ورطب اللسان من دعائك، في قلبي من الذنوب زفرات، ومعي عليها ندامات، إن أعطيتني قبلت، وإن منعتني

رضيت، وإن تركتني دعوت، وإن دعوتني أجبت، فأعطني إلهي ما أريد، فإن لم تعطني ما أريد؛ فارزقني الصبر على ما تريد. • اللَّهم، ارحم غربتي في الدنيا، وارحم مصرعى عند الموت، وارحم قيامي بين يديك. • اللَّهم، إن خطيئتي تعذبني، وتوبتي تذوبني؛ فعيشتي طول دهري بين تعذيب وتذويب. • واسوأتاه منك، إذا شاهدتني وهمتي تسبق إلى سواك، أم كيف لا أضنى في طلب رضاك. • إلهي .. ما أشوقني إلى لقائك، وأعظم رغبتي لجزائك، وأنت الكريم الذي لا يخيب لديك أمل الآملين، ولا يبطل عندك شوق المشتاقين. • إلهي .. إن كان دنا أجلي ولم يقربني منك عملي، فقد جعلت الاعتراف بالذنب وسائل عللي، فإن عفوت فمن أولى منك بذلك؟!، وإن عدلت فمن أعدل منك هنالك؟!. • إلهي .. قد جرت على نفسي بالنظر لها، وبقي لها حسن نظرك، فالويل لها إن لم تسعدها. • إلهي .. إنك لم تزل بي بَرًّا أيام حياتي، فلا تقطع عني برك بعد مماتي، ولقد رجوت ممن تولاني في حياتي بإحسانه أن يسعفني عند مماتي بغفرانه. • إلهي .. كيف أيأسُ من حسن نظرك بعد مماتي، ولم تولني إلا الجميل في حياتي. • إلهي .. إن كانت ذنوبي قد أخافتني؛ فإن محبتي لك قد أجارتني، فتول من أمري ما أنت أهله، وعُدْ بفضلك على من غره جهله.

• إلهي .. لو أردت إهانتي لما هديتني، ولو أردت فضيحتي لم تسترني، فمتعني بما له هديتني، وأدم لي ما به سترتني. • اللَّهم، يا وأسع المغفرة، ويا باسط اليدين بالرحمة، افعل بي ما أنت أهله. • إلهي .. أذنبت في بعض الأوقات، وآمنت بك في كل الأوقات، فكيف يغلب بعض عمري مذنبا جميع عمري مؤمنا؟! • إلهي .. لو سألتني حسناتي لجعلتها لك مع شدة حاجتي إليها، وأنا عبد، فكيف لا أرجو أن تهب لي سيئاتي مع غناك عنها، وأنت رب؟!، فيا من أعطانا خير ما في خزائنه، وهو الإيمان به قبل السؤال، لا تمنعنا أوسع ما في خزائنك، وهو العفو مع السؤال. • إلهي .. حجتي حاجتي، وعدتي فاقتي، فارحمني. • إلهي .. كيف أمتنع بالذنب من الدعاء، ولا أراك تمتنع مع الذنب من العطاء؟!، فإن غفرت فخير راحم أنت، وإن عذبت فغير ظالم أنت. • إلهي .. أسألك تذللًا، فأعطني تفضلًا. • اللَّهم، اجعل طاعتك همي، وقَوِّ عليها جسدي، وسَخ نفسي عن الدنيا، واشغلني بما ينفعني، وبارك لي في قواها حتى ينقضي مني حالي، وامنن عليَّ وارحمني، حين تعيد بعد الموت خلقي، ومن سوء الحساب فعافني، يوم تبعثني فتحاسبني، ولا تُعرِض مني، يوم تعرضني بما سلف من ظلمي وجرمي، وآمنِّي يوم الفزع الأكبر، يوم لا تهمني إلا نفسي، وارزقني نفع عملي، يوم لا ينقعني عمل غيري، وكما مننت عليَّ بالإِسلام فامنن عليَّ بطاعتك، وبترك معاصيك أبدًا ما أبقيتنى، ولا تفضحني بسرائري، ولا تحذلني بكثرة فضائحي.

• سبحانك خالقي، أنا تائب إليك فاقبل توبتي، واستجب دعائي، وارحم شبابي، وأقِلْ عثرتي، وارحم طول عبرتي، ولا تفضحني بالذي قد كان مني، سبحانك خالقي، أنت غياث المستغيثين، وقرة أعين العابدين، وحبيب قلوب الزاهدين، فإليك مستغاثى ومنقطعي، فارحم شبابي، واقبل توبتي، واستجب دعوتي، ولا تخذلني بالمعاصي التي كانت مني، ولا تجعلني لنار جهنم وقودًا، بعد توحيدي وإيماني بك. • إلهي .. وسيلتى إليك: نعمك عليّ، وشفيعي إليك: إحسانك إليّ، اللَّهم، إليك تقصد رغبتي، وإياك أسأل حاجتي، ومنك أرجو نجاح طِلبتي، وبيدك مفاتيح مسألتي، لا أسال الخير إلا منك، ولا أرجوه من غيرك، ولا أيأس من روحك بعد معرفتي بفضلك، يا من جمع كل شيء بحكمته، ويا من نفذ في كل شيء حكمه، يا من الكريم اسمه؛ لا أحد لي غيرك فأسأله ولا أثق بسواك فآمله، ولا أجعل لغيرك مشيئة من دونك أعتصم بها، وأتوكل عليه، فمن أسال إن جهلتك؟!، وبمن أثق بعد إذ عرفتك؟! • اللَّهم، إن ثقتي بك، وإن ألهتني الغفلات عنك وأبعدتني العثرات منك بالاغترار، أنا نعمة منك أجري في نعمك، لا أزداد على سابقة علمك، ولا أنتقص من عزيمة أمرك، فأسألك يا منتهى السؤالات، وأرغب إليك يا موضع الحاجات، سؤالَ من قد كذَّب كلَّ رجاءٍ إلا منك، ورغبةَ من رَغِب عن كل ثقةٍ إلا عنك، أن تهب لي إيمانًا أُقدم به عليك، وأوصل به عظم الوسيلة إليك، وأن تهب لي يقينًا لا توهنه بشبهة إفك، ولا توهنه خطرة شك، ترحب به صدري، وتيسر به أمري، ويأوي إلى محبتك قلبي، حتى لا ألهو عن شكرك، ولا أنعم إلا بذكرك. • يا من لا تُمَلُّ حلاوة ذكره ألسن الخائفين، ولا تكل من الرغبات إليه

مدامع الخاشعين، أنت منتهى سرائر قلبي في خفايا الكتم، وأنت موضع رجائي بين إسراف الظلم، من ذا الذي ذاق حلاوة مناجاتك فلها بمرضاة بشر عن طاعتك ومرضاتك؟!، يا من يعصى ويتاب إليه، فيرضى كأنه لم يعص، بكرم لا يوصف، وتحنن لا ينعت، يا حنَّانًا بشفقته، يا متجاوزًا بعظمته، لم يكن لي حول فأنتقل عن معصيتك إلا في وقتٍ أيقظتني فيه لمحبتك، خضعتُ لك وخشعتُ لك إلهي لتعزني بإدخالي في طاعتك، ولتنظر إليَّ نظر من ناديته فأجابك، واستعملته بمعونتك فأطاعك، يا قريب، لا تبعد عن المغترين، يا ودود، لا تعجل على المذنبين. • اللَّهم، استعملنا بسنة نبيِّنا، وتوفَّنا على ملته، وأوزعنا بهديه، وارزقنا مرافقته، وعرفنا وجهه في رضوانك والجنة، اللَّهم خذ بنا إلى سبيله وسنته، نعوذ بك أن نخالف سنته وسبيله، اللَّهم أقر عينه بمن يتبعه من أمته، واجعلنا منهم، وأوردنا حوضه، واسقنا مشربًا رويًّا لا نظمأ بعده أبدًا، اللَّهم ألحقنا بنبينا غير خزايا ولا نادمين، ولا خارجين ولا فاسقين، ولا مبدلين ولا مرتابين، واجعلنا من الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. • إلهي .. إن كان صغر في جنب طاعتك عملي، فقد كبر في جنب رجائك أملي. • إلهي .. كيف أنقلب من عندك محرومًا وقد كان حسن ظني بك منوطًا؟!. • إلهي .. فلا تبطل صدق رجائي لك بين الآدميين. • إلهي .. إن كانت أسقطتني الخطايا من مكارم لطفك، فقد آنسني اليقين إلى مكارم عطفك.

• إلهي .. إن أمنتني الغفلة من الاستعداد للقائك، فقد نبهتني المعرفة لكرم آلائك. • إلهي .. إن دعاني إلى النار أليم عقابك، فقد دعاني إلى الجنة جزيل ثوابك. • اللَّهم، اجعلنا من الذين تفكروا فاعتبروا، ونظروا فأبصروا، وسمعوا فتعلقت قلوبهم بالمنازعة إلى طلب الآخرة، حتى أناخت وانكسرت عن النظر إلى الدنيا وما فيها، ففتقوا بنور الحكم ما رتقه ظلمُ الغفلات، وفتحوا أبواب مغاليق العمى بأنوار مفاتيح الضياء، وعمَّروا مجالس الذاكرين بحسن مواظبة استيدام الثناء، اللَّهم، اجعلنا من الذين تراسلت عليهم ستور عصمة الأولياء، وحصَّنتَ قلوبهم بطهارة الصفاء، وزينتها بالفهم والحياء، وطيرت همومهم في ملكوت سمواتك حجابًا حتى تنتهي إليك، فرددتها بظرائف الفوائد، اللَّهم اجعلنا من الذين سهل عليهم طريق الطاعة، وتمكنوا في أزمَّة التقوى، ومنحوا بالتوفيق منازل الأبرار، فزينوا وقُرِّبوا وكُرِّموا بخدمتك. لك الحمد يا ذا المَنِّ والطول والآلاء والسعة، إليك توجهنا، وبفنائك أنخنا, ولمعروفك تعرضنا، وبقربك نزلنا، يا حبيب التائبين، ويا سرور العابدين، ويا أنيس المنفردين، ويا حرز اللاجئين، ويا ظهر المنقطعين، ويا من حبب إليه قلوب العارفين، وبه أنست أفئدة الصديقين، وعليه عطفت رهبة الخائفين، يا من أذاق قلوب العابدين لذيذ الحمد، وحلاوة الانقطاع إليه، يا من يقبل من تاب ويعفو عمن أناب، ويدعو المُوَلِّين كرمًا، ويرفع المقبلين إليه تفضلًا، يا من يتأنى على الخاطئين، ويحلم عن الجاهلين، ويا من حل عقدة الرغبة من قلوب أوليائه، ومحا شهوة الدنيا عن فكر قلوب خاصته وأهل محبته، ومنحهم منازل القرب والولاية، ويا من لا يضيع مطيعًا, ولا ينسى

صبيًا، ويا من منح بالنوال، ويا من جاد بالاتصال، يا ذا الذي استدرك بالتوبة ذنوبنا، وكشف بالرحمة غمومنا، وصفح عن جرمنا بعد جهلنا، وأحسن إلينا بعد إساءتنا، يا آنس وحشتنا، ويا طبيب سقمنا، يا غياث من أُسقط بيده، وتمكن حبل المعاصي من رقبته، وأسفر خدْرُ الحيا عن وجهه؛ هب لنا رحمة منك وعافية بين يديك، يا خير من قدر، وأرأف من رحم وعفا. • إلهي .. فإني أعترف لك اللَّهم بما دل عليه صنعك، وشهد لك فعلك , فهب لي اللَّهم تطلب العزيمة إليك؛ لأن من لم يشبعه الولوع باسمك؛ ولم يروه من ظمئه ورود غدران ذكرك، ولم ينسه جميع الهموم رضاه عنك، ولم يلهه عن جميع الملاهي تعدد آلائك، ولم يقطعه عن الأنس بغيرك مكانه منك؛ كانت حياته ميتة، ومِيتته حسرة، وسروره غُضَّة، وأنسه وحشة. • إلهي .. عرفني عيوب نفسي، وافضحها عندي لأتضرع إليك في التوفيق للتنزه عنها، وأبتهل إليك بين يديك خاضعًا ذليلًا في أن تغسلني منها، واجعلني من عبادك الذين شهدت أبدانهم وغابت قلوبهم، تجول في ملكوتك وتتفكر في عجائب صنعك، ترجع بفوائد معرفتك وعوائد إحسانك، قد ألبستهم خُلَعَ محبتك، وخلعت عنهم لباس التزين لغيرك. • إلهي .. لا تترك بيني وبين أقصى مرادك حجابًا إلا هتكته، ولا حاجزًا إلا رفعته، ولا وَعْرًا إلا سهلته، ولا بابًا إلا فتحته، حتى تقيم قلبي على الحق في معرفتك، وتذيقني طعم محبتك، وتبرد بالرضا منك فؤادي وجميع أحوالي؛ حتى لا أختار غير ما تختاره، وتجعل لي مقامًا فسيحًا في ميدان طاعتك. • إلهي .. كيف أسترزق من لا يرزقني إلا من فضلك؟!، أم كيف أسخطك في رضا من لا يقدر على ضري إلا بتمكينك؟!، فيا من أسأله إيناسًا

به وإيحاشًا من خلقه، ويا من إليه التجائي في شدتي ورجائي؛ ارحم غربتي، وهب لي من المعرفة ما أزداد به يقينًا, ولا تكلني إلى نفسي الأمارة بالسوء طرفة عين. • إلهي .. لو أصبتُ مَوْئِلًا في الشدائد غيرَك، أو ملجَأ في المنازل سواك، لحُقَّ لي أن لا أعرض إليه بوجهي عنك، ولا أختاره عليك؛ لقديم إحسانك إلى وحديثه، وظاهر منتك عليَّ وباطنها, ولو تقطعت في البلاد إربًا إربًا، وانصبت عليَّ الشدائد صبًّا صبًّا, ولا أجد مشتكئ غيرك، ولا مُفَرِّجًا لما بي عني سواك، فيا وارث الأرض ومَن عليها، ويا باعث جميع من فيها؛ ورَّث أملي فيك مني أملي، وبلِّغ همي فيك منتهى وسائلي. نعم إخوتاه: هذه أدعية سلفنا .. ما أطيبَها .. ما أرقَّها .. ما أطيبَ أملَهم في المناجاة، ما أقربهم من طريق النجاة، ما أقل ما تعبوا، وما أيسر ما نصبوا، وما كان إلا القليل ثم نالوا ما طلبوا، لو ذاق الغافل شراب أنسِهم في الظلام، أو سمع الجاهل صوت حنينهم في القيام، وقد نصبوا لما انتصبوا له الأقدام، وترنموا بأشرف الذكر وأحلى الكلام، وضربوا على شواطئ أنهار الصدق الخيام، وركزوا على باب اليقين بالحق الأعلام، وزمُّوا مطايا الشوق إلى دار السلام، وسارت جنود حبهم والناس في الغفلة نيام، وشكَوْا في الأسحار ما يلقَوْن من وقع الغرام، ووجدوا من لذة الليل ما لا يخطر على الأوهام، وإذا أسفر النهار تلقَوْهُ بالصيام، وصابروا الهواجر بهجر الشراب وترك الطعام، وتدرعوا دروعَ التقى خوفًا من الزلل والآثام، فنورهم يُخجلُ شمسَ الضحى وُيزري بدرَ التَّمَام، فلأجلهم تَنْبُتُ الأرض، ومن جَرَّاهم يجري الغَمَام، وبهم

يُسامح الخطاءون وُيصفح عن أهل الإجرام، فإذا نازلهم الموتُ طلبَ لهم كأسَ الحمام، وإذا دفنوا في الأرض فَخَرَت بحفظها تلك العِظام؛ فعلى الدنيا إذا ماتوا من بعدهمُ السلام.

وداع رمضان

وداع رمضان اقتناص الفوائد واجتناء الثمار والمحافظه على الأدوية الرمضانية

وداع رمضان أيها الأخوة .. أنا أحبكم في الله .. ها هو الضيف الكريم يلوح بالرحيل، تمضي أيامه مسرعةً وكأنها حلمٌ جميل. فيأيها الضيف الكريم على رِسلك؛ فقلوبنا لازالت مشتاقةً إلى وَصْلِك. انتظر .. تمهل فما أجمل مقامك، وما أحلى أيامك .. وما أمتع صيامك!! لقد ذقنا فيك لذةً في غيرك ما ذقناها, لقد عشنا فيك عيشةً في غيرك ما عشناها! فكيف ترحل عنا بعد أيام لنا حُلوة قضيناها؟!، إن رحيلك عنا مصيبةٌ أبدًا لن ننساها .. ولكن تلك مقادير ربي قدرها وسواها، فاللَّهم أجرنا في مصيبتنا يا رب .. إخوتاه .. ولَّت أيامُ رمضانَ مسرعة، ولم يبقَ منه إلا أيامٌ قلائل، ووجب علينا التنبيه، والتنويه لما فات ولما بقي .. بقي إخوتاه عشرة أيام .. فانتبهوا فسوف تمر هي الأخرى كلمح البصر. ألا فشمروا عن ساعد الجد في هذه العشر، واهجروا لذيذ المنام، واقتدوا بنبيكم - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان يخص العشر الأواخر بأعمال لا يعملها في بقية الشهر؛ يخصها بالاعتكاف والقيام، والاغتسال كل ليلة بين العشاءين، والتنظف والتطيب، وإحياء الليل كله، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، وفي العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيره" (¬1)، وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه "كان يخلط العشرين الأُوَل بصلاةٍ ونوم، فإذا دخل العشر؛ لم يَذُق غَمْضًا" (¬2)، طوى فراشه، واعتزل نسائه، وأحيا ليله، واجتهد في دعاء ربه. وقد كان السلف إذا دخلت العشر؛ رفعوا الهمة إلى منتهاها، وبذلوا كل الطاقة، وكيف لا والعشر هي آخر السباق. قال طلحة بن عبيد الله: إن الخيل إذا قاربت رأس مجراها؛ أخرجت كل ما عندها. فالسعيد من اغتنم موسم العمر قبل ذهابه، وحاسب نفسه قبل قراءة كتابه، وراقب مولاه مراقبة من يعلم أنه يراه في ذهابه وإيابه. فينبغى إخوتاه أن نراعي هذا الفضل مدةَ عمرنا, ولا نضيِّع هذه الليالي المباركات، التي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - قطعًا أن ليلة القدر فيها؛ فلعل أحدنا يكون قد مات قبل أن يدرك العشر الأواخر في العام القادم: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ في جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر: 56 - 57]، أو تقول: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 73]. إخوتاه .. الله سبحانه وتعالى يقول: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]. الله سبحانه وتعالى يقول: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1175). (¬2) ضعفه ابن حجر في "اللسان" (4/ 381).

وظائف آخر الشهر

وهذه الأيام في آخر الشهر نحتاج للمناقشة حتى يستطيع الإنسان الحصول على أعلى الدرجات، وتحتاج إلى المسارعة بل ومسابقة الأنفاس لأنها تمر مَرَّ السحاب، وكل لحظة مرت لا تعود ولا تعوض؛ فسابق أخي الحبيب أجلك، وأدرك رضا الله بعملك، واشحذ همتك؛ فهذا أوان جِدَّك. وظائف آخر الشهر: أولًا: وقفة صادقة مع الله ومع النفس: لا بد أيها الإخوة من وقفة صادقة دون كذب أو خداع أو مواربة، لم يبق من الشهر إلا القليل فماذا أنت صانعٌ فيه؟ في هذه الوقفة تنظر فعليًّا وبعد تفرغ تام: * هل أديت العبادات على وجهها؟ * هل عشت رمضان حقيقةً كما يحب ربنا ويرضى؟ * هل ذاق قلبك طعم العبادات؟ * هل حصلت التقوى المنشودة المقصودة من وراء هذا الصيام؟ * هل تلوت القرآن وسمعته وأحيا الله به مَوَاتَ قلبك؟ * هل تغير البيت وتحول نمط الحياة عندك فصرت عبدًا ربانيًّا؟ * هل أحسست بتغييرٍ فعلي في قلبك فرأيت نورًا جديدًا؟ * هل بعد هذا التغيير عازمٌ على الثبات فلن تعود إلى المعاصي؟ * هل تظن بعد هذه الليالي الطويلة أنك قد أعتقت رقبتك من النار؟ * هل بعد كل تلك الليالي وفيها من فرص المغفرة ما فيها؛ تظن أنك قد غفر لك ما تقدم من ذنبك؟

أيها الحبيب المحب، لا تجامل .. ولا تتجاهل .. قف وقفةً صمقة واستعن بالله على نفسك واصدقني، لا؛ بل أصدق الله يصدقك وأجب عن الأسئلة، ومازالت أمامك فرصة، هيا ركز في الأيام الباقية واعملْ عملَ رجلٍ يريد أن يستدرك ما فات. هيا انطلق وتخلص من قيودك، وتبرأ من عيوبك، والتمس رضا ربك .. هيا اعمل ودعك من الكسل، وودع الأمل، وسارع الأجل، ولا تترك فرصةً للعمل إلا وعملت بها .. اعتكف كل الباقي، وداوم على العبادة، واجتهد في البكاء وطلب العفو .. أيها الإخوة .. كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60]. قال علي بن أبي طالب: كونوا لقبول العمل أشد اهتمامًا منكم بالعمل، ألم تسمعوا الله -عز وجل- يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، أنت قد عملت، ولكن هل قُبِل عملك؟، هذا هو الأخطر، قبول العمل، فكم من عملٍ يتقنه صاحبه ويحسنه ويزينه ثم يرده الله عليه ولا يقبله، وذلك بسوء نية صاحبه، اللَّهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم. لذلك قال بعض السلف: الخوف على العمل ألا يتقبل أشد من العمل، وقال عبد العزيز بن أبي رواد: أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهم أيقبل منهم أم لا، هذا هو فقه السلف وفهمهم، فكم من مغرورٍ بعمله وليس له منه شيء، كم من معجبٍ بصلاته وليس له فيها حسنة!!

ولذلك خرج عمر بن عبد العزيز على الناس في يوم عيد الفطر، فق الذي خطبته: أيها الناس، إنكم صمتم لله ثلاثين يومًا، وقمتم ثلاثين ليلة، وخرجتم اليوم تطلبون من الله أن يتقبل منكم .. فاللَّهم تقبل منا يا رب. وكان عبد الله بن مسعود يقول في آخر ليلة من رمضان: من هذا المقبول منا فنهنيه، ومن هذا المحروم منا فنعزيه، أيها المقبول هنيئًا لك، أيها المردود جَبَرَ الله مصيبتك. فيا أرباب الذنوب العظيمة، الغنيمةَ الغنيمة، في هذه الأيام الكريمة، فما منها عِوضٌ ولا قيمة، فمن يعتق فيها من النار فقد فاز بالجائزة العظيمة، والمنحة الجسيمة، يا من أعتقه الله من النار، إياك أن تعود بعد أن صرت حرًّا إلى رِق الأوزار، أيبعدك مولاك عن النار وتتقرب منها!!، وينقذك منها وأنت توقعُ نفسك فيها ولا تحيد عنها!! .. ويا أيها العاصي، لا تقنط من رحمة الله بسوء أعمالك، فكم يعتق من النار في هذه الأيام من أمثالك؛ فأحسن الظن بمولاك وتب إليه؛ فإنه لا يهلك على الله إلا هالك. ثانيًا: ملازمة الاستغفار: أيها الأخوة، لقد رأيت أن الله سبحانه وتعالى أمر عباده بعد الحج بالاستغفار فقال سبحانه: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199]، وذكر الله عن العابدين المتهجدين أنهم كانوا يختمون صلاتهم بالاستغفار، فقال سبحانه وتعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17 - 18]. قال الحسن: مَدُّوا الصلاة إلى السَّحرَ ثم جلسوا يستغفرون. وكان من هدي النبي محمَّد - صلى الله عليه وسلم - إذا انتهى من الصلاة أن يستغفر ثلاثًا فيقول: أستغفر الله .. أستغفر الله .. أستغفر الله ..

لذلك نقول: أكثِر من الاستغفار في نهاية صيامك، استغفر الله كثيرًا ترتق ما انفتق من صيامك. كان بعض السلف إذا صلى صلاة استغفر من تقصيره فيها كما يستغفر المذنب من ذنبه، سبحان الله!، إذا كان هذا حال السلف الذين أحسنوا عبادتهم وأتقنوها وأخلصوا فيها، فكيف حال المسيئين مثلنا في عباداتهم!! وقال عمر بن عبد العزيز في كتابه إلى الأمصار بمناسبة آخر رمضان: قولوا كما قال أبوكم آدم: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وقولوا كما قال نوح عليه السلام: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47]، وقولوا كما قال موسى - عليه السلام -: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16]، وقولوا كما قال ذو النون -عليه السلام -: {لًا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]. ويروى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: الغيبة تخرق الصيام والاستغفار يرقعه، فمن استطاع منكم أن يجيء بصوم مرقع فليفعل. وعن ابن المنكدر قال: الصيام جُنَّةٌ من النار ما لم يخرقها، والكلام السئ يخرق هذه الجُنَّة، والاستغفار يرقع ما تخرَّقَ منها. فصيامنا هذا يحتاج إلى استغفارٍ نافع، وعمل صالح له شافع، كم نخرق صيامنا بسهام الكلام، ثم نرقعه وقد اتسع الخَرْق على الراقع، كم نرفو خروقه بمخيط الحسنات ثم نقطعه بحسام السيئات القاطع. يا رب، ارحم من حسناته كلها سيئات، وطاعاته كلها غفلات. وقريب من هذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة - رضي الله عنها - في ليلة القدر بسؤال العفو؛ فإن المؤمن يجتهد في شهر رمضان في صيامه وقيامه، فإذا قرب فراغه وصادف ليلة القدر لم يسأل الله تعالى إلا العفو كالمسيء المقصر.

كان صِلَةُ بنُ أَشيَم يُحيي الليل ثم يقول في دعائه عند السحر: اللَّهم إني أسألك أن تجيرني من النار، أو مثلي يجترئ أن يسألك الجنة؟! أنفع الاستغفار ما قارنته التوبة وهي حل عقدة الإصرار، فمن استغفر بلسانه وقلبه على المعصية معقود، وعزمه أن يرجع إلى المعاصي بعد الشهر؛ فمردود، وباب القَبول عنه مسدود، قال كعب: من صام رمضان وهو يحدِّث نفسه أنه إذا أفطر بعد رمضان أنه لا يعصي الله؛ دخل الجنة بغير مسألة ولا حساب، ومن صام رمضان وهو يحدث نفسه إذا أفطر بعد رمضان عصى ربه فصيامه عليه مردود. عباد الله .. شهر رمضان قد أوشك على الانتهاء، فمن منكم حاسب نفسه فيه لله وانتصف، من منكم قام في هذا الشهر بحقه الذي عَرَف، من منكم عزم قبل غلق أبواب الجنة أن يبنيَ له فيها غرفًا من فوقها غرف، ألا إن شهركم قد أخذ في النقص؛ فزيدوا أنتم في العمل فكأنكم به وقد إنصرف، فكل شهر عسى أن يكون منه خلف، وأما شهر رمضان فمن أين لكم منه خلف؟!! ثالثًا: سؤال الله العفو، والتركيز على هذا السؤال، والانشغال بذلك: قالت عائشة - رضي الله عنها - للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها؟، قال: "قولي اللَّهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" (¬1). العفوُّ من أسماء الله تعالى، وهو يتجاوز عن سيئات عباده، الماحي لآثارها عنهم، وهو يحب العفو فيحب أن يعفو عن عباده، ويحب من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض، فإذا عفا بعضهم عن بعض عاملهم بعفوه، وعفوه ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (6/ 171)، وصححه الألباني (3337) في "الصحيحة".

أحب إليه من عقوبته، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " أعوذ برضاك من سَخَطِك وبمعافاتك من عقوبتك" (¬1). قال يحيى بن معاذ: لو لم يكن العفو أحبَّ الأشياء إليه؛ لم يبتل بالذنب أكرمَ الناس عليه، يشير إلى أنه ابتلي كثيرًا من أوليائه وأحبابه بشيء من الذنوب، ليعاملهم بالعفو فإنه يحب العفو، قال بعض السلف الصالح: لو علمت أحبَّ الأعمال إلى الله تعالى، لأجهدتُ نفسي فيه، فرأى قائلًا يقول له في منامه: إنك تريد ما لا يكون، إن الله يحب العفو، أن يعفو، وإنما أحبَّ أن يعفوَ، ليكون العباد كلهم تحت عفوه، ولا يُدِلُّ أحدٌ منهم بعمل. وقد جاء في حديث ابن عباس مرفوعًا أن الله ينظر ليلة القدر إلى المؤمنين من أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فيعفوَ عنهم ويرحمَهم إلا أربعة: مدمن خمر، وعاقًّا، ومشاحنًا، وقاطعَ رحم. لما عرف العارفون بجلاله خضعوا, ولما سمع المذنبون بعفوه طمعوا، ما ثَمَّ إلا عفو الله أو النار، لولا طمع المذنبين في العفو لاحترقت قلوبهم باليأس من الرحمة، ولكن إذا ذكرت عفو الله استروحت إلى برد عفوه. كان بعض المتقدمين يقول في دعائه: اللَّهم إن ذنوبي قد عظمت، فجلت عن الصفة، وإنها صغيرة في جَنْبِ عفوك فاعف عني. وقال آخر منهم: جُرمي عظيم، وعفوك كثير، فاجمع بين جرمي وعفوك يا كريم .. اللَّهم اعف عنا. يا كبير الذنب عفو الله من ذنبك أكبر, أكبر الأوزار في جنب عفو الله يصغر؛ وإنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر بعد الاجتهاد في الأعمال فيها وفي ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (486).

ليالي العشر؛ لأن العارفين يجتهدون في الأعمال، ثم لا يرون لأنفسهم عملًا صالحًا ولا حالًا ولا مقالًا، فيرجعون إلى سؤال العفو كحال المذنب المقصر، قال يبيح بن معاذ: ليس بعارف من لم يجعل غاية أمله من الله العفو. كان مُطَرِّفُ يقول في دعائه: اللَّهم ارض عنا، فإن لم ترض عنا فاعف عنا، من عظمت ذنوبه في نفسه لم يطمع في الرضا، وكان غاية أمله أن يطمع في العفو، ومن كملت معرفته لم يرَ نفسه إلا في هذه المنزلة. رابعا: بذل أقصى حدِّ في الاجتهاد: في صحيح مسلم من حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيره". أخي الحبيب، ينبغى أن يكون الاجتهاد في أوأخر الشهر أكثر من أوله لشيئين: أحدهما: لشرف هذه العشر، وطلب ليلة القدر. والثاني: لوداع شهرٍ لا يدرى هل يلقى مثله أم لا. وقد يحصل من بعض الناس العكس، أنك تجد في أول رمضان شيئًا من النشاط والهمة في العمل، ثم يصاب بالفتور بعد ذلك، أو ينشغل بتفاهات تشغله عن إكمال الشهر كما ينبغي. رغم أن المفروض هو العكس لو كان للعمل ثمرة؛ فإنه كلما زاد من الطاعات والعبادات التي يؤديها كل يوم في رمضان يترقى درجة إن كان من المقبولين، فتزداد طاعاته وقرباته في اليوم التالي حتى يصل إلى أقصى علو همة عند نهاية الشهر، كما كان هذا شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فإنه كما مر معنا كان - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر شدَّ المِئْزَر, وأيقظ أهله, وأحيا الليل كُلَّه.

وقد ذُكر عن بعض السلف أنه حين أتاه الموت وفي سياق السكرات، كان يقوم ويقعد -يعني يصلي- فقيل له: في مثل هذه الحال؟، أرح نفسك، فقال: إن الخيل إذا بلغت إلى رأس مجراها، أخرجت أقصى ما عندها، وأنا أسابق بأنفاسي، فأنت الآن -أيها الحبيب- تسابق الساعات، فرمضان على وشك الانتهاء، فابذل أقصى ما تستطيع، ولتمضِ هذه الأيام العشر إن مضت بغير أكل ولا شرب ولا نوم وليكن ما يكون. قيل لبعض السلف: لا تبكِ، فإنك إن بكيت عميت، قال: ذلك لعيني شهادة، فبكى حتى عمي، افهم ما قصدتُ الإشارة إليه، وارغب فيما عند الله، واستعن بالله. خامسًا: إياك والعجب والغرور: عن أبي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يقولن أحدكم: صُمْتُ رمضانَ كُلَّه، ولا قمتُ رمضانَ كُلَّه" (¬1)، فلا أدري أكره التزكية أم لا بد من غفلة. أخي الحبيب، إياك والأمراض القلبية؛ إنما شرع الصيام والقيام وتلك الأعمال التي أديتها في رمضان لتزكية النفس وإصلاح القلب؛ ولكن هناك بعض الأمراض المستوطنة التي يصعب اقتلاعها بسهولة، منها هذا الداء الدفين والمرض الخبيث: العجب ورؤية النفس. قال ابن القيم -عليه رحمة الله: بين العمل وبين القلب مسافة، وفي تلك المسافة قُطَّاع طرق تقطع الطريق على العمل أن يصل إلى القلب، فتجدُ الرجلَ كثيرَ الصلاة كثيرَ الصيام، كثيرَ الذكرِ وتلاوةِ القرآن ولم يَصِلْ إلى قلبه من عملهِ شيء، لا خوف، ولا رجاء، ولا محبة. ولا يقين، ولا رضا، وقد تستولي ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2415)، وضعفه الألباني (2062) في "ضعيف أبي داود".

النفس على العمل الصالح فتصيِّره جندًا لها فتصول به وتطغى، فترى الرجلَ أعبدَ ما يكون، أزهدَ ما يكون، وهو عنِ اللهِ أبعدُ ما يكون. الشاهد من هذا الكلام أن النفس قد تستولي على العمل الصالح فتصول به وتطغى فاحذر من ذلك، أن تستولي نفسك على مشاق الأعمال في رمضان، من صيام وقيام وقرآن وذكر واعتكاف وغيرها، وتصول بها على سبيل الفخر، وتنتفخ بها بالزهو والتعالي على الآخرين، فتخسر كل ذلك، وتفقد ثواب العمل، ونتيجة العمل، فالحذرَ الحذر. إن من علامات القبول أن يزداد الإنسان انكسارًا وذُلًّا وخضوعًا للرب جل جلاله .. فازدد ذُلًّا؛ تزدد قُربًا. عبادَ الله .. إن شهر رمضان قد عزم على الرحيل، ولم يبق منه إلا القليل، فمن منكم أحسن فعليه بالتمام، ومن فرط فيه فعليه بالحسن والعمل بالختام، اغتنموا منه ما بقي من الليالي اليسيرة والأيام، واستودعوه عملًا صالحًا يشهد لكم عند الملك العلام، وودعوه عند فراقه بأزكى تحيةٍ وسلام. إخوتاه .. قلوبُ المتقين إلى هذا الشهر تحِنّ، ومن ألم فراقه تئِنّ، كيف لا تجري للمؤمن على فراقه دموع، وهو لا يدري هل بقي له في عمره إليه رجوع. يا حسرةَ مَنْ فاته الخيرُ في رمضان، كم نُصِحَ المسكين فما قبل النصح، كم دُعِيَ إلى المصالحة فما أجاب إلى الصلح، كم شاهد الواصلين فيه وهو متباعد، كم مرت به زُمَرُ السائرين وهو قاعد، حتى إذا ضاق به الوقت، وخاف المَقْت ندم على التفريط حيث لا ينفع الندم، وطلب الاستدراك في وقت العدم.

إخوتاه .. أيام العشر أيام الحياة .. فيها الخيرات والبركات، والأجور الكثيرة، والفضائل الجزيلة، فيها تزكو الأعمال، وتُنال الآمال، كيف لا والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسهر ليلَه، ويحمِلُ كَلَّه، ويقوم الليلَ كُلَّه. هذه العشر تُملأ فيها المساجد، ويخشع فيها الراكع والساجد، وينهض إلى الخيرات كل قاعد، ويصير الراغب كالزاهد، شرَّف الله أوقات رمضان على سائر الأوقات، وخَصَّ العشر الأواخر بمزيدِ فضلِ وإكرام، فأجزَلَ فيها الإفضال والإنعام، ودليلُ فضله أن فيها ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر.

ليلة القدر

ليلة القدر فضلها عظيم، وخيرها عميم، وكيف لا وقد شهدت نزول القرآن الكريم، الذي يقود من اعتصم به إلى جنات الخلد والنعيم، كفى بقدر ليلة القدر أنها خيرّ من ألف شهر، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 1 - 5]. ليلةٌ مباركة، من حُرم خيرَها فقد حُرم الخيرَ كُلَّه؛ ولذلك يستحب للمسلم الحريص على طاعة الله أن يحييها إيمانًا وطمعًا في أجرها العظيم، بالقيام والذكر والقرآن والدعاء، ومن فعل ذلك غفر له كل ما مضى من ذنوبه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قام ليلة القدر إيمانًا وإحتسابًا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه" (¬1). ويستحب فيها الدعاء والإكثار منه، وخاصة بما جاء عن السيدة عائشة - رضي الله عنها - قلت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أيَّ ليلةٍ ليلةُ القدر؛ ماذا أقول؟، قال - صلى الله عليه وسلم -: "قولي: اللَّهم انك عَفُوٌ تحب العفو فاعف عني" (¬2). وقد كان السلف يخصون ليلة القدر بمزيد اهتمام؛ فكان ثابت البُناني يلبس أحسن ثيابه، ويتطيب، ويطيِّب المسجد بالنُّضُوح والدُخْنَة في الليلة التي يُرجى فيها ليلة القدر. وكان لتميم الداري - رضي الله عنه - حُلَّهٌ اشتراها بألف درهم، وكان يلبسها في الليلة التي ترجى فيها ليلة القمر. ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (35)، مسلم (760). (¬2) أخرجه أحمد (6/ 171)، وصححه الألباني (3337) في "الصحيحة".

وكما كانوا يستعدون لها بالتزين الظاهر؛ فإنهم علموا أنه لا يكمل تزيين الظاهر إلا بتزيين الباطن بالتوبة والإنابة إلى الله تعالى، وتطهيره من أدناس الذنوب وأوضارها؛ فإن زينة الظاهر مع خراب الباطن لا تغني شيئًا. فلا يصلح لمناجاة الملوك في الخلوات إلا من زين ظاهره وباطنه، وطهرهما؛ خصوصًا لملك الملوك الذي يعلم السر وأخفى، فمن وقف بين يديه فليزين له ظاهره باللباس وباطنه بلباس التقوى. روي عن مالك بن أنس أنه إذا كانت ليلة أربع وعشرين اغتسل وتطيب، ولبس حلة وإزارًا ورداء، فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلا مثلها من قابل. فعلى المسلم إذًا أن يتحرى هذ الليلة، فهي فرصة عمره وحياته، ومعلوم من السنة أن معرفتها رُفعت؛ لأن الناس تخاصموا: عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين (أي: تخاصما)، فقال: "إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة" (¬1). وعن أبي هريرة قال: قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُريتُ ليلة القدر، ثم أيقظني بعضُ أهلي فنسيتها، فالتمسوها في العشر الغوابر" (¬2). وورد أيضًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه التمسها في الوتر من العشر الأواخر، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان في وتر؛ فإني قد رأيتها فأُنسيتها" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (49). (¬2) أخرجه مسلم (1166). (¬3) أخرجه البخاري (780).

قال البغوي: وبالجملة، أبهم الله هذه الليلة على الأمة؛ ليجتهدوا في العبادة ليالي العشر طمعا في إدراكها، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة .. وأخفى رضاه في الطاعات ليرغبوا في جميعها، وسخطه في المعاصي لينتهوا عن جميعها، وأخفى قيام الساعة؛ ليجتهدوا في الطاعات حذرًا من قيامها. فخلاصة القول: أن المسلم يتحرى ليلة القدر في أوتار العشر الأواخر: ليلة إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، فإن ضعف وعجز عن طلبها في الوتر الأواخر؛ فليطلبها في أوتار السبع البواقي: ليلة خمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، والله تعالى أعلم. قال ابن رجب الحنبلي - رحمه الله -: كل زمان فاضل من ليل أو نهار فإن آخره أفضل من أوله، كيوم عرفة ويوم الجمعة، وكذلك الليل والنهار عمومًا آخره أفضل من أوله، وكذلك عشر ذي الحجة والمحرم آخرهما أفضل من أولهما. ولقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتكف في العشر الأوسط من رمضان، قبل أن يعتكف العشر الأواخر التماسًا لليلة القدر قبل أن يتبين له - صلى الله عليه وسلم - أنها في العشر الأواخر، ثم لما تبين له ذلك اعتكف العشر الأواخر حتى قبضه الله -عز وجل-. وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله" (¬1)، وشد مئزره أي اعتزل النساء، ويحتمل أن يريد به الجد في العبادة، ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بقي عشرة أيام من رمضان يدع أحدًا ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (1920)، مسلم (1174).

من أهله يطيق القيام إلا أقامه، وتأكد إيقاظهم في آكد الأوتار التي ترجى فيها ليلة القدر. وسميت ليلةُ القَدْر؛ لأنها أُنزل فيها كتابٌ ذو قَدْر، على لسانِ مَلِكٍ ذي قَدْر، على رسولٍ ذي قَدْر، وعلى أمةٍ ذاتِ قَدْر. أخي .. يهون العمر كله إلا هذه الليلة، الليلة التي نزل فيها القرآن جملة إلى السماء الدنيا، الليلة التي يُقَدَّرُ فيها أحكامُ تلك السَّنة، وتكتب فيها الملائكة الأقدار، الليلة التي تتنزل فيها الملائكة. لقد كان رسولكم - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها، ويعتكف التماسًا لتلك الليلة، كان يواصل ابتغاءً لتلك الليلة، فيا من ضاع عمره في لا شيء, استدرِك ما فاتك في ليلة القدر، فإنها تُحسَبُ بالعمر. ليلة .. يقبل الله فيها التوبة من كل تائب، يكتب فيها من أُمِّ الكتاب ما يكون في سنتها عن موت وحياة ورزق ومطر. وعن مجاهد: صيامها وقيامها أفضل من: صيام ألف شهر وقيامه ليس فيها ليلة القدر. وعن كعب الأحبار: نجد هذه الليلة في الكتب حطوطًا تحط الذنوب. وهي ليلة مباركة تشرف فيها الأرض بالملائكة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليلة القدر ليلة السابعة، أو التاسعة والعشرين، وإن الملائكة تلك الليلة أكثر في الأرض من عدد الحصى" (¬1). ومن علامات ليلة القدر أنها تكون ليلة لا باردة ولا حارة، وتشرق الشمس ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 519)، وحسنه الألباني (2205) في "الصحيحة".

يومها بلا شعاع: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليلة القدر ليلة سمحة، طلقة، لا حارة ولا باردة، تصبح الشمس صبيحتها ضعيفة حمراء" (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "تطلع الشمس صبيحة تلك الليلة ليس لها شعاع، مثل الطست حتى ترتفع" (¬2)، ولها علامات أخرى تظهر أكثرها بعد انقضاء الليلة. ومن حديث عبادة بن الصامت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "في ليلة القدر لا يحل لكوكب أن يرمى به حتى يصبح، وأن أمارتها أن الشمس تخرج صبيحتها مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر، لا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ" (¬3)، وروي عن ابن عباس أن الشيطان يطلع مع الشمس كل يوم إلا ليلة القدر؛ وذلك أنها تطلع لا شعاع لها. وقال مجاهد في قوله تعالى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}: سلام أن يحدث فيها داء أو يستطيع شيطان أن يعمل فيها شيء، وعن الضحاك عن ابن عباس قال: في تلك الليلة تصفد مردة الجن، وتغل عفاريت الجن، وتفتح فيها أبواب السماء كلها، ويقبل الله فيها التوبة لكل تائب. ابن آدم .. لو عرفت قدر نفسك ما أهنتها بالمعاصي، أنت المختار من المخلوقات، ولك أُعِدَّت الجنة إن اتقيت فهي أقطاع المتقين والدنيا إقطاع إبليس، فهو فيها من المنظرين، فكيف رضيت لنفسك بالإعراض عن أقطاعك ومزاحمة إبليس على أقطاعه، وأن تكون غدًا معه في النار من جملة أتباعه، إنما طردناه عن السماء لأجلك حيث تكبر عن السجود لأبيك، وطلبنا قربك لتكون من خاصتنا وحزبنا، فعاديتنا وواليت عدونا .. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني (139) في "الكبير"، وحسنه الألباني (5472) في "صحيح الجامع". (¬2) أخرجه أبو داود (1378)، وصححه الألباني (1229) في "صحيح أبي داود". (¬3) أخرجه أحمد (5/ 324)، وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: حسن.

وتحزن النساء لفوات قيام ليلة القدر بسبب حيض أو نفاس، ولكن عليهن بإحسان العمل طوال الشهر لكي يتقبله الله منهن، قال جويبر: قلت للضحاك: أرأيت النفساء والحائض والمسافر والنائم لهم في ليلة القدر نصيب؟، قال: نعم، كل من تقبل الله عمله سيعطيه نصيبه من ليلة القدر، ومعنى هذا أن الذي أحسن العمل في شهر رمضان يتقبل الله منه، والذي يتقبل الله منه لم يحرمه نصيبه من ليلة القدر. إخوتاه .. ليلة القدر .. ليلة يفتح فيها الباب، وُيقرَّب فيها الأحباب، ويُسمع الخطاب، وُيرد الجواب، وُيعطى للعاملين عظيمُ الأجر. ليلةٌ .. ذاهبة عنكم بأفعالكم، وقادمةٌ عليكم غدًا بأعمالكم، فياليت شعري ماذا أودعتموها، وبأي الأعمال ودعتموها، أتراها ترحل حامدةً لصنيعكم .. أو ذامةً تضييعكم. ليلة القدر .. عند المحبين ليلة الحَظْوة بأنس مولاهم وقربه، وإنما يفرون من ليالي البعد، ففيها تنزل الأملاك بالأنوار والبر. إخوتاه .. في العشر الأواخر، احترسوا من الغفلات القواتل، وتيقظوا فيها قبل لحاق الأواخر بالأوائل، واعتذروا فيها فإنها قلائل، قبل أن يرد اعتذار العاصي بتكذيبه، عظموها فإنها عظيمة الأمر، وانتظروا وارتقبوا فيها بحسن اليقظة ليلة القدر؛ فإنها غريبةٌ غريبة، وعجيبةٌ عجيبة. إخوتاه .. هذه فرصتكم الأخيرة في هذا الشهر للنجاة .. فتأهبوا للعشر بالعزم

الصادق على الخير، واجعلوا هممكم مصروفةً إلى حراستها لا غير؛ فإنها عشرٌ بالبركات الوافرة قد حُفَّت، وبالكرامة الظاهرة قد زُفَّتِ، فأعدوا لقدومها عُدَّة، واسألوا الله فيها التوفيق إلى أن تكملوا العِدَّة، والحذرَ الحذرَ من التفريط والإهمال والتكاسل فيها عن صالح الأعمال. قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19]. إخوتاه .. يا مؤمنون .. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا في سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا في الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 38 - 39]. إخوتاه .. إن شهر رمضان قد قَرُبَ رحيلُهُ وأَزَف، وهو ذاهبٌ عنكم بأفعالكم، وقادمٌ عليكم غدًا بأعمالكم، فياليت شِعري ماذا أودعتموه، وبأي الأعمال ودعتموه، أتراه يرحل حامدًا صنيعكم أو ذامًّا تضييعَكم، ما كان أعظم بركات ساعاته، وما كان أحلى جميع طاعاته، كانت لياليه عتقًا ومباهاة، وأوقاته أوقات خَدَمٍ ومناجاة، ونهاره زمان قربة ومصافاة، وساعاته أحيان اجتهاد ومعاناة، فبادروا البقية بالتقية قبل ذوات البر ونزولِ البرِّيَّة وتخلى عنك جميع البرِيَّة. أين المخلصُ المتعبد، أين الراهبُ المتزهد، أين المنقطعُ المتفرد، أين العاملُ المجوِّد، هيهات .. بقى عبدُ الدنيا وماتَ السيد، وهلكَ من خطؤه خطأ وعاش المتعمد، وصار مكان الخاشعين كلُّ منافقٍ متمرد .. رحل عنك شهر الصيام، وودعك زمانُ القيام، وألح النصيحُ وقد لام، أفتشرق شمسُ

الإيقاظ وتنام؛ فاستدرك ما قد بقيَ من الأيام، قد رأيناك توانيت في الأولى والثانية والثالثة؛ فما بعد أن دنا الصبح. أَتتركُ مَن تحُبُّ وأَنتَ جَارٌ ... وتَطلُبُهم وقَدْ بَعُدَ المَزَارُ وَتَبكِي بعدَ نَأْيُهِمُ اشتياقًا ... وتَسْأَلُ فِي المنازلِ أينَ ساروا تَرَكْتَ سُؤَالَهُمْ وهُمُ حُضُورٌ ... وتَرْجُو أن تُخَبِّرَكَ الدِّيَارُ فَنَفْسَكَ لُمْ ولَا تَلُمِ المَطَايَا ... ومُتْ كَمَدًا فَليسَ لَكَ اعْتِذَارُ حَنَانَيكَ يا شهرَ الصيام .. إيهٍ يا شهرَ الشهور .. مررتَ كالطيفِ وأسرعتَ الخُطا .. فكنتَ كالحُلم لا كبقيةِ الآماد .. وعليكمُ السلامُ يا شهرَ الإيمان .. السَّلامُ عليكَ يا شهرَ رمضانَ، السلامُ عليكَ يا شهرَ الصيام والقيام وتلاوةِ القرْآنِ، السلامُ عليك يا شهر التجاوز والغفرانِ، السلامُ عليك يا شهر البركةِ والإحسانِ، السلامُ عليك يا شهرَ التحفِ والرضوانِ، السَّلامُ عليكَ يا شهرَ الأمان، كنت للعاصين حبسًا، وللمُتقينَ أنْسًا، السلامُ عليكَ يا شهرَ النسك والتعبد، السلامُ عليك يا شهر الصيام والتهجد، السلامُ عليك يا شهرَ التراويح، السلامُ عليك يا شهرَ الأنوارِ والمصابيح، السلامُ عليك يا شهرَ المتجر الربيح، السلامُ عليك يا شهرًا يُتركُ فيه القبيحُ، السلامُ عليك يا أنسَ العارفين، السلامُ عليك يا فخْرَ الواصفين، السلامُ عليك يا نورَ الوامقين، السلامُ عليك يا روضةَ العابدين، السلامُ عليكَ يا شهرًا يتسابقُ فيه المتقون، السلامُ عليكَ من فؤادٍ لفِراقِكَ محزُون. فيا ليتَ شعري: هل تعودُ أيامُك أو لا تعودُ، ويا ليتنا تحققنا ما تشهدُ به علينا يوم الورود، ويا ليتنا علمنا مَن المقبولُ منّا ومن المطرودُ، وهل إذا عادتْ أيامُك فنحن في الوجود، وننافسُ أهل الركوع والسجودِ، أمْ قد انطبقت علينا اللُّحودُ، ومَزَّقنا البِلى والدودُ، فيا أسفًا لتصرُّمك يا شهر السُّعُودِ.

وإِذا عَزَمْتَ عَلَى الرَّحِيلِ فإنَّمَا ... حُزْنُ الفِرَاقِ يَحُزُّ في الأكَبَادِ فيا شهرَنا غير ومُوَدَّعِ ودعناك، وغير مَقْلِىَّ فارقناكَ، كان نهارُكَ صدقةً وصيامًا, وليلُك قراءةً وقيامًا، فعليك منا تحيةً وسلامًا، أتراكَ تعودُ بعدَها علينا، أو يُدْرِكُنا المَنونُ فلا تؤولُ إلينا، مصابيحنا فيكَ مشهورةٌ، ومساجدُنا منكَ معمورةً، فالآن تُطفأُ المصابيحُ، وتنقطعُ التراويحُ، ونرجعُ إلى العادة، ونفارقُ شهرَ العبادةِ. يا شهرَ رمضانَ تَرفَّق، دموعُ المُحِبين تَدَفَّق، قلوبهم من ألم الفراق تُشقق، عسى وقفةٌ للوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق، عسى ساعة توبة وإقلاع ترفو من الصيام ما تخرَّق، عسى منقطعٌ عن ركب المقبولين يلحق، عسى أسيرُ الأوزار يُطلَق، عسى من استوجب النار يُعتق. اللَّهم أعتقنا من النار يا رب، اللَّهم تقبل منا رمضان، اللَّهم تقبل منا الصلاة والصيام والقيام وسائر الأعمال؛ إنك سميع عليم .. اللَّهم سلِّمْنا لرمضانَ، وسَلِّمْ رمضانَ لنا، وتسلَّمْهُ منا مُتقبلًا .. اللَّهم أَعِدْ علينا رمضانَ أعوامًا عديدة، وأزمنةً مديدة. اللَّهم لك الحمد على أن وفقتنا لصيام رمضان وقيامه .. لك الحمد يا رب على أن وفقتنا لقيام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا .. لك الحمد بالإيمان، ولكَ الحمدُ بالإِسلام، ولكَ الحمدُ بالقرآن، ولكَ الحمدُ بالصلاة والصيام والقيام والصدقة والإحسان وقراءة القرآن .. لكَ الحمدُ أولًا وأخيرًا .. لكَ الحمدُ لا نُحصي ثَنَاءً عليك؛ أنتَ كما أثنيتَ على نفسِك .. نحمَدُكَ حَمدًا يُوَافِي نِعمَك وُيكافِئُ مَزِيدَك .. ونستغفرك ربنا من جميع الذنوب والخطايا والطاعات ونتوب إليك؛ إنك أنت التَّوابُ الغفور الرَّحيم.

وماذا بعد رمضان

وماذا بعد رمضان {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}

وماذا بعد رمضان؟! جاء رمضان .. ومضى رمضان .. سوق قام ثم انفض، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر، ويتوجع المسلم لفراق رمضان ويظل يتذكر أيامه ولياليه كيف كانت عامرة بالخيرات، ممتلئة بالعبادات، منيرة بالطاعات .. وينتهي رمضان وإذا بالمساجد تعود مرةً أخرى خاويةً على عروشها إلا من أهلها الذين هم أهلها، ويتباكى الدعاة إلى الله على جهدٍ على مدار شهر بذلوه؛ وإذا هم في نهاية الأمر لم يجدوا له الأثر الذي ظنوه وانتظروه .. لماذا ينتكس الناس بعد رمضان وينشغلون مرة أخرى بدنياهم بعد أن ذاقوا حلاوة القرب من مولاهم؟ لما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف أبو بكر يقول: من كان يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت .. وهأنذا أقول: من كان يعبد رمضان فإن رمضان قد انقضى، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت، قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26 - 27]، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]. أحبتي في الله .. قال ربكم جل جلاله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل: 92] .. هل رأيت امرأة تغزل ثوبًا وتغزل ثم تغزل، وبعد أن تم لها ذلك قامت فنقضت غزلها .. أعادت الثوب خيطًا كما كان، فهل هذا

فعل إنسانٍ عاقل .. هكذا حالك: إنك بعد أن كنت تقوم الليل إحدى عشرة ركعة يوميًّا في رمضان؛ تريد أن تترك هذا كله فلا تقوم الليل ولو بأربع ركعات، فأين أثر القيام فيك إذًا؟! ألست قد وجدت لذةً في قيام رمضان؟، فلماذا تحرم نفسك من هذه اللذة؟، لماذا تحرم نفسك من الأجر؟، لماذا تترك سوسة الكسل تنخر في إيمانك؟! إخوتاه .. إن ديننا هو دين الاستقامة لا يصلح فيه التلون والتفلت والزوغان، قال الله سبحانه وتعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود: 112]، فاستقم على أمر الله .. استقم على طاعة الله حتى تلقاه فيكون ذلك يوم عيدك الحقيقي، قال ربنا جل جلاله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]، واليقين: الموت، فكن ربانيًّا ولا تكن رمضانيًّا. استقم على طاعة الله ولا تتلون. لما جاء حذيفةَ بنَ اليمان الصحابيَّ الجليلَ - رضي الله عنه - الموتُ جلس عبد الله بن مسعود عند رأسه فقال: أوصني، فقال له: ألم يأتك اليقين؟، قال ابن مسعود: بلى وعزةِ ربي، فقال له حذيفة: فإياك والتلون؛ فإنه دين الله واحد. إنك لا بد أن تخرج من رمضان بقلبٍ قد أَلِفَ الطاعة وأحبها واعتادها حتى صارت له كالهواء والماء للإنسان، فإياك أن تقتل إيمانك بالتثاقل إلى الأرض، والإخلاد إلى الكسل، والرضا بالقعود والنكوص. إننى أريدك أيها الحبيب أن تكون شخصيةً ربانية مدى حياتك، لا على

فترات متقطعة في حياتك فتكون رجلَ المناسبات، إياك أن تهجر الطاعة، لا تهجر حفظ القرآن وتلاوته .. فالأعمال لم تنقطع بعد انتهاء رمضان، لم يُرفع عنك القلم بعد رمضان، قيل لأحد الصالحين: أيهما أفضل: رجب أم شعبان؟، فقال: كن ربانيا ولا تكن شعبانيًّا!!، لا بد أن تثبت وتصطبر وتربي نفسك وتُلزمها. إن أول خطوات طريق الفشل والضياع أن تتحكم فيك نفسك وتسيِّرك كيف شاءت، قم تقوم، اخرج تخرج، ثم تنام، كل تأكل، لا بد أن تمتلك أنت زمام المبادرة، لا بد أن تتحكم أنت في نفسك وتذللَّها لطاعة الملك جل جلاله. أيها الإخوة، لازالت الأعمال بعد رمضان لم تنقطع. فالقرآن لا يهجر بمجرد انتهاء رمضان، بل حافظ على وِردك الثابت فيه، دُمْ على ذلك فالقرآن هو الذي يزكِّي نفسك ويصلح قلبك، ويثبتك على طريق الحق، فلتستمر في قراءة القرآن جزءين في اليوم على الأقل، ثم زد إلى ثلاثة ثم إلى خمسة لتختم كل أسبوع كما كان يفعل الصحابة. كذلك القيام لم ينقطع، قم كل ليلة بإحدى عشرة ركعة، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يترك قيام الليل، فإذا فاته يومًا من وجع أو غيره صلَّى من النهار ثنتي عشرة ركعة، وذُكر أن الحسن بن صالح باع جاريةً له، فلما انتصف الليل قامت فنادتهم: يا أهل البيت، الصلاة .. الصلاة، قالوا: طلع الفجر؟، قالت: وأنتم لا تصلون إلا المكتوبة؟!!، ثم جاءت إلى الحسن فقالت: بعتني إلى قومٍ لا يصلون إلا المكتوبة؟!! .. رُدَّني. والصيام لم ينقطع، فعليك أن تبادر بصيام ستة أيام من شوال حتى تكون كأنك صمت السنة كلها، رمضان ثلاثون يومًا، والحسنة بعشر أمثالها فيكون ثلاثمائة، وستة أيام بعشر أمثالها إذًا ستون يومًا، فتكتمل السنة، كأنك صمت

سنةً كاملة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من صام رمضان ثم أتبعه سِتًا من شوال؛ كان كصيام الدهر" (¬1)، وهناك ثلاثة أيام في كل شهر كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصومها ويأمر بصيامها هي الأيام البيض: ثالث عشر، ورابع عشر وخامس عشر من كل شهر عربي. قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: "أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث لن أدعهن ما عشت: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، وألا أنام حتى أوتر" (¬2)، وأريدك أن تنتبه جيدًا إلى قوله - رضي الله عنه -: لن أدعهن ما عِشت. وهناك غير ذلك صيام الاثنين والخميس، قال - صلى الله عليه وسلم -: "تُعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحبُّ أن يُعرض عملي وأنا صائم" (¬3). وهناك الصوم في المحرم، فيستحب فيه الصيام استحبابًا عظيمًا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم" (¬4). باع قومٌ من السلف جارية، فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له ويستعدون بالأطعمة وغيرها، فسألتهم فقالوا: نتهيأ لصيام رمضان، فقالت: وأنتم لا تصومون إلا رمضان!، لقد كنتُ عند قوم كُلَّ زمانِهم رمضان، رُدوني عليهم .. وأنواع الصيام كثيرة كصيام العشر الأوائل من ذي الحجة، وصيام شعبان؛ بل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم حتى يقول الصحابة: لا يفطر، ويفطر حتى ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1164). (¬2) متفق عليه، البخاري (1124)، مسلم (721). (¬3) أخرجه أحمد (5/ 201)، وصححه الألباني (1041) في "صحيح الترغيب والترهيب". (¬4) أخرجه مسلم (1163).

يقولوا: لا يصوم، فالصيام مدرسة لتزكية النفس، وهي وصيتي الخاصة للشباب وخصوصًا في هذه الأيام التي امتلأت بالفتن، أسال الله أن ينجيني وإياكم منها. والأعمال الصالح؛ كلها لم تنقطع بانقطاع رمضان. قيل لبشر: إن قومًا يتعبدون ويجتهدون في رمضان فقط، فقال: بئس القوم لا يعرفون لله حقا إلا في رمضان. إن الصالح الذي يتعبد ويجتهد السنن؛ كلها، فأكثِر من الصدقة والإنفاق في سبيل الله، كلما مَنَّ الله عليك بفضله، وأكثر من ذكر الله وتسبيحه في كل أحوالك وفي كل أحيانك. حتى الاعتكاف لم ينقطع بانتهاء رمضان، فالاعتكاف مشروع طيلة السنة. إخوتاه .. بادروا بالأعمال الصالح؛ فطوبى لمن بادر عمره القصير، فعمَّر به دار المصير، وتهيأ لحساب الناقد البصير، قبل فوات القدر؛ وإعراض النصير. كان الحسن يقول: عجبتُ لأقوام أُمروا بالزاد، ونودي فيهم بالرحيل، وجلس أولهم على آخرهم وهم يلعبون!! وكان يقول: يا ابن آدم، السكِّينُ تُشحَذ، والتَّنور يُسجر، والكَبشُ يُعتلف. وقال أبو حازم: إن بضاعة الآخرة كاسدة فاستكثروا منها في أوان كسادها؛ فإنه لو جاء وقت نفاقها لم تصلوا فيها إلى قليلٍ ولا كثير. وكان عون بن عبد الله يقول: كم من مستقبلِ يوم لا يستكمله، وكم من مؤملٍ لغدٍ لا يدركه، إنكم لو رأيتم الأجل ومسيره؛ لأبغضتم الأمل وغروره.

وكان أبو بكر بن عياش يقول: لو سقط من أحدكم درهمٌ لظل يومه يقول: إنا لله .. ذهب درهمي، وهو يذهب عمره ولا يقول؛ ذهب عمري، وقد كان لله أقوام يبادرون الأوقات، ويحفظون الساعات، ويلازمونها بالطاعات. هذا الفاروق عمر - رضي الله عنه - ما مات حتى سَرَدّ الصوم. وكانت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - تسرد، وسرد أبو طلحة بعد رسول الله أربعين سنة. وقال نافع: ما رأيت ابن عمر صائمًا في سفره، ولا مفطرًا في حضره. وقال ثابت البُناني: ما تركت في المسجد سادِنةً إلا وختمتُ القرآن عندها. وقيل لعمرو بن هانئ: لا نرى لسانك يفتر من الذكر فكم تسبح كل يوم؟، قال: مائة ألف، إلا ما تخُطئ الأصابع. وصام المنصور بن المعتمر أربعين سنة وقام ليلها، وكان الليل كله يبكي، فتقول له أمه: يا بني، قتلت قتيلًا؟، فيقول: أنا أعلمُ بما صنعتُ بنفسي. قال الجماني: لما حضرتْ أبو بكر بن عياش الوفاة بكت أخته، فقال: لا تبك، وأشار إلى زاوية في البيت، إنه قد ختم أخوك في هذه الزاوية ثمانية عشر ألف ختمة. كان بعض السلف يقول: صم الدنيا واجعل فطرك الموت، الدنيا كلها شهر صيام المتقين يصومون فيه عن الشهوات المحرمات، فإذا جاءهم الموت فقد انقضى شهر صيامهم واستهلوا عيد فطرهم. وقَدْ صُمْتُ عَنْ لذاتِ دَهْرِي كُلِّها ... ويَوْمَ لِقَاكُمْ ذَاكَ فِطرُ صِيامِي من صام اليوم عن شهواته أفطر عليها بعد مماته، ومن تعجل ما حُرَّمَ عليه

قبل وفاته؛ عوقب بحرمانه في الآخر؛ وفواته، قال الله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ في حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20]. كان الإمام علي يقول في آخر ليلة من رمضان: ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه، ومن هذا المحروم فنعزيه. وكذلك كان يقول ابن مسعود - رضي الله عنهما -: من هذا المقبول منا فنهنيه؟، ومن هذا المحروم منا فنعزيه؟ وكأن المستفاد من ذلك أولًا أن قبول الأعمال غيب، وأن غاية ما كان من سعي المكلفين إنما هو في تحصيل صور الأعمال ومظاهرها، وأما المعول والذي عليه المدار في القبول؛ إنما هو حقائق الأعمال ومقاصدها. فليت شعري من هذا المقبول فنهنيه، ومن هذا المحروم فنعزيه؟ إن ذلك غيب، لا يدري أحدٌ أين المقبول؟، وأين المحروم؟ واستفدنا كذلك أنه لا بد بعد إنقضاء العمل من وقفة المحاسبة للنفس، والنظر فيما كان فيه هذا العمل، وهل وقع هذا العمل من الله تعالى موقع القبول، أو كان هذا العمل في محل الرد والحرمان؟ فاكتسبت النفس لذلك وَجَلًا بعد ما ظنت انقضاء زمان السعي والمجاهدة، جاءها زمان آخر .. زمان المحاسبة للنفس، والمعاقبة على تقصيرها، والمجاهدة لشكر نعم الله -عز وجل- عليها. قال بعض السلف: كانوا يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهم: أيقبل منهم أم لا، فما ينفكون من وجلهم وإشفاقهم في أثناء أعمالهم، وما يذهب عنهم وجلهم ولا إشفاقهم بعد انقضاء تلك الأعمال، لا يدرون قبلت منهم أعمالهم أم ذهبت تلك الأعم الذي غير محل القبول؟

مقتضيات القبول

واستفدنا كذلك من قول الصحابيين الجليلين أن لايزال العبد واقفًا بباب الله، فهذا المقبول لا ينقضي بعمله المقبول سعيُه، بل يقتضي هذا العمل المقبول سعيًا موصولًا في شكر نعمة الله -عز وجل- التي آتاه، وفي القيام بحق الله -عز وجل- في التوفيق للعمل الصالح، وفي مزيد التنعم بما أذاقه الله عز وجل من حلاوة الطاعة. وكذلك ذلك المحروم، لا ينقطع به الرجاء من ربه الكريم جل جلاله سبحانه وتعالى؛ بل إن حرمانه ذلك يعني ذهاب جولة من جولات السعي بسبب سوء فعله ومرذول قصده، فإذا حصل له التنبه لذلك فلابد أن تكون جولة سعيه الأخرى أحظى بالقبول وأرجى لاستحقاق رحمة أرحم الراحمين. مَنْ هذا المقبول الذي أُعين على الصيام والقيام، وعلى إصلاح وظائف الأعمال من الصلوات المكتوبات والجمعات. مَنْ هذا المقبول الذي أُعين على وظيفة الصدقة ووظيفة تلاوة القرآن، وختم له رمضان بالسداد في الأعمال الصالحات؟ مَن هذا المقبول فنهنيه؟ مقتضيات القبول: أولًا: الانكسار لعظمة الله: وتهنئتنا له وتهانينا إليه بفضل الله -عز وجل- الذي آتاه، وأن ذلك يعني منه مزيد إنكسار لعظمة الله، وعرفان بنعمة الله -عز وجل-، ومزيد سعي لشكران تلك النعم. فعن أبي عمران الشيبانى: قال موسى يوم الطور: يا رب .. إن أنا صليتُ فمن قِبلك، وإن أنا تصدقت فمن قبلك، وإن أنا بلَّغتُ رسالاتك فمن قِبلك، فكيف أشكرك؟، فقال الله تعالى لموسى: الآن شكرتني.

فهذا قول الكليم .. كليم الله -عز وجل- .. وهو قول العارف بفضل الله المقر بإحسانه، قال: يا رب، إن أنا صليت فمن قِبلك، لا من سعي نفسي، ولا من تحصيلها، فلو وُكِلْتُ إلى نفسي، ولو وُكِلَتْ النفسُ إلى ما فيها؛ لما كان من العبد إلا العجز والتقصير، والتواني والذنب، والخطيئة والسيئات. يا رب .. إن أنا صليتُ فمن قِبلك، وإن أنا تصدقتُ فمن قِبلك؛ فكذلك ليس المال من تحصيلي؛ بل هو من رزقك وفضلك وعطائك، ولو شئتَ لم أكتسب شيئاً من ذلك المال، وقد أُحضرت الأنفس الشُّح، وجُبلت على الإمساك والبخل، فلولا أن تجود عليَّ بمباعدة شُحِّ نفسي؛ ما كان مني صدقة ولا إنفاق. فيا رب، إن أنا تصدقت فمن قِبلك، فليس لي من ذلك العمل أيُّ شيء أنسبه لنفسي. ويا رب، إن أنا بلغتُ رسالاتك فمن قِبلك، فليس ذلك البيان، ولا الشفقة على المكلفين، ولا الإعانة على البلاغ، ولا إيصال ذلك إلى قلوب المكلفين، ولا حركة المكلفين بموجب ذلك، وليس شيءٌ من ذلك من سعي العبد ولا من تحصيله؛ بل كل ذلك بفضل الله -عز وجل- وإحسانه. وإن أنا بلغت رسالاتك فمن قبلك؛ فكيف أشكرك؟ فلو كانت الصلاة شكرًا، فما هي من سعيي، والشكر فعل ينسب إلى العبد لا إلى صاحب الإنعام والإكرام. وإن كانت الصدقة شكرًا، فهي كذلك من فضلك؛ فليس ينسب إلى العبد شيء من ذلك. وإن كان البيان عن الله والبلاغ لرسالته شكرًا؛ فهو كذلك من الله -عز وجل- لا من المخلوقين.

ذهبت حيل السعاة في شكر الله، وعجزوا عن شكر الله -عز وجل- على نعمه، فأصبح إقرارهم بالعجز هو إعلانهم بالشكر لله -عز وجل- على نعمائه. فكان جواب الكريم للكليم: الآن شكرتني. إقرارك بعجزك عن الشكر هو حقيقة ذلك الشكر، فإن شكر نعمة الله -عز وجل- يكون بنعمةٍ أخرى من الله -عز وجل- وفضلٍ وإحسان، يستوجب شكرًا آخر، حتى يكون الشكر الآخر نعمةً أخرى تستوجب شكرًا آخر، وهكذا. فيُفضي الحال إلى الإقرار بالعجز، والإعلان بالقصور، وأن شكر نعمة الله -عز وجل- هو الإعلان بالعجز عن شكره. ثانيًا: شهود مِنَّةِ الله: فليت شِعري مَنْ هذا المقبول فنهنيه، على فضل الله الذي آتاه، وأن ذلك يقتضي الإعلان بشكر نعمة الله، والإعلان بالعجز عن القيام بذلك، وأن ذلك يقتضي مع تلك التهنئة الالتفات للعمل والنظر إليه، حتى يشهد منة الله عز وجل فيما كان، وحتى يرى تقصير نفسه في كل عبادة يرى فيها أوجه عجزه وأبواب قصوره وضعفه وتوانيه وتباطئه مع فضل الله -عز وجل- السابق، وإحسان الله تعالى الغالب عليه. ثالثَا: مطالعةُ عيبِ النفسِ والعمل: وتهنئة المقبولين تعني التفاتًا إلى نعمة رب العالمين، وتعني رجوعًا إلى هذه الأعمال التي كانت، بالنظر إليها، والتفتيش في أوجه القصور والنقص فيها، وأنه كان ينبغي أن تكون هذه الأعمال أفضل مما تأدت، وأن حق الله -عز وجل- أعظم من ذلك، وأن حق خطايا هؤلاء المقبولين وسيئاتهم يقتضي عملًا أكثر، فما يُزيل أدرانَ قلوبهم أضعاف أضعاف ما قدموا؛ بل إن هذه السيئات والعيوب

تقتضي منهم سعيًا موصولًا وعبادةً غيرَ منقطعة وشغلًا دءوبًا بذكر الله -عز وجل- ومحبته إلى الممات، لا يقوم حق الله -عز وجل- بدون ذلك. فليت شِعري مَنِ المقبول؟، حتى يستحق تلك التهاني، وينال مع تلك التهاني تنبيهات على سعيه. رابعًا: استقامة القلب: ليت شِعري مَن هذا المقبول فنهنيه؟، حتى تكون تهنئتنا له على ما نال قلبه من ذلٍّ لله -عز وجل- وتعظيم لأمره، وانكسارٍ من ذلك القلب، ورقةٍ على الخلق ليستديم ذلك الحال، وليتحول إلى شخصٍ آخر بعد منحة الله -عز وجل- له في رمضان، وعطائه إليه وإحسانه. خامسًا: الثبات على العمل الصالح: ليتَ شِعري مَن المقبول فنهنيه؟، بأن يرجو موسم رمضان آخر بينهما عبادة موصولة، وشغلٌ بالله -عز وجل- وطاعته وخدمته ومحبته، شغلٌ دائمٌ غيرُ منقطع. ليتَ شِعري من هذا المقبول فنهنيه؟، حتى تكون تهنئتنا له سببًا لثباته على ما وفَّقهُ الله -عز وجل- له من العمل الصالح. فما ينقضي مع انقضاء رمضان صيامه .. وما يذهب مع ذهاب ليالي رمضان قيامه .. وما يعود إلى ما كان منه من وحشةٍ بينه وبين مصحفه وورِد قرآنه .. ليتحول إلى شخصٍ مقتدٍ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - "فقد كان عمله - صلى الله عليه وسلم - دِيْمَةً" (¬1). ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (1886)، مسلم (783).

وأخبر - صلى الله عليه وسلم -: "إن أحب الأعمال إلى الله -عز وجل- أدومها وإن قل" (¬1)، فأحب العمل أدومه وإن قل، فيكون تهنئتنا للمقبولين سببًا لدوامهم على ما آتاهم الله -عز وجل- من أسباب التوفيق، فيقتدون في ذلك بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. تهانينا .. تهانينا أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن لا تغتر، إنما قبلتَ بتوفيق الله، وتسديد الله، وفضل الله ورحمته، وليس منك؛ فليتعلق قلبك بالله شكرًا لله. أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن لا تفرح بعملك؛ فإن الله يستحق أكثر من ذلك. أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احرس قلبك حترل لا تضيِّع لذة الطاعة التي حصلتها في رمضان. أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احذر المشي والقعود مع البطالين والاغترار بهم. أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن اعلم أن علامة القبول الازدياد كل يومٍ من الطاعة. أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن سل نفسك: هل قوة الاندفاع للعبادة ضعفت عندك أم لا؟ أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن هل لو مت الآن ستجد الله راضيًا عنك. ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (6099)، مسلم (783).

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن سل نفسك: هل عملي يبلغني أعلى الجنان أم يكفي لمجرد نجاتي من النار؟ أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احذر الفتور والقعود عن طاعة الله. أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن إذا لعبت أو لهوت بعد رمضان فهذه علامة الخسران. أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احذر أن يعود قلبك لقساوته بعد أن انجلى في رمضان. أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احذر أن تهدم ما بنيته، وتعبت فيه وسهرت من أجله. أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احذر أن تكون رمضانيًّا، تتعامل مع الله شهرًا وتتركه أحد عشر. أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احذر أن تزوغ بقلبك بعد أن ذقت وعرفت، حتى لا تثبت على نفسك الحُجَّة يوم القيامة. أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن اعلم أن واجب الشكر لله يحتم عليك أن تشكر نعمة الطاعة التي وفقك الله إليها وأعانك عليها بالعمل، قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن لا تُهِنْ نفسك بعد أن أكرمك الله بالعبودية له وحده. أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احذر أن تعصي ربك وتهجر كلامه. أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احذر جمود العين وسوء الأخلاق.

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احذر تضييع الأوقات، فكما كنت حريصًا على الوقت في رمضان حافظ عليه بعده. أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن حافظ على الشحنة الإيمانية الكبيرة التي معك وزد عليها ولا تنقص. أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن هل أنت حزين بانتهاء الشهر أم فرحان؟ أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن أريدك أن تقارن بين قلبين: قلبك في رمضان، وقلبك بعد رمضان .. انظر وتأمل. أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن سل نفسك: هل أنا بعد رمضان مقبلٌ على الدنيا بقلبي وعقلي أم أن الآخرة مازالت أكبرَ همي؟ أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احذر أن ينتهي الصيام بانتهاء رمضان. أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن السعيد من استعد ليوم الوعيد. أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احذر من الاعتماد على ما قدمت؛ فإن من يحب مولاه يواصل السير إليه. أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احذر الالتفات والمكر؛ فالله معك يسمعك ويراك. أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن اعلم أن الحقيقة، حقيقة القلب لا الظاهر فحسب، قال تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا في نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25]. أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احذر ضياع التقوى التي حصلتها. أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احذر أن يقال لك: تعازينا ..

مقتضيات الحرمان

وليت شِعري من هذا المحرو فنعزيه؟ حتى يرى أن مصيبة الدين أعظم من مصيبة الدنيا، وأن التفسير الذي يكون في عمله الصالح ينبغي أن يكون أشد عليه من ضره في بدنه أو ماله، وأنه مهما أصابه من مصائب الدنيا، فحق جبرانها وتعويضها مضمون، وأما مصيبة الدين فحظه من الله -عز وجل- قد ذهب، وحظه من الآخرة قد ولَّى. مقتضيات الحرمان: فليت شِعري كيف يستدرك ذلك، وقد فات وذهب بذهاب أيامه وأزمانه؟ أولًا: الإقرار بظلمه لنفسه: ليت شِعري من هذا المحروم فنعزيه؟، وكلنا ذلك المحروم، حتى يعلم أن ما أصابه بكسبه ومرذول عمله وسيئاته في قصده ووجهته، وأن ذلك مع إحسان الله -عز وجل- وفضله غيرُ لائقٍ منه، وغيرُ مناسبٍ لعقله وإيمانه، وأن الله تعالى لم يظلمه شيئًا، ولكن ظلم نفسه. قال سبحانه في الحديث القدسي: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" (¬1). ثانيًا: التنبه لشؤم السيئات: ليت شِعري من هذا المحروم فنعزيه؟، ويعلم أن هذه السيئات والتفريطات إنما هي نتاجُ سابقِ السيئاتِ والتفريطات، وأن جزاء الحسنةِ التوفيقُ لحسنةٍ بعدها، وأنَّ عقوبة السيئة الخذلان حتى يقع في سيئةٍ تتلوها وتكون بعدها. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2577).

ثالثًا: لزوم الوقوف بالباب: ليت شِعري من هذا المحروم حتى نعزيه؟، ويكون عزاؤنا أن فضل الله -عز وجل- الواسع يقتضي لزوم الوقوف بالباب، وألا يفارق العبد باب ربه مهما كان من ظلم العبد أو سوء فعله، فلا يزال من الله -عز وجل- الكرم والجود، وإن كان من العبد البخل والإمساك، ولايزال من الله -عز وجل- الإحسان والعطاء، وإن كان من المكلفين الإساءة وسوء الفعل. رابعًا: لزوم التوبة: ليتَ شِعري من هذا المحروم فنعزيه؟، ويعلم أنَّ الله -عز وجل- يبسط يده بالله ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيءُ الليل، حتى تطلع الشمس في مغربها، ويعلم أن باب الله -عز وجل- لا يزال مفتوحًا، وأن الله تعالى لا يرد توبة التائب "لله -عز وجل- أفرح بتوبة أحدكم من أحدكم وقع على بعيره وقد أضله في أرض فلاة " (¬1). فلا تزال التوبة متاحة ما لم تبلغ روحك أيها المحروم حلقومك، فمتى أمدك الله -عز وجل- وأفسح في أجلك فلا تزال مدةُ تراجعِك قائمة، لايزال أمرُ توبتِك لازمًا غير معفيِّ أنتَ منه. خامسًا: إصلاح العمل: ليتَ شِعري من هذا المحروم فنعزيه؟، حتى يعلم أنه لا بد له من أن يصلح عمله؛ حتى يكون عمله ذلك بالنية الخالصة لرب العالمين .. وحتى يكون عمله ذلك وَفْقَ سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - .. ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (5949)، مسلم (2675).

وحتى يكون عمله ذلك خاليًا من آفة الغرور وآفة العجب، فلا يرى عملًا يُعجبُ به؛ بل يرى فضل الله الذي يستوجب انكساره وذله لربه، صاعلانه بالعجز عن شكره، ولا يرى نفسه التي تأدى منها العمل، بل يرى نفسه التي هي أسباب القصور في العمل والعجز عن القيام بحق الله تعالى. سادسًا: إنما يتقبل الله من المتقين: قال علي - رضي الله عنه -: "كونوا لقبول العمل أشد منكم اهتمامًا بالعمل، ألم تسمعوا الله -عز وجل- يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ}. وقال بعضهم: لأن أكون أعلم أن الله يتقبل مني مثقال حبَّة من خردل أحب إلى من الدنيا وما فيها؛ لأن الله -عز وجل- يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ}. وقال بعضهم: كانوا يدعون الله -عز وجل- ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أخرى أن يتقبل منهم رمضان. كل ذلك يعني أن رمضان بذهاب أيامه ينقض، وأن وظائف رمضان لا تزال قائمة، وأن ما كان من عمل في رمضان فلا يزال ينادي على المكلفين ويستتبع اهتمامهم بقبول ذلك العمل، بعد ما وقع منهم العمل، فقد كانوا يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهم أيقبل منهم أم لا، وكان خوفهم ألا يقبل منهم عملهم أشد عليهم من العمل نفسه، فما يذهب بذهاب مواسم الطاعات الإقبال على الله -عز وجل-، ولا الاهتمام بالأعمال الصالحات. بل إذا ذهبت مواسم الطاعات؛ بقي بعد ذلك استكمال حقوق هذه الطاعات، واستتمام ما يكون من لوازمها، من النظر فيها، والتفتيش في آفاتها، والحذر من إفشائها؛ حتى تكون أبعدَ عن الرياء.

تعازينا .. تعازينا أيها المحروم، تعازينا؛ أيها المحروم جَبَرَ الله مصيبتك؛ ولكن لم تنته الدنيا بانتهاء رمضان ومازال في العمر بقية، ومازال ربنا جل جلاله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، فتب وقد تاب الله عليك. أيها المحروم، تعازينا؛ ولكن لا تيأس: {أَلًا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ الله لَكُمْ} [النور: 22]، إذا كان في الصوم دعوة مستجابة؛ ففي كل ليلة ربك يقول في الثلث الآخر: "هل من سائل فأعطيه"، ما زالت أمامك فرصة لم تنته، القضية أنك لن تُخَلَّد في جهنم مادمت مُوحَّدًا، مازالت أمامك فرص. أيها المحروم، تعازينا؛ ولكن قف لتنظر من أين أُتيت، لم خُذِلت، بمَ انتكست، لا شك أنه من عند نفسك {رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، الفرص كانت أمامك متاحة وأنت خَذلت نفسك، أنت أوكستَ نفسَك، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76]؛ فلذلك قف لتتخلص من النفس الأمارة بالسوء، قف لتتأمل كيف ضاع منك رمضان كما ضاع سنين، قف فالمؤمن لا يُلدغ من جُحْرٍ واحدٍ مرتين. أيها المحروم، تعازينا؛ ولكن إن كان قد ضاع منك رمضان؛ فإن الله الحيَّ باقٍ معك على الدوام، يدعوك للإقبال عليه والإنابة إليه؛ فأقبل تُقبل. أيها المحروم، تعازينا؛ ولكن اعلم أن أبواب الرحمات مفتوحة طوال العام، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم تطلع الشمس من مغربها" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2703).

أيها المحروم، تعازينا؛ ولكنك لازلت حيًّا تستطيع أن تستدرك ما فاتك؛ بالتوبة والعزم على استغلال رمضان القادم من الآن؛ فاستعد. أيها المحروم، تعازينا؛ ولكن اعلم أن مواسم الطاعة متنوعة وكثيرة، ومن فضل الله علينا أنها في كل شهر، فبعد رمضان ستٌّ من شوال، ثم عشرٌ من ذي الحجة، ثم الحج، ثم شهر المحرم، وهكذا مواسم وطاعات طوال العام. أيها المحروم، تعازينا؛ ولكن أمامك صيام الاثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، وقيام إحدى عشرة ركعة يوميًّا، والصدقة، وقراءة القرآن وغير ذلك، فهي أبواب للخير في رمضان وغيره؛ فأقبل ولا تحزن. أيها المحروم، تعازينا؛ ولكن حاول أن تقوم بعمرة في الفترة القادمة؛ لتعوض ما فاتك وتجبره. أيها المحروم، تعازينا؛ ولكن لا تخف ولا تحزن؛ فالكريم سبحانه شكورٌ يشكر على القليل، ثم ينميه، ولكن بشرط الإخلاص. أيها المحروم، تعازينا؟ ولكن اقتنص كل فرصة بعد ذلك تأتيك في طاعة الله. أيها المحروم، تعازينا؛ ولكن قل: قَدَّرَ الله وما شاءَ فعل، وتعلَّم من أخطائك حتى تتقدم بعد ذلك. أيها المحروم، تعازينا؛ ولكن في لحظة تستطيع أن تكون وليًّا حقًّا .. تقيًّا حقًّا، بالتوبة والإقبال على الله، والندم على ما فات، والعزم على الإصلاح. أيها المحروم، تعازينا؛ ولكن لا تيأس؛ فإنه {لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]. أيها المحروم، تعازينا؛ ولكن معك سلاح قوي تستطيع أن تفتح به كل مغلق وهو الدعاء، فالزم التضرع والافتقار.

أيها المحروم، تعازينا؛ ولكن ندمك على ما فاتك يُرضي الله عنك فيرحمك، فأبشر مادمتُ نادمًا عازمًا. أيها المحروم، تعازينا؛ ولكن أبشر فأنت مسلمٌ موحد تصلي وتذكر الله وتحب نبيك محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فيرجى لك ومنك الخير. أيها المحروم، تعازينا؛ ولكن حاول مرة أخرى، وتأسَّ بالنمل، المخلوق الضعيف الذي يحاول مرات ومرات؛ حتى يسلك الطريق الذي يريده. أيها المحروم، تعازينا؛ ولكن أبشر؛ فإن لك ربًّا هو الله، الغني القوي الحنَّان المنَّان الملك الرحمن الرحيم الودود اللطيف يقول: "من تقرب مني شبرًا تقربت إليه ذراعًا". أيها المحروم، تعازينا؛ ولكن أبشر بجنةٍ عرضها السموات والأرض إن استقمت وعُدْتَ إلى الله. أيها المحروم، تعازينا؛ ولكن لازالت معك الجوهرة العظيمة، والمعجزة الخالدة، تراها وتمسكها بيدك: القرآن الكريم، فاسعد به واتْلُهُ ليلًا ونهارًا. أيها المحروم، تعازينا؛ ولكن أبشر وتفاءل بندمك وتوبتك وتحسرك على ما فات منك، فتلك علامة صحة قلبك، وادع الله أن يبلغك الخير. أيها المحروم، تعازينا؛ ولكن انتظر أن نقول لك: تهانينا. ليت شِعري من المحروم فنعزيه؟، حتى يحبس نفسه على طاعة الله ويمنعها من مألوفاتها ومحبوباتها وشهواتها، ويعلم أن ذلك الحرمان إنما أصابه لاستغراقه في تحصيل شهواته، ولتركه سنن النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قعدت به عاداته ومألوفاته عن فوزٍ عظيم. يا حسرةً على ما فاته!! .. من صام رمضان وهو يعزم إذا ذهب رمضان أن لا يعصي الله تعالى؛ فإنه

وقد يسأل: كيف أعرف أنني من المقبولين؟

مقبولٌ بغير حساب ولا عذاب، ومن صام رمضان وهو يعزم إذا ذهب رمضان أن يعصي الله تعالى، فصومه مردود عليه، وعمله غير مقبول منه. فليت شعري من هذا المحروم فنعزيه؟، حتى يكون عزاؤنا له إلزامًا له ببداية توبته واستكمال استقامته، وحذره من أن لا يأتيه رمضان آخر، حتى يكون ذلك تحذيرًا له من أن يأتيه الموت بغتة، {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ في جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر: 56 - 59]. وقد يسأل: كيف أعرف أنني من المقبولين؟ والجواب والله أعلم: (1) أن يجد قلبه أقرب إلى الله، وآنس به وأحب إليه، فهذه ثمرة الطاعة وعلامة القبول. (2) أن يحب الطاعات ويقبل عليها، ويشعر أن أبوابها تتفتح له وييسر له فعلها، ويشعر أن أبواب المعاصي تغلق عنه ويصرف عنها، ويكرهها ويستنكف عن فعلها. (3) أن لا يفقد الطاعات التي كان يقوم بها في رمضان، بل يواظب عليها، بل ويستحدث بعد رمضان أعمالًا لم تكن له قبل رمضان. (4) أن لا يعود إلى الذنوب التي تاب منها في رمضان، فقد تكلم العلماء فيمن تاب من ذنب ثم عاد إليه، أن هذا دليل على أن توبته لم تقبل؛ لأنها لو قبلت لما عاد إلى الذنب مرةً أخرى، لذلك ثبت في الحديث أن "من أساء في

الإِسلام أخذ بالأول والآخر" (¬1)، أي عوقب بذنوبه السابقة أيضًا؛ لأن في الإساءة بعد التوبة حبوط للتوبة، ولعل من أسرار هذا، الأمر بالعمل الصالح بعد التوبة، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70]، {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وأتبع السيئةَ الحسنةَ تمحها" (¬2)، فاشتراط العمل الصالح بعد التوبة حزمُ في منع الرجوع إلى الذنب. (5) استشعار المنة، وعدم الإدلال بالعمل: قد يبتلى العبد بعد رمضان بشعور غامر أنه أدى ما عليه، وحبس نفسه في رمضان عن أشياء كثيرة مما يشتهيه، فتجده يوم العيد عاصيًا!!، وهذه من علامات عدم القبول، أن ينقلب على عقبيه بعد رمضان مباشرة، {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي الله الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، ولذلك من علامة القبول أن تجده خائفًا على العمل وجلًا ألا يتقبل، مستشعرًا فضل الله ونعمته عليه، متحدثًا بذلك، شاكرًا لأنعم الله، مواصلًا للذكر. (6) ذكر ابن رجب -عليه رحمة الله وبركاته- أن من علامات قبول رمضان: صيام ستٍّ من شوال، وذكر لصيام الست فوائد عظيمة لا أستطيع أن أغفلها، فخذها هنيئًا مريئًا، وافرح إن صمت الأيام الست بهذه النيات، ولعل فهمك لهذه الفوائد وعملك بها رزق ساقه الله إليك ليقبلك، فهيا أيها المقبول أبشر بعد أن تعمل: ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (6523)، مسلم (120). (¬2) أخرجه أحمد (5/ 153)، وحسنه الألباني (97) في "صحيح الجامع".

فوائد صيام ست من شوال بعد رمضان

فوائد صيام ستٍّ من شوال بعد رمضان: (1) تحصيل ثواب صيام الدهر: وذلك أن صيام الدهر -والله يجزي على الحسنة عشر أمثالها-يعني أن يكتب للعبد صيام عشرة أشهر مقابل صيام شهر رمضان، ويكون صيام الستة أيام قائما مقام ثواب صيام شهرين آخرين، فيكون العبد بذلك قد استكمل ثواب صيام دهره. (2) صيام شوال وشعبان كصلاة السنن الرواتب قبل الصلاة المفروضة وبعدها، فيكمل بذلك ما حصل في الفرائض من خلل ونقص، فإن الفرائض تكمل بالنوافل يوم القيامة، كما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه متعددة، وأكثر النأس في صيامه للفرض نقص وخلل، فيحتاج إلى ما يجبره ويكمله من الأعمال؛ ولهذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول الرجل: صمت رمضان كله أو قمت رمضان كله، قال الصحابي: لا أدري أَكرِهَ التزكية، أم لا بد من غفلة. وكان عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - يقول: من لم يجد ما يتصدق به فليصم، يعني من لم يجد ما يخرجه صدقةً للفطر في آخر رمضان فليصم بعد الفطر؛ فإن الصيام يقوم مقام الإطعام في تكفير السيئات، كما يقوم مقامه في كفارات الأيمان وغيرها من الكفارات. (3) معاودة الصيا بعد صيام رمضان علامةٌ على قبول صيام رمضان؛ فإن الله تعالى إذا تقبل عمل عبدٍ وفقه لعملٍ صالح بعده، كما قال بعضهم: ثواب الحسنة الحسنة بعدها، فمن عمل حسنة ثم أتبعها بحسنة بعدها؛ كان ذلك علامة على قبول الحسنة الأولى، كما أن من عمل حسنة ثم أتبعها بسيئة، كان ذلك علامةَ رد الحسنة وعدم قبولها، فمن رام أن يعلم مدى قبول عمله من ذلك، فليعود نفسه على الصيام والقيام من جديد حتى يكون صيامه الثاني علامةً قبول صيامه الأول، وحتى يكون قيامه الآخر علامةً على قبول قيامه السابق عليه.

من عمل طاعة من الطاعات وفرغ منها، فعلامة قبولها أن يصلها بطاعةٍ أخرى، وعلامة ردها أن يعقب تلك الطاعة بمعصية .. ما أحسن الحسنة بعد السيئة تمحوها، وأحسن منها الحسنة بعد الحسنة تتلوها، وما أقبح السيئة بعد الحسنة تمحقها وتعفوها .. ذنبٌ واحد بعد التوبة أقبح من سبعين ذنبًا قبلها، النكسة أصعب من المرض وربما أهلكت، سلوا الله الثبات على الطاعات إلى الممات، وتعوذوا به من تقلب القلوب، ومن الحَوْر بعد الكَوْر، ما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة، وأفحش فقر الطمع بعد غنى القناعة. (4) صيام رمضان يستوجب مغفرة ما تقدم من الذنوب، وأن الصائمين لرمضان يوفَّوْن أجورهم في يوم الفطر، وهو يوم الجوائز، فيكون معاودة الصيام بعد الفطر شكرًا لهذه النعمة، فإن شكر النعمة إنما يكون بفعلٍ من جنسها؛ حتى يكون الصيام نعمةً تستوجب شكرًا بصيام آخر، فلا نعمة أعظم من مغفرة الذنوب، ألم تر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم حتى تتفطر قدماه، فيقال له: تفعل ذلك وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟، فيقول - صلى الله عليه وسلم -: "أفلا أكون عبدا شكورا" (¬1)، فكان قيامه - صلى الله عليه وسلم - ذلك القيام الطويل حتى تتورم قدماه .. ثم حتى تتفطر قدماه .. ثم حتى تتشقق قدماه بعد تورمها، كل ذلك شكرًا لله -عز وجل- على مغفرته لذنوبه. وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بشكر نعمة صيام رمضان بإظهار ذكره، وغير ذلك من أنواع شكره نقال: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]، فمن جملة شكر العبد لربه على توفيقه لصيام رمضان وإعانته عليه، ومغفرة ذنوبه أن يصوم له شكرًا عقيب ذلك. ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (1078)، مسلم (2819).

كان بعض السلف إذا وُفِّقَ لقيام ليلة من الليالي؛ أصبح في نهارها صائمًا، ويجعل صيامه شكرًا للتوفيق للقيام. وكان وهيب بن الورد يُسأل عن ثواب شيءٍ من الأعمال كالطواف ونحوه فيقول: لا تسألوا عن الثواب، ولكن سلوا ما الذي على مَنْ وُفِّقَ لهذا العمل من الشكر، للتوفيق والإعانة عليه. كل نعمةٍ على العبد من الله -عز وجل- في دينٍ أو دنيا تحتاج إلى شكر عليها، ثم التوفيق للشكر عليها نعمة أخرى تحتاج إلى شكر ثان، ثم التوفيق للشكر الثاني نعمة أخرى يحتاج إلى شكر آخر، وهكذا أبدًا فلا يقدر العبد على القيام بشكر النعم، وحقيقة الشكر الاعتراف بالعجز عن الشكر. (5) أن الأعمال التي كان العبد يتقرب بها إلى ربه في شهر رمضان لا تنقطع بانقضاء رمضان؛ بل هي باقية بعد انقضائه ما دام العبد حيًّا، وهذا معنى الحديث أن الصائم بعد رمضان كالكارّ بعد الفار، يعني كالذي يفر من القتال في سبيل الله ثم يعود إليه، وذلك لأن كثيرًا من الناس يفرح بانقضاء شهر رمضان؛ لاستثقال الصيام وملله وطوله عليه، ومن كان كذلك فلا يكاد يعود إلى الصيام سريعًا، فالعائد إلى الصيام بعد فطره يوم الفطر يدل عوده على رغبته في الصيام وأنه لم يمله ولم يستثقله ولا تَكَرَّهَ به. وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أحب الأعمال إلى الله الحال المرتحل" (¬1)، وفُسر بصاحب القرآن يضرب من أوله إلى آخره، ومن آخره إلى أوله، كلما حل ارتحل، والعائد إلى الصيام سريعًا بعد فراغ صيامه، شبيةٌ بقارئ القرآن إذا فرغ من قراءته ثم عاد إليه، في المعنى، والله أعلم. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2948)، وضعفه الألباني (163) في "السلسلة الضعيفة".

(6) في صيام هذه الأيام الستة من شوال استدراكٌ لما فات العبد من وظائف الصيام، من وظائف إصلاح نفسه، وإقامتها على أمر الله -عز وجل-، ومن الوظائف المرجوة كذلك من الصيام من الإحسان إلى الفقراء، ومن إدراك نعمة الله -عز وجل- في الأموال، ومن شكر نعم الله -عز وجل-، ومن تخلي العبد للذكر والفكر، فإن شأنه في الفطر أن يكون مشغولًا عن الذكر والفكر، والصيام معينٌ له على ذكر الله -عز وجل- والتفكر في آخرته. (7) في صيام أيام شوال إعلانٌ ببقاء وظائف العبادة ما بقى العبد دهرَه؛ فليست تذهب مع المواسم الطاعات؛ بل إن ذهبت المواسم فلا يزال الله عز وجل أهل العفو وأهل المغفرة، ولاتزال مغفرة الله -عز وجل- وعفوه يُرْجَوان بالعبادة من الصيام والقيام، فما تنقضي أبد الدهر وظيفةُ الصيام، وما تنقضي مدة حياة العبد وظيفة القيام وتلاوة القرآن. (8) في صيام هذه الأيام من شوال، وفي إتباعها رمضان من غير مهلة ولا تراخ، إعلان بعدم سآمة العبد من العبادة، وأنه لم ينتظر ذهاب رمضان وانقضائه، وأنه ما مَلَّ وقوفه بباب ربه، وما سَئِمَ التعرض لفضله وعطائه ونواله، وأنه لايزال باقيًا مُصِرًّا، باقيا على وظيفة العبادة، مصرًّا على التعرض لفضل الله -عز وجل- وعطائه. مسألة قضاء رمضان أولًا أم ست من شوال؟ عن أم سلمة أنها كانت تأمر أهلها: من كان عليه قضاء من رمضان أن يقضيه الغد من يوم الفطر، فمن كان عليه قضاء من شهر رمضان فليبدأ بقضائه في شوال؛ فإنه أسرع لبراءة ذمته، وهو أوْلى من التطوع بصيام ستٍّ من شوال، فإن العلماء اختلفوا فيمن عليه صيام مفروض، هل يجوزَ أن يتطوع قبله أم لا؟، وعلى قول من جوز التطوع قبل القضاء فلا يحصل مقصود صيام ستة أيام من شوال إلا لمن أكمل صيام رمضان، ثم أتبعه ستًا من شوال.

ومن علامات القبول أيضا

فمن كان عليه قضاء من رمضان ثم بدأ بصيام ستٍّ من شوال تطوعًا لم يحصل له ثواب من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال؛ حيث لم يكمل عدة رمضان، كما لا يحصل لمن أفطر رمضان لعذر بصيام ستة أيام من شوال أجر صيام السنة بغير إشكال. ومن بدأ بالقضاء في شوال، ثم أراد أن يتبع ذلك بصيام ستٍّ من شوال بعد تكملة قضاء رمضان كان حسنًا؛ لأنه يصير حينئذ قد صام رمضان وأتبعه بست من شوال، ولا يحصل له فضل صيام ست من شوال بصوم قضاء رمضان؛ لأن صيام الست من شوال إنما يكون بعد إكمال عدة رمضان. ومن علامات القبول أيضًا: 1 - إذا كنت بعد رمضان تسارع إلى الطاعات محبًّا لها، وتترك المعاصي أنفةً منها؛ فتلك من علامات القبول، وإذا رأيت أبواب الخير تفتح لك مثل البكاء، ورقة القلب، والسهر، وقلة النوم فهذه من ثمرات رمضان أيضًا، كما هي في رمضان أو أزيد، فهذه من علامات القبول. 2 - إذا كنت بعد رمضان أفضل مما كنت عليه قبل رمضان، وتستشعر أن لك قلبًا جديدًا ينبض بحب الله، وتحس أنك تحب ربك أكثر، وتحب ذكره والقيام بين يديه، وتحب شكره وتحب الإقبال عليه، فهذه من علامات القبول. حراسة الطاعات: ثم إنه أيها الأحبة في الله إذا كان حَقٌّ كل عمل إذا صُحِب بالإخلاص، فكانت النية فيه غير مشوبة برياء أو سُمعة؛ كان لا بد في ذلك العمل من حراسة له؛ حتى لا يتطرق إليه ضرب من ضروب الخلل.

والحراسة تكون: أولًا: بالحذر من الإدلال بالطاعة: أول ذلك حراسة ذلك العمل من أن يحصُلَ من العبد به مَنٌّ على الله عز وجل، أو على خلقه، فما يرى ذلك العمل حتى ينتظر حقًّا يتقاضاه من الخلق، أو شيئًا يوجب له شيئًا آخر من الرب -عز وجل-، فهو وإن كان ثَمَّ عمل، فلا يزال يرى نفسه أقل إخوانه وأكثرهم ذنوبًا وأشدهم عيوبًا، فما له عليهم حَقُّ يتقاضاه بعمله. وهو كذلك لا يُدِلُّ بذلك العمل على ربه، لا يرى أنه صنع شيئًا له على الله -عز وجل- به حق أو دلال، فما يرى ذلك العمل نعمة الله -عز وجل- التي تستوجب منه شكرًا آخر، وسعيًا موصولًا، واجتهادًا غير منقطع إلى الممات. ثانيًا: بالحذر من العجب: حَقُّ العمل بعد إنقضائه الحذر من أن يدرك النفس به عجبٌ، ودفع العجب بشهود منة الله -عز وجل- عليك، وتقصير نفسك، فتندفع رؤيتك لعملك، حين تكون مستغرقًا برؤية نعمة الله -عز وجل- لا برؤية عملك. ثالثًا: بالحذر من الغرور: وحق ذلك العمل بعد انقضائه حذر النفس من الغرور، فغرورها مبنيٌّ على نسبة ما كان من السعي لكسبها، ومن العمل لتحصيلها، وهي نسبة كاذبة غير صحيحة، فما كان من سعي أو كسب؛ فذلك فضل الله -عز وجل-، عطاؤه ومنته، إحسانه وجوده، لا نسبة لشيءٍ من ذلك للعبد ألبتة. رابعًا: بالمداومة على الطاعات: وحق ذلك العمل بعد انقضائه أن يعلم المرء أن علامة قبوله إنما هي

التوفيق لنظائره وأمثاله بعد انقضائه، وأن يعلم أن انقضاء موسم ذلك العمل يعني استجماع عدوِّه قوتَهُ في حبسه عن المزيد من ذلك العمل، حتى يجمع العدو اللعين كل الموانع والقواطع عن الصيام والقيام وتلاوة القرآن، فيحصل بعد رمضان انحدار شديد لما كان من الأعمال الصالحة بذهابها وفواتها. خامسًا: بالاستعانة بالله لدفع الشواغل: فحق تلك الأعمال التي أوتيتموها وأعانكم الله عليها أن تحذروا لها من مكايد العدو المتربص بها، حتى إذا جمع الشواغل، وكَثَّر الهموم والموانع والقواطع؛ كان عندكم من استعانتكم بالله -عز وجل-، واستمدادكم لقوته، كان عندكم من ذلك ما يدفع الشواغل والموانع والقواطع، وإلا فإن أي استسلام لذلك يعني ذهاب رمضان وانقطاعه بأعماله الصالحات، ويعني رجوع العبد إلى مرذول عاداته وسئ مألوفاته التي هي حبسٌ عن الله -عز وجل-، وانقطاعٌ عن السير إليه، وتقصيرٌ في تحصيل أسباب النجاة. إخوتاه .. اعلموا أن الراحة لا تُنال بالراحة، ومعالي الأمور لا تُنال بالفتور، ومن زرع حصد، ومن جد وجد. لله دَرُّ أقوامٍ شغلهم تحصيلُ زادهم عن أهاليهم وأولادهم، ومال بهم ذِكرُ المآل عن المال في معادهم، وصاحت بهمُ الدنيا فما أجابوا شُغْلًا بمرادهم، وتوسدوا أحزانهم بدلًا من وسادهم، واتخذوا الليل مسلكًا لجهادهم واجتهادهم، وحرسوا جوارحهم من النار عن غيِّهم وفسادهم. أقبلت قلوبهم ترعى حَقَّ الحَقِّ؛ فذهلت بذلك عن مناجاة الخلق. فالأبدان بين أهل الدنيا تسعى، والقلوب في رياض الملكوت ترعى.

نازلهم الخوفُ فصاروا والِهين، وناجاهم الفكرُ فعادوا خائفين. وجَنَّ عليهمُ الليلُ فباتوا ساهرين، وناداهم منادي الصلاح: حيَّ على الفلاح، فقاموا متجهين. وهبَّت عليهم ريحُ الأسحار فتيقظوا مستغفرين، وقطعوا بند المجاهدة فأصبحوا واصلين. فرجعوا وقت الفجر بالأجر .. فيا خيبةَ النادمين. إخوتي في الله .. إن عمل الصالحات لا ينقطع عنك ما دامت فيك روح .. فعل الطاعات لا يسقط عنك ما دام يتردد فيك نَفَس .. وأيُّما وجدت خيرًا فسارع إليه وشارك .. اللَّهم ارزقنا فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين .. ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار .. اللَّهم خذ بنواصينا إلى ما تُحِبُّ وترضى؛ إنك على ما تشاء قدير .. وبالإجابة جدير. إخوتاه .. هذه الشهور والأعمال والليالي والأيام كلها مقادير للآجال، ومواقيت للأعمال، ثم تنقضي سريعًا، وتمضي جميعًا، والذي أوجدها وابتدعها وخصها بالفضائل وأودعها باقٍ لا يزول، ودائمٌ لا يحول؛ هو في جميع الأوقات إلهٌ واحد، ولأعمال عباده رقيبٌ مشاهد. فسبحان من قلَّبَ عباده في اختلاف الأوقات بين وظائف الخَدَم؛ ليسبغَ عليهم فيها فواضل النعم، ويعاملهم بنهاية الجود والكرم. لما انقضت الأشهر الثلاثة الكرام التي أولها الشهر الحرام، وآخرها شهر

الصيام؛ أقبلت بعدها الأشهر الثلاثة، أشهر الحج إلى البيت الحرام، فكما أن من صام رمضان وقامه غُفر له ما تقدم من ذنبه؛ فمن حج البيت ولم يرفث ولم يفسُق رجع كيوم ولدته أمه. فما يمضي من عمر المؤمن ساعة من الساعات إلا ولله فيها عليه وظيفة من وظائف الطاعات؛ فالمؤمن يتقلب بين هذه الوظائف، ويتقرب بها إلى مولاه وهو راجٍ خائف، والمحبُّ لا يَمَلُّ من التقرب بالنوافل إلى مولاه، ولا يأمل إلا قربه ورضاه.

§1/1