أسرار البلاغة فى علم البيان

الجرجاني، عبد القاهر

مقدمة السيد محمد رشيد رضا

مقدمة السيد محمد رشيد رضا بسم الله الرّحمن الرّحيم الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ فله الحمد أن علم، والشكر على ما أنعم، ومنه الصلاة والتسليم، على نبيه الرءوف الرحيم، الذي جاء بتوحيد اللغة والدين، وجعل الكتاب والحكمة في الأميين، فكانوا بذلك أئمة وكانوا هم الوارثين. الإنسان يمتاز بالعلم، وإنما العلم بالتعلم، والتعلم باللغة، واللغات تتفاضل في حقيقتها وجوهرها بالبيان، وهو تأدية المعاني التي تقوم بالنفس تامة على وجه يكون أقرب إلى القبول وأدعى إلى التأثير. وفي صورتها وأجراس كلمها بعذوبة النطق، وسهولة اللفظ والإلقاء، والخفة على السمع. وإن للغة العربية من هذه المميزات الميزان الراجح، والجواد القارح، يعرف ذلك من أخذها بحق، وجرى فيها على عرق، فكان من مفرداتها على علم، وضرب في أساليبها بسهم. ومن آية ذلك لعير العارف، أن أولئك الشراذم والأوزاع من أهلها قد حملوها إلى الأمم التي كان للغاتها في العلوم قدم، ولم يحملوهم عليها بالإلزام، ولا بالتعليم العام. وكان من أمرها مع هذا أن نسخت بطبيعتها لغة المصريين من مصرهم، والرومانيين من شامهم، واستعلت على الفارسية العذبة في مهدها وموطنها، وامتد شعاعها إلى الأندلس في غربي أوربة. بعد ما طاف ساحل إفريقيا الشمالي، وإلى جدار الصين من الشرق- كل ذلك في زمن قريب لم يعرف في التاريخ مثله للغة أخرى من لغات الفاتحين الذين يتخذون كل الوسائل لنشر لغاتهم، وتعميمها بالتعليم العام، وضرب الترغيب والترهيب. كانت لغة أميين وثنيين جاهليين، فظهر فيها أكمل الأديان، فكانت له أكمل مظهر، وتجلى لها العلم فكانت له خير مجلى. وصارت بذلك لغة الدين والشريعة، وعلوم العقل والطبيعة، ولكن عدت على أهلها عواد كونية، وطرأت عليهم أمراض اجتماعية، فضعف فيهم كل مقوم من مقومات الأمم الحية. ومن تلك المقومات الحقيقية اللغة فقد فسدت ملكتها في الألسنة، والتوى طريق تعليمها في المدارس، حتى كادت تكون من اللغات الدوارس.

ظهر ضعف اللغة في القرن الخامس، وكانت في ريعان شبابها، وأوج عزها وشرفها، وكان أول مرض ألم بها الوقوف عند ظواهر قوانين النحو، ومدلول الألفاظ المفردة، والجمل المركبة، والانصراف عن معاني الأساليب، ومغازي التركيب، وعدم الاحتفال بتصريف القول ومناحيه، وضروب التجوز والكناية فيه- وهذا ما بعث عزيمة الشيخ عبد القاهر الجرجاني إمام علوم اللغة في عصره إلى تدوين علم البلاغة، ووضع قوانين للمعاني والبيان، كما وضعت قوانين النحو عند ظهور الخطأ في الإعراب. فوضع هذا الكتاب في البيان، ومن فاتحته يتنسم القارئ أن دولة الألفاظ كانت قد تحكمت في عصره، واستبدت على المعاني، وأنه يحاول بكتابه تأييد المعاني ونصرها، وتعزيز جانبها وشد أزرها. كتب قبل عبد القاهر في مسائل من البيان بعض البلغاء كالجاحظ وابن دريد وقدامة الكاتب، ولكنهم لم يبلغوا فيما بنوه أن جعلوه فنا مرفوع القواعد مفتح الأبواب كما فعل عبد القاهر من بعدهم فهو واضع علم البلاغة كما صرح به بعض علمائها، وإن لم يذكر له هذه المنقبة المؤرخون الذين رأينا ترجمته في كتبهم، حتى أن ابن خلدون الذي تصدى دون القوم للإلمام بتاريخ الفنون أهمل ذكره، وزعم أن الذي هذب الفن بعد أولئك الذين كتبوا في مسائل متفرقة منه هو السكاكي، وما كان السكاكي إلا عيالا على عبد القاهر، تلا تلوه، وأخذ عنه، مع المخالفة في شيء من الترتيب والتبويب، ولكنه لم يسلم من التكلف في بعض عباراته، والتعقيد في بعض منازعه، فإذا جاز لنا أن نقول: إنه فاق لتأخره بالترتيب المعلوم، وبما حرره من الحدود والرسوم. فإننا لا ننسى من فضل المتقدم سلامة عبارته، وصفاء ديباجته، وغوصه على أسرار الكلام، ووضع دررها في أبدع نظام. كان السكاكي وسطا بين عبد القاهر الذي جمع في البلاغة بين العلم والعمل وأضرابه من البلغاء العاملين، وبين المتكلفين من المتأخرين الذين سلكوا بالبيان مسلك العلوم النظرية، وفسروا اصطلاحاته كما يفسرون المفردات اللغوية، ثم تنافسوا في الاختصار والإيجاز، حتى صارت كتب البيان أشبه بالمعميات والألغاز، فضاعت حدود بتلك الحدود. ودرست رسومه بهاتيك الرسوم (¬1)، وكان من أثر فساد ذوق ¬

_ (¬1) توسط الشيخ هنا في حقّ السكاكي وجعله قد سلك مسلكا وسطا بين مسلك عبد القاهر والمتأخرين الذين غالوا في الطريقة التي سنها لهم السكاكي في تعقيد البلاغة بالمبالغة في تعقيدها. انظر كلامنا بالتفصيل على منهج السكاكي في كتابه مفتاح العلوم بتحقيقنا (ط) (دار الكتب العلمية- بيروت).

اللغة اختيار هذه الكتب التي ملكت العجمة عليها أمرها، على الكتب التي ملكت العجمة عليها أمرها، على الكتب التي تهديك إلى العلم الصحيح بمعانيها، وتهدي إليك الذوق السليم بأساليبها، فكادت كتب عبد القاهر تمحى وتنسخ، وصارت حواشي السعد تطبع وتنسخ، وهذا هو حظ العلم النافع إذا ألقي إلى الأمة في طور التدلي والضعف، فمثل عبد القاهر في أسرار بلاغته ودلائل إعجازه، كمثل ابن خلدون في مقدمته والسلطان سليمان العثماني في قوانينه. رب غذاء طيب نافع عافته النفس لمرض ألم بها حتى إذا نقهت أو أبلت اشتهته وطلبته. وهذا هو مثلنا أمس واليوم، فقد كنا متفقهين على أخذ العلم من كتب علمائنا المتأخرين كما يختار المريض الغذاء الضار، فظهر فينا هداة مرشدون يسعون في إحياء ما أماته الجهل من آثار سلفنا ومصنفات أئمتنا، ويدلوننا على العلم الحي الذي تفجر من ينابيع النفوس الحية، لنفرق بينه وبين الرسوم الميتة التي سماها الجهل علما. ولما هاجرت إلى مصر في سنة 1315 لإنشاء (المنار) الإسلامي ألفيت إمام النهضة الإسلامية الحديثة الأستاذ الحكيم الشيخ محمدا عبده رئيس جمعية إحياء العلوم العربية ومفتي الديار المصرية، اليوم مشتغلا في بعض وقته بتصحيح كتاب دلائل الإعجاز للإمام عبد القاهر الجرجاني. وقد استحضر نسخة من المدينة المنورة ومن بغداد ليقابلها على النسخة التي عنده، فسألته عن كتاب (أسرار البلاغة) للإمام المذكور فقال: إنه لا يوجد في هذه الديار فأخبرته بأن في أحد بيوت العلم في طرابلس الشام نسخة منه، فحثني على استحضارها وطبعها فطلبتها من صديقي الحميم العالم الأديب عبد القادر أفندي المغربي، وهي مما تركه والده فلبى الطلب. وعلمنا أن نسخة أخرى من الكتاب في إحدى دور الكتب السلطانية في دار السلطنة السنية، فندبنا بعض طلاب العلم الأذكياء لمقابلة نسختنا بتلك النسخة، فخرج لنا من مجموعهما نسخة صحيحة سرعنا في طبعها ووضعنا في ذيل المطبوع شرحا لطيفا ضبطنا فيها الكلمات الغريبة وفسرنا منها ومن جمل الكتاب ما رأيناه يستحق التفسير. وأشرنا إلى الخلاف بين النسختين، فيما يحتمل صحة الاثنتين. أما كون عبد القاهر واضع الفن ومؤسسه. فقد صرح به غير واحد من العلماء الأعلام، أجلهم قدرا، وأرفعهم ذكرا، أمير المؤمنين محيي علوم اللغة والدين، السيد يحيى بن حمزة الحسيني صاحب كتاب (الطراز، في علوم حقائق الإعجاز)، فقد

قال في فاتحة كتابه هذا وهو من أحسن ما كتب في البلاغة بعد عبد القاهر ما نصه: «وأول من أسس من هذا الفن قواعده وأوضح براهينه، وأظهر فرائده ورتب أفانينه، الشيخ العالم النحرير علم المحققين عبد القاهر الجرجاني، فلقد فك قيد الغرائب بالتقييد، وهد من سور المشكلات بالتسوير المشيد، وفتح أزهاره من أكمامها. وفتق أزراره بعد استغلاقها واستبهامها، فجزاه الله عن الإسلام أفضل الجزاء، وجعل نصيبه من ثوابه أوفر النصيب والإجزاء، وله من المصنفات فيه كتابان أحدهما لقبه بدلائل الإعجاز. والآخر لقبه بأسرار البلاغة، ولم أقف على شيء منهما. مع شغفي بحبهما وشدة إعجابي بهما، إلا ما نقله العلماء في تعاليقهم منهما» (¬1). وأما مكانة هذا الكتاب وبيان ما يمتاز به على كتب البيان فحسبي في بيانها عرضه على الأنظار مع التنبيه على مسألتين نافعتين (إحداهما) أن العلم هو صورة المعلوم مأخوذة عنه بواسطة الإدراك كما تؤخذ الصورة الشمسية بالآلة المعروفة فإن كان المعنى المنتزع من الجزئيات قانونا كليا يرشد إليها فهو القاعدة. وإن كان صورة تناسبها وتقربها من الفهم فهو المثل. (والثانية) أن القاعدة الكلية هي صورة إجمالية للمعلومات الجزئية، والأمثلة والشواهد صور تفصيلية لها. والتعليم النافع إنما يكون بقرن الصور المفصلة بالصورة المجملة، إذ بالتفصيل تعرف المسائل، وبالإجمال تحفظ في العقل. وبهذه الطريقة يجمع بين العلم والعمل الذي يثبت به العلم، وهي طريقة عبد القاهر في كتابه هذا وكتاب دلائل الإعجاز، على أن كلام الشيخ رحمه الله تعالى كله من آيات البلاغة فهو يعطيك علمها بمعانيه، وعملها بمبانيه، وبهذه المميزات يفضل هذا الكتاب جميع ما بين أيدينا من كتب الفن لأنها إنما تقتصر على سرد القواعد والأحكام بعبارات اصطلاحية، تنكرها بلاغة الأساليب العربية. ولا تذكر من الشواهد والأمثلة إلا القليل النادر، الذي أدلى به السابق إلى اللاحق والأول إلى الآخر. لهذا بادر الإمام، مفتي الديار المصرية في هذه الأعوام، إلى تدريس الكتاب في الأزهر الشريف عقيب شروعنا في طبعه فأقبل على حضور درسه مع أذكياء الطلاب كثيرون من العلماء والمدرسين وأساتذة المدارس الأميرية. وقد قال أحد فضلاء هؤلاء ¬

_ (¬1) انظر كلامه بنصّه في الطراز للعلوي بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي (ط) المكتبة العصرية (بيروت).

الأستاذين (¬1) بعد حضور الدرس الأول «إننا قد اكتشفنا في هذه الليلة معنى علم البيان». وقد ظهر للأستاذ في غضون التدريس والمطالعة أغلاط في الكتاب بعضها من الطبع، وبعضها من تحريف النساخ في الأصل، وأغلاط أخرى في التعليقات فأحصيناها كلها من نسخته، ووضعنا لها جدولا في آخر الكتاب إتماما للفائدة ومما يجب التنبيه عليه أن بعض تراجم فصول الكتاب هي من وضعنا فإن المصنف رحمه الله تعالى كان يكتفي في كثير منها بكلمة (فصل). ونختم هذه المقدمة بملخص ترجمة المصنف رحمه الله تعالى فنقول: اتفق المؤرخون على الثناء عليه بالعلم والدين، ولقبوه بالإمام، واشتهر بالنحوي من قبل أن يضع علم البلاغة. على أنه كان متكلما وفقيها أيضا، قال الحافظ الذهبي في تاريخه (دول الإسلام): «وفي سنة إحدى وسبعين وأربعمائة مات إمام النحاة أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني صاحب التصانيف» وقال تاج الدين السبكي في (طبقات الشافعية الكبرى): عبد القاهر بن عبد الرحمن الشيخ الكبير أبو بكر الجرجاني النحوي المتكلم على مذهب الأشعري الفقيه على مذهب الشافعي أخذ النحو بجرجان عن أبي الحسين محمد بن الحسن الفارسي ابن أخت الشيخ أبي علي الفارسي، وصار الإمام المشهور المقصود من جميع الجهات، مع الدين المتين، والورع والسكون». قال السلفي: كان ورعا قانعا دخل عليه لص وهو في الصلاة فأخذ ما وجد وعبد القاهر ينظر ولم يقطع صلاته. (ثم قال السبكي): «ومن مصنفاته كتاب (المغني على شرح الإيضاح) في نحو ثلاثين مجلدا، وكتاب (المقصد في شرح الإيضاح) أيضا ثلاث مجلدات، وكتاب (إعجاز القرآن الصغير) و (العوامل المائة). و (المفتاح)، و (شرح الفاتحة)، و (العمدة في التصريف)، وكتاب (الجمل المختصر المشهور). وفي كتاب (شذرات الذهب في أخبار من ذهب) نحو من ذلك وزاد في ذكر المصنفات شرح كتاب الجمل، وذكر أن علي بن أبي زيد الفصيحي أخذ عنه وذكروا له شعرا فمنه ما أورده الصلاح الكتبي في فوات الوفيات: ¬

_ (¬1) هو المرحوم الشيخ محمد مهدي بك مدرس البلاغة وآداب اللغة العربية في المدارس العليا: دار العلوم فمدرسة القضاء الشرعي والجامعة المصرية. (رشيد).

لا تأمن النفثة من شاعر … ما دام حيا سالما ناطقا فإن من يمدحكم كاذبا … يحسن أن يهجوكم صدقا واتفقوا على أنه توفي سنة 471، قال السبكي: (وقيل: 474) رحمه الله تعالى. السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة (المنار)

مقدمة المحقق

بسم الله الرّحمن الرّحيم مقدمة المحقق الحمد لله الذي شرفنا بعد أخذ آيات القرآن، بتعلم علوم البلاغة والبيان؛ فلا جرم أنها تقع من سائر العلوم اللغوية بمنزلة الرأس من الجسد، فهي باسمى منزلة، وأعلى مكان، وذلك لتعلقها ببيان أسرار الكتاب المجيد، ومن ثم بيان مقصود الله ومراده من العبيد. وبعد؛ فإن كتاب (أسرار البلاغة) يعد وهو وكتاب (دلائل الإعجاز) لشيخ البلاغيين- بلا منازع- الإمام عبد القاهر الجرجاني، يعدان بالمقام الأول من كتب البلاغة بلا نزاع بين أهل العلم بهذا الفن، ولم أر في كلام أحد من المتقدمين أو المتأخرين من يقدم عليهما كتابا في هذا الفن؛ بل إنك إذا سألت أحدا عن كتاب جيد يحفظ للبلاغة رونقها وطلاوتها غير هذين الكتابين فإنه يقف باهتا متحيرا فلا يعيرك جوابا، غير النفي القاطع، فإن سألته عن أجود الكتب بعدهما، فإنه يتردد ويتلعثم من جهة عظم الهوّة وعظم الفارق والبون، بين هذين الكتابين وما يجعل تاليا لهما وما ذلك إلا لأن كتب المتقدمين قبل عبد القاهر كانت عبارة عن مباحث متفرقة، وإشارات خاطفة، وعبارات متناثرة، تكد في جمعها من هنا وهناك، فجاء ذلك الإمام فجمع أصول هذا العلم، وردّ إليها فروعه، ووضع له قواعده وأصوله، بغير جفاف ولا تعقيد، وبغير مبالغة في الحصر والإحصاء والتفريع والتمييز، والتحديد، مما عرف عن المتأخرين كالسكاكي ومن تابعه من صرامة المنطق والمبالغة في التحديد والتجريد. فكانت طريقته قصدا بين الطريقة الأدبية القديمة في تحليل النصوص وترك الأمور هملا دون تقييد ولا تعقيد ولا تجريد لقواعد العلم وأصوله، وبين طريقة المتأخرين الذين غلب عليهم جفاف المنطق وصرامته، وشدة التجريد والتعقيد وقوته. ويأتي هذا الكتاب الجليل (أسرار البلاغة) ليفرده الشيخ لمعالجة أكثر

مباحث علمي البديع والبيان بحسب التقسيم الثلاثي للبلاغة عند المتأخرين، كما اشتمل كتابه دلائل الإعجاز على أكثر مباحث (علم المعاني). وتأتي قيمة هذا الكتاب الجليل (أسرار البلاغة) في أنه يبين وجه الحق في قضية المحسنات البديعية التي اعتبرها البلاغيون المتأخرون أمرا خارجا عن مطابقة الكلام لمقتضى الحال، فهي مجرد زينة لفظية يؤتى بها بعد استيفاء الكلام وجوه المطابقة، فيؤتى به لمجرد الزخرف والزينة والكلام في غنى عنه. هذه النظرة الخاطئة هي التي جعلت من البديع حجر عثرة في سبيل ارتقاء النصوص الأدبية في العصر الذي شاعت فيه تلك النظرة العقيمة حيث تبارى قارضو الشعر في تدبيج قصائدهم بصور الزخرف اللفظي الكثيرة المتعددة التي تبارى هؤلاء البلاغيون في تعدادها وبيانها والإيصاء بها. فكانت سمة تلك العصور هي الإكثار من تلك المحسنات والزخارف دون أن يكون لها دور في التعبير عن المعاني أو الأفكار التي صيغت لها تلك النصوص والأشعار، ولعل هذه النظرة الخاطئة قد ظهرت بوادرها في عصر الإمام عبد القاهر الجرجاني بدليل ما استشهد به من الأبيات الدالة على التكلف في استخدام صور الجناس وغيرها من فنون البديع. الأمر الذي دعاه إلى أن يرد الأمر إلى نصابه، ويكشف النقاب عن الدور الذي يمكن أن تضطلع به تلك المحسنات إذا ما أتي بها مواكبة للمعنى، موافقة له، وذلك إذا أرسلت النفوس على سجيتها، ولم يتكلف في إيراد تلك الوجوه من المحسنات. ولذا فقد اجتهاد الإمام عبد القاهر في وضع ضوابط توظيف تلك المحسنات، وبيان متى تحسن، ومتى تقبح؛ فمن ذلك قوله: «أما التجنيس؛ فإنك لا تستحسن تجانس اللفظتين إلا إذا كان موقع معنييهما من العقل موقعا حميدا، ولم يكن مرمى الجامع بينهما مرمى بعيدا ... إلخ». وتراه ينعي على المتأخرين في زمانه المغالاة في أمر تلك المحسنات فيقول: «وقد تجد في كلام المتأخرين الآن كلاما حمل صاحبه فرط شغفه بأمور ترجع إلى ما له اسم في البديع إلى أن ينسى أنه يتكلم ليفهم، ويقول ليبين، ويخيل إليه أنه إذا جمع بين أقسام البديع في بيت فلا ضير أن يقع ما عناه في عمياء، وأن يوقع

منهج التحقيق

السامع من طلبه في خبط عشواء، وربما طمس بكثرة ما يتكلفه على المعنى وأفسده، كمن ثقل العروس بأصناف الحلى حتى ينالها من ذلك مكروه في نفسها». هذا وقد فصلت الكلام على هذه القضية مرارا في تعليقاتي على هذا الكتاب، وفيما كتبته من قبل في رسالتي للماجستير عن الجهود البلاغية للإمام الطيبي (¬1)، وغيرها من كتبي، وأمر آخر مما يحمد لعبد القاهر في هذا الكتاب وهو تناوله لمباحث علمي البديع والبيان بلا فصل بينهما فهي لديه جميعا مجرد أساليب لغوية بلاغية ينبغي على البلاغي أن يقف أمامها بالتحليل الأدبي البلاغي الذي يوازن فيها بين الصياغة التعبيرية الأسلوبية التي تشكلت بها تلك الفنون والأساليب وبين المعاني الفنية التي تدل عليها، بلا تفريق بين تلك المباحث وبغير تشتيت للنظر بوضع الحدود المصطنعة بينها بلا داع ولا ضرورة تملها النظرة البلاغية الأدبية، اللهم إلا أن تكون النظرة المنطقية العقلانية المتجردة المهوّمة في خيالات العقول بغير مطابقة لحقيقة تلك الفنون، ولا مناسبة لطبيعتها. والحق أننا هنا لسنا بصدد تعداد مظاهر الجودة والتوفيق في هذا السفر العظيم فهي عديدة تنأى عن الحصر، وقد كتب في دراستها وتحليلها أسفار عديدة، وسيقف القارئ بنفسه على كثير من تلك الفوائد والأسرار كلما نظر في هذا الكتاب ثم راح يوازن بينه وبين ما انتهت إليه أحدث النظريات الأسلوبية والبلاغية في علوم البلاغة والأسلوب. منهج التحقيق: أما عن منهجنا في تحقيق هذا الكتاب فيتلخص في تلك النقاط: 1 - ضبط متن الكتاب اعتمادا على نسخه المتداولة لا سيما نسختي الشيخ (رشيد رضا) ونسخة الشيخ (محمود شاكر) وهي أجود طبعات الكتاب وتحقيقاته. 2 - تخريج جميع شواهد الكتاب ونصوصه القرآنية والحديثية والشعرية في مصادرها الأصلية ما أمكن مع الاهتمام بعزو الشواهد الشعرية إلى مصادرها التي استشهدت بها في كتب البلاغة العربية لخدمة القارئ إذا ما أراد الوقوف على وجه الاستشهاد بالبيت أو جمع كلام البلاغيين في الاستشهاد به. ¬

_ (¬1) ط مكتبة نزار الباز (المكتبة التجارية) مكة المكرمة.

3 - شرح الغريب. 4 - إثبات أهم فروق النسخ المؤثرة في إحالة المعاني. 5 - إثبات أهم تعليقات الشيخ رشيد رضا، وشيخه محمد عبده لأهميتها وجلالتها، مع الانتفاع بتعليقات الشيخ محمود شاكر كذلك، وقد رمزت لتعليقات الشيخ رشيد بكلمة (رشيد) بين قوسين بعد تمام النقل. ولشيخه محمد عبده برمز (ش) ولكلام الشيخ محمود شاكر برمز (شاكر). ووضحت تعليقاتي وإضافاتي لما عقبت به بعد أحدهم بقولي (قلت) بين قوسين. هذا، ولا يفوتنا في هذا المقام أن نتوجه بالشكر لدار الكتب العلمية على ما قامت به من جهد مشكور في مراجعة تجارب الكتاب وتصحيحه وطباعته تلك الطباعة اللائقة. هذا، والله نسأل أن يجزل لنا المثوبة في هذا العمل، ولكل من شارك فيه بجهد مشكور، وأن ينفع به ويعين على معرفة أسرار كتابه العزيز، إنه سبحانه مولى ذلك وهو القادر عليه. وكتبه د. عبد الحميد هنداوي المدرس بقسم البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن بكلية دار العلوم- جامعة القاهرة الجيزة في رجب 1421 هـ.

[مقدمة المؤلف]

بسم الله الرّحمن الرّحيم [مقدمة المؤلف] قال الشيخ الإمام مجد الإسلام أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني النحوي رحمة الله عليه ورضوانه: الحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله أجمعين. اعلم أن الكلام هو الذي يعطي العلوم منازلها، ويبيّن مراتبها، ويكشف عن صورها، ويجني صنوف ثمرها، ويدلّ على سرائرها، ويبرز مكنون ضمائرها، وبه أبان الله تعالى الإنسان من سائر الحيوان، ونبّه فيه على عظم الامتنان، فقال عزّ من قائل: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ، عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرحمن 1 - 4]، فلولاه لم تكن لتتعدّى فوائد العلم عالمه، ولا صحّ من العاقل أن يفتق عن أزاهير العقل كمائمه، ولتعطّلت قوى الخواطر والأفكار من معانيها، واستوت القضيّة في موجودها وفانيها. نعم، ولوقع الحيّ الحسّاس في مرتبة الجماد، ولكان الإدراك كالذي ينافيه من الأضداد، ولبقيت القلوب مقفلة على ودائعها، والمعاني مسجونة في مواضعها، ولصارت القرائح عن تصرّفها معقولة، والأذهان عن سلطانها معزولة، ولما عرف كفر من إيمان، وإساءة من إحسان، ولما ظهر فرق بين مدح وتزيين، وذمّ وتهجين. ثم إنّ الوصف الخاصّ به، والمعنى المثبت لنسبه، أنه يريك المعلومات بأوصافها التي وجدها العلم عليها، ويقرّر كيفياتها التي تناولها (¬1) المعرفة إذا سمت إليها. وإذا كان هذا الوصف مقوّم ذاته وأخصّ صفاته، كان أشرف أنواعه ما كان فيه أجلى وأظهر، وبه أولى وأجدر. ومن هاهنا يبيّن للمحصل، ويتقرّر في نفس المتأمّل، كيف ينبغي أن يحكم في تفاضل الأقوال إذا أراد أن يقسّم بينها حظوظها من الاستحسان، ويعدّل القسمة بصائب القسطاس والميزان. ومن البيّن الجليّ أن التباين في هذه الفضيلة، والتباعد عنها إلى ما ينافيها من ¬

_ (¬1) تناولها: أصله تتناولها على المضارع: حذفت إحدى التاءين تخفيفا، وفي نسخة: (تناولتها) على المضي.

الرذيلة، ليس بمجرّد اللفظ (¬1). كيف؟ والألفاظ لا تفيد حتى تؤلّف ضربا خاصّا من التأليف، ويعمد بها إلى وجه دون وجه من التركيب والترتيب. فلو أنك عمدت إلى بيت شعر أو فصل نثر فعددت كلماته عدّا كيف جاء واتّفق، وأبطلت نضده (¬2) ونظامه الذي عليه بني، وفيه أفرغ المعنى وأجري، وغيّرت ترتيبه الذي بخصوصيته أفاد ما أفاد، وبنسقه المخصوص أبان المراد، نحو أن تقول في: [من الطويل] قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل (¬3) «منزل قفا ذكرى من نبك حبيب»، أخرجته من كمال البيان، إلى مجال الهذيان. نعم وأسقطت نسبته من صاحبه، وقطعت الرّحم بينه وبين منشئه، بل أحلت أن يكون له إضافة إلى قائل، ونسب يختصّ بمتكلم. وفي ثبوت هذا الأصل ما تعلم به أنّ المعنى الذي له كانت هذه الكلم بيت شعر أو فصل خطاب، هو ترتيبها على طريقة معلومة، وحصولها على صورة من التأليف مخصوصة. وهذا الحكم- أعني الاختصاص في الترتيب- يقع في الألفاظ مرتّبا على المعاني المرتّبة في النفس، المنتظمة فيها على قضيّة العقل (¬4). ولا يتصوّر في الألفاظ وجوب تقديم وتأخير، وتخصّص في ترتيب وتنزيل، وعلى ذلك وضعت المراتب والمنازل في الجمل المركّبة، وأقسام الكلام المدوّنة، فقيل: من حق هذا أن يسبق ذلك، ومن حقّ ما هاهنا أن يقع هنالك، كما قيل في المبتدأ والخبر والمفعول والفاعل، حتى حظر ¬

_ (¬1) وفي نسخة: الألفاظ، قلت: ولعله هو الأولى لاتفاقه مع ما بعده. (¬2) أي: نسقه ونظامه. (¬3) البيت لامرئ القيس من معلقته الشهيرة وهو في ديوانه: 110، وانظر شرحه في شرح المعلقات العشر للشنقيطي: 58، وشرح القصائد العشر للتبريزي: 20، وتمامه: بسقط اللّوى بين الدخول فحومل والبيت من مفتاح العلوم تحقيق د. عبد الحميد هنداوي، طبعة دار الكتب العلمية: 625، والأزهية: 244، وخزانة الأدب: 1/ 332، 3/ 224، والدرر: 6/ 71، ولسان العرب: 209 (لوى)، والإيضاح: 369، تحقيق د. عبد الحميد هنداوي. المعنى: قفا: يخاطب الشاعر نفسه أو صاحبه أو صاحبيه لأن العرب قد يخاطب الواحد منهم صاحبه مخاطبة الاثنين كما يخاطب الجماعة كذلك، ذكرى حبيب، ومنزل: تذكر الحبيب ومنزله الذي ألف النزول به. سقط اللوى: منقطع الرمل، ويقال للوى وحده كذلك: منقطع الرمل، والدخول وحومل: قيل: إنهما موضعان من شرق اليمامة. (¬4) كلام المصنف هنا على قضية النظم، وقد فصل الكلام عليها، وأشرنا إلى ذلك في كتابه الآخر دلائل الإعجاز فراجعه.

في جنس من الكلم بعينه أن يقع إلّا سابقا، وفي آخر أن يوجد إلا مبنيّا على غيره وبه لاحقا، كقولنا: إن الاستفهام له صدر الكلام، وإن الصفة لا تتقدم على الموصوف إلا أن تزال عن الوصفية إلى غيرها من الأحكام. فإذا رأيت البصير بجواهر الكلام يستحسن شعرا أو يستجيد نثرا، ثم يجعل الثناء عليه من حيث اللّفظ فيقول: حلو رشيق، وحسن أنيق، وعذب سائغ، وخلوب رائع، فاعلم أنه ليس ينبئك عن أحوال ترجع إلى أجراس الحروف (¬1)، وإلى ظاهر الوضع اللغويّ، بل إلى أمر يقع من المرء في فؤاده، وفضل يقتدحه العقل من زناده. وأمّا رجوع الاستحسان إلى اللفظ من غير شرك من المعنى فيه، وكونه من أسبابه ودواعيه، فلا يكاد يعدو نمطا واحدا، وهو أن تكون اللفظة مما يتعارفه الناس في استعمالهم، ويتداولونه في زمانهم، ولا يكون وحشيا غريبا، أو عامّيا سخيفا، سخفه بإزالته عن موضوع اللغة، وإخراجه عما فرضته من الحكم والصفة، كقول العامة «أشغلت» و «انفسد». وإنما شرطت هذا الشرط، فإنه ربما استسخف اللفظ بأمر يرجع إلى المعنى دون مجرّد اللفظ، كما يحكى من قول عبيد الله بن زياد لما دهش: «افتحوا لي سيفي»، وذلك أن «الفتح» خلاف «الإغلاق»، فحقّه أن يتناول شيئا هو في حكم المغلق والمسدود، وليس السّيف بمسدود، وأقصى أحواله أن يكون كونه في الغمد بمنزله كون الثوب في العكم (¬2)، والدرهم في الكيس، والمتاع في الصندوق. و «الفتح» في هذا الجنس (¬3) يتعدّى أبدا إلى الوعاء المسدود على الشيء الحاوي له لا إلى ما فيه، فلا يقال: «افتح الثوب»، وإنما يقال: «افتح العكم» و «أخرج الثوب» و «افتح الكيس». وهاهنا أقسام قد يتوهّم في بدء الفكرة، وقبل إتمام العبرة، أنّ الحسن والقبح فيها لا يتعدّى اللفظ والجرس، إلى ما يناجي فيه العقل النفس، ولها إذا حقّق النظر مرجع إلى ذلك، ومنصرف فيما هنالك، منها: «التجنيس» و «الحشو». ¬

_ (¬1) جمع جرس- بكسر الجيم وبفتحها- وهو الصوت، أو الخفي منه. (¬2) العكم- بالكسر- كالعدل وزنا ومعنى، والمراد بالعدل هنا الغرارة والجوالق، وهو نصف الحمل يكون على أحد جانبي البعير، أي: يكون على جانبي البعير عدلان، وقد سمي عدلا لتعادله وتماثله مع نظيره في الشق الآخر. والعكم أيضا: نمط تجعل المرأة فيه ذخيرتها. (¬3) وفي نسخة: المعنى.

القول في التجنيس

القول في التجنيس أما «التجنيس» فإنك لا تستحسن تجانس اللفظتين إلا إذا كان وقع معنييهما من العقل موقعا حميدا، ولم يكن مرمى الجامع بينهما مرمى بعيدا، أتراك استضعفت تجنيس أبي تمام في قوله: [من الكامل] ذهبت بمذهبه السّماحة فالتوت … فيه الظّنون: أمذهب أم مذهب (¬1) واستحسنت تجنيس القائل: [من الرجز] حتى نجا من خوفه وما نجا (¬2) وقول المحدث: [من الخفيف] ناظراه فيما جنى ناظراه … أو دعاني أمت بما أو دعاني (¬3) لأمر يرجع إلى اللفظ؟ أم لأنك رأيت الفائدة ضعفت عن الأوّل وقويت في الثاني؟ ورأيتك لم يزدك «بمذهب ومذهب» على أن أسمعك حروفا مكررة، تروم فائدة فلا تجدها إلا مجهولة منكرة، ورأيت الآخر قد أعاد عليك اللفظة كأنه يخدعك عن الفائدة وقد أعطاها، ويوهمك كأنه لم يزدك وقد أحسن الزيادة ووفّاها، فبهذه السريرة صار «التجنيس» - وخصوصا المستوفى منه المتّفق في الصورة- من حلى الشّعر، ومذكورا في أقسام البديع. فقد تبين لك أن ما يعطي «التجنيس» من الفضيلة، أمر لم يتمّ إلا بنصرة المعنى، إذ لو كان باللفظ وحده لما كان فيه مستحسن، ولما وجد فيه معيب مستهجن. ولذلك ذمّ الاستكثار منه والولوع به. وذلك أن المعاني لا تدين في كل موضع لما يجذبها التجنيس إليه، إذ الألفاظ ¬

_ (¬1) البيت هو في ديوانه: 43، من قصيدة يمدح بها الحسن بن وهب ويصف غلاما أهداه إليه، والبيت من دلائل الإعجاز: 523. (¬2) البيت هو من إعجاز القرآن: 523، والبيان والتبيين 1/ 150، والحيوان: 3/ 75، و «نجا» الأولى بمعنى أحدث، والثانية بمعنى خلص (رشيد). قلت: «نجا» الأولى من النجو وهو ما يخرج من البطن من الغائط، يريد أنه من خوفه أحدث، ثم لم ينج من النجاة. (¬3) البيت هو ثاني بيتين يرويان لشمسويه البصري، ولشداد بن إبراهيم الجزري، ولأبي الفتح البستي، وهو في دلائل الإعجاز: 523. وقبله: قيل للقلب ما دهاك؟ أجبني … قال لي: بائع الفراني فراني وكان حق المصنف أن يذكره كذلك فهو شاهد لما هو فيه من الجناس كذلك.

خدم المعاني والمصرّفة في حكمها، وكانت المعاني هي المالكة سياستها، المستحقّة طاعتها. فمن نصر اللفظ على المعنى كان كمن أزال الشيء عن جهته، وأحاله عن طبيعته، وذلك مظنّة من الاستكراه، وفيه فتح أبواب العيب، والتّعرّض للشّين. ولهذه الحالة كان كلام المتقدّمين الذين تركوا فضل العناية بالسجع، ولزموا سجيّة الطبع، أمكن في العقول، وأبعد من القلق، وأوضح للمراد، وأفضل عند ذوي التّحصيل، وأسلم من التفاوت، وأكشف عن الأغراض، وأنصر للجهة التي تنحو نحو العقل، وأبعد من التّعمّد الذي هو ضرب من الخداع بالتزويق، والرضى بأن تقع النقيصة في نفس الصّورة. وإنّ الخلقة، إذا أكثر فيها من الوشم والنقش، وأثقل صاحبها بالحلي والوشي، قياس الحلي على السيف الدّدان (¬1)، والتوسّع في الدعوى بغير برهان، كما قال: [من الطويل] إذا لم تشاهد غير حسن شياتها … وأعضائها فالحسن عنك مغيّب (¬2) وقد تجد في كلام المتأخرين الآن كلاما حمل صاحبه فرط شغفه بأمور ترجع إلى ما له اسم في البديع، إلى أن ينسى أنّه يتكلم ليفهم، ويقول ليبين، ويخيّل إليه أنه إذا جمع بين أقسام البديع في بيت فلا ضير أن يقع ما عناه في عمياء، وأن يوقع السامع من طلبه في خبط عشواء، وربّما طمس بكثرة ما يتكلّفه على المعنى وأفسده، كمن ثقّل العروس بأصناف الحلي حتى ينالها من ذلك مكروه في نفسها (¬3). ¬

_ (¬1) الددان من السيوف: نحو الكهام. وقال ثعلب: هو الذي يقطع به الشجر، وهو عند غيره إنما هو المعضد، وسيف كهام وددان بمعنى واحد. (¬2) البيت للمتنبي في ديوانه: 2/ 230، من قصيدة أغالب فيك الشوق، وقبله: وما الخيل إلا كالصديق قليلة … وإن كثرت في عين من لا يجرب والبيت في الإيضاح: 346، تحقيق د. عبد الحميد هنداوي، طبعة مؤسسة المختار. والشيات: جمع شية وهي كل لون في الشيء مخالف معظم لونه الأصلي والضمير للخيل التي يصفها. (¬3) لا يفهم من هذا الكلام أن عبد القاهر يمنع من التحسين اللفظي أو يقف معارضا له، بل إن ذمه منصب على من بالغ في هذا الأمر حتى جعل هذا التحسين همّه ودأبه ونسي غرضه، وتناسى وظيفة هذا التحسين ودوره في تحقيق مطابقة الكلام لمقتضى الحال خلافا لمتأخري البلاغيين الذين قصروا دور المحسنات اللفظية على وظيفة التزيين والتحسين دون أن يكون لها أدنى دور في تحقيق المطابقة، شأنها في ذلك شأن العلمين الآخرين (المعاني والبيان) وقد فصلت القول في هذه القضية في أكثر من موضع من كتبي، من ذلك الفصل الذي عقدته لذلك في رسالتي للماجستير عن الجهود البلاغية للإمام الطيبي، ط مكتبة نزار الباز، مكة المكرمة. وقد بينت فيها أن تلك المحسنات منها ما هو بليغ، ومنها ما هو مطابق، ومنها ما هو متكلف، فليراجع ما كتبناه هنالك.

فإن أردت أن تعرف مثالا فيما ذكرت لك، من أن العارفين بجواهر الكلام لا يعرّجون على هذا الفنّ إلا بعد الثقة بسلامة المعنى وصحّته، وإلا حيث يأمنون جناية منه عليه، وانتقاصا له وتعويقا دونه، فانظر إلى خطب الجاحظ في أوائل كتبه هذا- والخطب من شأنها أن يعتمد فيها الأوزان والأسجاع، فإنها تروى وتتناقل تناقل الأشعار، ومحلّها محلّ النسيب والتشبيب (¬1) من الشعر الذي هو كأنه لا يراد منه إلّا الاحتفال في الصنعة، والدّلالة على مقدار شوط القريحة (¬2)، والإخبار عن فضل القوة، والاقتدار على التفنّن في الصنعة- قال في أول كتاب الحيوان: «جنّبك الله الشّبهة، وعصمك من الحيرة، وجعل بينك وبين المعرفة سببا، وبين الصدق نسبا، وحبّب إليك التثبّت، وزيّن في عينك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التقوى، وأشعر قلبك عزّ الحق، وأودع صدرك برد اليقين وطرد عنك ذلّ اليأس، وعرّفك ما في الباطل من الذلّة، وما في الجهل من القلّة». فقد ترك أوّلا أن يوفّق بين «الشبهة» و «الحيرة» في الإعراب، ولم ير أن يقرن «الخلاف» إلى «الإنصاف»، ويشفع «الحق» «بالصدق»، ولم يعن بأن يطلب «لليأس» قرينة تصل جناحه، وشيئا يكون رديفا له، لأنه رأى التوفيق بين المعاني أحقّ، والموازنة فيها أحسن، ورأى العناية بها حتى تكون إخوة من أب وأمّ؛ ويذرها على ذلك تتّفق بالوداد، على حسب اتّفاقها بالميلاد، أولى من أن يدعها، لنصرة السجع وطلب الوزن، أولاد علّة (¬3)، عسى أن لا يوجد بينها وفاق إلا في الظواهر، فأما أن يتعدّى ذلك إلى الضمائر، ويخلص إلى العقائد والسّرائر، ففي الأقلّ النادر. وعلى الجملة فإنك لا تجد تجنيسا مقبولا، ولا سجعا حسنا، حتى يكون المعنى هو الذي طلبه واستدعاه وساق نحوه، وحتى تجده لا تبتغي به بدلا، ولا تجد عنه حولا، ومن هاهنا كان أحلى تجنيس تسمعه وأعلاه، وأحقّه بالحسن وأولاه، ما وقع من غير قصد من المتكلم إلى اجتلابه، وتأهّب لطلبه، أو ما هو- لحسن ملاءمته، وإن كان مطلوبا- بهذه المنزلة وفي هذه الصورة، وذلك كما يمثّلون به أبدا من قول الشافعي رحمه الله تعالى وقد سئل عن النّبيذ فقال: «أجمع ¬

_ (¬1) نسب بالمرأة:- كنصر وضرب- وصف محاسنها بالشعر، والنسيب والتشبيب بالنساء واحد. (¬2) الشوط: هو الجري مرة واحدة إلى غاية. (¬3) أولاد العلة والعلات: هم الذين أبوهم واحد، وأمهاتهم شتى، وقد ورد في الحديث: «نحن معشر الأنبياء إخوة لعلات» يقصد أن الدين واحد والشرائع شتّى.

أهل الحرمين على تحريمه». ومما تجده كذلك قول البحتري: [من الكامل] يعشى عن المجد الغبيّ ولن ترى … في سؤدد أربا لغير أريب (¬1) وقوله: [من الوافر] فقد أصبحت أغلب تغلبيّا … على أيدي العشيرة والقلوب (¬2) ومما هو شبيه به قوله: [من الكامل] وهوى هوى بدموعه فتبادرت … نسقا يطأن تجلّدا مغلوبا (¬3) وقوله: [من الكامل] ما زلت تقرع باب بابل بالقنا … وتزوره في غارة شعواء (¬4) وقوله: [من الكامل] ذهب الأعالي حيث تذهب مقلة … فيه بناظرها حديد الأسفل (¬5) ومثال ما جاء من السجع هذا المجيء وجرى هذا المجرى في لين مقادته، وحل هذا المحلّ من القبول قول القائل: «اللهم هب لي حمدا، وهب لي مجدا، فلا مجد إلا بفعال، ولا فعال إلّا بمال» (¬6)، وقول ابن العميد: «فإن الإبقاء على خدم السلطان عدل الإبقاء على ماله، والإشفاق على حاشيته وحشمه، عدل الإشفاق على ديناره ودرهمه». ¬

_ (¬1) البيت هو في ديوانه، والإيضاح: 337، تحقيق د. عبد الحميد هنداوي، يعشى: أراد يعمى، والقصد أنه لا يشغل به وطريقه الكناية. السؤدد: رفعة القدر وكرم المنصب. أرب: غاية، ومأرب، أريب: عاقل لبيب. (¬2) البيت في ديوانه. (¬3) البيت من الكامل، وهو في ديوانه. (¬4) البيت في ديوانه. (¬5) البيت في ديوانه في وصف الفرس، وقبله: جذلان ينفض عذرة في غرة … يقق تسيل حجولا في جندل كالرائح النشوان أكثر مشيه … عرضا على السنن البعيد الأطول (¬6) هو مشهور من دعاء قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي رضي الله عنه، صحابي، وهذا الدعاء أورده الجاحظ في البيان والتبيين 3/ 284، وهو مذكور في ترجمته أيضا. ولكن أصح منه أنه من دعاء أبيه سعد بن عبادة، رواه ابن سعد قال: أخبرنا أبو أسامة قال: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه أن سعدا بن عبادة كان يدعو» وذكر الدعاء، وتمامه عنده: «اللهم لا يصلحني القليل ولا أصلح عليه»، طبقات ابن سعد 3/ 143 [محمود شاكر].

ولست تجد هذا الضرب يكثر في شيء، ويستمرّ كثرته واستمراره في كلام القدماء، كقول خالد: «ما الإنسان، لولا اللسان، إلا صورة ممثلة، وبهيمة مهملة»، وقول الفضل بن عيسى الرقاشي: «سل الأرض فقل: من شقّ أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك، فإن لم تجبك حوارا، أجابتك اعتبارا». وإن أنت تتبّعته من الأثر وكلام النبي صلّى الله عليه وسلّم، تثق كلّ الثقة بوجودك له على الصّفة التي قدمت، وذلك كقول النبي عليه السلام: «الظّلم ظلمات يوم القيامة»، وقوله صلوات الله عليه: «لا تزال أمّتي بخير ما لم تر الغنى مغنما، والصدقة مغرما»، وقوله: «يا أيّها الناس؛ أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلّوا بالليل، والناس نيام، تدخلوا الجنّة بسلام». فأنت لا تجد في جميع ما ذكرت لفظا اجتلب من أجل السجع، وترك له ما هو أحقّ بالمعنى منه وأبرّ به، وأهدى إلى مذهبه. ولذلك أنكر الأعرابي حين شكا إلى عامل ألما بقوله: «حلأت (¬1) ركابي، وشقّقت ثيابي، وضربت صحابي»، فقال له العامل: «أو تسجع أيضا» إنكار العامل السجع حتى قال: «فكيف أقول؟»، وذاك أنّه لم يعلم أصلح لما أراد من هذه الألفاظ ولم يره بالسجع مخلّا بمعنى، أو محدثا في الكلام استكراها، أو خارجا إلى تكلّف واستعمال لما ليس بمعتاد في غرضه. وقال الجاحظ: «لأنه لو قال: «حلّئت إبلي» أو «جمالي» أو «نوقي» أو «بعراني» أو «صرمتي» (¬2) لكان لم يعبّر عن حقّ معناه، وإنما حلّئت ركابه، فكيف يدع «الركاب» إلى غير الركّاب؟ وكذلك قوله: «وشقّقت ثيابي، وضربت صحابي». فقد تبين من هذه الجملة أن المعنى المقتضى اختصاص هذا النّحو بالقبول: هو أنّ المتكلم لم يقد المعنى نحو التجنيس والسّجع، بل قاده المعنى إليهما، وعبر ¬

_ (¬1) الرّكاب بالكسر: الإبل التي يسار عليها، واحدتها: راحلة، ولا واحد لها من لفظها، وجمعها «ركب» بضم الكاف مثل «كتب» وفي حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الرّكاب أسنتها» أي: أمكنوها من الرعي، وأما قوله: (حلأت ركابي) فيقال: حلأ الإبل والماشية عن الماء تحليئا وتحلئة: طردها أو حبسها عن الورود ومنعها أن ترده. (¬2) الصّرمة بالكسر: القطعة من الإبل، قيل: هي ما بين العشرين إلى الثلاثين، وقيل: ما بين الثلاثين إلى الخمسين والأربعين، فإذا بلغت الستين فهي: «الصّدعة»، وقيل: ما بين العشرة إلى الأربعين، وقيل: ما بين عشرة إلى بضع عشرة.

به الفرق عليهما، حتى إنه لو رام تركهما إلى خلافهما مما لا تجنيس فيه ولا سجع، لدخل من عقوق المعنى وإدخال الوحشة عليه، في شبيه بما ينسب إليه المتكلف للتّجنيس المستكره، والسجع النّافر. ولن تجد أيمن طائرا، وأحسن أوّلا وآخرا، وأهدى إلى الإحسان، وأجلب للاستحسان، من أن ترسل المعاني على سجيّتها، وتدعها تطلب لأنفسها الألفاظ، فإنها إذا تركت وما تريد لم تكتس إلا ما يليق بها، ولم تلبس من المعارض إلا ما يزينها. فأمّا أن تضع في نفسك أنه لا بدّ من أن تجنس أو تسجع بلفظين مخصوصين، فهو الذي أنت منه بعرض الاستكراه (¬1)، وعلى خطر من الخطأ والوقوع في الذّمّ، فإن ساعدك الجدّ كما ساعد في قوله: «أو دعاني أمت بما أو دعاني»، وكما ساعد أبا تمام في نحو قوله: [من الطويل] وأنجدتم من بعد إتهام داركم … فيا دمع أنجدني على ساكني نجد (¬2) وقوله: [من الكامل] هنّ الحمام، فإن كسرت عيافة … من حائهن فإنهنّ حمام (¬3) فذاك، وإلّا أطلقت ألسنة العيب، وأفضى بك طلب الإحسان من حيث لم يحسن الطلب، إلى أفحش الإساءة وأكبر الذنب، ووقعت فيما ترى من ينصرك، لا يرى أحسن من أن لا يرويه لك، ويودّ لو قدر على نفيه عنك، وذلك كما تجده لأبي ¬

_ (¬1) أي: بجانب الاستكراه، والمقصود ذم تكلف التجنيس وطلب التحسين وتعمده واستكراه اللفظ عليه دون أن يقتضيه المعنى، وتنقاد له النفس، ويستلذه الحسّ؛ وليس معنى ذلك أن اختيار التجنيس وأشباهه من المحسنات مذموم إذا كان موافقا للمعنى، مطابقا للمقتضى، فإذا حضرك لفظان أحدهما يوافق المعنى بلا تجنيس، والآخر يوافقه مع زيادة التجنيس أو التحسين؛ فإن حق البلاغة والفصاحة هنا اختيار اللفظ الذي هو آنق في السمع، وأوفق للنفس والحسّ؛ فإن التحسين والتزيين المطابق لا يخفى أنه يقع من البلاغة بمكان، وأنه هو الذي يجذب النفس إلى المعاني، ويهون عليها ثقل اللفظ ورتابته. (¬2) البيت في ديوانه: 120 من قصيدة قالها في مدح موسى بن إبراهيم الرافقيّ ويعتذر إليه، وقبله: شهدت لقد أقوت مغانيكم بعدي … ومحّت كما محّت وشائع من برد والبيت في الإيضاح: 337، تحقيق د. عبد الحميد هنداوي. أنجدتم: سكنتم نجدا. إتهام داركم: اتخاذها في تهامة. أنجدني: ساعدني وعاوني. (¬3) البيت لأبي تمام في ديوانه: 263، عن قصيدة في مدح المأمون، وقبله: أتحدّرت عبرات عينك أن دعت … ورقاء حين تصعصع الإظلام لا تنشجينّ لها فإن بكاءها … ضحك وإن بكاءك استغرام العيافة: زجر الطير. والحمام: الموت. استغرام: أي: داع للغرام وهو الهلاك.

تمام إذا أسلم نفسه للتكلف، ويرى أنه إن مرّ على اسم موضع يحتاج إلى ذكره أو يتصل بقصة يذكرها في شعره، من دون أن يشتقّ منه تجنيسا، أو يعمل فيه بديعا، فقد باء بإثم، وأخلّ بفرض حتم، من نحو قوله: [من البسيط] سيف الإمام الذي سمّته هبّته … لمّا تخرّم أهل الكفر مخترما إنّ الخليفة لمّا صال كنت له … خليفة الموت فيمن جار أو ظلما قرّت بقرّان عين الدين واشتترت … بالأشترين عيون الشّرك فاصطلما (¬1) وكقول بعض المتأخرين: [من الكامل] البس جلابيب القنا … عة إنّها أوقى رداء ينجيك من داء الحري … ص معا ومن أوقار داء (¬2) وكقول أبي الفتح البستي: [من السريع] جفّوا فما في طينهم للذي … يعصره من بلّة بلّه (¬3) وقوله: [من الوافر] أخ لي لفظه درّ … وكلّ فعاله برّ تلقّاني فحيّاني … بوجه بشره بشر (¬4) لم يساعدهما حسن التوفيق كما ساعد في نحو قوله: [من الوافر] وكلّ غنى يتيه به غنيّ … فمرتجع بموت أو زوال ¬

_ (¬1) الأبيات لأبي تمام في ديوانه: 284، من قصيدة قالها في مدح إسحاق بن إبراهيم المصعبي. والشتر: انقلاب الجفن من أعلى وأسفل قلما يكون خلقة، وقيل: هو أن ينشق الجفن حتى ينفصل الحتار. وقرّان (بالضم وتشديد الراء) والأشتران: مواضع في بلاد الخرمية بين نهاوند وهمدان. والجناس في البيت الأخير يسمونه المطلق. (¬2) أوقار داء: الأوقار: جمع وقر بالفتح وهو الحمل الثقيل، أي: أثقال داء، والجناس في قافية البيتين يسمونه المركب وتركيبه في الطرفين (رشيد رضا). (¬3) في المخطوطة والمطبوعتين: «من بلة بالله» وهو كلام بلا معنى، والصواب ما في ترجمته في يتيمة الدهر للثعالبي، والبلّة الأولى: البلل. والبله الثانية: الخير والرزق وما ينتفع به (محمود شاكر). (¬4) البيتان هما لأبي الفتح البستي في ديوانه. والبشر (بالتحريك) جمع بشرة: وهي ظاهر الجلد وسكن الشين للضرورة.

وهب جدّي طوى لي الأرض طرّا … أليس الموت يزوي ما زوى لي (¬1) ونحوه: [من السريع] منزلتي تحفظ من ذلّتي … وباحتي تكرم ديباجتي (¬2) واعلم أنّ النكتة التي ذكرتها في التجنيس، وجعلتها العلّة في استيجابه الفضيلة وهي حسن الإفادة، مع أنّ الصورة صورة التكرير والإعادة وإن كانت لا تظهر الظهور التامّ الذي لا يمكن دفعه، إلا في المستوفى المتفق الصورة منه كقوله: [من الكامل] ما مات من كرم الزمان فإنه … يحيى لدى يحيى بن عبد الله (¬3) أو المرفوّ الجاري هذا المجرى كقوله: «أو دعاني أمت بما أو دعاني». فقد يتصوّر في غير ذلك من أقسامه أيضا، فمما يظهر ذاك فيه ما كان نحو قول أبي تمام: [من الطويل] يمدّون من أيد عواص عواصم … تصول بأسياف قواض قواضب (¬4) وقول البحتري: [من الطويل] لئن صدفت عنّا فربّت أنفس … صواد إلى تلك الوجوه الصّوادف (¬5) ¬

_ (¬1) البيتان هما لأبي الفتح البستي في ديوانه، وأخطأ من نسبهما لأبي الفضل الميكاليّ، ورواية الديوان: «طوى لي الأرض طيا» وهي أجود [محمود شاكر]. (¬2) البيت لأبي الفتح البستي في ديوانه، وفي مطبوعة محمود شاكر: «منزلتي يحفظها منزلي». والديباجة: صفحة الوجه، والباجة: الكيس تكون فيه الدراهم، فهي التي تحفظ على الوجه ديباجة وجهه. (¬3) البيت لأبي تمام في ديوانه، والمصباح: 184، والإيضاح: 536، والتجنيس بين الفعل «يحيا» والاسم «يحيى». (¬4) البيت في ديوانه: 46، من قصيدة قالها يمدح أبا دلف القاسم بن عيسى العجلي، وقبله: جحافل لا يتركن ذا جبرية … سليما ولا يحربن من لم يحارب والبيت في الإيضاح: 335، تحقيق د. عبد الحميد هنداوي، والطراز: 2/ 362، والمصباح: 187، وإعجاز القرآن: 87، وكتاب الصناعتين: 343، ونهاية الإعجاز: 128، والشاهد في قوله: عواص عواصم، وقواض قواضب. القواضب: السيوف القاطعة. (¬5) البيت في ديوانه. والصوادف: الإبل التي تأتي على الحوض فتقف عند أعجازها تنتظر انصراف الشاربة لتدخل.

فصل في قسمة التجنيس وتنويعه

وذلك أنك تتوهم قبل أن يرد عليك آخر الكلمة كالميم من «عواصم» والباء من «قواضب»، أنها هي التي مضت، وقد أرادت أن تجيئك ثانية، وتعود إليك مؤكّدة، حتى إذا تمكن في نفسك تمامها، ووعى سمعك آخرها، انصرفت عن ظنّك الأول، وزلت عن الذي سبق من التخيّل، وفي ذلك ما ذكرت لك من طلوع الفائدة بعد أن يخالطك اليأس منها، وحصول الربح بعد أن تغالط فيه حتى ترى أنه رأس المال. فأما ما يقع التجانس فيه على العكس من هذا، وذلك أن تختلف الكلمات من أوّلها كقول البحتري: [من الخفيف] بسيوف إيماضها أوجال … للأعادي ووقعها آجال (¬1) وكذا قول المتأخر: [من الطويل] وكم سبقت منه إليّ عوارف … ثنائي من تلك العوارف وارف وكم غرر من برّه ولطائف … لشكري على تلك اللّطائف طائف وذلك أنّ زيادة «عوارف» على «وارف» بحرف اختلاف من مبدأ الكلمة في الجملة، فإنه لا يبعد كلّ البعد عن اعتراض طرف من هذا التخيّل فيه، وإن كان لا يقوى تلك القوة، كأنك ترى أن اللفظة أعيدت عليك مبدلا من بعض حروفها غيره أو محذوفا منها. ويبقى في تتبّع هذا الموضع كلام حقّه غير هذا الفصل وذلك حيث يوضع. فصل في قسمة التجنيس وتنويعه فالذي يجب عليه الاعتماد في هذا الفنّ، أن التوهّم على ضربين: ضرب يستحكم حتى يبلغ أن يصير اعتقادا. وضرب لا يبلغ ذلك المبلغ، ولكنه شيء يجري في الخاطر، وأنت تعرف ذلك وتتصور وزنه إذا نظرت إلى الفرق بين الشيئين يشتبهان الشبه التامّ؛ والشيئين يشبه أحدهما بالآخر على ضرب من التقريب، فاعرفه. وأما «الحشو» فإنما كره وذمّ وأنكر وردّ، لأنه خلا من الفائدة، ولم يحل منه ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه.

بعائدة، ولو أفاد لم يكن حشوا، ولم يدع لغوا. وقد تراه مع إطلاق هذا الاسم عليه واقعا من القبول أحسن موقع، ومدركا من الرّضى أجزل حظّ، وذاك لإفادته إيّاك، على مجيئه مجيء ما لا يعوّل في الإفادة عليه، ولا طائل للسامع لديه، فيكون مثله مثل الحسنة تأتيك من حيث لم ترقبها، والنافعة أتتك ولم تحتسبها، وربّما رزق الطّفيليّ ظرفا يحظى به حتى يحلّ محلّ الأضياف الذين وقع الاحتشاد لهم، والأحباب الذين وثق بالأنس منهم وبهم. وأما التطبيق والاستعارة وسائر أقسام البديع، فلا شبهة أنّ الحسن والقبح لا يعترض الكلام بهما إلّا من جهة المعاني خاصّة، من غير أن يكون للألفاظ في ذلك نصيب، أو يكون لها في التحسين أو خلاف التحسين تصعيد وتصويب. أما «الاستعارة»، فهي ضرب من التشبيه، ونمط من التمثيل، والتشبيه قياس، والقياس يجري فيما تعيه القلوب، وتدركه العقول، وتستفتى فيه الأفهام والأذهان، لا الأسماع والآذان. وأما «التطبيق»، فأمره أبين، وكونه معنويا أجلى وأظهر، فهو مقابلة الشيء بضده، والتضادّ بين الألفاظ المركّبة محال، وليس لأحكام المقابلة ثمّ مجال. فخذ إليك الآن بيت الفرزدق الذي يضرب به المثل في تعسّف اللفظ: [من الطويل] وما مثله في الناس إلا مملّكا … أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه (¬1) فانظر أتتصوّر أن يكون ذلك للفظه من حيث إنّك أنكرت شيئا، من حروفه، أو صادفت وحشيّا غريبا، أو سوقيّا ضعيفا؟ أم ليس إلّا لأنه لم يرتّب الألفاظ في الذكر، على موجب ترتيب المعاني في الفكر، فكدّ وكدّر، ومنع السامع أن يفهم الغرض إلّا بأن يقدّم ويؤخّر، ثم أسرف في إبطال النّظام، وإبعاد المرام، وصار كمن رمى بأجزاء تتألّف منها صورة، ولكن بعد أن يراجع فيها بابا من الهندسة، لفرط ما عادى بين أشكالها، وشدّة ما خالف بين أوضاعها. وإذا وجدت ذلك أمرا بيّنا لا يعارضك فيه شكّ، ولا يملكك معه امتراء، فانظر ¬

_ (¬1) البيت للفرزدق، وموجود في الإشارات والتنبيهات: 11، الخصائص: 1/ 146، الإيضاح: 76، الكتاب لسيبويه: 1/ 32، والكامل للمبرد: 1/ 18، والموشح للمرزباني: 94، ومعاهد التنصيص للعباسي: 1/ 16، ونهاية الإيجاز: 279.

إلى الأشعار التي أثنوا عليها من جهة الألفاظ، ووصفوها بالسلامة، ونسبوها إلى الدّماثة، وقالوا: كأنّها الماء جريانا، والهواء لطفا، والرياض حسنا، وكأنها النّسيم، وكأنها الرّحيق مزاجها التّسنيم، وكأنها الديباج الخسروانيّ في مرامي الأبصار، ووشي اليمن منشورا على أذرع التّجار، كقوله: [من الطويل] ولمّا قضينا من منى كلّ حاجة … ومسّح بالأركان من هو ماسح وشدّت على دهم المهارى رحالنا … ولم ينظر الغادي الّذي هو رائح أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا … وسالت بأعناق المطيّ الأباطح (¬1) ثم راجع فكرتك، واشحذ بصيرتك، وأحسن التأمّل، ودع عنك التجوّز في الرأي، ثم انظر هل تجد لاستحسانهم وحمدهم وثنائهم ومدحهم منصرفا، إلّا إلى استعارة وقعت موقعها، وأصابت غرضها، أو حسن ترتيب تكامل معه البيان حتى وصل المعنى إلى القلب مع وصول اللفظ إلى السمع، واستقرّ في الفهم مع وقوع العبارة في الأذن، وإلا إلى سلامة الكلام من الحشو غير المفيد، والفضل الذي هو كالزيادة في التحديد، وشيء داخل المعاني المقصودة مداخلة الطفيليّ الذي يستثقل مكانه، والأجنبيّ الذي يكره حضوره، وسلامته من التقصير الذي يفتقر معه السامع إلى تطلّب زيادة بقيت في نفس المتكلم، فلم يدلّ عليها بلفظها الخاصّ بها، واعتمد دليل حال غير مفصح، أو نيابة مذكور ليس لتلك النّيابة بمستصلح. وذلك أن أوّل ما يتلقّاك من محاسن هذا الشعر أنه قال: ولمّا قضينا من منى كلّ حاجة فعبّر عن قضاء المناسك بأجمعها والخروج من فروضها وسننها، من طريق أمكنه أن يقصّر معه اللفظ، وهو طريقة العموم، ثم نبّه بقوله: ¬

_ (¬1) الأبيات في الإيضاح: 175 - 176، تحقيق د. عبد الحميد هنداوي. ودلائل الإعجاز: 74، 75، 295. وهي تروى لكثير وليزيد بن الطثرية ولعقبة بن كعب بن زهير بن أبي سلمى، وانظر تخريجها في ديوان كثير، وفي هامش المخطوطة في لسان العرب: كل مختار طرف والجمع أطراف، قال ابن سيدة: عنى بأطراف الأحاديث مختاره، وما يتعاطاه المحبون، ويتفاوضه ذوو الصبابة المتيمون، من التعريض والتلويح والإيماء دون التصريح وذلك أحلى وأخف وأغزل وأنسب من أن يكون مشافهة وكشفا ومصارحة وجهرا. وطرائف الحديث: مختاره وهذا نص ما في لسان العرب (طرف)، في شرح هذا البيت، وكل ذلك اختطفه ابن سيدة من كلام ابن جني في الخصائص: 1/ 220، ثم انظر أيضا شرح الأبيات في الخصائص لابن جني: 1/ 217، 221، وهو فصل جيد جدا. [محمود شاكر].

ومسّح بالأركان من هو ماسح على طواف الوداع الذي هو آخر الأمر، ودليل المسير الذي هو مقصوده من الشعر. ثم قال: أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا فوصل بذكر مسح الأركان، ما وليه من زمّ الركاب وركوب الرّكبان، ثم دلّ بلفظة «الأطراف» على الصّفة التي يختصّ بها الرّفاق في السّفر، من التصرف في فنون القول وشجون الحديث، أو ما هو عادة المتظرّفين، من الإشارة والتلويح والرّمز والإيماء، وأنبأ بذلك عن طيب النفوس، وقوّة النشاط، وفضل الاغتباط، كما توجبه ألفة الأصحاب وأنسة الأحباب، وكما يليق بحال من وفّق لقضاء العبادة الشريفة ورجا حسن الإياب، وتنسّم روائح الأحبّة والأوطان، واستماع التهاني والتّحايا من الخلّان والإخوان. ثم زان ذلك كلّه باستعارة لطيفة طبّق فيها مفصل التشبيه، وأفاد كثيرا من الفوائد بلطف الوحي والتنبيه، فصرّح أوّلا بما أومأ إليه في الأخذ بأطراف الأحاديث، من أنهم تنازعوا أحاديثهم على ظهور الرّواحل، وفي حال التوجّه إلى المنازل، وأخبر بعد بسرعة السير، ووطاءة الظّهر، إذ جعل سلاسة سيرها بهم كالماء تسيل به الأباطح، وكان في ذلك ما يؤكّد ما قبله، لأن الظّهور إذا كانت وطيئة وكان سيرها السّير السهل السريع، زاد ذلك في نشاط الرّكبان، ومع ازدياد النشاط يزداد الحديث طيبا. ثم قال: «بأعناق المطيّ»، ولم يقل «بالمطيّ»، لأن السرعة والبطء يظهران غالبا في أعناقها، ويبين أمرهما من هواديها وصدورها، وسائر أجزائها تستند إليها في الحركة، وتتبعها في الثّقل والخفّة، ويعبّر عن المرح والنشاط، إذا كانا في أنفسها، بأفاعيل لها خاصّة في العنق والرأس، وتدلّ عليهما بشمائل مخصوصة في المقاديم. فقل الآن: هل بقيت عليك حسنة تحيل فيها على لفظة من ألفاظها حتى إنّ فضل تلك الحسنة يبقى لتلك اللفظة لو ذكرت على الانفراد، وأزيلت عن موقعها من نظم الشاعر ونسجه وتأليفه وترصيفه، وحتى تكون في ذلك كالجوهرة التي هي، وإن ازدادت حسنا بمصاحبة أخواتها، واكتست بهاء بمضامّة أترابها، فإنها إذا جليت للعين فردة، وتركت في الخيط فذّة، لم تعدم الفضيلة الذاتية، والبهجة التي في نفسها مطويّة والشّذرة من الذهب تراها بصحبة الجواهر لها في القلادة، واكتنافها لها في عنق الغادة، ووصلها بريق جمرتها والتهاب جوهرها، بأنوار تلك الدّرر التي

المقصد

تجاورها، ولألاء اللآلئ تناظرها تزداد جمالا في العين، ولطف موقع من حقيقة الزين. ثم هي إن حرمت صحبة تلك العقائل، وفرّق الدهر الخئون بينها وبين هاتيك النفائس، لم تعر من بهجتها الأصيلة، ولم تذهب عنها فضيلة الذّهبية. كلّا، ليس هذا بقياس الشعر الموصوف بحسن اللفظ، وإن كان لا يبعد أن يتخيّله من لا ينعم النظر، ولا يتمّ التدبّر، بل حقّ هذا المثل أن يوضع في نصرة بعض المعاني (¬1) الحكمية والتشبيهية بعضا، وازدياد الحسن منها بأن يجامع شكل منها شكلا، وأن يصل الذّكر بين متدانيات في ولادة العقول إياها، ومتجاورات في تنزيل الأفهام لها. واعلم أن هذه الفصول التي قدّمتها وإن كانت قضايا لا يكاد يخالف فيها من به طرق، فإنه قد يذكر الأمر المتّفق عليه، ليبنى عليه المختلف فيه. هذا وربّ وفاق من موافق قد بقيت عليه زيادات أغفل النظر فيها، وضروب من التلخيص والتهذيب لم يبحث عن أوائلها وثوانيها، وطريقة في العبارة عن المغزى في تلك الموافقة لم يمهّدها، ودقيقة في الكشف عن الحجة على مخالف لو عرض من المتكلفين لم يجدها، حتى تراه يطلق في عرض كلامه ما يبرز به وفاقا في معرض خلاف، ويعطيك إنكارا وقد هم باعتراف، وربّ صديق والاك قلبه، وعاداك فعله، فتركك مكدودا لا تشتفي من دائك بعلاج، وتبقى منه في سوء مزاج. المقصد واعلم أن غرضي في هذا الكلام الذي ابتدأته، والأساس الذي وضعته، أن أتوصّل إلى بيان أمر المعاني كيف تختلف وتتفق، ومن أين تجتمع وتفترق، وأفصل أجناسها وأنواعها، وأتتبّع خاصّها ومشاعها، وأبين أحوالها في كرم منصبها من العقل، وتمكّنها في نصابه، وقرب رحمها منه، أو بعدها حين تنسب عنه، وكونها كالحليف الجاري مجرى النّسب، أو الزّنيم الملصق بالقوم لا يقبلونه، ولا يمتعضون له ولا يذبّون دونه. وإنّ من الكلام ما هو كما هو شريف في جوهره كالذهب الإبريز الذي تختلف ¬

_ (¬1) أي: فالحسن دائما راجع إلى المعاني اه. (رشيد). قلت: ليس معنى ذلك انعدام المزية عن التحسين والتزيين بل عن اللفظ غير المطابق للمعنى فكأن التحسين اللفظي لما كان حسنه موقوفا على اتساقه مع المعنى، كان المرجع في الحسن إلى المعاني، ولكن دون انتقاص لحق اللفظ ومزيته فتأمل. (عبد الحميد).

عليه الصور وتتعاقب عليه الصناعات، وجلّ المعوّل في شرفه على ذاته، وإن كان التصوير قد يزيد في قيمته ويرفع من قدره، ومنه ما هو كالمصنوعات العجيبة من موادّ غير شريفة، فلها، ما دامت الصورة محفوظة عليها لم تنتقض، وأثر الصنعة باقيّا معها لم يبطل قيمة تغلو، ومنزلة تعلو، وللرغبة إليها انصباب، وللنفوس بها إعجاب، حتى إذا خانت الأيام فيها أصحابها، وضامت الحادثات أربابها، وفجعتهم فيها بما يسلب حسنها المكتسب بالصّنعة، وجمالها المستفاد من طريق العرض، فلم يبق إلا المادّة العارية من التصوير، والطّينة الخالية من التشكيل سقطت قيمتها، وانحطت رتبتها، وعادت الرّغبات التي كانت فيها زهدا، وأوسعتها عيون كانت تطمح إليها إعراضا دونها، وصدّا، وصارت كمن أحظاه الجدّ (¬1) بغير فضل كان يرجع إليه في نفسه، وقدّمه البخت من غير معنى يقضي بتقدّمه، ثم أفاق فيه الدهر عن رقدته، وتنبّه لغلطته، فأعاده إلى دقّة أصله، وقلّة فضله. وهذا غرض لا ينال على وجهه، وطلبة لا تدرك كما ينبغي، إلا بعد مقدّمات تقدّم، وأصول تمهّد، وأشياء هي كالأدوات فيه حقّها أن تجمع، وضروب من القول هي كالمسافات دونه، يجب أن يسار فيها بالفكر وتقطع. وأوّل ذلك وأولاه، وأحقّه بأن يستوفيه النظر ويتقصّاه، القول على «التشبيه» و «التمثيل» و «الاستعارة»، فإن هذه أصول كبيرة، كأنّ جلّ محاسن الكلام إن لم نقل: كلّها، متفرّعة عنها، وراجعة إليها، وكأنها أقطاب تدور عليها المعاني في متصرّفاتها، وأقطار تحيط بها من جهاتها، ولا يقنع طالب التحقيق أن يقتصر فيها على أمثلة تذكر، ونظائر تعدّ، نحو أن يقال: «الاستعارة» مثل قولهم «الفكرة فخّ العمل»، وقوله: [من الطويل] وعرّي أفراس الصّبا ورواحله (¬2) وقوله: «السفر ميزان القوم»، وقول الأعرابي: «كانوا إذا اصطفّوا سفرت بينهم ¬

_ (¬1) في تاج العروس: أحظيت فلانا على فلان: فضلته عليه (رشيد) والجد: بالفتح- الحظ والبخت. (¬2) البيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه، وصدره: صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله والبيت في مفتاح العلوم: 486، تحقيق د. عبد الحميد هنداوي، وأورده بدر الدين بن مالك في المصباح: 132، وعزاه إليه، والقزويني في الإيضاح: 446، والطيبي في التبيان: 1/ 302، وشرحه على مشكاة المصابيح: 1/ 118، والعلوي في الطراز: 1/ 233.

السهام، وإذا تصافحوا بالسيوف قفز الحمام»، و «التمثيل» كقوله: فإنك كاللّيل الّذي هو مدركي (¬1) ويؤتى بأمثلة إذا حقّق النّظر في الأشياء يجمعها الاسم الأعمّ، وينفرد كل منها بخاصّة، من لم يقف (¬2) عليها كان قصير الهمّة في طلب الحقائق، ضعيف المنّة في البحث عن الدقائق، قليل التّوق إلى معرفة اللطائف، يرضى بالجمل والظواهر، ويرى أن لا يطيل سفر الخاطر، ولعمري إنّ ذلك أروح للنفس، وأقلّ للشّغل، إلا أنّ من طلب الراحة ما يعقب تعبا، ومن اختيار ما تقلّ معه الكلفة ما يفضي إلى أشدّ الكلفة، وذلك أن الأمور التي تلتقي عند الجملة وتتباين لدى التفصيل، وتجتمع في جذم ثم يذهب بها التشعّب ويقسمها قبيلا بعد قبيل، إذا لم تعرف حقيقة الحال في تلاقيها حيث التقت، وافتراقها حيث افترقت، كان قياس من يحكم فيها، إذا توسّط الأمر قياس من أراد الحكم بين رجلين في شرفهما وكرم أصلهما وذهاب عرقهما في الفضل، ليعلم أيّهما أقعد في السؤدد، وأحقّ بالفخر، وأرسخ في أرومة المجد، وهو لا يعرف من نسبتهما أكثر من ولادة الأب الأعلى والجد الأكبر، لجواز أنّ يكون واحد منهما قرشيا أو تميميا، فيكون في العجز عن أن يبرم قضية في معناهما، ويبيّن فضلا أو نقصا في منتماهما في حكم من لا يعلم أكثر من أن كل واحد منهما آدميّ، ذكر، أو خلق مصوّر. واعلم أن الذي يوجبه ظاهر الأمر، وما يسبق إلى الفكر، أن يبدأ بجملة من القول في «الحقيقة» و «المجاز» ويتبع ذلك القول في «التشبيه» و «التمثيل»، ثم ينسّق ذكر «الاستعارة» عليهما، ويؤتى بها في أثرهما. وذلك أن «المجاز» أعمّ من «الاستعارة»، والواجب في قضايا المراتب أن يبدأ بالعامّ قبل الخاصّ، و «التشبيه» كالأصل في «الاستعارة»، وهي شبيه بالفرع له، أو صورة مقتضبة من صوره إلّا أنّ ¬

_ (¬1) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه وتمامه: «وإن خلت أن المنتأى عنك واسع» والبيت أورده القزويني في الإيضاح: 177، تحقيق د. عبد الحميد هنداوي، وأورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات: 166. وفي الكلام إشارة إلى تشبيه النعمان بالسيل في اندفاعه وقوته بعد تشبيهه بالليل تشبيها يلاحظ من وجهه الرهبة والخوف مع ضرورة اللحاق والإدراك، والبيت من إحدى الاعتذاريات التي نبغ فيها النابغة. (¬2) جملة «من لم يقف عليها» في محل خفض صفة «خاصة». (رشيد).

تعريف الاستعارة

هاهنا أمورا اقتضت أن تقع البداية بالاستعارة، وبيان صدر منها، والتنبيه على طريق الانقسام فيها، حتى إذا عرف بعض ما يكشف عن حالها، ويقف على سعة مجالها، عطف عنان الشرح إلى الفصلين الآخرين، فوفّيا حقوقها، وبيّن فروقهما، ثم ينصرف إلى استقصاء الكلام في «الاستعارة». تعريف الاستعارة اعلم أن «الاستعارة» في الجملة أن يكون للّفظ أصل في الوضع اللغوي معروف تدلّ الشواهد على أنه اختصّ به حين وضع، ثم يستعمله الشاعر أو غير الشاعر في غير ذلك الأصل، وينقله إليه نقلا غير لازم، فيكون هناك كالعارية. تقسيم الاستعارة ثم إنها تنقسم أوّلا قسمين: أحدهما: أن يكون لنقله فائدة. والثاني: أن لا يكون له فائدة، وأنا أبدأ بذكر غير المفيد، فإنه قصير الباع، قليل الاتساع، ثم أتكلم على المفيد الذي هو المقصود. وموضع هذا الذي لا يفيد نقله، حيث يكون اختصاص الاسم بما وضع له من طريق أريد به التوسّع في أوضاع اللغة، والتنوّق (¬1) في مراعاة دقائق في الفروق في المعاني المدلول عليها، كوضعهم للعضو الواحد أسامي كثيرة بحسب اختلاف أجناس الحيوان، نحو وضع «الشفة» للإنسان و «المشفر» للبعير و «الجحفلة» للفرس، وما شاكل ذلك من فروق ربما وجدت في غير لغة العرب وربما لم توجد، فإذا استعمل الشاعر شيئا منها في غير الجنس الذي وضع له، فقد استعاره منه ونقله عن أصله وجاز به موضعه، كقول العجّاج: [من الرجز] وفاحما، ومرسنا مسرّجا (¬2) يعني أنفا يبرق كالسّراج، و «المرسن» في الأصل للحيوان، لأنه الموضع الذي يقع عليه «الرسن» وقال آخر: يصف إبلا: [من الرجز] ¬

_ (¬1) التنوق: تنوّق في الأمر أي: تأنّق فيه، وبعضهم لا يقول: تنوّق والاسم منه: النيقة، وفي المثل: خرقاء ذات نيقة، يضرب للجاهل بالأمر، وهو مع جهله يدّعي المعرفة ويتأنق في الإرادة. ذكره أبو عبيد. ابن سيدة: تنوق في أموره: تجوّد وبالغ مثل تأنّق فيها. (¬2) في ديوانه، وقوله هذا معطوف على ما قبله، يذكر صاحبته ليلى. والفاحم: شعرها الأسود.

تسمع للماء كصوت المسحل … بين وريديها وبين الجحفل (¬1) وقال آخر: [من الرجز] والحشو من حفّانها كالحنظل (¬2) فأجرى «الحفّان» على صغار الإبل، وهو موضوع لصغار النعام، وقال الآخر: [من المتقارب] فبتنا جلوسا لدى مهرنا … ننزّع من شفتيه الصّفارا (¬3) فاستعمل «الشفة» في الفرس، وهي موضوعة للإنسان. فهذا ونحوه لا يفيدك شيئا، لو لزمت الأصليّ لم يحصل لك، فلا فرق من جهة المعنى بين قوله «من شفتيه» وقوله «من جحفلتيه» لو قاله، إنما يعطيك كلا الاسمين العضو المعلوم فحسب، بل الاستعارة هاهنا بأن تنقصك جزءا من الفائدة أشبه، وذلك أنّ الاسم في هذا النحو، إذا نفيت عن نفسك دخول الاشتراك عليه بالاستعارة، دلّ ذكره على العضو وما هو منه، فإذا قلت «الشفة» دلّ على الإنسان، أعني يدلّ على أنك قصدت هذا العضو من الإنسان دون غيره، فإذا توهمت جري الاستعارة في الاسم، زالت عنها هذه الدلالة بانقلاب اختصاصها إلى الاشتراك. فإذا قلت «الشفة» في موضع قد جرى فيه ذكر الإنسان والفرس، دخل على السامع بعض الشبهة، لتجويزه أن تكون استعرت الاسم للفرس، ولو فرضنا أن تعدم هذه الاستعارة من أصلها وتحظر، لما كان لهذه الشبهة طريق على المخاطب، فاعرفه. وأمّا «المفيد» فقد بان لك باستعارته فائدة ومعنى من المعاني وغرض من الأغراض، لولا مكان تلك الاستعارة لم يحصل لك. وجملة تلك الفائدة وذلك الغرض «التشبيه»، إلا أنّ طرقه تختلف حتى تفوت النهاية، ومذاهبه تتشعب حتى لا غاية، ولا يمكن الانفصال (¬4) منه إلا بفصول جمّة، وقسمة بعد قسمة. وأنا أرى أن ¬

_ (¬1) لأبي النجم العجلي في ديوانه، وفي الطرائف الأدبية للراجكوتي- رحمه الله- في لاميته المشهورة. والمسحل: حمار الوحش، سمّي باسم سحيله وهو صوت نهاقه. (¬2) الرجز من لامية أبي النجم في صفة الإبل أيضا، وحشو الإبل وحاشيتها صغارها. (¬3) البيت من شعر أبي دؤاد الإيادي يصف فرسا في ديوانه، وفي الأصمعيات رقم: 66، وفي المعاني الكبير لابن قتيبة. والصّفار: بفتح الصاد، وهو يبيس البهمى، وهو من أحرار البقول ترعاه الإبل، ويخرج لها إذا يبست شوك، إذا وقع في أنوف الإبل والخيل والغنم أنفت منه حتى ينزعه الناس من أفواهها وأنوفها. (¬4) وفي نسخة: الانتصاف، بدل الانفصال.

أقتصر الآن على إشارة تعرّف صورته على الجملة بقدر ما تراه، وقد قابل خلافه الذي هو «غير المفيد»، فيتمّ تصوّرك للغرض والمراد، فإن الأشياء تزداد بيانا بالأضداد. ومثاله قولنا: «رأيت أسدا»، وأنت تعني رجلا شجاعا، و «بحرا»، تريد رجلا جوادا و «بدرا» و «شمسا»، تريد إنسانا مضيء الوجه متهلّلا و «سللت سيفا على العدوّ» تريد رجلا ماضيا في نصرتك، أو رأيا نافذا وما شاكل ذلك، فقد استعرت اسم الأسد للرجل، ومعلوم أنك أفدت بهذه الاستعارة ما لولاها لم يحصل لك، وهو المبالغة في وصف المقصود بالشجاعة، وإيقاعك منه في نفس السامع صورة الأسد في بطشه وإقدامه وبأسه وشدّته، وسائر المعاني المركوزة في طبيعته، مما يعود إلى الجرأة. وهكذا أفدت باستعارة «البحر» سعته في الجود وفيض الكفّ، و «بالشمس والبدر» ما لهما من الجمال والبهاء والحسن المالئ للعيون الباهر للنواظر. وإذ قد عرفت المثال في كون الاستعارة مفيدة على الجملة، وتبيّن لك مخالفة هذا الضرب للضرب الأوّل الذي هو «غير المفيد»، فإني أذكر بقية قول مما يتعلق به، أعني بغير المفيد، ثم أعطف على أقسام المفيد وأنواعه، وما يتصل به ويدخل في جملته من فنون القول بتوفيق الله عز وجل. وأسأله عز اسمه المعونة، وأبرأ إليه من الحول والقوة، وأرغب إليه في أن يجعل كل ما نتصرّف فيه منصرفا إلى ما يتصل برضاه (¬1)، ومصروفا عمّا يؤدّي إلى سخطه. اعلم أنه إذا ثبت أن اختصاص «المرسن» بغير الآدمي لا يفيد أكثر مما يفيد الأنف في الآدمي وهو فصل هذا العضو من غيره ولم تكن باستعارته للآدميّ مفيدا ما لا تفيده بالأنف لم يتصوّر (¬2) أن يكون استعارة من جهة المعنى. وإذا كان مدار أمره على اللفظ لم يتصور أن يكون في غير لغة العرب. بلى، إن وجد في لغة الفرس مراعاة نحو هذه الفروق، ثم نقلوا الشيء من الجنس المخصوص به إلى جنس آخر، كانوا قد سلكوا في لغتهم مسلك العرب في لغتها. وليس كذلك «المفيد»، فإن الكثير منه تراه في عداد ما يشترك فيه أجيال الناس، ويجري به العرف في جميع اللغات. فقولك «رأيت أسدا»، تريد وصف رجل بالشجاعة وتشبيهه بالأسد على المبالغة، أمر يستوي فيه العربيّ والعجميّ، وتجده في كل جيل، وتسمعه من كل قبيل، كما أن قولنا «زيد كالأسد» على التصريح ¬

_ (¬1) وفي نسخة: إلى ما يرضاه. (¬2) قوله: «لم يتصور» جواب «إذا ثبت» (رشيد).

بالتشبيه كذلك. فلا يمكن أن يدّعى أنا إذا استعملنا هذا النحو من الاستعارة، فقد عمدنا إلى طريقة في المعقولات لا يعرفها غير العرب، أو لم تتفق لمن سواهم، لأن ذلك بمنزلة أن تقول: إن تركيب الكلام من الاسمين، أو من الفعل والاسم، يختصّ بلغة العرب، وإنّ الحقائق التي تذكر في أقسام الخبر ونحوه، مما لا نعقله إلّا من لغة العرب، وذلك مما لا يخفى فساده. فإذا ذكر المجاز، وأريد أن يعدّ هذا النحو من الاستعارة فيه، فالوجه أن يضاف إلى العقلاء جملة، ولا تستعمل لفظة توهم أنه من عرف هذه اللغة وطرقها الخاصة بها، كما تقول مثلا فيما يختصّ باللغة العربية من الأحكام، نحو الإعراب بالحركات، والصّرف ومنع الصّرف، ووضع المصدر مثلا مواضع اسم الفاعل نحو «رجل صوم» و «ضيف»، وجمع الاسم على ضروب، نحو جمع السلامة والتكسير وجمع الجمع، وإعطاء الاسم الواحد في التكسير عدّة أمثلة نحو «فرخ» و «أفرخ» و «فراخ» و «فروخ»، وكالفرق بين المذكّر والمؤنّث في الخطاب وجملة الضمائر وما شاكل ذلك. ولإغفال هذا الموضع والتجوّز في العبارة عنه، دخل الغلط على من جعل الشيء من هذا الباب سرقة وأخذا حتى نعي عليه. وبيّن أنه من المعاني العاميّة والأمور المشتركة التي لا فضل فيها للعربيّ على العجميّ، ولا اختصاص له بجيل دون جيل، على ما ترى القول فيه، إن شاء الله تعالى في موضعه. وهو تعالى وليّ المنّ بالتوفيق له بفضله وجوده. ولو أن مترجما ترجم قوله: [من المتقارب] وإلّا النّعام وحفّانه (¬1) ففسّر «الحفّان» باللفظ المشترك الذي هو كالأولاد والصغار، لأنه لا يجد في اللغة التي بها يترجم لفظا خاصّا، لكان مصيبا ومؤدّيا للكلام كما هو. ولو أنه ترجم قولنا: «رأيت أسدا»، تريد رجلا شجاعا، فذكر ما معناه معنى قولك: «شجاعا شديدا»، وترك أن يذكر الاسم الخاص في تلك اللغة بالأسد على هذه الصورة، لم يكن مترجما للكلام، بل كان مستأنفا من عند نفسه كلاما. وهذا باب من الاعتبار يحتاج إليه، فحقّه أن يحفظ، وعسى أن يجيء له زيادة بسط فيما يستقبل. ¬

_ (¬1) هو لأسامة بن أبي الصلت وتمامه: وطغيا من اللهق الناشط يعني ونبذا من البقر البيض التي تخرج من أرض إلى أرض.

فاعلم أنك قد تجد الشيء يخلط بالضّرب الأول الذي هو استعارة من طريق اللفظ ويعدّ في قبيله، وهو إذا حقّقت ناظر إلى الضرب الآخر الذي هو مستعار من جهة المعنى وجار في سبيله. فمن ذلك قولهم: «إنه لغليظ الجحافل، وغليظ المشافر»، وذلك أنه كلام يصدر عنهم في مواضع الذّمّ، فصار بمنزلة أن يقال: كأنّ شفته في الغلظ مشفر البعير وجحفلة الفرس، وعلى ذلك قول الفرزدق: [من الطويل] فلو كنت ضبّيّا عرفت قرابتي … ولكنّ زنجيّا غليظ المشافر (¬1) فهذا يتضمّن معنى قولك: «ولكن زنجيا كأنه جمل لا يعرفني ولا يهتدي لشرفي». وهكذا ينبغي أن يكون القول في قولهم: «أنشب فيه مخالبه»، لأنّ المعنى على أن يجعل له في التعلّق بالشيء والاستيلاء عليه، حالة كحالة الأسد مع فريسته، والبازي مع صيده. وكذا قول الحطيئة: [من الطويل] قروا جارك العيمان لمّا جفوته … وقلّص عن برد الشّراب مشافره (¬2) حقّه، إذا حقّقت، أن يكون في القبيل المعنويّ، وذلك أنه وإن كان عنى نفسه بالجار، فقد يجوز أن يقصد إلى وصف نفسه بنوع من سوء الحال، ويعطيها صفة من صفات النقص، ليزيد بذلك في التهكم بالزّبرقان، ويؤكّد ما قصده من رميه بإضاعة الضيف واطراحه وإسلامه للضرّ والبؤس، وليس ببعيد من هذه الطريقة من ابتدأ شعرا في ذمّ نفسه، ولم يرض في وصف وجهه بالتقبيح والتشويه إلا بالتصريح الصريح دون الإشارة والتنبيه: وأما قول مزرّد: [من الطويل] فما رقد الولدان حتى رأيته … على البكر يمريه بساق وحافر (¬3) ¬

_ (¬1) البيت للفرزدق. وهكذا يدور في كتب البلاغة والنحو وصوابه: «غليظا مشافره». وهو أول تسعة أبيات في هجاء أيوب بن عيسى الضبي لما حبسه. (¬2) البيت في ديوانه. العيمان: المشتهي للبن، عام الرجل إلى اللبن يعام ويعيم عيما وعيمة: اشتهاه. (¬3) البيت ليس لمزرد بن ضرار، بل هو لجبيها الأشجعي (واسمه يزيد بن خيثمة بن عبيد)، نشأ وتوفي في أيام بني أمية، وإن كان الأصمعي نسب البيت لمزرد بن ضرار. ومعنى يمريه: المري: مسح ضرع الناقة لتدرّ، مرى الناقة مريا. والاسم: المرية، وأمرت هي درّ لبنها. الكسائي: المريّ: الناقة التي تدرّ على من يمسح ضروعها، وقيل: هي الناقة الكثيرة اللبن، وقد أمرت، وجمعها مرايا. ابن الأنباريّ: في قولهم مارى فلان فلانا، معناه قد استخرج ما عنده من الكلام والحجّة، مأخوذ من قولهم: مريت الناقة إذا مسحت ضرعها لتدرّ. [لسان العرب- مادة: مرا].

فقد قالوا إنه أراد أن يقول: «بساق وقدم»، فلما لم تطاوعه القافية وضع الحافر موضع القدم. وهو وإن كان قد قال بعد هذا البيت ما يدلّ على قصده أن يحسن القول في الضيف، ويباعده من أن يكون قصد الزراية عليه، أو يحول حول الهزء به والاحتقار له، وذلك قوله: فقلت له أهلا وسهلا ومرحبا … بهذا المحيّا من محيّ وزائر فليس بالبعيد أن يكون فيه شوب مما مضى، وأن يكون الذي أفضى به إلى ذكر الحافر، قصده أن يصفه بسوء الحال في مسيره، وتقاذف نواحي الأرض به، وأن يبالغ في ذكره بشدّة الحرص على تحريك بكره، واستفراغ مجهوده في سيره، ويؤنس بذلك أن تنظر إلى قوله قبل: وأشعث مسترخي العلابي طوّحت … به الأرض من باد عريض وحاضر فأبصر ناري وهي شقراء أوقدت … بعلياء نشز للعيون النّواظر (¬1) وبعده «فما رقد الولدان»، فإذا جعله «أشعث مسترخي العلابيّ»، فقد قربت المسافة بينه وبين أن يجعل قدمه حافرا، ليعطيه، من الصلابة وشدة الوقع على جنب البكر حظّا وافرا. وهكذا قول الآخر: [من الطويل] سأمنعها أو سوف أجعل أمرها … إلى ملك أظلافه لم تشقّق (¬2) هو في حد التشبيه والاستعارة، لأن المعنى على أن الأظلاف لمن يربأ بالملك عن مشابهته، كأنه قال: «أجعل أمرها إلى ملك، لا إلى عبد جاف متشقق الأظلاف». ويدلّ على ذلك أن أبا بكر بن دريد قال في أول الباب الذي وضعه للاستعارة: «يقولون للرجل إذا عابوه: جاءنا حافيا متشقّق الأظلاف» ثم أنشد البيت. فإذا كان من شرط هذه الاستعارة أن يؤتى بها في موضع العيب والنقص، فلا شك في أنها معنوية. ¬

_ (¬1) العلابي: جمع علباء: ممدود بالكسر، وهو عصب العنق، قال الأزهري: الغليظ خاصة، قال ابن سيدة: وهو العقب، وقال اللحياني: العلباء مذكر لا غير له. وهما علباوان، يمينا وشمالا بينهما منبت العنق. [لسان العرب- مادة: علب]. (¬2) البيت لعقفان بن قيس بن عاصم بن عبيد اليربوعي، جاهلي ويعني بالملك: النعمان بن المنذر.

وكذا قوله: [من المنسرح] وذات هدم عار نواشرها … تصمت بالماء تولبا جدعا (¬1) فأجرى «التولب» على ولد المرأة، وهو لولد الحمار في الأصل، وذلك لأنه يصف حال ضرّ وبؤس، ويذكر امرأة بائسة فقيرة، والعادة في مثل ذلك الصفة بأوصاف البهائم، ليكون أبلغ في سوء الحال وشدّة الاختلال. ومثله سواء قول الآخر: [من مجزوء الكامل] وذكرت أهلي بالعرا … ء وحاجة الشعث التّوالب (¬2) كأنه قال: «الشعث التي لو رأيتها حسبتها توالب»، لما بها من الغبرة وبذاذة الهيئة (¬3). و «الجدع» في البيت بالدال غير معجمة. حكى شيخنا رحمه الله قال: أنشد المفضّل «تصمت بالماء تولبا جذعا» بالذال المعجمة، فأنكره الأصمعي وقال: إنما هو «تصمت بالماء تولبا جدعا» وهو السيّئ الغذاء. قال: فجعل المفضّل يصيح، فقال الأصمعي: لو نفخت في الشّبّور (¬4) ما نفعك، تكلّم بكلام الحكل (¬5) وأصب!. ¬

_ (¬1) البيت لأوس بن حجر في مرثية فضالة بن كلدة الأسدي وهو معطوف على الذي قبله: ليبكك الشرب والمدامة … والفتيان طرّا وطامع طمعا والهدم بالكسر: الثوب الخلق المرقّع، وقيل: هو الكساء الذي ضوعفت رقاعه، وخصّ ابن الأعرابي به الكساء البالي من الصوف دون الثوب، والجمع: أهدام وهدم (الأخيرة عن أبي حنيفة وهي نادرة). [لسان العرب- مادة: هدم]. والنواشر: عصب الذراع من داخل وخارج أو عروق وعصب باطن الذراع أو العصب في ظاهرها، واحدتها ناشرة. [القاموس المحيط]. الجدع: جدع الغلام يجدع جدعا، فهو جدع: ساء غذاؤه. [لسان العرب- مادة: جدع]. (¬2) البيت للأعلم الهذلي في شرح أشعار الهذليين. والعراء: ما اتسع من فضاء الأرض، وقال ابن سيدة: هو المكان الفضاء لا يستتر فيه شيء، وقيل: هي الأرض الواسعة، وفي التنزيل: «فنبذناه بالعراء وهو مليم» وجمعه أعراء، وقال أبو عبيدة: إنما قيل له: عراء لأنه لا شجر فيه ولا شيء يغطيه، وقيل: إن العراء وجه الأرض الخالي. [لسان العرب- مادة: عرا]. (¬3) بذاذة الهيئة: رثاثتها، وفي الحديث: «البذاذة من الإيمان» صحيح الجامع للألباني. (¬4) الشّبّور: شيء ينفخ فيه، وليس بعربي صحيح، والشّبّور على وزن تنور: البوق، ويقال: هو معرب. وفي حديث الأذان ذكر له الشبور، قال ابن الأثير: جاء في تفسيره أنه البوق، وفسروه أيضا بالقبع، واللقطة عبرانية. [لسان العرب- مادة: شبر]. (¬5) الحكل: الحكلة كالعجمة لا يبين صاحبها الكلام. والحكلة والحكيلة: اللثغة، ابن الأعرابي في لسانه حكلة أي: عجمة لا يبين الكلام، والحكل: العجم من الطيور البهائم. قال ابن سيدة: والحكل من الحيوان ما لا يسمع له صوت كالذّرّ والنمل، وكلام الحكل: كلام لا يفهم. [لسان العرب- مادة: حكل].

وأما قول الأعرابي: «كيف الطلا وأمّه؟» فمن جنس «المفيد» أيضا، لأنه أشار إلى شيء من تشبيه المولود بولد الظبي، ألا تراه قال ذاك بعد أن انصرف عن السخط إلى الرضى، وبعد أن سكن عنه فورة الجوع الذي دعاه إلى أن قال: «ما أصنع به؟ آكله أم أشربه» حتى قالت المرأة «غرثان فاربكوا له» (¬1). وأمّا قوله: [من البسيط] إذا أشرف الدّيك يدعو بعض أسرته … عند الصّباح، وهم قوم معازيل (¬2) فاستعارة «القوم» هاهنا، وإن كانت في الظاهر لا تفيد أكثر من معنى الجمع، فإنها مفيدة من حيث أراد أن يعطيها شبها مما يعقل. على أن هذا إذا حقّقنا في غير ما نحن فيه وبصدده في هذا الفصل، وذلك أنه لم يجتلب الاسم المخصوص بالآدميين حتى قدّم تنزيلها منزلتهم فقال: «هم»، فأتى بضمير من يعقل. وإذا كان الأمر كذلك، كان «القوم» جاريا مجرى الحقيقة. ونظيره أنك تقول: «أين الأسود الضّارية»؟ وأنت تعني قوما من الشجعان، فيلزم في الصفة حكم ما لا يعقل، فتقول: «الضارية»، ولا تقول «الضارون» البتة، لأنك وضعت كلامك على أنك كأنك تحدّث عن الأسود في الحقيقة. وعلى هذه الطريقة ينبغي أن يجرى بيت المتنبي: [من الكامل] زحل، على أنّ الكواكب قومه … لو كان منك لكان أكرم معشرا (¬3) ¬

_ (¬1) أصل المثل. أن ابن لسان الحمرة دخل على أهله وهو جائع عطشان فبشروه بمولود وأتوه به، فقال ما أدري أآكله أم أشربه؟ فقالت امرأته (غرثان فاربكوا له) من الربيكة وهو شيء من حساء وأقط وفي رواية (فابكلوا له) من البكيلة وهي أقط يلت بسمن فلما طعم وشرب قال: (كيف الطلا وأمه) فأرسلها مثلا يضرب لمن ذهب همه وتفرغ لغيره وضبط شيخنا «الحمرة» (بضم الحاء وتشديد الميم المفتوحة) قال واسمه عبد الله بن حسنين أو ورقاء بن الأشعر. (رشيد). (¬2) البيت لعبدة بن الطبيب حين كان في جيش النعمان بن مقرّن وهو يحارب الفرس. وقبله: وقد غدوت وقرن الشمس منفتق … ودونه من سواد الليل تجليل المعازيل: الذين لا سلاح معهم. جمع معزال. [لسان العرب- مادة: عزل]. والمعزال: الذي ينزل ناحية من السّفر ينزل وحده، وهو ذم عند العرب بهذا المعنى، والمعزال: الراعي المنفرد، قال الأعشى: تخرج الشيخ عن بنيه وتلوي … بلبون المعزابة المعزال وهذا المعنى ليس بذم عندهم لأن هذا من فعل الشجعان وذوي البأس والنجدة من الرجال. (¬3) البيت في ديوانه. والمعني: إن زحل شيخ النجوم ولو كان من عشيرتك لكان أكرم معشرا منه الآن، والنجوم قومه، وذلك أن قومك أشرف من النجوم فلو كان من قومك كان أشرف مما هو فيه مع أن معشره النجوم. التبيان: 1/ 383.

القول في الاستعارة المفيدة

وإن لم يكن معنا اسم آخر سابق حكم ما يعقل للكواكب، كالضمير في قوله «وهم قوم»، وذلك أنّ ما يفصح به الحال من قصده أن يدّعي للكواكب هذه المنزلة يجري مجرى التصريح بذلك. ألا ترى أنه لا يتّضح وجه المدح فيه إلا بدعوى أحوال الآدميين ومعارفهم للكواكب، لأنه يفاضل بينه وبينها في الأوصاف العقلية بدلالة قوله: «لكان أكرم معشرا»، ولن يتحصّل ثبوت وصف شريف معقول لها ولا الكرم على الوجه الذي يتعارف في الناس حتى تجعل كأنها تعقل وتميز، ولو كانت المفاضلة في النور والبهاء وعلوّ المحلّ وما شاكل ذلك، لكان لا يلزم حينئذ ما ذكرت. وحقّ القول في هذا القبيل أعني ما يدّعى فيه لما لا يعقل العقل فصل يفرد به، ولعله يجيء في موضعه بمشيئة الله وتوفيقه. القول في الاستعارة المفيدة اعلم أنّ الاستعارة في الحقيقة هي هذا الضرب دون الأول، وهي أمدّ ميدانا، وأشدّ افتنانا، وأكثر جريانا، وأعجب حسنا وإحسانا، وأوسع سعة وأبعد غورا، وأذهب نجدا في الصّناعة وغورا، من أن تجمع شعبها وشعوبها، وتحصر فنونها وضروبها، نعم، وأسحر سحرا، وأملأ بكل ما يملأ صدرا، ويمتع عقلا، ويؤنس نفسا، ويوفر أنسا، وأهدى إلى أن تهدي إليك أبدا عذارى قد تخيّر لها الجمال، وعني بها الكمال وأن تخرج لك من بحرها جواهر إن باهتها الجواهر مدّت في الشرف والفضيلة باعا لا يقصر، وأبدت من الأوصاف الجليلة محاسن لا تنكر، وردّت تلك بصفرة الخجل، ووكلتها إلى نسبتها من الحجر وأن تثير من معدنها تبرأ لم تر مثله، ثم تصوغ فيها صياغات تعطّل الحليّ، وتريك الحلي الحقيقي وأن تأتيك على الجملة بعقائل (¬1) يأنس إليها الدين والدنيا، وشرائف (¬2) لها من الشرف الرّتبة العليا، وهي أجلّ من أن تأتي الصفة على حقيقة حالها، وتستوفي جملة جمالها. ومن الفضيلة الجامعة فيها أنها تبرز هذا البيان أبدا في صورة مستجدّة تزيد قدره نبلا، وتوجب له بعد الفضل فضلا، وإنّك لتجد اللفظة الواحدة قد اكتسبت بها فوائد حتى تراها مكرّرة في مواضع، ولها في كل واحد من تلك المواضع شأن مفرد، وشرف منفرد، وفضيلة مرموقة، وخلابة موموقة. ¬

_ (¬1) هو جمع عقيلة كسفينة، وهي من النساء الكريمة المخدرة، ومن القوم سيدهم، ومن كل شيء أكرمه. وعقيلة البحر: درته. (¬2) وفي نسخة: وفضائل بدل وشرائف.

فصل

ومن خصائصها التي تذكر بها، وهي عنوان مناقبها، أنّها تعطيك الكثير من المعاني باليسير من اللفظ، حتى تخرج من الصدفة الواحدة عدّة من الدّرر، وتجني من الغصن الواحد أنواعا من الثّمر. وإذا تأمّلت أقسام الصّنعة التي بها يكون الكلام في حدّ البلاغة، ومعها يستحق وصف البراعة، وجدتها تفتقر إلى أن تعيرها حلاها، وتقصر عن أن تنازعها مداها وصادفتها نجوما هي بدرها، وروضا هي زهرها، وعرائس ما لم تعرها حليها فهي عواطل، وكواعب ما لم تحسّنها فليس لها في الحسن حظّ كامل. فإنك لترى بها الجماد حيّا ناطقا، والأعجم فصيحا، والأجسام الخرس مبينة، والمعاني الخفيّة بادية جليّة، وإذا نظرت في أمر المقاييس وجدتها ولا ناصر لها أعزّ منها، ولا رونق لها ما لم تزنها، وتجد التشبيهات على الجملة غير معجبة ما لم تكنها. إن شئت أرتك المعاني اللطيفة التي هي من خبايا العقل، كأنها قد جسّمت حتى رأتها العيون، وإن شئت لطّفت الأوصاف الجسمانية حتى تعود روحانية لا تنالها إلّا الظنون. وهذه إشارات وتلويحات في بدائعها، وإنما ينجلي الغرض منها ويبين، إذا تكلّم على هذه التفاصيل، وأفرد كلّ فن بالتمثيل، وسترى ذلك إن شاء الله، وإليه الرغبة في أن توفّق للبلوغ إليه والتوفّر عليه. وإذ قد عرّفتك أن لها هذا المجال الفسيح، والشّأو البعيد، فإني أضع لك فصلا، بعد فصل، وأجتهد بقدر الطاقة في الكشف والبحث. فصل وهذا فصل قسّمتها فيه قسمة عامية. ومعنى «العامية»، أنك لا تجد في هذه الاستعارة قسمة إلا أخصّ من هذه القسمة، وأنها قسيمة الاستعارة من حيث المعقول المتعارف في طبقات الناس وأصناف اللغات، وما تجد وتسمع أبدا نظيره من عوامّ الناس كما تسمع من خواصهم. اعلم أن كل لفظة دخلتها الاستعارة المفيدة، فإنها لا تخلو من أن تكون اسما أو فعلا، فإذا كانت اسما فإنه يقع مستعارا على قسمين: أحدهما: أن تنقله عن مسمّاه الأصلي إلى شيء آخر ثابت معلوم فتجريه عليه، وتجعله متناولا له تناول الصفة مثلا للموصوف، وذلك قولك «رأيت أسدا» وأنت تعني «رجلا شجاعا» و «عنّت لنا ظبية» وأنت تعني امرأة و «أبديت نورا» وأنت

تعني هدى وبيانا وحجّة وما شاكل ذلك، فالاسم في هذا كله كما تراه متناول «شيئا معلوما» يمكن أن ينصّ عليه فيقال: إنه عني بالاسم وكني به عنه ونقل عن مسمّاه الأصلي فجعل اسما له على سبيل الإعارة والمبالغة في التشبيه. والثاني: أن يؤخذ الاسم على حقيقته، ويوضع موضعا لا يبين فيه شيء يشار إليه فيقال: هذا هو المراد بالاسم والذي استعير له، وجعل خليفة لاسمه الأصلي ونائبا منابه، ومثاله قول لبيد: [من الكامل] وغداة ريح قد كشفت وقرّة … إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها (¬1) وذلك أنه جعل للشمال يدا، ومعلوم أنه ليس هناك مشار إليه يمكن أن تجرى اليد عليه، كإجراء «الأسد» و «السيف» على الرجل في قولك «انبرى لي أسد يزئر» و «سللت سيفا على العدوّ لا يفلّ»، و «الظباء» على «النساء» في قوله: الظباء الغيد و «النور» على الهدى والبيان في قولك «أبديت نورا ساطعا» وكإجراء «اليد نفسها على من يعزّ مكانه كقولك «أتناز عني في يد بها أبطش، وعين بها أبصر» تريد إنسانا له حكم اليد وفعلها، وغناؤها ودفعها، وخاصّة «العين» وفائدتها، وعزّة موقعها، ولطف موضعها لأنّ معك في هذا كله ذاتا ينصّ عليها، ترى مكانها في النفس، إذا لم تجد ذكرها في اللفظ. وليس لك شيء من ذلك في بيت لبيد، بل ليس أكثر من أن تخيّل إلى نفسك أن «الشّمال» في تصريف «الغداة» على حكم طبيعتها، كالمدبّر المصرّف لما زمامه بيده، ومقادته في كفّه، وذلك كلّه لا يتعدّى التخيّل والوهم والتقدير في النفس، من غير أن يكون هناك شيء يحسّ، وذات تتحصّل. ولا سبيل لك أن تقول: كنى باليد عن كذا، وأراد باليد هذا الشيء، أو جعل الشيء الفلانيّ «يدا» كما تقول: «كنى بالأسد عن زيد، وعنى به زيدا، وجعل زيدا أسدا»، وإنما غايتك التي لا مطّلع وراءها أن تقول: «أراد أن يثبت للشمال في الغداة تصرّفا كتصرّف الإنسان في الشيء يقلّبه، فاستعار لها «اليد» حتى يبالغ في تحقيق الشبه، وحكم «الزمام» في ¬

_ (¬1) البيت من معلقته الشهيرة. وقوله: وغداة ريح إلخ: هذه رواية الخطيب. وروي إذا أصبحت موضع قد أصبحت. وروى محمد بن خطاب: وغداه ريح قد كشفت وقرة إذ أصبحت إلخ. شرح المعلقات العشر للشنقيطي ص 93.

استعارته للغداة حكم «اليد» في استعارتها للشمال، إذ ليس هناك مشار إليه يكون الزمام كناية عنه، ولكنه وفّى المبالغة شرطها من الطرفين، فجعل على «الغداة» «زماما»، ليكون أتمّ في إثباتها مصرّفة، كما جعل للشمال «يدا»، ليكون أبلغ في تصييرها مصرّفة. ويفصل بين القسمين أنك إذا رجعت في القسم الأول إلى التشبيه الذي هو المغزى من كل استعارة تفيد، وجدته يأتيك عفوا، كقولك في «رأيت أسدا» «رأيت رجلا كالأسد» أو «رأيت مثل الأسد» أو «شبيها بالأسد» وإن رمته في القسم الثاني وجدته لا يؤاتيك تلك المؤاتاة، إذ لا وجه لأن تقول: «إذا أصبح شيء مثل اليد للشمال» أو «حصل شبيه باليد للشّمال»، وإنما يتراءى لك التشبيه بعد أن تخرق إليه سترا، وتعمل تأمّلا وفكرا، وبعد أن تغيّر الطريقة، وتخرج على الحد الأول (¬1)، كقولك: «إذ أصبحت الشّمال ولها في قوة تأثيرها في الغداة شبه المالك تصريف الشيء بيده، وإجراءه على موافقته، وجذبه نحو الجهة التي تقتضيها طبيعته، وتنحوها إرادته»، فأنت كما ترى تجد الشّبه المنتزع هاهنا إذا رجعت إلى الحقيقة، ووضعت الاسم المستعار في موضعه الأصلي لا يلقاك من المستعار نفسه، بل مما يضاف إليه. ألا ترى أنك لم ترد أن تجعل الشّمال كاليد ومشبهة باليد، كما جعلت الرجل كالأسد ومشبّها بالأسد، ولكنك أردت أن تجعل «الشمال» كذي اليد من الأحياء، فأنت تجعل في هذا الضرب المستعار له وهو نحو «الشمال» ذا شيء، وغرضك أن تثبت له حكم من يكون له ذلك الشيء في فعل أو غيره، لا نفس ذلك الشيء، فاعرفه. وهكذا قول زهير: [من الطويل] وعرّي أفراس الصّبا ورواحله (¬2) لا تستطيع أن تثبت ذواتا أو شبه الذوات تتناولها الأفراس والرّواحل في البيت، ¬

_ (¬1) وفي نسخة: الحذو الأول. (¬2) البيت وصدره: «صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله» صحا: انكشف عنه ما كان من سكر الباطل. وأقصر: كفّ. وتقول: قد أقصرت عن ذلك، أي: كففت. وعرّي أفراس، مثل ضربه أي: تركت الصبا فلا أركبه ولا آتيه. وصبا: مال إلى الشيء وكل مائل صاب. وهذا البيت مطلع قصيدة لزهير بن أبي سلمى يمدح فيها حصن بن حذيفة بن بدر.

على حدّ تناول الأسد الرجل الموصوف بالشجاعة، والبدر الموصوف بالحسن أو البهاء، والسحاب المذكور بالسخاء والسماحة، والنور العلم، والهدى والبيان، وليس إلّا أنك أردت أن الصّبا قد ترك وأهمل، وفقد نزاع النفس إليه وبطل، فصار كالأمر ينصرف عنه فتعطّل آلاته، وتطرح أداته كالجهة من جهات المسير نحو الحج أو الغزو أو التجارة يقضى منها الوطر، فتحطّ عن الخيل التي كانت تركب إليها لبودها، وتلقى عن الإبل التي كانت تحمّل لها قتودها (¬1). وقد يجيء وإن كان كالتكلّف أن تقول إن «الأفراس» عبارة عن دواعي النفوس وشهواتها، وقواها في لذّاتها، أو الأسباب التي تفتل في حبل الصبا، وتنصر جانب الهوى، وتلهب أريحيّة النشاط، وتحرّك مرح الشّباب، كما قال: [من الوافر] ونعم مطيّة الجهل الشباب وقال: [من الكامل] كان الشباب مطيّة الجهل وليس من حقّك أن تتكلّف هذا في كل موضع، فإنه ربّما خرج بك إلى ما يضرّ المعنى وينبو عنه طبع الشعر، وقد يتعاطاه من يخالطه شيء من طباع التعمّق، فتجد ما يفسد أكثر مما يصلح. ولو أنك تطلبت «للمطية» في بيت الفرزدق: [من الطويل] لعمري لئن قيّدت نفسي لطالما … سعيت وأوضعت المطيّة في الجهل (¬2) مثل هذا التأوّل، تباعدت عن الصواب، وعدلت عما يسبق إلى القلب، وذلك أن المعنى على قولك: «لطالما سعيت في الباطل، وقديما كنت في الإسراع إلى الجهل بصورة من يوضع المطيّة في سفره». ¬

_ (¬1) جمع قتد بالتحريك وبالكسر: خشب الرحل. (¬2) البيت من قصيدة للفرزدق قالها في جرير عند ما بلغ نساء بني مجاشع فحش جرير بهن فأتين الفرزدق مقيدا فقلن: قبح الله قيدك، فقد هتك جرير عورات نسائك فلحيت شاعر قوم! فأحفظنه ففض قيده، وقد قيد نفسه قبل ذلك وحلف أن لا يطلق قيده حتى يجمع القرآن فقال: ألا استهزأت مني هنيدة أن رأت … أسيرا يداني خطوه حلق الحجل ولو علمت أن الوثائق أشدّه … إلى النار قالت لي مقالة ذي عقل لعمري لئن قيدت .......... … ................ ........ ديوان الفرزدق: ص 152.

وسرّ هذا الموضع يتجلّى تمام التجلّي إذا تكلّم على الفرق بين التشبيه والتمثيل، وسيأتيك ذلك إن شاء الله تعالى. وكذا قولهم: «هو مرخى العنان، وملقى الزّمام»، لا وجه لأن تروم شيئا تجري العنان عليه ويتناوله، بل المعنى على انتزاع الشبه من الفرس في حال ما يرخى عنانه، وأن ينظر إلى الصورة التي توجد من حاله تلك في العقل، ثم يجاء بها فيعارها الرجل، ويتصوّر بمقتضاها في النفس ويتمثّل، ولو قلت: إن «العنان» هاهنا بمعنى النهي، وأن المراد أن النهي قد أبعد عنه ونحو ذلك، دخلت في ظاهر من التكلّف، وأتعبت نفسك في غير جدوى، وعادت زيادتك نقصانا، وطلبك الإحسان إساءة. واعلم أن إغفال هذا الأصل الذي عرّفتك من أن الاستعارة تكون على هذا الوجه الثاني كما تكون على الأوّل مما يعدو إلى مثل هذا التعمّق، فإنه نفسه قد يصير سببا إلى أن يقع قوم في التشبيه، وذلك أنهم إذا وضعوا في أنفسهم أن كل اسم يستعار فلا بد من أن يكون هناك شيء يمكن الإشارة إليه يتناوله في حال المجاز، كما يتناول مسمّاه في حال الحقيقة، ثم نظروا في نحو قوله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه: 39] ووَ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا [هود: 37]، فلما لم يجدوا للفظة «العين» ما يتناوله على حدّ تناول «النّور» مثلا للهدى والبيان ارتبكوا في الشكّ وحاموا حول الظاهر، وحملوا أنفسهم على لزومه، حتى يفضي بهم إلى الضلال البعيد، وارتكاب ما يقدح في التوحيد، ونعوذ بالله من الخذلان. وطريقة أخرى، في بيان الفرق بين القسمين، وهو أن الشبه في القسم الأول الذي هو نحو «رأيت أسدا» تريد رجلا شجاعا، وصف موجود في الشيء الذي له استعرت، واليد ليست توصف لشبه، ولكنه صفته تكسبها اليد صاحبها، وتحصل له بها، وهي التصرف على وجه مخصوص وكذا قولك «أفراس الصّبا»، ليس الشبه الذي له استعرت الأفراس موجودا في الأفراس، بل هو شبه يحصل لما يضاف إليه الأفراس، حيث يراد الحقيقة نحو قولنا: «عرّي أفراس الغزو»، و «أجمّت خيل الجهاد»، وذلك ما يوجبه الفعل الواقع على الأفراس، نحو أنّ وقوع الفعل الذي هو «عرّي» على أفراس الغزو، يوجب الإمساك عن الغزو والترك له وعلى هذا القياس. وإذ قد تقرر أمر الاسم في كون استعارته على هذين القسمين، فمن حقّنا أن ننظر في «الفعل» هل يحتمل هذا الانقسام. والذي يجب العمل عليه أن الفعل لا يتصوّر فيه أن يتناول ذات شيء، كما يتصور في الاسم، ولكن شأن الفعل أن يثبت

المعنى الذي اشتقّ منه للشيء في الزمان الذي تدل صيغته عليه. فإذا قلت: «ضرب زيد»، أثبتّ الضرب لزيد في زمان ماض، وإذا كان كذلك، فإذا استعير الفعل لما ليس له في الأصل، فإنه يثبت باستعارته له وصفا هو شبيه بالمعنى الذي ذلك الفعل مشتق منه. بيان ذلك أن تقول: «نطقت الحال بكذا»، و «أخبرتني أسارير وجهه بما في ضميره»، و «كلّمتني عيناه بما يحوي قلبه»، فتجد الحال وصفا هو شبيه بالنطق من الإنسان، وذلك أن «الحال» تدلّ على الأمر ويكون فيها أمارات يعرف بها الشيء، كما أن النطق كذلك. وكذلك «العين» فيها وصف شبيه بالكلام، وهو دلالتها بالعلامات التي تظهر فيها وفي نظرها وخواصّ أوصاف يحدس بها على ما في القلوب من الإنكار والقبول. ألا ترى إلى حديث الجمحي؟ حكي عن بعضهم أنه قال: أتيت الجمحي أستشيره في امرأة أردت التزوج بها فقال: أقصيرة هي أم غير قصيرة؟ قال: فلم أفهم ذلك. فقال لي: كأنك لم تفهم ما قلت، إنّي لأعرف في عين الرّجل إذا عرف، وأعرف فيها إذا أنكر، وأعرف إذا لم يعرف ولم ينكر، أمّا إذا عرف، فإنها تخاوص، وإذا لم يعرف ولم ينكر فإنها تسجو، وإذا أنكر فإنها تجحظ (¬1). أردت بقولي «قصيرة»، أي هي قصيرة النسب تعرف بأبيها أو جدّها. قال الشيخ أبو الحسن: وهذا من قول النسّابة البكري لرؤبة بن العجاج لما أتاه، فقال لرؤبة: قصرت وعرفت. قال: وعلى هذا المعنى قول رؤبة: [من الرجز] قد رفع العجّاج ذكري، فادعني … باسم إذا الأنساب طالت يكفني (¬2) وأمر «العين» أظهر من أن تحتاج فيه إلى دليل، ولكن إذا جرى الشيء في الكلام هو دعوى في الجملة، كان الآنس للقارئ أن يقترن به ما هو شاهد فيه، فلم ير شيء أحسن من إيصال دعوى ببرهان. ¬

_ (¬1) تخاوص: أصله تتخاوص مضارع من تخاوص إذا غض من بصره قليلا مع تحديق كمن يقوم سهما، وتسجو: تسكن، تجحظ: من جحظت العين إذا عظمت مقلتها ونتأت وجاء «جحظ إليه» بالتشديد: أي حدد النظر. (¬2) البيت لرؤبة بن العجاج. وهو الراجز المعروف، وقد اختلف في معنى اسمه واتهم بأنه لا يعرف معنى اسمه وذلك أمر بعيد الاحتمال.

وإذا كان أمر الفعل في الاستعارة على هذه الجملة، رجع بنا التحقيق إلى أنّ وصف الفعل بأنه مستعار، حكم يرجع إلى مصدره الذي اشتقّ منه، فإذا قلنا في قولهم: «نطقت الحال»، أن «نطق» مستعار، فالحكم بمعنى أن «النّطق» مستعار، وإذا كانت الاستعارة تنصرف إلى المصدر كان الكلام فيه على ما مضى. ومما تجب مراعاته أن الفعل يكون استعارة مرّة من جهة فاعله الذي رفع به، ومثاله ما مضى ويكون أخرى استعارة من جهة مفعوله، وذلك نحو قول ابن المعتزّ: [من المديد] جمع الحقّ لنا في إمام … قتل البخل وأحيى السّماحا (¬1) «فقتل» و «أحيى» إنّما صارا مستعارين بأن عدّيا إلى البخل والسماح، ولو قال: «قتل الأعداء وأحيى»، لم يكن «قتل» استعارة بوجه، ولم يكن «أحيى» استعارة على هذا الوجه وكذا قوله: [من الطويل] وأقري الهموم الطارقات حزامة (¬2) هو استعارة من جهة المفعولين جميعا. فأما من جهة الفاعل فهو محتمل للحقيقة، وذلك أن تقول: «أقري الأضياف النازلين اللحم العبيط (¬3)» ومثله قوله: [من الطويل] قرى الهمّ إذ ضاف الزّماع (¬4) وقد يكون الذي يعطيه حكم الاستعارة أحد المفعولين دون الآخر كقوله: [من البسيط] ¬

_ (¬1) البيت من ديوانه: ص 141. وابن المعتز هو عبد الله بن المعتز، الخليفة العباسي، ولد في بغداد ونشأ فيها بعيدا عن البلاط ودسائسه، مات سنة 296 هـ. (¬2) الشطر من البيت للذهلول بن كعب العنبري، وتمام هذا البيت كما في شرح الحماسة: 2/ 116. إذا كثرت لطارقات الوساوس أقرى: من قرى للضيف قرى وقراء: أضافه، واستقراني واقتراني وأقراني: طلب مني القرى. وإنه لقريّ للضيف والأنثى قريّة. لسان العرب- مادة: قرا. (¬3) العبيط: الطري. (¬4) تمام البيت: قرى الهم إذ ضاف الزماع فأصبحت … منازله تعتس فيها الثعالب شرح الحماسة 2/ 100 للقتال الكلابي.

فصل

نقريهم لهذميّات نقدّ بها … ما كان خاط عليهم كلّ زرّاد (¬1) فصل اعلم أن الاستعارة كما علمت تعتمد التشبيه أبدا، وقد قلت: إنّ طرقه تختلف، ووعدتك الكلام فيه، وهذا الفصل يعطي بعض القول في ذلك بإذن الله تعالى، وأنا أريد أن أدرّجها من الضّعف إلى القوة، وأبدأ في تنزيلها بالأدنى، ثم بما يزيد في الارتفاع، لأن التقسيم إذا أريغ في خارج من الأصل، فالواجب أن يبدأ بما كان أقلّ خروجا منه، وأدنى مدى في مفارقته. وإذا كان الأمر كذلك، فالذي يستحقّ بحكم هذه الجملة أن يكون أوّلا من ضروب الاستعارة، أن يرى معنى الكلمة المستعارة موجودا في المستعار له من حيث عموم جنسه على الحقيقة، إلا أنّ لذلك الجنس خصائص ومراتب في الفضيلة والنقص والقوّة والضعف، فأنت تستعير لفظ الأفضل لما هو دونه. ومثاله استعارة «الطيران» لغير ذي الجناح، إذا أردت السرعة، و «انقضاض الكواكب» للفرس إذا أسرع في حركته من علوّ، و «السباحة» له إذا عدا عدوا كان حاله فيه شبيها بحالة السابح في الماء. ومعلوم أن الطيران والانقضاض والسباحة والعدو كلها جنس واحد من حيث الحركة على الإطلاق، إلا أنهم نظروا إلى خصائص الأجسام في حركتها، فأفردوا حركة كل نوع منها باسم، ثم إنهم إذا وجدوا في الشيء في بعض الأحوال شبها من حركة غير جنسه، استعاروا له العبارة من ذلك الجنس، فقالوا في غير ذي الجناح «طار» كقوله: [من الوافر] وطرت بمنصلي في يعملات (¬2) ¬

_ (¬1) البيت للقطامي في ديوانه، وفي الكامل للمبرد 1/ 82، 83. الزّرّاد: من الزردة وهي حلقة الدرع، والسّرد ثقبها والجمع: زرود. والزراد: صانعيها، وقيل الزاي في ذلك كله بدل من السين في السّرد والسّرّاد، والزّرد مثل السّرد وهو تداخل حلق الدرع بعضها في بعض. لسان العرب- مادة: زرد. (¬2) الشطر لمضرس بن ربعي في شرح أبيات سيبويه 1/ 62، وشرح شواهد الشافية: ص 481، ولسان العرب 13/ 81 (ثمن)، 15/ 420 (يدي)، وله أو ليزيد بن الطثريّة في شرح شواهد المغني: ص 598، ولسان العرب 5/ 320 (جزز)، والمقاصد النحوية 4/ 591، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر: 2/ 60، والإنصاف 2/ 545، وجمهرة اللغة ص 512، وخزانة الأدب 1/ 242، والخصائص 2/ 269، وسر صناعة الإعراب ص 519، 772، والكتاب 1/ 27، 4/ 190، ولسان العرب 7/ 281 (ضبط)، ومغني اللبيب 1/ 225، والمنصف 2/ 73، وتمامه وبيت قبله:

وكما جاء في الخبر: «كلّما سمع هيعة طار إليها» (¬1)، وكما قال: [من الرمل] لو يشا طار به ذو ميعة … لاحق الآطال نهد ذو خصل (¬2) ومن ذلك أن «فاض» موضوع لحركة الماء على وجه مخصوص، وذلك أن يفارق مكانه دفعة فينبسط، ثم إنه استعير للفجر، كقوله: [من الكامل] كالفجر فاض على نجوم الغيهب (¬3) لأن للفجر انبساطا وحالة شبيهة بانبساط الماء وحركته في فيضه. فأما استعارة «فاض» بمعنى الجود، فنوع آخر غير ما هو المقصود هاهنا، لأن القصد الآن إلى المستعار الذي توجد حقيقة معناه من حيث الجنس في المستعار له. وكذلك قول أبي تمام: [من الطويل] وقد نثرتهم روعة ثمّ أحدقوا … به مثلما ألّفت عقدا منظّما (¬4) ¬

_ وضيف جاءنا والليل داج … وريح القرّ تحفز منه روحا فطرت بمنصلى في يعملات … ووامى الأيد يخبطن السّريحا يقول: غشيهم الضيف، وبرد الشتاء تدفع روحه للخروج لضعفه. فأسرع لسيفه إلى نوق يعقرها ليقريه. والمنصل، بضم الميم والصاد، والمنصل: السيف اسم له. قال ابن سيدة: لا نعرف في الكلام اسما على مفعل ومفعل إلا هذا. اليعملات: جمع يعملة، واليعملة من الإبل: النجيبة المعتملة المطبوعة على العمل ولا يقال ذلك إلا للأنثى. هذا قول أهل اللغة وقد حكى أبو عليّ يعمل ويعملة. السريح: جمع سريحة: وكل قطعة من خرقة متمزقة أو دم سائل مستطيل يابس، فهو وما أشبهه سريحة، وتجمع أيضا على سرائح، والسريحة: الطريقة من الدم إذا كانت مستطيلة. لسان العرب: نصل- عمل- سرح. (¬1) جزء من حديث رواه أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من خير معاش الناس لهم رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه كلّما سمع هيعة، أو فزعة طار على متنه، يبتغي القتل أو الموت مظانّه ...» الحديث رواه مسلم (1889)، ومظانّه: أي في المكان الذي يظن وجوده فيه. (¬2) البيت لامرأة من بني الحارث بن كعب ترثي بعض من يخصها، في شرح الحماسة 3/ 73، والخزانة 11/ 298 - 303، وهو من ثلاثة أبيات هو ثانيها، وأوله: فارس ما غادروه ملحما … غير زميل ولا نكس وكل الميعة: أول جري الفرس وأنشطه. النهد: فرس نهد: جسيم، مشرف، تقول منه: نهد الفرس، بالضم، نهودة، وقيل: كثير اللحم حسن الجسم. الخصل: جمع خصلة: الشعر المجتمع. الليث: الخصلة بالضم: لفيفة من الشعر. لسان العرب: ميع، نهد، خصل. (¬3) البيت للبحتري في ديوانه وصدره: يتراكمون على الأسنة في الوغى (¬4) البيت في ديوانه.

وقول المتنبي: [من الطويل] نثرتهم فوق الأحيدب نثرة … كما نثرت فوق العروس الدّراهم (¬1) استعارة، لأن «النثر» في الأصل للأجسام الصغار، كالدراهم والدنانير والجواهر والحبوب ونحوها، لأن لها هيئة مخصوصة في التفرق لا تأتي في الأجسام الكبار، ولأن القصد «بالنثر» أن تجمع أشياء في كفّ أو وعاء، ثم يقع فعل تتفرّق معه دفعة واحدة، والأجسام الكبار لا يكون فيها ذلك، لكنه لمّا اتّفق في الحرب تساقط المنهزمين على غير ترتيب ونظام، كما يكون في الشيء المنثور، عبّر عنه بالنثر، ونسب ذلك الفعل إلى الممدوح، إذ كان هو سبب ذلك الانتثار، فالتفرّق الذي هو حقيقة «النثر» من حيث جنس المعنى وعمومه، موجود في المستعار له بلا شبهة. ويبيّنه أن «النّظم» في الأصل لجمع الجواهر وما كان مثلها في السلوك، ثم لمّا حصل في الشّخصين من الرجال أن يجمعهما الحاذق المبدع في الطعن في رمح واحد ذلك الضرب من الجمع، عبّر عنه «بالنّظم»، كقولهم: «انتظمها برمحه»، وكقوله: [من الكامل] قالوا: وينظم فارسين بطعنة (¬2) وكان ذلك استعارة، لأن اللفظة وقعت في الأصل لما يجمع في السّلوك من الحبوب والأجسام الصغار، إذ كانت تلك الهيئة في الجمع تخصّها في الغالب، وكان حصولها في أشخاص الرجال من النادر الذي لا يكاد يقع، وإلا فلو فرضنا أن يكثر وجوده في الأشخاص الكبيرة، لكان لفظ «النظم» أصلا وحقيقة فيها، كما يكون حقيقة في نحو الحبوب، وهذا النحو لشدة الشّبه فيه، يكاد يلحق بالحقيقة. ومن هذا الحدّ قوله: [من الطويل] ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه. الأحيدب: جبل، والنثر: التفريق، يقول: فرقتهم على هذا الجبل مقتولين، ونثرتهم نثر الدراهم على العروس، فتفرقت مصارعهم على هذا الجبل، كما تتفرق مواقع الدراهم إذا انتثرت، وهذا من محاسن أبي الطيب، وقد أشار بهذا إلى أن سيف الدولة تحكّم في الروم قتلا وأسرا ونثر جيشهم فوق هذا الجبل نثرا. التبيان 2/ 301. (¬2) الشعر لبكر بن النطاح في أبي دلف العجلي، وهو في قصة ذكرها صاحب الأغاني 19/ 109، وتمامه: قالوا: وينظم فارسين بطعنة … يوم اللقاء ولا يراه جليلا لا تعجبوا فلو أن طول قناته … ميل، إذا نظم الفوارس ميلا

وفي يدك السّيف الّذي امتنعت به … صفاة الهدى من أن ترقّ فتخرقا (¬1) وذلك أن أصل «الخرق» أن يكون في الثوب، وهو في الصفاة استعارة، لأنه لمّا قال «ترقّ»، قربت حالها من حال الثوب، وعلى ذلك فإنّا نعلم أن «الشق» و «الصدع» حقيقة في الصّفاة، ونعلم أن «الخرق» يجامعهما في الجنس، لأن الكلّ تفريق وقطع. ولو لم يكن «الخرق» و «الشق» واحدا، لما قلت: «شققت الثوب»، و «الشقّ عيب في الثوب»، و «تشقّق الثوب» قول من لا يستعير. ولكن لو قلت: «خرق الحشمة»، لم يكن من الحقيقة في شيء، وكان خارجا من هذا الفن الذي نحن فيه، لأنه ليس هناك شق. ولو جاء «شقّ الحشمة» أو «صدع» مثلا، كان كذلك أعني لا يكون له أصل في الحقيقة ولا شبه بها. ومن هذا الضرب قوله تعالى: وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ [سبأ: 19] يعدّ استعارة من حيث إن «التمزيق» للثوب في أصل اللغة، إلا أنه على ذاك راجع إلى الحقيقة، من حيث إنه تفريق على كل حال، وليس بجنس غيره، إلّا أنهم خصّوا ما كان مثل الثوب بالتمزيق، كما خصّوه بالخرق، وإلا فأنت تعلم أن تمزيق الثوب تفريق بعضه من بعض. ومثله أن «القطع» إذا أطلق، فهو لإزالة الاتصال من الأجسام التي تلتزق أجزاؤها. وإذا جاء في تفريق الجماعة وإبعاد بعضهم عن بعض، كقوله تعالى: وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً [الأعراف: 168]، كان شبه الاستعارة، وإن كان المعنى في الموضعين على إزالة الاجتماع ونفيه. فإن قلت: «قطع عليه كلامه»، أو قلت: «نقطع الوقت بكذا»، كان نوعا آخر. ومن الاستعارة القريبة في الحقيقة قولهم: «أثرى فلان من المجد»، و «أفلس من المروءة»، وكقوله: [من الكامل] إن كان أغناها السلوّ، فإنّني … أمسيت من كبدي ومنها معدما (¬2) ¬

_ (¬1) البيت للبحتري في ديوانه. (¬2) البيت للمتنبي في ديوانه. السلو: البغض والسآمة، والمعدم: الفقير، وروى ابن جني مصرما وهو بمعنى واحد، والمصرم والمعدم والممحق والمبلط والمعسر والمقتر والمفلس الذي لا مال له ولا شيء له، ومن كلام العرب: كلأ ييجع له كبد المصرم، وهو الذي لا مال له، فيرعاه فأوجعته كبده. ومعنى البيت: إن كان السلو تركها غنية عن وصالي ولا تحتاج إلى وصلي فأنا محتاج إليها، قد عدمتها وعدمت كبدي، يريد أنها غنية عني وأنا فقير إليها. التبيان 2/ 329.

وذلك أن حقيقة «الإثراء من الشيء»، كثرته عندك. ووصف الرجل بأنه كثير المجد أو قليل المروءة، كوصفه بأنه كثير العلم أو قليل المعرفة، في كونه حقيقة. وكذلك إذا قلت: «أثرى من الشوق» أو «الحزن» كما قال: [من الخفيف] وفي الرّكب خريب … من الغرام ومثري (¬1) فهو كقولك: «كثر شوقه وحزنه وغرامه»، وإذا كان كذلك، فهو في أنه نقل إلى شيء جنسه جنس الذي هو حقيقة فيه، بمنزلة «طار»، أو أظهر أمرا منه، وكذا معنى «أعدم من المال»، أنه خلا منه، وأن المال يزول عنه فإذا أخبر أن كبده قد ذهبت عنه، فهو في حقيقة من ذهب ماله وعدمه. والعدم في المال وفي غير المال بمنزلة واحدة لا تتغيّر له فائدة، و «المعدم» موضوع لمن عدم ما يحتاج إليه، فالكبد مما يحتاج إليه، وكذلك المحبوبة، فإنما تقع هذه العبارة في نفسك موقع الغريب من حيث أن العرف جرى في «الإعدام» بأن يطلق على من عدم ما جنسه جنس المال، ويؤنّسك بما قلت، أنك لو قلت: «عدم كبده»، لم يكن مجازا، ولم تجد بينه وبين «خلا من كبده» و «زالت عنه كبده» كبير فرق. ألا تراك تقول: «الفرس عادم للطّحال» تريد: ليس له طحال، وهذا كلام لا استعارة فيه، كما أنك لو قلت: «الطحال معدوم في الفرس» كان كذلك. ومن اللائق بهذا الباب البيّن أمره، ما أنشده أبو العباس في الكامل من قول الشاعر: [من البسيط] لم تلق قوما هم شرّ لإخوتهم … منّا عشيّة يجري بالدّم الوادي تقريهم لهذميّات نقدّ بها … ما كان خاط عليهم كلّ زرّاد (¬2) ¬

_ (¬1) البيت للبحتري في ديوانه، وهو من المجتث. وفي نسخة محمود شاكر: قد وقفنا على الديار وفي الرك … ب حريب من الغرام ومثري والبيت بهذا الشكل من الخفيف. الحريب: من حربه يحربه: إذا أخذ ماله، وحريبته: ماله الذي سلبه لا يسمى بذلك إلا بعد ما يسلبه، والحريب الذي سلب حريبته. لسان العرب، مادة: حرب. (¬2) البيتان هما للقطامي في ديوانه. اللهذميات: جمع لهذم: سيف لهذم حاد، وكذلك السّنان والناب ولهذم الشيء: قطعه، الليث: اللهذم: كل شيء من سنان أو سيف قاطع. لسان العرب، مادة: لهذم.

قال: لأن «الخياطة»، تضمّ خرق القميص والسّرد يضمّ حلق الدرع». أفلا تراه بيّن أن جنسهما واحد، وأن كلّا منهما ضمّ ووصل وإنما يقع الفرق من حيث أن «الخياطة» ضمّ أطراف الخرق بخيط يسلك فيها على الوجه المعلوم، و «الزّرد» ضمّ حلق الدرع بمداخلة توجد بينها، إلّا أن الشّكال الذي يلزم أحد طرفي الحلقة الآخر بدخوله في ثقبتيهما، في صورة الخيط الذي يذهب في منافذ الإبرة. واستقصاء القول في هذا الضرب، والبحث عن أسراره، لا يمكن إلا بعد أن تقرّر الضروب المخالفة له من الاستعارة، فأقتصر منه على القدر المذكور، وأعود إلى القسمة. ضرب ثان يشبه هذا الضرب الذي مضى، وإن لم يكن إياه، وذلك أن يكون الشبه مأخوذا من صفة هي موجودة في كل واحد من المستعار له والمستعار منه على الحقيقة. وذلك قولك: «رأيت شمسا»، تريد إنسانا يتهلّل وجهه كالشمس. فهذا له شبه باستعارة «طار» لغير ذي الجناح وذلك أن الشبه مراعى في التلألؤ، وهو كما تعلم موجود في نفس الإنسان المتهلل، لأنّ رونق الوجه الحسن من حيث حسن البصر، مجانس لضوء الأجسام النيّرة. وكذلك إذا قلت: «رأيت أسدا» تريد رجلا، فالوصف الجامع بينهما هو الشجاعة، وهي على حقيقتها موجودة في الإنسان، وإنما يقع الفرق بينه وبين السّبع الذي استعرت اسمه له فيها، من جهة القوّة والضعف والزيادة والنقصان، وربما ادّعي لبعض الكماة والبهم مساواة الأسد في حقيقة الشجاعة التي عمود صورتها انتفاء المخافة عن القلب حتى لا تخامره، وتفرّق خواطره وتحلّل عزيمته في الإقدام على الذي يباطشه ويريد قهره، وربما كفّ الشّجاع عن الإقدام على العدوّ لا لخوف يملك قلبه ويسلبه قواه، ولكن كما يكفّ المنهيّ عن الفعل، لا تخونه في تعاطيه قوّة. وذلك أن العاقل من حيث الشرع منهيّ عن أن يهلك نفسه، أترى أنّ البطل الكميّ إذا عدم سلاحا يقاتل به، فلم ينهض إلى العدوّ، كان فاقدا شجاعته وبأسه، ومتبرّئا من النّجدة التي يعرف بها. ثم إن الفرق بين هذا الضرب وبين الأول أن الاشتراك هاهنا في صفة توجد في جنسين مختلفين، مثل أنّ جنس الإنسان غير جنس الشمس، وكذلك جنسه غير جنس الأسد، وليس كذلك «الطيران» و «جري الفرس»، فإنهما جنس واحد بلا شبهة،

وكلاهما مرور وقطع للمسافة. وإنما يقع الاختلاف بالسرعة، وحقيقة «السرعة» قلّة تخلّل السكون للحركات، وذلك لا يوجب اختلافا في الجنس (¬1). فإن قلت: فإذن لا فرق بين استعارة «طار» للفرس وبين استعارة «الشفة» للفرس، فهلّا عددت هذا في القسم اللّفظيّ غير المفيد؟ ثم إنك إن اعتذرت بأنّ في «طار» خصوص وصف ليس في «عدا» و «جرى»، فكذلك في «الشفة» خصوص وصف ليس في «الجحفلة». فالجواب: أنّي لم أعدّه في ذلك القسم، لأجل أنّ خصوص الوصف الكائن في «طار» مراعى في استعارته للفرس، ألا تراك لا تقوله في كل حال، بل في حال مخصوصة وكذا «السباحة»، لأنك لا تستعيرها للفرس في كل أحوال حربه. نعم، وتأبى أن تعطيها كلّ فرس، فالقطوف (¬2) البليد لا يوصف بأنه سابح. وأما استعارة اسم لعضو نحو «الشفة» و «الأنف» فلم يراع فيه خصوص الوصف. ألا ترى أن العجّاج لم يرد بقوله: «ومرسنا مسرّجا»، أن يشبّه أنف المرأة بأنف نوع من الحيوان، لأن هذا العضو من غير الإنسان لا يوصف بالحسن، كما يكون ذلك في العين والجيد. وهكذا استعارة «الفرسن» للشاة في قول عائشة رضي الله عنها: «ولو فرسن شاة» (¬3)، وهو للبعير في الأصل ليس لأن يشبّه هذا العضو من ¬

_ (¬1) تقدم أن من ذلك النوع المستعار لحركة الفرس مستعارا من انقضاض الكواكب والظاهر أن الجنس مختلف هنا والجواب أن الكلام في اختلاف المستعار والمستعار له من حيث وجه الشبه فاختلاف الجنس واقع في وجه الشبه أيضا فإن تلألؤ الشمس غير تلألؤ الوجه في الجنس، وشجاعة الأسد ليست مثل شجاعة الإنسان فإن شجاعة الإنسان يدخل فيها العقل بخلاف شجاعة الأسد وأما الحركات التي ذكرها فإنها جنس واحد والخلاف في عرض وهو السرعة والجواب الأفضل أن الضرب الأول يكون فيه المستعار له على قرب من الشبه في مفهوم المستعار منه لولا غلبة التفرق بالتخصيص وأما في الضرب الثاني فذلك القرب في وجه الشبه أتم فشجاعة البطل تدخل في حد شجاعة الأسد لكن المستعار له لا يمكن أن يدخل في جنس المستعار منه على وجه الحقيقة بحال، فلا يدخل الرجل في الأسد ولا في الشمس إلخ. هذا الذي يظهر من عبارة المصنف اه (رشيد). (¬2) القطوف: سيّئ السير بطيئه. (¬3) الحديث متفق عليه رواه البخاري 5/ 144، 145، ومسلم في 1030، والمراد: أي: «لا تمتنع جارة من الصدقة والهدية لجارتها لاستقلالها واحتقارها الموجود عندها؛ بل تجود بما تيسر؛ وإن كان قليلا كفرسن الشاة (وهو خف البعير، ويستعار لظلف الشاة كما في الحديث) فهذا خير من عدمه، قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ بتصرف من شرح رياض الصالحين لابن علان 1/ 345 - 346.

الشاة به من البعير، كيف ولا شبه هناك، وليس إذن في مجيء «الفرسن» بدل «الظلف» أمر أكثر من العضو نفسه. ضرب ثالث، وهو الصّميم الخالص من «الاستعارة». وحدّه أن يكون الشبه مأخوذا من الصّور العقلية، وذلك كاستعارة «النّور» للبيان والحجة الكاشفة عن الحق، المزيلة للشكّ النافية للرّيب، كما جاء في التّنزيل من نحو قوله عزّ وجلّ: وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ [الأعراف: 157] وكاستعارة «الصراط» للدّين في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 5]، ووَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52]، فإنك لا تشكّ في أنه ليس بين «النور» والحجة ما بين «طيران الطائر» و «جرى الفرس» من الاشتراك في عموم الجنس، لأن «النور» صفة من صفات الأجسام محسوسة، والحجة كلام وكذا ليس بينهما ما بين «الرجل» و «الأسد» من الاشتراك في طبيعة معلومة تكون في الحيوان كالشجاعة. فليس الشبه الحاصل من «النور» في البيان والحجة ونحوهما، إلّا أنّ القلب إذا وردت عليه الحجّة صار في حالة شبيهة بحال البصر إذا صادف النور، ووجّهت طلائعه نحوه، وجال في معارفه (¬1) وانتشر، وانبثّ في المسافة التي يسافر طرف الإنسان فيها. وهذا كما تعلم شبه لست تحصل منه على جنس ولا على طبيعة وغريزة، ولا على هيئة وصورة تدخل في الخلقة، وإنما هو صورة عقلية. واعلم أن هذا الضرب هو المنزلة التي تبلغ عندها الاستعارة غاية شرفها، ويتسع لها كيف شاءت المجال في تفنّنها وتصرّفها، وهاهنا تخلص لطيفة روحانية، فلا يبصرها إلا ذوو الأذهان الصافية، والعقول النافذة، والطباع السليمة، والنفوس المستعدّة لأن تعي الحكمة، وتعرف فصل الخطاب. ولها هاهنا أساليب كثيرة، ومسالك دقيقة مختلفة، والقول الذي يجري مجرى القانون والقسمة يغمض فيها، إلا أنّ ما يجب أن تعلم في معنى التقسيم لها أنها على أصول: أحدها: أن يؤخذ الشّبه من الأشياء المشاهدة والمدركة بالحواسّ على الجملة للمعاني المعقولة. ¬

_ (¬1) معارف الإنسان ما يعرف به ويتميز به من غيره في شكل وجهه. وكتب شيخنا في نسخة الدرس هنا ما نصه: المعارف من الضياء ما يظهر فيه وأصلها ما يظهر من المرأة والوجوه والمعروفون (كذا) من الناس. وقد يعود الضمير في معارفه على البصر أي: جال في الأشياء التي يعرفها البصر ويفسره قوله: وانبث في المسافة إلخ. أو معارف البصر ما يعرف منه كالمقلة اه. (رشيد).

والثاني: أن يؤخذ الشبه من الأشياء المحسوسة لمثلها، إلا أن الشّبه مع ذلك عقليّ. والأصل الثالث: أن يؤخذ الشّبه من المعقول للمعقول. فمثال ما جرى على (الأصل الأول) ما ذكرت لك من استعارة «النور» للبيان والحجّة، فهذا شبه أخذ من محسوس لمعقول، ألا ترى أن «النور» مشاهد محسوس بالبصر، والبيان والحجّة مما يؤدّيه إليك العقل من غير واسطة من العين أو غيرها من الحواس. وذلك أن الشّبه ينصرف إلى المفهوم من الحروف والأصوات، ومدلول الألفاظ هو الذي ينوّر القلب لا الألفاظ. هذا و «النور» يستعار للعلم نفسه أيضا والإيمان، وكذلك حكم «الظلمة»، إذا استعيرت للشّبهة والجهل والكفر، لأنه لا شبهة في أن الشّبه والشكوك من المعقول، ووجه التشبيه أن القلب يحصل بالشبهة والجهل، في صفة البصر إذا قيّده دجى الليل فلم يجد منصرفا وإن استعيرت للضلالة والكفر، فلأنّ صاحبهما كمن يسعى في الظلمة فيذهب في غير الطريق، وربما دفع إلى هلك وتردّى في أهويّة. ومن ذلك استعارة «القسطاس» للعدل ونحو ذلك من المعاني المعقولة التي تعطى غيرها صفة الاستقامة والسّداد، كما استعاره الجاحظ في فصل يذكر فيه علم الكلام، فقال: «هو العيار على كل صناعة»، والزّمام على كل عبارة، والقسطاس الذي به يستبان كل شيء ورجحانه والراووق الذي به يعرف صفاء كل شيء وكدره». وهكذا إذا قيل في النّحو: «إنه ميزان الكلام ومعياره»، فهو أخذ شبه من شيء هو جسم يحسّ ويشاهد، لمعنى يعلم ويعقل ولا يدخل في الحاسّة، وذلك أظهر وأبين من أن يحتاج فيه إلى فضل بيان. وأما تفنّنه وسعته وتصرّفه من مرضيّ ومسخوط، ومقبول ومرذول، فحقّ الكلام فيه بعد أن يقع الفراغ من تقرير الأصول. ومثال (الأصل الثاني)، وهو أخذ الشّبه من المحسوس للمحسوس، ثم الشبه عقليّ، قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إياكم وخضراء الدّمن» (¬1)، الشبه مأخوذ للمرأة من النبات ¬

_ (¬1) تتمة الحديث: قيل وما ذاك قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء» شبه المرأة بما ينبت في الدمن من الكلأ يكون له غضارة وهو ربئ المرعى منتن الأصل قال زفر بن الحارث: وقد ينبت المرعى على دمن الثرى … وتبقى حزازات النفوس كما هيا والدمنة: الموضع الذي فيه السرقين (الزبل) وكذلك هو ما اختلط من الماء والطين عند الحوض (رشيد). قلت: ولكن الحديث لا تصح نسبته للنبي صلّى الله عليه وسلّم (عبد الحميد).

كما لا يخفى وكلاهما جسم، إلا أنه لم يقصد بالتشبيه لون النبات وخضرته، ولا طعمه ولا رائحته، ولا شكله وصورته ولا ما شاكل ذلك ولا ما يسمّى طبعا كالحرارة والبرودة المنسوبتين في العادة إلى العقاقير وغيرها مما يسخّن بدن الحيوان ويبرد بحصوله فيها، ولا شيء من هذا الباب بل القصد شبه عقليّ بين المرأة الحسناء في المنبت السوء، وبين تلك النابتة على الدّمنة، وهو حسن الظاهر في رأى العين مع فساد الباطن، وطيب الفرع مع خبث الأصل. وكما أنهم إذا قالوا: هو عسل إذا ياسرته … وإن عاسرته فهو صاب» (¬1) كما قال: [من الرمل] عسل الأخلاق ما ياسرته … فإذا عاسرت ذقت السّلعا (¬2) فالتشبيه عقليّ، إذ ليس الغرض الحلاوة والمرارة اللتين تصفهما لك المذاقة ويحسّهما الفم واللسان، وإنما المعنى أنك تجد منه في حالة الرّضى والموافقة ما يملؤك سرورا وبهجة، حسب ما يجد ذائق العسل من لذّة الحلاوة ويهجم عليك في حالة السّخط والإباء ما يشدّد كراهتك ويكسبك كربا، ويجعلك في حال من يذوق المرّ الشديد المرارة. وهذا أظهر من أن يخفى. ومن هذا الأصل استعارة «الشمس» للرجل تصفه بالنباهة والرّفعة والشّرف والشهرة وما شاكل ذلك من الأوصاف العقلية المحضة التي لا تلابسها إلّا بغريزة العقل، ولا تعقلها إلا بنظر القلب. ويظهر من هاهنا (أصل آخر) وهو أنّ اللفظة الواحدة تستعار على طريقين مختلفين، ويذهب بها في القياس والتشبيه مذهبين، أحدهما يفضي إلى ما تناله العيون، والآخر يومئ إلى ما تمثّله الظنون. ¬

_ (¬1) الصاب: هو عصارة شجر مر، وقيل: هو شجر إذا اعتصر خرج منه كهيئة اللبن، وربما نزت منه نزيّة، أي: قطرة، فنقع في العين كأنها شهاب نار، وربما أضعف البصر، قال أبو ذؤيب الهذلي: إني أرقت فبتّ الليل مشتجرا … كأن عيني فيها الصّاب مذبوح وقيل: الصاب شجر مر، واحدته صابة، وقيل: هو عصارة الصبر. لسان العرب، مادة: صوب. (¬2) البيت لا نعرف قائله. السّلع: شجر مثل السّنعبق إلا أنه يرتقي حبالا خضرا لا ورق لها، ولكن لها قضبان تلتف على الغصون وتتشبك، وله ثمر مثل عناقيد العنب صغار، فإذا أينع اسود فتأكله القرود فقط. لسان العرب، مادة: سلع.

ومثال ذلك قولك: «نجوم الهدى»، تعني أصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم ورضي عنهم، فإنه استعارة توجب شبها عقليّا، لأن المعنى أنّ الخلق بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اهتدوا بهم في الدين كما يهتدي السارون بالنجوم، وهذا الشبه باق لهم إلى يوم القيامة، فبالرجوع إلى علومهم وآثارهم وفعالهم وهديهم تنال النجاة من الضلالة، ومن لم يطلب الهدى من جهتهم فقد حرم الهدى ووقع في الضلال، كما أنّ من لم ينظر إلى النجوم في ظلام اللّيل ولم يتلقّ عنها دلالتها على المسالك التي تفضي إلى العمارة ومعادن السلامة وخالفها، وقع في غير الطريق، وصار بتركه الاهتداء بها إلى الضلال البعيد، والهلك المبيد. فالقياس على النجوم في هذا، ليس على حدّ تشبيه المصابيح بالنجوم، أو النيران في الأماكن المتفرقة، لأن الشّبه هناك من حيث الحس والمشاهدة، لأن القصد إلى نفس الضوء واللّمعان، والشّبه هاهنا من حيث العقل، لأن القصد إلى مقتضى ضوء النجوم وحكمه وعائدته، ثم ما فيها من الدلالة على المنهاج، والأمن من الزيغ عنه والاعوجاج، والوصول بهذه الجملة منها إلى دار القرار ومحل الكرامة نسأل الله تعالى أن يرزقنا ذلك، ويديم توفيقنا للزوم ذلك الاهتداء، والتصرف في هذا الضياء، إنه عزّ وجلّ وليّ ذلك والقادر عليه. ومما لا يكون الشبه فيه إلا عقليا، قولنا في أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ملح الأنام»، وهو مأخوذ من قوله عليه السلام: «مثل أصحابي كمثل الملح في الطّعام، لا يصلح الطّعام إلا بالملح»، قالوا: فكان الحسن رحمة الله عليه يقول: «فقد ذهب ملحنا، فكيف نصنع؟». فأنت تعلم أن لا وجه هاهنا للتشبيه إلا من طريق الصّورة العقلية، وهو أن الناس يصلحون بهم كما يصلح الطعام بالملح، والشّبه بين صلاح العامّة بالخاصّة وبين صلاح الطعام بالملح، لا يتصوّر أن يكون محسوسا. وينطوي هذا التشبيه على وجوب موالاة الصحابة رضي الله عنهم، وأن تمزج محبّتهم بالقلوب والأرواح، كما يمزج الملح بالطعام، فباتّحاده به ومداخلته لأجزائه يطيب طعمه، وتذهب عنه ووخامته، ويصير نافعا مغذيا، كذلك بمحبّة الصحابة رضي الله عنهم تصلح الاعتقادات، وتنتفى عنها الأوصاف المذمومة، وتطيب وتغذو القلوب، وتنمّى حياتها، وتحفظ صحتها وسلامتها، وتقيها الزّيغ والضلال والشك والشبهة والحيرة، وما حكمه في حال القلب من حيث العقل، حكم الفساد الذي يعرض لمزاج البدن

من أكل الطعام الذي لم يصلح بالملح، ولم تنتف عنه المضار التي من شأن الملح أن يزيلها، وعلى ذلك جاء في صفتهم أنّ: «حبّهم إيمان وبغضهم نفاق». هذا، ولا معنى لصلاح الرجل بالرجل إلّا صلاح نيّته واعتقاده، ومحال أن تصلح نيّتك واعتقادك بصاحبك وأنت لا تراه معدن الخير ومعانه، وموضع الرّشد ومكانه ومن علمته كذلك، مازجتك محبّته لا محالة، وسيط ودّه بلحمك ودمك، وهل تحصل من المحبّة إلّا على الطاعة والموافقة في الإرادة والاعتقاد، قياسه قياس الممازجة بين الأجسام، ألا تراك تقول: «فلان قريب من قلبي»، تريد الوفاق والمحبّة. وعلى هذه الطريقة جرى تمثيل «النحو» في قولهم: «النحو في الكلام، كالملح في الطعام، إذ المعنى أن الكلام لا يستقيم ولا تحصل منافعه التي هي الدلالات على المقاصد، إلّا بمراعاة أحكام النحو فيه، من الإعراب والترتيب الخاصّ، كما لا يجدي الطعام ولا تحصل المنفعة المطلوبة منه، وهي التغذية، ما لم يصلح بالملح. فأمّا ما يتخيّلونه من أن معنى ذلك: أن القليل من النحو يغني، وأن الكثير منه يفسد الكلام كما يفسد الملح الطعام إذا كثر فيه، فتحريف، وقول بما لا يتحصّل على البحث، وذلك أنه لا يتصوّر الزيادة والنقصان في جريان أحكام النحو في الكلام. ألا ترى أنه إذا كان من حكمه في قولنا: «كان زيد ذاهبا»، أن يرفع الاسم وينصب الخبر، لم يخل هذا الحكم من أن يوجد أو لا يوجد، فإن وجد فقد حصل النحو في الكلام، وعدل مزاجه به، ونفي عنه الفساد، وأن يكون كالطعام الذي لا يغذو البدن وإن لم يوجد فيه فهو فاسد كائن بمنزلة طعام لم يصلح بالملح، فسامعه لا ينتفع به بل يستضرّ، لوقوعه في عمياء وهجوم الوحشة عليه، كما يوجبه الكلام الفاسد العاري من الفائدة. وليس بين هاتين المنزلتين واسطة يكون استعمال النحو فيها مذموما وهكذا القول في كلّ كلام، وذلك أن إصلاح الكلام الأول بإجرائه على حكم النحو، لا يغني عنه في الكلام الثاني والثالث، حتى يتوّهم أن حصول النحو في جملة واحدة من قصيدة أو رسالة يصلح سائر الجمل، وحتى يكون إفراد كل جملة بحكمها منه تكريرا له وتكثيرا لأجزائه، فيكون مثله مثل زيادة أجزاء الملح على قدر الكفاية. وكذلك لا يتصور في قولنا: «كان زيد منطلقا»، أن يتكرّر هذا الحكم ويتكثّر على هذا الكلام، فيصير النحو كذلك موصوفا بأن له كثيرا هو مذموم، وأن المحمود منه القليل. وإنما وزانه في الكلام وزان وقوف لسان الميزان حتى ينبئ عن مساواة ما

في إحدى الكفتين الأخرى، فكما لا يتصور في تلك الصفة زيادة ونقصان، حتى يكون كثيرها مذموما وقليلها محمودا، كذلك الحكم في الصّفة زيادة ونقصان، حتى يكون كثيرها مذموما وقليلها محمودا، كذلك الحكم في الصّفة التي تحصل للكلام بإجرائه على حكم النحو ووزنه بميزان، فقول أبي بكر الخوارزمي: [من السريع] والبغض عندي كثرة الإعراب كلام لا يحصل منه على طائل، لأنّ الإعراب لا يقع فيه قلة وكثرة، إن اعتبرنا الكلام الواحد والجملة الواحدة، وإن اعتبرنا الجمل الكثيرة وجعلنا إعراب هذه الجملة مضموما إلى إعراب تلك، فهي الكثرة التي لا بدّ منها، ولا صلاح مع تركها، والخليق بالبغض من ذمّها (¬1) وإن كان أراد نحو قول الفرزدق: وما مثله في النّاس إلّا مملّكا … أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه (¬2) وما كان من الكلام معقّدا موضوعا على التأويلات المتكلّفة، فليس ذلك بكثرة وزيادة في الإعراب، بل هو بأن يكون نقصا له ونقضا أولى، لأن «الإعراب» هو أن يعرب المتكلم عما في نفسه ويبيّنه ويوضّح الغرض ويكشف اللّبس، والواضع كلامه على المجازفة في التقديم والتأخير زائل عن الإعراب، زائغ عن الصواب، متعرّض للتلبيس والتعمية. فكيف يكون ذلك كثرة في الإعراب؟ إنما هو كثرة عناء على من رام أن يردّه إلى الإعراب، لا كثرة الإعراب. وهذا هو كالاعتراض على طريق شجون الحديث، ويحتاج إليه في أصل كبير، وهو أن من حق العاقل أن لا يتعدّى بالتشبيه الجهة المقصودة، ولا سيما في العقليات. وأرجع إلى النّسق. مثال (الأصل الثالث)، وهو أخذ الشبه من المعقول للمعقول. أوّل ذلك وأعمّه تشبيه الوجود من الشيء مرة بالعدم، والعدم مرة بالوجود. أمّا الأول: فعلى معنى أنه لما قلّ في المعاني التي بها يظهر للشيء قدر، ويصير له ذكر، صار وجوده كلا وجود (¬3). ¬

_ (¬1) مبتدأ وخبر. (رشيد). (¬2) سبق تخريجه: ص 25. (¬3) (رشيد) نظم هذا المعنى بعضهم فقال: خلقوا وما خلقوا لمكرمة … فكأنهم خلقوا وما خلقوا رزقوا وما رزقوا سماح يد … فكأنهم رزقوا وما رزقوا

وأمّا الثاني: فعلى معنى أن الفاني كان موجودا ثم فقد وعدم، إلا أنه لما خلّف آثارا جميلة تحيي ذكره، وتديم في الناس اسمه، صار لذلك كأنه لم يعدم. وأما ما عداهما من الأوصاف فيجيء فيها طريقان: أحدهما: هذا، وذلك في كلّ موضع كان موضوع التشبيه فيه على ترك الاعتداد بالصفة، وإن كانت موجودة، لخلوّها مما هو ثمرتها والمقصود منها، والذي إذا خلت منه لم تستحق الشّرف والفضل. تفسير هذا: أنك إذا وصفت الجاهل بأنه «ميّت»، وجعلت «الجهل» كأنه موت، على معنى أن فائدة الحياة والمقصود منها هو «العلم» و «الإحساس»، فمتى عدمهما الحيّ فكأنه قد خرج عن حكم الحيّ، ولذلك جعل النّوم موتا، إذ كان النائم لا يشعر بما بحضرته، كما لا يشعر الميّت. والدرجة الأولى في هذا أن يقال: «فلان لا يعقل» و «هو بهيمة» و «حمار» وما أشبه ذلك، مما يحطّه عن معاني المعرفة الشريفة، ثم أن يقال: «فلان لا يعلم ولا يفقه ولا يحسّ»، فينفى عنه العلم والإحساس جملة لضعف أمره فيه، وغلبة الجهل عليه، ثم يجعل التعريض تصريحا فيقال: «هو ميّت خارج من الحياة» و «هو جماد»، توكيدا وتناهيا في إبعاده عن العلم والمعرفة، وتشدّدا في الحكم بأن لا مطمع في انحسار غيابة الجهل عنه (¬1)، وإفاقته مما به من سكرة الغيّ والغفلة وأن يؤثّر فيه الوعظ والتنبيه. ثم لما كان هذا مستقرا في العادة، أعني جعل الجاهل ميّتا، خرج منه أن يكون المستحقّ لصفة الحياة هو العالم المتيقظ لوجه الرّشد. ثم لمّا لم يكن علم أشرف وأعلى من العلم بوحدانية الله تعالى، وبما نزّله على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، جعل من حصل له (¬2) هذا العلم بعد أن لم يكن، كأنه وجد الحياة وصارت صفة له، مع وجود نور الإيمان في قلبه، وجعل حالته السابقة التي خلا فيها من الإيمان كحالة الموت التي تعدم معه الحياة، وذلك قوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الأنعام: 122]، وأشباه ذلك. من هذا الباب قولهم: «فلان حيّ» و «حيّ القلب» يريدون أنه ثاقب الفهم ¬

_ (¬1) الغيابة: كل ما أظل الإنسان من فوق رأسه كالسحابة. (¬2) المناسب هذا العلم.

جيّد النظر، مستعدّ لتمييز الحق من الباطل فيما يرد عليه، بعيد من الغفلة التي كالموت ويذهبون به في وجه آخر، وهو أنه حرك (¬1) نافذ في الأمور غير بطيء النهوض وذلك أن هذه الأوصاف من أمارات الصحة واعتدال المزاج وتوقّد نار الحياة، وهذا يصلح في الإنسان والبهيمة، لأنه تعريض بالقدرة والقوة. والمذهب الأول إشارة في العلم والعقل، وكلتا الصفتين أعني القدرة والعلم مما يشرف به الحيّ، ومما يضادّه الموت وينافيه. ولما كان الأمر كذلك صار إطلاق «الحياة» مرة عبارة عن العلم، وأخرى عن القدرة وإطلاق الموت إشارة إلى عدم القدرة وضعفها تارة، وإلى عدم العلم وضعفه أخرى. والقول الجامع في هذا: أنّ تنزيل الوجود منزلة العدم إذا أريد المبالغة في حطّ الشيء والوضع منه وخروجه عن أن يعتدّ به، كقولهم: «هو والعدم سواء» معروف متمكن في العادات، وربما دعاهم الإيغال وحبّ السّرف إلى أن يطلبوا بعد العدم منزلة هي أدون منه، حتى يقعوا في ضرب من التهوّس، كقول أبي تمام: [من البسيط] وأنت أنزر من لا شيء في العدد (¬2) وقال ابن نباتة: [من البسيط] ما زلت أعطف أيّامي فتمنحني … نيلا أدقّ من المعدوم في العدم (¬3) ويتفرع على هذا إثبات الفضيلة للمذكور بإثبات اسم الشيء له، ويكون ذلك على وجهين: أحدهما: أن تريد المدح وإثبات المزيّة والفضل على غاية المبالغة، حتى لا تحصل عليه مزيدا. فإذا أردت ذلك جعلت الإثبات كأنه مقصور عليه لا يشارك فيه، وذلك قولك: «هذا هو الشيء وما عداه فليس بشيء»، أي: إن ما عداه إذا قيس إليه ¬

_ (¬1) غلام حرك: بوزن فرح خفيف ذكي. (¬2) البيت في ديوانه، وصدره: أفيّ تنظيم قول الزور والفند والفند: الخرف وإنكار العقل من الهرم أو المرض، والفند: الخطأ في الرأي والقول، وأفنده خطّأ رأيه، وفي التنزيل العزيز حكاية عن يعقوب عليه السلام: لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ. قال الفراء: يقول لولا أن تكذبوني وتعجزوني وتضعّفوني. (¬3) البيت من أبيات قالها في صباه، ذكرها الثعالبي في يتيمة الدهر 2/ 356. وابن نباتة: هو أبو نصر عبد العزيز بن عمر بن محمد بن أحمد الملقب بالسعدي.

صغر وحقر حتى لا يدخل في اعتداد، وحتى يكون وجدانه كفقدانه، فقد نزّلت الوجود فيمن عدا المذكور منزلة العدم. وأما أن يكون التفضيل على توسّط، ويكون القصد الإخبار بأنه غير ناقص على الجملة، ولا ملغى منزّل منزلة المعدوم، وذلك قولك: «هذا شيء»، أي: داخل في الاعتداد. وفي هذه الطريقة أيضا تفاوت، فإنك تقول مرة: «هذا إمّا لا، شيء»، تريد أن تقول: إن الآخر ليس بشيء ولا اعتداد به أصلا. وتقول أخرى: «هذا شيء»، تريد: شيء له قدر وخطر. وتجري لك هذه الوجوه في أسماء الأجناس كلها تقول: «هذا هو الرجل ومن عداه فليس من الرجولية في شيء»، و «هذا هو الشعر فحسب»، تبالغ في التفضيل، وتجعل حقيقة الجنسية مقصورة على المذكور. وتقول: «هذا رجل» تريد: كامل من الرجال، لا أن من عداه فليس برجل على الكمال. وقد تقول: «هذا، إمّا لا، رجل»، تريد: يستحقّ أن يعدّ في الرجال، ويكون قصدك أن تشير إلى أنّ هناك واحدا آخر لا يدخل في الاعتداد أصلا ولا يستحق اسم الرجل. وإذا كان هذا هو الطريق المهيع في الوضع من الشيء وترك الاعتداد به، والتفضيل له والمبالغة في الاعتداد به، فكل صفتين تضادّتا، ثم أريد نقص الفاضلة منهما، عبّر عن نقصها باسم ضدّها، فجعلت الحياة العارية من فضيلة العلم والقدرة «موتا»، والبصر والسمع إذا لم ينتفع صاحبهما بما يسمع ويبصر فلم يفهم معنى المسموع ولم يعتبر بالمبصر أو لم يعرف حقيقته عمى وصمما، وقيل للرجل: «هو أعمى أصمّ»، يراد أنه لا يستفيد شيئا مما يسمع ويبصر، فكأنه لم يسمع ولم يبصر. وسواء عبّرت عن نقص الصفة بوجود ضدّها، أو وصفها بمجرّد العدم، وذلك أنّ في إثبات أحد الضدّين وصفا للشيء، نفيا للضدّ الآخر، لاستحالة أن يوجدا معا فيه، فيكون الشّخص حيّا ميّتا معا، أصمّ سمعيا في حالة واحدة. فقولك في الجاهل: «هو ميّت»، بمنزلة قولك: «ليس بحيّ»، وأن الوجود في حياته بمنزلة العدم. هذا هو ظاهر المذهب في الأمر والحكم إذا أطلق القول، فأما إذا قيّد كقوله: [من السريع] أصمّ عمّا ساءه سميع فتثبت له الصفتان معا على الجملة، إلّا أن مرجع ذلك إلى أن يقال إنه كان يفقد السمع في حال ويعود إليه في حال أو أنه في حقّ هذا الجنس فاقد الإدراك مسلوبه،

وفيما عداه كائن على حكم السميع. فلم يثبت له الصم على الجملة، إلّا للحكم بأن وجود سمعه كالعدم، إلا أن ذلك في شيء دون شيء، وعلى التقييد دون الإطلاق. فقد تبيّن أن أصل هذا الباب تنزيل الموجود منزلة المعدوم، لكونه بحيث لا يعتدّ به وخلوّه من الفضيلة. والطريق الثاني في شبه المعقول من المعقول: أن لا يكون على تنزيل الوجود منزلة العدم، ولكن على اعتبار صفة معقولة يتصوّر وجودها مع ضدّ ما استعرت اسمه. فمن ذلك أن يراد وصف الأمر بالشدة والصعوبة، وبالبلوغ في كونه مكروها إلى الغاية القصوى، فيقال: «لقي الموت»، يريدون لقي الأمر الأشدّ الصعب الذي هو في كراهة النّفس له كالموت. ومعلوم أنّ كون الشيء شديدا صعبا مكروها صفة معلومة لا تنافي الحياة، ولا يمنع وجودها معه، كما يمنع وجود الموت مع الحياة ألا ترى أن كراهة الموت موجودة في الإنسان قبل حصوله، كيف وأكره ما يكون الموت إذا صفت مشاعر الحياة، وخصبت مسارح اللذّات. فكلما كانت الحياة أمكن وأتمّ، كانت الكراهة للموت أقوى وأشدّ، ولم تخفّ كراهته على العارفين إلا لرغبتهم في الحياة الدائمة الصافية من الشوائب، بعد أن تزول عنه هذه الحياة الفانية ويدركهم الموت فيها، فتصوّرهم لذّة الأمن منه، قلّل كراهتهم له، كما أن ثقة العالم بما يعقبه الدواء من الصحة، تهوّن عليه مرارته. فقد عبرت هاهنا عن شدّة الأمر بالموت، واستعرته له من أجلها. والشّدة ومحصولها الكراهة، موجودة في كل واحد من المستعار له والمستعار منه فليس التشبيه إذن من طريق الحكم على الوجود بالعدم، وتنزيل ما هو موجود كأنه قد خلع صفة الوجود. وذلك أن هذا الحكم إنما جرى في تشبيه الجهل بالموت، وجعل الجاهل ميّتا من حيث كان للجهل ضدّ ينافي الموت ويضادّه وهو العلم. فلما أردت أن تبالغ في نفي العلم الذي يجب مع نفيه الجهل، وجعلت الجهل موتا لتؤيس من حصول العلم للمذكور. وليس لك هذا في وصف الأمر الشديد المكروه بأنه موت، ألا ترى أن قوله: [من السريع] لا تحسبنّ الموت موت البلى … وإنما الموت سؤال الرجال (¬1) ¬

_ (¬1) هذا البيت والذي يليه في كتاب الحيوان 3/ 130 - 132، والبيان والتبيين 2/ 171، ودلائل الإعجاز 256 ونسخته: أشد من ذاك على كل حال. والبيتان لم يعرف لهما قائل في دلائل الإعجاز.

لا يفيد أنّ للسّؤال ضدّا ينافي الموت أو يضادّه على الحقيقة، وأن هذا القائل قصد بجعل السؤال موتا نفى ذلك الضدّ، وأن يؤيس من وجوده وحصوله، بل أراد أن في السؤال كراهة ومرارة مثل ما في الموت، وأن نفس الحرّ تنفر عنه كما تنفر نفوس الحيوان جملة من الموت، وتطلب الحياة ما أمكن في الخلاص منه. فإن قلت: المعنى فيه أن السؤال يكسب الذلّ وينفي العزّ، والذليل كالميت لفقد القدرة والتصرّف، فصار كتسميتهم خمول الذكر موتا، والذكر بعد الموت حياة، كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: «مات خزّان المال، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة». قلت: إني آنس أنهم لم يقصدوا هذا المعنى في السؤال، وإنما أرادوا الكراهة، ولذلك قال بعد البيت الذي كتبته: كلاهما موت، ولكنّ ذا … أشدّ من ذاك لذلّ السّؤال (¬1) هذا، وليس كل ما يعبّر عنه بالموت لأنه يكره ويصعب ولا يستسلم له العاقل إلّا بعد أن تعوزه الحيل فإنه يحمل هذا المحمل، وينقاد لهذا التأويل، أترى المتنبي في قوله: [من المتقارب] وقد متّ أمس بها موتة … ولا يشتهي الموت من ذاقه (¬2) أراد شيئا غير أنه لقي شدّة. وأمّا العبارة عن خمول الذكر بالموت، فإنه وإن كان يدخل في تنزيل الوجود منزلة العدم، من حيث يقال: إن الخامل لمّا لم يذكر ولم يبن منه ما يتحدّث به، صار كالميت الذي لا يكون منه قول، بل ولا فعل يدلّ على وجوده فليس دخوله فيه ذلك الدخول. وذلك أن الجهل ينافي العلم ويضادّه كما لا يخفى، والعلم إذا وجد فقد وجدت الحياة حتما واجبا، وليس كذلك خمول ¬

_ (¬1) وفي نسخة. أشد من ذاك على كل حال. (¬2) الضمير راجع إلى الخمر فإن الكلام فيها، والبيت في ديوانه، وقال قبل هذا البيت: وجدت المدامة غلابة … تهيّج للقلب أشواقه تسيء من المرء تأديبه … ولكن تحسّن أخلاقه وأنفس ما للفتى لبّه … وذو اللب يكره إنفاقه قال شيخنا في قوله تسيء المرء تأديبه إلخ: أي تغلبه فتخرجه عن قيود الحشمة في اللفظ والحركات، ولكنها تغلب منه الخوف والبخل فيشجع ويسخو هذا ما يريده تحسينها لأخلاقه. (رشيد).

الذكر والذكر، لأنه ليس إذا وجد الذكر فقد وجدت الحياة، لأنك تحدّث عن الميت بأفعاله التي كانت منه في حال الحياة، فيتصوّر الذكر ولا حياة على الحقيقة، ولا يتصوّر العلم ولا حياة على الحقيقة. وهكذا القول في الطرف الآخر، وهو تسمية من لا يعلم ميّتا. وذلك أن الموت هاهنا عبارة عن عدم العلم وانتفائه، وعدم العلم على الإطلاق، حتى لا يوجد منه شيء أصلا، وحتى لا يصحّ وجوده، يقتضي وجود الموت على الحقيقة ولا يمكن أن يقال إنّ خمول الذكر يوجب الموت على الحقيقة. فأنت إذن في هذا تنزّل الوجود منزلة العدم على وجه لا ينصرف إلى الحقيقة ولا يصير إليها،. وإنما يمثّل ويخيّل. وأما في الضرب الأول وهو جعل من لا يعلم ميّتا ومن يعلم هو الحيّ فإنك تلاحظ الحقيقة وتشير إليها وتحطب في حبلها (¬1)، فاعرفه. وأمّا قولهم في الغنيّ إذا كان بخيلا لا ينتفع بماله: «إنّ غناه فقر»، فهو في الضرب الأول أعني تنزيل الوجود منزلة العدم لتعرّى الوجود مما هو المقصود منه. وذلك أن المال لا يراد لذاته، وإنما يراد للانتفاع به في الوجوه التي تعدّها العقلاء انتفاعا، فإذا حرم مالكه هذه الجدوى وهذه الفائدة، فملكه له وعدم الملك سواء، والغنى إذا صرف إلى المال، فلا معنى له سوى ملك الإنسان الشيء الكثير منه، ألا تراه يذكر مع الثروة فيقال: «غنيّ مثر مكثر»؟ فإذا تبين بالعلة التي مضت أنه لا يستفيد بملكه هذا المال معنى، وأن لا طائل له فيه، فقد ثبت أن غناه والفقر سواء، لأن الفقر أن لا يملك المال الكثير. وأمّا قول اللؤماء: إن انتفاعه في اعتقاده أنّه متى شاء انتفع به، وما يجد في نفسه من عزّة الاستظهار، وأنه يهاب ويكرم من أجله، فمن أضاليل المنى، وقد يهان ويذلّ ويعذّب بسببه حتى تنزع الروح دونه. ثم إن هذا كلام وضعه العقلاء الذين عرفوا ما الانتفاع، وهذا المخالف لا ينكر أن الانتفاع لو عدم كان ملكه الآن لمال وعدم ملكه سواء، وإنما جاء يتطلّب عذرا، ويرخي دون لؤمه سترا. ونظير هذا أنك ترى الظالم المجترئ على الأفعال القبيحة، يدّعي لنفسه الفضيلة بأنه مديد الباع طويل اليد، وأنه قادر على أن يلجئ غيره إلى التّطامن له، ثم لا يزيده احتجاجه إلا خزيا وذلا عند الله وعند الناس، وترى المصدّق له في دعواه ¬

_ (¬1) أي: تنصرها وتميل إليها. وحطب من باب ضرب. (رشيد).

أذمّ له وأهجى من المكذّب، لأن الذي صدّقه أيس من أن ينزع إلى الإنسانية بحال، والذي كذّب رجا أن ينزع عند التنبيه والكشف عن صورة القبيح. وأما قولهم في «القناعة» إنها الغنى كقوله: [من البسيط] إنّ القنوع الغنى لا كثرة المال (¬1) يريد القناعة، وكما قال الآخر: [من الكامل] إنّ القناعة فاعلمنّ غنى … والحرص يورث أهله الفقرا (¬2) وجعلهم الكثير المال، إذا كان شرها حريصا على الازدياد، فقيرا، فممّا يرجع إلى الحقيقة المحضة. وإن كان في ظاهر الكلام كالتشبيه والتمثيل، وذلك أن حقيقة الغنى هو انتفاء الحاجة والحاجة أن تريد الشيء ولا تجده، والكثير المال إذا كان الحرص عليه غالبا، والشّره له أبدا صاحبا، كان حاله كحال من به كلب الجوع يأكل ولا يشبع، أو من به البغر يشرب ولا يروى. فكما إنّ إصابته من الطعام والشراب القدر الذي يشبع ويروى، إذا كان المزاج معتدلا والصّحة صحيحة، لا تنفي عنه صفة الجائع والظمآن لوجود الشهوة ودوام مطالبة النفس وبقاء لهيب الظمأ وجهد العطش. كذلك الكثير المال لا تحصل له صفة الغنى ولا تزول عنه صفة الفقر، مع بقاء حرصه الذي يديم له القرم والشّره والحاجة والطلب والضجر حين يفقد الزيادة التي يريدها، وحين يفوته بعض الرّبح من تجاراته وسائر متصرّفاته، وحتى لا يكاد يفصل بين حاله وقد فاته ما طلب، وبينها وقد أخذ بعض ماله وغصب. ومن أين تحصل حقيقة الغنى لذي المال الكثير؟ وقد تراه من بخله وشحّه كالمقيّد دون ما ملكه، والمغلول اليد يموت صبرا ويعاني بؤسا، ولا تمتدّ يده إلى ما يزعم أنه يملكه فينفقه في لذّة نفس، أو فيما يكسب حمدا اليوم وأجرا غدا، ذاك لأنه عدم كرما يبسط أنامله، وجودا ينصر أمله، وعقلا يبصّره، وهمّة تمكّنه مما لديه، وتسلّطه عليه، كما قال البحتري: وواجد مال أعوزته سجيّة … تسلّطه يوما على ذلك الوجد (¬3) فقولهم إذن: «إن القناعة هي الغنى لا كثرة المال»، إخبار عن حقيقة نفّذتها ¬

_ (¬1) البيت لمحمد بن يسير الحميري. والقنوع: السؤال؛ القانع: السائل، قال الله تعالى: فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج: 36]. (¬2) البيت غير معروف قائله. (¬3) البيت للبحتري في ديوانه. الوجد والوجد والوجد: اليسار والسعة. وفي التنزيل العزيز: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ، وقد قرئ بالثلاث. والواجد: الغني، قال الشاعر: الحمد لله الغني الواجد. [لسان العرب: وجد].

قضايا العقول، وصحّحتها الخبرة والعبرة، ولكن ربّ قضية من العقل نافذة قد صارت كأنها من الأمور المتجوّز فيها، أو دون ذلك في الصحة، لغلبة الجهل والسفه على الطباع، وذهاب من يعمل بالعقل ويذعن له، ويطرح الهوى، ويصبو إلى الجميل، ويأنف من القبيح، ولذهاب الحياء وبطلانه، وخروج الناس من سلطانه، ويأس العاقل من أن يصادف عندهم، إن نبّه أو ذكّر، سمعا يعي، وعقلا يراعي، فجري «الغنى» على كثرة المال، و «الفقر» على قلّته، مما يزيله العرف عن حقيقته في اللغة. ولما كان الظاهر من حال الكثير المال أنه لا يعجز عن شيء يريده من لذّاته وسائر مطالبه، سمّي المال الكثير «غنى»، وكذلك لمّا من كان قلّ ماله، عجز عن إرادته، سمّي قلّة المال «فقرا»، فهو من جنس تسمية السبب باسم المسبّب، وإلا فحقيقة «الغنى» انتفاء الاحتياج، وحقيقة «الفقر» الاحتياج، والله تعالى الغنيّ على الحقيقة، لاستحالة الاحتياج عليه جلّ وتعالى عن صفات المخلوقين. وعلى ذاك ما جاء في الخبر من أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع. قال: المفلس من أمّتي من يأتي يوم القيامة بصلاته وزكاته وصيامه، فيأتي وقد شتم هذا، وأكل مال هذا، وقذف هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يفنى ما عليه من الخطايا، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار». ذاك أنه صلّى الله عليه وسلّم بيّن الحكم في الآخرة. فلما كان الإنسان إنما يعدّ غنيّا في الدنيا بماله، لأنه يجتلب به المسرّة ويدفع المضرّة، وكان هذا الحكم في الآخرة، للعمل الصالح، ثبت لا محالة أن يكون الخالي، نعوذ بالله، من ذلك، هو «المفلس»، إذ قد عري مما لأجله يسمّى الخالي من المال في الدنيا «مفلسا»، وهو عدم ما يوصله إلى الخير والنعيم، ويقيه الشرّ والعذاب، نسأل الله التوفيق لما يؤمن من عقابه. وإذا كان البحث والنظر يقتضي أن «الغنى» و «الفقر» في هذا الوجه دالّان على حقيقة هذا التركيب في اللغة (¬1)، كقولك: «غنيت عن الشيء» و «استغنيت عنه، إذا لم تحتج إليه و «افتقرت إلى كذا»، إذا احتجت إليه وجب أن لا يعدواها هاهنا في المستعار والمنقول عن أصله. ¬

_ (¬1) قوله: «حقيقة هذا التركيب» أي: الحاجة إلى الشيء أو عدم الحاجة إليه قال شيخنا: والمراد من هذا التركيب ما ذكره بقوله: غنيت عن الشيء واستغنيت عنه. (رشيد).

فصل

فصل إن قال قائل: إنّ تنزيل الوجود منزلة العدم، أو العدم منزلة الوجود، ليس من حديث التشبيه في شيء، لأن التشبيه أن تثبت لهذا معنى من معاني ذاك، أو حكما من أحكامه، كإثباتك للرجل شجاعة الأسد، وللحجة حكم النّور، في أنك تفصل بها بين الحق والباطل، كما يفصل بالنور بين الأشياء. وإذا قلت في الرجل القليل المعاني: «هو معدوم»، أو قلت: «هو والعدم سواء»، فلست تأخذ له شبها من شيء، ولكنك تنفيه وتبطل وجوده، كما أنك إذا قلت: «ليس هو بشيء» أو «ليس برجل»، كان كذلك. وكما لا يسمّى أحد نحو قولنا: «ليس بشيء» تشبيها، كذلك ينبغي أن لا يكون قولك: وأنت تقلّل الشيء أخبرت عنه «معدوم» تشبيها. وكذلك إذا جعلت المعدوم موجودا كقولك مثلا للمال يذهب ويفنى ويثمر صاحبه ذكرا جميلا وثناء حسنا: «إنه باق لك موجود». لم يكن ذلك تشبيها، بل إنكارا لقول من نفى عنه الوجود، حتى كأنك تقول: «عينه باقية كما كانت، وإنما استبدل بصورة صورة فصار جمالا، بعد ما كان مالا، ومكارم، بعد أن كان دراهم». وإذا ثبت هذا في نفس الوجود والعدم، ثبت في كل ما كان على طريق تنزيل الصفة الموجودة كأنها غير موجودة، نحو ما ذكرت من جعل الموت عبارة عن الجهل، فلم يكن ذلك تشبيها، لأنه إذا كان لا يراد بجعل الجاهل ميّتا إلا نفي الحياة عنه مبالغة، ونفي العلم والتمييز والإحساس الذي لا يكون إلا مع الحياة، كان محصوله أنك لم تعتدّ بحياته، وترك الاعتداد بالصفة لا يكون تشبيها، إنما نفي لها وإنكار لقول من أثبتها. فالجواب: إن الأمر كما ذكرت، ولكنّي تتبّعت فيما وضعته ظاهر الحال، ونظرت إلى قولهم: «موجود كالمعدوم»، و «شيء كلا شيء»، و «وجود شبيه بالعدم»، فإن أبيت أن تعمل على هذا الظاهر لم أضايق فيه، إلا أن من حقّك أن تعلم أنه لا غنى بك عن حفظ الترتيب الذي رتّبته في إعطاء المعقول اسم معقول آخر أعني لا بدّ من أن تعلم أنه يجيء على طريقين: أحدهما: تنزيل الوجود منزلة العدم، كما مضى من أنّ جعل الموت عبارة عن الجهل، وإيقاع اسمه عليه يرجع إلى تنزيل حياته الموجودة كأنها معدومة، والثاني: أن لا يكون هذا المعنى، ولكن على أنّ لأحد المعنيين شبها من الآخر، نحو أن السؤال يشبه، في كراهته وصعوبته على نفس الحرّ، الموت.

التشبيه والتمثيل

واعلم أني ذكرت لك في تمثيل هذه الأصول الواضح الظاهر القريب المتناول الكائن من قبيل المتعارف في كل لسان، وما تجد اعترافا به وموافقة عليه من كل إنسان، أو ما يشابه هذا الحدّ ويشاكله، ويداخل هذا الضّرب ويشاركه، ولم أذكر ما يدقّ ويغمض، ويلطف ويغرب، وما هو من الأسرار التي أثارتها الصنعة، وغاصت عليها فكرة الأفراد من ذوي البراعة في الشّعر، لأن القصد إذا كان لتمهيد الأساس، ووضع قواعد القياس، كان الأولى أن يعمد إلى ما هو أظهر وأجلى من الأمثلة، لتكون الحجة بها عامّة لا يصرف وجهها بحال، والشهادة تامة لا تجد من السامعين غير قبول وإقبال، حتى إذا تمهّدت القواعد، وأحكمت العرى والمعاقد، أخذ حينئذ في تتبّع ما اخترعته القرائح، وعمد إلى حل المشكلات عن ثقة بأن هيّئت المفاتح، هذا وفي الاستعارة بعد من جهة القوانين والأصول، شغل للفكر، ومذهب للقول، وخفايا ولطائف تبرز من حجبها بالرّفق والتدريج والتلطّف والتأنّي. ولكني أظنّ أنّ الصواب أن أنقل الكلام إلى القول على التشبيه والتمثيل وحقيقتهما والمراد منهما، خصوصا في كلام من يتكلم على الشعر، ونتعرّف أهما متساويان في المعنى، أو مختلفان، أم جنسهما واحد، إلا أن أحدهما أخصّ من الآخر؟ وأنا أضع لك جملة من القول تبين بها هذه الأمور. التشبيه والتمثيل أقسام التشبيه اعلم أن الشيئين إذا شبّه أحدهما بالآخر كان ذلك على ضربين: أحدهما: أن يكون من جهة أمر بيّن لا يحتاج إلى تأوّل. والثاني: أن يكون الشبه محصّلا بضرب من التأوّل. فمثال الأول: تشبيه الشيء بالشيء من جهة الصّورة والشكل، نحو أن يشبّه الشيء إذا استدار بالكرة في وجه، وبالحلقة في وجه آخر وكالتشبيه من جهة اللّون، كتشبيه الخدود بالورد، والشعر بالليل، والوجه بالنهار، وتشبيه سقط النار (¬1) بعين الديك، وما جرى في هذا الطريق أو جمع الصّورة واللون معا، كتشبيه الثّريّا بعنقود ¬

_ (¬1) السقط- مثلثة والكسر أشهر- ما يسقط بين الزندين عقد القدح، وزاد بعضهم: قبل استحكام الورى، وهو القدح.

الكرم المنوّر، والنرجس بمداهن درّ حشوهن عقيق، وكذلك التشبيه من جهة الهيئة نحو: أنه مستو منتصب مديد، كتشبيه قامة الرّجل بالرمح، والقدّ اللطيف بالغصن ويدخل في الهيئة حال الحركات في أجسامها، كتشبيه الذاهب على الاستقامة بالسّهم السديد، ومن تأخذه الأريحيّة فيهتزّ بالغصن تحت البارح، ونحو ذلك وكذلك كل تشبيه جمع بين شيئين فيما يدخل تحت الحواسّ، نحو تشبيهك صوت بعض الأشياء بصوت غيره، كتشبيه أطيط الرحل بأصوات الفراريج، كما قال: [من البسيط] كأنّ أصوات، من إيغالهنّ بنا، … أواخر الميس إنقاض الفراريج (¬1) تقدير البيت «كأن أصوات أواخر الميس أصوات الفراريج من إيغالهن بنا» ثم فصل بين المضاف والمضاف إليه بقوله: «من إيغالهن» وكتشبيه صريف أنياب البعير بصياح البوازي، كما قال: [من الطويل] كأنّ على أنيابها سحرة … صياح البوازي من صريف اللّوائك (¬2) وأشباه ذلك من الأصوات المشبهة له وكتشبيه بعض الفواكه الحلوة بالعسل والسكّر وتشبيه اللّين الناعم بالخزّ، والخشن بالمسح، أو رائحة بعض الرياحين برائحة الكافور أو رائحة بعضها ببعض كما لا يخفى، وهكذا التشبيه من جهة الغريزة والطباع، كتشبيه الرجل بالأسد في الشجاعة، وبالذئب في النكر. والأخلاق كلّها تدخل في الغريزة نحو السّخاء والكرم واللؤم، وكذلك تشبيه الرجل بالرجل في الشدة والقوة وما يتصل بهما. فالشبه في هذا كلّه بيّن لا يجري فيه التأوّل، ولا يفتقر إليه في تحصيله، وأيّ ¬

_ (¬1) البيت لذي الرمة في ديوانه في قصيدة: «كأنها بكرة أدماء». ص 42. الإيغال: التقدم والدخول؛ الميس: شجر تعمل منه الرحال، ويعني: الرحل. (¬2) البيت لذي الرمة في ديوانه ص 192، وصيغته هكذا: كأن على أنيابه كل سدفة … صياح البوازي من صريف اللوائك السّحر والسّحر: آخر الليل قبيل الصبح، والجمع أسحار. والسّحرة: السّحر، وقيل: أعلى السحر، وقيل: هو من ثلث الليل الآخر إلى طلوع الفجر. واللوائك. جمع لائك، ولائكة: واللوك: أهون المضغ، وقيل: هو مضغ الشيء الصلب الممضغة تديره في فيك، قال الشاعر: ولو كهم جدل الحصى بشفاههم … كأنّ على أكتافهم فلقا صخرا واللّوك: إدارة الشيء في الفم. [لسان العرب: لوك].

تأوّل يجري في مشابهة الخدّ للورد في الحمرة، وأنت تراها هاهنا كما تراها هناك؟ وكذلك تعلم الشّجاعة في الأسد كما تعلمها في الرجل. ومثال الثاني: وهو أشبه الذي يحصل بضرب من التأوّل، كقولك: «هذه حجّة كالشمس في الظهور»، وقد شبّهت الحجة بالشمس من جهة ظهورها، كما شبّهت فيما مضى الشيء بالشيء من جهة ما أردت من لون أو صورة أو غيرهما. إلا أنك تعلم أن هذا التشبيه لا يتمّ لك إلا بتأوّل، وذلك أن تقول: حقيقة ظهور الشمس وغيرها من الأجسام أن لا يكون دونها حجاب ونحوه، مما يحول بين العين وبين رؤيتها، ولذلك يظهر الشيء لك إذا لم يكن بينك وبينه حجاب، ولا يظهر لك إذا كنت من وراء حجاب. ثم تقول: إن الشبهة نظير الحجاب فيما يدرك بالعقول، لأنها تمنع القلب رؤية ما هي شبهة فيه، كما يمنع الحجاب العين أن ترى ما هو من ورائه. ولذلك توصف الشبهة بأنها اعترضت دون الذي يروم القلب إدراكه، ويصرف فكره للوصول إليه من صحّة حكم أو فساده. فإذا ارتفعت الشبهة وحصل العلم بمعنى الكلام الذي هو الحجّة على صحّة ما ادّعي من الحكم قيل: «هذا ظاهر كالشمس»، أي ليس هاهنا مانع عن العلم به، لا للتوقف والشكّ فيه مساغ، وأنّ المنكر له إمّا مدخول في عقله أو جاحد مباهت، ومسرف في العناد، كما أن الشمس الطالعة لا يشكّ فيها ذو بصر، ولا ينكرها إلّا من لا عذر له في إنكاره. فقد احتجت في تحصيل الشبه الذي أثبته بين الحجّة والشمس إلى مثل هذا التأوّل كما ترى. ثم إنّ ما طريقه التأوّل يتفاوت تفاوتا شديدا، فمنه ما يقرب مأخذه ويسهل الوصول إليه، ويعطى المقادة طوعا، حتى إنه يكاد يداخل الضرب الأول الذي ليس من التأول في شيء، وهو ما ذكرته لك ومنه ما يحتاج فيه إلى قدر من التأمّل، ومنه ما يدقّ ويغمض حتى يحتاج في استخراجه إلى فضل رويّة ولطف فكرة. فمما يشبه الذي بدأت به في قرب المأخذ وسهولة المأتى، قوله في صفة الكلام: «ألفاظه كالماء في السلاسة»، و «كالنسيم في الرّقة»، و «كالعسل في الحلاوة»، يريدون أن اللفظ لا يستغلق ولا يشتبه معناه ولا يصعب الوقوف عليه، وليس هو بغريب وحشيّ يستكره، لكونه غير مألوف، أو ليس في حروفه تكرير وتنافر يكدّ

اللسان من أجلهما (¬1)، فصارت لذلك كالماء الذي يسوغ في الحلق، والنسيم يسري في البدن، ويتخلّل المسالك اللطيفة منه، ويهدي إلى القلب روحا، ويوجد في الصدر انشراحا، ويفيد النفس نشاطا، وكالعسل الذي يلذّ طعمه، وتهشّ النفس له، ويميل الطبع إليه، ويحبّ وروده عليه، فهذا كله تأوّل، وردّ شيء إلى شيء بضرب من التلطف، وهو أدخل قليلا في حقيقة التأوّل، وأقوى حالا في الحاجة إليه، من تشبيه الحجّة بالشمس. وأما ما تقوى فيه الحاجة إلى التأوّل حتى لا يعرف المقصود من التشبيه فيه ببديهة السماع، فنحو قول كعب الأشقريّ، وقد أوفده المهلّب على الحجّاج، فوصف له بنيه وذكر مكانهم من الفضل والبأس، فسأله في آخر القصّة قال: «فكيف كان بنو المهلب فيهم (¬2)؟ قال: كانوا حماة السرح نهارا، فإذا أليلوا ففرسان البيات (¬3)، قال: فأيّهم كان أنجد؟ قال: كانوا كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها» (¬4). فهذا كما ترى ظاهر الأمر في فقره إلى فضل الرّفق به والنظر. ألا ترى أنه لا يفهمه حقّ فهمه إلا من له ذهن ونظر يرتفع به عن طبقة العامّة؟ وليس كذلك تشبيه الحجّة بالشمس، فإنه كالمشترك البيّن الاشتراك، حتى يستوي في معرفته، اللبيب واليقظ والمضعوف المغفّل، وهكذا تشبيه الألفاظ بما ذكرت، قد تجده في كلام العامي. فأمّا ما كان مذهبه في اللّطف مذهب قوله: «هم كالحلقة»، فلا تراه إلا في الآداب والحكم المأثورة عن الفضلاء وذوي العقول الكاملة. ¬

_ (¬1) الكد: الإتعاب. ويقال: كد لسانه تجوزا كما في الأساس. (¬2) أي: في القوم المحاربين. (¬3) السرح: المال السائم من الأنعام. وأليلوا (كأكرموا) دخلوا في الليل والبيات الهجوم على العدو ليلا. قال شيخنا أي: يقظون لا يطرقهم طارق إلا كانوا على صهوات خير لهم لملاقاته وأنهم يتبعون العدو ليلا فيفجعونه اه. (رشيد). (¬4) هذا المثل من كلام فاطمة بنت الخرشب (بضم فسكون فضم) الأنمارية إحدى المنجبات في الجاهلية وهي أم الكملة من بني عبس الربيع وعمارة وأنس الفوارس وإخوتهم. سألها أبو سفيان حين قدمت عليه مكة حاجة في الجاهلية «أي بنيك أفضل؟» فقالت: الربيع لا بل عمارة لا بل أنس الفوارس، ثكلتهم إن كنت أدري أيهم أفضل، هم كالحلقة المفرغة إلخ. فقد أخذه كعب الأشقري ووصف به بني المهلب. (رشيد).

الفرق بين التشبيه والتمثيل

الفرق بين التشبيه والتمثيل وإذ قد عرفت الفرق بين الضّربين، فاعلم أن التشبيه عامّ والتمثيل أخصّ منه، فكل تمثيل تشبيه، وليس كلّ تشبيه تمثيلا، فأنت تقول في قول قيس بن الخطيم: [من الطويل] وقد لاح في الصّبح الثريّا لمن رأى … كعنقود ملّاحيّة حين نوّرا (¬1) «إنّه تشبيه حسن»، ولا تقول: «هو تمثيل»، وكذلك تقول: «ابن المعتزّ حسن التشبيهات بديعها»، لأنك تعني تشبيهه المبصرات بعضها ببعض، وكلّ ما لا يوجد الشبه فيه من طريق التأوّل، كقوله: [من الطويل] كأنّ عيون النّرجس الغضّ حولها … مداهن درّ حشوهنّ عقيق (¬2) وقوله: [من الكامل] وأرى الثّريّا في السّماء كأنّها … قد تبدّت من ثياب حداد (¬3) وقوله: [من مجزوء الخفيف] وتروم الثّريا … في الغروب مراما كانكباب طمرّ … كاد يلقى اللّجاما (¬4) وقوله: [من المنسرح] ¬

_ (¬1) البيت هو في الأغاني لأبي قيس بن الأسلت. الأغاني: 17/ 134. وفي لسان العرب لأبي قيس أيضا، مادة: (ملح). والملّاحية: الملّاحي بالضم وتشديد اللام: ضرب من العنب أبيض في حبه طول، وهو من الملحة. [لسان العرب: ملح]. (¬2) البيت لابن المعتز، (وهو غير موجود في ديوانه طبعة دار صادر). المداهن: جمع مدهن: وهو آلة الدهن، وهو أحد ما شذّ من هذا الضرب على مفعل مما يستعمل من الأدوات. الليث: المدهن كان في الأصل مدهنا فلما كثر الاستعمال ضموه. [لسان العرب: دهن]. (¬3) البيت لابن المعتز في ديوانه 177 (طبعة دار صادر) وقبله: قم يا نديمي نصطبح بسواد … قد كان يبدو الصبح أو هو باد وأرى الثريا .......... … ................. (¬4) البيتان لابن المعتز في ديوانه ص 402، وصيغتهما والبيت قبلهما (طبعة دار صادر): يا خليليّ هبّا … واسقياني المداما إذ تروم الثريّا … في الغروب مراما كاسيات طمرّ … كاد يلقى اللجاما والطّمرّ: بتشديد الراء، الطمرير والطمرور: الفرس الجواد وقيل: المشمّر الخلق، وقيل: المستفزّ للوثب والعدو، وقيل: هو الطويل القوائم الخفيف، وقيل: المستعدّ للعدو، والأنثى: طمرّة. [لسان العرب: طمر].

قد انقضت دولة الصيام وقد … بشّر سقم الهلال بالعيد يتلو الثريا كفاغر شره … يفتح فاه لأكل عنقود (¬1) وقوله: [من السريع] لمّا تعرّى أفق الضّياء … مثل ابتسام الشّفة اللّمياء وشمطت ذوائب الظّلماء … قدنا لعين الوحش والظّباء داهية محذورة اللّقاء … ويعرف الزّجر من الدّعاء بأذن ساقطة الأرجاء … كوردة السّوسنة الشّهباء ذا برثن كمثقب الحذّاء … ومقلة قليلة الأقذاء صافية كقطرة من ماء (¬2) وما كان من هذا الجنس ولا تريد نحو قوله: [من الكامل] اصبر على مضض الحسو … د فإنّ صبرك قاتله فالنّار تأكل نفسها … إن لم تجد ما تأكله (¬3) وذلك أن إحسانه في النوع الأول أكثر، وهو به أشهر. وكل ما لا يصحّ أن يسمّى «تمثيلا» فلفظ «المثل» لا يستعمل فيه أيضا، فلا يقال: «ابن المعتزّ حسن الأمثال»، تريد به نحو الأبيات التي قدّمتها، وإنما يقال: «صالح بن عبد القدّوس كثير الأمثال في شعره»، يراد نحو قوله: [من السريع] وإنّ من أدّبته في الصّبا … كالعود يسقى الماء في غرسه حتّى تراه مورقا ناضرا … بعد الذي أبصرت من يبسه (¬4) وما أشبهه، مما الشبه فيه من قبيل ما يجري في التأوّل، ولكن إن قلت في قول ابن المعتز: فالنار تأكل نفسها … إن لم تجد ما تأكله إنه «تمثيل»، فمثل الذي قلت ينبغي أن يقال، لأن تشبيه الحسود إذا صبر ¬

_ (¬1) البيتان لابن المعتز في ديوانه ص 181، والبيت الثاني في الديوان (دار صادر) هكذا: علّلاني بصوت ناي وعود … واسقياني دم ابنة العنقود (¬2) الأبيات لابن المعتز، وهي غير متتالية (انظر الديوان ص 18، 19). (¬3) البيتان لابن المعتز، ولم أجدهما في الديوان (طبعة دار صادر). (¬4) البيتان لصالح بن عبد القدوس في ديوانه ص 142، وفي التبيان في المعاني والبيان ص 268.

فصل

وسكت عنه، وترك غيظه يتردّد فيه بالنار التي لا تمدّ بالحطب حتى يأكل بعضها بعضا، مما حاجته إلى التأوّل ظاهرة بيّنة. فقد تبيّن بهذه الجملة وجه الفرق بين «التشبيه»، و «التمثيل». وفي تتبّع ما أجملت من أمرهما، وسلوك طريق التحقيق فيهما، ضرب من القول ينشط له من يأنس بالحقائق. فصل اعلم أن الذي أوجب أن يكون في التشبيه هذا الانقسام، أنّ الاشتراك في الصفة يقع مرّة في نفسها وحقيقة جنسها، ومرة في حكم لها ومقتضى. فالخدّ يشارك الورد في الحمرة نفسها وتجدها في الموضعين بحقيقتها واللفظ يشارك العسل في الحلاوة، لا من حيث جنسه، بل من جهة حكم وأمر يقتضيه، وهو ما يجده الذائق في نفسه من اللّذّة، والحالة التي تحصل في النفس إذا صادفت بحاسّة الذّوق ما يميل إليه الطبع ويقع منه بالموافقة، فلمّا كان كذلك، احتيج لا محالة إذا شبّه بالعسل في الحلاوة أن يبيّن أنّ هذا التشبيه ليس من جهة الحلاوة نفسها وجنسها، ولكن من مقتضى لها، وصفة تتجدّد في النفس بسببها، وأنّ القصد أن يخبر بأنّ السامع يجد عند وقوع هذا اللفظ في سمعه حالة في نفسه، شبيهة بالحالة التي يجدها الذائق للحلاوة من العسل، حتى لو تمثّلت الحالتان للعيون، لكانتا تريان على صورة واحدة، ولوجدتا من التناسب على حدّ الحمرة من الخدّ، والحمرة من الورد. وليس هاهنا عبارة أخصّ بهذا البيان من «التأوّل»، لأن حقيقة قولنا: «تأوّلت الشيء»، أنك تطلّبت ما يؤول إليه من الحقيقة، أو الموضع الذي يؤول إليه من العقل، لأن «أوّلت وتأوّلت» فعّلت وتفعّلت من «آل الأمر إلى كذا يؤول»، إذا انتهى إليه، و «المآل»، المرجع وليس قول من جعل «أوّلت وتأوّلت» من «أوّل» بشيء، لأن ما فاؤه وعينه من وضع واحد «ككوكب» و «ددن» لا يصرّف منه فعل، و «أوّل» «أفعل» بدلالة قولنا: «أوّل منه»، كقولنا: «أسبق منه وأقدم». فالواو الأولى فاء والثانية عين وليس هذا موضع الكلام في ذلك فيستقصى. وأما الضرب الأول، فإذا كان المثبت من الشبه في الفرع من جنس المثبت في الأصل، كان أصلا بنفسه، وكان ظاهر أمره وباطنه واحدا، وكان حاصل جمعك بين الورد والخد، أنك وجدت في هذا وذاك حمرة، والجنس لا تتغير حقيقته بأن يوجد

فصل

في شيئين، وإنما يتصوّر فيه التفاوت بالكثرة والقلّة والضعف والقوة، نحو أن حمرة هذا الشيء أكثر وأشد من حمرة ذاك. وإذا تقرّرت هذه الجملة، حصل من العلم بها أن التشبيه الحقيقي الأصلي هو الضرب الأول، وأن هذا الضرب فرع له ومرتّب عليه. ويزيد ذلك بيانا: أنّ مدار التشبيه على أنه يقتضي ضربا من الاشتراك، ومعلوم أن الاشتراك في نفس الصفة، أسبق في التصوّر من الاشتراك في مقتضى الصفة كما أن الصفة نفسها مقدّمة في الوهم على مقتضاها، فالحلاوة أوّلا، ثم إنها تقتضي اللذّة في نفس الذائق لها. وإذا تأملنا متصرّف (¬1) تركيبه، وجدناه يقتضي أن يكون الشيئان من الاتفاق والاشتراك في الوصف، بحيث يجوز أن يتوهّم أن أحدهما الآخر. وهكذا تراه في العرف والمعقول، فإنّ العقلاء يؤكّدون أبدا أمر المشابهة بأن يقولوا: «لا يمكنك أن تفرق بينهما»، ولو رأيت هذا بعد أن رأيت ذاك لم تعلم أنك رأيت شيئا غير الأوّل، حتى تستدلّ بأمر خارج عن الصّورة. ومعلوم أن هذه القضية إنما توجد على الإطلاق والوجود الحقيقي في الضرب الأول وأمّا الضرب الثاني، فإنما يجيء فيه على سبيل التقدير والتنزيل، فأما أن لا تجد فصلا بين ما يقتضيه العسل في نفس الذائق، وما يحصل باللفظ المرضيّ والكلام المقبول في نفس السامع، فما لا يمكن ادّعاؤه إلّا على نوع من المقاربة أو المجازفة، فأمّا على التحقيق والقطع فلا. فالمشابهات المتأوّلة التي ينتزعها العقل من الشيء للشيء، لا تكون في حدّ المشابهات الأصلية الظاهرة، بل الشبه العقلي كأنّ الشيء (¬2) به يكون شبيها بالمشبّه. فصل ثم إن هذا الشبه العقلي ربما انتزع من شيء واحد، كما مضى انتزاع الشّبه للفظ من حلاوة العسل وربما انتزع من عدّة أمور يجمع بعضها إلى بعض، ثم يستخرج من مجموعها الشبه، فيكون سبيله سبيل الشيئين يمزج أحدهما بالآخر، حتى تحدث صورة غير ما كان لهما في حال الإفراد، لا سبيل الشيئين يجمع بينهما وتحفظ صورتهما. ¬

_ (¬1) وفي نسخة: منصرف بالنون. (¬2) وفي نسخة «كاد الشيء» بدل كان الشيء.

ومثال ذلك قوله عزّ وجلّ: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة: 5]، الشبه منتزع من أحوال الحمار، وهو أنه يحمل الأسفار التي هي أوعية العلوم ومستودع ثمر العقول، ثم لا يحسّ بما فيها ولا يشعر بمضمونها، ولا يفرّق بينها وبين سائر الأحمال التي ليست من العلم في شيء، ولا من الدّلالة عليه بسبيل، فليس له مما يحمل حظّ سوى أنه يثقل عليه، ويكدّ جنبيه فهو كما ترى مقتضى أمور مجموعة، ونتيجة لأشياء ألّفت وقرن بعضها إلى بعض. بيان ذلك: أنه احتيج إلى أن يراعى من الحمار فعل مخصوص، وهو الحمل، وأن يكون المحمول شيئا مخصوصا، وهو الأسفار التي فيها أمارات تدلّ على العلوم، وأن يثلّث ذلك بجهل الحمار ما فيها، حتى يحصل الشبه المقصود. ثم إنه لا يحصل من كل واحد من هذه الأمور على الانفراد، ولا يتصوّر أن يقال إنه تشبيه بعد تشبيه، من غير أن يقف الأول على الثّاني، ويدخل الثاني في الأول، لأن الشّبه لا يتعلق بالحمل حتى يكون من الحمار، ثم لا يتعلق أيضا بحمل الحمار حتى يكون المحمول الأسفار، ثم لا يتعلق بهذا كله حتى يقترن به جهل الحمار بالأسفار المحمولة على ظهره فما لم تجعله كالخيط الممدود، ولم يمزج حتى يكون القياس قياس أشياء يبالغ في مزاجها حتى تتحد وتخرج عن أن تعرف صورة كلّ واحد منها على الانفراد، بل تبطل صورها المفردة التي كانت قبل المزاج، وتحدث صورة خاصة غير اللواتي عهدت، ويحصل مذاقها (¬1) حتى لو فرضت حصولها لك في تلك الأشياء من غير امتزاج، فرضت ما لا يكون لم يتمّ المقصود، ولم تحصل النتيجة المطلوبة، وهي الذمّ بالشقاء في شيء يتعلق به غرض جليل وفائدة شريفة، مع حرمان ذلك الغرض وعدم الوصول إلى تلك الفائدة، واستصحاب ما يتضمن المنافع العظيمة والنعم الخطيرة، من غير أن يكون ذلك الاستصحاب سببا إلى نيل شيء من تلك المنافع والنّعم. ومثال ما يجيء فيه التشبيه معقودا على أمرين إلا أنهما لا يتشابكان هذا التشابك قولهم: «هو يصفو ويكدر» و «يمرّ ويحلو» و «يشجّ ويأسو»، و «يسرح ويلجم»، لأنك وإن كنت أردت أن تجمع له الصّفتين، فليست إحداهما ممتزجة بالأخرى، لأنك لو قلت: «هو يصفو»، ولم تتعرض لذكر «الكدر» أو قلت: ¬

_ (¬1) وفي نسخة: تحصل بذاتها.

فصل

«يحلو»، ولم يسبق ذكر «يمرّ»، وجدت المعنى في تشبيهك له بالماء في الصّفاء وبالعسل في الحلاوة بحاله وعلى حقيقته. وليس كذلك الأمر في الآية لأنك لو قلت: «كالحمار يحمل أسفارا»، ولم تعتبر أن يكون جهل الحمار مقرونا بحمله، وأن يكون متعدّيا إلى ما تعدّى إليه الحمل، لم يتحصل لك المغزى منه. وكذلك لو قلت: «هم كالحمار في أنه يجهل الأسفار»، ولم تشرط أن يكون حمله الأسفار مقرونا بجهله لها لكان كذلك. وكذلك لو ذكرت الحمل والجهل مطلقين، ولم تجعل لهما المفعول المخصوص الذي هو الأسفار، فقلت: «هو كالحمار في أنه يحمل ويجهل»، وقعت من التشبيه المقصود في الآية بأبعد البعد، والنكتة أن التشبيه بالحمل للأسفار، إنما كان بشرط أن يقترن به الجهل، ولم يكن الوصف بالصّفاء والتشبيه بالماء فيه بشرط أن يقترن به الكدر، ولذلك لو قلت: «يصفو ولا يكدر» لم تزد في صميم التشبيه وحقيقته شيئا، وإنما استدمت الصّفة كقولك: «يصفو أبدا وعلى كل حال». فصل اعلم أن الشّبه إذا انتزع من الوصف لم يخل من وجهين: أحدهما: أن يكون لأمر يرجع إلى نفسه. والآخر: أن يكون لأمر لا يرجع إلى نفسه. فالأوّل: ما مضى في نحو تشبيه الكلام بالعسل في الحلاوة، وذلك أنّ وجه التشبيه هناك أنّ كل واحد منهما يوجب في النفس لذّة وحالة محمودة، ويصادف منها قبولا. وهذا حكم واجب للحلاوة من حيث هي حلاوة، أو للعسل من حيث هو عسل. وأما الثاني: وهو ما ينتزع منه الشبه لأمر لا يرجع إلى نفسه، فمثاله أن يتعدّى الفعل إلى شيء مخصوص يكون له من أجله حكم خاصّ، نحو كونه واقعا في موقعه وعلى الصواب، أو واقعا غير موقعه، كقولهم: «هو كالقابض على الماء» و «الراقم في الماء»، فالشبه هاهنا منتزع ممّا بين القبض والماء، وليس بمنزع من القبض نفسه، وذلك أن فائدة قبض اليد على الشيء أن يحصل فيها، فإذا كان الشيء مما لا يتماسك، ففعلك القبض في اليد لغو وكذلك القصد في «الرّقم» أن يبقى أثر في الشيء، وإذا فعلته فيما لا يقبله، كان فعلك كلا فعل وكذلك قولهم: «يضرب في حديد بارد» وينفخ في غير فحم».

وإذا ثبت هذا، فكل شبه كان هذا سبيله، فإنك لا تجد بين المعنى المذكور وبين المشبّه إذا أفردته، ملابسة البتة. ألا تراك تضرب الرّقم في الماء والقبض عليه، لأمور لا شبه بينهما وبينها البتة، من حيث هما رقم وقبض؟. وإذا قد عرفت هذا فالحمل في الآية من هذا القبيل أيضا، لأنه تضمّن الشّبه من اليهود، لا لأمر يرجع إلى حقيقة الحمل، بل لأمرين آخرين: أحدهما تعدّيه إلى الأسفار، والآخر اقتران الجهل للأسفار به. وإذا كان الأمر كذلك، كان قطعك الحمل عن هذين الأمرين في البعد من الغرض، كقطعك القبض والرّقم عن الماء، في استحالة أن يعقل منها ما يعقل بعد تعدّيهما إلى الماء بوجه من الوجوه، فاعرفه. فإن قلت: ففي اليهود شبه من الحمل، من حيث هو حمل على حال. وذلك أن الحافظ للشيء بقلبه، يشبه الحامل للشيء على ظهره، وعلى ذلك يقال: «حملة الحديث»، و «حملة العلم» كما جاء في الأثر: «يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله» (¬1)، و «ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه». فالجواب: أن الأمر وإن كان كذلك، فإنّ هذا الشبه لم يقصدها هنا وإنما قصد ما يوجبه تعدّي الحمل إلى الأسفار، مع اقتران الجهل بها به، وهو العناء بلا منفعة. يبيّن ذلك: أنك قد تقول للرجل يحمل في كمّه أبدا دفاتر علم، وهو بليد لا يفهم، أو كسلان لا يتعلم: «إن كان يحمل كتب العلم فالحمار أيضا قد يحمل»، تريد أن تبطل دعواه أن له في حمله فائدة، وأن تسوّي بينه وبين الحمار في فقد الفائدة مما يحمل. فالحمل هاهنا نفسه موجود في المشبّه بالحمار، ثم التشبيه لا ينصرف إليه من حيث هو حمل، وإنما ينصرف إلى ما ذكرت لك من عدم الجدوى والفائدة. وإنما يتصوّر أن يكون الشّبه راجعا إلى الحمل من حيث هو حمل، حيث يوصف الرجل مثلا بكثرة الحفظ للوظائف، أو جهد النفس في الأشغال المتراكمة، وذلك خارج عن الغرض مما نحن فيه. ¬

_ (¬1) هذا الحديث وما بعده حديث آخر. أما الأول فقد رواه ابن منده وغيره مرفوعا من حديث إبراهيم ابن عبد الرحمن العذري وهو مختلف في صحبته ولفظه «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» والبيهقي في المدخل مرسلا وضعفه الكثيرون، وروي عن أحمد تصحيحه، وكتب شيخنا على حاشية نسخته: قال القعنبي: سمعت رجلا يحدث مالكا هذا الحديث فأعجبه. والخلف بالتحريك والسكون: كل من يجيء بعد من سبقه، إلا أنه بالتحريك في الخير وبالتسكين في الشر، وأما الآخر فهو من ضمن حديث رواه الترمذي والضياء عن زيد بن ثابت بسند صحيح. (رشيد).

ومن هذا الباب قولهم: «أخذ القوس باريها»، وذلك أن المعنى على وقوع الأخذ في موقعه ووجوده من أهله، فلست تشبّهه من حيث الأخذ نفسه وجنسه، ولكن من حيث الحكم الحاصل له بوقوعه من باري القوس على القوس. وكذلك قولهم: «ما زال يفتل منه في الذّروة والغارب» الشبه مأخوذ ما بين الفتل وما تعدّى إليه من الذّروة والغارب، ولو أفردته لم تجد شبها بينه وبين ما يضرب هذا الكلام مثلا له، لأنه يضرب في الفعل أو القول يصرف به الإنسان عن الامتناع إلى الإجابة، وعن الإباء عليك مرادك، إلى موافقتك والمصير إلى ما تريد منه. وهذا لا يوجد في الفتل من حيث هو فتل، وإنما يوجد في الفتل إذا وقع في الشّعر من ذروة البعير وغاربه (¬1). واعلم أن هذا الشبه حكمه واحد، سواء أخذته ما بين الفعل والمفعول الصريح، أو ما يجري مجرى المفعول. فالمفعول كالقوس في قولك: «أخذ القوس باريها». وما يجري مجرى المفعول، الجارّ مع المجرور، كقولك: «الرّقم في الماء» و «هو كمن يخطّ في الماء». وكذلك الحال، كقولهم: «كالحادي وليس له بعير»، فقولك: «وليس له بعير»، جملة من الحال، وقد احتاج الشبه إليها، لأنه مأخوذ ما بين المعنى الذي هو «الحدو»، وبين هذه الحال، كما كان مأخوذا بين الرقم والماء، وما بين الفتل والذروة والغارب. وقد تجد بك حاجة إلى مفعول وإلى الجارّ مع المجرور كقولك: «وهل يجمع السيفان في غمد»، و «أنت كمن يجمع السيفين في غمد»، ألا ترى أن الجمع فيه لا يغني بتعدّيه إلى السيفين، حتى يشترط كونه جمعا لهما في الغمد؟ فمجموع ذلك كله يحصّل الغرض. وهكذا نحو قول العامّة: «هو كثير الجور على إلفه»، وقولهم: «كمبتغي ¬

_ (¬1) في حديث الزبير: «سأل عائشة الخروج إلى البصرة فأبت عليه فما زال يفتل في الذروة والغارب حتى أجابته» جعل وبر ذروة البعير وغاربه مثلا لإزالتها عن رأيها كما يفعل بالجمل النفور إذا أريد تأنيسه وإزالة نفاره. والذروة أعلى السنام من البعير، والغارب: الكاهل من (ذي) الخف وهو ما بين السنام والعنق اه. (رشيد).

الصّيد في عرّيسة الأسد»، لأن «الصيد» مفعول و «في عرّيسة» جارّ مع المجرور. فإذا ثبت هذا، ظهر منه أنه لا بدّ لك في هذا الضرب من الشّبه من جملة صريحة أو حكم الجملة. فالجملة الصريحة قولك: «أخذ القوس باريها» وحكم الجملة أن تقول: «هذا منك كالرّقم في الماء»، و «كالقابض على الماء»، فتأتي باسم الفاعل. وذاك أنّ المصدر واسم الفاعل ليسا بجملتين صريحا ولكن حكم الجملة قائم فيهما، وهو أنك أعملتهما عمل الفعل. ألا ترى أنك عدّيتهما على حسب ما تعدّى الفعل؟ وخصائص هذا النوع من «التمثيل» أكثر من أن تضبط، وقد وقفتك على الطريقة. فهذا أحد الوجوه التي يكون الشّبه العقلي بها حاصلا لك من جملة من الكلام، وأظنّه من أقوى الأسباب والعلل فيه. وعلى الجملة، فينبغي أن تعلم أن المثل الحقيقي، والتشبيه الذي هو الأولى بأن يسمّى «تمثيلا» لبعده عن التشبيه الظاهر الصريح، ما تجده لا يحصل لك إلا من جملة من الكلام أو جملتين أو أكثر، حتى إنّ التشبيه كلما كان أوغل في كونه عقليّا محضا، كانت الحاجة إلى الجملة أكثر. ألا ترى إلى نحو قوله عزّ وجلّ: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ [يونس: 24]، كيف كثرت الجمل فيه؟ حتى إنك ترى في هذه الآية عشر جمل إذا فصّلت. وهي وإن كان قد دخل بعضها في بعض حتى كأنها جملة واحدة، فإن ذلك لا يمنع من أن تكون صور الجمل معنا حاصلة تشير إليها واحدة واحدة. ثم إنّ الشبه منتزع من مجموعها، من غير أن يمكن فصل بعضها عن بعض، وإفراد شطر من شطر، حتى إنك لو حذفت منها جملة واحدة من أيّ موضع كان، أخلّ ذلك بالمغزى من التشبيه. ولا ينبغي أن تعدّ الجمل في هذا النحو بعدّ التشبيهات التي يضمّ بعضها إلى بعض، والأغراض الكثيرة التي كل واحد منها منفرد بنفسه، بل بعدّ جمل تنسق ثانية منها على أوّلة، وثالثة على ثانية، وهكذا. فإنّ ما كان من هذا الجنس لم تترتّب فيه الجمل ترتيبا مخصوصا حتى يجب أن تكون هذه سابقة وتلك تالية والثالثة بعدهما. ألا ترى أنك إذا قلت: «زيد كالأسد بأسا، والبحر جودا، والسيف مضاء، والبدر بهاء»، لم يجب عليك أن تحفظ في هذه التشبيهات نظاما مخصوصا؟ بل لو

بدأت بالبدر وتشبيهه به في الحسن، وأخّرت تشبيهه بالأسد في الشجاعة، كان المعنى بحاله، وقوله: [من السريع] النّشر مسك والوجوه دنا … نير وأطراف الأكفّ عنم (¬1) إنما يجب حفظ هذا الترتيب فيها لأجل الشّعر، فأمّا أن تكون هذه الجمل متداخلة كتداخل الجمل في الآية، وواجبا فيها أن يكون لها نسق مخصوص كالنسق في الأشياء إذا رتّبت ترتيبا مخصوصا كان لمجموعها صورة خاصّة فلا (¬2). وقد يجيء الشيء من هذا القبيل يتوهّم فيه أن إحدى الجملتين أو الجمل تنفرد وتستعمل بنفسها تشبيها وتمثيلا، ثم لا يكون كذلك عند حسن التأمل، مثال ذلك قوله: [من الطويل] كما أبرقت قوما عطاشا غمامة … فلما رجوها أقشعت وتجلّت (¬3) هذا مثل في أن يظهر للمضطرّ إلى الشيء، الشديد الحاجة إليه، أمارة وجوده، ثم يفوته ويبقى لذلك بحسرة وزيادة ترح. وقد يمكن أن يقال: «إن قولك: «أبرقت قوما عطاشا غمامة»، تشبيه مستقلّ بنفسه، لا حاجة به إلى ما بعده من تمام البيت في إفادة المقصود الذي هو ظهور أمر مطمع لمن هو شديد الحاجة، إلّا أنه وإن كان كذلك، فإن حقّنا أن ننظر في مغزى المتكلم في تشبيهه. ونحن نعلم أن المغزى أن يصل ابتداء مطمعا بانتهاء مؤيس، وذلك يقتضي وقوف الجملة الأوّلة على ما بعدها من تمام البيت. ووزان هذا أن الشرط والجزاء جملتان، ولكنا نقول: إنّ حكمهما حكم جملة ¬

_ (¬1) البيت للمرقش الأكبر في المفضليات، وفي لسان العرب (مادة: نشر). النّشر: الريح الطيبة، العنم: شجر لين الأغصان لطيفها يشبه به البنان كأنه بنان العذارى، واحدتها عنمة، وهو مما يستاك به، وقيل: العنم أغصان تنبت في سوق العضاه رطبة لا تشبه سائر أغصانها، حمر اللون، وقيل: هو ضرب من الشجر له نور أحمر تشبّه به الأصابع المخضوبة. [لسان العرب: عنم]. وأراد النشر مثل ريح المسك، لا يكون إلا على ذلك، لأن النشر عرض، والمسك جوهر، وقوله: والوجوه دنانير، الوجه أيضا لا يكون دينارا، إنما أراد مثل الدنانير، وكذلك قال: وأطراف الأكف عنم إنما أراد مثل العنم لأن الجوهر لا يتحول إلى جوهر آخر. [لسان العرب: نشر]. (¬2) وفي نسخة زيادة لفظ (مقررة) بعد خاصة. (¬3) البيت لكثير عزة في ديوانه ص 107، وفي التبيان في المعاني والبيان ص 268. أبرقت: جاءت ببرق، أقشعت: انقشع عنه الشيء وتقشّع غشيه ثم انجلى عنه، كالظلام عن الصبح، والهم عن القلب، والسحاب عن الجو.

واحدة، من حيث دخل في الكلام معنى يربط إحداهما بالأخرى، حتى صارت الجملة لذلك بمنزلة الاسم المفرد في امتناع أن تحصل به الفائدة. فلو قلت: «إن تأتني» وسكتّ، لم تفد كما لا تفيد إذا قلت: «زيد» وسكتّ، فلم تذكر اسما آخر ولا فعلا، ولا كان منويّا في النفس معلوما من دليل الحال. ثم إن الأمر، وإن كان كذلك، فقد يجوز أن تخرج الكلام عن الجزاء فتقول: «تأتيني»، فتعود الجملة على الإفادة، لإغنائك لها عن أن ترتبط بأخرى، وإزالتك المعنى الذي أوجب فقرها إلى صاحبة لها، إلا أن الغرض الأوّل يبطل والمعنى يتبدّل، فكذلك الاقتصار على الجملة التي هي: «أبرقت قوما عطاشا غمامة»، يخرج عن غرض الشاعر. فإن قلت: فهذا يلزمك في قولك: «هو يصفو ويكدر». وذلك أن الاقتصار على أحد الأمرين يبطل غرض القائل، وقصده أن يصف الرجل بأنه يجمع الصفتين، وأن الصفاء لا يدوم. فالجواب: أن بين الموضعين فرقا، وإن كان يغمض قليلا، وهو أن الغرض في البيت أن يثبت ابتداء مطمعا مؤنسا أدّى إلى انتهاء مؤيس موحش، وكون الشيء ابتداء لآخر هو له انتهاء، معنى زائد على الجمع بين الأمرين، والوصف بأن كلّ واحد منها يوجد في المقصود. وليس لك في قولك: «يصفو ويكدر»، أكثر من الجمع بين الوصفين. ونظير هذا أن تقول: «هو كالصّفو بعد الكدر»، في حصول معنى يجب (¬1) معه ربط أحد الوصفين بالآخر في الذكر ويتعيّن به الغرض، حتى لو قلت: «يكدر ثم يصفو»، فجئت بثمّ التي توجب الثاني مرتّبا على الأوّل، وأنّ أحدهما مبتدأ والآخر بعده، صرت بالجملة إلى حد ما نحن عليه من الارتباط، ووجوب أن يتعلّق الحكم بمجموعهما، ويوجد الشبه إن شبّهت ما بينهما، على التشابك والتداخل، دون التباين والتزايل. ومن الواضح في كون الشّبه معلّقا بمجموع الجملتين، حتى لا يقع في الوهم تميّز إحداهما على الأخرى قوله: «بلغني أنك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيّهما شئت والسّلام» 2، وذلك أن المقصود من هذا الكلام: التردّد بين الأمرين، وترجيح الرأي فيهما، ولا يتصوّر التردّد والترجيح في الشيء الواحد، فلو جهدت وهمك أن تتصوّر لقولك: «تقدّم رجلا» معنى وفائدة ما لم تقل: «وتؤخّر أخرى»، أو تنوه في قلبك، كلّفت نفسك شططا. ¬

_ (¬1) وفي نسخة: يوجب بدل يجب.

وذكر أبو أحمد العسكري أن هذا النحو من الكلام يسمّى: «المماثلة»، وهذه التسمية توهم أنه شيء غير المراد «بالمثل» و «التمثيل» وليس الأمر كذلك، كيف وأنت تقول: «مثلك مثل من يقدم رجلا ويؤخّر أخرى»؟ ووزان هذا أنك تقول: «زيد الأسد»، فيكون تشبيها على الحقيقة وإن كنت لم تصرّح بحرف التشبيه ومثله أنك تقول: «أنت ترقم في الماء»، و «تضرب في حديد بارد»، و «تنفخ في غير فحم»، فلا تذكر ما يدلّ صريحا على أنك تشبّه، ولكنك تعلم أن المعنى على قولك: «أنت كمن يرقم في الماء، وكمن يضرب في حديد بارد، وكمن ينفخ في غير فحم»، وما أشبه ذلك مما تجيء فيه بمشّبه به ظاهر تقع هذه الأفعال في صلة اسمه أو صفته. واعلم أن «المثل» قد يضرب بجمل لا بدّ فيها من أن يتقدّمها مذكور يكون مشبّها به، ولا يمكن حذف المشبّه به والاقتصار على ذكر المشبّه، ونقل الكلام إليه حتى كأنه صاحب الجملة، إلا أنه مشبّه بمن صفته وحكمه مضمون تلك الجملة. بيان هذا، أن قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «النّاس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة» (¬1)، لا بدّ فيه من المحافظة على ذكر المشبّه به الذي هو «الإبل»، فلو قلت: «الناس لا تجد فيهم راحلة أو «لا تجد في الناس راحلة»، كان ظاهر التعسّف. وهاهنا ما هو أشدّ اقتضاء للمحافظة على ذكر ما تعلّق الجملة به وتسند إليه، وذلك مثل قوله عزّ وجلّ: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ [يونس: 24]، لو أردت أن تحذف «الماء» الذي هو المشبّه به، وتنقل الكلام إلى المشبّه الذي هو «الحياة»، أردت ما لا تحصل منه على كلام يعقل، لأن الأفعال المذكورة المحدّث بها عن الماء، لا يصحّ إجراؤها على الحياة فاحفظ هذا الأصل فإنك تحتاج إليه، وخصوصا في الاستعارة، على ما يجيء القول فيه إن شاء الله تعالى. والجملة إذا جاءت بعد المشبّه به، لم تخل من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون المشبّه به معبّرا عنه بلفظ موصول، وتكون الجملة صلة، ¬

_ (¬1) رواه مسلم عن ابن عمر بلفظ: «تجدون الناس كإبل مائة لا يجد الرجل فيها راحلة» واختلفوا فيه على أقوال: قال النووي: أجودها أن معناه: المرضى الأحوال من الناس الكامل الأوصاف الحسن المنظر القوي على الأحمال والأسفار، وسميت راحلة لأنها ترحل أي: يجعل عليها الرحل، فهي فاعله: بمعنى مفعولة كعيشة راضية بمعنى مرضية ونظائره اه. (رشيد).

فصل في مواقع التمثيل وتأثيره

كقولك: «أنت الذي من شأنه كيت وكيت»، كقوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ [البقرة: 17]. والثاني: أن يكون المشبّه به نكرة تقع الجملة صفة له، كقولنا: «أنت كرجل من أمره كذا وكذا»، وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «النّاس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة»، وأشباه ذلك. والثالث: أن تجيء مبتدأة، وذلك إذا كان المشبّه به معرفة، ولم يكن هناك «الذي»، كقوله تعالى: كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً [العنكبوت: 41]. فصل في مواقع التمثيل وتأثيره واعلم أنّ مما اتفق العقلاء عليه، أن «التمثيل» إذا جاء في أعقاب المعاني، أو برزت هي باختصار في معرضه (¬1)، ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته، كساها أبّهة، وكسبها منقبة، ورفع من أقدارها، وشبّ من نارها، وضاعف قواها في تحريك النّفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفا، وقسر الطّباع على أن تعطيها محبّة وشغفا. فإن كان مدحا، كان أبهى وأفخم، وأنبل في النفوس وأعظم، وأهزّ للعطف، ¬

_ (¬1) يقول إن للتمثيل مظهرين، ويتجلى للأنظار في ثوبين (أحدهما) أن يجيء المعنى ابتداء في صورة التمثيل، وهو النادر القليل. ولكنه على قلته في كلام البلغاء كثير في القرآن العزيز، فمنه قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً الآية، وقوله بعدها: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ الآية. وقوله عز وجل: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً، وقوله تبارك وتعالى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً الآية، وقوله: تبارك اسمه أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ الآية. وغير ذلك. (وثانيهما) ما يتأثر المعاني ويجيء في أعقابها لإيضاحها وتقريرها في النفوس وإيداعها التأثير المخصوص، وهو الذي جعله المصنف أولا، مثاله من القرآن قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ فقد أورده بعد ما قرر أمر التوحيد من أول السورة وشنع على الذين اتخذوا من دونه أولياء يقربونهم إليه زلفى، ونصب الدلائل على نفي هذا الشرك وذكر الجزاء. ومثله من الشعر ما يجيء في ضروب الكلام الآتية. (رشيد).

وأسرع للإلف، وأجلب للفرح، وأغلب على الممتدح، وأوجب شفاعة للمادح، وأقضى له بغرّ المواهب والمنائح، وأسير على الألسن وأذكر، وأولى بأن تعلقه القلوب وأجدر (¬1). وإن كان ذمّا، كان مسّه أوجع، وميسمه ألذع، ووقعه أشده، وحدّه أحدّ (¬2). وإن كان حجابا، كان برهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبيانه أبهر (¬3). ¬

_ (¬1) مثاله من القرآن قوله تعالى في وصف الصحابة: وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ومن الشعر قولنا في المقصورة: وإن قسا وديده لان وإن … يكدر عليه راق وردا وصفا يؤمن منه الطيش في شرته … والحلم والإغضاء منه يرتجى تواضع عن شمم ورفعة … ورقة من غير عجز وونى ألم تر الهواء في رقته … ولطفه أوتي شدة القوى يكاد يلمس الثريا رفعه … من حيث تلقاه يصافح الثرى والتمثيل في البيتين الأخيرين وهو من النوع الأول، ومنها قول بعضهم: فتى عيش في معروفه بعد موته … كما كان بعد السيل مجراه مرتعا (رشيد). (¬2) مثاله من القرآن قوله تعالى في الذي أوتي الآيات فانسلخ منها: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ أي: يخرج لسانه من العطش أو التعب وهو من باب منع، وقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ* وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ومقمحون من أقمح الغل الأسير: ترك رأسه مرفوعا لضيقه، ومن الشعر قوله: رأيتكم تبدون للحرب عدة … ولا يمنع الأسلاب منكم مقاتل فأنتم كمثل النخل يشرع شوكه … ولا يمنع الخراف ما هو حامل الخراف بالتشديد صيغة مبالغة اسم الفاعل من حرف الثمار إذا جناها ومنه المثل: ولو لبس الحمار ثياب خز … لقال الناس يا لك من حمار (رشيد). (¬3) مثاله من القرآن ما تقدم من الآيات في بيان طريقتي التمثيل ومن الشعر قول أبي العتاهية: ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها … إن السفينة لا تجري على اليبس وقول غيره: ونار لو نفخت بها أضاءت … ولكن أنت تنفخ في رماد ومن الأمثال: «إن العوان لا تعلم الخمرة» وهي بكسر المعجمة الهيئة من الخمار والعوان بالفتح النصف من النساء أي التي بين الشابة والعجوز، والمثل يضرب في المجرب العارف المستغني عن التعليم. ومنها كدابغة وقد حلم الأديم، أي: أفسده الحلم وهو بالتحريك دود صغير وقيل: الحلمة الصغيرة من القردان والضخمة ضد. (رشيد).

وإن كان افتخارا، كان شأوه أمدّ، وشرفه أجدّ، ولسانه ألدّ (¬1). وإن كان اعتذارا، كان إلى القبول أقرب، وللقلوب أخلب، وللسّخائم أسلّ، ولغرب الغضب أفلّ، وفي عقد العقود أنفث، وعلى حسن الرجوع أبعث (¬2). وإن كان وعظا، كان أشفى للصدر، وأدعى إلى الفكر، وأبلغ في التنبيه والزّجر، ¬

_ (¬1) الشأو: السبق والغاية والأمد. وقوله أجد أي: أعظم. والألد: الشديد الخصومة. ما يجيء في القرآن من بيان عظمة الله تعالى وكماله لا يسمى افتخارا ومثال هذا الضرب من الكلام العزيز وإن اختلفت التسمية قوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ومثاله من الشعر قول عبد المطلب: لا ينزل المجد إلا في منازلنا … كالنوم ليس له مأوى سوى المقل (رشيد). (¬2) السخائم: الضغائن، وسلها: نزعها واستخرجها، وغرب السيف: حده، وفل السيف: ثلمه، وللنفث في العقد هو النفخ فيها مع إلقاء شيء من الريق عليها لأجل تسهيل حلها. ومنه نفث الراقي في العقدة التي يعقدها ثم يحلها يوهم بذلك الناس أنه أبرم بعقدها رابطة المحبة بين فلان وفلانة وبحلها أنه حل ذلك العقد وأبطل ذلك الارتباط بسحره؟ وإن الكلام البليغ ليفعل بحسن التمثيل في حل عقد العقود ما لا يفعل السحر، وإن من البيان لسحرا. والاعتذار لا يوجد في القرآن إلا حكاية عن أصحاب المعاذير الكاذبة ليكون الاعتذار حجة عليهم فهو اعتذار في الظاهر واحتجاج في المعنى وأثره ما ذكر في الاحتجاج دون ما ذكر هنا كقوله تعالى: وَقالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ وأما أمثلته في الشعر فكثيرة منها: لا تحسبوا أن رقصي بينكم طرب … فالطير يرقص مذبوحا من الألم ومنها في الاعتذار عن صدود الحبيب: بأبي حبيبا زارني في غفلة … فبدا الوشاة له قولي معرضا فكأنني وكأنه وكأنهم … أمل ونيل حال بينهما القضا ومن الاعتذار بذكر التمثيل ما وقع لأبي تمام في قصيدة يمدح بها أحمد بن المعتصم قيل: إنه كان ينشده إياها فبلغ قوله: إقدام عمرو في سماحة حاتم … في حلم أحنف في ذكاء إياس فلامه بعض الناس قائلا: قد شبهت ابن عم النبي صلّى الله عليه وسلّم بأجلاف العرب (أو ما هذا معناه) فأطرق هنيهة وقال ولم يكونا من القصيدة: لا تنكروا ضربي له من دونه … مثلا شرودا في الندى والباس فالله قد ضرب الأقل لنوره … مثلا من المشكاة والنبراس وعمرو هذا هو ابن جابر بن هلال الفزاري ويقال العمران له ولبدر بن عمرو بن جؤبة الفزاري- ومما يصلح للاعتذار من الأمثال قولهم: «كل امرئ في بيته صبي» يعتذر به عن الدعابة والاسترسال في المباسطة في الخلوة وقولهم: «لو ترك القطا ليلا لنام». (رشيد).

وأجدر بأن يجلّي الغياية (¬1)، ويبصّر الغاية، ويبرئ العليل، ويشفي الغليل (¬2). وهكذا الحكم إذا استقريت فنون القول وضروبه، وتتبّعت أبوابه وشعوبه (¬3). ¬

_ (¬1) الغياية بياءين مثناتين: كل ما أظلك من فوق رأسك كالسحاب ونحوه. (¬2) مثاله من القرآن الكريم قوله تعالى في وصف نعيم الدنيا: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً الكفار الزراع لأنهم يكفرون الحب أي: يسترونه بالتراب، وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ الآية. وقوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا وقوله عز وجل: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ، وقوله سبحانه: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ، وقوله: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ، وقوله في الآية الأخرى: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ، وقوله في تمثيل من يحبط عمله الصالح بالإيذاء أو الرياء: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ، وفي معناه قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ. ومن الأمثال حديث: «إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» وحديث: «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات»، ومن الشعر قول ابن النبيه: الناس للموت كخيل الطراد … فالسابق السابق منها الجواد وقول غيره: وغير تقي يأمر الناس بالتقى … طبيب يداوي والطبيب مريض (رشيد). (¬3) يشير المصنف إلى سائر مناحي الكلام كالغزل والرثاء والوصف والشكوى وهي مع الذي ذكر وشائج متشابكة، وأمشاج متمازجة. وأعمها الوصف فهو الطويل الذيل، المتدفق السيل، ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ومثله قوله تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي الآية. ومنها قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها ، وقوله بعده: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ وهكذا الحق يثبت والباطل يزهق. ومن ذلك الرؤى فإنها تمثيل الواقع الذي تعبر به كالرؤى المذكورة في سورة يوسف عليه السلام. ومثاله من الشعر قول ابن النبيه: والليل تجري الدراري في بحرته … كالروض تطفو على نهر أزاهره وقول بعضهم في وصف الكأس يعلوها الحباب والساقي. (أو هذا من تعدد التشبيه): وكأنها وكأن حامل كأسها … إذ قام يجلوها على الندماء

وإن أردت أن تعرف ذلك وإن كان تقلّ الحاجة فيه إلى التعريف، ويستغنى في

_ شمس الضحى رقصت فنقط وجهها … بدر الدجى بكواكب الجوزاء وفي وصف الأمير والجيش: يهز الجيش حولك جانبيه … كما نفضت جناحيها العقاب ومنه قولنا في المقصورة في وصف الرفاق: لم تختلف في مبتدأ مسألة … إلا وكان للوفاق المنتهى كمن على المحيط من دائرة … أنى تفارقا فبعد ملتقى وقولنا منه في وصف روضة: والشمس تبدو من خلال دوحها … آونة تخفى وطورا تجتلى كغادة وضاحة قد تلعت … من خلل السجوف ترنو والكوى تلقى على الروض تثير عسجد … فتحسب الروض عروسا تجتلى وقولنا منها: والباسقات رفعت أكفها … تستنزل الغيث وتطلب الندى ثبت في العلوم الطبيعية أن الأشجار تكون سببا لنزول المطر فمثلت هنا بحال المستسقين يجاب دعاؤهم. ويليه قولنا: تمتلج الكربون من ضرع الهوا … تؤثرنا بالأكسجين المنتقى ومعناه أن الأشجار الباسقة ترضع غاز الكربون وتمتصه من الهواء تتغذى به وهو سام لنا وتترك لنا أكسجين الهواء المطهر للدم في أبداننا باستنشاقنا له في الهواء فمثلت بحال ما يضر الناس ويؤثرهم بما ينفعهم. وقول ابن دريد في وصف النوق: يرسبن في بحر الدجى بالضحى … يطفون في الآل إذا الآل طفا ومن أحسن ما يدخل في التمثيل باب الغراميات قول المجنون: وقد كنت أعلو حب ليلى فلم يزل … بي النقص والإبرام حتى علانيا وقوله: كأن القلب ليلة قيل يغدى … بليلى العامرية أو يراح قطاة عزها شرك فباتت … تجاذبه وقد علق الجناح وقول بعضهم: ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت … وقع السهام ونزعهن أليم وقول الآخر: إني وإياك كالصادي رأى نهلا … ودونه هوة يخشى بها التلفا رأى بعينيه ماء عز مورده … وليس يملك دون الماء منصرفا ومن الأمثال التي تدخل من باب الشكوى: «ليس لها راع ولكن حلبة» حلبة بالتحريك جمع حالب، والمثل يضرب للأمة المظلومة. «ولو كويت على داء لم أكره» ويضرب لمن يعاقب غير ذنب. «سال بهم وجاش بنا البحر». (رشيد).

الوقوف عليه عن التوقيف فانظر إلى نحو قول البحتري (¬1): [من الكامل] دان على أيدي العفاة، وشاسع … عن كل ندّ في النّدى وضريب كالبدر أفرط في العلوّ وضوءه … للعصبة السّارين جدّ قريب وفكّر في حالك وحال المعنى معك، وأنت في البيت الأول لم تنته إلى الثاني ولم تتدبّر نصرته إيّاه، وتمثيله له فيما يملي على الإنسان عيناه، ويؤدّي إليه ناظراه، ثم قسهما على الحال وقد وقفت عليه، وتأمّلت طرفيه، فإنك تعلم بعد ما بين حالتيك، وشدّة تفاوتهما في تمكّن المعنى لديك، وتحبّبه إليك، ونبله في نفسك، وتوفيره لأنسك، وتحكم لي بالصدق فيما قلت، والحقّ فيما ادّعيت وكذلك فتعهّد الفرق بين أن تقول: «فلان يكدّ نفسه في قراءة الكتب ولا يفهم منها شيئا» وتسكت، وبين أن تتلو الآية، وتنشد نحو قول الشاعر (¬2): [من الطويل] زوامل للأشعار لا علم عندهم … بجيّدها إلّا كعلم الأباعر لعمرك ما يدرى البعير إذا غدا … بأوساقه أو راح، ما في الغرائر والفصل بين أن تقول: «أرى قوما لهم بهاء ومنظر، وليس هناك مخبر، بل في الأخلاق دقّة، وفي الكرم ضعف وقلّة» وتقطع الكلام، وبين أن تتبعه نحو قول الحكيم: «أما البيت فحسن، وأما السّاكن فرديء»، وقول ابن لنكك (¬3): [من المنسرح] في شجر السرو منهم مثل … له رواء وما له ثمر وقول ابن الرّومي (¬4): [من الخفيف] فغدا كالخلاف يورق للعي … ن ويأبى الإثمار كلّ الإباء ¬

_ (¬1) البيتان في ديوانه، الضريب: المثل والنظير (راجع هامش رقم 4 ص 101). (¬2) البيتان لمروان بن سليمان بن يحيى بن أبي حفصة. يهجو قوما من رواة الشعر، وهو في دلائل الإعجاز: 254، والكامل للمبرد، واللسان (زمل). الزوامل: جمع زاملة: بعير يستظهر به الرجل يحمل عليه متاعه وطعامه. الأوساق: جمع وسق، وهو الحمل. الغرائر: جمع الغرارة: الجوالق. (¬3) البيت هو أحد ثلاثة أبيات ذكرها الثعالبي في يتيمة الدهر 2/ 323، قال: لا تخدعنك اللّحى ولا الصور … تسعة أعشار من ترى بقر تراهم كالسحاب منتشرا … وليس فيه لطالب مطر في شجر ............ … ................ .. والسّرو: شجر، واحدته سروة. (¬4) البيت في ديوانه: والخلاف: الصفصاف، وهو بأرض العرب كثير، ويسمى السّوحر وهو شجر عظام وأصنافه كثيرة، وكلها خوّار خفيف. [لسان العرب: خلف].

وقول الآخر: [من الطويل] فإن طرّة راقتك فانظر فربّما … أمرّ مذاق العود والعود أخضر (¬1) وانظر إلى المعنى في الحالة الثانية كيف يورق شجره ويثمر، ويفترّ ثغره ويبسم، وكيف تشتار الأري من مذاقته، كما ترى الحسن في شارته. وأنشد قول ابن لنكك: [من البسيط] إذا أخو الحسن أضحى فعله سمجا … رأيت صورته من أقبح الصور (¬2) وتبيّن المعنى واعرف مقداره، ثم أنشد البيت بعده: وهبك كالشّمس في حسن، ألم ترنا … نفرّ منها إذا مالت إلى الضّرر وانظر كيف يزيد شرفه عندك؟. وهكذا فتأمّل بيت أبي تمام: [من الكامل] وإذا أراد الله نشر فضيلة … طويت أتاح لها لسان حسود (¬3) مقطوعا عن البيت الذي يليه، والتّمثيل الذي يؤدّيه، واستقص في تعرّف قيمته، على وضوح معناه وحسن بزّته، ثم أتبعه إياه: لولا اشتعال النّار فيما جاورت … ما كان يعرف طيب عرف العود وانظر هل نشر المعنى تمام حلّته، وأظهر المكنون من حسنه، وزينته، وعطّرك بعرف عوده، وأراك النضرة في عوده، وطلع عليك من طلع سعوده، واستكمل فضله في النفس ونبله، واستحقّ التقديم كلّه، إلا بالبيت الأخير، وما فيه من التمثيل والتصوير؟. وكذلك فرق في بيت المتنبي: [من الوافر] ومن يك ذا فم مرّ مريض … يجد مرّا به الماء الزّلالا (¬4) ¬

_ (¬1) البيت في دلائل الإعجاز ص 555، غير معروف قائله. والطّرّة: طرة المزادة والثوب: علمها، وقيل: طرة الثوب موضع هدبه، وهي حاشيته التي لا هدب لها، وطرة الجارية: أن يقطع لها في مقدّم ناصيتها كالعلم أو كالطرة تحت التاج، والجمع: طرر وطرار. (¬2) هذا البيت والذي بعده في يتيمة الدهر 2/ 230. (¬3) البيت والذي يليه هما في ديوانه (أ) ص 277 (ب) 1/ 400. والعمدة 2/ 167، سر الفصاحة 135، المثل السائر 3/ 24، الإيضاح 330، الطراز 1/ 191، الإتقان 4/ 258، معاهد التنصيص 1/ 142، أخبار أبي تمام للصولي 77، نهاية الأرب 3/ 96، المصباح 113. (¬4) البيت في ديوانه، والتبيان ص 183. الزلال: الذي نزل في الحلق لعذوبته مثل السلسال. (المعنى):

لو كان سلك بالمعنى الظاهر من العبارة كقولك: «إن الجاهل الفاسد الطبع يتصوّر المعنى بغير صورته، ويخيّل إليه في الصواب أنه خطأ»، هل كنت تجد هذه الروعة، وهل كان يبلغ من وقم الجاهل ووقذه، وقمعه وردعه والتهجين له والكشف عن نقصه، ما بلغ التمثيل في البيت، وينتهي إلى حيث انتهى؟. وإن أردت اعتبار ذلك في الفنّ الذي هو أكرم وأشرف، فقابل بين أن تقول: «إن الذي يعظ ولا يتّعظ يضرّ بنفسه من حيث ينفع غيره»، وتقتصر عليه وبين أن تذكر المثل فيه على ما جاء في الخبر من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثل الّذي يعلّم الخير ولا يعمل به، مثل السّراج الذي يضيء للناس ويحرق نفسه»، ويروي: «مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها» (¬1). وكذا فوازن بين قولك للرجل تعظه: «إنك لا تجزى السيئة حسنة، فلا تغرّ نفسك» وتمسك، وبين أن تقول في أثره: «إنك لا تجني من الشّوك العنب، وإنما تحصد ما تزرع»، وأشباه ذلك. وكذا بين أن تقول: «لا تكلّم الجاهل بما لا يعرفه» ونحوه، وبين أن تقول: «لا تنثر الدّرّ قدّام الخنازير» أو: «لا تجعل الدّرّ في أفواه الكلاب»، وتنشد نحو قول الشافعي رحمه الله: أأنثر درّا بين سارحة الغنم (¬2) وكذا بين أن تقول: «الدنيا لا تدوم ولا تبقى»، وبين أن تقول: «هي ظلّ زائل، وعاريّة تستردّ، ووديعة تسترجع»، وتذكر قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من في الدنيا ضيف وما في يديه عاريّة، والضيف مرتحل، والعاريّة مؤدّاة»، وتنشد قول لبيد: [من الطويل] ¬

_ هذا مثل ضربه يقول مثلهم كمثل المريض الذي يجد الماء الزلال مرّا من مرارة فيه، يقول: هم يذموني لنقصهم وقلّة معرفتهم بي وبفضلي وبشعري، فالنقص فيهم لا فيّ، ولو صحت حواسهم لعرفوا فضلي، ولقد جود في هذا المعنى لأن المريض يجد كل حلو في فيه مرّا نقصا، فالمرارة من فمه لا من الشيء يدخله، وإنما العيب منه لا من الدواء، فأبو الطيب والأعداء كذلك، وهو من قول الحكيم النفس الكريمة ترى الأشياء كذلك. [التبيان 2/ 184]. (¬1) بهذا اللفظ رواه الطبراني في معجمه الكبير عن أبي برزة بسند حسن. (رشيد). (¬2) تمام البيت: وأنظم منثورا لراعية الغنم. وهي أبيات قالها بمصر في أثر مجيئه إليها لما كلمه بعض أصحاب مالك، وآخرها: فمن منح الجهال علما أضاعه … ومن منع المستوجبين فقد ظلم رواها السبكي في طبقات الشافعية 1/ 294.

وما المال والأهلون إلّا وديعة … ولا بدّ يوما أن تردّ الودائع (¬1) وقول الآخر: [من الرمل] إنّما نعمة قوم متعة … وحياة المرء ثوب مستعار (¬2) فهذه جملة من القول تخبر عن صيغ «التمثيل» وتخبر عن حال المعنى معه. فأما القول في العلّة والسبب، لم كان للتمثيل هذا التأثير؟ وبيان جهته ومأتاه، وما الذي أوجبه واقتضاه، فغيرها. وإذا بحثنا عن ذلك، وجدنا له أسبابا وعللا، كلّ منها يقتضي أن يفخم المعنى بالتمثيل، وينبل ويشرف ويكمل. فأوّل ذلك وأظهره، أنّ أنس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفيّ إلى جليّ، وتأتيها بصريح بعد مكنّى، وأن تردّها في الشيء تعلّمها إياه إلى شيء آخر هي بشأنه أعلم، وثقتها به في المعرفة أحكم نحو أن تنقلها عن العقل إلى الإحساس وعما يعلم بالفكر إلى ما يعلم بالاضطرار والطبع، لأن العلم المستفاد من طرق الحواسّ أو المركوز فيها من جهة الطبع وعلى حدّ الضرورة، يفضل المستفاد من جهة النّظر والفكر في القوة والاستحكام، وبلوغ الثقة فيه غاية التمام، كما قالوا: «ليس الخبر كالمعاينة» (¬3)، و «لا الظنّ كاليقين»، فلهذا يحصل بها العلم هذا الأنس أعني الأنس من جهة الاستحكام والقوة. ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه: ص 81، من قصيدة في رثاء أخيه، وفي الشعر والشعراء 1/ 279، والإيضاح 204، ولسان العرب 4/ 603 [عمر]، وتاج العروس [سمم]. (¬2) البيت للأفوه الأودي في ديوانه، وفي الطرائف الأدبية للراحكوتي، والحماسة البصرية. والأفوه: لقب، واسمه صلاءة بن عمرو بن مالك بن عوف بن الحارث بن عوف بن منبّه بن أود بن الصعب بن سعد العشيرة، وكان يقال لأبيه عمرو بن مالك فارس الشوهاء. [الأغاني 12/ 169]. (¬3) هذه الجملة حديث نبوي رواه الطبراني في الأوسط والخطيب عن أبي هريرة ورويناه مسلسلا بالأشراف عن شيخنا أبي المحاسن القاوقجي، ولا أذكر له رواية بزيادة ولا الظن كاليقين ورواه أحمد والحاكم والطبراني في الأوسط بسند صحيح عن ابن عباس بزيادة «إن الله تعالى أخبر موسى بما صنع قومه في العجل فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت». (رشيد).

وضرب آخر من الأنس، وهو ما يوجبه تقدّم الإلف، كما قيل (¬1): [من الكامل] ما الحبّ إلّا للحبيب الأوّل ومعلوم أن العلم الأوّل أتى النفس أوّلا من طريق الحواسّ والطباع، ثم من جهة النظر والرّويّة، فهو إذن أمسّ بها رحما، وأقوى لديها ذمما، وأقدم لها صحبة، وآكد عندها حرمة وإذ نقلتها في الشيء بمثله عن المدرك بالعقل المحض وبالفكرة في القلب، إلى ما يدرك بالحواسّ أو يعلم بالطّبع، وعلى حدّ الضرورة، فأنت إذن مع الشاعر وغير الشاعر إذا وقع المعنى في نفسك غير ممثّل ثم مثّله كمن يخبر عن شيء من وراء حجاب، ثم يكشف عنه الحجاب ويقول: «ها هو ذا، فأبصر تجده على ما وصفت». فإن قلت: إن الأنس بالمشاهدة بعد الصفة والخبر، إنما يكون لزوال الرّيب والشكّ في الأكثر، أفتقول: إن التمثيل إنما أنس به، لأنه يصحّح المعنى المذكور والصفة السابقة، ويثبت أن كونها جائز ووجودها صحيح غير مستحيل، حتى لا يكون تمثيل إلا كذلك؟. فالجواب: إن المعاني التي يجيء «التمثيل» في عقبها على ضربين: غريب بديع يمكن أن يخالف فيه، ويدّعى امتناعه واستحالة وجوده، وذلك نحو قوله: [من الوافر] فإن تفق الأنام وأنت منهم … فإنّ المسك بعض دم الغزال (¬2) وذلك أنه أراد أنه فاق الأنام وفاتهم إلى حدّ بطل معه أن يكون بينه وبينهم مشابهة ومقاربة، بل صار كأنه أصل بنفسه وجنس برأسه. وهذا أمر غريب، وهو أن يتناهى بعض أجزاء الجنس في الفضائل الخاصّة به إلى أن يصير كأنه ليس من ذلك ¬

_ (¬1) البيت لأبي تمام في ديوانه، وصدره: نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى وهو في الإيضاح 205، ودلائل الإعجاز: 495، كما نسبه ابن جني في كتاب الخصائص للطائي الكبير ص 117. (¬2) البيت للمتنبي في ديوانه، وفي التبيان ص 31، والمعنى: يقول إن فضلت الناس وأنت من جملتهم فقد يفضل بعض الشيء الكل جملة كالمسك، وهو بعض دم الغزال، يفضله فضلا كثيرا والمعنى: إن فاق الأنام وهو منهم وفضلهم مع مشاركته في الجنس لهم فالمسك من دم الغزلان في أصله وسائر دم الحيوان يقصر عنه. ورب واحد قد بذّ أمة وبعض قد فات جملة.

الجنس، وبالمدّعي له حاجة إلى أن يصحّح دعواه في جواز وجوده على الجملة إلى أن يجيء إلى وجوده في الممدوح. فإذا قال: «فإن المسك بعض دم الغزال»، فقد احتجّ لدعواه، وأبان أن لما ادّعاه أصلا في الوجود، وبرّأ نفسه من ضعة الكذب، وباعدها من سفه المقدم على غير بصيرة، والمتوسّع في الدعوى من غير بيّنة. وذلك أن المسك قد خرج عن صفة الدم وحقيقته، حتى لا يعدّ في جنسه، إذ لا يوجد في الدم شيء من أوصافه الشريفة الخاصة بوجه من الوجوه، لا ما قلّ ولا ما كثر، ولا في المسك شيء من الأوصاف التي كان لها الدم دما البتة. والضرب الثاني: أن لا يكون المعنى الممثّل غريبا نادرا يحتاج في دعوى كونه على الجملة إلى بيّنة وحجّة وإثبات. نظير ذلك أن تنفي عن فعل من الأفعال التي يفعلها الإنسان الفائدة، وتدّعي أنه لا يحصل منه على طائل، ثم تمثّله في ذلك بالقابض على الماء والرّاقم فيه، فالذي مثّلت ليس بمنكر مستبعد، إذ لا ينكر خطأ الإنسان في فعله أو ظنّه وأمله وطلبه. ألا ترى أن المغزى من قوله (¬1): [من الطويل] فأصبحت من ليلى الغداة كقابض … على الماء خانته فروج الأصابع (¬2) أنّه قد خاب في ظنّه أن يتمتّع بها ويسعد بوصلها، وليس بمنكر ولا عجيب ولا ممتنع في الوجود، خارج من المعروف المعهود، أن يخيب ظنّ الإنسان في أشباه هذا من الأمور، حتى يستشهد على إمكانه، وتقام البيّنة على صدق المدّعي لوجدانه. وإذا ثبت أن المعاني الممثّلة تكون على هذين الضربين، فإن فائدة «التمثيل» وسبب الأنس في الضرب الأول بيّن لائح، لأنه يفيد فيه الصّحة وينفي الرّيب والشكّ، ويؤمن صاحبه من تكذيب المخالف، وتهجّم المنكر، وتهكّم المعترض، وموازنته بحالة كشف الحجاب عن الموصوف المخبر عنه حتى يرى ويبصر، ويعلم كونه على ما أثبتته الصّفة عليه موازنة ظاهرة صحيحة. وأمّا الضرب الثاني: فإن «التمثيل» وإن كان لا يفيد فيه هذا الضرب من الفائدة، فهو يفيد أمرا آخر يجري مجراه. وذلك أن الوصف كما يحتاج إلى إقامة الحجة على صحة وجوده في نفسه، وزيادة التثبيت والتقرير في ذاته وأصله، فقد يحتاج إلى بيان المقدار فيه، ووضع قياس من غيره يكشف عن حدّه ومبلغه في القوة والضعف والزيادة والنقصان. وإذا أردت أن تعرف ذلك، فانظر أوّلا إلى التشبيه ¬

_ (¬1) وفي نسخة: المغزى في قوله. (¬2) البيت في الإيضاح ص 221.

الصريح الذي ليس بتمثيل، كقياس الشيء على الشيء في اللون مثلا: «كحنك الغراب» (¬1)، تريد أن تعرّف مقدار الشدة، لا أن تعرّف نفس السواد على الإطلاق. وإذا تقرر هذا الأصل، فإن الأوصاف التي يردّ السامع فيها بالتمثيل من العقل إلى العيان والحسّ، وهي في أنفسها معروفة مشهورة صحيحة لا تحتاج إلى الدلالة على أنها هل هي ممكنة موجودة أم لا فإنّها وإن غنيت من هذه الجهة عن التمثيل بالمشاهدات والمحسوسات، فإنها تفتقر إليه من جهة المقدار، لأن مقاديرها في العقل تختلف وتتفاوت. فقد يقال في الفعل: إنه من حال الفائدة على حدود مختلفة في المبالغة والتوسط، فإذا رجعت إلى ما تبصر وتحسّ عرفت ذلك بحقيقته، وكما يوزن بالقسطاس، فالشاعر لمّا قال: كقابض على الماء خانته فروج الأصابع أراك رؤية لا تشكّ معها ولا ترتاب أنه بلغ في خيبة ظنّه وبوار سعيه إلى أقصى المبالغ، وانتهى فيه إلى أبعد الغايات، حتى لم يحظ لا بما قلّ ولا ما كثر. فهذا هو الجواب. ونحن (¬2) بنوع من التسهّل والتسامح، نقع على أن الأنس الحاصل بانتقالك في الشيء عن الصفة والخبر إلى العيان ورؤية البصر، ليس له سبب سوى زوال الشكّ والرّيب. فأما إذا رجعنا إلى التحقيق: فإنّا نعلم أن المشاهدة تؤثّر في النفوس مع العلم بصدق الخبر، كما أخبر الله تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله: قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [سورة البقرة: 260]، والشواهد في ذلك كثيرة، والأمر فيه ظاهر، ولولا أن الأمر كذلك، لما كان لنحو قول أبي تمام: [من الطويل] وطول مقام المرء في الحيّ مخلق … لديباجتيه فاغترب تتجدّد فإنّي رأيت الشّمس زيدت محبّة … إلى النّاس أن ليست عليهم بسرمد (¬3) معنى، وذلك أنّ هذا التجدّد لا معنى له، إذا كانت الرؤية لا تفيد أنسا من حيث هي رؤية، وكان الأنس لنفيها الشّكّ والرّيب، أو لوقوع العلم بأمر زائد لم يعلم من قبل. ¬

_ (¬1) حنك الغراب بالتحريك: منقاره أو سواده قالهما (رشيد). (¬2) الجملة حالية. (¬3) البيتان في ديوانه، وهما في الإيضاح 204. وكذلك في الإشارات والتنبيهات 172، والبيت الأول في دلائل الإعجاز 498، بزيادة واو في صدره، وهما من قصيدة يمدح بها يوسف الطائي مطلعها: سرت تستجير الدمع خوف نوى غد … وعاد قتادا عندها كلّ مرقد

وإذا كان الأمر كذلك، فأنت إذا قلت للرجل: «أنت مضيع للحزم في سعيك، ومخطئ وجه الرشاد، وطالب لما لا تناله»، إذا كان الطّلب على هذه الصفة ومن هذه الجهة، ثم عقّبته بقولك: «وهل يحصل في كفّ القابض على الماء شيء مما يقبض عليه؟». فلو تركنا حديث تعريف المقدار في الشدة والمبالغة ونفي الفائدة من أصلها جانبا بقي لنا ما تقتضيه الرّؤية للموصوف على ما وصف عليه من الحالة المتجدّدة، مع العلم بصدق الصفة. يبيّن ذلك، أنه لو كان الرجل مثلا على طرف نهر في وقت مخاطبة صاحبه وإخباره له بأنه لا يحصل من سعيه على شيء، فأدخل يده في الماء وقال: «انظر هل حصل في كفّي من الماء شيء؟ فكذلك أنت في أمرك». كان لذلك ضرب من التأثير زائد على القول والنطق بذلك دون الفعل. ولو أن رجلا أراد أن يضرب لك مثلا في تنافي الشيئين فقال: «هذا وذاك هل يجتمعان؟»، وأشار إلى ماء ونار حاضرين، وجدت لتمثيله من التأثير ما لا تجده إذا أخبرك بالقول فقال: «هل يجتمع الماء والنار؟». وذلك الذي تفعل المشاهدة من التحريك للنفس، والذي يجب بها من تمكّن المعنى في القلب إذا كان مستفاده من العيان، ومتصرّفه حيث تتصرّف العينان وإلّا فلا حاجة بنا في معرفة أن الماء والنار لا يجتمعان إلى ما يؤكده من رجوع إلى مشاهدة واستيثاق تجربة. وممّا يدلّك على أن «التمثيل» بالمشاهدة يزيدك أنسا، وإن لم يكن بك حاجة إلى تصحيح المعنى، أو بيان لمقدار المبالغة فيه، أنك قد تعبّر عن المعنى بالعبارة التي تؤدّيه، وتبالغ وتجتهد حتى لا تدع في النفوس منزعا، نحو أن تقول وأنت تصف اليوم بالطول: «يوم كأطول ما يتوهّم» و «كأنّه لا آخر له»، وما شاكل ذلك من نحو قوله: [من البسيط] في ليل صول تناهى العرض والطّول … كأنّما ليله باللّيل موصول (¬1) فلا تجد له من الأنس ما تجده لقوله: [من الطويل] ويوم كظلّ الرّمح قصّر طوله (¬2) ¬

_ (¬1) البيت لحندج بن حندج المري. (¬2) البيت هو لشبرمة بن الطفيل، وتمامه: دم الزّقّ عنّا واصطفاق المزاهر

على أن عبارتك الأولى أشدّ وأقوى في المبالغة من هذا، فظلّ الرّمح على كل حال متناه تدرك العين نهايته، وأنت قد أخبرت عن اليوم بأنه كأنه لا آخر له، وكذلك تقول: «يوم كأقصر ما يتصوّر» و «كأنّه ساعة» و «كلمح البصر» و «كلا ولا»، فتجد هذا، مع كونه تمثيلا، لا يؤنسك إيناس قولهم: «أيام كأباهيم القطا»، وقول ابن المعتزّ: [من الكامل] بدّلت من ليل كظلّ حصاة … ليلا كظلّ الرمح غير موات (¬1) وقول آخر: [من الوافر] ظللنا عند باب أبي نعيم … بيوم مثل سالفة الذّباب (¬2) وكذا تقول: «فلان إذا همّ بالشيء لم يزل ذاك عن ذكره وقلبه، وقصر خواطره على إمضاء عزمه، ولم يشغله شيء عنه»، فتحتاط للمعنى بأبلغ ما يمكن، ثم لا ترى في نفسك له هزّة، ولا تصادف لما تسمع أريحيّة، وإنما تسمع حديثا ساذجا وخبرا غفلا، حتى إذا قلت: [من الطويل] إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه (¬3) امتلأت نفسك سرورا وأدركتك طربة كما يقول القاضي أبو الحسن لا تملك دفعها عنك. ولا تقل إن ذلك لمكان الإيجاز، فإنه وإن كان يوجب شيئا منه، فليس الأصل له، بل لأن أراك العزم واقعا بين العينين، وفتح إلى مكان المعقول من قلبك بابا من العين. وهاهنا، إذا تأمّلنا، مذهب آخر في بيان السبب الموجب لذلك، هو ألطف مأخذا، وأمكن في التحقيق، وأولى بأن يحيط بأطراف الباب. وهو أنّ لتصوير الشبه ¬

_ (¬1) البيت هو في ديوانه. (¬2) البيت هو في الأزمنة والأمكنة غير منسوب. والسّالفة: أعلى العنق، وقيل: ناحية مقدّم العنق من لدن معلّق القرط إلى قلت الترقوة، والسالف: أعلى العنق، وقيل هي ناحيته من معلق القرط إلى الحاقنة، وحكى اللحياني: إنها لوضاحة السوالف، جعلوا كل جزء منها سالفة. [لسان العرب: سلف]. (¬3) البيت لسعد بن ناسب المازني، وتمامه: ونكّب عن ذكر العواقب جانبا في شرح الحماسة 1/ 35، وانظر دلائل الإعجاز 220، تحقيق محمود شاكر- طبعة المدني.

من الشيء في غير جنسه وشكله، والتقاط ذلك له من غير محلّته، واجتلابه إليه من الشّقّ البعيد، بابا آخر من الظّرف واللّطف، ومذهبا من مذاهب الإحسان لا يخفى موضعه من العقل. وأحضر شاهدا لك على هذا: أن تنظر إلى تشبيه المشاهدات بعضها ببعض، فإن التشبيهات سواء كانت عامّية مشتركة، أم خاصيّة مقصورة على قائل دون قائل تراها لا يقع بها اعتداد، ولا يكون لها موقع من السامعين، ولا تهزّ ولا تحرّك حتى يكون الشبه مقرّرا بين شيئين مختلفين في الجنس، فتشبيه العين بالنّرجس، عامّيّ مشترك معروف في أجيال الناس، جار في جميع العادات، وأنت ترى بعد ما بين العينين وبينه من حيث الجنس وتشبيه الثريّا بما شبّهت به من عنقود الكرم المنوّر، واللجام المفضّض، والوشاح المفصّل، وأشباه ذلك، خاصّيّ، والتباين بين المشبّه والمشبّه به في الجنس على ما لا يخفى. وهكذا إذا استقريت التشبيهات، وجدت التباعد بين الشيئين كلما كان أشدّ، كانت إلى النفوس أعجب، وكانت النفوس لها أطرب، وكان مكانها إلى أن تحدث الأريحيّة أقرب. وذلك أن موضع الاستحسان، ومكان الاستظراف، والمثير للدفين من الارتياح، والمتألّف للنافر من المسرة، والمؤلّف لأطراف البهجة أنك ترى بها الشيئين مثلين متباينين، ومؤتلفين مختلفين، وترى الصورة الواحدة في السماء ولأرض، وفي خلقة الإنسان وخلال الروض، وهكذا، طرائف تنثال عليك إذا فصّلت هذه الجملة، وتتبّعت هذه اللّحمة. ولذلك تجد تشبيه البنفسج في قوله: [من البسيط] ولازورديّة تزهو بزرقتها … بين الرّياض على حمر اليواقيت كأنّها فوق قامات ضعفن بها … أوائل النار في أطراف كبريت (¬1) أغرب وأعجب وأحقّ بالولوع وأجدر من تشبيه النرجس: «بمداهن درّ حشوهن عقيق»، لأنه أراك شبها لنبات غضّ يرفّ، وأوراق رطبة ترى الماء منها يشفّ، بلهب نار في جسم مستول عليه اليبس، وباد فيه الكلف. ¬

_ (¬1) البيتان لابن المعتز في الإيضاح (تحقيق د. عبد الحميد هنداوي) والتبيان 1/ 273 تحقيق الدكتور عبد الحميد أيضا، والعلوي في الطراز 1/ 267، ويرجح الدكتور محمود شاكر أنهما للزاهي أبي القاسم علي بن إسماعيل بن خلف البغدادي، كما نسبهما إليه أيضا ابن خلكان في ترجمته 3/ 372. اللازوردية: البنفسجية، نسبة إلى اللازورد، وهو حجر نفيس.

ومبنى الطباع وموضوع الجبلّة، على أن الشيء إذا ظهر من مكان لم يعهد ظهوره منه، وخرج من موضع ليس بمعدن له، كانت صبابة النفوس به أكثر، وكان بالشّغف منها أجدر. فسواء في إثارة التعجّب، وإخراجك إلى روعة المستغرب، وجودك الشيء من مكان ليس من أمكنته، ووجود شيء لم يوجد ولم يعرف من أصله في ذاته وصفته. ولو أنه شبّه البنفسج ببعض النبات، أو صادف له شبها في شيء من المتلوّنات، لم تجد له هذه الغرابة، ولم ينل من الحسن هذا الحظ. وإذا ثبت هذا الأصل، وهو أنّ تصوير الشّبه بين المختلفين في الجنس، مما يحرّك قوى الاستحسان، ويثير الكامن من الاستظراف، فإن «التمثيل» أخصّ شيء بهذا الشأن، وأسبق جار في هذا الرهان، وهذا الصّنيع صناعته التي هو الإمام فيها، والبادئ لها والهادي إلى كيفيتها، وأمره في ذلك أنك إذا قصدت ذكر ظرائفه، وعدّ محاسنه في هذا المعنى، والبدع التي يخترعها بحذقه، والتأليفات التي يصل إليها برفقه، ازدحمت عليك، وغمرت جانبيك، فلم تدر أيّها تذكر، ولا عن أيّها تعبّر، كما قال: [من الرجز] إذا أتاها طالب يستامها … تكاثرت في عينه كرامها (¬1) وهل تشكّ في أنه يعمل عمل السحر في تأليف المتباينين حتى يختصر لك بعد ما بين المشرق والمغرب، ويجمع ما بين المشئم والمعرق. وهو يريك للمعاني الممثّلة بالأوهام شبها في الأشخاص الماثلة، والأشباح القائمة، وينطق لك الأخرس، ويعطيك البيان من الأعجم، ويريك الحياة في الجماد، ويريك التئام عين الأضداد، فيأتيك بالحياة والموت مجموعين، والماء والنار مجتمعين، كما يقال في الممدوح هو حياة لأوليائه، موت لأعدائه، ويجعل الشيء من جهة ماء، ومن أخرى نارا، كما يقال: [من الخفيف] أنا نار في مرتقى نظر الحا … سد، ماء جار مع الإخوان (¬2) وكما يجعل الشيء حلوا مرّا، وصابا عسلا وقبيحا حسنا، كما قال: [من الخفيف] ¬

_ (¬1) البيت هو في الأغاني 5/ 364 بلا نسبة. (¬2) البيت لم يقف عليه الدكتور محمود شاكر.

حسن في وجوه أعدائه أق … بح من ضيفه رأته السوام (¬1) ويجعل الشيء أسود أبيض في حال، كنحو قوله: [من الطويل] له منظر في العين أبيض ناصع … ولكنّه في القلب أسود أسفع (¬2) ويجعل الشيء كالمقلوب إلى حقيقة ضدّه، كما قال: [من الخفيف] غرّة بهمة، ألا إنما كن … ت أغرّ أيّام كنت بهيما (¬3) ويجعل الشيء قريبا بعيدا معا، كقوله: [من الكامل] دان على أيدي العفاة وشاسع (¬4) وحاضرا وغائبا، كما قال: [من المتقارب] أيا غائبا حاضرا في الفؤاد … سلام على الحاضر الغائب (¬5) ومشرّقا مغرّبا، كقوله: [من المنسرح] له إليكم نفس مشرّقة … أن غاب عنكم مغرّبا بدنه (¬6) ¬

_ (¬1) البيت هو للمتنبي في ديوانه، والتبيان للعكبري 376. والسّوام: المال الراعي، وسامت الراعية والماشية والغنم تسوم سوما: رعت حيث شاءت فهي سائمة. [لسان العرب: سوم]. والمعنى: يقول هو أقبح في عيون أعدائه من ضيفه في عيون ماله الراعي لأنه ينحر إبله للأضياف فهي تكرههم، وهذا كما قيل في الضيف. (¬2) البيت لأبي تمام في ديوانه، والإيضاح 304، تحقيق الدكتور عبد الحميد هنداوي. مؤسسة المختار. الأسفع: السّفعة والسّفع: السواد والشحوب، وقيل نوع من السواد ليس بالكثير، وقيل السواد مع لون آخر، وقيل السواد المشرب حمرة، الذكر أسفع، الأنثى سفعاء. [اللسان: سفع]. (¬3) البيت لأبي تمام في ديوانه. الغرة: الشعر الأبيض، البهمة: يعني السواد المظلم. يصف الشيب بأنه غرة شديدة، وإنما كان أغر في الوقت الذي كان فيه بهيما أي: أسود الشعر. (¬4) البيت للبحتري، وتمامه: عن كل ند في الندى وضريب وهو في الإيضاح ص 203، تحقيق الدكتور عبد الحميد هنداوي. (طبعة: مؤسسة المختار). وشرح عقود الجمان 2/ 6، وأوردهما محمد بن علي بن محمد الجرجاني في كتابه الإشارات والتنبيهات ص 172، منسوب للبحتري. والعفاة جمع عاف، وهو طالب الفضل أو سائل الرزق. (¬5) البيت قيل إنه على قافية الراء «سلام على الغائب الحاضر» في كتاب سندبان للسمرقندي: 185 مع أبيات للوأواء الدمشقي على تلك القافية، وليس البيت في ديوانه المطبوع. (¬6) البيت هو للبحتري في ديوانه.

وسائرا مقيما، كما يجيء في وصف الشعر الحسن الذي يتداوله الرواة وتتهاداه الألسن، كما قال القاضي أبو الحسن: [من المتقارب] وجوّابة الأفق موقوفة … تسير ولم تبرح الحضرة (¬1) وهل يخفى تقريبه المتباعدين، وتقريبه بين المختلفين، وأنت تجد إصابة الرجل في الحجّة، وحسن تخليصه للكلام، وقد مثّلت تارة بالهناء ومعالجة الإبل الجربى به، وأخرى بحزّ القصّاب اللحم وإعماله السكّين في تقطيعه وتفريقه في قولهم: يضع الهناء مواضع النقب (¬2) و «يصيب الحزّ» و «يطبّق المفصل»، فانظر: هل ترى مزيدا في التناكر والتنافر على ما بين طلاء القطران، وجنس القول والبيان؟ ثم كرّر النظر وتأمّل: كيف حصل الائتلاف، وكيف جاء من جمع أحدهما إلى الآخر، ما يأنس إليه العقل ويحمده الطبع؟ حتى إنّك لربما وجدت لهذا المثل إذا ورد عليك في أثناء الفصول، وحين تبيّن الفاضل في البيان من المفضول قبولا، ولا ما تجد عند فوح المسك ونشر الغالية، وقد وقع ذكر «الحزّ» و «التطبيق» منك موقع ما ينفى الحزازات عن القلب، ويزيل أطباق الوحشة عن النفس. وتكلّف القول في أن للتمثيل في هذا المعنى الذي لا يجارى إليه، والباع الذي لا يطاول فيه، كالاحتجاج للضّرورات، وكفى دليلا على تصرفه فيه باليد الصّناع، وإيفائه على غايات الابتداع، أنه يريك العدم وجودا والوجود عدما، والميّت حيّا ¬

_ (¬1) البيت للقاضي أبي الحسن شيخه علي بن عبد العزيز الجرجاني صاحب الوساطة. (¬2) شطر بيت لدريد بن الصمة في ديوانه 43، والأغاني 15/ 72، قال صاحب الأغاني: مر دريد بن الصمة بالخنساء بنت عمرو بن الشريد، وهي تهنأ بعيرا لها، وقد تبذلت حتى فرغت منه، ثم نضّت عنها ثيابها فاغتسلت، ودريد بن الصمة يراها، وهي لا تشعر به فأعجبته فانصرف إلى رحله وأنشأ يقول: حيوا تماضر واربعوا صحبي … وقفوا فإن وقوفكم حسبي أخناس قد هام الفؤاد بكم … وأصابه قبل من الحب ما إن رأيت ولا سمعت بمثله … كاليوم طالي أينق جرب متبذّلا تبدو محاسنه … يضع الهناء مواضع النقب النّقب: القطع المتفرقة من الجرب، الواحدة نقبة، وهي أول ما يبدو من الجرب عامة، وعجز البيت الأخير مثل يضرب لمن يضع الشيء في موضعه فيكون ماهرا مصيبا، أو للذي لا يتكلم إلا فيما يجب الكلام.

والحيّ ميّتا أعني جعلهم الرجل إذا بقي له ذكر جميل وثناء حسن بعد موته، كأنه لم يمت، وجعل الذكر حياة له، كما قال: ذكر الفتى عمره الثّاني (¬1) وحكمهم على الخامل الساقط القدر الجاهل الدنيء بالموت، وتصييرهم إياه حين لم يكن ما يؤثر عنه ويعرف به، كأنه خارج عن الوجود إلى العدم، أو كأنه لم يدخل في الوجود. ولطيفة أخرى له في هذا المعنى، هي، إذا نظرت، أعجب، والتعجّب بها أحقّ ومنها أوجب، وذلك جعل الموت نفسه حياة مستأنفة حتى يقال: إنه بالموت استكمل الحياة في قولهم: «فلان عاش حين مات»، يراد الرجل تحمله الأبيّة وكرم النفس والأنفة من العار، على أن يسخو بنفسه في الجود والبأس، فيفعل ما فعل كعب بن مامة في الإيثار على نفسه، أو ما يفعله الشجاع المذكور من القتال دون حريمه، والصبر في مواطن الإباء، والتصميم في قتال الأعداء، حتى يكون له يوم لا يزال يذكر، وحديث يعاد على مرّ الدهور ويشهر، كما قال ابن نباتة (¬2): [من الكامل] بأبي وأمّي كلّ ذي … نفس تعاف الضّيم مرّة ترضى بأن ترد الرّدى … فيميتها ويعيش ذكره وإنه ليأتيك من الشيء الواحد بأشباه عدة، ويشتقّ من الأصل الواحد أغصانا في كل غصن ثمر على حدة، نحو أن «الزّند» بإيرائه يعطيك شبه الجواد، والذكيّ الفطن، وشبه النجح في الأمور والظفر بالمراد وبإصلاده شبه البخيل لا يعطيك شيئا، ¬

_ (¬1) شطر البيت للمتنبي في ديوانه وتمامه: ذكر الفتى عمره الثاني، وحاجته … ما قاته، وفضول العيش أشغال (¬2) البيتان يمدح صمصام الدولة عند ورود القرامطة إلى الكوفة ويحرضه على لقائهم. الظاهر أن يقال فيفعل كما فعل كعب بن مامة قال شيخنا: هو الأباذي المشهور آثر رفيقه السعدي بالماء حتى مات عطشا ونجا السعدي وله يقول حبيب: يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها … والجود بالنفس أقصى غاية الجود وقال له ولحاتم الطائي: كعب وحاتم اللذان تقسما … خطط العلى من طارف وتليد وهذا الذي خلف السحاب ومات ذا … في الجهد ميتة خضرم صنديد إلا يكن فيها الشهد فقومه … لا يسمحون له بألف شهيد (رشيد)

والبليد الذي لا يكون له خاطر ينتج فائدة ويخرج معنى وشبه من يخيب سعيه، ونحو ذلك ويعطيك من «القمر» الشهرة في الرجل والنباهة والعزّ والرفعة، ويعطيك الكمال عن النقصان، والنقصان بعد الكمال، كقولهم: «هلا نما فعاد بدرا»، يراد بلوغ النجل الكريم المبلغ الذي يشبه أصله من الفضل والعقل وسائر معاني الشرف، كما قال أبو تمام (¬1): [من الكامل] لهفي على تلك الشواهد منهما … لو أمهلت حتى تصير شمائلا لغدا سكونهما حجى، وصباهما … كرما، وتلك الأريحيّة نائلا إنّ الهلال إذا رأيت نموّه … أيقنت أن سيصير بدرا كاملا وعلى هذا المثل بعينه، يضرب مثلا في ارتفاع الرجل في الشرف والعزّ من طبقة إلى أعلى منها، كما قال البحتري (¬2): [من الكامل] شرف تزيّد بالعراق إلى الذي … عهدوه بالبيضاء أو ببلنجرا مثل الهلال بدا فلم يبرح به … صوغ اللّيالي فيه حتى أقمرا ويعطيك شبه الإنسان في نشئه ونمائه إلى أن يبلغ حدّ التمام، ثم تراجعه إذا انقضت مدّة الشباب، كما قال (¬3): [من البسيط] المرء مثل هلال حين تبصره … يبدو ضئيلا ضعيفا ثم يتّسق يزداد حتّى إذا ما تمّ أعقبه … كرّ الجديدين نقصا ثم ينمحق وكذلك يتفرّع من حالتي تمامه ونقصانه فروع لطيفة، فمن غريب ذلك قول ابن بابك (¬4): [من الكامل] وأعرت شطر الملك ثوب كماله … والبدر في شطر المسافة يكمل ¬

_ (¬1) الأبيات في ديوانه في مرثية ابنين لعبد الله بن طاهر، ماتا صغيرين، والإيضاح: 206، تحقيق الدكتور هنداوي، ومنسوبة لأبي تمام في الإشارات والتنبيهات لمحمد بن علي الجرجاني ص 173. (¬2) البيتان هما في ديوانه من قصيدة قالها في مدح إسحاق بن كنداج الخزري القائد الكبير عند ما توج وقلد السيفين، البيضاء، بلنجر: مدينتان في بلاد الخزر. (¬3) البيتان لمحمد بن يزداد بن سويد الكاتب المروزي وزير المأمون. اتسق القمر: استوى، وفي التنزيل: وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ. قال الفرّاء: وما وسق أي: وما جمع وضم، واتساق القمر: امتلاؤه واجتماعه واستواؤه ليلة ثلاث عشرة وأربع عشرة، وقال الفراء: إلى ستّ عشرة فيهن امتلاؤه واتساقه. [اللسان: وسق]. (¬4) البيت هو في الإيضاح تحقيق الدكتور هنداوي ومنسوب لابن بابك في الإشارات والتنبيهات ص 174.

قاله في الأستاذ أبي علي، وقد استوزره فخر الدولة بعد وفاة الصاحب وأبا العباس الضبيّ وخلع عليهما وقول أبي بكر الخوارزمي (¬1): [من الطويل] أراك إذا أيسرت خيّمت عندنا … مقيما وإن أعسرت زرت لماما فما أنت إلا البدر إن قلّ ضوؤه … أغبّ، وإن زاد الضياء أقاما المعنى لطيف، وإن كانت العبارة لم تساعده على الوجه الذي يجب، فإن الإغباب أن يتخلل وقتي الحضور وقت يخلو منه، وإنما يصلح لأن يراد أن القمر إذا نقص نوره، لم يوال الطلوع كل ليلة، بل يظهر في بعض الليالي، ويمتنع من الظهور في بعض. وليس الأمر كذلك، لأنه على نقصانه يطلع كل ليلة حتى يكون السّرار، وقال ابن بابك في نحوه: [من المتقارب] كذا البدر يسفر في تمّه … فإن خاف نقص المحاق انتقب وهكذا ينظر إلى مقابلته الشّمس واستمداده من نورها، وإلى كون ذلك سبب زيادته ونقصه وامتلائه من النور والائتلاق، وحصوله في المحاق، وتفاوت حاله في ذلك، فتصاغ منه أمثال، وتبيّن أشباه ومقاييس، فمن لطيف ذلك قول ابن نباتة (¬2): [من الخفيف] قد سمعنا بالعزّ من آل ساسا … ن ويونان في العصور الخوالي والملوك الألى إذا ضاع ذكر … وجدوا في سوائر الأمثال مكرمات إذا البليغ تعاطى … وصفها لم يجده في الأقوال وإذا نحن لم نضفه إلى مد … حك كانت نهاية في الكمال إن جمعناهما أضرّ بها الجم … ع وضاعت فيه ضياع المحال فهو كالشمس بعدها يملأ البد … ر، وفي قربها محاق الهلال ¬

_ (¬1) البيتان في الإيضاح ص 206، تحقيق الدكتور هنداوي (طبعة مؤسسة المختار)، والإشارات والتنبيهات ص 174، ويتيمة الدهر 2/ 224، وزهر الآداب 2/ 99. (لماما) بالكسر: الإلمام النزول، وقد ألمّ به أي نزل به. ابن سيدة: لمّ به وألمّ والتمّ نزل به، وألمّ به: زاره غبّا، الليث: الإلمام الزيارة غبّا، والفعل ألممت به، وألممت عليه، ويقال: فلان يزور فلانا لماما أي: في الأحايين. والغبّ: الإتيان في اليومين، ويكون أكثر، وأغبّ القوم وغب عنهم: جاء يوما وترك يوما، وأغبّ عطاؤه إذا لم يأتنا كل يوم، وأغبت الإبل إذا لم تأت كل يوم بلبن وأغبنا فلان: أتانا غبا. [اللسان: لمم، غبب]. (¬2) الأبيات في مدح عضد الدولة من قصيدته في تاريخ اثنتين وسبعين وثلاثمائة، مطلع القصيدة: دفع الله نائبات الليالي … عنك، يا حامل الخطوب الثقال

فصل

وغير ذلك من أحواله: كنحو ما خرج من الشّبه من بعده وارتفاعه، وقرب ضوئه وشعاعه، في نحو ما مضى من قول البحتري: دان على أيدي العفاة ومن ظهوره بكل مكان، ورؤيته في كل موضع، كقوله (¬1): كالبدر من حيث التفتّ رأيته … يهدي إلى عينيك نورا ثاقبا في أمثال لذلك تكثر. ولم أعرض لما يشبّه به من حيث المنظر، وما تدركه العين، نحو تشبيه الشيء بتقويس الهلال ودقّته، والوجه بنوره وبهجته، فإنّا في ذكر ما كان «تمثيلا»، وكان الشّبه فيه معنويّا. فصل وإن كان ممّا مضى، إلا أن الأسلوب غيره، وهو أن المعنى إذا أتاك ممثّلا، فهو في الأكثر ينجلي لك بعد أن يحوجك إلى غير طلبه بالفكرة وتحريك الخاطر له والهمّة في طلبه. وما كان منه ألطف، كان امتناعه عليك أكثر، وإباؤه أظهر، واحتجابه أشدّ. ومن المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه، كان نيله أحلى، وبالمزيّة أولى، فكان موقعه من النفس أجلّ وألطف، وكانت به أضنّ وأشغف، ولذلك ضرب المثل لكل ما لطف موقعه ببرد الماء على الظمأ، كما قال (¬2): [من البسيط] وهنّ ينبذن من قول يصبن به … مواقع الماء من ذي الغلّة الصّادي وأشباه ذلك مما ينال بعد مكابدة الحاجة إليه، وتقدّم المطالبة من النفس به. فإن قلت: فيجب على هذا أن يكون التعقيد والتعمية وتعمّد ما يكسب ¬

_ (¬1) البيت للمتنبي في ديوانه وفي التبيان للعكبري على شرح ديوان المتنبي ص 95، والبيت من قصيدة يمدح بها علي بن منصور الحاطب والإيضاح ص 207، وفي نسخة التبيان «نورا ثاقبا»، والمعنى: هو مثل البدر حيثما كان ترى نوره، وكذلك حيثما كنت من البلاد ترى عطاءه، وقد غمر الناس قريبهم وبعيدهم، والثاقب: المضيء الذي يثقب ضوؤه الظلام ويبدّده. (¬2) البيت للقطامي في ديوانه، وموجود في لسان العرب (صدى). والصدى: شدة العطش، وقيل: هو العطش ما كان، صدى يصدى. صدى، فهو صد وصاد وصديان والأنثى صديا. الغلّة: شدة العطش وحرارته، قلّ أو كثر. [لسان العرب: صدى، غلل].

المعنى غموضا، مشرّفا له وزائدا في فضله، وهذا خلاف ما عليه الناس، ألا تراهم قالوا: إن خير الكلام ما كان معناه إلى قلبك أسبق من لفظه إلى سمعك؟. فالجواب: أني لم أرد هذا الحدّ من الفكر والتعب، وإنما أردت القدر الذي يحتاج إليه في نحو قوله (¬1): [من الوافر] فإن المسك بعض دم الغزال وقوله (¬2): [من الوافر] وما التأنيث لاسم الشمس عيب … ولا التذكير فخر للهلال وقوله: [من الوافر] رأيتك في الذين أرى ملوكا … كأنّك مستقيم في محال وقول النابغة (¬3): فإنّك كاللّيل الّذي هو مدركي … وإن خلت أنّ المتأدى عنك واسع وقوله (¬4): [من الطويل] فإنك شمس والملوك كواكب … إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب وقول البحتري (¬5): [من الطويل] ضحوك إلى الأبطال وهو يروعهم … وللسيف حدّ حين يسطو ورونق ¬

_ (¬1) راجع هامش رقم (2) ص 94. (¬2) البيت والذي يليه هما للمتنبي في ديوانه وهما في التبيان للعكبري على ديوان أبي الطيب أحمد المتنبي، البيت الأول 2/ 29، والثاني 2/ 31. المعنى: يقول: رب تأنيث يقصر التذكير عنه ولا يبلغ مبلغه، ولا ينال موضعه، ثم بيّن ذلك بأن الشمس مؤنثة، والفضل لها والقمر مذكر. ثم يقول: بيان فضلك على الملوك كبيان فضل الاستقامة على المحال، والمعنى أنت تفضلهم كفضل المستقيم على المعوج. (¬3) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه، وفي الإيضاح تحقيق الدكتور عبد الحميد هنداوي، (طبعة مؤسسة المختار)، وأورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص 166، وفي الكلام إشارة إلى تشبيه النعمان بالسيل في اندفاعه وقوته بعد تشبيهه بالليل تشبيها يلاحظ في وجهه الرهبة والخوف مع ضرورة اللحاق والإدراك، والبيت من إحدى الاعتذاريات التي نبغ فيها النابغة الذبياني. (¬4) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه، وفي الإيضاح ص 231، تحقيق د. هنداوي. (¬5) البيت في ديوانه.

وقول امرئ القيس (¬1): [من الطويل] بمنجرد قيد الأوابد هيكل وقوله (¬2): [من الكامل] ثم انصرفت، وقد أصبت ولم أصب، … جذع البصيرة قارح الإقدام فإنك تعلم على كل حال أن هذا الضرب من المعاني، كالجوهر في الصدف لا يبرز لك إلّا أن تشقّه عنه، وكالعزيز المحتجب لا يريك وجهه حتى تستأذن عليه. ثم ما كل فكر يهتدي إلى وجه الكشف عمّا اشتمل عليه، ولا كلّ خاطر يؤذن له في الوصول إليه، فما كل أحد يفلح في شقّ الصدفة، ويكون في ذلك من أهل المعرفة، كما ليس كلّ من دنا من أبواب الملوك، فتحت له، وكان (¬3): [من الطويل] من النّفر البيض الّذين إذا اعتزوا … وهاب رجال حلقة الباب قعقعوا أو كما قال (¬4): [من الطويل] تفتّح أبواب الملوك لوجهه … بغير حجاب دونه أو تملّق ¬

_ (¬1) شطر البيت في معلقته ص 118، وصدره: وقد أغتدي والطير في وكناتها أغتدي: أخرج بفرسي في غدوة النهار أي: عند تباشير الصباح، وكناتها: أو كارها أو وكراتها، والوكر مأوى الطير في العش، المنجرد: الفرس القصير الشعر، الأوابد: الوحوش الآبدة. الهيكل: الفرس الطويل المتين. (¬2) البيت لأبي محمد قطري بن الفجاءة، أحد بني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم، ولقبه في الحرب أبو نعامة، وهو منسوب إلى قطر قرب البحرين، انظر ترجمته في الطبري 7/ 274، وعيون الأخبار 1/ 175، وذيل أمالي القالي ص 15، والخزانة 3/ 361، وزهر الآداب 4/ 162، وهو موجود في الإيضاح تحقيق د. هنداوي، وفي شرح الحماسة 1/ 68. والجذع من الخيل الذي بلغ عامين فلا يحتاج إلى الرياضة، والقارح الذي بلغ النهاية من الخيل. (¬3) البيت في مجموعة أبيات يقع بعضها في كلمة في البيان 3/ 305، نسبت لأبي الربيس الثعلبي يقولها في عبد الله بن جعفر بن أبي طالب أو في عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، انظر الكامل في اللغة والأدب تحقيق د. هنداوي 1/ 243، وأنساب الأشراف 4/ 1/ 603، والخزانة 2/ 532 - 534، ويقع في روايتها اختلاف. والبيت الذي معنا في خزانة الأدب 6/ 78 - 89، ولسان العرب (لوى) ويروى فيه هكذا: من النفر اللائي الذين إذا هم … يهاب اللّئام حلقة الباب قعقعوا وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 4/ 308، والحيوان 3/ 486، وخزانة الأدب 6/ 156، والعقد الفريد 5/ 343، وتاج العروس (لوى)، والبيان والتبيين 1/ 396، ورسائل الجاحظ 1/ 221. (¬4) البيت لجرير في ديوانه ص 306، من قصيدة قالها في رثاء الفرزدق مطلعها: لعمري لقد أشجى تميما وهدّها … على نكبات الدهر موت الفرزدق عشية راحوا للفراق بنعشه … إلى جدث في هوة الأرض معمق

وأما التعقيد، فإنما كان مذموما لأجل أن اللفظ لم يرتّب الترتيب الذي بمثله تحصل الدّلالة على الغرض، حتى احتاج السامع إلى أن يطلب المعنى بالحيلة، ويسعى إليه من غير الطريق، كقوله (¬1): [من الكامل] ولذا اسم أغطية العيون جفونها … من أنّها عمل السيوف عوامل وإنما ذمّ هذا الجنس، لأنه أحوجك إلى فكر زائد على المقدار الذي يجب في مثله، وكدّك بسوء الدّلالة وأودع لك في قالب غير مستو ولا مملّس، بل خشن مضرّس، حتى إذا رمت إخراجه منه عسر عليك، وإذا خرج خرج مشوّه الصورة ناقص الحسن. هذا، وإنما يزيدك الطلب فرحا بالمعنى وأنسا به وسرورا بالوقوف عليه، إذا كان لذلك أهلا، فأمّا إذا كنت معه كالغائص في البحر، يحتمل المشقّة العظيمة، ويخاطر بالروح، ثم يخرج الخرز، فالأمر بالضدّ مما بدأت به. ولذلك كان أحقّ أصناف التعقّد بالذم ما يتعبك، ثم لا يجدي عليك، ويؤرّقك ثم لا يورق لك، وما سبيله إلّا سبيل البخيل الذي يدعوه لؤم في نفسه، وفساد في حسّه، إلى أن لا يرضى بضعته في بخله، وحرمان فضله، حتّى يأبى التواضع ولين القول، فيتيه ويشمخ بأنفه، ويسوم المتعرّض له بابا ثانيا من الاحتمال تناهيا في سخفه أو كالذي لا يؤيسك من خيره في أول الأمر فتستريح إلى اليأس، ولكنه يطمعك ويسحب على المواعيد الكاذبة، حتى إذا طال العناء وكثر الجهد، تكشّف عن غير طائل، وحصلت منه على ندم لتعبك في غير حاصل. وذلك مثل ما تجده لأبي تمام من تعسّفه في اللفظ، وذهابه به في نحو من التركيب لا يهتدي النحو إلى إصلاحه، وإغراب في الترتيب يعمي الإعراب في طريقه، ويضلّ في تعريفه، كقوله (¬2): [من الكامل] ثانيه في كبد السّماء، ولم يكن … لاثنين ثان إذ هما في الغار ¬

_ (¬1) البيت للمتنبي في ديوانه ص 223، من قصيدة يمدح القاضي أبا الفضل بن عبد الله بن الحسين الأنطاكي مطلعها: لك يا منازل في القلوب منازل … أقفرت أنت وهن منك أو أهل يعلمن ذاك وما علمت وإنما … أولاكما يبكي عليه العاقل وأيضا في التبيان للعكبري 2/ 201. والضمير «إنها» للعيون، أي: أنها تعمل عمل السيوف، ولذا سميت أغطية العيون جفون، والجفون أغماد السيوف، أي: لأنها تعمل عمل السيوف. (¬2) البيت لأبي تمام حبيب بن أوس الطائي الشاعر المجيد المتقدم البارع صاحب ديوان الحماسة، في

وقوله (¬1): [من البسيط] يدي لمن شاء رهن لم يذق جرعا … من راحتيك درى ما الصّاب والعسل ولو كان الجنس الذي يوصف من المعاني باللطافة ويعدّ في وسائط العقود، لا يحوجك إلى الفكر، ولا يحرّك من حرصك على طلبه، بمنع جانبه وببعض الإدلال عليك وإعطائك الوصل بعد الصدّ، والقرب بعد البعد، لكان «باقلّي حار» وبيت معنى هو عين القلادة وواسطة العقد واحدا، ولسقط تفاضل السامعين في الفهم والتصوّر والتبيين، وكان كلّ من روى الشعر عالما به، وكلّ من حفظه إذا كان يعرف اللغة على الجملة ناقدا في تمييز جيّده من رديئه، وكان قول من قال (¬2): [من الطويل] زوامل للأشعار لا علم عندهم … بجيّدها إلا كعلم الأباعر وكقول ابن الرومي (¬3): [من المنسرح] قلت لمن قال لي: عرضت على الأ … خفش ما قلته فما حمده قصّرت بالشعر حين تعرضه … على مبين العمى إذا انتقده ما قال شعرا ولا رواه فلا … ثعلبه كان لا ولا أسده فإن يقل: إنّني رويت، فكالدّف … تر جهلا بكلّ ما اعتقده وما أشبه ذلك، دعوى غير مسموعة ولا مؤهّلة للقبول، فإنما أرادوا بقولهم: «ما كان معناه إلى قلبك أسبق من لفظه إلى سمعك»، أن يجتهد المتكلم في ترتيب اللفظ وتهذيبه وصيانته من كل ما أخلّ بالدّلالة، وعاق دون الإبانة، ولم يريدوا أن خير الكلام ما كان غفلا مثل ما يتراجعه الصبيان ويتكلّم به العامّة في السوق. هذا، وليس إذا كان الكلام في غاية البيان وعلى أبلغ ما يكون من الوضوح، ¬

_ ديوانه ص 145، من قصيدة يمدح فيها المعتصم ويذكر إحراق الأفشين، وهو في دلائل الإعجاز ص 84. ويروى هكذا: «كاثنين ثان». (¬1) البيت لأبي تمام في ديوانه ص 215 من قصيدة يمدح فيها المعتصم بالله، وهو في دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني ص 84. (¬2) راجع هامش (2) ص 90. (¬3) الأبيات في ديوانه. وابن الرمي كان كثير الهجاء لعلي بن سليم الأخفش والأبيات من قصيدة طويلة مطلعها: رقاب أهل الحلوم متعمدة … مقصودة بالهوان معتمدة

أغناك ذاك عن الفكرة إذا كان المعنى لطيفا، فإن المعاني الشريفة اللطيفة لا بدّ فيها من بناء ثان على أوّل، وردّ تال على سابق. أفلست تحتاج في الوقوف على الغرض من قوله: [من الكامل] كالبدر أفرط في العلوّ (¬1) إلى أن تعرف البيت الأول، فتتصوّر حقيقة المراد منه ووجه المجاز في كونه دانيا شاسعا، وترقم ذلك في قلبك، ثم تعود إلى ما يعرض البيت الثاني عليك من حال البدر، ثم تقابل إحدى الصورتين بالأخرى، وتردّ البصر من هذه إلى تلك، وتنظر إليه كيف شرط في العلوّ والإفراط، ليشاكل قوله: «شاسع»، لأن الشّسوع هو الشديد البعد، ثم قابله بما لا يشاكله من مراعاة التناهي في القرب فقال: «جدّ قريب»؟ فهذا هو الذي أردت بالحاجة إلى الفكر، وبأنّ المعنى لا يحصل لك إلا بعد انبعاث منك في طلبه، واجتهاد في نيله. هذا، وإن توقفت في حاجتك أيها السامع للمعنى إلى الفكر في تحصيله، فهل تشكّ في أن الشاعر الذي أدّاه إليك، ونشر بزّه لديك، قد تحمّل فيه المشقّة الشديدة، وقطع إليه الشّقة البعيدة، وأنه لم يصل إلى درّه حتى غاص، ولم ينل المطلوب حتى كابد منه الامتناع والاعتياص؟ ومعلوم أن الشيء إذا علم أنه لم ينل في أصله إلا بعد التّعب، ولم يدرك إلا باحتمال النّصب، كان للعلم بذلك من أمره من الدعاء إلى تعظيمه، وأخذ الناس بتفخيمه، ما يكون لمباشرة الجهد فيه، وملاقاة الكرب دونه. وإذا عثرت بالهوينا على كنز من الذهب، لم تخرجك سهولة وجوده إلى أن تنسى جملة أنه الذي كدّ الطالب، وحمّل المتاعب، حتى إن لم تكن فيك طبيعة من الجود تتحكّم عليك، ومحبّة للثناء تستخرج النفيس من يديك كان من أقوى حجج الضّنّ الذي يخامر الإنسان أن تقول: «إن لم يكدّني فقد كدّ غيري»، كما يقول الوارث للمال المجموع عفوا إذا ليم على بخله به، وفرط شحّه عليه: «إن لم يكن كسبي وكدّي، فهو كسب أبي وجدي، ولئن لم ألق فيه عناء، لقد عانى سلفي فيه الشدائد، ولقوا في جمعه الأمّرين، أفأضيّع ما ثمّروه، وأفرّق ما جمعوه، وأكون كالهادم لما أنفقت الأعمار في بنائه، والمبيد لما قصرت الهمم على إنمائه؟». وإنك لا تكاد تجد شاعرا يعطيك في المعاني الدقيقة من التسهيل والتقريب، ¬

_ (¬1) راجع هامش (4) ص 101.

وردّ البعيد إلى المألوف القريب، ما يعطي البحتريّ، ويبلغ في هذا الباب مبلغه، فإنه ليروض لك المهر الأرن رياضة الماهر، حتى يعنق من تحتك إعناق القارح المذلّل، وينزع من شماس الصعب الجامح، حتى يلين لك لين المنقاد الطّيع، ثمّ لا يمكن ادعاء أنّ جميع شعره في قلّة الحاجة إلى الفكر، والغنى عن فضل النظر، كقوله (¬1): [من الهزج] فؤادي منك ملآن … وسرّي فيك إعلان وقوله (¬2): [من الكامل] عن أيّ ثغر تبتسم وهل ثقل على المتوكل قصائده الجياد حتى قلّ نشاطه لها واعتناؤه بها، إلا لأنّه لم يفهم معانيها كما فهم معاني النوع النازل الذي انحطّ له إليه؟ أتراك تستجيز أن تقول: إن قوله: منى النّفس في أسماء لو يستطيعها (¬3) من جنس المعقّد الذي لا يحمد، وإن هذه الضّعيفة الأسر، الواصلة إلى القلوب من غير فكر، أولى بالحمد، وأحقّ بالفضل. هذا، والمعقّد من الشعر والكلام لم يذمّ لأنه مما تقع حاجة فيه إلى الفكر على الجملة، بل لأنّ صاحبه يعثر فكرك في متصرّفه، ويشيك طريقك إلى المعنى، ويوعّر مذهبك نحوه، بل ربّما قسّم فكرك، وشعّب ظنّك، حتى لا تدري من أين تتوصّل وكيف تطلب؟. وأمّا الملخّص، فيفتح لفكرتك الطريق المستوي ويمهّده، وإن كان فيه تعاطف أقام عليه المنار، وأوقد فيه الأنوار، حتى تسلكه سلوك المتبين لوجهته، وتقطعه قطع الواثق بالنّجح في طيّته، فترد الشريعة زرقاء، والروضة غنّاء، فتنال الريّ، وقطف الزهر الجنيّ، وهل شيء أحلى من الفكرة إذا استمرت وصادفت نهجا ¬

_ (¬1) البيت للبحتري في ديوانه. (¬2) البيت للبحتري أيضا. (¬3) مطلع قصيدة للبحتري من جياد قصائده، في مدح المتوكل، وتمامه: ................ .... … بها وجدها من غادة وولوعها وقد راعني منها الصدر وإنما … تصد لشيب في عذارى يروعها

مستقيما، مذهبا قويما، وطريقة تنقاد، وتبيّنت لها الغاية فيما ترتاد؟ فقد قيل: «قرّة العين، وسعة الصدر، وروح القلب، وطيب النفس، من أربعة أمور: الاستبانة للحجّة، والأنس بالأحبّة، والثّقة بالعدّة، والمعاينة للغاية». وقال الجاحظ في أثناء فصل يذكر فيه ما في الفكر والنظر من الفضيلة: «وأين تقع لذّة البهيمة بالعلوفة، ولذّة السّبع بلطع الدّم وأكل اللحم، من سرور الظفر بالأعداء، ومن انفتاح باب العلم بعد إدمان قرعه، وبعد، فإذا مدّت الحلبات لجري الجياد، ونصبت الأهداف لتعرف فضل الرّماة في الإبعاد والسّداد، فرهان العقول التي تستبق، ونضالها الذي تمتحن قواها في تعاطيه، هو الفكر والرويّة والقياس والاستنباط». ولن يبعد المدى في ذلك، ولا يدقّ المرمى إلا بما تقدم من تقرير الشّبه بين الأشياء المختلفة، فإنّ الأشياء المشتركة في الجنس، المتفقة في النوع، تستغني بثبوت الشّبه بينها، وقيام الاتفاق فيها، عن تعمّل وتأمل في إيجاب ذلك لها وتثبته فيها، وإنما الصّنعة تستدعي وجود القريحة والحذق، والنظر يلطف ويدقّ، في أن تجمع أعناق المتنافرات والمتباينات في ربقة، وتعقد بين الأجنبيّات معاقد نسب وشبكة. وما شرفت صنعة، ولا ذكر بالفضيلة عمل، إلا لأنهما يحتاجان من دقّة الفكر ولطف النظر ونفاذ الخاطر، إلى ما لا يحتاج إليه غيرهما، ويحتكمان على من زاولهما والطالب لهما من هذا المعنى، ما لا يحتكم ما عداهما، ولا يقتضيان ذلك إلّا من جهة إيجاد الائتلاف في المختلفات. وذلك بين لك فيما تراه من الصناعات وسائر الأعمال التي تنسب إلى الدقة، فإنك تجد الصورة المعمولة فيها، كلما كانت أجزاؤها أشدّ اختلافا في الشكل والهيئة، ثم كان التلاؤم بينها مع ذلك أتمّ، والائتلاف أبين، كان شأنها أعجب، والحذق لمصوّرها أوجب. وإذا كان هذا ثابتا موجودا، ومعلوما معهودا، من حال الصور المصنوعة والأشكال المؤلّفة، فاعلم أنها القضيّة في «التمثيل» واعمل عليها، واعتقد صحّة ما ذكرت لك من أنّ أخذ الشبه للشيء مما يخالفه في الجنس وينفصل عنه من حيث ظاهر الحال، حتى يكون هذا شخصا يملأ المكان، وذاك معنى لا يتعدّى الأفهام والأذهان وحتى إن هذا إنسان يعقل، وذاك جماد أو موات لا يتّصف بأنه يعلم أو يجهل وهذا نور شمس يبدو في السماء ويطلع، وذاك معنى كلام يوعى ويسمع وهذا

روح يحيا به الجسد، وذاك فضل ومكرمة تؤثر وتحمد، كما قال (¬1): [من البسيط] إنّ المكارم أرواح يكون لها … آل المهلّب دون النّاس أجسادا وهذا مقال متعصّب منكر للفضل حسود، وذاك نار تلتهب في عود، وهذا مخلاف، وذاك ورق خلاف، كما قال ابن الرّوميّ (¬2): [من الخفيف] بذل الوعد للأخلّاء سمحا … وأبى بعد ذاك بذل العطاء فغدا كالخلاف يورق للعي … ن، ويأبى الإثمار كلّ الإباء وهذا رجل يروم العدوّ تصغيره والإزراء به، فيأبى فضله إلّا ظهورا، وقدره إلا سمّوا، وذاك شهاب من نار تصوّب وهي تعلو، وتخفض وهي ترتفع، كما قال أيضا (¬3): [من الخفيف] ثم حاولت بالمثيقيل تصغي … ري فما زدتني سوى التّعظيم كالذي طأطأ الشّهاب ليخفى … وهو أدنى له إلى التّضريم وأخذ هذا المعنى من كلام في حكم الهند، وهو: «إن الرجل ذا المروءة والفضل ليكون خامل المنزلة غامض الأمر، فما تبرح به مروءته وعقله حتى يستبين ويعرف، كالشعلة من النار التي يصوّبها صاحبها وتأبى إلّا ارتفاعا». هذا هو الموجب للفضيلة، والداعي إلى الاستحسان، والشفيع الذي أحظى «التمثيل» عند السامعين، واستدعى له الشغف والولوع من قلوب العقلاء الراجحين، ولم تأتلف هذه الأجناس المختلفة للممثّل، ولم تتصادف هذه الأشياء المتعادية على حكم المشبّه، إلا لأنه لم يراع ما يحضر العين، ولكن ما يستحضر العقل، ولم يعن بما تنال الرؤية، بل بما تعلّق الرويّة، ولم ينظر إلى الأشياء من حيث توعى فتحويها الأمكنة بل من حيث تعيها القلوب الفطنة. ثم على حسب دقّة المسلك إلى ما استخرج من الشّبه، ولطف المذهب وبعد التّصعّد إلى ما حصل من الوفاق، استحقّ مدرك ذلك المدح، واستوجب التقديم، واقتضاك العقل أن تنوّه بذكره، وتقضي بالحسنى في نتائج فكره. نعم، وعلى حسب ¬

_ (¬1) البيت من ثلاثة أبيات في شرح الحماسة 4/ 147، وأمالي القالي، وهو ينسب لعمر بن لجأ في يزيد بن المهلب. (¬2) راجع هامش رقم (4) ص 90. (¬3) البيتان في معجم الشعراء ص 448. مثيقل: تصغير مثقال.

المراتب في ذلك أعطيته في بعض منزلة الحاذق الصّنع، والملهم المؤيّد، والألمعي المحدّث، الذي سبق إلى اختراع نوع من الصنعة حتى يصير إماما، ويكون من بعده تبعا له وعيالا عليه وحتى تعرف تلك الصّنعة بالنسبة إليه، فيقال: «صنعة فلان»، و «عمل فلان» ووضعته في بعض موضع المتعلّم الذكيّ، والمقتدي المصيب في اقتدائه، الذي يحسن التشبّه بمن أخذ عنه، ويجيد حكاية العمل الذي استفاد، ويجتهد أن يزداد. واعلم أني لست أقول لك إنك متى ألّفت الشيء ببعيد عنه في الجنس على الجملة فقد أصبت وأحسنت، ولكن أقوله بعد تقييد وبعد شرط، وهو أن تصيب بين المختلفين في الجنس وفي ظاهر الأمر شبها صحيحا معقولا، وتجد للملاءمة والتأليف السويّ بينهما مذهبا وإليهما سبيلا وحتى يكون ائتلافهما الذي يوجب تشبيهك، من حيث العقل والحدس، في وضوح اختلافهما من حيث العين والحسّ، فأمّا أن تستكره الوصف وتروم أن تصوّره حيث لا يتصوّر، فلا لأنك تكون في ذلك بمنزلة الصّانع الأخرق، يضع في تأليفه وصوغه الشكل بين شكلين لا يلائمانه ولا يقبلانه، حتى تخرج الصورة مضطربة، وتجيء فيها نتوّ، ويكون للعين عنها من تفاوتها نبوّ. وإنما قيل: «شبّهت، ولا تعني في كونك مشبّها أن تذكر حرف التشبيه أو تستعير، إنما تكون مشبّها بالحقيقة بأن ترى الشّبه وتبيّنه، ولا يمكنك بيان ما لا يكون، وتمثيل ما لا تتمثّله الأوهام والظنون. ولم أرد بقولي إنّ الحذق في إيجاد الائتلاف بين المختلفات في الأجناس، أنك تقدر أن تحدث هناك مشابهة ليس لها أصل في العقل، وإنما المعنى أنّ هناك مشابهات خفيّة يدقّ المسلك إليها، فإذا تغلغل فكرك فأدركها فقد استحققت الفضل. ولذلك يشبّه المدقّق في المعاني بالغائص على الدرّ، ووزان ذلك أن القطع التي يجيء من مجموعها صورة الشّنف والخاتم أو غيرهما من الصور المركّبة من أجزاء مختلفة الشكل، لو لم يكن بينها تناسب، أمكن ذلك التناسب أن يلائم بينها الملائمة المخصوصة، ويوصل الوصل الخاصّ، لم يكن ليحصل لك من تأليفها الصورة المقصودة. ألا ترى أنّك لو جئت بأجزاء مخالفة لها في الشكل، ثم أردتها على أن تصير إلى الصورة التي كانت من تلك الأولى، طلبت ما يستحيل؟ فإنما استحققت الأجرة على الغوص وإخراج الدّر، لا أن الدرّ كان بك، واكتسى شرفه من جهتك، ولكن لمّا كان الوصول إليه صعبا وطلبه عسيرا، ثم رزقت ذلك، وجب أن يجزل لك، ويكبّر صنيعك.

ألا ترى أن التشبيه الصريح إذا وقع بين شيئين متباعدين في الجنس، ثم لطف وحسن، لم يكن ذلك اللّطف وذلك الحسن إلا لاتفاق كان ثابتا بين المشبّه والمشبّه به من الجهة التي بها شبّهت، إلّا أنه كان خفيا لا ينجلي إلا بعد التأنّق في استحضار الصور وتذكّرها، وعرض بعضها على بعض، والتقاط النّكتة المقصودة منها، وتجريدها من سائر ما يتّصل بها، نحو أن تشبّه الشيء بالشيء في هيئة الحركة، فتطلب الوفاق بين الهيئة والهيئة مجرّدة من الجسم وسائر ما فيه من اللون وغيره من الأوصاف؟ كما فعل ابن المعتز في تشبيه البرق حيث قال (¬1): [من المديد] وكأنّ البرق مصحف قار … فانطباقا مرّة وانفتاحا لم ينظر من جميع أوصاف البرق ومعانيه إلا إلى الهيئة التي تجدها العين له من انبساط يعقبه انقباض، وانتشار يتلوه انضمام، ثم فلى نفسه عن هيئات الحركات لينظر أيّها أشبه بها، فأصاب ذلك فيما يفعله القارئ من الحركة الخاصّة في المصحف، إذا جعل يفتحه مرة ويطبقه أخرى. ولم يكن إعجاب هذا التشبيه لك وإيناسه إياك لأن الشيئين مختلفان في الجنس أشدّ الاختلاف فقط، بل لأنّ حصل بإزاء الاختلاف اتفاق كأحسن ما يكون وأتمّه، فبمجموع الأمرين شدّة ائتلاف في شدّة اختلاف حلا وحسن، وراق وفتن. ويدخل في هذا الوضع الحكاية المعروفة في حديث عديّ بن الرّقاع، قال جرير: «أنشدني عديّ (¬2): [من الكامل] عرف الديار توهّما فاعتادها ¬

_ (¬1) البيت لابن المعتز في ديوانه ص 141 (طبعة دار صادر)، من قصيدة مطلعها: عرف الدار، فحيّا وناحا … بعد ما كان صحا واستراحا وهو في الإيضاح ص 215 تحقيق د. هنداوي. (¬2) تمام البيت: من بعد ما شمل البلى أبلادها والبيت من قصيدة في مدح الوليد بن عبد الملك ومنها: ولقد أراد الله إذ ولاكها … من أمة إصلاحها ورشادها «عومنها» تأتيه أسلاب الأعزة عنوة … قسرا ويجمع للحرب عتادها والبيت في الإيضاح: تحقيق الدكتور هنداوي، مؤسسة المختار، والأبلاد: قطع الأرض عامرة أو غامرة أو الآثار في قول بعضهم.

فلمّا بلغ إلى قوله: تزجي أغنّ كأنّ إبرة روقه رحمته، وقلت: قد وقع! ما عساه يقول وهو أعرابيّ جلف جاف؟ فلما قال: قلم أصاب من الدّواة مدادها استحالت الرّحمة حسدا» فهل كانت الرحمة في الأولى، والحسد في الثانية، إلا أنه رآه حين افتتح التشبيه قد ذكر ما لا يحضر له في أوّل الفكر وبديهة الخاطر، وفي القريب من محلّ الظنّ شبه، وحين أتمّ التشبيه وأدّاه صادفه قد ظفر بأقرب صفة من أبعد موصوف، وعثر على خبيء مكانه غير معروف؟. وعلى ذلك استحسنوا قول الخليل في انقباض كفّ البخيل (¬1): [من المتقارب] كفاك لم تخلقا للنّدى … ولم يك بخلهما بدعه فكفّ عن الخير مقبوضة … كما نقضت مائة سبعه وكفّ ثلاثة آلافها … وتسع مئيها لها شرعه وذلك أنه أراك شكلا واحدا في اليدين، مع اختلاف العددين، ومع اختلاف المرتبتين في العدد أيضا، لأن أحدهما من مرتبة العشرات والآحاد، والآخر من مرتبة المئين والألوف، فلما حصل الاتفاق كأشدّ ما يكون في شكل اليد مع الاختلاف، كأبلغ ما يوجد في المقدار والمرتبة من العدد، كان التشبيه بديعا. قال المرزباني: «وهذا ما أبدع فيه الخليل، لأنه وصف انقباض اليدين بحالين من الحساب مختلفين في العدد، متشاكلين في الصورة»، وقوله هذا إجمال ما فصّلته. ومما ينظر إلى هذا الفصل ويداخله ويرجع إليه حين تحصيله، الجنس الذي يراد فيه كون الشيء من الأفعال سببا لضدّه، كقولنا: «أحسن من حيث قصد الإساءة» و «نفع من حيث أراد الضّرّ»، إذ لم يقنع المتشاغل بالعبارة الظاهرة والطريقة المعروفة، وصوّر في نفس الإساءة الإحسان، وفي البخل الجود، وفي المنع العطاء، وفي موجب الذمّ موجب الحمد، وفي الحالة التي حقّها أن تعدّ على الرجل حكم ما يعتدّ له، والفعل الذي هو بصفة ما يعاب وينكر، صفة ما يقبل المنّة ويشكر، فيدلّ ذلك بما يكون فيه من الوفاق الحسن مع الخلاف البيّن، على حذق شاعره، وعلى ¬

_ (¬1) الأبيات للخليل بن أحمد في عيون الأخبار 2/ 35، رواها عنه الأخفش.

فصل هذا فن آخر من القول يجمع التشبيه والتمثيل جميعا

جودة طبعه وحدّة خاطره، وعلوّ مصعده وبعد غوصه، إذا لم يفسده بسوء العبارة، ولم يخطئه التوفيق في تلخيص الدلالة، وكشف تمام الكشف عن سرر المعنى وسرّه بحسن البيان وسحره. مثال ما كان من الشعر بهذه الصّفة قول أبي العتاهية (¬1): [من الكامل] جزي البخيل عليّ صالحة … عنّي، بخفّته على ظهري أعلى وأكرم عن يديه يدي … فعلت، ونزّه قدره قدري ورزقت من جدواه عافية … أن لا يضيق بشكره صدري وغنيت خلوا من تفضّله … أحنو عليه بأحسن العذر ما فاتني خير امرئ وضعت … عنّي يداه مئونة الشّكر ومن اللطيف مما يشبه هذا قول الآخر (¬2): [من المنسرح] أعتقني سوء ما صنعت من ال … رقّ، فيا بردها على كبدي فصرت عبدا للسّوء فيك، وما … أحسن سوء قبلي إلى أحد فصل هذا فن آخر من القول يجمع التشبيه والتمثيل جميعا اعلم أن معرفة الشيء من طريق الجملة، غير معرفته من طريق التفصيل. فنحن وإن كنّا لا يشكل علينا الفرق بين التشبيه الغريب وغير الغريب إذا سمعنا بهما، فإنّ لوضع القوانين وبيان التّقسيم في كل شيء، وتهيئة العبارة في الفروق، فائدة لا ينكرها المميز، ولا يخفى أن ذلك أتمّ للغرض وأشفى للنفس. والمعنى الجامع في سبب الغرابة أن يكون الشّبه المقصود من الشيء مما لا يتسرّع إليه الخاطر، ولا يقع في الوهم عند بديهة النظر إلى نظيره الذي يشبّه به، بل بعد تثبّت وتذكر وفلي للنفس عن الصور التي تعرفها، وتحريك للوهم في استعراض ذلك واستحضار ما غاب منه. ¬

_ (¬1) الأبيات في ديوانه طبعة بيروت، ودلائل الإعجاز ص 510، تحقيق د. محمود شاكر. (¬2) البيتان في الحماسة الشجرية: ص 291، وشرح نهج البلاغة 19/ 337، وابن عساكر 2/ 97، ودلائل الإعجاز ص 510، تحقيق د. محمود شاكر.

بيان ذلك: أنك كما ترى الشمس ويجري في خاطرك استدارتها ونورها، تقع في قلبك المرآة المجلوّة، ويتراءى لك الشّبه منها فيها. وكذلك إذا نظرت إلى الوشي منشورا وتطلّبت لحسنه ونقشه واختلاف الأصباغ فيه شبها، حضرك ذكر الرّوض ممطورا مفتّرا عن أزهاره، متبسّما عن أنواره. وكذلك إذا نظرت إلى السيف الصّقيل عند سلّه وبريق متنه، لم يتباعد عنك أن تذكر انعقاق البرق، وإن كان هذا أقلّ ظهورا من الأوّل، وعلى هذا القياس. ولكنّك تعلم أن خاطرك لا يسرع إلى تشبيه الشّمس بالمرآة في كفّ الأشلّ، كقوله (¬1): [من الرجز] والشّمس كالمرآة في كفّ الأشل هذا الإسراع ولا قريبا منه. ولا إلى تشبيه البرق بإصبع السّارق، كقول كشاجم (¬2): [من الرجز] أرقت أم نمت لضوء بارق … مؤتلقا مثل الفؤاد الخافق كأنّه إصبع كف السّارق وكقول ابن بابك (¬3): [من الطويل] ونضنض في حضني سمائك بارق … له جذوة من زبرج اللّاذ لامعه تعوّج في أعلى السحاب كأنّها … بنان يد من كلّة اللّاذ ضارعه ولا إلى تشبيه البرق في انبساطه وانقباضه والتماعه وائتلافه، بانفتاح المصحف وانطباقه، فيما مضى من قول ابن المعتز (¬4): [من المديد] وكأنّ البرق مصحف قار … فانطباقا مرّة وانفتاحا ولا إلى تشبيه سطور الكتاب بأغصان الشوك في قوله (¬5): [من الوافر] بشكل يأخذ الحرف المحلّى … كأن سطوره أغصان شوك ¬

_ (¬1) البيت لجبار بن جزء بن ضرار، ابن أخي الشماخ، والأشل: هو مقدار من الذراع معلوم بالبصرة، يقولون كذا وكذا حبلا، وكذا وكذا أشلاء لمقدار معلوم عندهم، قال الأزهري: وما أراه عربيا. [تاج العروس]. (¬2) البيت في ديوانه، وفي نسخة الدكتور محمود شاكر «الفؤاد الخافق» بدلا من «الفؤاد العاشق». (¬3) نضنض أي: تحرك، ونضنض الطائر: حرّك جناحيه ليطير ونضنض لسانه: حركه، الضاد فيه أصل وليست بدلا من صاد كما زعم قوم، الزبرج: الوشي الخفيف، اللاذ: الحرير. (¬4) راجع هامش (1) ص 116. (¬5) البيت في ديوان ابن المعتز، وقبله يصف دفترا: دونكه موشّى نمنمته … وحاكته الأنامل أي حوك

ولا إلى تشبيه الشّقيق بأعلام ياقوت على رماح زبرجد، كقول الصّنوبريّ (¬1): [من الكامل] وكأنّ محمرّ الشقي … ق إذا تصوّب أو تصعّد أعلام ياقوت نشر … ن على رماح من زبرجد ولا إلى تشبيه النجوم طالعات في السماء مفترقات مؤتلفات في أديمها، وقد مازجت زرقة لونها بياض نورها، بدرّ منثور على بساط أزرق، كقول أبي طالب الرّقّي (¬2): [من الكامل] وكأنّ أجرام النّجوم لوامعا … درر نثرن على بساط أزرق ولا ما جرى في هذا السبيل، وكان من هذا القبيل. بل تعلم أن الذي سبقك إلى أشباه هذه التشبيهات لم يسبق إلى مدى قريب، بل أحرز غاية لا ينالها غير الجواد، وقرطس في هدف لا يصاب إلّا بعد الاحتفال والاجتهاد. واعلم أنك إن أردت أن تبحث بحثا ثانيا حتى تعلم لم وجب أن يكون بعض الشّبه على الذكر أبدا، وبعضه كالغائب عنه، وبعضه كالبعيد عن الحضرة لا ينال إلا بعد قطع مسافة إليه، وفضل تعطّف بالفكر عليه فإنّ هاهنا ضربين من العبرة يجب أن تضبطهما أوّلا، ثم ترجع في أمر التشبيه، فإنّك حينئذ تعلم السّبب في سرعة بعضه إلى الفكر، وإباء بعض أن يكون له ذلك الإسراع. فإحدى العبرتين: أنّا نعلم أن الجملة أبدا أسبق إلى النفوس من التفصيل، وأنت تجد الرؤية نفسها لا تصل بالبديهة إلى التفصيل، لكنك ترى بالنّظر الأوّل الوصف على الجملة، ثم ترى التفصيل عند إعادة النظر، ولذلك قالوا: «النظرة الأولى حمقاء»، وقالوا: «لم ينعم النّظر ولم يستقص التأمّل». وهكذا الحكم في السمع وغيره من الحواس، فإنك تتبيّن من تفاصيل الصّوت بأن يعاد عليك حتى تسمعه مرّة ¬

_ (¬1) البيتان للصنوبري، وهما في مفتاح العلوم ص 461، تحقيق د. هنداوي، وأورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص 116، والطيبي في شرحه على المشكاة 1/ 110 تحقيق د. هنداوي، والعلوي في الطراز 1/ 275. (¬2) البيت لأبي طالب الرّقّي، وهو في الإيضاح تحقيق د. هنداوي ص 214، 228، 236، ومفتاح العلوم ص 444 تحقيق د. هنداوي، وأورده الطيبي في التبيان ص 281، وفيه «نشرن» بدلا من «نثرن»، والطيبي في شرحه على مشكاة المصابيح 1/ 107، ولعلوي في الطراز، وقبله: ولقد ذكرتك في الظلام كأنه … يوم النوى وفؤاد من لم يعشق

ثانية، ما لم تتبيّنه بالسماع الأول، وتدرك من تفصيل طعم المذوق بأن تعيده إلى اللّسان ما لم تعرفه في الذّوقة الأولى، وبإدراك التّفصيل يقع التفاضل بين راء وراء، وسامع وسامع، وهكذا، فأمّا الجمل فتستوي فيها الأقدام. ثمّ تعلم أنّك في إدراك تفصيل ما تراه وتسمعه أو تذوقه، كمن ينتقي الشيء من بين جملة، وكمن يميّز الشيء مما قد اختلط به، فإنك حين لا يهمّك التفصيل، كمن يأخذ الشيء جزافا وجرفا. وإذا كانت هذه العبرة ثابتة في المشاهدة وما يجري مجراها مما تناله الحاسّة، فالأمر في القلب كذلك: تجد الجمل أبدا هي التي تسبق إلى الأوهام وتقع في الخاطر أوّلا، وتجد التفاصيل مغمورة فيما بينها، وتراها لا تحضر إلا بعد إعمال للرؤية واستعانة بالتذكّر. ويتفاوت الحال في الحاجة إلى الفكر بحسب مكان الوصف ومرتبته من حدّ الجملة وحدّ التفصيل، وكلّما كان أوغل في التفصيل، كانت الحاجة إلى التوقّف والتذكّر أكثر، والفقر إلى التأمّل والتمهّل أشدّ. وإذ قد عرفت هذه العبرة، فالاشتراك في الصفة إذا كان من جهة الجملة على الإطلاق، بحيث لا يشوبه شيء من التفصيل نحو أن كلا الشيئين أسود أو أحمر فهو يقلّ عن أن تحتاج فيه إلى قياس وتشبيه. فإن دخل في التفصيل شيئا نحو: أن هذا السواد صاف برّاق، والحمرة رقيقة ناصعة احتجت بقدر ذلك إلى إدارة الفكر. وذلك مثل تشبيه حمرة الخدّ بحمرة التفّاح والورد، فإن زاد تفصيله بخصوص تدقّ العبارة عنه، ويتعرّف بفضل تأمّل، ازداد الأمر قوّة في اقتضاء الفكر، وذلك نحو تشبيه سقط النار بعين الديك في قوله: [من الطويل] وسقط كعين الدّيك عاورت صحبتي (¬1) وذلك أنّ ما في لون عينه من تفصيل وخصوص، يزيد على كون الحمرة رقيقة ¬

_ (¬1) البيت لذي الرمة في ديوانه ص 85 من قصيدة مطلعها: لقد جشأت نفس عشية مشرف … ويوم لوى حزوى فقلت لها صبرا وهو في الإيضاح ص 213 تحقيق د. عبد الحميد هنداوي. والسّقط: ما سقط بين الزندين قبل استحكام الورى، وقد شبه النار بعين الديك، عاورت صاحبي: تداولت، فأنا أقدح مرة، وهو يقدح مرة. ثم يقول بعده: مشهّرة لا يمكن الفحل أمّها … إذا نحن لم نمسك بأطرافها قسرا

ناصعة والسواد صافيّا برّاقا. وعلى هذا تجد هذا الحدّ من المرتبة التي لا يستوي فيها البليد والذكيّ، والمهمل نفسه والمتيقّظ المستعدّ للفكر والتصوّر، فقوله (¬1): [من الطويل] كأنّ على أنيابها كلّ سحرة … صياح البوازي من صريف اللّوائك أرفع طبقة من قوله (¬2): [من الطويل] كأن صليل المرو حين تشذّه … صليل زيوف ينتقدن بعبقرا لأن التفصيل والخصوص في صوت البازي، أبين وأظهر منه في صليل الزيوف. وكما أن قوله يصف الفرس (¬3): [من البسيط] وللفؤاد وجيب تحت أبهره … لدم الغلام وراء الغيب بالحجر لا يسوّى بتشبيه وقع الحوافر بهزمة الرعد، وتشبيه الصّوت الذي يكون لغليان القدر بنحو ذلك، كقوله (¬4): [من الطويل] لها لغط جنح الظّلام كأنّه … عجارف غيث رائح متهزّم لأنّ هناك من التفصيل الحسن ما تراه، وليس في كون الصوت من جنس اللّغط تفصيل يعتدّ به، وإنما هو كالزيادة والشدّة في الوصف. ومثال ذلك مثال أن يكون جسم أعظم من جسم في أنه لا يتجاوز مرتبة الجمل كبير تجاوز، فإذا رأى الرجل شخصا قد زاد على المعتاد في العظم ¬

_ (¬1) راجع ص 70 هامش رقم (2). (¬2) البيت لامرئ القيس، وهو في ديوانه ص 63 من قصيدة قالها في توجهه إلى قيصر ملك الروم مستجدا به على رد ملكه إليه والانتقام من بني أسد، ومطلعها: سما بك شوق بعد ما كان أقصرا … وحلّت سليمى بطن قوم فعرعرا كنا فيه باتت وفي الصدر ودها … مجاورة غسان والحي يعمرا وصليل المرو: صوت الحجارة. تشذّه: تنحيه. الزيوف: الدراهم الزائفة التي لا فضة فيها. عبقر: واد زعموا أنه كثير الجن، وإليه تنسب نفائس الأشياء وبدائع الفكر، فيقال: هذا بساط عبقري، وهذا رأي عبقري، وهذا رجل عبقري، وذلك لكل حسن مستجاد. (¬3) البيت لتميم بن أبي مقبل في ديوانه. والأبهر: عرق مستبطن في الصلب والقلب متصل به، فإذا انقطع لم تكن معه حياة. (¬4) البيت لعمرو بن أحمر الباهلي في ديوانه، وهو في شرح الحماسة يصف القدور. عجارف: شدة المطر والغيث، المنهزم: المتصوت يقال: تهزمت القوس وتهزم الرعد أي صوتا.

والضخامة، لم يحتجّ في تشبيهه بالفيل أو الجبل أو الجمل أو نحو ذلك إلى شيء من الفكر، بل يحضره ذلك حضور ما يعرف بالبديهة. والمقابلات التي تريك الفرق بين الجملة والتفصيل كثيرة، ومن اللّطيف في ذلك أن تنظر إلى قوله (¬1): [من المتقارب] يتابع لا يبتغي غيره … بأبيض كالقبس الملتهب ثم تقابل به قوله (¬2): [من الطويل] جمعت ردينيّا كأنّ سنانه … سنا لهب لم يتّصل بدخان فإنك ترى بينهما من التفاوت في الفضل ما تراه، مع أن المشبّه به في الموضعين شيء واحد وهو شعلة النار، وما ذاك إلا من جهة أن الثاني قصد إلى تفصيل لطيف، ومرّ الأوّل على حكم الجمل. ومعلوم أن هذا التفصيل لا يقع في الوهم في أول وهلة، بل لا بدّ فيه من أن تتثبّت وتتوقّف وتروّى وتنظر في حال كل واحد من الفرع والأصل، حتى يقوم حينئذ في نفسك أن في الأصل شيئا يقدح في حقيقة الشبه، وهو الدّخان الذي يعلو رأس الشعلة، وأنه ليس في رأس السنان ما يشبه ذلك، وأنه إذا كان كذلك، كان التحقيق وما يؤدّي الشيء كما هو، أن تستثني الدّخان وتنفي اتصاله باللهب، وتقصر التّشبيه على مجرّد السّنا، وتصوّر السنان فيه مقطوعا عن الدخان. ولو فرضت أن يقع هذا كلّه على حدّ البديهة من غير أن يخطر ببالك ما ذكرت لك، قدّرت محالا لا يتصوّر، كما أنك لو قدّرت أن يكون تشبيه الثّريا بعنقود ملّاحية حين نوّر، بمنزلة تشبيهها بالنور على الإطلاق، أو تفتّح نور فقط، كما قال (¬3): [من الطويل] كأنّ الثّريا في أواخر ليلها … تفتّح نور .............. ¬

_ (¬1) البيت لعنترة بن شداد العبسي في ديوانه ص 17، وهو أحد أربعة أبيات قالها في قتل ورد بن حابس نضلة الأسدي. وهو في الإيضاح ص 235 تحقيق د. هنداوي. تتابع: توالى، ويروى: «تدارك لا يتقي نفسه» وبهذه الرواية ورد في شعر النصرانية. الأبيض: السيف. القبس: الشعلة تقتبس من معظم النار: يصف سيفه في إيماضه وبريقه. (¬2) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 170 يصف رمحه. الردينى: الرمح المقوم، منسوب إلى ردينة، قبيلة من العرب كانت معروفة بتقويم الرماح. (¬3) البيت لابن المعتز في ديوانه، وهو غير كامل وتمامه: أو لجام مفضّض

حتى ترى حاجتهما إلى التأمّل على مقدار واحد، وحتى لا يحوج أحدهما من الرجوع إلى النفس وبحثها عن الصور التي تعرفها، إلا إلى مثل ما يحوج إليه الآخر أسرفت في المجازفة، ونفضت يدا بالصّواب والتحقيق. والعبرة الثانية: أن ما يقتضي كون الشيء على الذّكر وثبوت صورته في النفس، أن يكثر دورانه على العيون، ويدوم تردّده في مواقع الأبصار، وأن تدركه الحواسّ في كل وقت أو في أغلب الأوقات وبالعكس، وهو أنّ من سبب بعد ذلك الشيء عن أن يقع ذكره بالخاطر، وتعرض صورته في النفس، قلّة رؤيته، وأنه مما يحسّ بالفينة بعد الفينة، وفي الفرط بعد الفرط، وعلى طريق النّدرة، وذلك أن العيون هي التي تحفظ صور الأشياء على النفوس، وتجدّد عهدها بها، وتحرسها من أن تدثر، وتمنعها أن تزول، ولذلك قالوا: «من غاب عن العين فقد غاب عن القلب»، وعلى هذا المعنى كانت المدارسة والمناظرة في العلوم وكرورها على الأسماع، سبب سلامتها من النّسيان، والمانع لها من التفلّت والذّهاب. وإذا كان هذا أمرا لا يشكّ فيه، بان منه أنّ كل شبه رجع إلى وصف أو صورة أو هيئة من شأنها أن ترى وتبصر أبدا، فالتشبيه المعقود عليه نازل مبتذل، وما كان بالضدّ من هذا وفي الغاية القصوى من مخالفته، فالتشبيه المردود إليه غريب نادر بديع، ثم تتفاضل التشبيهات التي تجيء واسطة لهذين الطّرفين، بحسن حالها منهما، فما كان منها إلى الطّرف الأول أقرب، فهو أدنى وأنزل، وما كان إلى الطّرف الثاني أذهب، فهو أعلى وأفضل، وبوصف الغريب أجدر. واعلم أن قولنا: «التفصيل» عبارة جامعة، ومحصولها على الجملة أنّ معك وصفين أو أوصافا، فأنت تنظر فيها واحدا واحدا، وتفصل بالتأمّل بعضها من بعض وأنّ بك في الجملة حاجة إلى أن تنظر في أكثر من شيء واحد، وأن تنظر في الشيء الواحد إلى أكثر من جهة واحدة. ثم إنه يقع في أوجه: أحدها: وهو الأولى والأحقّ بهذه العبارة: أن تفصّل، بأن تأخذ بعضا وتدع بعضا، كما فعل في اللهب حين عزل الدخان عن السّنا وجرّده، وكما فعل الآخر حين فصل الحدق عن الجفون، وأثبتها مفردة فيما شبّه، وذلك قوله: [من الطويل] لها حدق لم تتّصل بجفون (¬1) ¬

_ (¬1) البيت لابن المعتز في ديوانه ص 440، وصدره: فجاءت بها في كأسها ذهبيّة

ويقع في هذا الوجه من التفصيل لطائف، فمنها قول ابن المعتزّ (¬1): [من الرجز] بطارح النظرة في كل أفق … ذي منسر أقنى إذا شكّ خرق ومقلة تصدقه إذا رمق … كأنّها نرجسة بلا ورق وقوله (¬2): [من المنسرح] تكتب فيه أيدي المزاج لنا … ميمات سطر بغير تعريق والثاني: أن تفصّل، بأن تنظر من المشبّه في أمور لتعتبرها محلها، وتطلبها فيما تشبّه به، وذلك كاعتبارك، في تشبيه الثريا بالعنقود، الأنجم أنفسها، والشكل منها واللون، وكونها مجتمعة على مقدار في القرب والبعد. فقد نظرت في هذه الأمور واحدا واحدا، وجعلتها بتأمّلك فصلا فصلا، ثم جمعتها في تشبيهك، وطلبت للهيئة الحاصلة من عدّة أشخاص الأنجم، والأوصاف التي ذكرت لك من الشك واللون والتقارب على وجه مخصوص هيئة أخرى شبيهة بها، فأصبتها في العنقود المنور من الملّاحية ولم يقع لك وجه التشبيه بينهما إلا بأن فصّلت أيضا أجزاء العنقود بالنظر، وعلمت أنها خصل بيض، وأن فيها شكل استدارة النجم، ثم الشكل إلى الصغر ما هو، كما أن شكل أنجم الثريّا كذلك وأنّ هذه الخصل لا هي مجتمعة اجتماع النظام والتلاصق، ولا هي شديدة الافتراق، بل لها مقادير في التقارب والتباعد في نسبة قريبة مما تجده في رأى العين بين تلك الأنجم. يدلّك على أن التشبيه موضوع على مجموع هذه الأوصاف، أنّا لو فرضنا في تلك الكواكب أن تفترق وتتباعد تباعدا أكثر مما هي عليه الآن، أو قدّر في العنقود أن ينتثر، لم يكن التشبيه بحاله وكذلك الحكم في تشبيه الثريّا باللّجام المفضّض، لأنك راعيت الهيئة الخاصة من وقوع تلك القطع والأطراف بين اتّصال وانفصال، وعلى الشكل الذي يوجبه موضوع اللجام، ولو فرضت أن تركّب مثلا على سنن واحد طولا في سير واحد مثلا ويلصق بعضها ببعض، بطل التشبيه. ¬

_ (¬1) البيتان في ديوانه من أرجوزة في الطرد. والمنسر: منقاره الذي يستنسر به، ومنقار البازي، أبو زيد: منسر الطائر: منقاره بكسر الميم لا غير. (¬2) البيت لابن المعتز في ديوانه، يذكر قدح خمر، وقبله: لا شيء يسلي همي سوى قدح … تدمى عليه أوداج إبريق والتعريق: المد الزائد في الحروف كالميم وغيرها من الحروف.

وكذا قوله (¬1): [من الطويل] ..... تعرّض أثناء الوشاح المفصّل وقد اعتبر فيه هيئة التفصيل في الوشاح، والشكل الذي يكون عليه الخرز المنظوم في الوشاح، فصار اعتبار التفصيل أعجب تفصيل في التشبيه. والوجه الثالث: أن تفصّل بأن تنظر إلى خاصّة في بعض الجنس، كالتي تجدها في صوت البازي وعين الديك، فأنت تأبى أن تمرّ على جملة أنّ هذا صوت وذاك حمرة، ولكن تفصّل فتقول فيهما ما ليس في كل صوت وكل حمرة. واعلم أن هذه القسمة في التفصيل موضوعة على الأغلب الأعرف، وإلا فدقائقه لا تكاد تضبط. ومما يكثر فيه التفصيل ويقوى معناه فيه، ما كان من التشبيه مركّبا من شيئين أو أكثر، وهو ينقسم قسمين: أحدهما: أن يكون شيئا يقدّره المشبّه ويضعه ولا يكون. ومثال ذلك تشبيه النرجس بمداهن درّ حشوهنّ عقيق، وتشبيه الشّقيق بأعلام ياقوت نشرت على رماح من زبرجد، لأنك في هذا النحو تحصّل الشبه بين شيئين تقدّر اجتماعهما على وجه مخصوص وبشرط معلوم، فقد حصّلته في النرجس من شكل المداهن والعقيق، بشرط أن تكون الداهن من الدرّ، وأن يكون العقيق في الحشو منها وكذلك اشترطت هيئة الأعلام، وأن تكون من الياقوت، وأن تكون منشورة على رماح من زبرجد فبك حاجة في ذلك إلى مجموع أمور، لو أخللت بواحد منها لم يحصل الشّبه. وكذلك لو خالفت الوجه المخصوص في الاجتماع والاتصال بطل الغرض، فكما بك حاجة إلى أن يكون الشكل شكل المدهن، وأن يكون من الدّرّ وأن يكون معه العقيق، فبك أيضا فقر إلى أن يكون العقيق في حشو المداهن، وعلى هذا القياس. ¬

_ (¬1) البيت لامرئ القيس في معلقته الشهيرة وصدره: إذا ما الثريا في السماء تعرّضت وهو في ديوانه ص 114، والمعنى: كان تجاوزي الأحراس، وتقحمي المعاشر إليها، وقت تعرض الثريا في السماء. وقد زعموا أنه لم يرد الثريا وإنما أراد الجوزاء، لأن الثريا لا تتعرض مع أن لها اعتراضا عند السقوط، فإنها تأخذ وسط السماء كما يأخذ الوشاح وسط المرأة. وأثناء الوشاح: ثناياه. والمفصل: الذي فصل بين كل خرزتين منه بلؤلؤة.

والقسم الثاني: أن تعتبر في التشبيه هيئة تحصل من اقتران شيئين، وذلك الاقتران مما يوجد ويكون، ومثاله قوله (¬1): [من الوافر] غدا والصبح تحت اللّيل باد … كطرف أشهب ملقى الجلال قصد الشبه الحاصل لك إذا نظرت إلى الصبح والليل جميعا، وتأمّلت حالهما معا، وأراد أن يأتي بنظير للهيئة المشاهدة من مقارنة أحدهما الآخر، ولم يرد أن يشبّه الصبح على الانفراد والليل على الانفراد، كما لم يقصد الأول أن يشبّه الدارة البيضاء من النرجس بمدهن الدّر، ثم يستأنف تشبيها للثانية بالعقيق، بل أراد أن يشبّه الهيئة الحاصلة من مجموع الشكلين، من غير أن يكون بين في البين. ثم إن هذا الاقتران الذي وضع عليه التشبيه مما يوجد ويعهد، إذ ليس وجود الفرس الأشهب قد ألقى الجلّ، من المعوز فيقال إنه مقصور على التقدير والوهم. فأما الأوّل فلا يتعدّى التوهم وتقدير أن يصنع ويعمل، فليس في العادة أن تتّخذ صورة أعلاها ياقوت على مقدار العلم، وتحت ذلك الياقوت قطع مطاولة من الزبرجد كهيئة الأرماح والقامات وكذلك لا يكون هاهنا مداهن تصنع من الدرّ، ثم يوضع في أجوافها عقيق. وفي تشبيه الشّقيق زيادة معنى يباعد الصورة من الوجود، وهو شرطه أن تكون أعلاما منشورة، والنّشر في الياقوت وهو حجر، لا يتصوّر موجودا. وينبغي أن تعلم أن الوجه في إلقاء الجلّ، أن يريد أنه أداره عن ظهره، وأزاله عن مكانه، حتى تكشّف أكثر جسده، لا أنه رمى به جملة حتى انفصل منه، لأنه إذا أراد ذلك، كان قد قصد إلى تشبيه الصّبح وحده من غير أن يفكّر في الليل، ولم يشاكل قوله في أول البيت: «والصبح تحت الليل باد». وأمّا قوله (¬2): [من الرجز] إذا تفرّى البرق فيها خلته … بطن شجاع في كثيب يضطرب ¬

_ (¬1) البيت لابن المعتز في ديوانه ص 381، وهو من قصيدة «مأثور المقال» ومطلعها: أعاذل قد أبحت اللهو مالي … وهان عليّ مأثور المقال دعيني، هكذا خلقي، دعيني … فما لك حيلة فيه، ولا لي الطرف: الفرس الكريم. الأبلق: ما فيه سواد وبياض. والجلال: جمع جلّ وهو لباس الفرس يلبسه ليصان به. وهو في الإيضاح: تحقيق د. عبد الحميد هنداوي ص 227. (¬2) البيتان لابن المعتز في ديوانه ص 44، وقبله: جاءت بجفن أكحل وانصرفت … مرهاء من إسبال دمع منسكب وتفرّى البرق: تلألأ في السحاب، الشجاع: ضرب من الحيات دقيق لطيف، الأبلق: من الخيل ما فيه سواد وبياض.

وتارة تبصره كأنّه … أبلق مال جلّه حين وثب فالأشبه فيه أن يكون القصد إلى تشبيه البرق وحده ببياض البرق، دون أن يدخل لون الجلّ في التشبيه، حتى كأنّه يريد أن يريك بياض البرق في سواد الغمام، بل ينبغي أن يكون الغرض بذكر الجلّ أن البرق يلمع بغتة، ويلوح للعين فجأة، فصار لذلك كبياض الأبلق إذا ظهر عند وثوبه وميل جلّه عنه. وقد قال ابن بابك في هذا المعنى (¬1): [من السريع] للبرق فيها لهب طائش … كما يعرّى الفرس الأبلق إلّا أن لقول ابن المعتزّ: «حين وثب»، من الفائدة ما لا يخفى. وقد عني المتقدّمون أيضا بمثل هذا الاحتياط، ألا تراه قال (¬2): [من الخفيف] وترى البرق عارضا مستطيرا … مرح البلق جلن في الأجلال فجعلها تمرح وتجول، ليكون قد راعى ما به يتمّ الشّبه، وما هو معظم الغرض من تشبيهه، وهو هيئة حركته وكيفية لمعه. ثم اعلم أن هذا القسم الثاني الذي يدخل في الوجود يتفاوت حاله، فمنه ما يتسع وجوده، ومنه ما يوجد في النادر، ويبين ذلك بالمقابلة، فأنت إذا قابلت قوله (¬3): [من الكامل] وكأن أجرام النجوم لوامعا … درر نثرن على بساط أزرق بقول ذي الرّمة (¬4): [من البسيط] كأنّها فضّة قد مسّها ذهب علمت فضل الثاني على الأول في سعة الوجود، وتقدّم الأول على الثاني في ¬

_ (¬1) الضمير في «فيها» للسحابة. (¬2) البيت لكثير في ديوانه. والبلقة: مصدر الأبلق، ارتفاع التحجيل إلى الفخذين. الأجلال: جمع «جلّ» شراع السفينة. (¬3) راجع هامش 2 ص 120. (¬4) البيت في ديوانه ص 12، وصدره: كحلاء في برج، صفراء في نعج والبيت في الإيضاح: تحقيق د. هنداوي، وفيه «حوراء» بدلا من «كحلاء». والبرج في العين: أن يكون بياض العين محدقا بالسواد كله. النّعج: البياض الخالص.

عزّته وقلّته، وكونه نادر الوجود، فإنّ الناس يرون أبدا في الصياغات فضّة قد أجري فيها ذهب وطليت به، ولا يكاد يتفق أن يوجد درّ قد نثر على بساط أزرق. وإذ قد عرفت انقسام المركّب من التشبيه إلى هذين القسمين، فاعتبر موضعهما من العبرتين المذكورتين، فإنك تراهما بحسب نسبتهما منهما، وتحقّقهما بهما، قد أعطتاهما لطف الغرابة، ونفضتا عليهما صبغ الحسن، وكستاهما روعة الإعجاب، فتجد المقدّر الذي لا يباشر الوجود، نحو قوله (¬1): أعلام ياقوت نشر … ن على رماح من زبرجد وكقوله في النيلوفر (¬2): [من الخفيف] كلّنا باسط اليد … نحو نيلوفر ندي كدبابيس عسجد … قضبها من زبرجد قد اجتمع فيه العبرتان جميعا، وتجد العبرة الثانية قد أتت فيه على غاية القوة، لأنه لا مزيد في بعد الشيء عن العيون على أن يكون وجوده ممتنعا أصلا حتى لا يتصوّر إلا في الوهم. وإذا تركت هذا القسم ونظرت إلى القسم الثاني الذي يدخل في الوجود نحو قوله: درر نثرن على بساط أزرق وجدت العبرة الثانية لا تقوى فيه تلك القوة، لأنه إذا كان مما يعلم أنه يوجد ويعهد بحال وإن كان لا يتّسع بل يندر ويقلّ فقد دنا من الوقوع في الفكر والتعرّض للذكر دنوّا لا يدنوه الأول الذي لا يطمع أن يدخل تحت الرؤية للزومه العدم، وامتناعه أن يجوز عليه إلّا التوهّم. ولا جرم، لمّا كان الأمر كذلك، كان للضرب الأول من الروعة والحسن، لصاحبه من الفضل في قوة الذّهن، ما لم يكن ذلك في الثاني، وقوي الحكم بحسب قوة العلة، وكثر الوصف الذي هو الغرابة، بحسب الجالب له. وفي هذا التقرير ما تعلم به الطريق إلى التشبيه من أين تفاوت في كونه غريبا؟ ولم تفاضل في مجيئه عجيبا؟ وبأي سبب وجدت عند شيء منه من الهزّة ما لم ¬

_ (¬1) راجع هامش 1 ص 120. (¬2) البيتان للصنوبري في ديوانه، وهما في الإيضاح ص 207 تحقيق د. هنداوي.

تجده عند غيره علما يخرجك عن نقيصة التّقليد، ويرفعك عن طبقة المقتصر على الإشارة، دون البيان والإفصاح بالعبارة. واعلم أن العبرة الثانية التي هي مرور الشيء على العيون، هو معنى واحد لا يتكثّر، ولكنه يقوى ويضعف كما مضى. وأما العبرة الأولى، وهي التفصيل، فإنها في حكم الشيء يتكثر وينضمّ فيه الشيء إلى الشيء. ألا ترى أن أحد التفصيلين يفضل الآخر بأن تكون قد نظرت في أحدهما إلى ثلاثة أشياء، أو ثلاث جهات، وفي الآخر إلى شيئين أو جهتين؟ والمثال في ذلك قول بشّار (¬1): [من الطويل] كأنّ مثار النّفع فوق رءوسنا … وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه مع قول المتنبي (¬2): [من الطويل] يزور الأعادي في سماء عجاجة … أسنّته في جانبيها الكواكب أو قول كلثوم بن عمرو (¬3): [من الكامل] تبني سنابكها من فوق أرؤسهم … سقفا كواكبه البيض المباتير التفصيل في الأبيات الثلاثة كأنه شيء واحد، لأن كل واحد منهم يشبّه لمعان السيوف في الغبار بالكواكب في الليل، إلّا أنك تجد لبيت بشّار من الفضل، ومن كرم الموقع ولطف التأثير في النفس، ما لا يقلّ مقداره، ولا يمكن إنكاره، وذلك لأنه راعى ما لم يراعه غيره، وهو أن جعل الكواكب تهاوى، فأتمّ الشّبه، وعبّر عن هيئة السيوف وقد سلّت من الأغماد وهي تعلو وترسب، وتجيء وتذهب، ولم يقتصر ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه، والإيضاح ص 213، تحقيق د. هنداوي، والمصباح ص 106، والشعر والشعراء ص 759، ودلائل الإعجاز ص 96، تحقيق د. محمود شاكر، والتبيان ص 198، والمفتاح ص 337، ويروى «رءوسهم» بدلا من «رءوسنا». مثار النقع: الغبار الذي أثاره المتحاربون. تهاوى: أصلها تتهاوى خفف بحذف إحدى التاءين: تتساقط. (¬2) البيت في ديوانه 1/ 119، والإيضاح ص 236، تحقيق د. هنداوي، والتبيان للعكبري 1/ 80. العجاجة: الغبار، الأسنة: أطراف الرماح، ضمير جانبيها للسماء أسنته مبتدأ خبره الكواكب. يقول: إن العجاجة لما ارتفعت في الهواء حجبت السماء فصارت سماء، وبدت الأسنة لامعة فيها كالكواكب فشبه العجاجة بالسماء، والأسنة بالكواكب، وهو كثير في أشعارهم. (¬3) البيت لعمرو بن كلثوم ويروى لكلثوم بن عمرو العتابي، من ولد عمرو بن كلثوم صاحب المعلقة في مطبوعة د. محمود شاكر وهو في الإيضاح ص 236 تحقيق د. هنداوي.

على أن يريك لمعانها في أثناء العجاجة كما فعل الآخران، وكان لهذه الزيادة التي زادها حظّ من الدقة تجعلها في حكم تفصيل بعد تفصيل. وذلك أنّا وإن قلنا إن هذه الزيادة وهي إفادة هيئة السيوف في حركاتها إنما أتت في جملة لا تفصيل فيها، فإنّ حقيقة تلك الهيئة لا تقوم في النّفس إلا بالنظر إلى أكثر من جهة واحدة، وذلك أن تعلم أنّ لها في حال احتدام الحرب، واختلاف الأيدي بها في الضرب، اضطرابا شديدا، وحركات بسرعة. ثم إن لتلك الحركات جهات مختلفة، وأحوالا تنقسم بين الاعوجاج والاستقامة والارتفاع والانخفاض، وأنّ السيوف باختلاف هذه الأمور تتلاقى وتتداخل، ويقع بعضها في بعض ويصدم بعضها بعضا، ثم أن أشكال السيوف مستطيلة. فقد نظم هذه الدّقائق كلها في نفسه، ثم أحضرك صورها بلفظة واحدة، ونبّه عليها بأحسن التنبيه وأكمله بكلمة، وهي قوله: «تهاوى»، لأن الكواكب إذا تهاوت اختلفت جهات حركاتها، وكان لها في تهاويها تواقع وتداخل. ثم إنها بالتهاوي تستطيل أشكالها، فأمّا إذا لم تزل عن أماكنها فهي على صورة الاستدارة. ويشبه هذا الموضع في زيادة أحد التشبيهين مع أن جنسهما جنس واحد، وتركيبهما على حقيقة واحدة بأنّ في أحدهما فضل استقصاء ليس في الآخر، قول ابن المعتزّ في الآذريون (¬1): [من الطويل] وطاف بها ساق أديب بمبزل … كخنجر عيّار صناعته الفتك وحمّل آذريونة فوق أذنه … ككأس عقيق في قرارتها مسك مع قوله (¬2): [من الرجز] مداهن من ذهب … فيها بقايا غالية ¬

_ (¬1) البيت الأول في ديوانه ص 353، طبعة دار صادر وقبله: فقد خفيت من صفوها، فكأنها … بقايا يقين كاد يدركه الفتك والبيت الثاني في الإيضاح تحقيق د. هنداوي ص 237. والكلام في الخمر، والمنزل: كمنبر وما يصفى به الشراب. الآذريون: ورد له أورق حمر في وسطه سواد. (¬2) البيت في ديوانه، وقبله: سقيا الروضات لنا … من كل نور حاليه عيون آذريونها … للشمس فيها كاليه والبيت في الإيضاح ص 237 تحقيق د. هنداوي. والمداهن: جمع مدهن، بالضم لا غير: وهو آلة الدهن، وهو أحد ما شذّ من هذا الضرب على مفعل مما يستعمل من الأدوات.

الأول ينقص عن الثاني شيئا، وذلك أن السواد الذي في باطن الآذريونة الموضوع بإزاء الغالية والمسك، فيه أمران: أحدهما: أنه ليس بشامل لها، والثاني: أن هذا السواد ليس صورته صورة الدّرهم في قعرها، أعني أنه لم يستدر هناك، بل ارتفع من قعر الدائرة حتى أخذ شيئا من سمكها من كلّ الجهات، وله في منقطعه هيئة تشبه آثار الغالية في جوانب المدهن، إذا كانت بقيّة بقيت عن الأصابع. وقوله: «في قرارتها مسك» يبيّن الأمر الأوّل، ويؤمن من دخول النقص عليه، كما كان يدخل لو قال: «ككأس عقيق فيها مسك»، ولم يشترط أن يكون في القرارة. وأمّا الثاني: من الأمرين، فلا يدلّ عليه كما يدلّ قوله: «بقايا غالية»، وذلك من شأن المسك والشيء اليابس إذا حصل في شيء مستدير له قعر، أن يستدير في القعر ولا يرتفع في الجوانب الارتفاع الذي تراه في سواد الأذريونة. وأما الغالية فهي رطبة، ثم هي تؤخذ بالأصابع، وإذا كان كذلك، فلا بدّ في البقيّة منها من أن تكون قد ارتفعت عن القرارة، وحصلت بصفة شبيهة بذلك السواد، ثم هي لنعومتها ترقّ فتكون كالصبغ الذي لا جرم له يملك المكان، وذلك أصدق للشّبه. ومن أبلغ الاستقصاء وعجيبه قول ابن المعتز: [من الطويل] كأنّا وضوء الصّبح يستعجل الدّجى … نطير غرابا ذا قوادم جون (¬1) شبّه ظلام الليل حين يظهر فيه الصبح بأشخاص الغربان، ثم شرط أن تكون قوادم ريشها بيضا، لأن تلك الفرق من الظلمة تقع في حواشيها، من حيث تلا معظم الصبح وعموده لمع نور يتخيّل منها في العين كشكل قوادم إذا كانت بيضا. وتمام التدقيق والسّحر في هذا التشبيه في شيء آخر، وهو أن جعل ضوء الصبح، لقوّة ظهوره ودفعه لظلام الليل، كأنه يحفز الدجى ويستعجلها ولا يرضى ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه ص 440 طبعة دار صادر، وقبله: فجاءت بها في كأسها ذهبيّة … لها حدق لم تتصل بجفون والبيت في الإيضاح ص 234، تحقيق د. هنداوي. القوادم: قوادم ريش الطائر: ضد خوافيها، الواحدة: قادمة وخافية. ابن سيدة: القوادم: أربع ريشات في مقدم الجناح، والواحدة: قادمة، وهي القدامى، والمناكب اللواتي بعدهن إلى أسفل الجناح والخوافي ما بعد المناكب، والأباهر من بعد الخوافي. والجون: الأبيض. وأيضا الأسود المشرب حمرة. فهو من الأضداد.

منها بأن تتمهّل في حركتها. ثم لما بدأ بذلك أوّلا اعتبره في التشبيه آخرا فقال: «نطير غرابا»، ولم يقل: «غراب يطير» مثلا، وذلك أن الغراب وكلّ طائر إذا كان واقعا هادئا في مكان، فأزعج وأخيف وأطير منه، أو كان قد حبس في يد أو قفص فأرسل، كان ذلك لا محالة أسرع لطيرانه وأعجل وأمدّ له وأبعد لأمده، فإنّ تلك الفزعة التي تعرض له من تنفيره، أو الفرحة التي تدركه وتحدث فيه من خلاصه وانفلاته، ربما دعته إلى أن يستمرّ حتى يغيب عن الأفق ويصير إلى أن يستمرّ حتى يغيب عن الأفق ويصير إلى حيث لا تراه العيون، وليس كذلك إذا طار عن اختيار، لأنه يجوز حينئذ أن يصير إلى مكان قريب من مكانه الأوّل، وأن لا يسرع في طيرانه، بل يمضي على هينته، ويتحرّك حركة غير المستعجل، فاعرفه. ومما حقّه أن يكون على فرط الاستقصاء في التشبيه وفضل العناية بتأكيد ما بدئ به، قول أبي نواس في صفة البازي: [من الرجز] كأنّ عينيه إذا ما أتأرا … فصّان قيضا من عقيق أحمرا في هامة غلباء تهدي منسرا … كعطفة الجيم بكفّ أعسرا (¬1) أراد أن يشبّه المنقار بالجيم، والجيم خطّان: الأول: الذي هو مبدأه وهو الأعلى، والثاني: وهو الذي يذهب إلى اليسار، وإذا لم توصل فلها تعريق 4 كما لا يخفى، والمنقار إنّما يشبه الخطّ الأعلى فقط. فلما كان كذلك قال: «كعطفة الجيم» ولم يقل: «كالجيم»، ثم دقّق بأن جعلها بكف أعسر، لأن جيم الأعسر قالوا أشبه بالمنقار من جيم الأيمن. ثم إنه أراد أن يؤكّد أنّ الشبه مقصور على الخط الأعلى من شكل الجيم فقال: [من الرجز] يقول من فيها بعقل فكّرا … ولو زادها عينا إلى فاء ورا (¬2) فاتّصلت بالجيم صارت جعفرا فأراك عيانا أنه عمد في التشبيه إلى الخط الأول من الجيم دون تعريقها، ودون ¬

_ (¬1) البيتان في ديوانه ص 215 وهما من عدة أبيات قالها أبو نواس في نعت البازي، وقبلهما: أبرش بطنان الجناح أقمرا … أرقط ضاحي الدفتين أنمرا كأن شدقيه إذا تضورا … صدغان من عرعرة تفطرا أثأر: أدرك ثأره، قضّا: شقا. المنسر: منقار البازي. (¬2) البيتان لأبي نواس في ديوانه ص 215، وهما من تمام الأرجوزة وتمام البيت الثاني: فالطير يلقاه مدقا مدسرا

فصل

الخط الأسفل. أما أمر «التعريق» وإخراجه من التشبيه فواضح، لأن الوصل يسقط التعريق أصلا، وأما الخط الثاني فهو، وإن كان لا بد منه مع الوصل. فإنه إذ قال: «لو زادها عينا إلى فاء ورا» ثم قال: «فاتصلت بالجيم»، فقد بيّن أن هذا الخط الثاني خارج أيضا من قصده في التشبيه، من حيث كانت زيادة هذه الحروف ووصلها هي السبب في حدوثه. وينبغي أن يكون قوله: «بالجيم»، يعني بالعطفة المذكورة من الجيم. ولأجل هذه الدقة قال: «يقول من فيها بعقل فكّرا»، فمهّد لما أراد أن يقول، ونبّه على أنّ بالمشبّه حاجة إلى فضل فكر، وأن يكون فكره فكر من يراجع عقله ويستعينه على تمام البيان. وجملة القول أنك متى زدت في التشبيه على مراعاة وصف واحد أو جهة واحدة، فقد دخلت في التفصيل والتركيب، وفتحت باب التفاضل، ثم تختلف المنازل في الفضل، بحسب الصّورة في استنفادك قوّة الاستقصاء، أو رضاك بالعفو دون الجهد. فصل اعلم أن مما يزداد به التشبيه دقّة وسحرا، أن يجيء في الهيئات التي تقع على الحركات. والهيئة المقصودة في التّشبيه على وجهين: أحدهما: أن تقترن بغيرها من الأوصاف كالشكل واللون ونحوهما. والثاني: أن تجرّد هيئة الحركة حتى لا يراد غيرها. فمن الأوّل قوله: والشمس كالمرآة في كفّ الأشل أراد أن يريك مع الشّكل الذي هو الاستدارة، ومع الإشراق والتلألؤ على الجملة، الحركة التي تراها للشمس إذا أنعمت التأمّل، ثم ما يحصل في نورها من أجل تلك الحركة. وذلك أن للشمس حركة متصلة دائمة في غاية السرعة، ولنورها بسبب تلك الحركة تموّج واضطراب عجب، ولا يتحصل هذا الشبه إلا بأن تكون المرآة في يد الأشلّ، لأن حركتها تدور وتتصل ويكون فيها سرعة وقلق شديد، حتى ترى المرآة، لا تقر في العين وبدوام الحركة وشدة القلق فيها يتموج نور المرآة، ويقع الاضطراب الذي كأنه يسحر الطّرف، وتلك حال الشمس بعينها حين تحدّ النظر وتنفذ البصر، حتى تتبيّن الحركة العجيبة في جرمها وضوئها، فإنك ترى شعاعها كأنه يهمّ بأن ينبسط حتى يفيض من جوانبها، ثم يبدو له فيرجع في الانبساط الذي بدأه، إلى انقباض كأنه يجمعه

من جوانب الدائرة إلى الوسط، وحقيقة حالها في ذلك مما لا يكمل البصر لتقريره وتصويره في النفس، فضلا عن أن تكمل العبارة لتأديته، ويبلغ البيان كنه صورته. ومثل هذا التشبيه، وإن صوّر في غير المرآة، قول المهلّبي الوزير: [من السريع] الشمس من مشرقها قد بدت … مشرقة ليس لها حاجب كأنّها بوتقة أحميت … يجول فيها ذهب ذائب (¬1) وذلك أنّ الذهب الذائب يتشكل بأشكال البوتقة، فيستدير إذا كانت البوتقة على النار، فإنه يتحرّك فيها حركة على الحدّ الذي وصفت لك، طبع الذهب من النّعومة، وفي أجزائه من شدة الاتصال والتلاحم، يمنعه أن يقع فيه غليان على الصفة التي تكون في الماء ونحوه، مما يتخلله الهواء فيرتفع وسطه ارتفاعا شديدا، ولكن جملته كأنها تتحرك بحركة واحدة، ويكون فيها ما ذكرت من انبساط إلى الجوانب، ثم انقباض إلى الوسط، فاعرفه. ومن عجيب ما جمع فيه بين الشكل وهيئة الحركة، قول الصنوبري: [من الرجز] كأنّ في غدرانها … حواجبا ظلّت تمط (¬2) أراد ما يبدو في صفحة الماء من أشكال كأنصاف دوائر صغار ثم إنك تراها تمتدّ امتدادا ينقص من انحنائها وتحدّبها، كما تباعد بين طرفي القوس وتثنيهما إلى ناحية الظهر، كأنك تقرّبها من الاستواء وتسلبها بعض شكل التقوّس، الذي هو إقبال أحد طرفيها على الآخر. ومتى حدثت هذه الصفة في تلك الأشكال الظاهرة على متون الغدران، كانت أشبه شيء بالحواجب إذا مدّت، لأن الحاجب لا يخفى تقويسه، ومدّه ينقص من تقويسه. ومن لطيف ذلك أيضا: أعني الجمع بين الشكل وهيئة الحركة، قول ابن المعتزّ يصف وقوع القطر على الأرض: [من الكامل] ¬

_ (¬1) البيتان للوزير المهلبي وهو أبو محمد الحسن بن محمد من ذرية المهلب بن أبي صفرة، كان شاعرا وكاتبا ووزيرا لمعز الدولة البويهي، ومدبرا لأموره في العراق، توفي سنة 362. وهما في الإيضاح ص 214، تحقيق د. هنداوي، وأوردهما الرازي في الإيجاز ص 225، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص 181، والعلوي في الطراز 1/ 355، ومفتاح العلوم ص 443 تحقيق د. هنداوي. (¬2) البيت للصنوبري هو أحمد بن محمد الحلي، من شعراء الشام الوصافين في العصر العباسي، والبيت في ديوانه من قصيدة طويلة، وفي الإيضاح تحقيق د. هنداوي.

بكرت تعير الأرض ثوب شباب … رحبيّة محمودة الإسكاب (¬1) نثرت أوائلها حيا فكأنّه … نقط على عجل ببطن كتاب وأمّا هيئة الحركة مجرّدة من كل وصف يكون في الجسم، فيقع فيها نوع من التركيب، بأن يكون للجسم حركات في جهات مختلفة، نحو أنّ بعضها يتحرك إلى يمين والبعض إلى شمال، وبعض إلى فوق وبعض إلى قدّام ونحو ذلك. وكلما كان التفاوت في الجهات التي تتحرك أبعاض الجسم إليها أشدّ، كان التركيب في هيئة المتحرّك أكثر، فحركة الرّحا والدّولاب وحركة السهم لا تركيب فيها، لأن الجهة واحدة، ولكن في حركة المصحف في قوله: فانطباقا مرّة وانفتاحا تركيب، لأنه في إحدى الحالتين يتحرك إلى جهة غير جهته في الحالة الأخرى. فمما جاء في التشبيه معقودا على تجريد هيئة الحركة، ثم لطف وغرب لما فيه من التفصيل والتركيب، قول الأعشى يصف السفينة في البحر وتقاذف الأمواج بها: [من الكامل] تقص السفين بجانبيه كما … ينزو الرّباح خلا له كرع (¬2) «الرّباح» الفصيل، وقيل: القرد. و «الكرع» ماء السماء. شبّه السفينة في انحدارها وارتفاعها بحركات الفصيل في نزوه. وذلك أن الفصيل إذا نزا، ولا سيما في الماء، وحين يعتريه ما يعتري المهر ونحوه من الحيوانات التي هي في أوّل النّشء، كانت له حركات متفاوتة تصير لها أعضاؤه في جهات مختلفة، ويكون هناك تسفّل وتصعّد على غير ترتيب، وبحيث تكاد تدخل إحدى الحركتين في الأخرى، فلا يتبيّنه الطرف مرتفعا حتى يراه منحطّا متسفّلا، ويهوي مرّة نحو الرأس ومرّة نحو الذنب، وذلك أشبه شيء بحال السّفينة وهيئة حركاتها حين يتدافعها الموج. ¬

_ (¬1) البيتان في ديوانه ص 91 وروايتهما: بكرت تعير الأرض لون شبابها … رحبية محمودة التسكاب نشرت أوائلها حيا، فكأنه … نقط على عجل بطين كتاب رحبية: لعله أراد بها غمامة واسعة الامتداد. وفي نسخة الدكتور محمود شاكر «رجبية» بدل «رحبية». يعني: مطر شهر رجب. (¬2) البيت ليس في ديوانه، وهو في الإيضاح ص 215 تحقيق د. هنداوي، وفي نسخة د. محمود شاكر «يقص» بدل «تقص»، «كرع» بدل «كرع».

ونظيره قول الآخر، يصف الفصيل وهو يثب على الناقة ويعلوها ويلقي نفسه عليها، لأنّها قد بركت فلا يتمكن من أن يرتضع، فهو يفعل ذلك لتثور الناقة: [من الرجز] يقتاعها كلّ فصيل مكرم … كالحبشيّ يرتقي في السلّم (¬1) «يقتاعها» «يفتعل» من قولهم: «قاع البعير الناقة، إذا ضربها، يقوعها قوعا»، أراد يعلوها ويثبت عليها، وشبّه بالحبشي في هذه الحالة المخصوصة، لما يكون له عند ارتقائه في السلّم من تصعّد بعض أعضائه وتسفّل بعض، على اضطراب مفرط وغيثرة شديدة، وذلك كما ترى في أنه اختلاف في جهات أبعاض الجسم على غير نظام مضبوط، كحركات الفصيل في الماء وقد خلا له. وقد عرّفتك أن الاختلاف في جهات الحركات الواقعة في أبعاض الجسم، كالتركيب بين أوصاف مختلفة، ليحصل من مجموعها شبه خاصّ. واعلم أنّ هذه الهيئات يغلب عليها الحكم المستفاد من العبرة الثانية، وذلك أن كل هيئة من هيئات الجسم في حركاته إذا لم يتحرك في جهة واحدة، فمن شأنها أن تقلّ وتعزّ في الوجود، فيباعدها ذلك أيضا من أن تقع في الفكر بسرعة، زيادة مباعدة مضمومة إلى ما يوجب حديث التركيب والتفصيل فيها،. ألا ترى أن الهيئة التي اعتمدها في تشبيه البرق بالمصحف، ليست تكون إلا في النادر من الأحوال، وبعد عمد من الإنسان، وخروج عن العادة، وبقصد خاصّ أو عبث غالب على النفس غير معتاد؟ وهكذا حال الفصيل في وثوبه على أمّه ليثيرها وانسيابه في الماء ونزوه، كما توجبه رؤيته الماء خاليا. وطباع الصّغر والفصيلة مما لا يرى إلا نادرا، وليس الأمر في هذا النحو كالأمر في حركة الدّولاب والرّحا والسهم ونحو ذلك من الحركات المعتادة التي تقع في مصارف العيون كثيرا. ومما يقوى فيها أن يكون سبب غرابته قلّة رؤية العيون له، ما مضى من تشبيه الشمس بالمرآة في كفّ الأشلّ، وذلك أن الهيئة التي تراها في حركة المرآة إذا كانت في كفّ الأشلّ، مما يرى نادرا وفي الأقلّ، فربما قضى الرجل دهره ولا يتفق له أن يرى مرآة في يد مرتعش. هذا، وليس موضع الغرابة من التشبيه دوام حركة المرآة في يد الأشلّ فقط، بل النكتة والمقصود فيما يتولّد من دوام تلك الحركة من الالتماع ¬

_ (¬1) البيت في اللسان (قوع)، لثعلب. يقتاعها: من قوع، قاع الفحل الناقة وعلى الناقة يقوعها قوعا وقياعا واقتاعها وتقوّعها ضربها، واقتاع الفحل إذا هاج. يقتاعها: يقع عليها، وقال: هذه ناقة طويلة، وقد طال فصلانها فركبوها.

وتموّج الشعاع، وكونه في صورة حركات من جوانب الدائرة إلى وسطها. وهذه صفة لا تقوم في نفس الرائي المرآة الدائمة الاضطراب، إلّا أن يستأنف تأمّلا، وينظر متثبّتا في نظره متمهلا. فكأن هاهنا هيئتين كلتاهما من هيئات الحركة: إحداهما: حركة المرآة على الخصوص الذي يوجبه ارتعاش اليد والثانية: حركة الشعاع واضطرابه الحادث من تلك الحركة، وإذا كان كون المرآة في يد الأشلّ مما يرى نادرا، ثم كانت هذه الصفة التي هي كائنة في الشّعاع، إنما ترى وتدرك في حال رؤية حركة المرآة بجهد وبعد استئناف إعمال للبصر، فقد بعدت عن حدّ ما تعتاد رؤيته مرّتين، ودخلت في النادر الذي لا تألفه العيون من جهتين، فاعرفه. واعلم أنه كما تعتبر هيئة الحركة في التشبيه، فكذلك تعتبر هيئة السكون على الجملة وبحسب اختلافه، نحو هيئة المضطجع وهيئة الجالس ونحو ذلك. فإذا وقع في شيء من هيئات الجسم في سكونه تركيب وتفصيل، لطف التشبيه وحسن. فمن ذلك قول ابن المعتزّ يصف سيلا (¬1): [من المتقارب] فلما طغا ماؤه في البلاد … وغصّ فبه كلّ واد صدي ترى الثور في متنه طافيا … كضجعة ذي التاج في المرقد وكقول المتنبي في صفة الكلب: [من الرجز] يقعي جلوس البدويّ المصطلي (¬2) فقد اختصّ هيئة البدويّ المصطلي، في تشبيه هيئة سكون أعضاء الكلب ومواقعها فيها، ولم ينل التشبيه حظّا من الحسن، إلا بأنّ فيه تفصيلا من حيث كان لكل عضو من الكلب في إقعائه موقع خاصّ، وكان مجموع تلك الجهات في حكم أشكال مختلفة تؤلّف فتجيء منها صورة خاصّة. ومن لطيف هذا الجنس قوله: في صفة المصلوب (¬3): [من البسيط] كأنه عاشق قد مدّ صفحته … يوم الوداع إلى توديع مرتحل أو قائم من نعاس فيه لوثته … مواصل لتمطّيه من الكسل ¬

_ (¬1) البيتان في ديوانه: وغصّ: غصّ المكان بأهله أي: ضاق بهم، وأغصّ فلان الأرض علينا أي: ضيقها فغصت بنا أي: ضاقت. المرقد: المضجع، المرقديّ: الدائم الرقاد. (¬2) البيت في ديوانه وتمامه: بأربع مجدولة لم تجدل وهو في الإيضاح ص 216، تحقيق د. هنداوي. (¬3) البيتان ينسبان للأخيطل: [محمد بن عبد الله بن شعيب، مولى بني مخزوم، ويلقب برقوقا]. كما في مطبوعة د. محمود شاكر، وفي الإيضاح ص 216، تحقيق د. عبد الحميد هنداوي، وطبقات

ولم يلطف إلا لكثرة ما فيه من التفصيل، ولو قال: «كأنه متمطّ من نعاس» واقتصر عليه، كان قريب المتناول، لأن الشّبه إلى هذا القدر يقع في نفس الرائي المصلوب، لكونه من حدّ الجملة. فأمّا بهذا الشرط وعلى هذا التقييد الذي يفيد به استدامة تلك الهيئة، فلا يحضر إلا مع سفر من الخاطر، وقوّة من التأمل، وذلك لحاجته أن ينظر إلى غير جهة فيقول: «هو كالمتمطّي»، ثم يقول: المتمطّي يمدّ ظهره ويديه مدّة، ثم يعود إلى حالته، فيزيد فيه أنه مواصل لذلك، ثم إذا أراد ذلك طلب علّته، وهي قيام اللّوثة والكسل في القائم من النعاس. وهذا أصل فيما يزيد به التفصيل، وهو أن يثبت في الوصف أمر زائد على المعلوم المتعارف، ثم يطلب له علّة وسبب. ويشبه التشبيه في البيت قول الآخر، وهو مذكور معه في الكتب: [من السريع] لم أر صفّا مثل صفّ الزّطّ … تسعين منهم صلبوا في خطّ من كلّ عال جذعه بالشطّ … كأنه في جذعه المشتطّ أخو نعاس جدّ في التمطّي … قد خامر النوم ولم يغطّ (¬1) فقوله: «جدّ في التمطي»، شرط يتمّ التشبيه، كما أن قوله: «مواصل» كذلك، إلّا أن في اشتراط المواصلة من الفائدة ما ليس في هذا، وذلك أنه يجوز أن يبالغ ويجتهد ويجدّ في تمطّيه، ثم يدع ذلك في الوقت، ويعود إلى الحالة التي يكون عليها في السلامة مما يدعو إلى التمدّد. وإذا كان كذلك، كان المستفاد من هذه العبارة صورة التمطّي وهيئته الخاصّة، وزيادة معنى، وهو بلوغ الصفة. غاية ما يمكن أن يكون عليها. وهذا كلّه مستفاد من الأوّل. ثم فيه زيادة أخرى، وهو أخصّ ما يقصد من صفة المصلوب، وهي الاستمرار على الهيئة والاستدامة لها. فأمّا قوله بعد: «قد خامر النوم ولم يغطّ»، هو وإن كان كأنه يحاول أن يرينا هذه الزيادة من ¬

_ الشعراء لابن المعتز ص 413، والكامل ص 944، وسمط اللآلي ص 595، ومعجم الشعراء ص 432. اللّوثة بالضم: الاسترخاء والبطء، ورجل ذو لوثة: بطيء متمكث ذو ضعف، ورجل فيه لوثة أي: استرخاء وحمق، وهو رجل ألوث: فيه استرخاء بيّن اللّوث، وديمة لوثاء، [اللسان: لوث]. (¬1) الأبيات لدعبل بن علي الخزاعي في ديوانه، وهي في كتاب الكامل للمبرد 2/ 943، والإيضاح ص 217، تحقيق د. عبد الحميد هنداوي. والزط: جماعة من الهند ثاروا في بادية البصرة، منذ فتنة الأمين والمأمون إلى أن جرد لهم جيشا قضى على ثورتهم وأسر منهم سبعة وعشرين ألفا، وصلب منهم عددا كثيرا، وهذه الأبيات في وصف بعض المصلوبين.

حيث يقال: إنه إذا أخذه النعاس فتمطّى ثم خامر النوم، فإن الهيئة الحاصلة له من جدّه في التمطّي تبقى له فليس ببالغ مبلغ قوله: «مواصل لتمطّيه». وتقييده من بعد بأنه «من الكسل»، واحتياطه قبل بقوله: «فيه لوثته»: وشبيه بالأوّل في الاستقصاء قول ابن الرومي (¬1): [من الطويل] كأنّ له في الجوّ حبلا يبوعه … إذا ما انقضى حبل أتيح له حبل يعانق أنفاس الرّياح مودّعا … وداع رحيل لا يحطّ له رحل فاشتراطه أن يكون له بعد الحبل الذي ينهى ذرعه حبل آخر يخرج من بوع الأوّل إليه، كقوله: «مواصل لتمطّيه من الكسل»، في استيفاء الشّبه، والتنبيه على استدامته، لأنه إذا كان لا يزال يبوع حبلا لم يقبض باعه ولم يرسل يده، وفي ذلك بقاء شبه المصلوب على الاتّصال، فاعرفه. واعلم أن من حقّك أن لا تضع الموازنة بين التشبيهين في حاجة أحدهما إلى زيادة من التأمل على وقتنا هذا، ولكن تنظر إلى حالهما في قوى العقل ولم تسمع بواحد منهما، فتعلم أن لو أرادهما مريد، أو اتّفقا له جميعا ولم يكن قد سمع بواحد منهما أيّهما كان يكون أسهل عليه، وأسرع إليه، وأعطى بيديه، وأيّهما تجده أدلّ على ذكاء من تسمعه منه، وأرجى لتخرج من يقوله. وذلك أن تقابل بين تشبيه النّجوم بالمصابيح والمصابيح بها، وبين تشبيه سلّ السيوف بعقائق البرق وتشبيهها بسلّ السيوف، فإنك تعلم أن الأوّل يقع في نفس الصّبي أوّل ما يحسّ بنفسه، وأن الثاني لا يجيب إجابته، ولا يبذل طاعته وكذلك تعلم أنّ تشبيه الثريا بنور العنقود، لا يكون في قرب تشبيهها بتفتّح النّور وأنّ تشبيه الشمس بالمرآة المجلوّة كما مضى، يقع في نفس الغرّ المعاميّ والصبيّ، ولا يقع تشبيهها بالمرآة في كفّ الأشلّ إلا في قلب المميّز الحصيف، وتشبيهها في حركتها تلك بمرآة تضطرب على الجملة، من غير أن تجعل في كفّ الأشلّ، قد يقع لمن لا يقع له بهذا التقييد، وذلك لما مضى من حاجته إلى الفكرة في حال الشمس، وأنّ حركتها دائمة متصلة، ثم طلب متحرّك حركة غير اختيارية، وجعل حركة المرآة صادرة عن تلك الحركة ومأسورة في حكمها دائما. ¬

_ (¬1) البيتان في ديوانه. يبوعه: باع يبوع بوعا: بسط باعه، وباع الحبل يبوعه بوعا: مد يديه معه حتى صار باعا، وقيل: هو مدّكه بباعك كما تقول شبرته من الشّبر.

وإنما اشترطت عليك هذا الشرط لأنه لا يمتنع أن يسبق الأوّل إلى تشبيه لطيف بحسن تأمّله ويدل على ذكائه وحدّة خاطره، ثم يشيع ويتّسع، ويذكر ويشهر حتى يخرج إلى حد المبتذل، وإلى المشترك في أصله، وحتى يجري مع دقة تفصيل فيه مجرى المجمل الذي تقوله الوليدة الصغيرة والعجوزة الورهاء، فإنك تعلم أن قولنا: «لا يشقّ غباره» الآن في الابتذال كقولنا: «لا يلحق ولا يدرك»، و «هو كالبرق» ونحو ذلك، إلّا أنّا إذا رجعنا إلى أنفسنا علمنا أنه لم يكن كذلك من أصله، وأن هذا الابتذال أتاه بعد أن قضى زمانا بطراءة الشباب وجدّة الفتاء وبعزّة المنيع، ولو قد منعك جانبه وطوى عنك نفسه، لعرفت كيف يشقّ مطلبه ويصعب تناوله. ومثل هذا وأظهر منه أمرا أنّ قولنا: «أمّا بعد»، منسوب في الأصل إلى واحد بعينه، وإن كان الآن في البذلة كقولنا: «هذا بعد ذاك»، مثلا. وهذا الحكم في الطرق التي ابتدأها الأوّلون، والعبارات التي لخّصها المتقدمون، والقوانين التي وضعوها حتى صارت في الاشتراك كالشيء المشترك من أوّله، والمبتذل الذي لم يكن الصّون من شأنه، والمبذول الذي لم يعترض دونه المنع في شيء من زمانه، وربّ نفيس جلب إليك من الأمكنة الشاسعة، وركب فيه النّوى الشطون، وقطع به عرض الفيافي، ثم أخفى عنك فضله حتى جهلت قدره أن سهل مرامه، واتسع وجوده، ولو انقطع مدده عنك حتى تحتاج إلى طلبه من مظنّته، لعلمت إحسان الجائي به إليك، والجالب المقرّب نيله عليك، ولأكثرت من شكره بعد أن أقللت، وأخذت نفسك بتلافي ما أهملت. وكذلك ربّ شيء نال فوق ما يستحقّه من شغف النفوس به، وأكثر مما توجبه المنافع الراجعة إليه، لأنه لا يتسع اتّساع الأوّل الذي فوائده أعمّ وأكثر، ووجود العوض عنه عند الفقد أعسر، فكسبت عزّة الوجود هذا عزّا لم يستحقّه بفضله، كما منعت سعته الآخر فضلا هو ثابت له في أصله. ويتصل بهذا الموضع حديث عبد الرحمن بن حسّان، وذلك أنه رجع إلى أبيه حسّان وهو صبيّ، يبكي ويقول: «لسعني طائر»، فقال حسان: «صفه يا بنيّ»، فقال: «كأنه ملتفّ في بردى حبرة»، وكان لسعه زنبور، فقال حسّان: «قال ابني الشّعر وربّ الكعبة!» أفلا تراه جعل هذا التشبيه مما يستدلّ به على مقدار قوّة الطبع، ويجعل عيارا في الفرق بين الذهن المستعدّ للشعر وغير المستعدّ له، وسرّه

فصل في التشبيه المتعدد والفرق بينه وبين المركب

ذلك من ابنه كما سرّه نفس الشعر حين قال في وقت آخر (¬1): [من البسيط] الله يعلم أنّي كنت منتبذا … في دار حسّان أصطاد اليعاسيبا فإن قلت: إن التشبيه يتصوّر في مكان الصّبغ والنّقش العجيب، ولم يعجب حسّان هذا، وإنما أعجبه قوله: «ملتفّ»، وحسن هذه العبارة، إذ لو قال: «طائر فيه كوشي الحبرة»، لم يكن له هذا الموقع، فهو أن يكون مشبها ما أنت فيه، فمن حيث دلالته على الفطنة في الجملة. قيل: مسلّم لك أن نكتة الحسن في قوله: «ملتفّ»، ولكن لا يسلّم أنه خارج من الغرض، بل هو عين المراد من التّشبيه وتمامه فيه، وذلك أنه يفيد الهيئة الخاصّة في ذلك الوشي والصّبغ وصورة الزنبور في اكتسائه لهما، ويؤدى الشبه كما مضى من طريق التفصيل دون الجملة، فما ظننت أنّه يبعده عما نحن بصدده، هو الذي يدنيه منه، ولقد نفيت العيب من حيث أردت إثباته. فصل في التشبيه المتعدّد والفرق بينه وبين المركّب اعلم أنّي قد قدّمت بيان المركّب من التشبيه، وهاهنا ما يذكر مع الذي عرّفتك أنه مركّب ويقرن إليه في الكتب، وهو على الحقيقة لا يستحق صفة التركيب، ولا يشارك الذي مضى ذكره في الوصف الذي كان له تشبيها مركّبا. وذلك أن يكون الكلام معقودا على تشبيه شيئين بشيئين ضربة واحدة، إلّا أن أحدهما لا يداخل الآخر في الشّبه، ومثاله في قول امرئ القيس (¬2): [من الطويل] كأنّ قلوب الطّير، رطبا ويابسا، … لدى وكرها العنّاب والحشف البالي ¬

_ (¬1) البيت في الكامل للمبرد 1/ 342. واليعسوب: طائر أصغر من الجراد، وقيل: أعظم من الجرادة، طويل الذنب لا يضم جناحيه إذا وقع، تشبه به الخيل في الضّمر. واليعسوب: غرّة في وجه الفرس مستطيلة، تنقطع قبل أن تساوي أعلى المنخرين، وإن ارتفع أيضا على قصبة الأنف، وعرض واعتدل، حتى يبلغ أسفل الخليقاء فهو يعسوب أيضا، قل أو كثر، ما لم يبلغ العينين. [اللسان: عسب]. (¬2) البيت في ديوانه ص 129، من قصيدة له تعدّ قرينة معلقته في الجودة ومطلعها: ألا عم صباحا أيها الطلل البالي … وهل يعمن من كان في العصر الخالي وهل يعمن إلا سعيد مخلد … قليل الهموم ما يبيت بأوجال والبيت في الإيضاح ص 227، 228، تحقيق د. عبد الحميد هنداوي، والإشارات ص 182، والمصباح ص 108. وهو يعني: كأن قلوب الطير رطبا. العناب ويابسا: الحشف البالي، وهو يابس التمر.

وذلك أنه لم يقصد إلى أن يجعل بين الشيئين اتصالا، وإنما أراد اجتماعا في مكان فقط. كيف؟ ولا يكون لمضامّة الرّطب من القلوب إلى اليابس هيئة يقصد ذكرها، أو يعنى بأمرها، كما يكون ذلك لتباشير الصّبح في أثناء الظلماء، وكون الشّقيقة على قامتها الخضراء، فيؤدّي ذلك الشبه الحاصل من مداخلة أحد المذكورين الآخر واتّصاله به، اجتماع الحشف البالي والعنّاب. كيف؟ ولا فائدة لأن ترى العنّاب مع الحشف، أكثر من كونهما في مكان واحد، ولو أن اليابسة من القلوب كانت مجموعة ناحية، والرطبة كذلك في ناحية أخرى، لكان التشبيه بحاله. وكذلك لو فرّقت التشبيه فقلت: «كأنّ الرّطب من القلوب عنّاب، وكأنّ اليابس حشف بال»، لم تر أحد التشبيهين موقوفا في الفائدة على الآخر، وليس كذلك الحكم في المركّبات التي تقدّمت. وقد يكون في التشبيه المركّب ما إذا فضضت تركيبه وجدت أحد طرفيه يخرج عن أن يصلح تشبيها لما كان جاء في مقابلته مع التركيب بيان ذلك أن «الجلال» في قوله: كطرف أشهب ملقى الجلال (¬1) في مقابلة الليل، وأنت لو قلت: «كأن الليل جلال» وسكتّ لم يكن شيئا. وقد يكون الشيء منه إذا فضّ تركيبه استوى التشبيه في طرفيه، إلا أن الحال تتغير، ومثال ذلك قوله (¬2): وكأن أجرام النّجوم لوامعا … درر نثرن على بساط أزرق فأنت وإن كنت إذا قلت: «كأنّ النجوم درر، وكأن السماء بساط أزرق»، وجدت التشبيه مقبولا معتادا مع التفريق، فإنك تعلم بعد ما بين الحالتين، ومقدار الإحسان الذي يذهب من البين. وذلك أن المقصود من التشبيه أن يريك الهيئة التي تملأ النواظر عجبا وتستوقف العيون وتستنطق القلوب بذكر الله تعالى من طلوع النجوم مؤتلفة مفترقة في أديم السماء وهي زرقاء زرقتها الصافية التي تخدع العين، والنجوم تتلألأ وتبرق في أثناء تلك الزرقة، ومن لك بهذه الصورة إذا فرّقت التشبيه، وأزلت عنه الجمع والتركيب؟ وهذا أظهر من أن يخفى. ¬

_ (¬1) راجع هامش رقم (1) ص 127. (¬2) راجع هامش رقم (2) ص 120.

وإذ قد عرفت هذه التفاصيل، فاعلم أن ما كان من التركيب في صورة بيت امرئ القيس، فإنما يستحق الفضيلة من حيث اختصار اللفظ وحسن الترتيب فيه، لا لأن للجمع فائدة في عين التشبيه. ونظيره أنّ للجمع بين عدّة تشبيهات في بيت كقوله (¬1): [من الوافر] بدت قمرا، وماست خوط بان، … وفاحت عنبرا، ورنت غزالا مكانا من الفضيلة مرموقا، وشأوا ترى فيه سابقا ومسبوقا لا أنّ حقائق التشبيهات تتغير بهذا الجمع، أو أن الصور تتداخل وتتركّب وتأتلف ائتلاف الشكلين يصيران إلى شكل ثالث. فكون قدّها كخوط البان، لا يزيد ولا ينقص في شبه الغزال حين ترنو منه العينان. وهكذا الحكم في أنها تفوح فوح العنبر، ويلوح وجهها كالقمر. وليس كذلك بيت بشار: «كأنّ مثار النقع»، لأن التشبيه هناك كما مضى مركّب وموضوع على أن يريك الهيئة التي ترى عليها النّقع المظلم، والسيوف في أثنائه تبرق وتومض وتعلو وتنخفض، وترى لها حركات من جهات مختلفة كما يوجبه الحال حين يحمى الجلاد، وترتكض بفرسانها الجياد. كما أن قول رؤبة مثلا (¬2): [من الرجز] فيها خطوط من سواد وبلق … كأنّها في الجلد توليع البهق ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 1/ 184، وهو من قصيدة قالها في مدح أبي الحسين بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي الطبرستاني مطلعها: بقائي شاء ليس هم ارتحالا … وحسن الصبر زموا لا الجمالا تولوا بغتة فكأن بينا … تهيبني ففاجأني اغتيالا المعنى: الخوط: القضيب وجمعه خيطان ككوز وكيزان، والعنبر: ضرب من الطيب. فهو يقول: بدت هذه المحبوبة قمرا في حسنها ومالت مشبهة غصنا في تثنيها وحسن مشيها، وفاحت مشبهة عنبرا في طيب ريحها ورنت مشبهة غزالا في سواء مقلتها وهذا من أحسن التشبيه لأنه جمع أربع تشبيهات في بيت واحد. والبيت في التبيان للعكبري على شرح ديوان المتنبي 2/ 18، والإيضاح ص 229، تحقيق د. عبد الحميد هنداوي. (¬2) البيت في ديوانه ص 104 من قصيدة في وصف المفازة مطلعها: وقاتم الأعماق حاوي المخترق … مشتبه الأعلام لمّاع الخفق يكل وفد الريح من حيث انخرق … شأز بمن عوّه جذب المنطلق البلق يعني هنا: البياض، وأصله سواد وبياض، والبهق: بياض يعتري الجسم بخلاف لونه وهو دون البرص، والتوليع، أن يكون في بياض بلقه استطالة وتفرق.

ليس القصد فيه أن يريك كل لون على الانفراد، وإنما القصد أن يرى الشّبه من اجتماع اللونين. وقول البحتري: [من الوافر] ترى أحجاله يصعدن فيه … صعود البرق في الغيم الجهام (¬1) لا يريد به تشبيه بياض الحجول على الانفراد بالبرق، بل المقصود الهيئة الخاصّة الحاصلة من مخالطة أحد اللونين الآخر. كذلك المقصود في بيت بشّار بتشبيه النّقع والسيوف فيه، بالليل المتهاوي كواكبه، لا تشبيه الليل بالنّقع من جانب، والسيوف بالكواكب من جانب. ولذلك وجب الحكم، كما كنت ذكرت في موضع، بأنّ الكلام إلى قوله: «وأسيافنا» في حكم الصلة للمصدر، وجار مجرى الاسم الواحد، لئلا يقع في التشبيه تفريق ويتوهّم أنه كقولنا: «كأن مثار النقع ليل وكأنّ السيوف كواكب»، ونصب «الأسياف» لا يمنع من تقدير الاتصال، ولا يوجب أن يكون في تقدير الاستئناف، لأن الواو فيها معنى «مع»، كقوله: [من الطويل] فإنّي وقيّارا بها لغريب (¬2) وقوله: «كلّ رجل وضيعته»، وهي إذا كانت بمعنى «مع»، لم يكن في معطوفها الانقطاع، وأن يكون الكلام في حكم جملتين، ألا ترى أن قولهم: «لو تركت النّاقة وفصيلها لرضعها»، لا يكون بمنزلة أن تقول: «لو تركت الناقة ولو ترك فصيلها»، فتجعل الكلام جملتين وكذا لا يمكنك أن تقول: «كل رجل كذا ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه، والإيضاح ص 217 تحقيق د. عبد الحميد هنداوي. الجهام: بالفتح: السحاب الذي لا ماء فيه، وقيل: الذي قد هراق ماءه مع الريح، الجهام: السحاب الذي فرغ ماؤه. يصعدن فيه: أي: الفرس المحجل. (¬2) البيت لضابئ بن الحارث البرجمي (ضابئ بن الحارث بن أرطاة من بني غالب بن حنظلة من البراجم ت. نحو 30 هـ/ 650 م) وكان ضابئ ممن أدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم. وهذا البيت من أبيات قالها وهو في حبس عثمان وصدره: من يك أمسى بالمدينة رحله وبعده: فلا تجزعن قيّار من حبس ليلة … قضيّة ما يقضى لنا فنئوب

وضيعته كذا»، فتفرّق الخبر عنهما كما يجوز في قولك: «زيد وعمرو كريمان»، أن تقول: «زيد كريم وعمرو كريم»، وهذا موضع غامض، وللكلام فيه موضع آخر. وإن أردت أن تزداد تبيينا، لأن التشبيه إذا كان معقودا على الجمع دون التفريق، كان حال أحد الشيئين مع الآخر حال الشّيء في صلة الشيء وتابعا له ومبنيّا عليه، حتى لا يتصوّر إفراده بالذكر، فالذي يفضي بك إلى معرفة ذلك أنك تجد في هذا الباب ما إذا فرّق لم يصلح للتشبيه بوجه، كقوله: [من السريع] كأنّما المرّيخ والمشتري … قدّامه، في شامخ الرّفعة منصرف بالليل عن دعوة … قد أسرجت قدّامه شمعه (¬1) لو قلت: «كأنّ المريخ منصرف بالليل عن دعوة»، وتركت حديث المشتري والشّمعة، كان خلفا من القول، وذاك أن التشبيه لم يكن للمرّيخ من حيث هو نفسه، ولكن من حيث الحالة الحاصلة له من كون المشتري أمامه. وأنت وإن كنت تقول: «المشتري شمعة»، على التشبيه العامي الساذج في قولهم: «كأنّ النّجوم مصابيح وشموع»، فإنه لم يضع التشبيه على هذا، وإنما قصد إلى الهيئة التي يكتسبها المرّيخ من كون المشتري أمامه. وهكذا قول ابن المعتزّ (¬2): [من البسيط] كأنّه وكأنّ الكأس في فمه … هلال أوّل شهر غاب في شفق لم يقصد أن يشبه الكأس على الانفراد بالهلال، والشّفة بالشفق على الاستئناف، بل أراد أن يشبّه مجموع الصّورتين، ألا ترى أنك لو فرّقت لم تحل من التشبيه بطائل، إذ لا معنى لأن تقول: «كأن الشفة شفق»، وتسكت. أترى أن قوله (¬3): [من الوافر] بياض في جوانبه احمرار … كما احمرّت من الخجل الخدود ¬

_ (¬1) البيتان للقاضي التنوخي، وهما في مفتاح العلوم ص 445، تحقيق د. هنداوي، ونهاية الإيجاز ص 205، والإيضاح ص 368، ومشكاة المصابيح 1/ 106 تحقيق د. هنداوي. قدّام: نقيض وراء، أسرجت: أوقدت. (¬2) البيت في ديوانه وقبله: ظبي مخلّى من الأحزان أودعني … ما يعلم الله من حزن ومن قلق (¬3) البيت لابن المعتز في ديوانه ص 188 (طبعة دار صادر) وهو أحد ثلاثة أبيات وقبله: أتاك الورد محبوبا مصونا … كمعشوق تكنّفه الصدود كأن بوجهه لما توافت … نجوم في مطالعها سعود

استوجبت الفضل والخروج من التشبيه العاميّ، وأن يقال: «قد زاد زيادة لم يسبق إليها»، إلا بالتركيب والجمع، وبأن ترك أن يراعى الحمرة وحدها؟. وقال القاضي أبو الحسن رحمه الله: «لو اتفق له أن يقول: «احمرار في جوانبه بياض، لكان قد استوفى الحسن» وذلك لأن خدّ الخجل هكذا، يحدق البياض فيه بالحمرة لا الحمرة بالبياض، إلّا أنه لعله وجد الأمر كذلك في الوردة، فشبّه على طريق العكس فقال: «هذا البياض حوله الحمرة هاهنا، كالحمرة حولها البياض هناك». فانظر الآن، إن فرّقت، كيف يتفرّق عنك الحسن والإحسان، ويحضر العيّ ويذهب البيان؟ لأن تشبيه البياض على الانفراد لا معنى له، وأما تشبيه الحمرة، وإن كانت تصحّ على الطريقة الساذجة أعني تشبيه الورد الأحمر بالخد فإنه يفسد من حيث أن القصد إلى جنس من الورد مخصوص، هو ما فيه بياض تحدق به حمرة، فيجب أن يكون وصف المشبّه به على هذا الشرط أيضا. وبهذا الاختصاص ولما ذكرت لك، تجد أحد المشبّهين في الأمر الأعمّ الأكثر وقد ذكر في صلة الآخر، ولم يعطف عليه كقوله: [من الكامل] والشّيب ينهض في الشباب (¬1) و: بياض في جوانبه احمرار وأشباه ذلك. فإن جاءت «الواو» كانت واو حال كقوله: [من السريع] كأنّما المرّيخ والمشتري … قدّامه في شامخ الرفعة (¬2) وهي إذا كانت حاليّة، فهي كالصفة في كونها تابعة، وبحيث لا ينفرد بالذكر، بل يذكر في ضمن الأول، وعلى أنه من تبعه وحاشيته. وهكذا الحكم في الطرف الآخر، ألا ترى قوله: ليل تهاوى كواكبه «فتهاوى كواكبه»، جملة من الصّفة لليل، وإذا كان كذلك، فالكواكب مذكورة على سبيل التّبع لليل، ولو كانت مستبدّة بشأنها لقلت: «ليل وكواكب». وكذلك قوله: ¬

_ (¬1) البيت للفرزدق في ديوانه وتمامه: ............... كأنّه … ليل يصيح بجانبيه نهار (¬2) راجع هامش رقم (1) ص 146.

ليل يصيح بجانبيه نهار وأشدّ من ذلك أن يجيء «كما» في الطّرف الثاني كقوله: كما احمرّت من الخجل الخدود وبيت امرئ القيس على خلاف هذه الطريقة، لأن أحد الشيئين فيه في الطرفين معطوف على الآخر، أما في طرف الخبر، وهو طرف المشبّه به، فبيّن وهو قوله: العنّاب والحشف البالي وأما في طرف المخبر عنه، وهو المشبّه، فإنك وإن كنت ترى اسما واحدا، هو «القلوب»، فإن الجمع الذي تفيده الصيغة في المتفق يجري مجرى العطف في المختلف، فاجتماع شيئين أو أشياء في لفظ تثنية أو جمع، لا يوجب أن أحدهما في حكم التابع للآخر، كما يكون ذلك إذا جرى الثاني في صفة الأول أو حاله أو ما شابه ذلك. هذا وقد صرّح بالعطف في البدل، وهو المقصود فقال: «رطبا ويابسا». واعلم أنه قد يجيء في هذا الباب شيء له حدّ آخر، وهو نحو قوله: [من الكامل] إني وتزييني بمدحي معشرا … كمعلّق درّا على خنزير (¬1) هو على الجملة جمع بين شيئين في عقد تشبيه، إلّا أن التشبيه في الحقيقة لأحدهما. ألا ترى أن المعنى على أنّ فعله في التزيين بالمدح، كفعل الآخر في محاولته أن يزيّن الخنزير بتعليق الدرّ عليه؟ ووجه الجمع أنّ كل واحد منهما يضع الزينة حيث لا يظهر لها أثر، لأن الشيء غير قابل للتحسين. ومتى كان المشبّه به «كمعلّق» في البيت، فلا شكّ أن التشبيه لا يرجع إلى ذات الشيء، بل المعنى المشتقّ منه الصفة. وإذا رجع إليه مقرونا بصلته على ما مضى في نحو «ما زال يفتل في الذّروة والغارب»، فقد شبّه تزيينه بالمدح من ليس من أهله، بتعليق الدّر على الخنزير هكذا بجملته، لا بالتعليق غير معدّى إلى الدّرّ والخنزير، فالشبه مأخوذ من مجموع المصدر وما في صلته. ولا بدّ للواو في هذا النحو أن تكون بمعنى «مع»، وأمرها فيه أبين، إذ لا يمكن أن يقال: «إنّي كذا وإنّ تزييني كذا»، لأنه ليس معنا شيئان يكون أحدهما خبرا عن ضمير المتكلم في «إني» الذي هو المعطوف عليه، ¬

_ (¬1) البيت لم أعرف قائله، وهو في الإيضاح ص 226 تحقيق د. هنداوي.

والآخر عن «تزييني» المعطوف، كما يكون نحو بيت بشّار شيئان يمكن في ظاهر اللفظ أن يجعل أحدهما خبرا عن النّقع، والآخر عن الأسياف، إلى أن تجيء إلى فساده من جهة المعنى. فأنت في نحو «إني وتزييني» ملجأ إلى جعل «الواو» بمعنى «مع» من كل وجه، حتى لا تقدر على إخراج الكلام إلى صورة تكون فيها «الواو» عارية من معنى «مع»، ويكون تشبيها بعد تشبيه. فإن قلت: إنّ في «معلّق» معنى الذات والصفة معا، فيمكن أن يكون أراد أن يشبّه نفسه بذات الفاعل، وتزيينه بالفعل نفسه. فإن قلت: إنّ في «معلّق» معنى الذات والصفة معا، فيمكن أن يكون أراد أن يشبّه نفسه بذات الفاعل، وتزيينه بالفعل نفسه. أقول: لو أريد إنّي «كمعلّق درّا على خنزير، وإن تزييني بمدحي معشرا كتعليق درّ على خنزير»، كان قولا ظاهر السقوط، لما ذكرت من أنه لا يتصوّر أن يشبّه المتكلم نفسه، من حيث هو زيد مثلا، بمعلّق الدرّ على الخنزير من حيث هو عمرو، وإنما يشبّه الفعل بالفعل، فاعرفه. فإن قلت: فما تقول في قوله (¬1): [من الطويل] وحتى حسبت الليل والصبح إذ بدا … حصانين مختالين جونا وأشقرا فإن ظاهره أنه من جنس المفرّق؟. أقول: نعم، إلا أن ثمّة شيئا كالجمع، وهو أنّ لاقتران الحصانين الجون والأشقر في الاختيال ضربا من الخصوصية في الهيئة، لكنه لا يبلغ مبلغ «ليل تهاوى كواكبه»، ولا مبلغ قوله: [من الرجز] والصّبح مثل غرّة في أدهم كما أنّ قوله (¬2): [من الكامل] دون التّعانق ناحلين كشكلتي … نصب أدقّهما وضمّ الشاكل ¬

_ (¬1) لم أعثر عليه. (¬2) البيت في ديوان المتنبي ص 223، وفي التبيان للعكبري ص 201، من قصيدة يمدح بها القاضي أبا الفضل بن عبد الله بن الحسين الأنطاكي وقبله: كم وقفة سجرتك شوقا بعد ما … غري الرقيب بنا وكجّ العاذل والشاكل الذي يصمّم شكل الكتاب، وهذا فاعل أدق وضم، الشكلة: أراد الشكلة التي تكون في الإعراب وهي الفتحة، وهي من قولهم شكلت الدابة أي: ضبطتها والشكلة تضبط الحروف. و (المعنى): يقول وقفنا دون التعانق قرب بعضنا من بعض ولم نتعانق، فكأننا لقربنا شكلتان دقيقتان جمع الكاتب بينهما، وهو تشبيه حسن شبه تقاربهما بتقارب الشكلتين وتحولهما بنحول الشكلة ووصفها مثله لأن بها ما به من الوجد. التبيان للعكبري ص 201.

لا يكون كقوله (¬1): [من البسيط] إني رأيتك في نومي تعانقني … كما تعانق لام الكاتب الألفا فإن هذا قد أدّى إليك شكلا مخصوصا لا يتصوّر في كل واحد من المذكورين على الانفراد بوجه، وصورة لا تكون مع التفريق وأما المتنبي فأراك الشيئين في مكان واحد وشدّد في القرب بينهما، وذاك أنه لم يعرض لهيئة العناق ومخالفتها صورة الافتراق، وإنما عمد إلى المبالغة في فرط النّحول، واقتصر من بيان حال المعانقة على ذكر الضّمّ مطلقا والأوّل لم يعن بحديث الدقّة والنحول، وإنما عني بأمر الهيئة التي تحصل في العناق خاصّة، من انعطاف أحد الشكلين على صاحبه، والتفاف الحبيب بمحبّه، كما قال (¬2): [من المتقارب] لفّ الصّبا بقضيب قضيبا وأجاد وأصاب الشبه أحسن إصابة، لأن خطّي اللام والألف في «لا» ترى رأسيهما في جهتين، وتراهما قد تماسّا من الوسط، وهذه هيئة المعتنقين على الأمر بالمعروف، فأما قصد المتنبي فليس بصفة عناق على الحقيقة، وإنما هو تضامّ وتلاصق، وهو بنحو قوله: [من البسيط] ضممته ضمّة عدنا بها جسدا … فلو رأتنا عيون ما خشيناها أشبه، لأن القصد في مثله شدّة الالتصاق، من غير تعريج على هيئة الاعتناق. وذهب القاضي في بيت المتنبي إلى أنه كأنه معنى مفرد غير مأخوذ من قوله: كما تعانق لام الكاتب الألفا وقال: «ولئن كان أخذه، كما يقولون، فليس عليه معتب، لأنّ التعب في نقله ليس بأقلّ من التعب في ابتدائه». وهذا التفضيل والتفصيل من قول القاضي ليس قادحا في غرضي، لأنّي أردت أن أريك مثالا في وضع التشبيه على الجمع والتفريق، وأجعل البيتين معيارا فيما ¬

_ (¬1) البيت مختلف النسبة، لبكر بن النطاح في الأغاني 19/ 110، ولأبي نواس في التشبيهات، ولأبي بكر الموسوس في العقد الفريد 6/ 173، وهو في الأمالي ص 226. (¬2) البيت للبحتري في ديوانه، وصدره: ولم أنس ليلتنا في العناق

فصل هذا فن غير ما تقدم في الموازنة بين التشبيه والتمثيل

أردت. ولئن كان المتنبي قد زاد على الأوّل، فليس تلك الزيادة من حيث وضع الشبه على تركيب شكلين، ولكن من جهة أخرى، وهي الإغراق في الوصف بالنحول وجمع ذلك للخلّين معا، ثم إصابة مثال له ونظير من الخطّ. فاعرف ذلك، ولا تظنّ أن قصدي المفاضلة بين البيتين من حيث القول في السابق والمسبوق، والأخذ والسرقة، فتحسب أني خالفت القاضي فيما حكم به. فصل هذا فنّ غير ما تقدّم في الموازنة بين التشبيه والتمثيل اعلم أنّي قد عرّفتك أن كل تمثيل تشبيه، وليس كل تشبيه تمثيلا، وثبتّ وجه الفرق بينهما. وهذا أصل إذا اعتبرته وعرضت كلّ واحد منهما عليه فوجدته يجيء في التشبيه مجيئا حسنا، وينقاد القياس فيه انقيادا لا تعسّف فيه، ثم صادفته لا يطاوعك في التمثيل تلك المطاوعة، ولا يجري في عنان مرادك ذلك الجري ظهر لك نوع من الفرق والفصل بينهما غير ما عرفت، وانفتح منه باب إلى دقائق وحقائق، وذلك جعل الفرع أصلا والأصل فرعا، وهو إذا استقريت التشبيهات الصريحة وجدته يكثر فيها. وذلك نحو أنهم يشبّهون الشيء فيها بالشيء في حال. ثم يعطفون على الثاني فيشبّهونه بالأول، فترى الشيء مشبّها مرّة، ومشبّها به أخرى. فمن أظهر ذلك أنك تقول في النجوم: «كأنها مصابيح»، ثم تقول في حالة الأخرى في المصابيح: «كأنها نجوم» ومثله في الظهور والكثرة تشبيه الخدّ بالورد، والورد بالخدّ وتشبيه الرّوض المنوّر بالوشي المنمنم ونحو ذلك، ثم يشبّه النقش والوشي في الحلل بأنوار الرياض وتشبّه العيون بالنرجس، ثم يشبّه النرجس بالعيون، كقول أبي نواس: [من الطويل] لدى نرجس عضّ القطاف كأنّه … إذا ما منحناه العيون عيون (¬1) ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه ص 325، وقبله: كأن سطورا فوقها حميرية … تكاد وإن طال الزمان تبين والبيت في الديوان يروى «أرى نرجسا» بدلا من «لدى نرجس».

وكذلك تشبيه الثّغر بالأقاحي، ثم تشبيهها بالثغر، كقول ابن المعتز: [من السريع] والأقحوان كالثّنايا الغرّ … قد صقلت أنواره بالقطر (¬1) وقول التّنوخي: [من الخفيف] أقحوان معانق لشقيق … كثغور تعضّ ورد الخدود وبعده، وهو تشبيه النرجس بالعيون: وعيون من نرجس تتراءى … كعيون موصولة التّسهيد (¬2) وكما يشبّهون السيوف عند الانتضاء بعقائق البروق، كما قال: [من الوافر] وسيفي كالعقيقة وهو كمعي … سلاحي، لا أفلّ ولا فطارا ثم يعودون فيشبّهون البرق بالسيوف المنتضاة، كما قال ابن المعتزّ يصف سحابة: [من المتقارب] وسارية لا تملّ البكا … جرى دمعها في خدود الثّرى سرت تقدح الصّبح في ليلها … ببرق كهندية تنضى (¬3) وكقول الآخر يصف نار السّذق: [من المتقارب] وما زال يعلو عجاج الدّخان … إلى أن تلوّن منه زحل (¬4) وكنّا نرى الموج من فضّة … فذهّبه النّور حتى اشتعل شرارا يحاكى انقضاض النجوم … وبرقا كإيماض بيض تسلّ ومن لطيفه قول علي بن محمد بن جعفر: [من الكامل] دمن كأنّ رياضها … يكسين أعلام المطارف (¬5) وكأنّما غدرانها … فيها عشور من مصاحف وكأنّما أنوارها … تهتزّ في نكباء عاصف ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه. (¬2) البيت والذي قبله من أبيات في يتيمة الدهر 2/ 313 في صفة الروض. (¬3) البيتان في ديوانه من أول قصيدة في الفخر. (¬4) الأبيات لأبي الحسن السلامي في يتيمة الدهر 2/ 387. (¬5) الأبيات لعلي بن محمد بن جعفر هو أبو الحسن العلوي الحماني والشعر في أمالي القالي 1/ 177، والسمط 439، 440. والمطارف: جمع مطرف وهو رداء من القز فيه أعلام، والطرر: جمع طرّة، وهو أن يقطع للجارية من مقدّم ناصيتها كالطرّة تحت التاج، لا تبلغ حاجبها، والمثاقف: هو الذي يحسن المثاقفة بالسيف في الخصام والجلاد أي: العمل به (محمود شاكر).

طرر الوصائف يلتق … ين بها إلى طرر الوصائف وكأنّ لمع بروقها … في الجوّ أسياف المثاقف المقصود البيت الأخير، ولكن البيت إذا قطع عن القطعة كان كالكعاب تفرد عن الأتراب، فيظهر فيها ذلّ الاغتراب، والجوهرة الثمينة مع أخواتها في العقد أبهى في العين، وأملأ بالزين، منها إذا أفردت عن النظائر، وبدت فذّة للناظر. ويشبّهون الجواشن والدروع بالغدير يضرب الريح متنه فيتكسّر، ويقع فيه ذلك الشنج المعلوم كقوله (¬1): [من الطويل] وبيضاء زغف نثلة سلميّة … لها رفرف فوق الأنامل من عل وأشبرنيها الهالكيّ، كأنها … غدير جرت في متنه الرّيح سلسل وقال (¬2): [من المتقارب] وسابغة من جياد الدّروع … تسمع للسيف فيها صليلا كمتن الغدير زفته الدّبور … يجرّ المدجّج منها فضولا وقال البحتري (¬3): [من الكامل] يمشون في زغف كأنّ متونها … في كل معركة متون نهاء ¬

_ (¬1) البيتان لأوس بن حجر في ديوانه، ولسان العرب (شبر). بيضاء: الدرع الزّغف والزّغفة: الدرع المحكمة، وقيل: الواسعة الطويلة، تسكن وتحرك. وقيل: الدرع اللينة، والجمع: زغف على لفظ الواحد، وأنكر ابن الأعرابي تفسير الزغفة بالواسعة من الدروع، وقال: هي الصغيرة الحلق. والنّثلة: الدرع عامة، وقيل: هي السابغة منها، وقيل: هي الواسعة منها السليمة بالضم: نسبة سماعية إلى سليمان بن داود عليهما السلام. أشبر الرجل: أعطاه وفضله، وشبره سيفا ومالا: أعطاه إياه ويروى البيت في اللسان (أشبرنيه) وأيضا (أشبرنيها) فتكون الهاء للدرع. قال ابن بري: وهو الصواب لأنه يصف درعا لا سيفا. [اللسان: شبر]. (¬2) البيتان لعبد قيس بن خفاف من قصيدته في المفضليات: 386 ومطلعها: صحوت وزايلني باطلي … لعمر أبيك زيالا طويلا والقصيدة من الأدب الرفيع والخلق السامي، وفيها يظهرنا هذا الرجل على ما صار إليه من خلق كريم. وعبد قيس بن خفاف: هو من بني عمرو بن حنظلة من البراجم، كما قال الأنباري، ولم يرفع نسبه ولم نجد شيئا من ترجمته. (¬3) البيت في ديوانه. والنّهي: الموضع الذي له حاجز ينهى الماء أن يفيض منه. وقيل: هو الغدير في لغة أهل نجد.

وهو من الشهرة بحيث لا يخفى. ثم إنهم يعكسون هذا التشبيه فيشبّهون الغدران والبرك بالدروع والجواشن، كقول البحتري يصف البركة (¬1): [من البسيط] إذا زهتها الصّبا أبدت لها حبكا … مثل الجواشن مصقولا حواشيها ومن فاتن ذلك وفاخره، لاستواء أوّله في الحسن وآخره، قول أبي فراس الحمداني (¬2): [من مجزوء الكامل] انظر إلى زهر الربيع … والماء في برك البديع وإذا الرياح جرت علي … هـ في الذّهاب وفي الرجوع نثرت على بيض الصّفا … ئح بيننا حلق الدروع وتشبّه أنوار الرياض بالنجوم، كقوله (¬3): [من الكامل] بكت السماء بها رذاذ دموعها … فغدت تبسّم عن نجوم سماء ثم تشبّه النجوم بالنّور كقوله (¬4): [من البسيط] قد أقذف العيس في ليل كأنّ به … وشيا من النّور أو روضا من العشب وكقول ابن المعتزّ (¬5): [من الطويل] كأنّ الثّريّا في أواخر ليلها … تفتّح نور أو لجام مفضّض وقال (¬6): [من الكامل] وتوقّد المرّيخ بين نجومها … كبهارة في روضة من نرجس ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه. الحبك، حبك السماء: طرائقها، ومن التنزيل: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ يعني: طرائق النجوم واحدتها: «حبكة»، وقال الفراء في قوله: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ قال: الحبك تكسّر كل شيء كالرملة إذا مرت عليها الريح الساكنة والماء القائم إذا مرت به الريح، والدرع من الحديد لها حبك أيضا. الجوشن: اسم الحديد الذي يلبس من السلاح. الجوهري: الجوشن: الدرع. [اللسان: حبك، جشن]. (¬2) الأبيات في ديوانه. (¬3) البيت للبحتري في ديوانه. الرّذاذ: المطر، وقيل: الساكن الدائم الصغار القطر كأنه غبار. وقيل: هو بعد الطلل. قال الأصمعي: أخف المطر وأضعفه الطلل ثم الرذاذ. [اللسان: رذذ]. (¬4) البيت للبحتري في ديوانه. (¬5) راجع ص 123 هامش رقم (3). (¬6) البيت لابن المعتز في ديوانه ص 276، وهو من خمسة أبيات مطلعها: كم ليلة محمودة أحييتها … جاءت بأسعد طائر لم ينحس بيضاء مقمرة لقيها صحبها … وثيابها في ظلمة لم تدنس «البهار» بالفتح: نبت طيب الرائحة، واحده البهار.

وكذلك تشبّه غرّة الفرس الأدهم بالنّجم أو الصبح، ويجعل جسمه كالليل، كما قال ابن المعتزّ (¬1): [من الرجز] جاء سليلا من أب وأمّ … أدهم مصقول ظلام الجسم قد سمّرت جبهته بنجم وكما قال كاتب المأمون يصف فرسا (¬2): [من الرمل] قد بعثنا بجواد … مثله ليس يرام فرس يزهى به للح … سن سرج ولجام وجهه صبح، ولكن … سائر الجسم ظلام والذي يصلح للمو … لى، على العبد حرام وقال ابن نباتة (¬3): [من الوافر] وأدهم يستمد الليل منه … وتطلع بين عينيه الثّريّا ثم يعكس فيشبّه النجم أو الصبح بالغرّة في الفرس، كقول ابن المعتزّ (¬4): [من الرجز] والصّبح في طرّة ليل مسفر … كأنه غرّة مهر أشقر وتشبّه الجواري في قدودهن بالسّرو تشبيها عامّيّا مبتذلا، ثم إنهم قد جعلوا فيه الفرع أصلا، فشبّهوا السّرو بهنّ، كقوله (¬5): [من الكامل] حفّت بسرو كالقيان تلحّفت … خضر الحرير على قوام معتدل فكأنّها والرّيح حين تميلها … تبغي التعانق ثم يمنعها الخجل والمقصود من البيت الأول ظاهر، وفي البيت الثاني تشبيه من جنس الهيئة ¬

_ (¬1) البيتان لم أعثر عليهما في ديوانه (طبعة دار صادر). (¬2) الأبيات لعمرو بن مسعدة، كاتب المأمون والشعر في ترجمته في معجم الأدباء (محمود شاكر). (¬3) البيت وهو في الإيضاح: 322 تحقيق د. عبد الحميد هنداوي. أدهم: فرس أسود. الثريا: كوكب معروف استعارة لغرة الفرس. (¬4) البيت لم أجده في ديوانه (طبعة دار صادر). (¬5) البيتان في وصف روضة نسبها ياقوت في معجم الأدباء لأحمد بن سليمان بن وهب في ترجمته، وقال: ربما نسبوه إلى غيره، كأنه يعني نسبتهما إلى سعيد بن حميد كما في التشبيهات لابن عون ص 197، وحماسة الشجري: 762 (محمود شاكر).

المجرّدة من هيئات الحركة، وفيه تفصيل طريف فاتن، فقد راعى الحركتين حركة التهيّؤ للدنوّ والعناق، وحركة الرّجوع إلى أصل الافتراق، وأدّى ما يكون في الحركة الثانية من سرعة زائدة تأدية تحسب معها السّمع بصرا، تبيينا للتشبيه كما هو وتصوّرا، لأن حركة الشجرة المعتدلة في حال رجوعها إلى اعتدالها أسرع لا محالة من حركتها في حال خروجها عن مكانها من الاعتدال، وكذلك حركة من يدركه الخجل فيرتدع، أسرع أبدا من حركته إذا همّ بالدنوّ، فإزعاج الخوف والوجل أبدا أقوى من إزعاج الرجاء والأمل، فمع الأوّل تمهّل الاختبار، وسعة الحوار، ومع الثاني حفز الاضطرار، وسلطان الوجوب. وأعود إلى الغرض. ومن تشبيه السّرو بالنساء قول ابن المعتزّ (¬1): [من الطويل] ظللت بملهى خير يوم وليلة … تدور علينا الكأس في فتية زهر بكفّ غزال ذي عذار وطرّة … وصدغين كالقافين في طرفي سطر لدى نرجس غضّ وسرو كأنه … قدود جوار ملن في أزر خضر وتشبّه ثديّ الكواعب بالرمّان كقوله (¬2): [من الكامل] وبما تبيت أناملي … يجنين رمّان النّحور وقول المتنبي (¬3): [من الطويل] وقابلني رمّانتا غصن بانة … يميل به بدر ويمسكه حقف وقوله (¬4): [من الطويل] يخطّطن بالعيدان في كلّ منزل … ويخبأن رمّان الثّديّ النواهد ¬

_ (¬1) هي ثلاثة أبيات في ديوانه ص 235 (طبعة دار صادر). (¬2) البيت آخر ثلاثة أبيات للنميري (محمد بن عبيد الله) في ديوان المعاني 1/ 253. والنحور: الصدور. ابن سيدة: نحر الصدر: أعلاه، وقيل: هو موضع القلادة منه، وهو المنحر مذكر لا غير. (¬3) البيت غير موجود في ديوانه (طبعة دار الكتب العلمية) وموجود في التبيان على شرح ديوان أبي الطيب المتنبي للعكبري ص 460. الحقف: ما اعوج من الرمل وجمعه أحقاف وحقاف وقد نطق القرآن بالأحقاف. وهو يريد بالرمانتين الثديين وبالغصن القد وبالبدر الوجه وبالحقف الردف ومعنى البيت يقول: لما قامت للوداع قابلن رمانتان من ثديها على قد مثل الغصن يميله وجه كالبدر فكان وجهها يميل قامتها ثم يمسك الردف بثقله قامتها الخفيفة فلا تقدر على سرعة الحركة. [التبيان للعكبري]. (¬4) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص 40 من قصيدة قالها في مدح النعمان بن وائل، وقبله: وشيمة لا وان، ولا واهن القوى … وجدّ إذا خاب المفيدون صاعد فآب بأبكار وعون عقائل … أوانس يحميها امرؤ غير زاهد ونواهد: جمع نهد: الثدي أي: أنهن خجولات يتلهين باللعب بالعيدان.

ثم يقلب فيشبّه الرّمان بالثدي، كقول القائل (¬1): [من الطويل] ورمّانة شبّهتها إذا رأيتها … بثدي كعاب أو بحقّة مرمر منمنمة صفراء نضّد حولها … يواقيت حمر في ملاء معصفر وتشبّه الجداول والأنهار بالسيوف، يراد بياض الماء الصّافي وبصيصه، مع شكل الاستطالة الذي هو شكل السيف، كقول ابن المعتز (¬2): [من السريع] أعددت للجار وللعفاة … كوم الأعالي متساميات روازقا في المحل مطعمات يعني نخلا، ثم قال بعد أبيات: تسقى بأنهار مفجّرات … على حصى الكافور فائضات بريئة الصّفو من القذاة … مثل السّيوف المتعرّيات ابن بابك (¬3): [من الوافر] فما سيل تخلّصه المحاني … كما سلّت من الخلل المناصل أبو فراس (¬4): [من الكامل] والماء يفصل بين زه … ر الرّوض في الشطّين فصلا كبساط وشي جرّدت … أيدي القيون عليه نصلا كشاجم (¬5): [من الكامل] وترى الجداول كالسّيو … ف لها سواق كالمبارد ¬

_ (¬1) البيتان من ثلاثة أبيات في محاضرات الأدباء 1/ 384 لابن شاه (أبو نصر سعيد بن شاه). (¬2) لم أجدها في ديوانه (طبعة دار صادر). الكوم: القطعة من الإبل، وناقة كوماء: عظيمة السنام طويلته الكوم: عظم في السنام، وفي الحديث: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى في نعم الصدقة ناقة كوماء، وهي الضخمة السنام أي: مشرفة السنام عاليه [اللسان: كوم]. (¬3) المحاني: معاطف الأودية ومحابس الماء. الخلل: جمع خلة بالكسر وهي: جفن السيف المغشى بالأدم أو بطانة جفن السيف مطلقا والمناصل: السيوف، واحدها كمنخل (رشيد). (¬4) البيتان لأبي فراس في ديوانه فانظره. النصل: حديدة السهم والرّمح، ج: أنصل، ونصول، ونصال الوشي: الثياب الملونة والوشي يكون من كل لون، والوشى في اللون خلط لون بلون. والجمع: وشاء على فعل وفعال. (¬5) كشاجم: شاعر زمانه، يذكر مع المتنبي، وهو أبو نصر محمود بن حسين، له ذكر في تاريخ دمشق وكان شاعرا، كاتبا، منجّما، فعمل من حروف ذلك له اللقب.

آخر (¬1): [من البسيط] وفي الجداول أسياف محادثة … والطير تسجع أهزاجا وأرمالا وقال ذو الرمّة (¬2): [من الطويل] فما انشقّ ضوء الصبح حتى تبيّنت … جداول أمثال السّيوف القواطع ابن الرومي (¬3): [من الرجز] على حفافي جدول مسجور … أبيض مثل المهرق المنشور أو مثل متن الصارم المشهور ثم يقلبون أحد طرفي التشبيه على الآخر، فيشبّهون السيوف بالجداول، كقوله (¬4): [من الكامل] وتخال ما ضربوا بهنّ جداولا … وتخال ما طعنوا به أشطانا ابن بابك (¬5): [من الطويل] وأهدي إلى الغارات عزما مشيّعا … وبأسا وباعا في اللّقاء ومقصلا سفيه مقطّ الطرّتين أشيمه … فيوحي إلى الأعضاء أن تتزيّلا أغرّ كأني حين أخضب حدّه … خرقت به في ملتقى الرّوض جدولا السرّى (¬6): [من الوافر] وكم خرق الحجاب إلى مقام … توارى الشمس فيه بالحجاب ¬

_ (¬1) أسياف: جمع سيف، وتجمع أيضا على «سيوف، أسيف»، ومحادثة السيف: جلاؤه. وأحدث الرجل سيفه، وحادثه إذا جلاه. الهزج والرّمل: بحران من بحور الشعر العربي والهزج: الفرح، والصوت المطرب، وصوت فيه بحح. (¬2) البيت لذي الرمة في ديوانه ص 167. (¬3) الحفاف: الجانب. والمسجور: المملوء. والمهرق: صحيفة يكتب عليها. الصارم: القاطع من السيوف. (¬4) الشطن: الحبل الذي يستقى به. (¬5) ابن بابك: شاعر وقته، أبو القاسم عبد الصمد بن منصور بن بابك البغدادي، وديوانه كبير في مجلدين توفي سنة عشر وأربع مائة. المشيع: الشجاع، المقصل: القطّاع، ويوصف به السيف. السفيه: المضطرب، المقط: القطع، الطرتين: مثنى طرة، وهو الجانب أو الطرف. (¬6) السري: هو أبو الحسن السريّ بن أحمد الكندي، الموصلي، مدح سيف الدولة، ومات سنة نيّف وستين وثلاث مائة ببغداد.

كأنّ سيوفه بين العوالي … جداول يطّردن خلال غاب وله أيضا: [من الطويل] كأنّ سيوف الهند بين رماحه … جداول في غاب سما فتأشّبا وتشبّه الأسنّة، كما لا يخفى، بالنجوم، كما قال (¬1): [من الكامل] وأسنّة زرقا تخال نجوما وقال البحتري (¬2): [من الكامل] وتراه في ظلم الوغى فتخاله … قمرا يكرّ على الرّجال بكوكب يعني السنان، وقال ابن المعتزّ (¬3): [من الكامل] وتراه يصغي في القناة بكفّه … نجما ونجما في القناة يجرّه ومثله سواء قوله (¬4): [من السريع] كأنما الحربة في كفّه … نجم دجى شيّعه البدر ثم قد شبّهوا الكواكب بالسّنان، كقول الصنوبري (¬5): [من المنسرح] بشّر بالصّبح كوكب الصّبح … فاض وجنح الدّجى كلا جنح فهو على الفجر كالسّنان هوى … للعين كما هوى على رمح ابن المعتزّ (¬6): [من السريع] شربتها والديك لم ينتبه … سكران من نومته طافح ولاحت الشّعرى وجوزاؤها … كمثل زجّ جرّه رامح وهذه إن أردت الحقّ، قضيّة قد سبقت وقدمت، فقد قالوا: «المسك الرامح»، على معنى أن كوكبا يتقدّمه وهو رمحه، ولا شك أن جلّ الغرض في جعل ذلك ¬

_ (¬1) البيت لليلى الأخيلية في ديوانها ص 110، ومقاييس اللغة 2/ 479، وصدره: قوم رباط الخيل وسط بيوتهم … وأسنة زرق ................ (¬2) البيت في ديوانه. (¬3) البيت في ديوانه. (¬4) البيت في ديوان البحتري. (¬5) البيت في المطبوعة: «كما هوى»، وفي طبعة الشيخ (شاكر): «لمّا هوى»، وهو الصواب. (¬6) الزج: حديدة تركب في أسفل الرمح. والسنان: في أعلى الرمح.

الكوكب رمحا أن يقدّروه سنانا، فالرمح رمح بالسنان، وإذا لم يكن السنان فهو قناة، ولذلك قال (¬1): [من المتقارب] ورمحا طويل القناة عسولا ومن ذلك أن الدموع تشبّه إذا قطرت على خدود النساء بالطّلّ والقطر على ما يشبه الخدود من الرياحين، كقول الناشئ (¬2): [من المتقارب] بكت للفراق وقد راعها … بكاء الحبيب لبعد الدّيار كأنّ الدّموع على خدّها … بقيّة طلّ على جلّنار وشبيه به قول ابن الرومي (¬3): [من المنسرح] لو كنت يوم الوداع حاضرنا … وهنّ يطفئن غلّة الوجد لم تر إلا الدموع ساكبة … تقطر من مقلة على خدّ كأنّ تلك الدموع قطر ندى … يقطر من نرجس على ورد ثم يعكس، كقول البحتري (¬4): [من الطويل] شقائق يحملن الندى فكأنّه … دموع التصابي في خدود الخرائد وشبيه به قول ابن المعتزّ، وبعد قوله في النرجس (¬5): [من الطويل] كأن عيون النرجس الغضّ حولها … مداهن درّ حشوهنّ عقيق إذا بلّهنّ القطر خلت دموعها … بكاء عيون كحلهنّ خلوق وفي فنّ آخر منه خارج عن جنس ما مضى، يشبّه الشيخ إذا أفناه الهرم، وحناه القدم، حتى يدخل رأسه في منكبيه، بالفرخ، كما قال (¬6): [من الطويل] ثلاث مئين قد مضين كواملا … وها أنا هذا أرتجي مرّ أربع ¬

_ (¬1) عجز بيت لعبد قيس بن خفاف، صدره: ووقع لسان كحد السنان … ................ .. انظر الأصمعية ص 88، والمفضليات ص 117. (¬2) البيت للناشئ الأكبر. والجلنار: زهر الرمان. (¬3) النّرجس، بالكسر، من الرياحين، معروف، وهو دخيل. (¬4) الخريدة من النساء: البكر التي لم تمس قط، وقيل: هي الحيية الطويلة السكوت، الخافضة الصوت، الخفرة المتسترة. (¬5) الخلوق: نوع من الطيب لونه أصغر. (¬6) هما لعمرو أو كعب بن حممة الدوسي من المعمرين، وشعره في المعمرين ص 22، وحماسة البحتري ص 205.

فأصبحت مثل الفرخ في العشّ ثاويا … إذا رام تطيارا يقال له قع وهو كثير، ثم يعكس فيشبّه بالشيخ، كما قال أبو نواس يرثي خلفا الأحمر (¬1): [من الرجز] لو كان حيّ وائلا من التّلف … لوألت شغواء في أعلى شعف أمّ فريخ أحرزته في لجف … مزغّب الألغاد لم يأكل بكفّ كأنه مستقعد من الخرف وأعاده في قصيدة أخرى في مرثيته أيضا (¬2): [من المنسرح] لا تئل العصم في الهضاب، ولا … شغواء تغذو فرخين في لجف تحنو بجؤشوشها على ضرم … كقعدة المنحنى من الخرف ويشبّه الظّليم في حركة جناحيه، مع إرسال لهما، بالخباء المقوّض، أنشد أبو العباس لعلقمة (¬3): [من البسيط] صعل كأنّ جناحيه وجؤجؤه … بيت أطافت به خرقاء مهجوم اشترط أن تتعاطى تقويضه خرقاء، ليكون أشدّ لتفاوت حركاته، وخروج اضطرابه عن الوزن، وقال ذو الرمة: [من الطويل] وبيض رفعنا بالضّحى عن متونها … سماوة جون كالخباء المقوّض هجوم عليها نفسه غير أنّه … متى يرم في عينيه بالشّبح ينهض قالوا في تفسيره: يعني بالبيض بيض النعام، و «رفعنا»، أي: أثرنا عن ظهورها. و «سماوة جون» أي: شخص نعام جون، و «سماوة الشيء»، شخصه. و «الجون» الأسود هاهنا، لأنه قابل بين البياض والسواد. ثم شبّه النّعام في حال إثارته عن البيض بالخباء المقوّض، وهو الذي نزعت أطنابه للتحويل. والبيت الثاني من أبيات ¬

_ (¬1) البيت في ديوان أبي نواس ص 127. والبيت الثاني في الديوان صدره هكذا: أم فريخ أحرزته في لجف الوائل: طالب النجاة، ووألت: نجت، الشغواء (بفتح فسكون) العقاب، والشعف: بفتحتين: جمع شعفة، وهي رأس الجبل. والفريخ: تصغير الفرخ، واللجف: حفر في جانب البئر، والمزغب: ذو الريش الدقيق. (¬2) البيت في ديوان أبي نواس ص 128. لا تئل: لا تنجو، الجؤشوش: الصرم، الضرم: فرخ العقاب. (¬3) البيت لعلقمة بن عبدة في ديوانه ص 63. ولسان العرب (هجم)، وتاج العروس (هجم). ولذي الرمة في ملحقات ديوانه ص 1911.

الكتاب، أنشده شاهدا على إعمال «فعول» عمل الفعل، وذلك قوله: «هجوم عليها نفسه»، فنفسه منصوب بهجوم، على أنه من «هجم» متعدّيا نحو: «هجم عليها نفسه»، أي: طرحها عليها، كأنه أراد أن يصف الظّليم في خوفه بأمرين متضادّين، بأن يبالغ في الانكباب على البيض فعل من شأنه اللزوم والثبات وأن يثيره عنها الشيء اليسير، نحو أن يقع بصره على الشخص من بعد، فعل من كان مستوفزا في مكانه غير مطمئنّ ولا موطّن نفسه على السّكون، وقوله: «يرم في عينيه بالشّبح»، كلام ليس لحسنه نهاية. وقد قال ابن المعتزّ، فعكس هذا التشبيه، فشبّه حركة الخباء بالطائر، إلا أنه راعى أن يكون هناك صفة مخصوصة، فشرط في الطائر أن يكون مقصوصا، وذلك قوله: [من الخفيف] ورفعنا خباءنا تضرب الري … ح حشاه كالجادف المقصوص وأخرجه إلى هذا الشرط: أنه أراد حركة خباء ثابت غير مقوّض، إلا أن الريح تقع في جوفه فيتحرك جانباه على توال، كما يفعل المقصوص إذا جدف، وذلك أن يردّ جناحيه إلى خلفه فيتحرك جانباه. فحصل له أمران: أحدهما أن الموفور الجناح يبسط جناحيه في الأكثر، وذلك إذا صفّ في طيرانه، فلا يدوم ضربه بجناحيه، والمقصوص لقصوره عن البسط يديم ضربهما والثاني تحريك الجناحين إلى خلف. وهذا كثير جدّا، وتتبّعه في كل باب ونوع من التشبيه يشغل عن الغرض من هذه الموازنة. وإنما يمتنع هذا القلب في طرفي التشبيه، لسبب يعرض في البين فيمنع منه، ولا يكون من صميم الوصف المشترك بين الشيئين المشبّه أحدهما بالآخر. فمن ذلك، وهو أقواه فيما أظنّ، أن يكون بين الشيئين تفاوت شديد في الوصف الذي لأجله تشبّه، ثم قصدت أن تلحق الناقص منهما بالزائد، مبالغة ودلالة على أنه يفضل أمثاله فيه. بيان هذا: أن هاهنا أشياء هي أصول في شدة السّواد كخافية الغراب، والقار، ونحو ذلك، فإذا شبّهت شيئا بها كان طلب العكس في ذاك عكسا لما يوجبه العقل ونقضا للعادة، لأن الواجب أن يثبت المشكوك فيه بالقياس على المعروف، لا أن يتكلّف في المعروف تعريف بقياسه على المجهول وما ليس بموجود على الحقيقة. فأنت إذا قلت في شيء: «هو كخافية الغراب»، فقد أردت أن تثبت له سوادا زائدا

على ما يعهد في جنسه، وأن تصحّح زيادة هي مجهولة له، وإذا لم يكن هاهنا ما يزيد على خافية الغراب في السواد، فليت شعري ما الذي تريد من قياسه على غيره فيه، ولهذا المعنى ضعف بيت البحتري: [من الطويل] على باب قنّسرين والليل لاطخ … جوانبه من ظلمة بمداد وذاك أن «المداد» ليس من الأشياء التي لا مزيد عليها في السواد، كيف؟ وربّ مداد فاقد اللون، والليل بالسواد وشدّته أحقّ وأحرى أن يكون مثلا، ألا ترى إلى ابن الرومي حيث قال: [من السريع] حبر أبي حفص لعاب الليل … يسيل للإخوان أيّ سيل فبالغ في وصف الحبر بالسواد حين شبّهه بالليل، وكأن البحتري نظر إلى قول العامّة في الشيء الأسود «هو كالنّقس»، ثم تركه للقافية إلى «المداد». فإن قلت: فينبغي على هذا أن لا يجوز تشبيه الصّبح بغرّة الفرس لأجل أنّ الصبح بالوصف الذي لأجله شبّه الغرة به أخصّ، وهو فيه أظهر وأبلغ، والتفاوت بينهما كالتفاوت بين خافية الغراب والقار وبين ما يشبّه بهما. فالجواب: أن الأمر، وإن كان كذلك، فإنّ تشبيه غرّة الفرس بالصبح حيث ذكرت، لم يقع من جهة المبالغة في وصفها بالضياء والانبساط وفرط التلألؤ، وإنما قصد أمر آخر: وهو وقوع منير في مظلم، وحصول بياض في سواد، ثم البياض صغير قليل بالإضافة إلى السواد، وأنت تجد هذا الشّبه على هذا الحدّ في الأصل، فإذا عكست فقلت: «كأنّ الصّبح عند ظهور أوّله في الليل غرّة في فرس أدهم»، لم تقع في مناقضة كما أنك لو شبّهت الصّبح في الظلام بقلم بياض على ديباج أسود لم تخرج عن الصواب وعلى نحو من ذلك قول ابن المعتزّ: [من الطويل] فخلت الدّجى والفجر قد مدّ خيطه … رداء موشّى بالكواكب معلما فالعلم في هذا الرداء هو الفجر بلا شبهة. وله، وهو صريح ما أردت: [من البسيط] والليل كالحلّة السّوداء لاح به … من الصّباح طراز غير مرقوم وإن كان التفاوت في المقدار بين الصّبح والطّراز في الامتداد والانبساط شديدا.

وكذلك تشبيه الشّمس بالمرآة المجلوّة، وبالدينار الخارج من السّكّة، كما قال ابن المعتزّ: [من الخفيف] وكأنّ الشّمس المنيرة دينا … ر جلته حدائد الضّرّاب حسن مقبول، وإن عظم التفاوت بين نور الشمس ونور المرآة والدّينار أو الجرم والجرم، لأنك لم تضع التشبيه على مجرّد النّور والائتلاق، وإنما قصدت إلى مستدير يتلألأ ويلمع، ثم خصوص في جنس اللون يوجد في المرآة المجلوّة والدينار المتخلّص من حمي السّكّة، كما يوجد في الشمس. فأما مقدار النور، وأنه زائد أو ناقص ومتناه، أو متقاصر، والجرم: أعظيم هو أم صغير؟ فلم تتعرّض له، ويستقيم لك العكس في هذا كله، نحو أن تشبّه المرآة بالشمس، وكذلك لو قلت في الدينار: «كأنه شمس»، أو قلت: «كأن الدنانير المنثورة شموس صغار» لم تتعدّ. وجملة القول أنه متى لم يقصد ضرب من المبالغة في إثبات الصفة للشيء، والقصد إلى إيهام في الناقص أنه كالزائد، واقتصر على الجمع بين الشيئين في مطلق الصورة والشكل واللون، أو جمع وصفين على وجه يوجد في الفرع على حدّه أو قريب منه في الأصل، فإنّ العكس يستقيم في التشبيه، ومتى أريد شيء من ذلك لم يستقم. وقد يقصد الشاعر، على عادة التخييل، أن يوهم في الشيء هو قاصر عن نظيره في الصفة أنه زائد عليه في استحقاقها، واستيجاب أن يجعل أصلا فيها، فيصحّ على موجب دعواه وسرفه أن يجعل الفرع أصلا، وإن كنّا إذا رجعنا إلى التحقيق، لم نجد الأمر يستقيم على ظاهر ما يضع اللفظ عليه، ومثاله قول محمد بن وهيب: [من الكامل] وبدا الصّباح كأنّ غرّته … وجه الخليفة حين يمتدح فهذا على أنه جعل وجه الخليفة كأنه أعرف وأشهر وأتمّ وأكمل في النور والضياء من الصّباح، فاستقام له بحكم هذه النّيّة أن يجعل الصباح فرعا، ووجه الخليفة أصلا. واعلم أن هذه الدعوى وإن كنت تراها تشبه قولهم: «لا يدرى أوجهه أنور أم الصّبح، وغرّته أضوأ أم البدر»، وقولهم إذا أفرطوا: «نور الصباح يخفى في ضوء وجهه»، أو «نور الشمس مسروق من جبينه»، وما جرى في هذا الأسلوب من وجوه الإغراق والمبالغة فإن في الطريقة الأولى خلابة وشيئا من السحر، وهو أنه كأنه يستكثر للصّباح أن يشبّه بوجه الخليفة، ويوهم أنه قد احتشد له، واجتهد في طلب

تشبيه يفخّم به أمره، وجهته الساحرة أنه يوقع المبالغة في نفسك من حيث لا تشعر، ويفيدكها من غير أن يظهر ادّعاؤه لها، لأنه وضع كلامه وضع من يقيس على أصل متّفق عليه، ويزجّي الخبر عن أمر مسلّم لا حاجة فيه إلى دعوى ولا إشفاق من خلاف مخالف وإنكار منكر، وتجهّم معترض، وتهكّم قائل: «لم؟»، و «من أين لك ذلك؟». والمعاني إذا وردت على النّفس هذا المورد، كان لها ضرب من السّرور خاصّ وحدث بها من الفرح عجيب، فكانت كالنعمة لم تكدرها المنّة، والصّنيعة لم ينغّصها اعتداد المصطنع لها. وفي هذا الموضع شبيه بالنكتة التي ذكرتها في التجنيس، لأنك في الموضعين تنال الربح في صورة رأس المال، وترى الفائدة قد ملأت يدك من حيث حسبتها قد جازتك وأخلتك، وتجد على الجملة الوجود من حيث توهمّت العدم. ولطيفة أخرى، وهو أن من شأن المدح إذا ورد على العاقل أن يقفه بين أمرين يصعب الجمع بينهما وتوفية حقّهما: معرفة حقّ المادح على ما احتشد له من تزيينه، وقصده من تفخيم شأنه في عيون الناس بالإصغاء إليه والارتياح له، والدّلالة بالبشر والطلاقة على حسن موقعه عنده وملك النفس حتى لا يغلبها السرور عليه، ويخرج بها إلى العجب المذموم وإلى أن يقول: «أنا»، فيقع في ضعة الكبر من حيث لا يشعر، ويظهر عليه من أمارته ما يذمّ لأجله ويحقّر، فما كبر أحد في نفسه إلّا غان الكبر على عقله، وفسخ عقدة من حلمه. وهذا موقف تزلّ فيه الأقدام، بل تخفّ عنده الحلوم، حتى لا يسلم من خدع النفس هناك إلا أفراد الرجال، وإلا من أدام التوفيق صحبته، ومن أين ذلك وأنّى! فإذا كان المدح على صورة قوله: «وجه الخليفة حين يمتدح»، خفّ عنه الشطر من تكاليف هذه الخصلة. وإذ قد تبيّن كيف يكون جعل الفرع أصلا، والأصل فرعا في التشبيه الصريح، فارجع إلى «التمثيل»، وانظر هل تجيء فيه هذه الطريقة على هذه السّعة والقوة؟ ثم تأمّل ما حمل من «التمثيل» عليها كيف حكمه؟ وهل هو مساو لما رأيت في التشبيه الصريح، وحاذ حذوه على التحقيق، أم الحال على خلاف ذلك؟ والمثال فيما جاد من التمثيل مردودا فيه الفرع إلى موضع الأصل، والأصل إلى محلّ الفرع، قوله (¬1): [من الخفيف] وكأنّ النّجوم بين دجاه … سنن لاح بينهنّ ابتداع ¬

_ (¬1) البيت للقاضي التنوخي. المصباح ص 110، ونهاية الإيجاز ص 190، ويتيمة الدهر 2/ 310.

وذلك أن تشبيه السّنن بالنجوم، تمثيل، والشبه عقليّ، وكذلك تشبيه خلافها من البدعة والضلالة بالظّلمة. ثم إنه عكس فشبّه النجم بالسّنن، كما يفعل فيما مضى من المشاهدات، إلا أنّا نعلم أنه لا يجري مجرى قولنا: «كأن النجوم مصابيح» تارة «وكأن المصابيح نجوم» أخرى، ولا مجرى قولك: «كأنّ السيوف بروق تنعقّ»، و «كأنّ البروق سيوف تسلّ من أغمادها فتبرق»، ونظائر ذلك مما مضى. وذلك أن الوصف هناك لا يختلف من حيث الجنس والحقيقة، وتجده العين في الموضعين، وليس هو في هذا مشاهدا محسوسا، وفي الآخر معقولا متصوّرا بالقلب ممتنعا فيه الإحساس. فأنت تجد في السيوف لمعانا على هيئة مخصوصة من الاستطالة وسرعة الحركة، تجده بعينه أو قريبا منه في البروق، وكذلك تجد في المداهن من الدرّ حشوهن عقيق، من الشكل واللون والصورة ما تجده في النرجس، حتى يتصوّر أن يشتبه الحال في الشيء من ذلك، فيظنّ أن أحدهما الآخر: فلو أن رجلا رأى من بعيد بريق سيوف تنتضى من الغمود، لم يبعد أن يغلط فيحسب أن بروقا انعقّت، وما لم يقع فيه الغلط كان حاله قريبا مما يجوز وقوع الغلط فيه. ومحال أن يكون الأمر كذلك في التمثيل، لأن «السنن» ليست بشيء يتراءى في العين فيشتبه بالنجوم، ولا هاهنا وصف من الأوصاف المشاهدة يجمع السنن والنجوم، وإنّما يقصد بالتشبيه في هذا الضرب ما تقدّم من الأحكام المتأوّلة من طريق المقتضى. فلمّا كانت «الضلالة والبدعة» وكل ما هو جهل، تجعل صاحبها في حكم من يمشي في الظّلمة فلا يهتدي إلى الطريق، ولا يفصل الشيء من غيره حتى يتردّى في مهواة، ويعثر على عدوّ قاتل وآفة مهلكة، لزم من ذلك أن تشبّه بالظلمة، ولزم على عكس ذلك أن تشبّه «السّنّة والهدى والشريعة وكلّ ما هو علم» بالنّور. وإذا كان الأمر كذلك، علمت أن طريقة العكس لا تجيء في «التمثيل» على حدّها في التشبيه الصريح، وأنها إذا سلكت فيه كان مبنيّا على ضرب من التأوّل والتخيّل يخرج عن الظاهر خروجا ظاهرا، ويبعد عنه بعدا شديدا. فالتأويل في البيت: أنه لما شاع وتعورف وشهر وصف «السنّة» ونحوها بالبياض والإشراق، و «البدعة» بخلاف ذلك، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أتيتكم بالحنيفيّة البيضاء ليلها كنهارها»، وقيل: «هذه حجّة بيضاء»، وقيل للشبهة وكل ما ليس بحق: «إنه مظلم»، وقيل «سواد الكفر»، و «وظلمة الجهل»، يخيّل أن «السنن» كلها جنس من الأجناس التي لها إشراق ونور وابيضاض في العين، وأن «البدعة» نوع

من الأنواع التي لها فضل اختصاص بسواد اللون، فصار تشبيهه النّجوم بين الدجى بالسنن بين الابتداع، على قياس تشبيههم النجوم في الظلام ببياض الشيب في سواد الشباب، أو بالأنوار وائتلاقها بين النّبات الشديد الخضرة، فهذا كلّه هاهنا، كأنه ينظر إلى طريقة قوله: وبدا الصباح كأنّ غرّته في بناء التشبيه على تأويل هو غير الظاهر، إلا أنّ التأويل هناك أنه جعل في وجه الخليفة زيادة من النور والضياء يبلغ بها حال الصباح أو يزيد والتأويل هاهنا أنه خيّل ما ليس بمتلوّن كأنه متلوّن، ثم بنى على ذلك. ومن هذا الباب قول الآخر (¬1): [من الكامل] ولقد ذكرتك والظّلام كأنه … يوم النّوى وفؤاد من لم يعشق لما كانت الأوقات التي تحدث فيها المكاره توصف بالسواد فيقال: «اسودّ النهار في عيني»، و «أظلمت الدنيا عليّ»، جعل يوم النوى كأنه أعرف وأشهر بالسواد من الظلام، فشبّه به، ثم عطف عليه «فؤاد من لم يعشق»، تظرّفا وإتماما للصنعة. وذلك أن الغزل يدّعي القسوة على من لم يعرف العشق، والقلب القاسي يوصف بشدّة السواد، فصار هذا القلب عنده أصلا في الكدرة والسواد فقاس عليه. وعلى ذلك قول العامّة: «ليل كقلب المنافق» أو «الكافر»، إلا أنّ في هذا شوبا من الحقيقة، من حيث يتصوّر في القلب أصل السواد، ثم يدّعى الإفراط، ولا يدّعى في «البدعة» نفس السواد، لأنها ليس مما يتلوّن، لأن اللون من صفات الجسم. فالذي يساويه في الشبه المساواة التامّة قولهم: «أظلم من الكفر»، كما قال ابن العميد في كتاب يداعب فيه، ويظهر التظلّم من هلال الصوم ويدعو على القمر فقال: «وأرغب إلى الله تعالى في أن يقرّب على القمر دوره، وينقص مسافة فلكه»، ثم قال بعد فصل: «ويسمعني النّعرة في قفا شهر رمضان، ويعرض عليّ هلاله أخفى من السحر وأظلم من الكفر». وإن تأوّلت في قوله: سنن لاح بينهنّ ابتداع أنه أراد معنى قولهم: إن سواد الظلام يزيد النجوم حسنا وبهاء، كان له ¬

_ (¬1) أورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص 176، وعزاه لأبي طالب الرقي. النوى: البعد، والتحول من مكان إلى آخر.

مذهب، وذلك أنه لما كان وقوف العاقل على بطلان الباطل، واطّلاعه على عوار البدعة، وخرقه الستر عن فضيحة الشّبهة، يزيد الحق نبلا في نفسه، وحسنا في مرآة عقله، جعل هذا الأصل من المعقول مثالا للمشاهد المبصر هناك، إلا أنه على ذلك لا يخرج من أن يكون خارجا عن الظاهر، لأن الظاهر أن يمثّل المعقول في ذلك بالمحسوس، كما فعل البحتري في قوله (¬1): [من الطويل] وقد زادها إفراط حسن جوارها … خلائق أصفار من المجد خيّب وحسن دراريّ النجوم بأن ترى … طوالع في داج من اللّيل غيهب فبك مع هذا الوجه حاجة إلى مثل ما مضى من تنزيل السّنّة والبدعة منزلة ما يقبل اللون، ويكون له في رأي العين منظر المشرق المتبسّم، والأسود الأقتم، حتى يراد أنّ لون هذا يزيد في بريق ذاك وبهائه وحسنه وجماله، وفي القطعة التي هذا البيت منها غيرها مما مذهبه المذهب الأول، وهو: [من الخفيف] ربّ ليل قطعته كصدود … أو فراق ما كان فيه وداع موحش كالثّقيل تقذى به العي … ن وتأبى حديثه الأسماع (¬2) وكأنّ النجوم البيت، وبعده (¬3): [من الخفيف] مشرقات كأنّهنّ حجاج … يقطع الخصم والظّلام انقطاع ومما حقّه أن يعدّ في هذا الباب قول القائل (¬4) ضضض: [من الطويل] كأنّ انتضاء البدر من تحت غيمة … نجاء من البأساء بعد وقوع وذلك أن العادة أن يشبّه المتخلص من البأساء بالبدر الذي ينحسر عنه الغمام، والشّبه بين البأساء والغمام والظلماء من طريق العقل، لا من طريق الحسّ. وأوضح منه في هذا قول ابن طباطبا (¬5) ضضض: [من الرجز] صحو وغيم وضياء وظلم … مثل سرور شابه عارض غمّ ومن جيّد ما يقع في هذا الباب قول التنوخيّ في قطعة، وهي قوله: [من البسيط] ¬

_ (¬1) البيتان للبحتري في ديوانه. (¬2) نفس القصيدة للقاضي التنوخي. (¬3) نفس القصيدة للقاضي التنوخي. (¬4) البيت لابن طباطبا العلوي، نقيب الأشراف بمصر. المفتاح ص 344، والإيضاح ص 340، ونهاية الإيجاز ص 191، انتضاء البدر: انكشافه وخروجه من الغيم. (¬5) البيت لابن طباطبا في ديوان المعاني 1/ 351 من أبيات كثيرة.

أما ترى البرد قد وافت عساكره … وعسكر الحرّ كيف انصاع منطلقا فالأرض تحت ضريب الثلج تحسبها … قد ألبست حبكا أو غشّيت ورقا فانهض بنار إلى فحم كأنهما … في العين ظلم وإنصاف قد اتّفقا جاءت ونحن كقلب الصّبّ حين سلا … بردا فصرنا كقلب الصبّ إذ عشقا (¬1) المقصود: «فانهض بنار إلى فحم»، فإنه لما كان في «الحقّ»: «إنّه منير واضح لائح»، فتستعار له أوصاف الأجسام المنيرة، وفي «الظلم» خلاف ذلك، تخيّلهما شيئين لهما ابيضاض واسوداد، وإنارة وإظلام، فشبّه النّار والفحم بهما. ومن هذا الباب قول ابن بابك (¬2): [من الطويل] وأرض كأخلاق الكريم قطعتها … وقد كحل الليل السّماك فأبصرا لما كانت الأخلاق توصف بالسعة والضيق، وكثر ذلك واستمرّ، توهّمه حقيقة، فقابل بين سعة الأرض التي هي سعة حقيقية وأخلاق الكريم. ومثله قول أبي طالب المأموني: [من الكامل] وفلا كآمال يضيق بها الفتى … لا تصدق الأوهام فيها قيلا أقريتها بشملة تقرى الفلا … عنقا، وتقريها الفلاة نحولا قاس الفلا في السعة وهي حقيقة فيها، على الآمال، وهي إذا وصفت بالسعة كان مجازا بلا شبهة، ولكن لما كان يقال: «آمال طوال» و «وآمال لا نهاية لها» و «واتسعت آماله»، وأشباه ذلك، صارت هذه الأوصاف كأنها موجودة فيها من طريق الحسّ والعيان. وعلى ذكر «الأمل»، فمن لطيف ما جاء في التشبيه به على هذا الحدّ، إن لم يكن في معنى السعة والامتداد، ولكن في الظّلمة والاسوداد، قول ابن طباطبا: [من الخفيف] ربّ ليل كأنّه أملي في … ك وقد رحت عنك بالحرمان جبته والنّجوم تنعس في الأف … ق ويطرفن كالعيون الرّواني (¬3) ¬

_ (¬1) الأبيات هي للتنوخي. (¬2) البيت لابن بابك. (¬3) جبته: قطعته ونعش طرفه: بالمثلثة (من باب فتح) رفعه لينظر وطرفت العين طرفا من باب ضرب تحركت. (رشيد).

هاربا من ظلام فعلك بي نح … وضياء الفتى الأغرّ الهجان (¬1) لما كان يقال في الأمر لا يرجى له نجاح: «قد أظلم علينا هذا الأمر»، و «هذا أمر فيه ظلمة»، ثم أراد أن يبالغ في التباس وجه النّجح عليه في أمله، تخيّل كأنّ أمله شخص شديد السواد فقاس ليله به، كأنه يقول: «تفكّرت فيما أعلمه من الأشياء السود، فرأيت صورة أملي فيك زائدة على جميعها في شدّة السّواد، فجعلته قياسا في ظلمة ليلي الذي جبته». ومن الباب، وهو حسن، قول ابن المعتزّ: [من الكامل] لا تخلطوا الدّوشاب في قدح … بصفاء ماء طيّب البرد (¬2) لا تجمعوا بالله ويحكم … غلظ الوعيد ورقّة الوعد لما كان يقال: «أغلظ له القول»، ويوصف الجافي وكل من أساء وقال ما يكره بالغلظ، ويوصف كلام المحسن ومن يعمد إلى الجميل باللطافة، جعل الوعيد والوعد أصلا في الصفتين، وقاس عليهما. فأما قول الآخر: [من الوافر] شربت على سلامة أفتكين … شرابا صفوه صفو اليقين فهو على الحقيقة لا يدخل في تشبيه الحقيقة بالمجاز، لأن الصفاء خلوص الشيء وخلوّه من شيء يغيّره عن صفته، إلا أنه من حيث يقع في الأكثر لما له بريق وبصيص، كان كأنه حقيقة في المحسوسات، ومجاز في المعقولات. وأما قولهم: «هواء أرقّ من تشاكي الأحباب»، فمن الباب، لأن الرقّة في الهواء حقيقة وفي التشاكي مجاز. وهكذا قول أبي نواس في خلاعته: [من الرمل] حتّى هي في رقّة ديني لأن الرقّة من صفات الأجسام، فهي في الدّين مجاز. ومما كأنه يدخل في هذا الجنس قول المتنبي: [من الخفيف] ¬

_ (¬1) الهجان ككتاب الخيار من كل شيء ورجل هجان كريم الحسب. (¬2) الدوشاب: نبيذ التمر معرب. أو الأسود كما في شرح ديوان ابن الرومي وقال السمعاني: إنه الدبس العربية. (رشيد).

يترشّفن من فمي رشفات … هنّ فيه أحلى من التّوحيد والنفس تنبو عن زيادة القول عليه. وقد اقتدى به بعض المتأخرين في هذه الإساءة فقال: [من البسيط] سواد صدغين من كفر يقابله … بياض خدّين من عدل وتوحيد وأبعد ما يكون الشاعر من التوفيق، إذا دعته شهوة الإغراب إلى أن يستعير للهزل والعبث من الجدّ، ويتغزل بهذا الجنس. ومما هو حسن جميل من هذا الباب، قول الصاحب كتب به إلى القاضي أبي الحسن: روي عن القاضي أنه قال: انصرفت عن دار الصاحب قبيل العيد، فجاءني رسوله بعطر الفطر، ومعه رقعة فيها هذان البيتان: [من الكامل] يا أيّها القاضي الذي نفسي له … مع قرب عهد لقائه مشتاقه أهديت عطرا مثل طيب ثنائه، … فكأنما أهدي له أخلاقه وكون هذا التشبيه مما نحن فيه من الترجيح (¬1) أوضح ما يكون، فليس بخاف أنّ العادة أن يشبّه الثّناء بالعطر ونحوه ويشتقّ منه، وقد عكس كما ترى، وذلك على ادّعاء أن ثناءه أحقّ بصفة العطر وطيبه من العطر وأخصّ به، وأنه قد صار أصلا حتى إذا قيس نوع من العطر عليه، فقد بولغ في صفته بالطيب، وجعل له في الشرف والفضل على جنسه أوفر نصيب. إذ قد عرفت الطريقة في جعل الفرع أصلا في «التمثيل» فارجع وقابل بينه وبين التشبيه الظاهر، تعلم أن حاله في الحقيقة مخالفة للحال ثمّ. وذلك أنك لا تحتاج في تشبيه البرق بالسيوف والسيوف بالبرق إلى تأويل أكثر من أنّ العين تؤدّي إليك من حيث الشكل واللون وكيفية اللمعان، صورة خاصّة تجدها في كل واحد من الشيئين على الحقيقة. ولا يمكننا أن نقول إن الثريا شبّهت باللجام المفضّض، وبعنقود الكرم المنوّر، وبالوشاح المفصّل، لتأويل كذا، بل ليس بأكثر من أنّ أنجم الثريا لونها لون الفضّة، ثم إن أجرامها في الصغر قريبة من تلك الأطراف المركّبة على سيور اللّجام، ثم إنها في الاجتماع والافتراق، على مقدار قريب من مواقع تلك الأطراف وكذا القول في: «العنقود»، فإن تلك الأنوار مشاكلة لها في البياض، وفي ¬

_ (¬1) أي: ترجيح جانب المجاز وجعله أصلا يشبه به وفي نسخة: التوضيح. (رشيد).

أنها ليست متضامّة تضامّ التلاصق، ولا هي شديدة التباين، حتى يبعد الفصل بين بعضها وبعض بل مقاديرها في القرب والبعد على صفة قريبة مما يتراءى في العين من مواقع تلك الأنجم. وإذا كان مدار الأمر على أن العين تصف من هذا ما تصف من ذاك، لم يكن تشبيه اللجام المفضّض بالثريا إلا كتشبيه الثريا به، والحكم على أحدهما بأنه فرع أو أصل، يتعلق بقصد المتكلم، فما بدأ به في الذكر فقد جعله فرعا وجعل الآخر أصلا. وليس كذلك قولنا: «له خلق كالمسك»، و «هو في دنوّه بعطائه، وبعده بعزّه وعلائه، كالبدر في ارتفاعه، مع نزول شعاعه»، لأن كون الخلق فرعا والمسك أصلا، أمر واجب من حيث كان المعلوم من طريق الإحساس والعيان متقدما على المعلوم من طريق الرويّة وهاجس الفكر. وحكم هذا في أنّ الفرع لا يخرج عن كونه فرعا على الحقيقة، حكم ما طريق التشبيه فيه المبالغة من المشاهدات والمحسوسات، كقولك: «هو كحنك الغراب في السواد»، لما هو دونه فيه، وقولك في الشيء من الفواكه مثلا: «هو كالعسل». فكما لا يصحّ أن يعكس فيشبّه حنك الغراب بما هو دونه في السواد، والعسل بما لا يساويه في صدق الحلاوة، كذلك لا يصحّ أن تقول: «هذا مسك كخلق فلان»، إلّا على ما قدّمت من التخييل. ألا ترى أنه كلام لا يقوله إلّا من يريد مدح المذكور؟ فأمّا أن يكون القصد بيان حال المسك، على حدّ قصدك أن تبيّن حال الشيء المشبّه بحنك الغراب في السواد والمشبّه بالعسل في الحلاوة، فما لا يكون. كيف؟ ولولا سبق المعرفة من طريق الحسّ بحال المسك، ثم جريان العرف بما جرى من تشبيه الأخلاق به، واستعارة الطّيب لها منه، لم يتصوّر هذا الذي تريد تخييله من أنّا نبالغ في وصف المسك بالطيب بتشبيهنا له بخلق الممدوح. وعلى ذلك قولهم: «كأنما سرق المسك عرفه من خلقك، والعسل حلاوته من لفظك»، هو مبنيّ على العرف السابق، من تشبيه الخلق بالمسك واللفظ بالعسل. ولو لم يتقدم ذلك ولم يتعارف ولم يستقرّ في العادات، لم يعقل لهذا النحو من الكلام معنى، لأنّ كل مبالغة ومجاز فلا بدّ من أن يكون له استناد إلى حقيقة. وإذا ثبتت هذه الفروق والمقابلات بين التشبيه الصريح الواقع في العيان وما

فصل في الفرق بين الاستعارة والتمثيل

يدركه الحسّ، وبين التمثيل الذي هو تشبيه من طريق العقل والمقاييس التي تجمع بين الشيئين في حكم تقتضيه الصّفة المحسوسة لا في نفس الصفة كما بيّنت لك في أول قول ابتدأته في الفرق بين التشبيه الصريح وبين التمثيل، من أنك تشبّه اللّفظ بالعسل على أنك تجمع بينهما في حكم توجبه الحلاوة دون الحلاوة نفسها. فهاهنا لطيفة أخرى تعطيك للتمثيل مثلا من طريق المشاهدة، وذلك أنك بالتمثيل في حكم من يرى صورة واحدة، إلّا أنه يراها تارة في المرآة، وتارة على ظاهر الأمر، وأما في التشبيه الصريح، فإنك ترى صورتين على الحقيقة. يبيّن ذلك: أنّا لو فرضنا أن تزول عن أوهامنا ونفوسنا صور الأجسام من القرب والبعد وغيرهما من الأوصاف الخاصة بالأشياء المحسوسة، لم يمكنّا تخيّل شيء من تلك الأوصاف في الأشياء المعقولة. فلا يتصوّر معنى كون الرجل بعيدا من حيث العزّة والسلطان، قريبا من حيث الجود والإحسان، حتى يخطر ببالك وتطمح بفكرك إلى صورة البدر وبعد جرمه عنك، وقرب نوره منك. وليس كذلك الحال في الشيئين يشبه أحدهما الآخر من جهة اللون والصورة والقدر، فإنك لا تفتقر في معرفة كون النّرجس وخرطه واستدارته وتوسّط أحمره لأبيضه إلى تشبيهه بمداهن درّ حشوهنّ عقيق، كيف؟ وهو شيء تعرضه عليك العين، وتضعه في قلبك المشاهدة، وإنما يزيدك التشبيه صورة ثانية مثل هذه التي معك، ويجتلبها لك من مكان بعيد حتى تراهما معا وتجدهما جميعا. وأما في الأول، فإنك لا تجد في الفرع نفس ما في الأصل من الصفة وجنسه وحقيقته، ولا يحضرك التمثيل أوصاف الأصل على التعيين والتحقيق، وإنما يخيّل إليك أنه يحضرك ذلك، فإنه يعطيك من الممدوح بدرا ثانيا، فصار وزان ذلك وزان أن المرآة تخيّل إليك أنّ فيها شخصا ثانيا صورته صورة ما هي مقابلة له، ومتى ارتفعت المقابلة، ذهب عنك ما كنت تتخيّله، فلا تجد إلى وجوده سبيلا، ولا تستطيع له تحصيلا، لا جملة ولا تفصيلا. فصل في الفرق بين الاستعارة والتمثيل اعلم أن من المقاصد التي تقع العناية بها أن نبيّن حال «الاستعارة» مع «التمثيل»، أهي هو على الإطلاق حتى لا فرق بين العبارتين، أم حدّها غير حدّه إلا أنها تتضمّنه وتتّصل به؟ فيجب أن نفرد جملة من القول في حالها مع التّمثيل.

قد مضى في «الاستعارة» أن حدّها يكون للّفظ اللّغوي أصل، ثم ينقل عن ذلك الأصل على الشرط المتقدم. وهذا الحدّ لا يجيء في الذي تقدّم في معنى التمثيل، من أنه الأصل في كونه مثلا وتمثيلا، وهو التشبيه المنتزع من مجموع أمور، والذي لا يحصّله لك إلا جملة من الكلام أو أكثر، لأنك قد تجد الألفاظ في الجمل التي يعقد منها جارية على أصولها وحقائقها في اللغة. وإذا كان الأمر كذلك، بان أنّ «الاستعارة» يجب أن تقيد حكما زائدا على المراد بالتمثيل، إذ لو كان مرادنا بالاستعارة هو المراد بالتمثيل، لوجب أن يصحّ إطلاقها في كل شيء يقال فيه إنه تمثيل ومثل. والقول فيها أنّها دلالة على حكم يثبت للّفظ، وهو نقله عن الأصل اللغويّ وإجراؤه على ما لم يوضع له. ثم إن هذا النقل يكون في الغالب من أجل شبه بين ما نقل إليه وما نقل عنه. وبيان ذلك ما مضى من أنك تقول: «رأيت أسدا»، تريد رجلا شبيها به في الشجاعة و «ظبية» تريد امرأة شبيهة بالظبية. فالتشبيه ليس هو «الاستعارة» ولكن الاستعارة كانت من أجل التشبيه، وهو كالغرض فيها، وكالعلّة والسبب في فعلها. فإن قلت: كيف تكون الاستعارة من أجل التشبيه، والتشبيه يكون ولا استعارة؟ وذلك إذا جئت بحرفه الظاهر فقلت: «زيد الأسد؟». فالجواب: أن الأمر كما قلت، ولكنّ التشبيه يحصل بالاستعارة على وجه خاصّ وهو المبالغة. فقولي: «من أجل التشبيه»، أردت به من أجل التشبيه على هذا الشرط، وكما أن التشبيه الكائن على وجه المبالغة غرض فيه وعلّة، كذلك الاختصار والإيجاز غرض من أغراضها. ألا ترى أنك تفيد بالاسم الواحد الموصوف والصفة والتشبيه والمبالغة، لأنك تفيد بقولك: «رأيت أسدا»، أنك رأيت شجاعا شبيها بالأسد، وأنّ شبهه به في الشجاعة على أتمّ ما يكون وأبلغه، حتى إنه لا ينقص عن الأسد فيها. وإذا ثبت ذلك، فكما لا يصحّ أن يقال: «إن الاستعارة هي الاختصار والإيجاز على الحقيقة، وأنّ حقيقتها وحقيقتهما واحدة»، ولكن يقال: إن الاختصار والإيجاز يحصلان بها، أو هما غرضان فيها، ومن جملة ما دعا إلى فعلها، كذلك حكم التشبيه معها. فإذا ثبت أنها ليست التشبيه على الحقيقة، كذلك لا يكون التمثيل على الحقيقة، لأن التمثيل تشبيه إلا أنه تشبيه خاصّ، فكلّ تمثيل تشبيه، وليس كلّ تشبيه تمثيلا.

وإذا قد تقرّرت هذه الجملة، فإذا كان الشبه بين المستعار منه والمستعار له من المحسوس والغرائز والطّباع وما يجري مجراها من الأوصاف المعروفة، كان حقّها أن يقال إنها تتضمّن التشبيه، ولا يقال إنّ فيها تمثيلا وضرب مثل. وإذا كان الشّبه عقليا جاز إطلاق التمثيل فيها، وأن يقال: ضرب الاسم مثلا لكذا، كقولنا: «ضرب النور مثلا للقرآن»، و «الحياة مثلا للعلم». فقد حصلنا من هذه الجملة على أن المستعير يعمد إلى نقل اللفظ عن أصله في اللغة إلى غيره، ويجوز به مكانه الأصليّ إلى مكان آخر، لأجل الأغراض التي ذكرنا من التشبيه والمبالغة والاختصار، والضّارب للمثل لا يفعل ذلك ولا يقصده، ولكنه يقصد إلى تقرير الشّبه بين الشيئين من الوجه الذي مضى. ثم إن وقع في أثناء ما يعقد به المثل من الجملة والجملتين والثلاث لفظة منقولة عن أصلها في اللغة، فذاك شيء لم يعتمده من جهة المثل الذي هو ضاربه. وهكذا كان متعاط لتشبيه صريح، لا يكون نقل اللفظ من شأنه ولا من مقتضى غرضه. فإذا قلت: «زيد كالأسد»، و «هذا الخبر كالشمس في الشهرة»، و «له رأي كالسّيف في المضاء»، لم يكن منك نقل للفظ عن موضوعه. ولو كان الأمر على خلاف ذلك، لوجب أن لا يكون في الدنيا تشبيه إلا وهو مجاز، وهذا محال، لأن التشبيه معنى من المعاني وله حروف وأسماء تدلّ عليه، فإذا صرّح بذلك ما هو موضوع للدلالة عليه، كان الكلام حقيقة كالحكم في سائر المعاني، فاعرفه. واعلم أن اللفظة المستعارة لا تخلو من أن تكون اسما أو فعلا، فإذا كانت اسما كان اسم جنس أو صفة. فإذا كان اسم جنس فإنك تراه في أكثر الأحوال التي تنقل فيها محتملا متكفّئا بين أن يكون للأصل، وبين أن يكون للفرع الذي من شأنه أن ينقل إليه. فإذا قلت: «رأيت أسدا»، صلح هذا الكلام لأن تريد به أنك رأيت واحدا من جنس السّبع المعلوم، وجاز أن تريد أنك رأيت شجاعا باسلا شديد الجرأة، وإنما يفصل لك أحد الغرضين من الآخر شاهد الحال، وما يتّصل به من الكلام من قبل وبعد. وإن كان فعلا أو صفة، كان فيهما هذا الاحتمال في بعض الأحوال، وذلك إذا أسندت الفعل وأجريت الصفة على اسم مبهم يقع على ما يكون أصلا في تلك الصفة وذاك الفعل، وما يكون فرعا فيهما، نحو أن تقول: «أنار لي شيء» و «هذا شيء منير». فهذا الكلام يحتمل أن يكون «أنار» و «منير» فيه واقعين على الحقيقة، بأن تعني بالشيء بعض الأجسام ذوات النور وأن يكونا واقعين على المجاز، بأن تريد

بالشيء نوعا من العلم والرأي وما أشبه ذلك من المعاني التي لا يصحّ وجود النور فيها حقيقة، وإنما توصف به على سبيل التشبيه. وفي الفعل والصفة شيء آخر، وهو أنك كأنك تدّعي معنى اللّفظ المستعار للمستعار له، فإذا قلت: «قد أنارت حجّته»، و «هذه حجّة منيرة»، فقد ادّعيت للحجّة النور، ولذلك تجيء فتضيفه إليك، كما تضاف المعاني التي يشتقّ منها الفعل والصفة إلى الفاعل والموصوف فتقول: «نور هذه الحجّة جلا بصري، وشرح صدري»، كما تقول: «ظهر نور الشمس». والمثل لا يوجب شيئا من هذه الأحكام، فلا هو يقتضي تردّد اللفظ بين احتمال شيئين ولا أن يدّعى معناه للشيء، ولكنه يدع اللفظ مستقرّا على أصله. وإذ قد ثبت هذا الأصل، فاعلم أن هاهنا أصلا آخر يبنى عليه، وهو أن الاستعارة وإن كانت تعتمد التشبيه والتمثيل وكان التشبيه يقتضي شيئين مشبّها ومشبّها به، وكذلك التمثيل، لأنه كما عرفت تشبيه إلا أنه عقليّ فإن الاستعارة من شأنها أن تسقط ذكر المشبّه من البين وتطرحه، وتدّعي له الاسم الموضوع للمشبّه به، كما مضى من قولك: «رأيت أسدا»، تريد رجلا شجاعا و «وردت بحرا زاخرا»، تريد رجلا كثير الجود فائض الكفّ و «أبديت نورا»، تريد علما وما شاكل ذلك. فاسم الّذي هو المشبّه غير مذكور بوجه من الوجوه كما ترى، وقد نقلت الحديث إلى اسم المشبّه به، لقصدك أن تبالغ، فتضع اللّفظ بحيث يخيّل أنّ معك نفس الأسد والبحر والنور، كي تقوّي أمر المشابهة وتشدّده، ويكون لها هذا الصنيع حيث يقع الاسم المستعار فاعلا أو مفعولا أو مجرورا بحرف الجرّ أو مضافا إليه، فالفاعل كقولك: «بدا لي أسد» و «انبرى لي ليث» و «بدا نور» و «ظهرت شمس ساطعة» و «فاض لي بالمواهب بحر»، كقوله (¬1): [من الطويل] وفي الجيرة الغادين من بطن وجرة … غزال كحيل المقلتين ربيب والمفعول كما ذكرت من قولك: «رأيت أسدا»، والمجرور نحو قولك: «لا ¬

_ (¬1) البيت لابن الدمينة في سمط اللآلي لابن عبيد البكري ص 458، وفي الأمالي 1/ 187 لأعرابي، وفي شرح الحماسة 3/ 157 غير معزو، وهو في ديوان ابن الدمينة في القسم الرابع «صلة الديوان: الزيادات» ص 200 تحقيق أحمد راتب النفاخ. وجرة: موضع بين مكة والبصرة، ربيب: من الغنم التي تكون في البيت وليست بسائمة ومؤنثها ربيبة وجمعها: ربائب.

عار إن فرّ من أسد يزأر»، والمضاف إليه كقوله (¬1): [من الطويل] يا ابن الكواكب من أئمّة هاشم … والرجّح الأحساب والأحلام وإذا جاوزت هذه الأحوال، كان اسم المشبّه مذكورا وكان مبتدأ، واسم المشبّه به واقعا في موضع الخبر، كقولك: «زيد أسد»، أو على هذا الحد، وهل يستحقّ الاسم في هذه الحالة أن يوصف بالاستعارة أم لا:؟ فيه شبهة وكلام سيأتيك إن شاء الله تعالى. وإذ قد عرفت هذه الجملة، فينبغي أن تعلم أنه ليس كل شيء يجيء مشبّها به بكاف أو بإضافة «مثل» إليه، يجوز أن تسلّط عليه الاستعارة، وتنفذ حكمها فيه، حتى تنقله عن صاحبه وتدّعيه للمشبّه على حد قولك: «أبديت نورا» تريد علما، و «سللت سيفا صارما»، تريد رأيا نافذا وإنما يجوز ذلك إذا كان الشّبه بين الشيئين مما يقرب مأخذه ويسهل متناوله، ويكون في الحال دليل عليه، وفي العرف شاهد له، حتى يمكن المخاطب إذا أطلقت له الاسم أن يعرف الغرض ويعلم ما أردت. فكل شيء كان من الضّرب الأول الذي ذكرت أنك تكتفي فيه بإطلاق الاسم داخلا عليه حرف التشبيه نحو قولهم: «هو كالأسد»، فإنك إذا أدخلت عليه حكم الاستعارة وجدت في دليل الحال، وفي العرف ما يبيّن غرضك، إذ يعلم إذا قلت: «رأيت أسدا»، وأنت تريد الممدوح، أنّك قصدت وصفه بالشجاعة وإذا قلت: «طلعت شمس»، أنت تريد امرأة، علم أنك تريد وصفها بالحسن، وإن أردت الممدوح علم أنك تقصد وصفه بالنّباهة والشرف. فأما إذا كان من الضرب الثاني الذي لا سبيل إلى معرفة المقصود من الشبه فيه إلا بعد ذكر الجمل التي يعقد بها التمثيل، فإن الاستعارة لا تدخله، لأن وجه الشبه إذا كان غامضا لم يجز أن تقتسر الاسم وتغصب عليه موضعه، وتنقله إلى غير ما هو أهله من غير أن يكون معك شاهد ينبئ عن الشبه. فلو حاولت في قوله: فإنّك كالليل الّذي هو مدركي ¬

_ (¬1) البيت الثاني لأبي تمام في ديوانه في القسم الثاني ص 262. وأول القصيدة: ما للدموع تروم كلّ مرام … والجفن ثاكل وهجعة ومنام والثاكل: الفاقد والقصيدة قالها أبو تمام تهنئة للواثق بالخلافة، ويعزيه بالمعتصم أبيه. الحلم: بالكسر الأناة والعقل، والجمع: أحلام وحلوم. والحلم: بالضم والسكون: ما يراه النائم (الرؤيا) والجمع: أحلام.

أن تعامل الليل معاملة الأسد في قولك: «رأيت أسدا»، أعني أن تسقط ذكر الممدوح من البين، لم تجد له مذهبا في الكلام، ولا صادفت طريقة توصّلك إليه، لأنك لا تخلو من أحد أمرين: إمّا أن تحذف الصفة وتقتصر على ذكر الليل مجرّدا فتقول: «إن فررت أظلّني اللّيل»، وهذا محال، لأنه ليس في الليل دليل على النكتة التي قصدها من أنه لا يفوته وإن أبعد في الهرب، وصار إلى أقصى الأرض، لسعة ملكه وطول يده، وأنّ له في جميع الآفاق عاملا وصاحب جيش ومطيعا لأوامره يردّ الهارب عليه ويسوقه إليه وغاية ما يتأتّى في ذلك أن يريد أنه إن هرب عنه أظلمت عليه الدنيا، وتحيّر ولم يهتد، فصار كمن يحصل في ظلمة الليل. وهذا شيء خارج عن الغرض، وكلامنا على أن تستعير الاسم ليؤدّى به التشبيه الذي قصد في البيت ولم أرد أنه لا تمكن استعارته على معنى ما، ولا يصلح في غرض من الأغراض. وإن لم تحذف الصفة، وجدت طريق الاستعارة فيه يؤدّي إلى تعسّف، إذ لو قلت: «إن فررت منك وجدت ليلا يدركني، وإن ظننت أنّ المنتأى واسع والمهرب بعيد» قلت ما لا تقبله الطّباع، وسلكت طريقة مجهولة، لأن العرف لم يجر بأن يجعل الممدوح ليلا هكذا. فأمّا قولهم: إن التشبيه بالليل يتضمّن الدّلالة على سخطه، فإنه لا يفسح في أن يجرى اسم الليل على الممدوح جري الأسد والشمس ونحوهما، وإنما تصلح استعارة الليل لمن يقصد وصفه بالسّواد والظلمة، كما قال ابن طباطبا: [من الطويل] بعثت معي قطعا من الليل مظلما (¬1) يعني زنجيّا قد أنفذه المخاطب معه حين انصرف عنه إلى منزله. هذا، وربّما- بل كلما- وجدت ما إن رمت فيه طريقة الاستعارة، لم تجد فيه هذا القدر من التمحّل والتكلّف أيضا، وو هو كقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة» (¬2)، قل الآن من أيّ جهة تصل إلى الاستعارة هاهنا، وبأيّ ذريعة تتذرّع إليها؟ هل تقدر أن تقول: «رأيت إبلا مائة لا تجد فيها راحلة» في معنى: «رأيت ناسا» أو «الإبل المائة التي لا تجد فيها راحلة»، تريد الناس، كما قلت: «رأيت أسدا» على معنى «رجلا كالأسد» أو «الأسد»، على معنى: «الذي هو كالأسد؟» وكذا قول ¬

_ (¬1) البيت له ولم نجد له ديوانا. ولم نتعرف على تمام البيت. (¬2) سبق تخريجه.

النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المؤمن كمثل النّخلة أو مثل الخامة» (¬1)، لا تستطيع أن تتعاطى الاستعارة في شيء منه فتقول: «رأيت نخلة» أو «خامة» على معنى «رأيت مؤمنا». إنّ من رام مثل هذا كان كما قال صاحب الكتاب: «ملغزا تاركا لكلام الناس الذي يسبق إلى أفئدتهم»، وقد قدّمت طرفا من هذا الفصل فيما مضى، ولكنني أعدته هاهنا لاتصاله بما أريد ذكره. فقد ظهر أنه ليس كل شيء يجيء فيه التشبيه الصريح بذكر الكاف ونحوها، يستقيم نقل الكلام فيه إلى طريقة الاستعارة، وإسقاط ذكر المشبّه جملة، والاقتصار على المشبّه به. وبقي أن نتعرّف الحكم في الحالة الأخرى، وهي التي يكون كل واحد من المشبّه والمشبّه به مذكورا فيه، نحو: «زيد أسد» و «وجدته أسدا»، هل تساوق صريح التشبيه حتى يجوز في كل شيئين قصد تشبيه أحدهما بالآخر أن تحذف الكاف ونحوها من الثاني، وتجعله خبرا عن الأول أو بمنزلة الخبر؟ والقول في ذلك أن التشبيه إذا كان صريحا بالكاف، و «مثل»، كان الأعرف الأشهر في المشبّه به أن يكون معرفة، كقولك: «هو كالأسد» و «هو كالشمس» و «هو كالبحر» و «كليث العرين» و «كالصبح» و «كالنجم» وما شاكل ذلك، ولا يكاد يجيء نكرة مجيئا يرتضى نحو: «هو كأسد» و «كبحر» و «كغيث»، إلا أن يخصّص بصفة نحو «كبحر زاخر»، فإذا جعلت الاسم المجرور بالكاف معربا بالإعراب الذي يستحقّه الخبر من الرفع أو النصب، كان كلا الأمرين- التعريف والتنكير- فيه حسنا جميلا، تقول: «زيد الأسد» و «الشمس» و «البدر» و «البحر» و «زيد أسد» و «شمس» و «بدر» و «بحر». وإذ قد عرفت هذا، فارجع إلى نحو: فإنك كالليل الذي هو مدركي (¬2) ¬

_ (¬1) انظر صحيح الجامع للألباني. والخامة: الغضة الرطبة من النبات، والحديث: «مثل المؤمن مثل الخامة من الزرع تميلها الريح مرة هكذا ومرة هكذا» قال الطرماح: إنما نحن مثل خامة زرع … فمتى يأن يأت محتصده (¬2) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص 56، وفي لسان العرب 4/ 507، وكتاب العين 8/ 393. وعجز البيت: وإن خلت أن المنتأى عنك واسع خلت: حسبت، المنتأى: البعد. والبيت من قصيدة يمدح النعمان فيها، ويعتذر إليه، ومطلعها: عفا ذو حسا من فزتنى فالفوارع … فجنبا أريك، فالتلاع الدوافع عفا: إمحاء الأثر، ذو حسا: اسم مكان في بلاد مرة، فزتنى: اسم امرأة الفوارع: الواحد فرع، وهو فرع الجبل وأعلاه. التلاع: الواحدة تلعة، ما ارتفع من الأرض. الدوافع: تجمع المياه ودفعها إلى الوادي المنحدر.

واعلم أنه قد يجوز فيه أن تحذف الكاف وتجعل المجرور كان به، خبرا، فتقول: «فإنك الليل الذي هو مدركي»، أو «أنت الليل الذي هو مدركي»، وتقول في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المؤمن مثل الخامة من الزرع»، «المؤمن الخامة من الزرع»، وفي قوله عليه السلام: «الناس كإبل مائة»: «الناس إبل مائة»، ويكون تقديره على أنك قدّرت مضافا محذوفا على حدّ: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82]. تجعل الأصل: «فإنك مثل الليل» ثم تحذف «مثلا». والنكتة في الفرق بين هذا الضرب الذي لا بدّ للمجرور بالكاف ونحوها من وصفه بجملة من الكلام أو نحوها، وبين الضرب الأول الذي هو نحو «زيد كالأسد» أنك إذا حذفت الكاف هناك فقلت: «زيد الأسد»، فالقصد أن تبالغ في التشبيه فتجعل المذكور كأنه الأسد، وتشير إلى مثل ما يحصل لك من المعنى إذا حذفت ذكر المشبّه أصلا فقلت: «رأيت أسدا»، أو «الأسد»، فأمّا في نحو: «فإنك كالليل الذي هو مدركي»، فلا يجوز أن تقصد جعل الممدوح الليل، ولكنك تنوي أنك أردت أن تقول: «فإنك مثل الليل»، ثم حذفت المضاف من اللفظ، وأبقيت المعنى على حاله إذا لم تحذف. وأمّا هناك، فإنه وإن كان يقال أيضا إن الأصل «زيد مثل أسد» ثم تحذف فليس الحذف فيه على هذا الحدّ، بل على أنه جعل كأن لم يكن لقصد المبالغة. ألا تراهم يقولون: «جعله الأسد»؟ وبعيد أن تقول: «جعله الليل»، لأن القصد لم يقع إلى وصف في الليل كالظلمة ونحوها، وإنّما قصد الحكم الذي له، من تعميمه الآفاق، وامتناع أن يصير الإنسان إلى مكان لا يدركه الليل فيه. وإن أردت أن تزداد علما بأن الأمر كذلك أعني أن هاهنا ما يصلح فيه التشبيه الظاهر ولا تصلح فيه المبالغة وجعل الأول الثاني فاعمد إلى ما تجد الاسم الذي افتتح به المثل فيه غير محتمل لضرب من التشبيه إذا أفرد وقطع عن الكلام بعده، كقوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ [يونس: 34]، لو قلت: «إنما الحياة الدنيا ماء أنزلناه من السماء» أو «الماء ينزل من السماء فتخضرّ منه الأرض»، لم يكن للكلام وجه غير أن تقدّر حذف مثل نحو: «إنما الحياة الدنيا مثل ماء ينزل من السماء فيكون كيت وكيت»، إذ لا يتصوّر بين الحياة الدنيا والماء شبه يصحّ قصده وقد أفرد، كما قد يتخيّل في البيت أنه قصد تشبيه الممدوح بالليل في السّخط. وهذا موضع في الجملة مشكل، ولا يمكن القطع فيه بحكم على التفصيل،

ولكن لا سبيل إلى جحد أنك تجد الاسم في الكثير وقد وضع موضعا في التشبيه بالكاف، لو حاولت أن تخرجه في ذلك الموضع بعينه إلى حدّ الاستعارة والمبالغة، وجعل هذا ذاك، لم ينقد لك، كالنكرة التي هي «ماء» في الآية وفي الآية وفي الآي الأخر نحو قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [البقرة: 19]، ولو قلت: «هم صيّب»، ولا تضمر «مثلا» البتّة، على حدّ «هو أسد» لم يجز، لأنه لا معنى لجعلهم صيّبا في هذا الموضع، وإن كان لا يمتنع أن يقع «صيّب» في موضع آخر ليس من هذا الغرض في شيء استعارة ومبالغة، كقولك: «فاض صيّب منه»، تريد جوده، و «هو صيّب يفيض»، تريد مندفق في الجود. فلسنا نقول إن هاهنا اسم جنس واسما صفة لا يصلح للاستعارة في حال من الأحوال. وهذا شعب من القول يحتاج إلى كلام أكثر من هذا ويدخل فيه مسائل، ولكن استقصاءه يقطع عن الغرض. فإن قلت: فلا بدّ من أصل يرجع إليه في الفرق بين ما يحسن أن يصرف وجهه إلى الاستعارة والمبالغة، وما لا يحسن ذلك فيه، ولا يجيبك المعنى إليه، بل يصدّ بوجهه عنك متى أردته عليه. فالجواب: إنه لا يمكن أن يقال فيه قول قاطع. ولكن هاهنا نكتة يجب الاعتماد عليها والنظر إليها، وهي أن الشّبه إذا كان وصفا معروفا في الشيء قد جرى العرف بأن يشبّه من أجله به، وتعورف كونه أصلا فيه يقاس عليه كالنور والحسن في الشمس، أو الاشتهار والظهور، وأنّها لا تخفى فيها أيضا وكالطيب في المسك، والحلاوة في العسل، والمرارة في الصاب، والشجاعة في الأسد، والفيض في البحر والغيث، والمضاء والقطع والحدّة في السيف، والنفاذ في السّنان، وسرعة المرور في السّهم، وسرعة الحركة في شعلة النار، وما شاكل ذلك من الأوصاف التي لكل وصف منها جنس هو أصل فيه، ومقدّم في معانيه فاستعارة الاسم للشيء على معنى ذلك الشّبه تجيء سهلة منقادة، وتقع مألوفة معتادة. وذلك أنّ هذه الأوصاف من هذه الأسماء قد تعورف كونها أصولا فيها، وأنها أخصّ ما توجد فيه بها، فكل أحد يعلم أن أخصّ المنيرات بالنور الشمس، فإذا أطلقت ودلّت الحال على التشبيه، لم يخف المراد. ولو أنك أردت من الشمس الاستدارة، لم يجز أن تدلّ عليه بالاستعارة، ولكن إن أردتها من الفلك جاز، فإن قصدتها من الكرة كان أبين، لأن الاستدارة من الكرة أشهر وصف فيها. ومتى صلحت الاستعارة في شيء، فالمبالغة فيه أصلح، وطريقها أوضح، ولسان الحال فيها أفصح، أعني أنك إذا قلت:

يا ابن الكواكب من أئمّة هاشم و: يا ابن الليوث الغرّ فأجريت الاسم على المشبّه إجراءه على أصله الذي وضع له وادّعيته له، كان قولك: «هم الكواكب» و «هم الليوث» أو «هم كواكب وليوث»، أحرى أن تقوله، وأخفّ مئونة على السامع في وقوع العلم له به. واعلم أن المعنى في المبالغة وتفسيرنا لها بقولنا: «جعل هذا ذاك»، و «جعله الأسد» و «ادّعى أنه الأسد حقيقة، أنّ المشبّه الشيء بالشيء من شأنه أن ينظر إلى الوصف الذي به يجمع بين الشيئين، وينفي عن نفسه الفكر فيما سواه جملة، فإذا شبّه بالأسد، ألقى صورة الشجاعة بين عينيه، ألقى ما عداها فلم ينظر إليه. فإن هو قال: «زيد كالأسد»، كان قد أثبت له حظّا ظاهرا في الشجاعة، ولم يخرج عن الاقتصاد. وإذا قال: «هو الأسد»، تناهى في الدعوى، إمّا قريبا من المحقّ لفرط بسالة الرجل، وإما متجوّزا في القول، فجعله بحيث لا تنقص شجاعته عن شجاعة الأسد ولا يعدم منها شيئا. وإذا كان بحكم التشبيه، وبأنه مقصوده من ذكر الأسد في حكم من يعتقد أنّ الاسم لم يوضع على ذلك السّبع إلا للشجاعة التي فيه، وأنّ ما عداها من صورته وسائر صفاته عيال عليها وتبع لها في استحقاقه هذا الاسم، ثم أثبت لهذا الذي يشبّهه به تلك الشجاعة بعينها حتى لا اختلاف ولا تفاوت، فقد جعله الأسد لا محالة، لأن قولنا: «هو هو» على معنيين: أحدهما: أن يكون للشيء اسمان يعرفه المخاطب بأحدهما دون الآخر، فإذا ذكر باسمه الآخر توهّم أن معك شيئين، فإذا قلت: «زيد هو أبو عبد الله»، عرّفته أن هذا الذي تذكر الآن بزيد هو الذي عرفه بأبي عبد الله. والثاني: أن يراد تحقق التشابه بين الشيئين، وتكميله لهما، ونفي الاختلاف والتفاوت عنهما، فيقال: «هو هو»، أي: لا يمكن الفرق بينهما، لأن الفرق يقع إذا اختصّ أحدهما بصفة لا تكون في الآخر. هذا المعنى الثاني فرع على الأوّل، وذلك أن المتشابهين التشابه التامّ، لمّا كان يحسب أحدهما الآخر، ويتوهم الرائي لهما في حالين أنه رأى شيئا واحدا، صاروا إذا حققوا التشابه بين الشيئين يقولون: «هو هو». والمشبّه إذا وقف وهمه كما عرّفتك على الشجاعة دون سائر الأمور، ثم لم يثبت بين شجاعة صاحبه وشجاعة الأسد فرقا، فقد صار إلى معنى قولنا: «هو هو» بلا شبهة.

وإذا تقررت هذه الجملة فقوله: فإنك كالليل الذي هو مدركي (¬1) إن حاولت فيه طريقة المبالغة فقلت: «فإنك الليل الذي هو مدركي»، لزمك لا محالة أن تعمد إلى صفة من أجلها تجعله الليل، كالشجاعة التي من أجلها جعلت الرجل الأسد. فإن قلت: تلك الصفة الظّلمة، وإنّه قصد شدّة سخطه، وراعى حال المسخوط عليه، وتوهّم أن الدنيا تظلم في عينيه حسب الحال في المستوحش الشديد الوحشة، كما قال: [من الطويل] أعيدوا صباحي فهو عند الكواعب قيل لك: هذا التقدير، إن استجزناه وعملنا عليه، فإنا نحتمله، والكلام على ظاهره، وحرف التشبيه مذكور داخل على الليل كما تراه في البيت. فأمّا وأنت تريد المبالغة، فلا يجيء لك ذلك، لأن الصفات المذكورة لا يواجه بها الممدوحون، ولا تستعار الأسماء الدالّة عليها لهم إلا بعد أن يتدارك وتقرن إليها أضدادها من الأوصاف المحبوبة، كقوله: [من البسيط] أنت الصّاب والعسل ولا تقول وأنت مادح: «أنت الصاب» وتسكت، وحتى إن الحاذق لا يرضى بهذا الاحتراز وحده حتى يزيد ويحتال في دفع ما يغشى النفس من الكراهة بإطلاق الصفة التي ليست من الصفات المحبوبة، فيصل بالكلام ما يخرج به إلى نوع من المدح، كقول المتنبي: [من الخفيف] حسن، في وجوه أعدائه أق … بح من ضيفه، رأته السّوام (¬2) بدأ فجعله حسنا على الإطلاق، ثم أراد أن يجعله قبيحا في عيون أعدائه، على ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) البيت في ديوانه ص 1/ 209. وفي التبيان 2/ 376. يقول: هو في عيون أعدائه أقبح من ضيفه في عيون مواشيه التي تكره الضيف لعلمها أنها ستنحر له. في عيون أعدائه: ظرف لأقبح لا لحسن قدومه عليه كقولك زيد في الدار أحسن منك فكأنه قال هو حسن وسكت.

العادة في مدح الرجل بأن عدوّه يكرهه، فلم يقنعه ما سبق من تمهيده وتقدّم من احترازه في تلاقي ما يجنيه إطلاق صفة القبح، حتى وصل به هذه الزيادة من المدح، وهي كراهة سوامه لرؤية أضيافه، وحتى حصل ذكر القبح مغمورا بين حسنين، فصار كما يقول المنجّمون: «يقع النّحس مضغوطا بين سعدين، فيبطل فعله وينمحق أثره». وقد عرفت ما جناه التهاون بهذا النحو من الاحتراز على أبي تمّام، حتى صار ما ينعى عليه منه أبلغ شيء في بسط لسان القادح فيه والمنكر لفضله، وأحضر حجّة للمتعصّب عليه. وذلك أنه لم يبال في كثير من مخاطبات الممدوح بتحسين ظاهر اللفظ، واقتصر على صميم التشبيه، وأطلق اسم الجنس الخسيس كإطلاق الشريف النّبيه، كقوله: [من الخفيف] وإذا ما أردت كنت رشاء … وإذا ما أردت كنت قليبا (¬1) فصكّ وجه الممدوح كما ترى بأنه رشاء وقليب، ولم يحتشم أن قال: [من الكامل] ما زال يهذي بالمكارم والعلى … حتى ظننّا أنّه محموم (¬2) فجعله يهذي وجعل عليه الحمّى، وظنّ أنه إذا حصل له المبالغة في إثبات المكارم له، وجعلها مستبدّة بأفكاره وخواطره، حتى لا يصدر عنه غيرها، فلا ضير أن يتلقّاه بمثل هذا الخطاب الجافي، والمدح المتنافي. ¬

_ (¬1) البيت هو لأبي تمام في ديوانه ص 35، والرشاء: حبل الدلو، القليب: البئر. والبيت في الديوان وقاله يمدح أبا سعيد محمد بن يوسف الثغريّ في قصيدة مطلعها: من سجايا الطلول أن لا تجيبا … فصواب من مقلتي أن تصوبا والبيت بعده: باسطا بالندى سحائب كفّ … بنداها أمسى حبيب حبيبا (¬2) البيت في ديوان أبي تمام ص 283. محموم: مصاب بالحمى، وهذا البيت من قصيدة له يمدح أبا الحسين بن محمد بن الهيثم بن شبانة مطلعها: أسقى طلولهم أجشّ هزيم … وغدت عليهم نضرة ونعيم والبيت اذي قبله: متفجر نادمته فكأنني … للنجم أو للمرزمين نديم غيث خوى كرم الطبائع دهره … والغيث يكرم مرة ويلوم وبعده: للجود سهم في المكارم والتقى … ما ربّه المكدي ولا المسهوم وبيان ذلك أن أول من حبا … وقرى خليل الله إبراهيم

فكذلك أنت، هذه قصّتك، وهذه قضيّتك، في اقتراحك علينا أن نسلك بالليل في البيت طريق المبالغة على تأويل السّخط. فإن قلت: أفترى أن تأبى هذا التقدير في البيت أيضا حتى يقصر التشبيه على ما تفيده الجملة الجارية في صلة «الذي؟». قلت: إنّ ذلك الوجه فيما أظنّه، فقد جاء في الخبر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليدخلنّ هذا الدين ما دخل عليه الليل»، فكما تجرّد المعنى هاهنا للحكم الذي هو لليل من الوصول إلى كل مكان، ولم يكن لاعتبار ما اعتبروه من شبه ظلمته وجه، كذلك يجوز أن يتجرّد في البيت له، ويكون ما ادّعوه من الإشارة بظلمة الليل إلى إدراكه له ساخطا، ضربا من التعمّق والتطلّب لما لعلّ الشاعر لم يقصده. وأحسن ما يمكن أن ينتصر به لهذا التقدير أن يقال: إن النهار بمنزلة الليل في وصوله إلى كل مكان، فما من موضع من الأرض إلا ويدركه كلّ واحد منهما، فكما أن الكائن في النهار لا يمكنه أن يصير إلى مكان لا يكون به ليل، كذلك الكائن في الليل لا يجد موضعا لا يلحقه فيه نهار، فاختصاصه الليل دليل على أنه قد روّى في نفسه، فلما علم أن حالة إدراكه وقد هرب منه حالة سخط، رأى التمثيل بالليل أولى، ويمكن أن يزاد في نصرته بقوله: [من الرمل] نعمة كالشّمس لمّا طلعت … بثّت الإشراق في كلّ بلد (¬1) وذاك أنه قصد هاهنا نفس ما قصده النابغة في تعميم الأقطار، والوصول إلى كل مكان، إلّا أن النعمة لما كانت تسرّ وتؤنس، أخذ المثل لها من الشمس. ولو أنه ضرب المثل لوصول النعمة إلى أقاصي البلاد، وانتشارها في العباد، بالليل ووصوله إلى كل بلد، وبلوغه كلّ أحد، لكان قد أخطأ خطأ فاحشا، إلّا أن هذا وإن كان يجيء مستويا في الموازنة، ففرق بين ما يكره من الشّبه وما يحبّ، لأن الصفة المحبوبة إذا اتصلت بالغرض من التشبيه، نالت من العناية بها والمحافظة عليها قريبا مما يناله الغرض نفسه. وأمّا ما ليس بمحبوب، فيحسن أن يعرض عنها صفحا، ويدع الفكر فيها. وأما تركه أن يمثّل بالنهار، وإن كان بمنزلة الليل فيما أراه، فيمكن أن يجاب عنه بأنّ هذا الخطاب من النابغة كان بالنهار لا محالة، وإذا كان يكلّمه وهو في ¬

_ (¬1) هو في زيادات ديوان العباس بن الأحنف، وهو في الوساطة ص 201، منسوبا إليه، وفي المخطوطة ومطبوعة ديتر: «ثبت الإشراق» وفي مطبوعة رشيد رضا والوساطة ما أثبت (شاكر).

النهار، بعد أن يضرب المثل بإدراك النهار له، وكان الظاهر أن يمثّل بإدراك الليل الذي إقباله منتظر، وطريانه على النهار متوقّع، فكأنّه قال وهو في صدر النهار أو آخره: «لو سرت عنك لم أجد مكانا يقيني الطلب منك، ولكان إدراكك لي وإن بعدت واجبا، كإدراك هذا الليل المقبل في عقب نهاري هذا إيّاي، ووصوله إلى أيّ موضع بلغت من الأرض». وهاهنا شيء آخر: وهو أنّ تشبيه «النعمة» في البيت بالشمس، وإن كان من حيث الغرض الخاصّ، وهو الدّلالة على العموم، فكان الشّبه الآخر من كونها مؤنسة للقلوب، وملبسة العالم البهجة والبهاء كما تفعل الشمس، حاصلا على سبيل العرض، وبضرب من التطفّل. فإنّ تجريد التشبيه لهذا الوجه الذي هو الآن تابع، وجعله أصلا ومقصودا على الانفراد، مألوف معروف كقولنا: «نعمتك شمس طالعة»، وليس كذلك الحكم في «الليل»، لأن تجريده لوصف الممدوح بالسّخط مستكره، حتى لو قلت: «أنت في حال السخط ليل وفي الرّضى نهار»، فكافحت هكذا تجعله ليلا لسخطه، لم يحسن، وإنما الواجب أن تقول: «النهار ليل على من تغضب عليه، والليل نهار على من ترضى عنه، وزمان عدوّك ليل كله، وأوقات وليّك نهار كلها»، كما قال: [من الكامل] أيّامنا مصقولة أطرافها … بك، واللّيالي كلّها أسحار (¬1) وقد يقول الرجل لمحبوبه: «أنت ليلي ونهاري»، أي: بك تضيء لي الدنيا وتظلم، فإذا رضيت فدهري نهار، وإذا غضبت فليل كما تقول: «أنت دائي ودوائي، وبرئي وسقامي»، ولا تكاد تجد أحدا يقول: «أنت ليل»، على معنى أن سخطك تظلم به الدنيا، لأن هذه العبارة بالذمّ، وبالوصف بالظلمة وسواد الجلد، وتجهّم الوجه، أخصّ، وبأن يراد بها أخلق، وهذا المعنى منها إلى القلب أسبق، فاعرفه. ¬

_ (¬1) البيت لأبي تمام في ديوانه. قال في اللسان: الصّقل: الجلاء، صقل الشيء يصقله صقلا وصقالا فهو مصقول، وصقيل: جلاه والاسم الصّقال، وهو صاقل والجمع صقلة. انظر مادة صقل الميزان. وهو من قصيدة قالها يمدح بها أبا سعيد الثغري يقول في مطلعها: لا أنت أنت ولا الديار ديار … خفّ الهوى وتولّت الأوطار وبعد البيت: تندى عفاتك للعفاة وتغتدي … رفقا إلى زوارك الزوار هممي معلقة عليك رقابها … مغلولة إن الوفاء إسار

فصل

فصل اعلم أنك تجد الاسم وقد وقع من نظم الكلام الموقع الذي يقتضي كونه مستعارا، ثم لا يكون مستعارا. وذاك لأن التشبيه المقصود منوط به مع غيره، وليس له شبه ينفرد به، على ما قدّمت لك من أن الشبه يجيء منتزعا من مجموع جملة من الكلام، فمن ذلك قول داود بن عليّ حين خطب فقال: «شكرا شكرا، إنّا والله ما خرجنا لنحفر فيكم نهرا، ولا لنبني فيكم قصرا، أظنّ عدوّ الله أن لن يظفر به، أرخي له في زمامه، حتى عثر في فضل خطامه، فالآن عاد الأمر في نصابه، وطلعت الشمس من مطلعها، والآن قد أخذ القوس باريها، وعاد النّبل إلى النزعة، ورجع الأمر إلى مستقرّه في أهل بيت نبيّكم، أهل بيت الرّأفة والرّحمة». فقوله: «الآن أخذ القوس باريها»، وإن كان القوس تقع كناية عن الخلافة، والباري عن المستحقّ لها، فإنه لا يجوز أن يقال إن القوس مستعار للخلافة على حدّ استعارة النور والشمس، لأجل أنه لا يتصوّر أن يخرج للخلافة شبه من القول على الانفراد، وأن يقال: «هي قوس»، كما يقال: «هي نور» و «شمس»، وإنما الشّبه مؤلّف لحال الخلافة مع القائم بها، من حال القوس مع الذي براها، وهو أن الباري للقوس أعرف بخيرها وشرّها، وأهدى إلى توتيرها وتصريفها، إذ كان العامل لها فكذلك الكائن على الأوصاف المعتبرة في الإمامة والجامع لها، يكون أهدى إلى توفية الخلافة حقّها، وأعرف بما يحفظ مصارفها عن الخلل، وأن يراعي في سياسة الخلق بالأمر والنّهي التي هي المقصود منها ترتيبا ووزنا تقع به الأفعال مواقعها من الصواب، كما أنّ العارف بالقوس يراعي في تسوية جوانبها، وإقامة وترها، وكيفية نزعها ووضع السهم الموضع الخاصّ منها، ما يوجب في سهامه أن تصيب الأغراض، وتقرطس في الأهداف، وتقع في المقاتل، وتصيب شاكلة الرّمي. وهكذا قول القائل وقد سمع كلاما حسنا من رجل دميم: «عسل طيّب في ظرف سوء»، ليس «عسل» هاهنا على حدّه في قولك: «ألفاظه عسل»، لأجل أنه لم يقصد إلى بيان حال اللّفظ الحسن وتشبيهه بالعسل في هذا الكلام، وإن كان ذلك أمرا معتادا، وإنما قصد إلى بيان حال الكلام الحسن من المتكلم المشنوء في منظره، وقياس اجتماع فضل المخبر مع نقص المنظر، بالشبه المؤلّف من العسل والظّرف. ألا ترى أن الذي يقابل الرجل هو «ظرف سوء» وظرف سوء لا يصلح تشبيه الرجل به

على الانفراد، لأن الدّمامة لا تعطيه صفة الظّرف من حيث هي دمامة، ما لم يتقدم شيء يشبه ما في الظرف من الكلام الحسن أو الخلق الجميل، أو سائر المعاني التي تجعل الأشخاص أوعية لها. فمن حقك: أن تحافظ على هذا الأصل، وهو أن الشّبه إذا كان موجودا في الشيء على الانفراد من غير أن يكون نتيجة بينه وبين شيء آخر فالاسم مستعار لما أخذ له الشّبه منه، كالنور للعلم والظلمة للجهل، والشمس للوجه الجميل، أو الرجل النبيه الجليل. وإذا لم تكن نسبة الشّبه إلى الشيء على الانفراد، وكان مركّبا من حاله مع غيره، فليس الاسم بمستعار، ولكن مجموع الكلام مثل. واعلم أن هذه الأمور التي قصدت البحث عنها أمور كأنّها معروفة مجهولة، وذلك أنها معروفة على الجملة، لا ينكر قيامها في نفوس العارفين ذوق الكلام، والمتمهّرين في فصل جيده من رديئه، ومجهولة من حيث لم يتفق فيها أوضاع تجري مجرى القوانين التي يرجع إليها، فتستخرج منها العلل في حسن ما استحسن وقبح ما استهجن، حتى تعلم علم اليقين غير الموهوم، وتضبط ضبط المزموم المخطوم. ولعلّ الملال إن عرض لك، أو النشاط إن فتر عنك، قلت: «ما الحاجة إلى كل هذه الإطالة؟ وإنما يكفي أن يقال: الاستعارة مثل كذا، فتعدّ كلمات، وتنشد أبيات، وهكذا يكفينا المئونة في التشبيه والتمثيل يسير من القول». فإنك تعلم أن قائلا لو قال: «الخبر مثل قولنا: زيد منطلق»، ورضي به وقنع، ولم تطالبه نفسه بأن يعرف حدّا للخبر، إذا عرفه تميّز في نفسه من سائر الكلام، حتى يمكنه أن يعلم هاهنا كلاما لفظه لفظ الخبر، وليس هو بخبر، ولكنه دعاء كقولنا: «رحمة الله عليه» و «غفر الله له» ولم يجد في نفسه طلبا لأن يعرف أن الخبر هل ينقسم أو لا ينقسم، وأنّ أوّل أمره في القسمة أنه ينقسم إلى جملة من الفعل والفاعل، وجملة من مبتدأ وخبر، وأنّ ما عدا هذا من الكلام لا يأتلف. نعم، ولم يحبّ أن يعلم أن هذه الجملة يدخل عليها حروف بعضها يؤكّد كونها خبرا، وبعضها يحدث فيها معاني تخرج بها عن الخبرية واحتمال الصدق والكذب. وهكذا يقول إذا قيل له: «الاسم مثل زيد وعمرو»، اكتفيت ولا أحتاج إلى وصف أو حدّ يميّزه من الفعل والحرف أو حدّ لهما، إذا عرفتهما عرفت أن ما خالفهما هو الاسم، على طريقة الكتّاب، ويقول: «لا أحتاج إلى أن أعرف أنّ الاسم

ينقسم فيكون متمكّنا أو غير متمكّن، والمتمكن يكون منصرفا وغير منصرف، ولا إلى أن أعلم شرح غير المنصرف، الأسباب التسعة التي يقف هذا الحكم على اجتماع سببين منها أو تكرّر سبب في الاسم ولا أنه ينقسم إلى المعرفة والنكرة، وأن «النكرة» ما عمّ شيئين فأكثر، وما أريد به واحد من جنس لا بعينه، و «المعرفة» ما أريد به واحد بعينه أو جنس بعينه على الإطلاق ولا إلى أن أعلم شيئا من الانقسامات التي تجيء في الاسم، كان قد أساء الاختيار، وأسرف في دعوى الاستغناء عما هو محتاج إليه إن أراد هذا النوع من العلم ولئن كان الذي نتكلّف شرحه لا يزيد على مؤدّى ثلاثة أسماء، وهي «التمثيل» و «التشبيه» و «الاستعارة»، فإن ذلك يستدعي جملا من القول يصعب استقصاؤها، وشعبا من الكلام لا يستبين لأول النظر أنحاؤها، إذ قولنا: «شيء»، يحتوي على ثلاثة أحرف، ولكنك إذا مددت يدا إلى القسمة وأخذت في بيان ما تحويه هذه اللفظة، احتجت إلى أن تقرأ أوراقا لا تحصى، وتتجشّم من المشقّة والنظر والتفكير ما ليس بالقليل النزر. و «الجزء الذي لا يتجزّأ»، يفوت العين، ويدقّ عن البصر، والكلام عليه يملأ أجلادا عظيمة الحجم. فهذا مثلك إن أنكرت ما عنيت به من هذا التتبّع، ورأيته من البحث، وآثرته من تجشّم الفكرة وسومها أن تدخل في جوانب هذه المسائل وزواياها، وتستثير كوامنها وخفاياها، فإن كنت ممن يرضى لنفسه أن يكون هذا مثله، وهاهنا محلّه، فعب كيف شئت، وقل ما هويت، وثق بأن الزمان عونك على ما ابتغيت، وشاهدك فيما ادّعيت، وأنك واجد من يصوّب رأيك ويحسّن مذهبك، ويخاصم عنك، ويعادي المخالف لك.

فصل في الأخذ والسرقة وما في ذلك من التعليل، وضروب الحقيقة والتخييل

فصل في الأخذ والسرقة وما في ذلك من التعليل، وضروب الحقيقة والتخييل القسم العقلي اعلم أن الحكم على الشاعر بأنه أخذ من غيره وسرق، واقتدى بمن تقدّم وسبق، لا يخلو من أن يكون في المعنى صريحا، أو في صيغة تتعلق بالعبارة. ويجب أن نتكلم أوّلا على المعاني، وهي تنقسم أوّلا قسمين: عقليّ وتخييليّ، وكل واحد منهما يتنوّع. فالذي هو «العقلي» على أنواع: أوّلها: عقليّ صحيح مجراه في الشعر والكتابة والبيان والخطابة، مجرى الأدلّة التي تستنبطها العقلاء، والفوائد التي تثيرها الحكماء، ولذلك تجد الأكثر من هذا الجنس منتزعا من أحاديث النبي صلّى الله عليه وسلّم وكلام الصحابة رضي الله عنهم، ومنقولا من آثار السلف الذين شأنهم الصدق، وقصدهم الحقّ، أو ترى له أصلا في الأمثال القديمة والحكم المأثورة عن القدماء، فقوله: [من الطويل] وما الحسب الموروث لا درّ درّه … بمحتسب إلّا بآخر مكتسب (¬1) ونظائره، كقوله: [من الطويل] إنّي وإن كنت ابن سيّد عامر … وفي السّرّ منها والصّريح المهذّب لما سوّدتني عامر عن وراثة … أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب (¬2) معنى صريح محض يشهد له العقل بالصحة، ويعطيه من نفسه أكرم النّسبة، وتتفق العقلاء على الأخذ به، والحكم بموجبه، في كل جيل وأمّة، ويوجد له أصل ¬

_ (¬1) البيت لابن الرومي. يقول ابن الأعرابي: الدّرّ العمل من خير أو شرّ، ومنه قولهم: لله درّك يكون مدحا ويكون ذما ... ، وقالوا: لله درك أي: لله عملك، ويقال: هذا لمن يمدح ويتعجب من عمله، فإذا ذمّ عمله قيل: لا درّ درّه. (¬2) البيتان من ديوان عامر بن الطفيل. انظر الكامل بتحقيق الدكتور عبد الحميد هنداوي، وفي الحيوان 2/ 95، وخزانة الأدب 8/ 343، 344، 345، 348، وشرح شواهد الشافية ص 404، وشرح شواهد المغني ص 953، وشرح المفصل 10/ 101، والشعر والشعراء ص 343، ولسان العرب، والمقاصد النحوية 1/ 242، والخصائص 2/ 342، وشرح الأشموني 1/ 45، وشرح شافية ابن الحاجب 3/ 183، والمحتسب 1/ 127، ومغني اللبيب ص 677. والبيت بعدهما: ولكنني أحمي حماها وأتقي … أذاها وأرمي من رماها بمقنب وفي السر منها: من سرّ الوادي وهو أكرم موضع فيه، يريد أنه في أكرم موضع من نسبها، والصريح: الخالص من كل شيء والمهذب: النقيّ من العيوب.

في كل لسان ولغة، وأعلى مناسبة وأنورها، وأجلّها وأفخرها، قول الله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13]، وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه»، وقوله عليه السلام: «يا بني هاشم، لا تجيئني الناس بالأعمال وتجيئوني بالأنساب». وذلك أنه لو كانت القضيّة على ظاهر يغترّ به الجاهل، ويعتمده المنقوص، لأدّى ذلك إلى إبطال النّسب أيضا، وإحالة التكثّر به، والرجوع إلى شرفه، فإن الأوّل لو عدم الفضائل المكتسبة، والمساعي الشريفة، ولم يبن من أهل زمانه بأفعال تؤثر، ومناقب تدوّن وتسطّر، لما كان أوّلا، ولكان المعلم من أمره مجهلا، ولما تصوّر افتخار الثاني بالانتماء إليه، وتعويله في المفاضلة عليه، ولكان لا يتصوّر فرق بين أن يقول: «هذا أبي، ومنه نسبي»، وبين أن ينسب إلى الطين، الذي هو أصل الخلق أجمعين، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم: «كلّكم لآدم، وآدم من التراب»، وقال محمد بن الربيع الموصلي (¬1): [من البسيط] الناس في صورة التّشبيه أكفاء … أبوهم آدم والأمّ حوّاء فإن يكن لهم في أصلها شرف … يفاخرون به فالطّين والماء ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم … على الهدى لمن استهدى أدلّاء ووزن كل امرئ ما كان يحسنه … والجاهلون لأهل العلم أعداء فهذا كما ترى باب من المعاني التي تجمع فيها النظائر، وتذكر الأبيات الدالّة عليها، فإنها تتلاقى وتتناظر، وتتشابه وتتشاكل، ومكانه من العقل ما ظهر لك واستبان، ووضح واستنار. وكذلك قوله: [من الطويل] وكل امرئ يولي الجميل محبّب صريح معنى ليس للشعر في جوهره وذاته نصيب، وإنما له ما يلبسه من اللفظ، ويكسوه من العبارة، وكيفية التأدية من الاختصار وخلافه، والكشف أو ضدّه، وأصله قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «جبلت القلوب على حبّ من أحسن إليها» (¬2)، بل قول الله عز ¬

_ (¬1) الأبيات في ديوان الإمام علي بن أبي طالب، وهي من أوائل الأبيات في أول قصيدة في الديوان فانظره. ومنها أيضا: نقم بعلم ولا تطلب به بدلا … فالناس موتى وأهل العلم أحياء (¬2) من الأحاديث المشهرة على الألسنة بزيادة: «وبعض من أساء إليها» وروي مرفوعا وموقوفا عن ابن مسعود وكلاهما باطل، وقيل أو الموقوف معروف عن الأعمش. (رشيد).

القسم التخييلي

وجل: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: 34]. وكذا قوله: [من الكامل] لا يسلم الشّرف الرّفيع من الأذى … حتّى يراق على جوانبه الدّم (¬1) معنى معقول لم يزل العقلاء يقضون بصحّته، ويرى العارفون بالسياسة الأخذ بسنّته، وبه جاءت أوامر الله سبحانه، وعليه جرت الأحكام الشرعية والسّنن النبوية، وبه استقام لأهل الدّين دينهم، وانتفى عنهم أذى من يفتنهم ويضيرهم. إذ كان موضوع الجبلّة على أن لا تخلو الدنيا من الطغاة الماردين، والغواة المعاندين، الذين لا يعون الحكمة فتردعهم، ولا يتصوّرون الرشد فيكفّهم النّصح ويمنعهم، ولا يحسّون بنقائص الغيّ والضلال، وما في الجور والظلم من الضّعة والخبال، فيجدوا لذلك مسّ ألم يحبسهم على الأمر، ويقف بهم عند الزجر، بل كانوا كالبهائم والسّباع، لا يوجعهم إلّا ما يخرق الأبشار من حدّ الحديد، وسطو البأس الشديد، فلو لم تطبع لأمثالهم السيوف، ولم تطلق فيهم الحتوف، لما استقام دين ولا دنيا، ولا نال أهل الشرف ما نالوه من الرتبة العليا، فلا يطيب الشرب من منهل لم تنف عنه الأقذاء، ولا تقرّ الروح في بدن لم تدفع عنه الأدواء. وكذلك قوله (¬2): [من الطويل] إذا أنت أكرمت الكريم ملكته … وإن أنت أكرمت اللّئيم تمرّدا ووضع الندى في موضع السيف بالعلى … مضرّ، كوضع السّيف في موضع الندى القسم التخييلي وأما القسم التخييلي، فهو الذي لا يمكن أن يقال إنه صدق، وإنّ ما أثبته ثابت وما نفاه منفيّ. وهو مفتّن المذاهب، كثير المسالك، لا يكاد يحصر إلّا تقريبا، ¬

_ (¬1) البيت للمتنبي. (¬2) البيتان في ديوانه من قصيدة له يمدح سيف الدولة مطلعها: لكل امرئ من دهره ما تعوّدا … وعادة سيف الدولة الطعن في العدى وفي البيتين يوضح المتنبي في الثاني منهما أهمية وضع كل فعل في مكانه المناسب، فلا يساء إلى المحسن ولا يحسن إلى المسيء لأن ذلك مضر بالعلى وبالأخلاق.

ولا يحاط به تقسيما وتبويبا. ثم إنه يجيء طبقات، ويأتي على درجات، فمنه ما يجيء مصنوعا قد تلطّف فيه، واستعين عليه بالرفق والحذق، حتى أعطي شبها من الحقّ، وغشي رونقا من الصّدق، باحتجاج تمحّل، وقياس تصنّع فيه وتعمّل، ومثاله قول أبي تمام: [من الكامل] لا تنكري عطل الكريم من الغنى … فالسّيل حرب للمكان العالي (¬1) فهذا قد خيّل إلى السامع أن الكريم إذا كان موصوفا بالعلوّ، والرّفعة في قدره، وكان الغنى كالغيث في حاجة الخلق إليه وعظم نفعه، وجب بالقياس أن يزلّ عن الكريم، زليل السّيل عن الطّود العظيم. ومعلوم أنه قياس تخييل وإيهام، لا تحصيل وإحكام، فالعلّة في أن السيل لا يستقرّ على الأمكنة العالية، أن الماء سيّال لا يثبت إلا إذا حصل في موضع له جوانب تدفعه عن الانصباب، وتمنعه عن الانسياب، وليس في الكريم والمال، شيء من هذه الخلال. وأقوى من هذا في أن يظنّ حقّا وصدقا، وهو على التخيّل قوله: [من البسيط] الشيب كره، وكره أن يفارقني … أعجب بشيء على البغضاء مودود (¬2) هو من حيث الظاهر صدق وحقيقة، لأن الإنسان لا يعجبه أن يدركه الشيب، فإذا هو أدركه كره أن يفارقه، فتراه لذلك ينكره ويتكرّهه على إرادته أن يدوم له، إلا أنك إذا رجعت إلى التحقيق، كانت الكراهة والبغضاء لاحقة للشيب على الحقيقة، فأما كونه مرادا ومودودا، فمتخيّل فيه، وليس بالحقّ والصدق، بل المودود الحياة والبقاء، إلا أنه لما كانت العادة جارية بأنّ في زوال رؤية الإنسان للشيب، زواله عن الدنيا وخروجه منها، وكان العيش فيها محبّبا إلى النفوس، صارت محبّته لما لا يبقى له حتى يبقى الشيب، كأنّها محبّة للشيب. ومن ذلك صنيعهم إذا أرادوا تفضيل شيء أو نقصه، أو مدحه أو ذمّه، فتعلّقوا ببعض ما يشاركه في أوصاف ليست هي سبب الفضيلة والنقيصة، وظواهر أمور لا تصحّح ما قصدوه من التهجين والتزيين على الحقيقة، كما تراه في باب الشيب والشباب، كقول البحتري: [من الخفيف] ¬

_ (¬1) البيت لأبي تمام في ديوانه، والإيضاح ص 322، تحقيق د. عبد الحميد هنداوي. وعطل الكريم: خلوه وفراغه. (¬2) البيت لابن المعتز في ديوانه وينسب أيضا لمسلم بن الوليد.

وبياض البازيّ أصدق حسنا … إن تأمّلت من سواد الغراب (¬1) وليس إذا كان البياض في البازي آنق في العين وأخلق بالحسن من السواد في الغراب، وجب لذلك أن لا يذمّ الشيب ولا تنفر منه طباع ذوي الألباب، لأنه ليس الذنب كلّه لتحوّل الصّبغ وتبدّل اللون، ولا أتت الغواني ما أتت من الصدّ والإعراض لمجرّد البياض، فإنهن يرينه في قباطيّ مصر فيأنسن، وفي أنوار الرّوض وأوراق النرجس الغضّ فلا يعبسن، فما أنكرن ابيضاض شعر الفتى لنفس اللون وذاته، بل لذهاب بهجاته، وإدباره في حياته. وإنك لترى الصّفرة الخالصة في أوراق الأشجار المتناثرة عند الخريف وإقبال الشتاء وهبوب الشّمال، فتكرهها وتنفر منها، وتراها بعينها في إقبال الربيع في الزّهر المتفتّق، وفيما ينشئه ويشيه من الديباج المؤنق، فتجد نفسك على خلاف تلك القضيّة، وتمتلئ من الأريحيّة، ذاك لأنك رأيت اللون حيث النماء والزيادة، والحياة المستفادة، وحيث أبشرت أرواح الرياحين، وبشّرت أنواع التحاسين، ورأيته في الوقت الآخر حين ولّت السعود، واقشعرّ العود، وذهبت البشاشة والبشر، وجاء العبوس والعسر. هذا، ولو عدم البازي فضيلة أنه جارح، وأنه من عتيق الطير، لم تجد لبياضه الحسن الذي تراه، ولم يكن للمحتجّ به على من ينكر الشيب ويذمّه ما تراه من الاستظهار، كما أنه لولا ما يهدي إليك المسك من ريّاه التي تتطلع إلها الأرواح، وتهشّ لها النفوس وترتاح، ولضعفت حجّة المتعلق به في تفضيل الشّباب. وكما لم تكن العلّة في كراهة الشيب بياضه، ولم يكن هو الذي غضّ عنه الأبصار، ومنحه العيب والإنكار، كذلك لم يحسن سواد الشعر في العيون لكونه سوادا فقط، بل لأنك رأيت رونق الشباب ونضارته، وبهجته وطلاوته ورأيت بريقه وبصيصه يعدانك الإقبال، ويريانك الاقتبال، ويحضرانك الثقة بالبقاء، ويبعدان عنك الخوف من الغناء. وإنّك لترى الرّجل وقد طعن في السنّ وشعره لم يبيضّ، وشيبه لم ينقضّ، ولكنه على ذاك قد عدم إبهاجه الذي كان، وعاد لا يزين كما زان، وظهر فيه من الكمود والجمود، ما يريكه غير محمود. ¬

_ (¬1) البيت للبحتري في ديوانه وقبله: عيرتني المشيب وهي بدته … في عذاري بالصد والاجتناب (شاكر).

وهكذا قوله: [من الكامل] والصّارم المصقول أحسن حالة … يوم الوغى من صارم لم يصقل احتجاج على فضيلة الشيب، وأنه أحسن منظرا من جهة التعلق باللون، وإشارة إلى أن السواد كالصدإ على صفحة السيف، فكما أن السيف إذا صقل وجلي وأزيل عنه الصّدأ ونقّي كان أبهى وأحسن، وأعجب إلى الرائي وفي عينه أزين، كذلك يجب أن يكون حكم الشعر في انجلاء صدأ السواد عنه، وظهور بياض الصّقال فيه، وقد ترك أن يفكّر فيما عدا ذلك من المعاني التي لها يكره الشيب، ويناط به العيب. وعلى هذا موضوع الشعر والخطابة، أن يجعلوا اجتماع الشيئين في وصف علة لحكم يريدونه، وإن لم يكن كذلك في المعقول ومقتضيات العقول، ولا يؤخذ الشاعر بأن يصحّح كون ما جعله أصلا وعلّة كما ادّعاه فيما يبرم أو ينقض من قضيّة، وأن يأتي على ما صيّره قاعدة وأساسا بيّنة عقلية، بل تسلّم مقدّمته التي اعتمدها بيّنة، كتسليمنا أنّ عائب الشيب لم ينكر منه إلّا لونه، وتناسينا سائر المعاني التي لها كره، ومن أجلها عيب. وكذلك قول البحتري (¬1): [من المنسرح] كلّفتمونا حدود منطقكم … في الشّعر يكفي عن صدقه كذبه أراد كلّفتمونا أن نجري مقاييس الشعر على حدود المنطق، ونأخذ نفوسنا فيه بالقول المحقّق، حتى لا ندّعي إلا ما يقول عليه من العقل برهان يقطع به، ويلجئ إلى موجبه. ولا شك أنه إلى هذا النحو قصد، وإيّاه عمد، إذ يبعد أن يريد بالكذب إعطاء الممدوح حظّا من الفضل والسّؤدد ليس له، ويبلّغه بالصفة حظّا من التعظيم ليس هو أهله، وأن يجاوز به من الإكثار محلّه، لأن هذا الكذب لا يبين بالحجج المنطقية، والقوانين العقلية، وإنما يكذّب فيه القائل بالرجوع إلى حال المذكور واختباره فيما وصف به، والكشف عن قدره وخسّته، ورفعته أو ضعته، ومعرفة محلّه ومرتبته. وكذلك قول من قال: «خير الشعر أكذبه»، فهذا مراده، لأن الشعر لا يكتسب ¬

_ (¬1) البيت للبحتري في ديوانه، ويروى عجز البيت: في يلغى يكفي عن صدقه كذبه وبعده: والشعر لمح تكفي إشارته … وليس بالهذر طولت خطبه

من حيث هو شعر فضلا ونقصا، وانحطاطا وارتفاعا، بأن ينحل الوضيع صفة من الرفعة هو منها عار، أو يصف الشريف بنقص وعار، فكم جواد بخّله الشعر وبخيل سخّاه؛ وشجاع وسمه بالجبن وجبان ساوى به الليث؛ ودنيّ أوطأه قيّمة العيّوق، وغبيّ قضى له بالفهم، وطائش ادّعى له طبيعة الحكم، ثم لم يعتبر ذلك في الشعر نفسه حيث تنتقد دنانيره وتنشر ديابيجه، ويفتق مسكه فيضوع أريجه. وأما من قال في معارضة هذا القول: «خير الشعر أصدقه»، كما قال: [من البسيط] وإنّ أحسن بيت أنت قائله … بيت يقال إذا أنشدته صدقا (¬1) فقد يجوز أن يراد به أن خير الشعر ما دلّ على حكمة يقبلها العقل، وأدب يجب به الفضل، وموعظة تروّض جماح الهوى وتبعث على التقوى، وتبيّن موضع القبح والحسن في الأفعال، وتفصل بين المحمود والمذموم من الخصال، وقد ينحى بها نحو الصدق في مدح الرجال، كما قيل: «كان زهير لا يمدح الرجل إلا بما فيه»، والأول أولى، لأنهما قولان يتعارضان في اختيار نوعي الشعر. فمن قال: «خيره أصدقه» كان ترك الإغراق والمبالغة والتجوّز إلى التحقيق والتصحيح، واعتماد ما يجرى من العقل على أصل صحيح، أحبّ إليه وآثر عنده، إذ كان ثمره أحلى، وأثره أبقى، وفائدته أظهر، وحاصله أكثر، ومن قال: «أكذبه»، ذهب إلى أن الصنعة إنما تمدّ باعها، وتنشر شعاعها، ويتّسع ميدانها، وتتفرّع أفنانها، حيث يعتمد الاتّساع والتخييل، ويدّعى الحقيقة فيما أصله التقريب والتخيل وحيث يقصد التلطف والتأويل ويذهب بالقول مذهب المبالغة والإغراق في المدح والذمّ والوصف والنعت والفخر والمباهاة وسائر المقاصد والأغراض، وهناك يجد الشاعر سبيلا إلى أن يبدع ويزيد، ويبدي في اختراع الصّور ويعيد، ويصادف مضطربا كيف شاء واسعا، ومددا من المعاني متتابعا، ويكون كالمغترف من عدّ لا ينقطع، والمستخرج من معدن لا ينتهي. وأما القبيل الأول فهو فيه كالمقصور المدانى قيده، والذي لا تتّسع كيف شاء يده وأيده، ثم هو في الأكثر يسرد على السامعين معاني معروفة وصورا مشهورة، ويتصرّف في أصول هي وإن كانت شريفة، فإنها كالجواهر تحفظ أعدادها، ولا يرجى ¬

_ (¬1) البيت لحسان بن ثابت في ديوانه، والمصباح ص 221. وقبله: وإنما الشعر لب المرء يعرضه … على المجالس إن كيسا وإن حمقا

ازديادها، وكالأعيان الجامدة التي لا تنمي ولا تزيد، ولا تربح ولا تفيد، وكالحسناء العقيم، والشجرة الرّائقة لا تمتّع بجنى كريم. هذا ونحوه يمكن أن يتعلّق به في نصرة التخييل وتفضيله، والعقل بعد على تفضيل القبيل الأول وتقديمه وتفخيم قدره وتعظيمه، وما كان العقل ناصره، والتحقيق شاهده، فهو العزيز جانبه، المنيع مناكبه، وقد قيل: «الباطل مخصوم وإن قضي له، والحقّ مفلج وإن قضي عليه». هذا، ومن سلّم أنّ المعاني المعرقة في الصدق، المستخرجة من معدن الحقّ، في حكم الجامد الذي لا ينمي، والمحصور الذي لا يزيد وإن أردت أن تعرف بطلان هذه الدعوى فانظر إلى قول أبي فراس: [من الوافر] وكنّا كالسهام إذا أصابت … مراميها فراميها أصابا (¬1) ألست تراه عقليّا عريقا في نسبه، معترفا بقوّة سببه، وهو على ذلك من فوائد أبي فراس التي هي أبو عذرها (¬2)، والسابق إلى إثارة سرّها. واعلم أن «الاستعارة» لا تدخل في قبيل «التخييل»، لأن المستعير لا يقصد إلى إثبات معنى اللفظة المستعارة، وإنما يعمد إلى إثبات شبه هناك، فلا يكون مخبره على خلاف خبره. وكيف يعرض الشكّ في أن لا مدخل للاستعارة في هذا الفنّ، وهي كثيرة في التنزيل على ما لا يخفى، كقوله عز وجل: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4]، ثم لا شبهة في أن ليس المعنى على إثبات الاشتعال ظاهرا، وإنما المراد إثبات شبهه. وكذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المؤمن مرآة المؤمن»، ليس على إثباته مرآة من حيث الجسم الصّقيل، لكن من حيث الشّبه المعقول، وهو كونها سببا للعلم بما لولاها لم يعلم، لأن ذلك العلم طريقه الرؤية، ولا سبيل إلى أن يرى الإنسان وجهه إلا بالمرآة وما جرى مجراها من الأجسام الصّقيلة، فقد جمع بين المؤمن والمرآة في صفة معقولة، وهي أن المؤمن ينصح أخاه ويريه الحسن من القبيح، كما تري المرآة الناظر فيها ما يكون بوجهه من الحسن وخلافه. وكذا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إياكم وخضراء الدّمن»، معلوم أن ليس القصد إثبات معنى ظاهر اللفظين، ولكن الشّبه الحاصل من مجموعهما، وذلك حسن الظاهر مع خبث الأصل. ¬

_ (¬1) البيت لأبي فراس في ديوانه. (¬2) يقال فلان أبو عذر فلانة إذا كان افترعها واقتضها، وقولهم: ما أنت بذي عذر هذا الكلام، أي: لست بأول من اقتضه. [اللسان: عذر].

وإذا كان هذا كذلك، بان منه أيضا أنّ لك مع لزوم الصدق، والثبوت على محض الحقّ، الميدان الفسيح والمجال الواسع، وأن ليس الأمر على ما ظنّه ناصر الإغراق والتخييل الخارج إلى أن يكون الخبر على خلاف المخبر، من أنه إنما يتّسع المقال ويفتنّ، وتكثر موارد الصنعة ويغزر ينبوعها، وتكثر أغصانها وتتشعّب فروعها، إذا بسط من عنان الدعوى، فادّعي ما لا يصحّ دعواه، وأثبت ما ينفيه العقل ويأباه. وجملة الحديث أن الذي أريده بالتخييل هاهنا، ما يثبت فيه الشاعر أمرا هو غير ثابت أصلا، ويدّعي دعوى لا طريق إلى تحصيلها، ويقول قولا يخدع فيه نفسه ويريها ما لا ترى. فأمّا الاستعارة، فإن سبيلها سبيل الكلام المحذوف، في أنك إذا رجعت إلى أصله، وجدت قائله وهو يبت أمرا عقليّا صحيحا، ويدّعي دعوى لها سنخ في العقل. وستمرّ بك ضروب من «التخييل» هي أظهر أمرا في البعد عن الحقيقة، وأكشف وجها في أنه خداع للعقل، وضرب من التزويق، فتزداد استبانة للغرض بهذا الفصل، وأزيدك حينئذ إن شاء الله، كلاما في الفرق بين ما يدخل في حيّز قولهم: «خير الشعر أكذبه»، وبين ما لا يدخل فيه مما يشاركه في أنه اتّساع وتجوّز، فاعرفه. وكيف دار الأمر، فإنهم لم يقولوا: «خير الشعر أكذبه»، وهم يريدون كلاما غفلا ساذجا يكذب فيه صاحبه ويفرط، نحو أن يصف الحارس بأوصاف الخليفة، ويقول للبائس المسكين: «إنّك أمير العراقين»، ولكن ما فيه صنعة يتعمّل لها، وتدقيق في المعاني يحتاج معه إلى فطنة لطيفة وفهم ثاقب وغوص شديد، والله الموافق للصواب. وأعود إلى ما كنت فيه من الفصل بين المعنى الحقيقي وغير الحقيقي. واعلم أن ما شأنه «التخييل»، أمره في عظم شجرته إذا تؤمّل نسبه، وعرفت شعوبه وشعبه، على ما أشرت إليه قبيل، لا يكاد تجيء فيه قسمة تستوعبه، وتفصيل يستغرقه، وإنما الطريق فيه أن يتّبع الشيء بعد الشيء ويجمع ما يحصره الاستقراء. فالذي بدأت به من دعوى أصل وعلّة في حكم من الأحكام، هما كذلك ما تركت المضايقة، وأخذ بالمسامحة، ونظر إلى الظاهر، ولم ينقّر عن السرائر، وهو النمط العدل والنمرقة الوسطى، وهو شيء تراه كثيرا بالآداب والحكم البريئة من الكذب. ومن الأمثلة فيه قول أبي تمام (¬1): [من الخفيف] إنّ ريب الزمان يحسن أن يه … دي الرّزايا إلى ذوي الأحساب ¬

_ (¬1) البيتان لأبي تمام في ديوانه.

فلهذا يجفّ بعد اخضرار … قبل روض الوهاد روض الرّوابي وكذا قوله يذكر أنّ الممدوح قد زاده، مع بعده عنه وغيبته، في العطايا على الحاضرين عنده اللّازمين خدمته (¬1): [من الخفيف] لزموا مركز النّدى وذراه … وعدتنا عن مثل ذاك العوادي غير أنّ الرّبى إلى سبل الأن … واء أدنى، والحظّ حظّ الوهاد لم يقصد من الربى هاهنا إلى العلوّ، ولكن إلى الدنوّ فقط، وكذلك لم يرد بذكر الوهاد الضّعة والتّسفّل والهبوط، كما أشار إليه في قوله: والسّيل حرب للمكان العالي (¬2) وإنما أراد أن الوهاد ليس لها قرب الرّبى من فيض الأنواء، ثم إنها تتجاوز الرّبى التي هي دانية قريبة إليها، إلى الوهاد التي ليس لها ذلك القرب. ومن هذا النّمط، في أنه تخييل شبية بالحقيقة لاعتدال أمره، وأنّ ما تعلّق به من العلّة موجود على ظاهر ما ادّعى، قوله (¬3): [من البسيط] ليس الحجاب بمقص عنك لي أملا … إنّ السماء ترجّى حين تحتجب فاستتار السماء بالغيم هو سبب رجاء الغيث الذي يعدّ في مجرى العادة جودا منها ونعمة، صادرة عنها، كما قال ابن المعتز (¬4): [من الخفيف] ما ترى نعمة السماء على الأر … ض وشكر الرّياض للأمطار وهذا نوع آخر، وهو دعواهم في الوصف هو خلقة في الشيء وطبيعة، أو واجب على الجملة، من حيث هو أنّ ذلك الوصف حصل له من الممدوح ومنه استفاده. وأصل هذا التشبيه، ثم يتزايد فيبلغ هذا الحدّ، ولهم فيه عبارات منها قولهم: «إن الشمس تستعير منه النور وتستفيد، أو تتعلّم منه الإشراق وتكتسب منه الإضاءة». وألطف ذلك أن قال: «تسرق»، و «أن نورها مسروق من الممدوح». وكذلك يقال: «المسك يسرق من عرفه، وأنّ طيبه مسترق منه ومن أخلاقه»، قال ابن بابك: [من الطويل] ¬

_ (¬1) البيتان لأبي تمام في ديوانه. (¬2) سبق تخريجه في أول القسم التخييلي. (¬3) البيت لأبي تمام في ديوانه. (¬4) البيت لابن المعتز في ديوانه.

ألا يا رياض الحزن من أبرق الحمى … نسيمك مسروق ووصفك منتحل حكيت أبا سعد، فنشرك نشره … ولكن له صدق الهوى، ولك الملل ونوع آخر، وهو أن يدّعي في الصفة الثانية للشيء أنه إنما كان لعلّة يضعها الشاعر ويختلقها، إمّا لأمر يرجع إلى تعظيم الممدوح، أو تعظيم أمر من الأمور، فمن الغريب في ذلك معنى بيت فارسيّ ترجمته (¬1): [من البسيط] لو لم تكن نيّة الجوزاء خدمته … لما رأيت عليها عقد منتطق فهذا ليس من جنس ما مضى، أعني ما أصله التشبيه، ثم أريد التناهي في المبالغة والإغراق والإغراب. ويدخل في هذا الفن قول المتنبي (¬2): [من الكامل] لم تحك نائلك السّحاب، وإنّما … حمّت به فصبيبها الرّحضاء لأنه وإن كان أصله التشبيه، من حيث يشبّه الجواد بالغيث، فإنه وضع المعنى وضعا وصوّره في صورة خرج معها إلى ما لا أصل له في التشبيه، فهو كالواقع بين الضربين. وقريب منه في أن أصله التشبيه ثم باعده بالصنعة في تشبيهه وخلع عنه صورته خلعا، قوله: [من الوافر] وما ريح الرّياض لها، ولكن … كساها دفنهم في الترب طيبا ومن لطيف هذا النوع قول أبي العباس الضبّي: [من الكامل] لا تركننّ إلى الفرا … ق وإن سكنت إلى العناق فالشمس عند غروبها … تصفرّ من فرق الفراق ادّعى لتعظيم شأن الفراق أنّ ما يرى من الصفرة في الشمس حين يرقّ نورها بدنوّها من الأرض، إنما هو لأنها تفارق الأفق الذي كانت فيه، أو الناس الذين طلعت عليهم وأنست بهم وأنسوا بها وسرّتهم رؤيتها. ونوع منه قول الآخر: [من الوافر] قضيب الكرم نقطعه فيبكي … ولا تبكي وقد قطع الحبيب ¬

_ (¬1) البيت في الإيضاح ص 324 تحقيق د. عبد الحميد هنداوي. والجوزاء: برج في السماء، العقد: ما يلبس في العنق، والمنتطق: لابس النطاق. (¬2) البيت للمتنبي في ديوانه، وفي الإيضاح ص 322 تحقيق د. عبد الحميد هنداوي. والرحضاء: عرق الحمى.

وهو منسوب إلى إنشاد الشّبلي، ويقال أيضا أن أبا العباس أخذ معناه في بيته من قول بعض الصّوفية وقيل له: «لم تصفرّ الشمس عند الغروب؟ فقال من حذر الفراق». ومن لطيف هذا الجنس قول الصّولي: [من الكامل] الرّيح تحسدني علي … ك، ولم أخلها في العدا لمّا هممت بقبلة … ردت على الوجه الرّدا وذلك أن الريح إذا كان وجهها نحو الوجه، فواجب في طباعها أن تردّ الرداء عليه، وأن تلفّ من طرفيه، وقد ادّعى أن ذلك منها لحسد بها وغيرة على المحبوبة، وهي من أجل ما في نفسها تحول بينه وبين أن ينال من وجهها. وفي هذه الطريقة قوله (¬1): [من المتقارب] وحاربني فيه ريب الزّمان … كأنّ الزّمان له عاشق إلّا أنه لم يضع علّة ومعلولا من طريق النصّ على شيء، بل أثبت محاربة من الزمان في معنى الحبيب، ثم جعل دليلا على علّتها جواز أن يكون شريكا له في عشقه. وإذا حقّقنا لم يجب لأجل أن جعل العشق علّة للمحاربة، وجمع بين الزمان والريح، في ادعاء العداوة لهما أن يتناسب البيتان من طريق الخصوص والتفصيل. وذاك أن الكلام في وضع الشاعر للأمر الواجب علّة غير معقول كونها علّة لذلك الأمر. وكون العشق علّة للمعاداة في المحبوب معقول معروف غير بدع ولا منكر. فإذا بدأ فادّعى أن الزمان يعاديه ويحاربه فيه، فقد أعطاك أنّ ذلك لمثل هذه العلّة وليس إذا ردّت الريح الرّداء، فقد وجب أن يكون ذلك لعلّة الحسد أو لغيرها، لأن ردّ الرداء شأنها، فاعرفه، فإن من شأن حكم المحصّل أن لا ينظر في تلاقي المعاني وتناظرها إلى جمل الأمور، وإلى الإطلاق والعموم، بل ينبغي أن يدقّق النظر في ذلك، ويراعى التناسب من طريق الخصوص والتفاصيل. فأنت في نحو بيت ابن وهيب تدّعى صفة غير ثابتة، وهي إذا ثبتت اقتضت مثل العلّة التي ذكرها، وفي نحو بيت الريح، تذكر صفة غير ثابتة حاصلة على الحقيقة، ثم تدّعي لها علة من عند نفسك وضعا واختراعا، فافهمه. ¬

_ (¬1) البيت لمحمد بن وهيب في الأغاني 19/ 84. وقبله: إذا ما سموت إلى وصله … تعرض لي دونه عائق

وهكذا قول المتنبي (¬1): [من الطويل] ملامي النّوى في ظلمها غاية الظّلم … لعلّ بها مثل الّذي بي من السّقم فلو لم تغر لم تزو عنّي لقاءكم … ولو لم تردكم لم تكن فيكم خصمي الدعوى في إثبات الخصومة، وجعل النّوى كالشيء الذي يعقل ويميّز ويريد ويختار، وحديث الغيرة والمشاركة في هوى الحبيب، يثبت بثبوت ذلك من غير أن يفتقر منك إلى وضع واختراع. ومما يلحق بالفنّ الذي بدأت به قوله: [من الطويل] بنفسي ما يشكوه من راح طرفه … ونرجسه ممّا دهى حسنه ورد أراقت دمي عمدا محاسن وجهه … فأضحى وفي عينيه آثاره تبدو لأنه قد أتى لحمرة العين وهي عارض يعرض لها من حيث هي عين بعلّة يعلم أنها مخترعة موضوعة، فليس ثمّ إراقة دم. وأصل هذا قول ابن المعتزّ: [من المنسرح] قالوا اشتكت عينه فقلت لهم … من كثرة القتل نالها الوصب حمرتها من دماء من قتلت … والدّم في النّصل شاهد عجب وبين هذا الجنس وبين نحو: «الرّيح تحسدني»، فرق، وذلك أن لك هناك فعلا هو ثابت واجب في الريح، وهو ردّ الرداء على الوجه، ثم أحببت أن تتطرّف، فادّعيت لذلك الفعل علّة من عند نفسك. وأما هاهنا فنظرت إلى صفة موجودة، فتأوّلت فيها أنها صارت إلى العين من غيرها، وليست هي التي من شأنها أن تكون في العين، فليس معك هنا إلا معنى واحد، وأما هناك فمعك معنيان: أحدهما موجود معلوم، والآخر مدّعى موهوم، فاعرفه. وممّا يشبه هذا الفنّ الذي هو تأوّل في الصفة فقط، من غير أن يكون معلول وعلّة، ما تراه من تأوّلهم في الأمراض والحمّيات أنها ليست بأمراض، ولكنها فطن ثاقبة وأذهان متوقّدة وعزمات، كقوله (¬2): [من الطويل] وحوشيت أن تضرى بجسمك علّة … ألا إنّها تلك العزوم الثّواقب ¬

_ (¬1) البيتان للمتنبي في ديوانه ص 124. (¬2) البيت لأبي إبراهيم بن أحمد الشاشي العامري قاله في مرض أصاب الصاحب بن عباد. يتيمة الدهر 3/ 351، 352 (شاكر) والعزوم: الناقة المسنّة وفيها بقية شباب. وقيل: الهرمة الدّلقم التي أكلت أسنانها من الكبر، والجمع عوازم.

وقال ابن بابك: [من الوافر] فترت وما وجدت أبا العلاء … سوى فرط التوقّد والذّكاء ولكشاجم، يقوله في علي بن سليمان الأخفش: [من الرمل] ولقد أخطأ قوم زعموا … أنها من فضل برد في العصب هو ذاك الذّهن أذكى ناره … والمزاج المفرط الحرّ التهب ولا يكون قول المتنبي (¬1): [من الكامل] ومنازل الحمّى الجسوم، فقل لنا: … ما عذرها في تركها خيراتها أعجبتها شرفا فطال وقوفها … لتأمّل الأعضاء لا لأذاتها من هذا في شيء، بأكثر من أن كلا القولين في ذكر الحمّى، وفي تطييب النفس عنها، فهو اشتراك في الغرض والجنس، فأما في عمود المعنى وصورته الخاصة فلا، لأن المتنبي لم ينكر أنه ما يجده الممدوح حمّى كما أنكره الآخر، ولكنّه كأنه سأل نفسه: كيف اجترأت الحمّى على الممدوح، مع جلالته وهيبته، أم كيف جاز أن يقصد شيء إلى أذاه مع كرمه ونبله، وأن المحبّة من النفوس مقصورة عليه؟ فتحمّل لذلك جوابا، ووضع للحمّى فيما فعلته من الأذى عذرا، وهو تصريح ما اقتصر فيه على التعجّب في قوله (¬2): [من الوافر] أيدري ما أرابك من يريب … وهل ترقى إلى الفلك الخطوب؟ وجسمك فوق همّة كلّ داء … فقرب أقلّها منه عجيب! إلا أن ذلك الإيهام أحسن من هذا البيان، وذلك التعجّب موقوفا غير مجاب، أولى بالإعجاب، وليس كل زيادة تفلح، وكل استقصاء يملح. ومن واضح هذا النوع وجيّده قول ابن المعتزّ: [من الكامل] صدّت سرير وأزمعت هجري … وصغت ضمائرها إلى الغدر (¬3) ¬

_ (¬1) البيتان للمتنبي في ديوانه ص 232. والأول منهما في شرح التبيان على ديوان المتنبي 1/ 164، ويقال: حمى وحمّة، والمعنى: يريد أن جسمك خير الأجسام فلا عذر للحمّى في تركه وهو أفضل الأجسام وهي محلها الأجسام. وخيراتها: جمع خيرة وهي: مؤنث خير بمعنى: أفضل، وضمير خيراتها للجسوم. يقول: أعجبت الحمى لما رأت فيك من خصال الشرف والكرم فأطالت مكثها فيك لتتأمل أعضاءك الحاملة لتلك الخصال لا لأذيتها. (¬2) البيتان في ديوانه ص 115 من قصيدة قالها في دمّل أصاب سيف الدولة فما في البيت: للدمّل، من: لسيف الدولة. أرابك: من الريب الشك فيما يخبئه المستقبل، والخطوب: الحوادث. وجسمك فوق: أي: فوق قدرة المرض على بلوغه، فعجيب أن يقترب منك أضعف الأمراض. (¬3) في نسخ الديوان التي بأيدينا «شرير» بالمعجمة. (رشيد).

قالت: كبرت وشبت! قلت لها: … هذا غبار وقائع الدّهر ألا تراه أنكر أن يكون الذي بدا به شيبا، ورأى الاعتصام بالجحد أخصر طريقا إلى نفي العيب وقطع الخصومة، ولم يسلك الطريقة العامّية فيثبت المشيب، ثم يمنع العائب أن يعيب، ويريه الخطأ في عيبه به، ويلزمه المناقضة في مذهبه، كنحو ما مضى، أعني كقول البحتري: «وبياض البازيّ». وهكذا إذا تأوّلوا في الشيب أنه ليس بابيضاض الشعر الكائن في مجرى العادة وموضوع الخلقة، ولكنه نور العقل والأدب قد انتشر، وبان وجهه وظهر، كقول الطائي الكبير: [من البسيط] ولا يروّعك إيماض القتير به … فإنّ ذاك ابتسام الرّأي والأدب وينبغي أن تعلم أنّ باب التشبيهات قد حظي من هذه الطريقة بضرب من السّحر، لا تأتي الصفة على غرابته، ولا يبلغ البيان كنه ما ناله من اللّطف والظّرف، فإنه قد بلغ حدّا يرد المعروف في طباع الغزل، ويلهى الثّكلان من الثّكل، وينفث في عقد الوحشة، وينشد ما ضلّ عنك من المسرّة، ويشهد للشّعر بما يطيل لسانه في الفخر، ويبين جملة ما للبيان من القدرة والقدر. فمن ذلك قول ابن الرومي: [من الكلام] خجلت خدود الورد من تفضيله … خجلا تورّدها عليه شاهد لم يخجل الورد المورّد لونه … إلّا وناحله الفضيلة عاند للنرجس الفضل المبين وإن أبى … آب وحاد عن الطريقة حائد فصل القضية أنّ هذا قائد … زهر الرياض وأنّ هذا طارد شتّان بين اثنين: هذا موعد … بتسلّب الدّنيا، وهذا واعد (¬1) ينهى النديم عن القبيح بلحظه، … وعلى المدامة والسماع مساعد اطلب بعفوك في الملاح سميّه … أبدا، فإنك لا محالة واجد والورد إن فكّرت فرد في اسمه … ما في الملاح له سميّ واحد ¬

_ (¬1) يقال تسلبت المرأة إذا لبست السلاب وهي بالكسر ثياب الحداد السود، والبيت بمعنى ما قبله، والمراد أن النرجس المفضل عنده يظهر في أول الربيع فتتلوه الأزهار والرياحين والورد المفضول يظهر في آخر الربيع فيتوعد الرياحين بسلب بهجتها حيث يذهب في أثره زهر الرياض فالنرجس كالقائد والورد كالطارد. وابن الرومي مشهور بذم الورد وتفضيل النرجس. (رشيد).

هذي النجوم هي التي ربّتهما … بحيا السحاب كما يربّي الوالد فانظر إلى الأخوين من أدناهما … شبها بوالده، فذاك الماجد أين الخدود من العيون نفاسة … ورئاسة، لولا القياس الفاسد وترتيب الصنعة في هذه القطعة، أنه عمل أوّلا على قلب طرفي التشبيه، كما مضى في فصل التشبيهات، فشبّه حمرة الورد بحمرة الخجل، ثم تناسى ذلك وخدع عنه نفسه، وحملها على أن تعتقد أنه خجل على الحقيقة. ثم لما اطمأنّ ذلك في قلبه واستحكمت صورته، طلب لذلك الخجل علّة، فجعل علّته أن فضّل على النرجس، ووضع في منزلة ليس يرى نفسه أهلا لها، فصار ينوب (¬1) من ذلك، ويتخوّف عيب العائب، وغميزة المستهزئ. ويجد ما يجد من مدح مدحة يظهر الكذب فيها ويفرط، حتى تصير كالهزء بمن قصد بها. ثم زادته الفطنة الثاقبة والطبع المثمر في سحر البيان، ما رأيت من وضع حجاج في شأن النرجس، وجهة استحقاقه الفضل على الورد، فجاء بحسن وإحسان لا تكاد تجد مثله إلّا له. ومما هو خليق أن يوضع في منزلة هذه القطع، ويلحق بها في لطف الصنعة، قول أبي هلال العسكري: [من الكامل] زعم البنفسج أنّه كعذاره … حسنا، فسلّوا من قفاه لسانه لم يظلموا في الحكم إذ مثلوا به، … فلشدّ ما رفع البنفسج شانه (¬2) وقد اتفق للمتأخرين من المحدثين في هذا الفن نكت ولطائف، وبدع وظرائف، لا يستكثر لها الكثير من الثّناء، ولا يضيق مكانها من الفضل عن سعة الإطراء، فمن ذلك قول ابن نباتة في صفة الفرس: [من الوافر] وأدهم يستمدّ الليل منه … وتطلع بين عينيه الثّريّا سرى خلف الصّباح يطير مشيا … ويطوي خلفه الأفلاك طيّا فلمّا خاف وشك الفوت منه … تشبّث بالقوائم والمحيّا وأحسن من هذا وأحكم صنعة قوله في قطعة أخرى: [من الكامل] فكأنما لطم الصباح جبينه … فاقتصّ منه وخاض في أحشائه ¬

_ (¬1) ينوب: يرجع إلى نفسه. (¬2) مثل به: من باب نصر أي: نكل به.

وأول القطعة (¬1): قد جاءنا الطّرف الذي أهديته … هاديه يعقد أرضه بسمائه (¬2) أولاية ولّيتنا فبعثته … رمحا سبيب العرف عقد لوائه (¬3) نختال منه على أغرّ محجّل … ماء الدّياجي قطرة من مائه (¬4) وكأنما لطم الصّباح جبينه … فاقتصّ منه وخاض في أحشائه متمهّلا والبرق من أسمائه، … متبرقعا والحسن من أكفائه ما كانت النّيران يكمن حرّها … لو كان للنّيران بعض ذكائه لا تعلق الألحاظ في أعطافه … إلّا إذا كفكفت من غلوائه لا يكمل الطرف المحاسن كلّها … حتّى يكون الطّرف من أسرائه (¬5) ومما له في التفضيل الفضل الظاهر لحسن الإبداع، مع السلامة من التكلّف، قوله (¬6): [من الطويل] كأنّ بها من شدة الجري جنّة … وقد ألبستهنّ الرّياح سلاسلا ¬

_ (¬1) القطعتان في فرس أدهم أغر محجل حمله عليه سيف الدولة جعل غرته أثر لطمة من الصباح على جبينه وتحجيله من خوض قوائمه الأربع في أحشاء الصباح. وقد ترك المصنف البيت الأول وهو: يا أيها الملك الذي أخلاقه … من خلقه ورواؤه من رائه أي: أخلاقه مخلوقة له ورواؤه ومنظره من رأيه. وبعبارة أخرى هو في خلقه وخلقه كأنه كون نفسه وخلقها كما يرى ويحب من الكمال. (¬2) الطرف: الكريم بالكسر من الخيل والكريم الأطراف من الآباء والأمهات والهادي العنق يغلو في وصفه بالطول. (¬3) العرف: بالضم شعر رقبة الفرس الذي ينبت في محدبها والسبيب: الخصلة من الشعر شبهه على عنقه الطويل بالراية على الرمح. (¬4) في نسختي الكتاب (نختل) وفي نسخة من الديوان (نختال) وهي أظهر. (¬5) كنت في الطبعة الأولى ضبطت «الطرف» الأول من البيت بالكسر والثاني بالفتح بمعنى أن الجواد الكريم لا تكمل محاسنه حتى يأسر طرف الناظر إليه، فلا يستطيع أن يتحول عنه، وقد عكس شيخنا الضبط في نسخة الدرس فضبط الأول بالفتح والثاني بالكسر ولم يظهر لي جعل الجواد: أسيرا للطرف كعكسه فتأمله (رشيد). (¬6) (رشيد) هكذا وجدنا البيت في النسختين محرفا ناقصا وقد أتمه شيخنا في الدرس بقوله: وماء على الرضراض يجري كأنه … أفاع عراها الذعر تطلب موئلا وكتب بإزائه في حاشية نسخته: أتممت البيت على البيت كاملا أن يفيدنا بما وجد. والرضراض ما دق من الحصى قال: يبدو له الداء الخفي كما بدا … للعين رضراض الغدير الصافي

وإنما ساعده التوفيق، من حيث وطّئ له من قبل الطريق، فسبق العرف بتشبيه الحبك على صفحات الغدران بحلق الدروع، فتدرّج من ذلك إلى أن جعلها سلاسل، كما فعل ابن المعتزّ في قوله: [من الطويل] وأنهار ماء كالسلاسل فجرّت … لترضع أولاد الرياحين والزهر ثم أتمّ الحذق بأن جعل للماء صفة تقتضي أن يسلسل، وقرب مأخذ ما حاول عليه، فإن شدة الحركة وفرط سرعتها من صفات الجنون، كما أن التمهّل فيها والتأنّي من أوصاف العقل. ومن هذا الجنس قول ابن المعتزّ في السيف، في أبيات قالها في الموفّق، وهي: [من السريع] وفارس أغمد في جنّة … تقطّع السيف إذا ما ورد كأنها ماء عليه جرى … حتى إذا ما غاب فيه جمد في كفّه عضب إذا هزّه … حسبته من خوفه يرتعد فقد أراد أن يخترع لهزّة السيف علّة، فجعلها رعدة تناله من خوف الممدوح وهيبته. ويشبه أن يكون ابن بابك نظر إلى هذا البيت وعلّق منه الرعدة في قوله: [من المتقارب] فإن عجمتني نيوب الخطوب … وأوهى الزمان قوى منّتي فما اضطرب السيف من خيفة، … ولا أرعد الرمح من قرّة إلا أنه ذهب بها في أسلوب آخر، وقصد إلى أن يقول: إنّ كون حركات الرمح في ظاهر حركة المرتعد، لا يوجب أن يكون ذلك من آفة وعارض، وكأنه عكس القضيّة فأبى أن تكون صفة المرتعد في الرمح للعلل التي لمثلها تكون في الحيوان. وأمّا ابن المعتزّ فحقّق كونها في السيف على حقيقة العلّة التي لها تكون في الحيوان، فاعرفه. وقد أعاد هذا الارتعاد على الجملة التي وصفت لك، فقال: [من السريع] قالوا: طواه حزنه فانحنى … فقلت، والشكّ عدوّ اليقين ما هيف النّرجس من صبوة … ولا الضنى في صفرة الياسمين

ولا ارتعاد السّيف من قرّة … ولا انعطاف الرمح من فرط لين ومما حقّه أن يكون طرازا في هذا النوع قول البحتري: [من الخفيف] يتعثّرن في النّحور وفي الأو … جه سكرا لمّا شربن الدماء جعل فعل الطاعن بالرماح تعثّرا منها، كما جعل ابن المعتزّ تحريكه للسيف وهزّه له ارتعادا، ثم طلب للتعثّر علّة، كما طلب هو للارتعاد، فاعرفه. ومن هذا الباب قول علبة: [من الخفيف] وكأن السّماء صاهرت الأر … ض فصار النّثار من كافور وقول أبي تمام: [من الطويل] كأنّ السحاب الغرّ غيّبن تحتها … حبيبا فما ترقا لهنّ مدامع وقول السريّ يصف الهلال: [من المنسرح] جاءك شهر السّرور شوّال … وغال شهر الصّيام مغتال ثم قال: كأنه قيد فضّة حرج … فضّ عن الصائمين فاختالوا كل واحد من هؤلاء قد خدع نفسه عن التشبيه وغالطها، وأوهم أن الذي جرى العرف بأن يؤخذ منه الشّبه قد حضر وحصل بحضرتهم على الحقيقة، ولم يقتصر على دعوى حصوله حتى نصب له علّة، وأقام عليه شاهدا. فأثبت علبة زفافا بين السماء والأرض، وجعل أبو تمام للسحاب حبيبا قد غيّب في التراب، وادّعى السريّ أن الصائمين كانوا في قيد، وأنه كان حرجا، فلما فضّ عنهم انكسر بنصفين، أو اتسع فصار على شكل الهلال. والفرق بين بيت السريّ وبيتي الطائيّين، أن تشبيه الثلج بالكافور معتاد عامّيّ جار على الألسن، وجعل القطر الذي ينزل من السحاب دموعا، ووصف السحاب والسماء بأنها تبكي، كذلك، فأمّا تشبيه الهلال بالقيد فغير معتاد نفسه إلّا أنّ نظيره معتاد، ومعناه من حيث الصورة موجود، وأعني بالنظير ما مضى من تشبيه الهلال بالسّوار المنفصم، كما قال: [من الرمل] حاكيا نصف سوار … من نضار يتوقّد وكما قال السري نفسه: [من الوافر] ولاح لنا الهلال كشطر طوق … على لبّات زرقاء اللباس

إلا أنه ساذج لا تعليل فيه يجب من أجله أن يكون سوارا أو طوقا، فاعرفه. ورأيت بعضهم ذكر بيت السريّ الذي هو: كأنّه قيد فضّة حرج مع أبيات شعر جمعه إليها، أنشد قطعة ابن الحجاج (¬1): [من الكامل] يا صاحب البيت الّذي … قد مات ضيفاه جميعا ما لي أرى فلك الرّغي … ف لديك مشترفا رفيعا كالبدر لا نرجو إلى … وقت المساء له طلوعا ثم قال: إنّه شبّه الرغيف بالبدر، لعلّتين: إحداهما: الاستدارة، والثانية: طلوعه مساء، قال: وخير التشبيه ما جمع معنيين، كقول ابن الرومي (¬2): [من مجزوء الرمل] يا شبيه البدر في الحس … ن وفي بعد المنال جد فقد تنفجر الصّ … خرة بالماء الزّلال وأنشد أيضا لإبراهيم بن المهدي (¬3): [من الكامل] ورحمت أطفالا كأفراخ القطا … وحنين والهة كقوس النّازع ثم قال: ومثله قول السّري: كأنه قيد فضّة حرج وهو لا يشبه ما ذكره، إلا أن يذهب إلى حديث أنه أفاد شكل الهلال بالقيد المفضوض، ولونه بالفضة، فأمّا إن قصد النكتة التي هي موضع الإغراب، فلا يستقيم الجمع بينه وبين ما أنشد، لأن شيئا من تلك الأبيات لا يتضمّن تعليلا، وليس فيها أكثر من ضمّ شبه إلى شبه، كالحنين والانحناء من القوس، والاستدارة والطلوع مساء من البدر، وليس أحد المعنيين بعلّة للآخر، كيف؟ ولا حاجة بواحد من الشبهين المذكورين إلى تصحيح غيره له. ¬

_ (¬1) الأبيات في اليتيمة. الفلك من كل شيء مستداره ومعظمه، فقد يطلق بجانب الرغيف بلا تشبيه، والمشترف: فاعل من اشترف إذا انتصف. (¬2) البيت في ديوان ابن الرومي في الإيضاح ص 231 تحقيق د. عبد الحميد هنداوي. (¬3) البيت لإبراهيم المهدي. وهو من قصيدة يعتذر فيها للمأمون عما بدر منه، ويستعطفه. ومطلعها: يا خير من ذملت يمانية به … بعد الرسول لآيس أو طامع والنزعة: ج النازع، الرماة، ومن أمثالهم عاد السهم إلى النزعة، أي: رجع الحق أو الأمر إلى أهله.

ومما هو نظير لبيت السريّ وعلى طريقة قول ابن المعتزّ (¬1): [من المتقارب] سقاني وقد سلّ سيف الصبا … ح، والليل من خوفه قد هرب لم يقنع هاهنا بالتشبيه الظّاهر والقول المرسل، كما اقتصر في قوله (¬2): [من السريع] حتى بدا الصباح من نقاب … كما بدا المنصل من قراب وقوله (¬3): [من الكامل] أمّا الظلام فحين رقّ قميصه … وأتى بياض الصّبح كالسّيف الصّدي ولكنه أحبّ أن يحقّق دعواه أنّ هناك سيفا مسلولا، ويجعل نفسه كأنها لا تعلم أن هاهنا تشبيها، وأنّ القصد إلى لون البياض في الشكل المستطيل، فتوصّل إلى ذلك بأن جعل الظّلام كالعدوّ المنهزم الذي سلّ السّيف في قفاه، فهو يهرب مخافة أن يضرب به. ومثل هذا في أن جعل الليل يخاف الصبح، لا في الصنعة التي أنا في سياقها، قوله: [من الطويل] سبقنا إليها الصّبح وهو مقنّع … كمين، وقلب اللّيل منه على حذر وقد أخذ الخالديّ بيته الأوّل أخذا، فقال: [من المنسرح] والصّبح قد جرّدت صوارمه … والليل قد همّ منه بالهرب وهذه قطعة لابن المعتزّ، بيت منها هو المقصود: [من الكامل] وانظر إلى دنيا ربيع أقبلت … مثل البغيّ تبرّجت لزناة جاءتك زائرة كعام أوّل … وتلبّست وتعطّرت بنبات وإذا تعرّى الصبح من كافوره … نطقت صنوف طيورها بلغات والورد يضحك من نواظر نرجس … قذيت، وآذن حيّها بممات هذا البيت الأخير هو المراد، وذلك أن الضحك في الورد وكلّ ريحان ونور يتفتّح، مشهور معروف، وقد علّله في هذا البيت، وجعل الورد كأنه يعقل ويميّز، ¬

_ (¬1) البيت لابن المعتز في ديوانه ص 64 في قصيدة له بعنوان «الحلو الكذاب» ومطلعها: وحلو الدلال مليح الغضب … يشوب مواعيده بالكذب (¬2) البيت في ديوان ابن المعتز. (¬3) البيت لابن المعتز في ديوانه ص 379. والبيت من مقطوعة له بعنوان «حان الصباح» ومطلعها: قم يا نديمي من منامك واقعد … حان الصباح ومقلتي لم ترقد

فهو يشمت بالنرجس لانقضاء مدّته وإدبار دولته، وبدوّ أمارات الفناء فيه، وأعاد هذا الضحك من الورد فقال: [من الخفيف] ضحك الورد في قفا المنثور … واسترحنا من رعدة المقرور أراد إقبال الصيف وحرّ الهواء، ألا تراه قال بعده: واستطبنا المقيل في برد ظلّ … وشممنا الرّيحان بالكافور فالرحيل الرحيل يا عسكر الل … ذّات عن كلّ روضة وغدير فهذا من شأن الورد الذي عابه به ابن الرومي في قوله: فصل القضية أن هذا قائد … زهر الرياض وأن هذا طارد وقد جعله ابن المعتز لهذا الطّرد ضاحكا ضحك من استولى وظفر وابتزّ غيره على ولاية الزّمان واستبدّ بها. ومما يشوب الضحك فيه شيء من التّعليل قوله أيضا: [من الكامل] مات الهوى منّي وضاع شبابي … وقضيت من لذّاته آرابي وإذا أردت تصابيا في مجلس … فالشّيب يضحك بي مع الأحباب لا شكّ أن لهذا الضحك زيادة معنى ليست للضحك في نحو قول دعبل: [من الكامل] ضحك المشيب برأسه فبكى وما تلك الزيادة إلا أنه جعل المشيب يضحك ضحك المتعجّب من تعاطي الرجل ما لا يليق به، وتكلّفه الشيء ليس هو من أهله، وفي ذلك ما ذكرت من إخفاء صورة التشبيه، وأخذ النفس بتناسيه، وهكذا قوله: [من الرجز] لمّا رأونا في خميس يلتهب … في شارق يضحك من غير عجب كأنّه صبّ على الأرض ذهب … وقد بدت أسيافنا من القرب حتّى تكون لمناياهم سبب … نرفل في الحديد والأرض تجب وحنّ شريان ونبع فاصطخب … تترّسوا من القتال بالهرب المقصود قوله: «يضحك من غير عجب»، وذاك أنّ نفيه العلّة إشارة إلى أنه من جنس ما يعلّل، وأنّه ضحك قطعا وحقيقة. ألا ترى أنّك لو رجعت إلى صريح التشبيه

فصل نوع آخر في التعليل

فقلت: «هيئته في تلألؤه كهيئة الضاحك»، ثم قلت: «من غير عجب»، قلت قولا غير مقبول. واعلم أنك إن عددت قول بعض العرب: [من الرجز] ونثرة تهزأ بالنّصال … كأنّها من خلع الهلال الهلال الحيّة هاهنا، واللام للجنس في هذا القبيل، لم يكن لك ذلك. فصل نوع آخر في التعليل وهذا نوع آخر في التعليل وهو أن يكون للمعنى من المعاني والفعل من الأفعال علّة مشهورة من طريق العادات والطباع، ثم يجيء الشاعر فيمنع أن تكون لتلك المعروفة، ويضع له علّة أخرى. مثاله قول المتنبي: [من الرمل] ما به قتل أعاديه ولكن … يتّقي إخلاف ما ترجو الذئاب الذي يتعارفه الناس أن الرجل إذا قتل أعاديه فلإرادته هلاكهم، وأن يدفع مضارّهم عن نفسه، وليسلم ملكه ويصفو من منازعاتهم، وقد ادّعى المتنبي كما ترى أن العلة في قتل هذا الممدوح لأعدائه غير ذلك. واعلم أن هذا لا يكون حتى يكون في استئناف هذه العلّة المدّعاة فائدة شريفة فيما يتصل بالممدوح، أو يكون لها تأثير في الذمّ، كقصد المتنبي هاهنا في أن يبالغ في وصفه بالسّخاء والجود، وأنّ طبيعة الكرم قد غلبت عليه، ومحبّته أن يصدّق رجاء الراجين، وأن يجنّبهم الخيبة في آمالهم، قد بلغت به هذا الحدّ. فلما علم أنه إذا غدا للحرب غدت الذئاب تتوقّع أن يتسع عليها الرزق، ويخصب لها الوقت من قتلى عداه، كره أن يخلفها، وأن يخيّب رجاءها ولا يسعفها. وفيه نوع آخر من المدح، وهو أنه يهزم العدى ويكسرهم كسرا لا يطمعون بعده في المعاودة، فيستغني بذلك عن قتلهم وإراقة دمائهم، وأنه ليس ممن يسرف في القتل طاعة للغيظ والحنق، ولا يعفو إذا قدر، وما يشبه هذه الأوصاف الحميدة، فاعرفه. ومن الغريب في هذا الجنس على تعمّق فيه، قول أبي طالب المأموني في قصيدة يمدح بها بعض الوزراء ببخارى: [من الخفيف] مغرم بالثناء، صبّ بكسب ال … مجد، يهتزّ للسّماح ارتياحا

لا يذوق الإغفاء إلّا رجاء … أن يرى طيف مستميح رواحا وكأنه شرط الرّواح على معنى أن العفاة والرّاجين إنّما يحضرونه في صدر النهار على عادة السلاطين. فإذا كان الرواح ونحوه من الأوقات التي ليست من أوقات الإذن قلّوا، فهو يشتاق إليهم فينام ليأنس برؤية طيفهم. والإفراط في التعمّق ربما أخلّ بالمعنى من حيث يراد تأكيده به، ألا ترى أن هذا الكلام قد يوهم أنه يحتجّ له أنه ممن لا يرغب كل واحد في أخذ عطائه، وأنه ليس في طبقة من قيل فيه: [من الطويل] عطاؤك زين لامرئ إن أصبته … بخير، وما كلّ العطاء يزين وممّا يدفع عنه الاعتراض ويوجب قلّة الاحتفال به، أن الشاعر يهمّه أبدا إثبات ممدوحه جوادا أو توّاقا إلى السّؤّال فرحا بهم، وأن يبرّئه من عبوس البخيل وقطوب المتكلّف في البذل، الذي يقاتل نفسه عن ماله حتى يقال: «جواد»، ومن يهوى الثّناء والثّراء معا، ولا يتمكّن في نفسه معنى قول أبي تمام: [من الطويل] ولم يجتمع شرق وغرب لقاصد … ولا المجد في كفّ امرئ والدراهم فهو يسرع إلى استماع المدائح، ويبطئ عن صلة المادح. نعم، فإذا سلّم للشاعر هذا الغرض، لم يفكر في خطرات الظنون. وقد يجوز شيء من الوهم الذي ذكرته على قول المتنبي: [من البسيط] يعطي المبشّر بالقصّاد قبلهم … كمن يبشّره بالماء عطشانا وهذا شيء عرض، ولاستقصائه موضع آخر، إن وفّق الله. وأصل بيت «الطيف المستميح»، من نحو قوله: [من الطويل] وإنّي لأستغشي وما بي نعسة … لعل خيالا منك يلقى خياليا وهذا الأصل غير بعيد أن يكون أيضا من باب ما استؤنف له علّة غير معروفة، إلّا أنه لا يبلغ في القوة ذلك المبلغ في الغرابة والبعد من العادة، وذلك أنه قد يتصوّر أن يريد المغرم المتيّم، إذا بعد عهده بحبيبه، أن يراه في المنام، وإذا أراد ذلك جاز أن يريد النوم له خاصّة، فاعرفه. ومما يلحق بهذا الفصل قوله (¬1): [من الكامل] رحل العزاء برحلتي فكأنني … أتبعته الأنفاس للتشييع ¬

_ (¬1) البيت للمتنبي في ديوانه ص 83. وفي الإيضاح تحقيق د. عبد الحميد هنداوي ص 324، وفي التبيان 1/ 436 وفيه «كما لا ترجع إلى أنفاسي لا يرجع إلي صبري فمعناه ارتحل الصبر عني بارتحالكم».

وذلك أنه علّل تصعّد الأنفاس من صدره بهذه العلة الغريبة، وترك ما هو المعلوم المشهور من السبب والعلة فيه، وهو التحسّر والتأسّف. والمعنى: رحل عنّي العزاء بارتحالي عنكم، أي: عنده ومعه أو به وبسببه، فكأنه لما كان محلّ الصبر الصّدر، وكانت الأنفاس تتصعّد منه أيضا، صار العزاء وتنفّس الصّعداء كأنهما نزيلان ورفيقان، فلما رحل ذاك، كان حقّ هذا أن يشيّعه قضاء لحق الصّحبة. ومما يلاحظ هذا النوع، يجري في مسلكه وينتظم في سلكه، قول ابن المعتز (¬1): [من المنسرح] عاقبت عيني بالدّمع والسّهر … إذ غار قلبي عليك من بصري واحتملت ذاك وهي رابحة … فيك، وفازت بلذّة النّظر وذاك أن العادة في دمع العين وسهرها أن يكون السبب فيه إعراض الحبيب، أو اعتراض الرقيب، ونحو ذلك من الأسباب الموجبة للاكتئاب. وقد ترك ذلك كله كما ترى، وادّعى أن العلة ما ذكره من غيرة القلب منها على الحبيب وإيثاره أن يتفرّد برؤيته، وأنه بطاعة القلب وامتثال رسمه، رام للعين عقوبة، فجعل ذاك أن أبكاها، ومنعها النوم وحماها. وله أيضا في عقوبة العين بالدّمع والسهر، من قصيدة أوّلها (¬2): [من الخفيف] قل لأحلى العباد شكلا وقدّا … أبجدّ ذا الهجر أم ليس جدّا ما بذا كانت المنى حدّثتني … لهف نفسي أراك قد خنت ودّا ما ترى في متيّم بك صبّ … خاضع لا يرى من الذلّ بدّا إن زنت عينه بغيرك فاضرب … ها بطول السهاد والدّمع حدّا قد جعل البكاء والسهاد عقوبة على ذنب أثبته للعين، كما فعل في البيت الأول، إلا أنّ صورة الذنب هاهنا غير صورته هناك. فالذنب هاهنا نظرها إلى غير الحبيب، واستجازتها من ذلك ما هو محرّم محظور والذنب هناك نظرها إلى الحبيب ¬

_ (¬1) البيت ليس في ديوان الشاعر. (¬2) الشّكل بالكسر: غنج المرأة وغزلها وحسن دلّها أي: تدللها على زوجها، وذلك أن تريه جراءة عليه في تغنّج وتشكل كأنها تخالفه وليس بها خلاف، وقال ابن الأثير: دلها حسن هيئتها وحديثها. وكل هذا يتحمله المعنى راجع لسان العرب 2/ 1413، 4/ 2312. وقال أبو فهر: «هو في ديوانه» ولم أجده.

نفسه، ومزاحمتها القلب في رؤيته، وغيرة القلب من العين سبب العقوبة هناك، فأمّا هاهنا فالغيرة كائنة بين الحبيب وبين شخص آخر، فاعرفه. ولا شبهة في قصور البيت الثاني عن الأول، وأنّ للأوّل عليه فضلا كبيرا، وذلك بأن جعل بعضه يغار من بعض، وجعل الخصومة في الحبيب بين عينيه وقلبه، وهو تمام الظّرف واللطف. فأمّا الغيرة في البيت الآخر، فعلى ما يكون أبدا. هذا، ولفظ «زنت»، وإن كان ما يتلوها من أحكام الصنعة يحسّنها، وورودها في الخبر «العين تزني»، ويؤنس بها، فليست تدع ما هو حكمها من إدخال نفرة على النفس. وإن أردت أن ترى هذا المعنى بهذه الصنعة في أعجب صورة وأظرفها، فانظر إلى قول القائل (¬1): [من المتقارب] أتتني تؤنّبني بالبكا … فأهلا بها وبتأنيبها تقول، في قولها حشمة: … أتبكي بعين تراني بها؟ فقلت: إذا استحسنت غيركم … أمرت الدّموع بتأديبها أعطاك بلفظة التأديب، حسن أدب اللبيب، في صيانة اللّفظ عما يحوج إلى الاعتذار، ويؤدّي إلى النّفار، إلا أن الأستاذية بعد ظاهرة في بيت ابن المعتز. وليس كل فضيلة تبدو مع البديهة، بل بعقب النّظر والرويّة، وبأن يفكّر في أول الحديث وآخره. وأنت تعلم أنه لا يكون أبلغ في الذي أراد من تعظيم شأن الذنب، من ذكر الحدّ، وأنّ ذلك لا يتمّ له إلّا بلفظة «زنت»، ومن هذه الجهة يلحق الضّيم كثيرا من شأنه وطريقه طريق أبي تمام، ولم يكن من المطبوعين. وموضع البسط في ذلك غير هذا، فغرضي الآن أن أريك أنواعا من التخييل، وأضع شبه القوانين ليستعان بها على ما يراد بعد من التفصيل والتبيين. ¬

_ (¬1) في البيت الثاني الواو ساقطة والصواب «تقول وفي» وذكر أبو فهر أن الأبيات في معاهد التنصيص: 376، ولبعضهم بلا نسبة. وفي رواية وقالت بدل تقول، وفي رواية أخرى: أما تستحي يا قليل الوفاء … أتبكي بعين تراني بها وتنسب الأبيات في «أزهار الرياض» لابن العربي، ولكنها أقدم منه، وذلك لأنها من شواهد عبد القاهر، وأبي هلال، وهما قبله، وينسبها شارح شواهد الإيضاح لابن المعتز، راجع نفح الطيب.

فصل في تخييل بغير تعليل

فصل في تخييل بغير تعليل وهذا نوع آخر من التخييل، وهو يرجع إلى ما مضى من تناسي التّشبيه وصرف النفس عن توهّمه، إلا أنّ ما مضى معلّل، وهذا غير معلّل. بيان ذلك أنهم يستعيرون الصّفة المحسوسة من صفات الأشخاص للأوصاف المعقولة، ثم تراهم كأنهم قد وجدوا تلك الصفة بعينها، وأدركوها بأعينهم على حقيقتها، وكأنّ حديث الاستعارة والقياس لم يجر منهم على بال، ولم يروه ولا طيف خيال. ومثاله استعارتهم «العلوّ» لزيادة الرجل على غيره في الفضل والقدر والسلطان، ثم وضعهم الكلام وضع من يذكر علوا من طريق المكان. ألا ترى إلى قول أبي تمام (¬1): [من المتقارب] ويصعد حتّى يظنّ الجهول … بأنّ له حاجة في السماء فلولا قصده أن ينسي الشبيه ويرفعه بجهده، ويصمّم على إنكاره وجحده، فيجعله صاعدا في السماء من حيث المسافة المكانية، لما كان لهذا الكلام وجه. ومن أبلغ ما يكون في هذا المعنى قول ابن الرومي (¬2): [من الخفيف] أعلم الناس بالنجوم بنو نو … بخت علما لم يأتهم بالحساب بل بأن شاهدوا السّماء سموّا … بترقّ في المكرمات الصّعاب مبلغ لم يكن ليبلغه الطا … لب إلّا بتلكم الأسباب ¬

_ (¬1) البيت لأبي تمام، وفي الديوان رواية أخرى ص 335: ويصعد حتى يظنّ الجهول … أن له منزلا في السماء وأورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص 138 وعزاه لأبي تمام، والرازي في نهاية الإيجاز ص 252، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص 225، والقزويني في الإيضاح ص 434. وراجع مفتاح العلوم بتحقيقنا ص 494. (¬2) في البيت الثاني خطأ «بل بأن شاهدوا السما سمرا» وصوابه «بل بأن شاهدوا السماء سموا» أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص 139 وعزاه لابن الرومي. وآل نوبخت أسرة اشتغلت بعلم الفلك والنجوم في العصر العباسي.

وأعاده في موضع آخر، فزاد الدعوى قوّة، ومرّ فيها مرور من يقول صدقا ويذكر حقّا (¬1): [من المنسرح] يا آل نوبخت لا عدمتكم … ولا تبدّلت بعدكم بدلا إن صحّ علم النجوم، كان لكم … حقّا، إذا ما سواكم انتحلا كم عالم فيكم وليس بأن … قاس، ولكن بأن رقي فعلا أعلاكم في السماء مجدكم … فلستم تجهلون ما جهلا شافهتم البدر بالسّؤال عن ال … أمر إلى أن بلغتم زحلا وهكذا الحكم إذا استعاروا اسم الشيء بعينه من نحو شمس أو بدر أو بحر أو أسد، فإنهم يبلغون به هذا الحدّ، ويصوغون الكلام صياغات تقضي بأن لا تشبيه هناك ولا استعارة، مثاله قوله (¬2): [من الكامل] قامت تظلّلني من الشمس … نفس أعزّ عليّ من نفسي قامت تظلّلني ومن عجب … شمس تظلّلني من الشّمس فلولا أنه أنسى نفسه أن هاهنا استعارة ومجازا من القول، وعمل على دعوى شمس على الحقيقة، لما كان لهذا التعجّب معنى، فليس ببدع ولا منكر أن يظلّل إنسان حسن الوجه إنسانا ويقيه وهجا بشخصه. وهكذا قول البحتري (¬3): [من الطويل] طلعت لهم وقت الشّروق فعاينوا … سنا الشّمس من أفق ووجهك من أفق وما عاينوا شمسين قبلهما التقى … ضياؤهما وفقا، من الغرب والشّرق معلوم أن القصد أن يخرج السامعين إلى التعجّب لرؤية ما لم يروه قط، ولم تجر العادة به. ولم يتمّ للتعجّب معناه الذي عناه، ولا تظهر صورته على وصفها الخاصّ، حتى يجترئ على الدّعوى جرأة من لا يتوقف ولا يخشى إنكار منكر، ولا يحفل بتكذيب الظاهر له، ويسوم النفس، شاءت أم أبت، تصوّر شمس ثانية طلعت من ¬

_ (¬1) أورده القزويني في الإيضاح ص 434 وعزاه لابن الرومي، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات، وراجع مفتاح العلوم بتحقيقنا ص 495. (¬2) قال عنها أبو فهر: «هما لابن العميد في يتيمة الدهر 3/ 16 مع اختلاف في اللفظ، وهي أربعة أبيات في معاهد التنصيص ص 231» راجع الإشارات ص 210، ونهاية الإيجاز ص 252، والإيضاح للقزويني ص 415، والتبيان 1/ 298 بتحقيقنا. (¬3) راجع ديوان البحتري، «ضياؤهما بالياء المثناة.

حيث تغرب الشمس، فالتقتا وفقا، وصار غرب تلك القديمة لهذه المتجددة شرقا. ومدار هذا النوع في الغالب على التعجّب، وهو والي أمره، وصانع سحره، وصاحب سرّه، وتراه أبدا وقد أفضى بك إلى خلابة لم تكن عندك، وبرز لك في صورة ما حسبتها تظهر لك، ألا ترى أن صورة قوله: «شمس تظللني من الشمس»، غير صورة قوله: «وما عاينوا شمسين»، وإن اتّفق الشعران في أنهما يتعجّبان من وجود الشيء على خلاف ما يعقل ويعرف. وهكذا قول المتنبي (¬1): [من الكامل] كبّرت حول ديارهم لمّا بدت … منها الشّموس وليس فيها المشرق له صورة غير صورة الأوّلين وكذا قوله (¬2): [من الطويل] ولم أر قبلي من مشى البدر نحوه … ولا رجلا قامت تعانقه الأسد يعرض صورة غير تلك الصّور كلها، والاشتراك بينها عامّيّ لا يدخل في السّرقة، إذ لا اتّفاق بأكثر من أن أثبت الشيء في جميع ذلك على خلاف ما يعرفه الناس. فأمّا إذا جئت إلى خصوص ما يخرج به عن المتعارف، فلا اتفاق ولا تناسب، لأن مكان الأعجوبة مرّة أن تظلل شمس من الشمس، وأخرى أن يرى للشمس مثل لا يطلع من الغرب عند طلوعها من الشرق، وثالثة أن ترى الشموس طالعة من ديارهم. وعلى هذا الحد قوله: «ولم أر قبلي من مشى البدر نحوه»، العجب من أن يمشي البدر إلى آدميّ، وتعانق الأسد رجلا. واعلم أن في هذا النوع مذهبا هو كأنه عكس مذهب التعجب ونقيضه، وهو لطيف جدّا. وذلك أن ينظر إلى خاصيّة ومعنى دقيق يكون في المشبّه به، ثم يثبّت تلك الخاصيّة وذلك المعنى للمشبّه، ويتوصّل بذلك إلى إيهام أن التشبيه قد خرج ¬

_ (¬1) البيت للمتنبي. انظر ديوانه 1/ 72. (¬2) البيت للمتنبي. انظر ديوانه 1/ 244، وفي الديوان «البحر» بدل «البدر» والبيت مزدوج القصد فيصح مدحا للممدوح، ويصح مدحا من الشاعر لنفسه. راجع البيتين في الإيضاح بتحقيقنا ص 271.

من البين، وزال عن الوهم والعين أحسن توصّل وألطفه، ويقام منه شبه الحجّة على أن لا تشبيه ولا مجاز، ومثال قوله (¬1): [من المنسرح] لا تعجبوا من بلى غلالته … قد زرّ أزراره على القمر قد عمد، كما ترى، إلى شيء هو خاصية في طبيعة القمر، وأمر غريب من تأثيره، ثم جعل يرى أن قوما أنكروا بلى الكتّان بسرعة، وأنه قد أخذ ينهاهم عن التعجّب من ذلك ويقول: «أما ترونه قد زرّ أزراره على القمر، والقمر من شأنه أن يسرع بلى الكتان»، وغرضه بهذا كله أن يعلم أن لا شكّ ولا مرية في أن المعاملة مع القمر نفسه، وأن الحديث عنه بعينه، وليس في البين شيء غيره، وأن التشبيه قد نسي وأنسي، وصار كما يقول الشيخ أبو عليّ فيما يتعلق به الظرف: «إنّه شريعة منسوخة». وهذا موضع في غاية اللّطف، لا يبين إلا إذا كان المتصفّح للكلام حسّاسا، يعرف وحي طبع الشعر، وخفيّ حركته التي هي كالخلس، وكمسرى النّفس في النّفس. وإن أردت أن تظهر لك صحّة عزيمتهم في هذا النحو على إخفاء التشبيه ومحو صورته من الوهم، فأبرز صفة التّشبيه، واكشف عن وجهه، وقل: «لا تعجبوا من بلى غلالته، فقد زرّ أزراره على من حسنه حسن القمر»، ثم انظر هل ترى إلّا كلاما فاترا ومعنى نازلا، واخبر نفسك هل تجد ما كنت تجده من الأريحيّة؟ وانظر في أعين السامعين هل ترى ما كنت تراه من ترجمة عن المسرّة، ودلالة على الإعجاب؟ ومن أين ذلك وأنّى وأنت بإظهار التشبيه تبطل على نفسك ما له وضع البيت من الاحتجاج على وجوب البلى في الغلالة، والمنع من العجب فيه بتقرير الدّلالة؟ وقد قال آخر في هذا المعنى بعينه، إلّا أن لفظه لا ينبئ عن القوة التي لهذا البيت في دعوى القمر، وهو قوله: [من البسيط] ترى الثّياب من الكتّان يلمحها … نور من البدر أحيانا فيبليها فكيف تنكر أن تبلى معاجرها، … والبدر في كل وقت طالع فيها (¬2) ¬

_ (¬1) قال أبو فهر معلقا عليه: «نسبه صاحب معاهد التنصيص ص 237 لأبي حسن بن طباطبا العلوي أحد ثلاثة أبيات» والغلالة: الثوب الذي يلبس تحت الثياب، وغلّل الغلالة: لبسها تحت ثيابه. راجع لسان العرب 5/ 3287، ونهاية الإيجاز ص 253، والمصباح ص 129. (¬2) قال أبو فهر معلقا عليه: «هو في يتيمة الدهر 1/ 74 لأبي المطاع ذي القرنين بن ناصر الدولة الحمداني، والمعاجر جمع معجر وهو ثوب تلفه المرأة على رأسها من غير إدارة تحت الحنك ثم تجلبب فوقه بجلبابها». راجع لسان العرب 4/ 2817، والمصباح 129، والإشارات للجرجاني ص 210.

ومما ينظر إلى قوله: «قد زرّ أزراره على القمر»، في أنه بلغ بدعواه في المجاز حقيقة، مبلغ الاحتجاج به كما يحتجّ بالحقيقة، قول العبّاس بن الأحنف (¬1): [من المتقارب] هي الشّمس مسكنها في السماء … فعزّ الفؤاد عزاء جميلا فلن تستطيع إليها الصّعود … ولن تستطيع إليك النزولا صورة هذا الكلام ونصبته والقالب الذي فيه أفرغ، يقتضي أن التشبيه لم يجر في خلده، وأنه معه كما يقال: «لست منه وليس منّي»، وأن الأمر في ذلك قد بلغ مبلغا لا حاجة معه إلى إقامة دليل وتصحيح دعوى، بل هو في الصّحّة والصدق بحيث تصحّح به دعوى ثابتة. ألا تراه كأنه يقول للنفس: «ما وجه الطمع في الوصول وقد علمت أن حديثك مع الشمس، ومسكن الشمس السماء؟» أفلا تراه قد جعل كونها الشّمس حجّة له على نفسه، يصرفها بها عن أن ترجو الوصول إليها، ويلجئها إلى العزاء، وردّها في ذلك إلى ما لا تشكّ فيه، وهو مستقرّ ثابت، كما تقول: «أو ما علمت ذلك؟» و «أليس قد علمت؟»، ويبيّن لك هذا التفسير والتقرير فضل بيان بأن تقابل هذا البيت بقول الآخر (¬2): [من الطويل] فقلت لأصحابي: هي الشمس ضوؤها … قريب، ولكن في تناولها بعد وتتأمّل أمر التشبيه فيه، فإنك تجده على خلاف ما وصفت لك. وذلك أنه في قوله: «فقلت لأصحابي هي الشمس»، غير قاصد أن يجعل كونها الشمس حجّة على ما ذكر بعد، من قرب شخصها ومثالها في العين، مع بعد منالها بل قال: «هي الشمس»، وهكذا قولا مرسلا يومئ فيه بل يفصح بالتشبيه، ولم يرد أن يقول: «لا تعجبوا أن تقرب وتبعد بعد أن علمتم أنها الشمس»، حتى كأنه يقول: «ما وجه شكّكم في ذلك؟»، ولم يشكّ عاقل في أن الشمس كذلك، كما أراد العباس أن يقول: كيف الطمع في الوصول إليها مع علمك بأنها الشمس، وأن الشمس مسكنها السماء. فبيت ابن أبي عيينة في أن لم ينصرف عن التشبيه جملة، ولم يبرز في ¬

_ (¬1) البيتان للعباس بن الأحنف. راجع ديوانه ص 221، والمصباح ص 139، والإيضاح بتحقيقنا ص 271، والإشارات للجرجاني ص 224. (¬2) البيت لمحمد بن أبي عيينة بن المهلب بن أبي صفرة، والبيت من أبيات له في الأغاني 20/ 105، في ترجمته وقبله: كوجدي غداة البين عند التفاتها … وقد شف عنها دون أترابها البرد

صورة الجاحد له والمتبرّئ منه، كبيت بشار الذي صرّح فيه بالتشبيه، وهو (¬1): [من الخفيف] أو كبدر السّماء، غير قريب … حين يوفي، والضوء فيه اقتراب وكبيت المتنبي (¬2): [من البسيط] كأنّها الشمس يعيي كفّ قابضه … شعاعها ويراه الطّرف مقتربا فإن قلت: فهذا من قولك يؤدّي إلى أن يكون الغرض من ذكر الشمس، بيان حال المرأة في القرب من وجه، والبعد من وجه آخر، دون المبالغة في وصفها بالحسن وإشراق الوجه. وهو خلاف المعتاد، لأن الذي يسبق إلى القلوب، أن يقصد من نحو قولنا: «هي كالشمس أو هي شمس»، الجمال والحسن والبهاء. فالجواب: إنّ الأمر وإن كان على ما قلت، فإنه في نحو هذه الأحوال التي قصد فيها إلى بيان أمر غير الحسن، يصير كالشيء الذي يعقل من طريق العرف، وعلى سبيل التّبع، فأما أن يكون الغرض الذي له وضع الكلام، فلا. وإذا تأمّلت قوله: «فقلت لأصحابي هي الشمس ضوؤها قريب»، وقول بشار: «أو كبدر السماء»، وقول المتنبي: «كأنها الشّمس»، علمت أنهم جعلوا جلّ غرضهم أن يصيبوا لها شبها في كونها قريبة بعيدة. فأما حديث الحسن، فدخل في القصد على الحدّ الذي مضى في قوله، وهو للعباس أيضا (¬3): [من الرمل] نعمة كالشّمس لمّا طلعت … بثّت الإشراق في كلّ بلد فكما أن هذا لم يضع كلامه لجعل النعم كالشمس في الضّياء والإشراق، ولكن عمّت كما تعمّ الشمس بإشراقها كذلك لم يضع هؤلاء أبياتهم على أن يجعلوا المرأة كالشمس والبدر في الحسن ونور الوجه، بل أمّوا نحو المعنى الآخر، ثم حصل هذا لهم من غير أن احتاجوا فيه إلى تجشّم. وإذا كان الأمر كذلك، فلم يقل إن ¬

_ (¬1) البيت في الديوان. (¬2) البيت في ديوان المتنبي 1/ 141، يعيي: يعجز، ضمير قابضه للشعاع، الطرف. النظر، الشعاع: فاعل يعيي وضميره مضاف إليه. والبيت من قصيدة مطلعها: دمع جرى فقضى في الربع ما وجبا … لأهله وشفى أنّي ولا كربا (¬3) علق عليه أبو فهر قائلا: هو في زيادات ديوان العباس بن الأحنف، وهو في الوساطة ص 201 منسوبا إليه، وفي المخطوطة ومطبوعة ريتر: «ثبت الإشراق، وفي مطبوعة رشيد رضا والوساطة ما أثبت».

النعمة إنما عمّت لأنها شمس، ولكن أراك لعمومها وشمولها قياسا، وتحرّى أن يكون ذلك القياس من شيء شريف له بالنعمة شبه من جهة أوصافه الخاصّة، فاختار الشمس. وكذلك لم يرد ابن أبي عيينة أن يقول إنها إنما دنت ونأت لأنها شمس، أو لأنها الشمس، بل قاس أمرها في ذلك كما عرّفتك. وأمّا العبّاس فإنه قال: إنها إنما كانت بحيث لا تنال، ووجب اليأس من الوصول إليها، لأجل أنها الشمس، فاعرفه فرقا واضحا. ومما هو على طريقة بيت العبّاس في الاحتجاج، وإن خالفه فيما أذكره لك، قول الصابئ في بعض الوزراء يهنّئه بالتخلّص من الاستتار (¬1): [من الخفيف] صحّ أنّ الوزير بدر منير … إذ توارى كما توارى البدور غاب، لا غاب، ثمّ عاد كما كا … ن على الأفق طالعا يستنير لا تسلني عن الوزير فقد بيّ … نت بالوصف أنه سابور لا خلا منه صدر دست، إذا ما … قرّ فيه تقرّ منه الصدور فهو كما نراه يحتجّ أن لا مجاز في البين، وأنّ ذكر البدر وتسمية الممدوح به حقيقة، واحتجاجه صريح لقوله: «صح» أنه كذلك. وأما احتجاج العبّاس وصاحبه في قوله: «قد زرّ أزراره على القمر»، فعلى طريق الفحوى. فهذا وجه الموافقة، وأما وجه المخالفة، فهو أنّهما ادّعيا الشّمس والقمر بأنفسهما، وادّعى الصابئ بدرا، لا البدر على الإطلاق. ومن ادّعاه الشمس على الإطلاق قول بشّار (¬2): [من الوافر] بعثت بذكرها شعري … وقدّمت الهوى شركا فلمّا شاقها قولي … وشبّ الحبّ فاحتنكا أتتني الشمس زائرة … ولم تك تبرح الفلكا وجدت العيش في سعدى … وكان العيش قد هلكا فقوله: «ولم تك تبرح الفلكا»، يريك أنه ادّعى الشمس نفسها. وقال أشجع يرثي الرشيد، فبدأ بالتعريف، ثم نكّر فخلط إحدى الطريقتين بالأخرى، وذلك قوله: [من الرمل] ¬

_ (¬1) علق عليه أبو فهر قائلا: «الوزير هو أبو نصر سابور بن أردشير، انظر اليتيمة 3/ 109 - 116، ولم أقف على أبيات الصابئ». (¬2) راجع الإشارات للجرجاني ص 224، والإيضاح للقزويني ص 435.

غربت بالمشرق الشم … س فقل للعين تدمع ما رأينا قطّ شمسا … غربت من حيث تطلع (¬1) فقوله: «غربت بالمشرق الشمس» على حدّ قول بشار: «أتتني الشمس زائرة»، في أنه خيّل إليك شمس السماء. وقوله بعد: «ما رأينا قطّ شمسا»، يفتّر أمر هذا التخييل، ويميل بك إلى أن تكون الشمس في قوله: «غربت بالمشرق الشمس»، غير شمس السماء، أعني غير مدّعى أنها هي، وذلك مما يضطرب عليه المعنى ويقلق، لأنه إذا لم يدّع الشمس نفسها، لم يجب أن تكون جهة خراسان مشرقا لها، وإذا لم يجب ذلك، لم يحصل ما أراده من الغرابة في غروبها من حيث تطلع. وأظنّ الوجه فيه أن يتأوّل تنكيره للشمس في الثاني على قولهم: «خرجنا في شمس حارّة»، يريدون في يوم كان للشمس فيه حرارة وفضل توقّد، فيصير كأنه قال: «ما عهدنا يوما غربت فيه الشمس من حيث تطلع، وهوت في جانب المشرق». وكثيرا ما يتفق في كلام الناس ما يوهم ضربا من التنكير في الشمس كقولهم: «شمس صيفية»، وكقوله (¬2): [من البسيط] والله لا طلعت شمس ولا غربت ولا فرق بين هذا وبين قول المتنبي (¬3): [من السريع] لم ير قرن الشّمس في شرقه … فشكّت الأنفس في غربه ويجيء التنكير في القمر والهلال على هذا الحدّ، فمنه قول بشّار (¬4): [من المديد] أملي لا تأت في قمر … بحديث واتّق الدّرعا وتوقّ الطيب ليلتنا … إنّه واش إذا سطعا ¬

_ (¬1) البيتان لأبي الوليد أشجع بن عمرو السلمي يرثي هارون الرشيد. راجع ترجمة الشاعر وأخباره مع الرشيد في الأغاني 18/ 257 وما قبلها، ويكنيه أبو فهر أبا الشيص ولم أتحقق من هذه الكنية، وأبو الشيص لقب شاعر آخر معاصر لبشار. راجع الأغاني 16/ 432. (¬2) لم أهتد إليه. (¬3) البيت لأبي الطيب المتنبي في ديوانه 2/ 325 بشرح مصطفى سبيتي، وقرن الشمس أول إشراقها، والمعنى أن من يرى شروق الشمس يتبادر إلى ذهنه غروبها يقينا. (¬4) الدّرع ك (صرد) ثلاث ليال قيل: إنها الليالي البيض، وقيل: الثلاث اللاتي بعدها والواحدة درعة على القياس مثل ظلم، وقال البعض: الواحدة درعاء على غير القياس. راجع لسان العرب 2/ 1362.

فهذا بمعنى: لا تأت في وقت قد طلع فيه القمر. وهذا قول عمر بن أبي ربيعة (¬1): [من الطويل] وغاب قمير كنت أرجو غيوبه … وروّح رعيان ونوّم سمّر ظاهره يوهم أنه كقولك: «جاءني رجل»، وليس كذلك في الحقيقة، لأن الاسم لا يكون نكرة حتى يعمّ شيئين وأكثر، وليس هنا شيئان يعمّهما اسم القمر. وهكذا قول أبي العتاهية: [من الوافر] تسرّ إذا نظرت إلى هلال … ونقصك إذ نظرت إلى الهلال ليس المنكّر غير المعرّف، على أنّ للهلال في هذا التنكير فضل تمكّن ليس للقمر، ألا تراه قد جمع في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ [البقرة: 189]، ولم يجمع القمر على هذا الحدّ. ومن لطيف هذا التنكير قول البحتري: [من الطويل] وبدرين أنضيناهما بعد ثالث … أكلناه بالإيجاف حتى تمحّقا ومما أتى مستكرها نابيا يتظلم منه المعنى وينكره، قول أبي تمام: [من الطويل] قريب النّدى نائي المحلّ كأنّه … هلال قريب النّور ناء منازله سبب الاستكراه، وأنّ المعنى ينبو عنه: أنه يوهم بظاهره أنّ هاهنا أهلّة ليس لها هذا الحكم، أعني أنه ينأى مكانه ويدنو نوره. وذلك محال فالذي يستقيم عليه الكلام أن يؤتى به معرّفا على حدّه في بيت البحتري (¬2): [من الكامل] كالبدر أفرط في العلوّ وضوؤه … للعصبة السّارين جدّ قريب فإن قلت: أقطع وأستأنف فأقول: «كأن هلال» وأسكت، ثم أبتدئ وآخذ في ¬

_ (¬1) البيت من قصيدة مشهورة أنشدها عمر بن أبي ربيعة لعبد الله بن عباس في المسجد الحرام فحفظها، وروّح رعيان: عادوا إلى بيوتهم في المراح، نوّم: نام والتشديد للمبالغة. راجع الأغاني 1/ 81، 93. (¬2) قبله: دان على أيدي العفاة وشاسع … عن كل ندّ في الندى وضريب راجع شرح عقود الجمان 2/ 6، والإشارات والتنبيهات للجرجاني ص 172، والإيضاح بتحقيقي ص 203.

الحديث عن شأن الهلال بقولي: «قريب النور ناء منازله» أمكنك، ولكنك تعلم ما يشكوه إليه المعنى من نبوّ اللفظ به وسوء ملاءمة العبارة. واستقصاء هذا الموضع يقطع عن الغرض، وحقه أنه يفرد له فصل. وأعود إلى حديث المجاز وإخفائه، ودعوى الحقيقة وحمل النفس على تخيّلها. فممّا يدخل في هذا الفنّ ويجب أن يوازن بينه وبين ما مضى، قول سعيد بن حميد: [من الخفيف] وعد البدر بالزيارة ليلا … فإذا ما وفى قضيت نذوري قلت: يا سيّدي، ولم تؤثر اللي … ل على بهجة النهار المنير قال لي: لا أحبّ تغيير رسمي … هكذا الرّسم في طلوع البدور قالوا: وله في ضدّه: [من الخفيف] قلت زوري، فأرسلت … أنا آتيك سحره قلت: فالليل كان أخ … فى وأدنى مسرّه فأجابت بحجّة … زادت القلب حسره أنا شمس، وإنما … تطلع الشّمس بكره وينبغي أن تعلم أنّ هذه القطعة ضدّ الأولى، من حيث اختار النهار وقتا للزيارة في تلك، والليل في هذه، فأمّا من حيث يختلف جوهر الشعر ويتّفق، وخصوصا من حيث ننظر الآن، فمثل وشبيه، وليس بضدّ ولا نقيض. ثم اعلم أنّا إن وازنّا بين هاتين القطعتين وبين ما تقدّم من بيت العباس: [من المتقارب] هي الشمس مسكنها في السماء (¬1) وما هو في صورته، وجدنا هما أمرا بين أمرين: بين ادّعاء البدر والشمس أنفسهما، وبين إثبات بدر ثان وشمس ثانية، ورأينا الشاعر قد شاب في ذلك الإنكار بالاعتراف، وصادفت صورة المجاز تعرض عنك مرّة، وتعرض لك أخرى. فقوله: «البدر» بالتعريف مع قوله: «لا أحبّ تغيير رسمي»، وتركه أن يقول: «رسم مثلي»، يخيّل إليك البدر نفسه. وقوله: «في طلوع البدور» بالجمع دون أن يفرد فيقول: «هكذا ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص 220.

الرسم في طلوع البدور» يلتفت بك إلى بدر ثان، ويعطيك الاعتراف بالمجاز على وجه. وهكذا القول في القطعة الثانية لأنّ قوله: «أنا شمس» بالتنكير، اعتراف بشمس ثانية أو كالاعتراف. ومما يدلّ دلالة واضحة على دعوى الحقيقة، ولا يستقيم إلا عليها قول المتنبي (¬1): [من الكامل] واستقبلت قمر السماء بوجهها … فأرتني القمرين في وقت معا أراد: فأرتني الشمس والقمر، ثم غلّب اسم القمر كقول الفرزدق (¬2): [من الطويل] أخذنا بآفاق السّماء عليكم … لنا قمراها والنّجوم الطوالع لولا أنه يخيّل الشمس نفسها، لم يكن لتغليب اسم القمر والتعريف بالألف واللام معنى. وكذلك لولا ضبطه نفسه حتى لا يجري المجاز والتشبيه في وهمه، لكان قوله: «في وقت معا»، لغوا من القول، فليس بعجيب أن يتراءى لك وجه غادة حسناء في وقت طلوع القمر وتوسّطه السماء، هذا أظهر من أن يخفى. وأمّا تشبيه أبي الفتح لهذا البيت بقول القائل (¬3): [من الكامل] وإذا الغزالة في السماء ترفّعت … وبدا النهار لوقته يترجّل أبدت لوجه الشمس وجها مثله … تلقى السماء بمثل ما تستقبل فتشبيه على الجملة، ومن حيث أصل المعنى وصورته في المعقول، فأما الصّورة الخاصّة التي تحدث له بالصنعة، فلم يعرض لها. ومما له طبقة عالية في هذا القبيل وشكل يدلّ على شدّة الشكيمة وعلوّ المأخذ، قول الفرزدق: [من الطويل] ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 1/ 162 من قصيدة مطلعها: أركائب الأحباب إن الأدمعا … تطس الخدود كما تطسن اليرمعا والقمرين: الشمس والقمر وأراد وجهها. (¬2) البيت في ديوانه 1/ 419 من قصيدة مطلعها: منّا الذي اختير الرجال سماحة … وخيرا إذا هب الرياح الزعازع (¬3) ترجلت الشمس: ارتفعت وترجل النهار: ارتفع ومنه قول الشاعر: وهاج به لما ترجّلت الضّحى. راجع لسان العرب 3/ 1600.

أبي أحمد الغيثين صعصعة الذي … متى تخلف الجوزاء والدّلو يمطر أجار بنات الوائدين ومن يجر … على الموت يعلم أنه غير مخفر (¬1) أفلا تراه كيف ادّعى لأبيه اسم الغيث ادّعاء من سلّم له ذلك، ومن لا يخطر بباله أنه مجاز فيه، ومتناول له من طريق التشبيه، وحتى كأنّ الأمر في هذه الشهرة بحيث يقال: «أيّ الغيثين أجود؟» فيقال: «صعصعة»، أو يقال: «الغيثان»، فيعلم أنّ أحدهما صعصعة، وحتى بلغ تمكّن ذلك في العرف إلى أن يتوقّف السامع عند إطلاق الاسم، فإذا قيل: «أتاك الغيث!»، لم يعلم أيراد صعصعة أم المطر. وإن أردت أن تعرف مقدار ما له من القوّة في هذا التخييل، وأن مصدره مصدر الشيء المتعارف الذي لا حاجة به إلى مقدّمة يبنى عليها نحو أن تبدأ فتقول: «أبي نظير الغيث وثان له، وغيث ثان»، ثم تقول: «وهو خير الغيثين» لأنه لا يخلف إذا أخلفت الأنواء، فانظر إلى موقع الاسم، فإنك تراه واقعا موقعا لا سبيل لك فيه إلى حلّ عقد التثنية، وتفريق المذكورين بالاسم. وذلك أن «أفعل» لا تصحّ إضافته إلى اسمين معطوف أحدهما على الآخر، فلا يقال: «جاءني أفضل زيد وعمرو»، ولا: «إنّ أعلم بكر وخالد عندي»، بل ليس إلا أن تضيف إلى اسم مثنّى أو مجموع في نفسه، نحو: «أفضل الرّجلين»، و «أفضل الرجال». وذلك أنّ أفعل التفضيل بعض ما يضاف إليه أبدا، فحقّه أن يضاف إلى اسم يحويه وغيره. وإذا كان الأمر كذلك، علمت أنه اللّفظ بالتشبيه، والخروج عن صريح جعل اللّفظ للحقيقة متعذر عليك، إذ لا يمكنك أن تقول: «أبي أحمد الغيث والثاني له والشبيه به»، ولا شيئا من هذا النحو، لأنك تقع بذلك في إضافة «أفعل» إلى اسمين معطوف أحدهما على الآخر. وإذ قد عرفت هذا، فانظر إلى قول الآخر (¬2): [من المنسرح] قد أقحط الناس في زمانهم … حتى إذا جئت جئت بالدّرر غيثان في ساعة لنا اتّفقا، … فمرحبا بالأمير والمطر فإنك تراه لا يبلغ هذه المنزلة، وذلك أنه كلام من يثبته الآن غيثا ولا يدّعي فيه ¬

_ (¬1) البيتان من قصيدة بعنوان «أبي أحمد الغيثين». راجع ديوانه 1/ 379، وفي الرواية «أبي أحد الغيثين» بدل أحمد. (¬2) الدّرر جمع الدّرّة: وهي هنا بمعنى المتابعة في المطر، ومنه قول النّمر بن تولب: سلام الإله وريحانه … ورحمته وسماء درر قحط الناس، وأقحطوا: كرهها بعضهم. راجع لسان العرب 2/ 1357 - 5/ 3536.

عرفا جاريا، وأمرا مشهورا متعارفا، يعلم كل واحد منه ما يعلمه، وليس بمتعذّر أن تقول: «غيث وثان للغيث اتفقا»، أو تقول: «الأمير ثاني الغيث والغيث اتّفقا». فقد حصل من هذا الباب: أن الاسم المستعار كلما كان قدمه أثبت في مكانه، وكان موضعه من الكلام أضنّ به، وأشدّ محاماة عليه، وأمنع لك من أن تتركه وترجع إلى الظاهر وتصرّح بالتشبيه، فأمر التخييل فيه أقوى، ودعوى المتكلم له أظهر وأتمّ. واعلم أن نحو قول البحتري: [من الكامل] غيثان إن جدب تتابع أقبلا … وهما ربيع مؤمّل وخريفه لا يكون مما نحن بصدده في شيء، لأنّ كلّ واحد من الغيثين في هذا البيت مجاز، لأنه أراد أن يشبّه كل واحد من الممدوحين بالغيث، والذي نحن بصدده، هو أن يضمّ المجاز إلى الحقيقة في عقد التثنية، ولكن إن ضممت إليه قوله (¬1): [من الطويل] فلم أر ضرغامين أصدق منكما … عراكا، إذا الهيّابة النكس كذّبا كان لك ذلك، لأن أحد الضرغامين حقيقة والآخر مجاز. فإن قلت: فهاهنا شيء يردّك إلى ما أبيته من بقاء حكم التشبيه في جعله أباه الغيث، وذلك أن تقدير الحقيقة في المجاز إنما يتصوّر في نحو بيت البحتري: فلم أر ضرغامين من حيث عمد إلى واحد من الأسود، ثم جعل الممدوح أسدا على الحقيقة قد قارنه وضامّه. ولا سبيل للفرزدق إلى ذلك، لأن الذي يقرنه إلى أبيه هو الغيث على الإطلاق، وإذا كان الغيث على الإطلاق، لم يبق شيء يستحقّ هذا الاسم إلا ويدخل تحته. وإذا كان كذلك، حصل منه أن لا يكون أبو الفرزدق غيثا على الحقيقة. فالجواب أن مذهب ذلك ليس على ما تتوهّمه، ولكن على أصل هو التشبيه، وهو أن يقصد إلى المعنى الذي من أجله يشبّه الفرع بالأصل كالشجاعة في الأسد، والمضاء في السيف، وينحّي سائر الأوصاف جانبا. وذلك المعنى في الغيث هو النّفع العامّ، وإذا قدّر هذا التقدير، صار جنس الغيث كأنه عين واحدة وشيء واحد. وإذا ¬

_ (¬1) الهيّابة: كثير الخوف مبالغة من هاب، والنكس بكسر النون المشددة: الرجل الضعيف المقصّد عن غاية النجدة والكرم. راجع لسان العرب 6/ 4541، 4730.

فصل في الفرق بين التشبيه والاستعارة

عاد بك الأمر إلى أن تتصوّره تصوّر العين الواحدة دون الجنس، كان ضمّ أبي الفرزدق إليه بمنزلة ضمّك إلى الشمس رجلا أو امرأة تريد أن تبالغ في وصفهما بأوصاف الشمس، وتنزيلهما منزلتها، كما تجده في نحو قوله (¬1): [من البسيط] فليت طالعة الشّمسين غائبة … وليت غائبة الشّمسين لم تغب فصل في الفرق بين التشبيه والاستعارة اعلم أن الاسم إذا قصد إجراؤه على غير ما هو له لمشابهة بينهما، كان ذلك على ما مضى من الوجهين: أحدهما: أن تسقط ذكر المشبّه من البين، حتى لا يعلم من ظاهر الحال أنك أردته، وذلك أن تقول: «عنّت لنا ظبية»، وأنت تريد امرأة، و «وردنا برا»، وأنت تريد الممدوح. فأنت في هذا النحو من الكلام إنّما تعرف أن المتكلم لم يرد ما الاسم موضوع له في أصل اللغة، بدليل الحال، أو إفصاح المقال بعد السؤال، أو بفحوى الكلام وما يتلوه من الأوصاف. مثال ذلك أنك إذا سمعت قوله (¬2): [من البسيط] ترنّح الشّرب واغتالت حلومهم … شمس ترجّل فيهم ثم ترتحل استدللت بذكر الشّرب، واغتيال الحلوم، والارتحال، أنه أراد قينة. ولو قال: «ترجلت شمس»، ولم يذكر شيئا غيره من أحوال الآدميين، لم يعقل قطّ أنه أراد امرأة إلا بإخبار مستأنف، أو شاهد آخر من الشواهد. ولذلك تجد الشيء يلتبس منه حتّى على أهل المعرفة، كما روى أن عديّ بن حاتم اشتبه عليه المراد بلفظ الخيط في قوله تعالى: ¬

_ (¬1) البيت للمتنبي من قصيدة مطلعها: يا أخت خير أخ يا بنت خير أب* كناية بهما عن أشرف النسب طالعة الشمسين: شمس النهار، غائبة الشمسين: المرثية وهي أخت سيف الدولة. راجع ديوانه 2/ 195. (¬2) الترنّح: تمزّز الشراب (عن أبي حنيفة) وترنّح الرجل: تمايل من السكر. راجع لسان العرب مادة: (رنح). والترجّل: الارتفاع وقد سبق.

حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ [البقرة: 187]، وحمله على ظاهره. فقد روى أنه قال لما نزلت هذه الآية: «أخذت عقالا أسود وعقالا أبيض، فوضعتهما تحت وسادتي، فنظرت فلم أتبيّن، فذكرت ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن وسادك لطويل عريض، إنما هو الليل والنهار». والوجه الثاني: أن تذكر كلّ واحد من المشبّه والمشبّه به فتقول: «زيد أسد» و «هند بدر»، و «هذا الرجل الذي تراه سيف صارم على أعدائك». وقد كنت ذكرت فيما تقدّم، أن في إطلاق الاستعارة على هذا الضّرب الثاني بعض الشبهة، ووعدتك كلاما يجيء في ذلك، وهذا موضعه. اعلم أنّ الوجه الذي يقتضيه القياس، وعليه يدلّ كلام القاضي في الوساطة، أن لا تطلق الاستعارة على نحو قولنا: «زيد أسد» و «هند بدر»، ولكن تقول: هو تشبيه، وإذا قال: «هو أسد، لم تقل: «استعار له اسم الأسد»، ولكن تقول: «شبّهه بالأسد»، وتقول في الأول إنه استعارة لا تتوقف فيه ولا تتحاشى البتّة. وإن قلت في القسم الأول: إنه تشبيه كنت مصيبا، من حيث تخبر عمّا في نفس المتكلم وعن أصل الغرض، وإن أردت تمام البيان قلت: أراد أن يشبّه المرأة بالظبية فاستعار لها اسمها مبالغة. فإن قلت: فكذلك فقل في قولك: «زيد أسد»، إنه أراد تشبيهه بالأسد، فأجرى اسمه عليه، ألا ترى أنك ذكرته بلفظ التّنكير فقلت: «زيد أسد»، كما تقول: «زيد واحد من الأسود»، فما الفرق بين الحالين، وقد جرى الاسم في كل واحد منهما على المشبّه؟ فالجواب أن الفرق بيّن، وهو أنك عزلت في القسم الأول الاسم الأصليّ عنه واطّرحته، وجعلته كأن ليس هو باسم له، وجعلت الثاني هو الواقع عليه والمتناول له، فصار قصدك التشبيه أمرا مطويّا في نفسك مكنونا في ضميرك، وصار في ظاهر الحال وصورة الكلام ونصبته، كأنه الشيء الذي وضع له الاسم في اللغة وتصوّر- إن تعلّقه الوهم- كذلك. وليس كذلك القسم الثاني، لأنك قد صرّحت فيه بذكر المشبّه، وذكرك له صريحا يأبى أن تتوهّم كونه من جنس المشبّه به. وإذا سمع السامع قولك: «زيد أسد» و «هذا الرجل سيف صارم على الأعداء»، استحال أن يظنّ وقد صرّحت له بذكر زيد أنك قصدت أسدا وسيفا، وأكثر ما يمكن أن يدّعى تخيّله في هذا: أن يقع في نفسه من قولك: «زيد أسد»، حال الأسد في جراءته وإقدامه وبطشه، فأمّا أن يقع في وهمه أنه رجل وأسد معا بالصورة والشخص، فمحال.

ولمّا كان كذلك، كان قصد التشبيه من هذا النحو بيّنا لائحا، وكائنا من مقتضى الكلام، وواجبا من حيث موضوعه، حتى إن لم يحمل عليه كان محالا. فالشيء الواحد لا يكون رجلا وأسدا، وإما يكون رجلا وبصفة الأسد فيما يرجع إلى غرائز النفوس والأخلاق، أو خصوص في الهيئة كالكراهة في الوجه. وليس كذلك الأول، لأنه يحتمل الحمل على الظّاهر على الصحة، فلست بممنوع من أن تقول «عنّت لنا ظبية»، وأنت تريد الحيوان و «طلعت شمس»، وأنت تريد الشّمس، كقولك: «طلعت اليوم شمس حارّة» وكذلك تقول: «هززت على الأعداء سيفا» وأنت تريد السيف، كما تقوله وأنت تريد رجلا باسلا استعنت به، أو رأيا ماضيا وفّقت فيه، وأصبت به من العدوّ فأرهبته وأثّرت فيه. وإذا كان الأمر كذلك، وجب أن يفصل بين القسمين، فيسمّى الأوّل: «استعارة» على الإطلاق، ويقال في الثاني إنه: «تشبيه». فأما تسمية الأول تشبيها فغير ممنوع ولا غريب، إلّا أنه على أنك تخبر عن الغرض وتنبئ عن مضمون الحال، فأمّا أن يكون موضوع الكلام وظاهره موجبا له صريحا، فلا. فإن قلت: فكذلك قولك: «هو أسد»، ليس في ظاهره تشبيه، لأن التشبيه يحصل بذكر الكاف أو «مثل» أو نحوهما. فالجواب أن الأمر وإن كان كذلك، فإنّ موضوعه من حيث الصّورة يوجب قصدك التشبيه، لاستحالة أن يكون له معنى وهو على ظاهره. وله مثال من طريق العادة، وهو أنّ مثل الاسم مثل الهيئة التي يستدلّ بها على الأجناس، كزيّ الملوك وزيّ السّوقة، فكما أنك لو خلعت من الرجل أثواب السوقة، ونفيت عنه كل شيء يختصّ بالسوقة، وألبسته زيّ الملوك، فأبديته للناس في صورة الملوك حتى يتوهّموه ملكا، وحتى لا يصلوا إلى معرفة حاله إلا بإخبار أو اختبار واستدلال من غير الظاهر، كنت قد أعرته هيئة الملك وزيّه على الحقيقة. ولو أنك ألقيت عليه بعض ما يلبسه الملك من غير أن تعرّيه من المعاني التي تدل على كونه سوقة، لم تكن قد أعرته بالحقيقة هيئة الملك، لأن المقصود من هيئة الملك أن يحصل بها المهابة في النفس، وأن يتوهّم العظمة، ولا يحصل ذلك مع وجود الأوصاف الدالّة على أن الرجل سوقة. افرض هذه الموازنة في الشيء الواحد، كالثوب الواحد يعاره الرجل فيلبسه على ثوبه أو منفردا، وإنما اعتبر الهيئة وهي تحصل بمجموع أشياء، وذلك أن الهيئة

هي التي يشبه حالها حال الاسم، لأن الهيئة تخصّ جنسا دون جنس، كما أن الاسم كذلك، والثوب على الإطلاق لا يفعل ذلك إلا بخصائص تقترن به وترعى معه، فإذا كان السامع قولك: «زيد أسد» لا يتوهّم أنك قصدت أسدا على الحقيقة، لم يكن الاسم قد لحقه، ولم تكن قد أعرته إياه إعارة صحيحة، كما أنك لم تعر الرجل هيئة الملك حين لم تزل عنه ما يعلم به أنه ليس بملك. هذا، وإذا تأمّلنا حقيقة الاستعارة في اللغة والعادة، كان في ذلك أيضا بيان لصحة هذه الطريقة، ووجوب الفرق بين القسمين. وذاك أن من شرط المستعار أن يحصل للمستعير منافعه على الحدّ الذي يحصل للمالك، فإن كان ثوبا لبسه كما لبسه، وإن كان أداة استعملها في الشيء تصلح له، حتى إنّ الرائي إذا رآه معه لم تنفصل حاله عنده من حال ما هو ملك يد ليس بعاريّة، وإما يفضله المالك في أنّ له أن يتلف الشيء جملة، أو يدخل التلف على بعض أجزائه قصدا، وليس للمستعير ذلك. ومعلوم أنّ ما هو كالمنفعة من الاسم أن يوجب ذكره القصد إلى الشيء في نفسه. فإذا قلت: «زيد»، علم أنك أردت أن تخبر عن الشخص المعلوم، وإذا قلت: «لقيت أسدا»، علم أنك علّقت اللقاء بواحد من هذا الجنس. وإذا كان الأمر كذلك، ثم وجدنا الاسم في قولك: «عنّت ظبية»، يعقل من إطلاقه أنك قصدت الجنس المعلوم ولا يعلم أنك قصدت امرأة، فقد وقع من المرأة في هذا الكلام موقعه من ذلك الحيوان على الصحة، فكان ذلك بمنزلة أن المستعير ينتفع بالمستعار انتفاع مالكه، فيلبسه لبسه، ويتجمّل به تجمّله، ويكون مكانه عنده مكان الشيء المملوك، حتى يعتقد من ينظر إلى الظاهر أنه له. ولما وجدنا الاسم في قولك: «زيد أسد»، لا يقع من زيد ذلك الموقع، من حيث إنّ ذكره باسمه يمنع من أن يصير الاسم مطلقا عليه، ومتناولا له على حدّ تناوله ما وضع له، كان وزان ذلك وزان أن تضع عند الرجل ثوبا وتمنعه أن يلبسه، أو بمنزلة أن تطرح عليه طرف ثوب كان عليك، فلا يكون ذلك عاريّة صحيحة، لأنك لم تدخله في جملته، ولم تعطه صورة ما يختص به ويصير إليه، ويخفى كونه لك دونه. فاعرفه. وهاهنا فصل آخر من طريق موضوع الكلام، يبيّن وجوب الفرق بين القسمين: وهو أن الحالة التي يختلف في الاسم إذا وقع فيها، أيسمّى استعارة أم لا يسمّى؟ هي الحالة التي يكون الاسم فيها خبر مبتدأ أو منزّلا منزلته، أعني أن يكون خبر «كان»،

أو مفعولا ثانيا لباب «علمت»، لأن هذه الأبواب كلها أصلها مبتدأ وخبر أو يكون «حالا»، لأن الحال عندهم زيادة في الخبر. فحكمها حكم الخبر فيما قصدته هاهنا خصوصا، والاسم إذا وقع في هذه المواضع، فأنت واضع كلامك لإثبات معناه، وإن أدخلت النّفي على كلامك تعلّق النفي بمعناه. تفسير هذه الجملة: أنك إذا قلت: «زيد منطلق»، فقد وضعت كلامك لإثبات الانطلاق لزيد. ولو نفيت فقلت: «ما زيد منطلقا»، كنت نفيت الانطلاق عن زيد. وكذلك: «أكان زيد منطلقا»، و «علمت زيدا منطلقا»، و «رأيت زيدا منطلقا»، أنت في ذلك كلّه واضع كلامك ومزج له لتثبت الانطلاق لزيد، ولو خولفت فيه انصرف الخلاف إلى ثبوته له. وإذا كان الأمر كذلك، فأنت إذا قلت: «زيد أسد» و «رأيته أسدا»، فقد جعلت اسم المشبّه به خبرا عن المشبّه. والاسم إذا كان خبرا عن الشيء كان خبرا عنه، إمّا لإثبات وصف هو مشتقّ منه لذلك الشيء، كالانطلاق في قولك: «زيد منطلق»، أو إثبات جنسية هو موضوع لها كقولك: «هذا رجل». فإذا امتنع في قولنا: «زيد أسد» أن تثبت شبه الجنس، فقد اجتلبنا الاسم لنحدث به التشبيه الآن، ونقرّره في حيّز الحصول والثبوت. وإذا كان كذلك، كان خليقا بأن تسمّيه تشبيها، إذ كان إنما جاء ليفيده ويوجبه. وأمّا الحالة الأخرى التي قلنا: «إن الاسم فيها يكون استعارة من غير خلاف»، فهي حالة إذا وقع الاسم فيها لم يكن الاسم مجتلبا لإثبات معناه للشيء، ولا الكلام موضوعا لذلك، لأن هذا حكم لا يكون إلا إذا كان الاسم في منزلة الخبر من المبتدأ. فأمّا إذا لم يكن كذلك، وكان مبتدأ بنفسه، أو فاعلا أو مفعولا أو مضافا إليه، فأنت واضع كلامك لإثبات أمر آخر غير ما هو معنى الاسم. بيان ذلك: أنك إذا قلت: «جاءني أسد» و «رأيت أسدا» و «مررت بأسد»، فقد وضعت الكلام لإثبات المجيء واقعا من الأسد، والرؤية والمرور واقعين منك عليه. وكذلك إن قلت: «الأسد مقبل»، فالكلام موضوع لإثبات الإقبال للأسد، لا لإثبات معنى الأسد. وإذا كان الأمر كذلك، ثم قلت: «عنّت لنا ظبية»، و «هززت سيفا صارما على الأعداء» وأنت تعني بالظبية امرأة، وبالسيف رجلا لم يكن ذكرك للاسمين في كلامك هذا لإثبات الشّبه المقصود الآن. وكيف يتصوّر أن تقصد إلى إثبات الشبه منهما بشيء، وأنت لم تذكر قبلهما شيئا ينصرف إثبات الشبه إليه، وإنما تثبت الشّبه من طريق الرجوع إلى الحال، والبحث عن خبئ في نفس المتكلم؟

وإذا كان كذلك، بان أن الاسم في قولك: «زيد أسد»، مقصود به إيقاع التشبيه في الحال وإيجابه، وأما في قولك: «عنّت لنا ظبية» و «سللت سيفا على العدوّ»، فوضع الاسم هكذا انتهازا واقتضابا على المقصود، وادّعاء أنه من الجنس الذي وضع له الاسم في أصل اللغة. وإذا افترقا هذا الافتراق، وجب أن نفرق بينهما في الاصطلاح والعبارة، كما أنّا نفصل بين الخبر والصفة في العبارة، لاختلاف الحكم فيهما، بأنّ الخبر إثبات في الوقت للمعنى، والصفة تبيين وتوضيح وتخصيص بأمر قد ثبت واستقرّ وعرف. فكما لم نرض لاتفاق الغرض في الخبر الصّفة على الجملة واشتراكهما إذا قلت: «زيد ظريف» و «جاءني زيد الظّريف»، في التباس زيد في الظرف واكتسائه له، أن تجعلهما في الوضع الاصطلاحيّ شيئا واحدا، ولا نفرّق بتسميتنا هذا خبرا وذلك صفة كذلك ينبغي أن لا يدعونا- اتفاق قولنا: «جاءني أسد» و «هززت سيفا صارما» وقولنا: «زيد أسد» و «سيف صارم»، في مطلق التشبيه- إلى التسوية بينهما، وترك الفرق من طريق العبارة، بل وجب أن نفرّق، فنسمّي ذاك «الاستعارة» وهذا تشبيها». فإن أبيت إلا أن تطلق الاستعارة على هذا القسم الثاني، فينبغي أن تعلم أن إطلاقها لا يجوز في كل موضع يحسن دخول حرف التشبيه فيه بسهولة، وذلك نحو قولك: «هو الأسد» و «هو شمس النهار» و «هو البدر حسنا وبهجة، والقضيب عطفا»، وهكذا كل موضع ذكر فيه المشبّه به بلفظ التعريف. فإن قلت: «هو بحر» و «هو ليث» و «وجدته بحرا»، وأردت أن تقول إنه استعارة، كنت أعذر وأشبه بأن تكون على جانب من القياس، ومتشبّثا بطرف من الصواب. وذلك أن الاسم قد خرج بالتنكير عن أن يحسن إدخال حرف التشبيه عليه، فلو قلت: «هو كأسد» و «هو كبحر»، كان كلاما نازلا غير مقبول، كما يكون قولك: «هو كالأسد»، إلا أنّه وإن كان لا يحسن فيه الكاف فإنه يحسن فيه «كأنّ» كقولك: «كأنه أسد»، أو ما يجري مجرى «كأنّ» في نحو «تحسبه أسدا» و «تخاله سيفا». فإن غمض مكان الكاف و «كأن»، بأن يوصف الاسم الذي فيه التشبيه بصفة لا تكون في ذلك الجنس، وأمر خاصّ غريب فقيل: «هو بحر من البلاغة»، و «هو بدر يسكن الأرض»، و «هو شمس لا تغيب»، وكقوله (¬1): [من الكامل] شمس تألّق والفراق غروبها … عنّا، وبدر والصّدود كسوفه ¬

_ (¬1) البيت للبحتري. راجع الإيضاح بتحقيقنا ص 256.

فهو أقرب إلى أن نسمّيه استعارة، لأنه قد غمض تقدير حرف التشبيه فيه، إذ لا تصل إلى الكاف حتى تبطل بنية الكلام وتبدّل صورته فتقول: «هو كالشمس المتألّقة، إلا أن فراقها هو الغروب، وكالبدر إلا أن صدوده الكسوف». وقد يكون في الصفات التي تجيء في هذا النحو، والصّلات التي توصل بها، ما يختلّ به تقدير التشبيه، فيقرب حينئذ من القبيل الذي تطلق عليه «الاستعارة» من بعض الوجوه، وذلك مثل قوله (¬1): [من الكامل] أسد دم الأسد الهزبر خضابه … موت فريص الموت منه ترعد لا سبيل لك إلى أن تقول: «هو كالأسد» و «هو كالموت»، لما يكون في ذلك من التناقض، لأنك إذا قلت: «هو كالأسد» فقد شبّهته بجنس السبع المعروف، ومحال أن تجعله محمولا في الشّبه على هذا الجنس أوّلا، ثم تجعل دم الهزبر الذي هو أقوى الجنس، خضاب يده، لأنّ حملك له عليه في الشّبه دليل على أنه دونه، وقولك بعد «دم الهزبر من الأسود خضابه»، دليل على أنه فوقها. وكذلك محال أن تشبّهه بالموت المعروف، ثم تجعله يخافه، وترتعد منه أكتافه. وكذا قوله (¬2): [من الطويل] سحاب عداني سيله وهو مسبل … وبحر عداني فيضه وهو مفعم وبدر أضاء الأرض شرقا ومغربا … وموضع رحلي منه أسود مظلم إن رجعت فيه إلى التشبيه الساذج فقلت: «هو كالبدر»، ثم جئت تقول: «أضاء الأرض شرقا ومغربا وموضع رحلي مظلم لم يضئ به»، كنت كأنك تجعل البدر المعروف يلبس الأرض الضياء ويمنعه رحلك، وذلك محال، وإنما أردت أن تثبت من الممدوح بدرا مفردا له هذه الخاصية العجيبة التي لم تعرف للبدر. وهذا إنما يتأتّى بكلام بعيد من هذا النظم، وهو أن يقال: «هل سمعت بأن البدر يطلع في أفق، ثم يمنع ضوءه موضعا من المواضع التي هي معرّضة له وكائنة في مقابلته، حتى ترى الأرض الفضاء قد أضاءت بنوره وفيما بينهما قدر رحل مظلم يتجافى عنه ضوؤه؟ ومعلوم بعد هذا من طريقة البيت، فهذا النحو موضوع على تخييل أنه زاد في جنس البدر واحد له حكم وخاصّة لم تعرف. ¬

_ (¬1) البيت للمتنبي في ديوانه، والهزبر: الشديد البأس، وأسد. خبر لمبتدإ محذوف تقديره هو، ودم: مبتدأ خبره خضابه، الفريص: جمع الفريصة وهي: اللحمة التي بين الكتف والصدر. والبيت مبالغة في مدح شجاع بن محمد الطائي. راجع الديوان 1/ 92، ولسان العرب مادة: (فرص). (¬2) البيتان للبحتري في مدح الفتح بن خاقان نديم المتوكل. راجع الإيضاح بتحقيقنا ص 257.

وإذا كان الأمر كذلك، صار كلامك موضوعا لا لإثبات الشبه بينه وبين البدر، ولكن لإثبات الصّفة في واحد متجدّد حادث من جنس البدر، لم تعرف تلك الصفة للبدر، فيصير بمنزلة قولك: «زيد رجل يقري الضيوف ويفعل كيت وكيت»، فلا يكون قصدك إثبات زيد رجلا، ولكن إثبات الصفة التي ذكرتها له. فإذا خرج الاسم الذي يتعلق به التشبيه من أن يكون مقصودا بالإثبات، تبيّن أنه خارج عن الأصل الذي تقدّم، من كون الاسم لإثبات الشبه. فالبحتري في قوله: وبدر أضاء الأرض قد بنى كلامه على أن كون الممدوح بدرا، أمر قد استقرّ وثبت، وإنما يعمل في إثبات الصفة الغريبة، والحالة التي هي موضع التعجّب. وكما يمتنع دخول «الكاف» في هذا النحو، كذلك يمتنع دخول «كأن» و «تحسب» و «تخال». فلو قلت: «كأنه بدر أضاء الأرض شرقا ومغربا وموضع رحلي منه مظلم»، كان خلفا من القول. وكذلك؛ إن قلت: «تحسبه بدرا أضاء الأرض ورحلي منه مظلم»، كان كالأوّل في الضعف. ووجه بعده من القبول بيّن، وهو أنّ «كأن» و «حسبت» و «خلت» و «ظننت» تدخل إذا كان الخبر والمفعول الثاني أمرا معقولا ثابتا في الجملة، إلا أنه في كونه متعلقا بما هو اسم «كأن» أو المفعول الأوّل من «حسبت» مشكوك فيه، كقولنا: «كأن زيدا منطلق»، أو مجاز يقصد به خلاف ظاهره، نحو: «كأنّ زيدا أسد»، فالأسد على الجملة ثابت معروف، والغريب هو كون زيد إياه ومن جنسه. والنكرة في نحو هذه الأبيات موصوفة بأوصاف تدلّ على أنك تخبر بظهور شيء لا يعرف ولا يتصوّر. وإذا كان كذلك، كان إدخال «كأن» و «حسبت» عليه، كالقياس على المجهول. وتأمّل هذه النكتة فإنه يضعف ثانيا إطلاق «الاستعارة» على هذا النحو أيضا، لأن موضوع الاستعارة- كيف دارت القضية- على التشبيه. وإذا بان بما ذكرت أن هذا الجنس إذا فليته عن سرّه، ونقّرت عن خبيئه، فمحصوله أنك تدّعي حدوث شيء هو من الجنس المذكور، إلا أنه اختصّ بصفة غريبة وخاصية بديعة، لم يكن يتوهّم جوازها على ذلك الجنس، كأنك تقول: «ما كنّا نعلم أن هاهنا بدرا هذه صفته» كان تقدير التشبيه فيه نقضا لهذا الغرض، لأنه لا معنى لقولك: «أشبّهه ببدر حدث خلاف البدور ما كان يعرف».

وهذا موضع لطيف جدّا لا تنتصف منه إلّا باستعانة الطبع عليه، ولا يمكن توفية الكشف فيه حقّه بالعبارة، لدقّة مسلكه. ويتصل به أن في «الاستعارة» الصحيحة: ما لا يحسن دخول كلم التشبيه عليه. وذلك إذا قوي التشبّه بين الأصل والفرع، حتى يتمكن الفرع في النفس بمداخلة ذلك الأصل والاتحاد به، وكونه إياه. وذلك في نحو «النور» إذا استعير للعلم والإيمان، و «الظلمة» للكفر والجهل. فهذا النحو لتمكّنه وقوّة شبهه ومتانة سببه، قد صار كأنه حقيقة، ولا يحسن لذلك أن تقول في العلم: «كأنه نور»، وفي الجهل: «كأنه ظلمة»، ولا تكاد تقول للرجل في هذا الجنس: «كأنّك قد أوقعتني في ظلمة» بل تقول: «أوقعتني في ظلمة». وكذلك الأكثر على الألسن والأسبق إلى القلوب أن تقول: «فهمت المسألة فانشرح صدري وحصل في قلبي نور»، ولا تقول: «كأنّ نورا حصل في قلبي». ولكن إذا تجاوزت هذا النوع إلى نحو قولك: «سللت منه سيفا على الأعداء»، وجدت «كأن» حسنة هناك كثيرة، كقولك: «بعثته إلى العدوّ فكأني سللت سيفا» وكذلك في نحو: «زيد أسد» و «كأن زيدا أسد». وهكذا يتدرج الحكم فيه، حتى كلّما كان مكان الشبه بين الشيئين أخفى وأغمض وأبعد من العرف، كان الإتيان بكلمة التشبيه أبين وأحسن وأكثر في الاستعمال. ومما يجب أن تجعله على ذكر منك أبدا، وفيه البيان الشافي: أنّ بين القسمين تباينا شديدا أعني بين قولك: «زيد أسد» وقولك: «رأيت أسدا» وهو ما قدّمته لك من أنك قد تجد الشيء يصلح في نحو: «زيد أسد» حيث تذكر المشبّه باسمه أوّلا، ثم تجري اسم المشبّه به عليه، ولا يصلح في القسم الآخر الذي لا تذر فيه المشبّه أصلا وتطرحه. ومن الأمثلة البيّنة في ذلك قول أبي تمام (¬1): [من الوافر] وكان المطل في بدء وعود … دخانا للصّنيعة وهي نار قد شبّه المطل بالدّخان، والصنيعة بالنار، ولكنه صرّح بذكر المشبّه، وأوقع المشبّه به خبرا عنه، وهو كلام مستقيم. ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 135 بلفظ «وكان المدح في عود وبدء»، والقصيدة في مدح أبي الحسين محمد ابن الهيثم بن شبابة، راجع الأبيات التي قبله من قوله: رأيت صنائعا معكت فأحست … ذبائح والمطال لها شفار

ولو سلكت به طريقة ما يسقط فيه ذكر المشبّه فقلت مثلا: «أقبستني نارا لها دخان»، كان ساقطا. ولو قلت: «أقبستني نورا أضاء أفقي به»، تريد علما، كان حسنا، حسنه إذا قلت: «علمك نور في أفقي». والسبب في ذلك أنّ اطّراح ذكر المشبّه والاقتصار على اسم المشبّه به، وتنزيله منزلته، وإعطاءه الخلافة على المقصود، إنما يصحّ إذا تقرّر الشّبه بين المقصود وبين ما تستعير اسمه له، وتستبينه في الدّلالة. وقد تقرّر في العرف الشبه بين النور والعلم وظهر واشتهر، كما تقرر الشّبه بين المرأة والظبية، وبينها وبين الشمس ولم يتقرر في العرف شبه بين الصّنيعة والنار، وإنما هو شيء يضعه الآن أبو تمام ويتمحّله، ويعمل في تصويره، فلا بدّ له من ذكر المشبّه والمشبّه به جميعا حتى يعقل عنه ما يريده، ويبين الغرض الذي يقصده، وإلّا كان بمنزلة من يريد في إعلام السامع أنّ عنده رجلا هو مثل زيد في العلم مثلا، فيقول له: «عندي زيد»، ويسومه أن يعقل من كلامه أنه أراد أن يقول: «عندي رجل مثل زيد»، أو غيره من المعاني. وذلك تكليف علم الغيب. فاعرف هذا الأصل وتبيّنه، فإنك تزداد به بصيرة في وجوب الفرق بين الضربين، وذلك أنهما لو كانا يجريان مجرى واحدا في حقيقة الاستعارة، لوجب أن يستويا في القضيّة، حتى إذا استقام وضع الاسم في أحدهما استقام وضعه في الآخر، فاعرفه. فإن قلت: فما تقول في نحو قولهم: «لقيت به أسدا» و «رأيت منه ليثا». فإنه مما لا وجه لتسميته استعارة، ألا تراهم قالوا: «لئن لقيت فلانا ليلقينّك منه الأسد»، فأتوا به معرفة على حدّه إذا قالوا: «احذر الأسد!»، وقد جاء على هذه الطريقة ما لا يتصوّر فيه التشبيه، فظنّ أنّه استعارة، وهو قوله عز وجل: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ [فصلت: 28]، والمعنى:- والله أعلم- أنّ النّار هي دار الخلد، وأنت تعلم أن لا معنى هاهنا لأن يقال: «إن النار شبّهت بدار الخلد»، إذ ليس المعنى على تشبيه النّار بشيء يسمّى «دار الخلد»، كما تقول في زيد: «إنه مثل الأسد»، ثم تقول: «هو الأسد»، وإنما هو كقولك: «النار منزلهم ومسكنهم»، نعوذ بالله منها. وكذا قوله (¬1): [من البسيط] يأبى الظلامة منه النّوفل الزّفر ¬

_ (¬1) هو عجز بيت لأعشى باهلة صدره «أخو رغائب يعطيها ويسألها»، والنوفل: الذي ينفى عنه الظلم من قومه، والزّفر: الشجاع. راجع لسان العرب مادة: (نفل).

المعنى على أنه «النّوفل الزّفر»، وليس الزفر باسم لجنس غير جنس الممدوح كالأسد، فيقال إنه شبّه الممدوح به، وإنما هو صفة كقولك: «هو الشجاع» و «هو السيّد» و «هو النهّاض بأعباء السيادة». وكذلك قوله (¬1): [من المنسرح] يا خير من يركب المطيّ ولا … يشرب كأسا بكفّ من بخلاف لا يتصور فيه التشبيه، وإنما المعنى: أنه ليس ببخيل. هذا، وإنما يتصوّر الحكم على الاسم بالاستعارة، إذا جرى بوجه على ما يدّعى أنه مستعار له، والاسم في قولك: «لقيت به أسدا» أو «لقيني منه أسدا»، لا يتصوّر جريه على المذكور بوجه، لأنه ليس بخبر عنه، ولا صفة له، ولا حال، وإنما هو بنفسه مفعول «لقيت» وفاعل «لقيني». ولو جاز أن يجري الاسم، هاهنا مجرى المستعار المتناول المستعار له، لوجب أن نقول في قوله (¬2): [من الرجز] حتّى إذا جنّ الظّلام واختلط … جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط إنه استعار اسم الذئب للمذق، وذلك بيّن الفساد. وكذا نحو قوله (¬3): [من البسيط] نبّئت أنّ أبا قابوس أوعدني … ولا قرار على زأر من الأسد لا يكون استعارة، وإن كنت تجد من يفهم البيت قد يقول: أراد بالأسد ¬

_ (¬1) الصواب «بخلا» بدل «بخلاف». (¬2) البيت يدور في كتب النحاة، وأنشده المبرّد لأحد الرجاز بلفظ بتنا بحسان ومعزاه تئطّ … ما زلت أسعى بينهم وألتبط حتى إذا كاد الظلام يختلط … جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط قيل: هو للعجاج، لم يذكره لسان العرب في «ذئب، مذق»، وحسان: اسم رجل، والمعزى: من الغنم، وتئطّ: يصوّت جوفها من الجوع، وألتبط: أسعى هنا وهناك. راجع الكامل بتحقيقي 2/ 438، ولسان العرب مادة: (مذق)، والمصنف على حق في عدم صحة الاستعارة هنا. (¬3) البيت نسبه ابن منظور للنابغة، ونسبه أبو الفرج الأصفهاني إليه قائلا: غنّاه الهذلي أي: أن هذا البيت مما غنّي من قصائد النابغة التي اعتذر فيها لأبي قابوس، والقابوس: الجميل الوجه الحسن اللون، وأبو قابوس: كنية النعمان بن المنذر بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي ملك العرب. راجع الأغاني 11/ 39، ولسان العرب مادة: (قبس).

فصل «في الاتفاق في الأخذ والسرقة والاستمداد والاستعانة»

النّعمان، أو شبّهه بالأسد، لأن ذلك بيان للغرض. فأمّا القضية الصحيحة وما يقع في نفس العارف، ويوجبه نقد الصّيرف، فإنّ الأسد واقع على حقيقته حتى كأنه قال: «ولا قرار على زأر هذا الأسد»، وأشار إلى الأسد خارجا من عرينه مهدّدا موعدا بزئيره. وأيّ وجه للشكّ في ذلك، وهو يؤدّي إلى أن يكون الكلام على حدّ قولك: «ولا قرار على زأر من هو كالأسد»؟ وفيه من العيّ والفجاجة شيء غير قليل. هذا، ومن حقّ غالط غلط في نحو ما ذكرت- على قلّة عذره- أن لا يغلط في قول الفرزدق (¬1): [من الوافر] قياما ينظرون إلى سعيد … كأنّهم يرون به هلالا ولا يتوهّم أن «هلالا» استعارة لسعيد، لأن الحكم على الاسم بالاستعارة مع وجود التشبيه الصريح، محال جار مجرى أن يكون كلّ اسم دخل عليه كاف التشبيه مستعارا. وإذا لم يغلط في هذا فالباقي بمنزلته، فاعرفه. فصل «في الاتّفاق في الأخذ والسّرقة والاستمداد والاستعانة» اعلم أنّ الشاعرين إذا اتفقا، لم يخل ذلك من أن يكون في الغرض على الجملة والعموم، أو في وجه الدلالة على ذلك الغرض. والاشتراك في الغرض على العموم: أن يقصد كلّ واحد منهما وصف ممدوحه بالشجاعة والسخاء، أو حسن الوجه والبهاء، أو وصف فرسه بالسرعة، أو ما جرى هذا المجرى. وأمّا وجه الدّلالة على الغرض، فهو أن يذكر ما يستدلّ به على إثباته له الشجاعة والسخاء مثلا. وذلك ينقسم أقساما: منها التشبيه بما يوجد هذا الوصف فيه على الوجه البليغ والغاية البعيدة، كالتشبيه بالأسد، وبالبحر في البأس والجود، والبدر والشّمس في الحسن والبهاء والإنارة والإشراق. ¬

_ (¬1) البيت من قصيدة قالها الفرزدق في مدح سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية. راجع ديوانه 2/ 69.

ومنها ذكر هيئات تدلّ على الصّفة من حيث كانت لا تكون إلا فيمن له الصّفة، كوصف الرّجل في حال الحرب بالابتسام وسكون الجوارح وقلّة الفكر، كقوله (¬1): [من الطويل] كأنّ دنانيرا على قسماتهم … وإن كان قد شفّ الوجوه لقاء وكذلك الجواد يوصف بالتّهلّل عند ورود العفاة، والارتياح لرؤية المجتدين، والبخيل بالعبوس والقطوب وقلّة البشر، مع سعة ذات اليد ومساعدة الدهر. فأما الاتفاق في عموم الغرض، فما لا يكون الاشتراك فيه داخلا في الأخذ والسرقة والاستمداد والاستعانة، لا ترى من به حسّ يدّعي ذلك، ويأبى الحكم بأنه لا يدخل في باب الأخذ، وإنما يقع الغلط من بعض من لا يحسن التحصيل، ولا ينعم التأمّل، فيما يؤدّي إلى ذلك، حتى يدّعى عليه في المحاجّة أنه بما قاله قد دخل في حكم من يجعل أحد الشاعرين عيالا على الآخر في تصوّر معنى الشجاعة، وأنّها مما يمدح به، وأن الجهل مما يذمّ به، فأمّا أن يقوله صريحا، ويرتكبه قصدا، فلا. وأمّا الاتفاق في وجه الدّلالة على الغرض، فيجب أن ينظر، فإن كان مما اشترك الناس في معرفته، وكان مستقرّا في العقول والعادات، فإنّ حكم ذلك، وإن كان خصوصا في المعنى، حكم العموم الذي تقدّم ذكره. من ذلك التشبيه بالأسد في الشجاعة، وبالبحر في السخاء، وبالبدر في النور والبهاء، وبالصبح في الظهور والجلاء ونفي الالتباس عنه والخفاء. وكذلك قياس الواحد في خصلة من الخصال على المذكور بذلك والمشهور به والمشار إليه، سواء كان ذلك ممن حضرك في زمانك، أو كان ممن سبق في الأزمنة الماضية والقرون الخالية، لأن هذا مما لا يختص بمعرفته قوم دون قوم، ولا يحتاج في العلم به إلى رويّة واستنباط وتدبّر وتأمّل، وإنما هو في حكم الغرائز المركوزة في النفوس، والقضايا التي وضع العلم بها في القلوب. وإن كان مما ينتهي إليه المتكلّم بنظر وتدبّر، ويناله بطلب واجتهاد، ولم يكن كالأوّل في حضوره إياه، وكونه في حكم ما يقابله الذي لا معاناة عليه فيه، ولا حاجة به إلى المحاولة والمزاولة والقياس والمباحثة والاستنباط والاستثارة، بل كان من دونه ¬

_ (¬1) البيت لمحرز بن مكعبر الضّبيّ، القسمات: مجاري العيون، وقيل ما بين الحاجبين. وقد فصّلنا القول في هذا البيت فراجعه في كتاب الكامل للمبرّد بتحقيقنا. راجع أيضا لسان العرب مادة: (قسم).

حجاب يحتاج إلى خرقه بالنظر، وعليه كمّ يفتقر إلى شقّه بالتفكير، وكان درّا في قعر بحر لا بدّ له من تكلّف الغوص عليه، وممتنعا في شاهق لا يناله إلّا بتجشّم الصعود إليه وكامنا كالنار في الزّند، لا يظهر حتى تقتدحه، ومشابكا لغيره كعروق الذهب التي لا تبدي صفحتها بالهوينا، بل تنال بالحفر عنها وتعريق الجبين في طلب التمكن منها. نعم، إذا كان هذا شأنه، وهاهنا مكانه، وبهذا الشرط يكون إمكانه، فهو الذي يجوز أن يدّعى فيه الاختصاص والسّبق والتقدّم والأوّلية، وأن يجعل فيه سلف وخلف، ومفيد ومستفيد، وأن يقضى بين القائلين فيه بالتفاضل والتباين، وأنّ أحدهما فيه أكمل من الآخر، وأنّ الثاني زاد على الأوّل أو نقص عنه، وترقّى إلى غاية أبعد من غايته، أو انحطّ إلى منزلة هي دون منزلته. واعلم أن ذلك الأوّل الذي هو المشترك العاميّ، والظاهر الجليّ، والذي قلت إنّ التفاضل لا يدخله، والتفاوت لا يصحّ فيه، إنما يكون كذلك ما كان صريحا ظاهرا لم تلحقه صنعة، وساذجا لم يعمل فيه نقش فأمّا إذا ركّب عليه معنى، ووصل به لطيفة، ودخل إليه من باب الكناية والتعريض، والرّمز والتلويح، فقد صار بما غيّر من طريقته، واستؤنف من صورته، واستجدّ له من المعرض، وكسي من دلّ التعرض، داخلا في قبيل الخاصّ الذي يتملّك بالفكرة والتعمّل، ويتوصّل إليه بالتدبّر والتأمّل. وذلك كقولهم، وهم يريدون التشبيه: «سلبن الظّباء العيون»، كقول بعض العرب (¬1): [من الوافر] سلبن ظباء ذي نفر طلاها … ونجل الأعين البقر الصّوارا وكقوله (¬2): [من البسيط] إنّ السحاب لتستحيي إذا نظرت … إلى نداك، فقاسته بما فيها وكقوله (¬3): [من الكامل] لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا … إلّا بوجه ليس فيه حياء ¬

_ (¬1) الطّلى: الأعناق ومفردها الطّلاة مثل تقاة تقى، وقيل مفردها الطّلوة، ونجل الأعين: من إضافة الصفة إلى الموصوف، والصوار بالضّم والكسر: القطيع من بقر الوحش. (¬2) البيت من قصيدة يمدح فيها أبو نواس العباس بن الفضل بن الربيع. راجع ديوانه ص 90، والإيضاح للقزويني بتحقيقنا ص 239. (¬3) البيت من قصيدة يمدح فيها المتنبي أبا علي هارون بن عبد العزيز الأوارجي الكاتب، واستعار فيه الوجه للشمس للمشاكلة والمعنى: لو كان عند الشمس حياء لما ظهرت أمام وجهك الأكثر ضياء منها. راجع ديوان المتنبي بشرح مصطفى سبيتي 1/ 174.

وكقوله (¬1): [من الكامل] واهتزّ في ورق النّدى فتحيّرت … حركات غصن البانة المتأوّد وكقوله (¬2): [من الطويل] فأفضيت من قرب إلى ذي مهابة … أقابل بدر الأفق حين أقابله إلى مسرف في الجود، لو أنّ حاتما … لديه، لأمسى حاتم وهو عاذله فهذا كله في أصله ومغزاه وحقيقة معناه تشبيه، ولكن كنى لك عنه، وخودعت فيه، وأتيت به من طريق الخلابة في مسلك السحر ومذهب التّخييل، فصار لذلك غريب الشكل، بديع الفن، منيع الجانب، لا يدين لكل أحد، وأبيّ العطف لا يدين به إلّا للمرويّ المجتهد. وإذا حقّقت النظر، فالخصوص الذي تراه، والحالة التي تراها، تنفي الاشتراك وتأباه، إنما هما من أجل أنهم جعلوا التشبيه مدلولا عليه بأمر آخر ليس هو من قبيل الظاهر المعروف، بل هو في حدّ لحن القول والتعمية اللّذين يتعمّد فيهما إلى إخفاء المقصود حتى يصير المعلوم اضطرارا، يعرف امتحانا واختيارا، كقوله: [من الوافر] مررت بباب هند فكلّمتني … فلا والله ما نطقت بحرف فكما يوهمك بإتقان اللفظ أنه أراد الكلام، وأن الميم موصولة باللام، كذلك المشبّه إذا قال: «سرقن الظباء العيون»، فقد أوهم أن ثمّ سرقة وأنّ العيون منقولة إليها من الظباء، وإن كنت تعلم إذا نظرت أنّه يريد أن يقول: إن عيونها كعيون الظباء في الحسن والهيئة وفترة النظر. وكذلك يوهمك بقوله: «إن السحاب لتستحيي»، أن السحاب حيّ يعرف ويعقل، وأنه يقيس فيضه بفيض كفّ الممدوح فيخزى ويخجل. فالاحتفال والصّنعة في التصويرات التي تروق السامعين وتروعهم، والتخييلات التي تهزّ الممدوحين وتحرّكهم، وتفعل فعلا شبيها بما يقع في نفس النّاظر إلى التصاوير التي يشكّلها الحذّاق بالتّخطيط والنقش، أو بالنّحت والنقر. فكما أن تلك تعجب وتخلب، وتروق وتؤنق، وتدخل النفس من مشاهدتها حالة غريبة لم تكن قبل رؤيتها، ويغشاها ضرب من الفتنة لا ينكر مكانه، ولا يخفى شأنه. ¬

_ (¬1) البيت في ديوان البحتري. (¬2) البيت في ديوان البحتري.

فقد عرفت قضيّة الأصنام وما عليه أصحابها من الافتتان بها والإعظام لها. كذلك حكم الشعر فيما يصنعه من الصور، ويشكّله من البدع، ويوقعه في النفوس من المعاني التي يتوهّم بها الجماد الصامت في صورة الحيّ الناطق، والموات الأخرس في قضية الفصيح المعرب والمبيّن المميّز، والمعدوم المفقود في حكم الموجود المشاهد، كما قدّمت القول عليه في باب التمثيل، حتى يكسب الدنيّ رفعة، والغامض القدر نباهة. وعلى العكس يغضّ من شرف الشريف، ويطأ من قدر ذي العزّة المنيف، ويظلم الفضل ويتهضّمه، ويخدش وجه الجمال ويتخوّنه، ويعطي الشبهة سلطان الحجّة، ويردّ الحجّة إلى صيغة الشبهة، ويصنع من المادة الخسيسة بدعا تغلو في القيمة وتعلو، ويفعل من قلب الجواهر وتبديل الطبائع ما ترى به الكيمياء وقد صحّت، ودعوى الإكسير وقد وضحت، إلّا أنها روحانية تتلبّس بالأوهام والأفهام، دون الأجسام والأجرام، ولذلك قال (¬1): [من الطويل] يري حكمة ما فيه وهو فكاهة … ويقضي بما يقضي به وهو ظالم وقال: [من الطويل] عليم بإبدال الحروف وقامع … لكلّ خطيب يقمع الحقّ باطله وقال ابن سكّرة فأحسن: [من مخلع البسيط] والشعر نار بلا دخان … وللقوافي رقى لطيفه لو هجي المسك، وهو أهل … لكل مدح، لصار جيفه كم من ثقيل المحلّ سام … هوت به أحرف خفيفه وقد عرفت ما كان من أمر القبيلة الّذين كانوا يعيّرون بأنف الناقة، حتى قال الحطيئة: [من البسيط] قوم هم الأنف والأذناب غيرهم، … ومن يسوّي بأنف النّاقة الذّنبا فنفى العار، وصحّح الافتخار، وجعل ما كان نقصا وشينا، فضلا وزينا، وما كان لقبا ونبزا يسوء السمع، شرفا وعزّا يرفع الطرف، وما ذاك إلا بحسن الانتزاع، ولطف القريحة الصّناع، والذّهن الناقد في دقائق الإحسان والإبداع، كما كساهم الجمال من حي كانوا عروا منه، وأثبتهم في نصاب الفضل من حيث نفوا عنه، فلربّ ¬

_ (¬1) البيت من قصيدة لأبي تمام يمدح فيها أحمد بن أبي دؤاد. راجع ديوانه ص 269.

أنف سليم قد وضع الشعر عليه حدّه فجدعه، واسم رفيع قلب معناه حتى حطّ به صاحبه ووضعه، كما قال: [من الكامل] يا حاجب الوزراء! إنّك عندهم … سعد، ولكن أنت سعد الذابح ومن العجيب في ذلك قول القائل في كثير بن أحمد: [من مخلع البسيط] لو علم الله فيه خيرا … ما قال: «لا خير في كثير» فانظر من أي مدخل دخل عليه، وكيف بالهوينا هدى البلاء إليه؟ وكثير هذا هو الذي يقول فيه الصاحب: [من الطويل] ومثل كثير في الزّمان قليل فقد صار الاسم الواحد وسيلة إلى الهدم والبناء، والمدح والهجاء، وذريعة إلى التزيين والتهجين. ومن عجيب ما اتفق في هذا الباب قول ابن المعتزّ في ذمّ القمر، واجتراؤه بقدرة البيان على تقبيحه، وهو الأصل والمثل، وعليه الاعتماد والمعوّل في تحسين كل حسن، وتزيين كلّ مزيّن، وأوّل ما يقع في النفوس إذا أريد المبالغة في الوصف بالجمال، والبلوغ فيه غاية الكمال، فيقال: «وجه كأنه القمر»، و «كأنه فلقة قمر»، ذلك لثقته بأنّ هذا القول إذا شاء سحر، وقلب الصور، وأنه لا يهاب أن يخرق الإجماع، ويسحر العقول ويقتسر الطباع، وهو (¬1): [من الكامل] يا سارق الأنوار من شمس الضّحى … يا مثكلي طيب الكرى ومنغّصي أمّا ضياء الشمس فيك فناقص … وأرى حرارة نارها لم تنقص لم يظفر التشبيه منك بطائل، … متسلّخ بهقا كلون الأبرص وقد علم أن ليس في الدنيا مثلة أخزى وأشنع، ونكال أبلغ وأفظع، ومنظر أحق بأن يملأ النفوس إنكارا، ويزعج القلوب استفظاعا له واستنكارا، ويغري الألسنة بالاستعاذة من سوء القضاء، ودرك الشقاء، من أن يصلب المقتول ويشبّح في الجذع، ثم قد ترى مرثية أبي الحسن الأنباري لابن بقيّة حين صلب، وما صنع فيها من السّحر، حتى قلب جملة ما يستنكر من أحوال المصلوب إلى خلافها، وتأوّل ¬

_ (¬1) الأبيات تحت عنوان «سارق الأنوار»، وسارق الأنوار هنا: القمر، والبهق بالفتح: بياض دقيق يعتري ظاهر البشرة. راجع ديوان ابن المعتز ص 286.

فيها تأويلات أراك فيها وبها ما تقضي منه العجب (¬1): [من الوافر] علوّ في الحياة وفي الممات … بحقّ أنت إحدى المعجزات كأنّ الناس حولك حين قاموا … وفود نداك أيّام الصّلات كأنك قائم فيهم خطيبا … وكلّهم قيام للصّلاة مددت يديك نحوهم احتفاء … كمدّهما إليهم بالهبات ولما ضاق بطن الأرض عن أن … يضمّ علاك من بعد الممات أصاروا الجوّ قبرك واستنابوا … عن الأكفان ثوب السّافيات لعظمك في النفوس تبيت ترعى … بحرّاس وحفّاظ ثقات وتشعل عندك النيران ليلا … كذلك كنت أيام الحياة ركبت مطيّة، من قبل زيد … علاها في السّنين الماضيات وتلك فضيلة فيها تأس … تباعد عنك تعيير العداة أسأت إلى الحوادث فاستثارت، … فأنت قتيل ثأر النائبات ولو أنّي قدرت على قيامي … بفرضك والحقوق الواجبات ملأت الأرض من نظم القوافي، … ونحت بها خلال النائحات ولكنّي أصبّر عنك نفسي … مخافة أن أعدّ من الجناة وما لك تربة فأقول تسقى، … لأنّك نصب هطل الهاطلات عليك تحيّة الرّحمن تترى … برحمات غواد رائحات ومما هو من هذا الباب، إلّا أنه مع ذلك احتجاج عقلي صحيح، قول المتنبي: وما التأنيث لاسم الشمس عيب … ولا التذكير فخر للهلال (¬2) فحقّ هذا أن يكون عنوان هذا الجنس، وفي صدر صحيفته، وطرازا لديباجته، لأنه دفع لنقص، وإبطال له، من حيث يشهد العقل للحجّة التي نطق بها بالصّحة. وذلك أن الصّفات الشريفة شريفة بأنفسها، وليس شرفها من حيث الموصوف. ¬

_ (¬1) قال عنها الشيخ شاكر معلقا: «ذكرها صاحب يتيمة الدهر في ترجمة الأنباري 2/ 344، وذكر بعضها صاحب الوافي بالوفيات في ترجمة ابن بختيار، وفي تاريخ ابن خلّكان 5/ 120 وغيرها من الكتب». (¬2) البيت من قصيدة مشهورة قالها أبو الطيب المتنبي في رثاء والدة سيف الدولة ويعزّيه بها. انظر ديوانه 2/ 12 ومطلع القصيدة: نعد المشرفية والعوالي … وتقتلنا المنون بلا قتال

فصل «في حدي الحقيقة والمجاز»

وكيف؟ والأوصاف سبب التفاضل بين الموصوفات، فكان الموصوف شريفا أو غير شريف من حيث الصفة، ولم تكن الصفة شريفة أو خسيسة من حيث الموصوف. وإذا كان الأمر كذلك وجب أن لا يعترض على الصفات الشريفة بشيء إن كان نقصا، فهو في خارج منها، وفيما لا يرجع إليها أنفسها ولا حقيقتها. وذلك الخارج هاهنا هو كون الشخص على صورة دون صورة. وإذا كان كذلك، كان الأمر: مقدار ضرر التأنيث إذا وجد في الخلقة على الأوصاف الشريفة، مقداره إذا وجد في الاسم الموضوع للشيء الشريف، لأنه في أن لا تأثير له من طريق العقل في تلك الأوصاف في الحالين على صورة واحدة، لأن الفضائل التي بها فضّل الرجل على المرأة، لم تكن فضائل لأنها قارنت صورة التذكير وخلقته، ولا أوجبت ما أوجبت من التعظيم لاقترانها بهذه الخلقة دون تلك، بل إنما أوجبته لأنفسها ومن حيث هي، كما أنّ الشيء لم يكن شريفا أو غير شريف من حيث أنّث اسمه أو ذكّر، بل يثبت الشرف وغير الشرف للمسمّيات من حيث أنفسها وأوصافها، لا من حيث أسماؤها، لاستحالة أن يتعدّى من لفظ، هو صوت مسموع، نقص أو فضل إلى ما جعل علامة له، فاعرفه. واعلم أن هذا هو الصحيح في تفسير هذا البيت، والطريقة المستقيمة في الموازنة بين تأنيث الخلقة وتأنيث الاسم، لا أن يقال إنّ المعنى أن المرأة إذا كانت في كمال الرجل من حيث العقل والفضل وسائر الخلال الممدوحة، كانت من حيث المعنى رجلا، وإن عدّت في الظاهر امرأة، لأجل أنه يفسد من وجهين: أحدهما أنه قال: «ولا التذكير فخر للهلال»، ومعلوم أنه لا يريد أن يقول: إن الهلال وإن ذكّر في لفظه فهو مؤنّث في المعنى، لفساد ذلك. ولأجل أنه إن كان يريد أن يضرب تأنيث اسم الشمس مثلا لتأنيث المرأة، على معنى أنها في المعنى رجل، وأن يثبت لها تذكيرا، فأيّ معنى لأن يعود فينحي على التذكير، ويغضّ منه ويقول: «ليس هو بفخر للهلال» هذا بيّن التناقض. فصل «في حدّي الحقيقة والمجاز» واعلم أن حدّ كل واحد من وصفى المجاز والحقيقة إذا كان الموصوف به المفرد، غير حدّه إذا كان الموصوف به الجملة، وأنا أبدأ بحدّهما في المفرد.

كلّ كلمة أريد بها ما وقعت له في وضع واضع، وإن شئت قلت: في مواضعة، وقوعا لا تستند فيه إلى غيره فهي «حقيقة». وهذه عبارة تنتظم الوضع الأوّل وما تأخّر عنه، كلغة تحدث في قبيلة من العرب، أو في جميع العرب، أو في جميع الناس مثلا، أو تحدث اليوم ويدخل فيها الأعلام منقولة كانت كزيد وعمرو، أو مرتجلة كغطفان وكلّ كلمة استؤنف لها على الجملة مواضعة، أو ادّعي الاستئناف فيها. وإنما اشترطت هذا كلّه، لأنّ وصف اللّفظة بأنها حقيقة أو مجاز، حكم فيها من حيث إنّ لها دلالة على الجملة، لا من حيث هي عربية أو فارسية، أو سابقة في الوضع، أو محدثة، مولّدة. فمن حقّ الحدّ أن يكون بحيث يجري في جميع الألفاظ الدالّة. ونظير هذا نظير أن تضع حدّا للاسم والصفة، في أنك تضعه بحيث لو اعتبرت به لغة غير لغة العرب، وجدته يجري فيها جريانه في العربية، لأنك تحدّ من جهة لا اختصاص لها بلغة دون لغة. ألا ترى أن حدّك «الخبر» بأنه «ما احتمل الصدق والكذب» مما لا يخصّ لسانا دون لسان؟ ونظائر ذلك كثيرة، وهو أحد ما غفل عنه الناس، ودخل عليهم اللبس فيه، حتى ظنّوا أنه ليس لهذا العلم قوانين عقلية، وأنّ مسائله مشبّهة باللغة، في كونها اصطلاحا يتوهّم عليه النقل والتبديل. ولقد فحش غلطهم فيه، وليس هذا موضع القول في ذلك. وإن أردت أن تمتحن هذا الحدّ، فانظر إلى قولك: «الأسد»، تريد به السّبع، فإنك تراه يؤدّي جميع شرائطه، لأنّك قد أردت به ما تعلم أنّه وقع له في وضع واضع اللغة. وكذلك تعلم أنه غير مستند في هذا الوقوع إلى شيء غير السّبع، أي: لا يحتاج أن يتصوّر له أصل أدّاه إلى السبع من أجل التباس بينهما وملاحظة. وهذا الحكم إذا كانت الكلمة حادثة، ولو وضعت اليوم، متى كان وضعها كذلك، وكذلك الأعلام. وذلك أنّي قلت: «ما وقعت له في وضع واضع أو مواضعة» على التنكير، ولم أقل: «في وضع الواضع الذي ابتدأ اللغة»، أو «في المواضعة اللغوية»، فيتوهّم أن الأعلام أو غيرهما مما تأخّر وضعه عن أصل اللغة يخرج عنه. ومعلوم أن الرجل يواضع قومه في اسم ابنه، فإذا سمّاه «زيدا»، فحاله الآن فيه كحال واضع اللغة حين جعله مصدرا «لزاد يزيد»، وسبق واضع اللغة له في وضعه للمصدر المعلوم، لا يقدح في اعتبارنا، لأنه يقع عند تسميته به ابنه وقوعا باتّا، ولا تستند حاله هذه إلى السابق من حاله بوجه من الوجوه.

وأمّا المجاز، فكلّ كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها، لملاحظة بين الثاني والأوّل، فهي مجاز وإن شئت قلت: «كلّ كلمة جزت بها ما وقعت به في وضع الواضع إلى ما لم توضع له، من غير أن تستأنف فيها وضعا، لملاحظة بين ما تجوّز بها إليه، وبين أصلها الذي وضعت له فيوضع واضعها، فهي «مجاز». ومعنى «الملاحظة»: هو أنها تستند في الجملة إلى غير هذا الذي تريده بها الآن، إلا أنّ هذا الاستناد يقوى ويضعف. بيانه ما مضى من أنّك إذا قلت: «رأيت أسدا»، تريد رجلا شبيها بالأسد، لم يشتبه عليك الأمر في حاجة الثاني إلى الأوّل. إذ لا يتصوّر أن يقع الأسد للرجل على هذا المعنى الذي أردته على التشبيه على حدّ المبالغة، وإيهام أنّ معنى من الأسد حصل فيه إلا بعد أن تجعل كونه اسما للسبع إزاء عينيك. فهذا إسناد تعلمه ضرورة، ولو حاولت دفعه عن وهمك حاولت محالا. فمتى عقل فرع من غير أصل، ومشبّه من غير مشبّه به؟ وكلّ ما طريقه التشبيه فهذا سبيله أعني: كل اسم جرى على الشيء للاستعارة، فالاستناد فيه قائم ضرورة. وأما ما عدا ذلك، فلا يقوى استناده هذه القوة، حتى لو حاول محاول أن ينكره أمكنه في ظاهر الحال، ولم يلزمه به خروج إلى المحال، وذلك كاليد للنعمة: لو تكلّف متكلّف فزعم أنه وضع مستأنف أو في حكم لغة مفردة، لم يمكن دفعه إلّا برفق وباعتبار خفيّ، وهو ما قدّمت من أنّا رأيناهم لا يوقعون هذه اللفظة على ما ليس بينه وبين هذه الجارحة التباس واختصاص. ودليل آخر، وهو أن «اليد» لا تكاد تقع للنعمة إلا وفي الكلام إشارة إلى مصدر تلك النعمة، وإلى المولي. لها، ولا تصلح حيث تراد النعمة مجرّدة من إضافة لها إلى المنعم أو تلويح به. بيان ذلك: أنك تقول: «اتسعت النعمة في البلد»، ولا تقول: «اتّسعت اليد في البلد»، وتقول: «أقتني نعمة»، ولا تقول: «اقتني يدا»، وأمثال ذلك تكثر إذا تأمّلت وإنما يقال: «جلّت يده عندي»، و «كثرت أياديه لديّ»، فتعلم أن الأصل صنائع يده وفوائده الصادرة عن يده وآثار يده. ومحال أن تكون «اليد» اسما للنعمة هكذا على الإطلاق، ثم لا تقع موقع النعمة. لو جاز ذلك، لجاز أن يكون المترجم للنعمة باسم لها في لغة أخرى، واضعا اسمها من تلك اللغة في مواضع لا تقع النعمة فيها من لغة العرب، وذلك محال.

ونظير هذا قولهم في صفة راعي الإبل: «إنّ له عليه إصبعا»، أي: أثرا حسنا، وأنشدوا (¬1): [من الطويل] ضعيف العصا، بادي العروق، ترى له … عليها إذا ما أجدب الناس إصبعا وأنشد شيخنا رحمه الله مع هذا البيت قول الآخر: [من الرجز] صلب العصا بالضّرب قد دمّاها أي: جعلها كالدّمى في الحسن. وكأن قوله: «صلب العصا»، وإن كان ضدّ قول الآخر: «ضعيف العصا»، فإنهما يرجعان إلى غرض واحد، وهو حسن الرّعية، والعمل بما يصلحها ويحسن أثره عليها. فأراد الأول بجعله «ضعيف العصا» أنه رفيق بها مشفق عليها، لا يقصد من حمل العصا أن يوجعها بالضرب من غير فائدة، فهو يتخيّر ما لان من العصيّ، وأراد الثاني أنه جيّد الضّبط لها عارف بسياستها في الرّعي، ويزجرها عن المراعي التي لا تحمد، ويتوخّى بها ما تسمن عليه، ويتضمّن أيضا أنه يمنعها عن التشرّد والتبدّد وأنها، لما عرفت من شدّة شكيمته وقوة عزيمته، وتنساق وتستوسق في الجهة التي يريدها، من غير أن يجدّد لها في كل حال ضربا. وقال آخر: [من الرجز] صلب العصا جاف عن التّغزّل فهذا لم يبيّن ما بيّنه الآخر وأعود إلى الغرض فأنت الآن لا تشكّ أن «الإصبع» مشار بها إلى إصبع اليد، وأن وقوعها بمعنى الأثر الحسن، ليس على أنه وضع مستأنف في إحدى اللغتين. ألا تراهم لا يقولون: «رأيت أصابع الدار»، بمعنى: آثار الدار، و «له إصبع حسنة»، و «إصبع قبيحة»، على معنى: أثر حسن وأثر قبيح ونحو ذلك، وإنّما أرادوا أن يقولوا: «له عليها أثر حذق»، ¬

_ (¬1) البيت للراعي النميري في ديوانه ص 162، والإيضاح ص 290 بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي. من قصيدة مطلعها: بني وابش إنا هوينا جواركم … وما جمعتنا نيّة قبلها معا وأجدب الناس: أي أصيبوا بالقحط، والبيت في المدح وجعل «ضعيف العصا» كناية عن حسن الرعية وغاية الشفقة فالسائس المشفق يختار العصا اللينة وأراد بالإصبع الأثر الناتج من حسن الرعية من التسمين والتوليد. انظر اللسان (صلب)، (صبع)، (عصا)، وتاج العروس (صلب)، (صبع)، (عصا).

فدلّوا عليه بالإصبع، لأن الأعمال الدقيقة له اختصاص بالأصابع، وما من حذق في عمل يد إلا وهو مستفاد من حسن تصريف الأصابع، واللّطف في رفعها ووضعها، كما تعلم في الخطّ والنقش وكلّ عمل دقيق. وعلى ذلك قالوا في تفسير قوله عزّ وجلّ: بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [القيامة: 4]، أي: نجعلها كخفّ البعير فلا تتمكّن من الأعمال اللّطيفة. فكما علمت ملاحظة «الإصبع» لأصلها، وامتناع أن تكون مستأنفة بأنك رأيتها لا يصحّ استعمالها حيث يراد الأثر على الإطلاق، ولا يقصد الإشارة إلى حذق في الصنعة، وأن يجعل أثر الإصبع إصبعا كذلك ينبغي أن تعلم ذلك في «اليد» لقيام هذه العلّة فيها، أعني: إن لم يجعل أثر اليد يدا، لم تقع للنعمة مجرّدة من هذه الإشارات، وحيث لا يتصوّر ذلك كقولنا: «أقتني نعمة»، فاعرفه. ويشبه هذا في أن عبّر عن أثر اليد والإصبع باسمهما، وضعهم الخاتم موضع الختم كقولهم: «عليه خاتم الملك»، و «عليه طابع من الكرم»، والمحصول أثر الخاتم والطابع، قال (¬1): [من الطويل] وقلن حرام قد أخلّ بربّنا … وتترك أموال عليها الخواتم وكذا قول الآخر (¬2): [من الوافر] إذا قضّت خواتمها وفكّت … يقال لها دم الودج الذبيح وأما تقدير الشيخ أبي عليّ في هذين البيتين حذف المضاف، وتأويله على معنى: «وتترك أموال عليها نقش الخواتم»، و «إذا فضّ ختم خواتمها»، فبيان لما يقتضيه الكلام من أصله، دون أن يكون الأمر على خلاف ما ذكرت من جعل أثر الخاتم خاتما. وأنت إذا نظرت إلى الشعر من جهته الخاصّة به، وذقته بالحاسّة المهيّأة لمعرفة طعمه، لم تشكّ في أن الأمر على ما أشرت لك إليه ويدلّ على أن المضاف قد ¬

_ (¬1) البيت للأعشى في ديوانه ص 129، وسر صناعة الإعراب 2/ 581، وبلا نسبة في الخصائص 2/ 490، وسر صناعة الإعراب 2/ 666، 769، وشرح المفصل 10/ 29، وجاء البيت في المعجم المفصل للشواهد بلفظ «يقلن» بدل «فقلن». وقال الشيخ شاكر معلقا عليه: وفي المخطوطة والمطبوعتين: «قد أحل بربنا» بالحاء المهملة، وهو خطأ: يقال: «خلّ الرّجل، وأخلّ به» إذا افتقر وذهب ماله واحتاج اه. (¬2) البيت لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 172، ولسان العرب (ذبح)، وتاج العروس (ذبح). والبيت قاله في وصف الخمر حين يفضّ عنها دنّها، وأراد بالمذبوح عنه المشقوق والأصل في الذبح: الشقّ، وقيل ذبيح: وصف للدماء.

وقع في المنسأة، وصار كالشّريعة المنسوخة، تأنيث الفعل في قوله «إذا فضّت خواتمها»، ولو كان حكمه باقيا لذكّرت الفعل كما تذكّره مع الإظهار، ولاستقصاء هذا موضع آخر. وينظر إلى هذا المكان قولهم: «ضربته سوطا»، لأنهم عبّروا عن الضربة التي هي واقعة بالسّوط باسمه، وجعلوا أثر السّوط سوطا. وتعلم على ذلك أن تفسيرهم له بقولهم: إن المعنى: «ضربته ضربة بسوط»، بيان لما كان عليه الكلام في أصله، وأنّ ذلك قد نسي ونسخ، وجعل كأن لم يكن، فاعرفه. وأمّا إذا أريد باليد القدرة، فهي إذن أحنّ إلى موضعها الذي بدئت منه، وأصبّ بأصلها، لأنك لا تكاد تجدها تراد معها القدرة، إلا والكلام مثل صريح، ومعنى القدرة منتزع من «اليد» مع غيرها، أو هناك تلويح بالمثل. فمن الصريح قولهم: «فلان طويل اليد»، يراد: فضل القدرة، فأنت لو وضعت القدرة هاهنا في موضع اليد أحلت، كما أنك لو حاولت في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد قالت له نساؤه صلّى الله عليه وسلّم: «أيّتنا أسرع لحاقا بك يا رسول الله»؟ فقال: «أطولكنّ يدا»، يريد السخاء والجود وبسط اليد بالبذل أن تضع موضع «اليد» شيئا مما أريد بهذا الكلام، خرجت من المعقول. وذلك أن الشّبه مأخوذ من مجموع الطويل واليد مضافا ذاك إلى هذه، فطلبه من «اليد» وحدها طلب الشيء على غير وجهه. ومن الظاهر في كون الشبه مأخوذا ما بين «اليد»، وغيرها قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات: 1]، المعنى: على أنهم أمروا باتّباع الأمر، فلما كان المتقدّم بين يدي الرّجل خارجا عن صفة المتابع له، ضرب جملة هذا الكلام مثلا للاتباع في الأمر، فصار النّهي عن التقدّم متعلّقا باليد نهيا عن ترك الاتباع. فهذا مما لا يخفى على ذي عقل أنه لا تكون فيه «اليد» بانفرادها عبارة عن شيء، كما قد يتوهّم أنها عبارة عن النعمة ومتناولة لها، كالوضع المستأنف، حتى كأن لم تكن قطّ اسم جارحة. وهكذا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمّتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم»، المعنى: وإن كان على قولك: «وهم عون على من سواهم»، فلا تقول: إن «اليد» بمعنى: العون حقيقة، بل المعنى: أن مثلهم مع كثرتهم في وجوب الاتّفاق بينهم، مثل اليد الواحدة فكما لا يتصوّر أن يخذل بعض أجزاء اليد بعضا، وأن تختلف بها الجهة في التصرف، كذلك سبيل المؤمنين في

تعاضدهم على المشركين، لأن كلمة التوحيد جامعة لهم، فلذلك كانوا كنفس واحدة. فهذا كله مما يعترف لك كل أحد فيه، بأنّ «اليد» على انفرادها لا تقع على شيء، فيتوهّم لها نقل من معنى إلى معنى على حدّ وضع الاسم واستئنافه. فأمّا ما تكون «اليد» فيه للقدرة على سبيل التلويح بالمثل دون التصريح، حتى ترى كثيرا من الناس يطلق القول: إنها بمعنى القدرة ويجريها مجرى اللفظ يقع لمعنيين، فكقوله تعالى: وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67]، تراهم يطلقون «اليمين» بمعنى: القدرة، ويصلون إليه قول الشمّاخ (¬1): [من الوافر] إذا ما راية رفعت لمجد … تلقّاها عرابة باليمين كما فعل أبو العباس في الكامل، فإنه أنشد البيت ثم قال: «قال أصحاب المعاني: معناه: بالقوة»، وقالوا مثل ذلك في قوله تعالى: وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ. وهذا منهم تفسير على الجملة، وقصد إلى نفي الجارحة بسرعة، خوفا على السامع من خطرات تقع للجهّال وأهل التشبيه جلّ الله وتعالى عن شبه المخلوقين ولم يقصدوا إلى بيان الطريقة والجهة التي منها يحصل على القدرة والقوة. وإذا تأمّلت علمت أنه على طريقة المثل. وكما أنّا نعلم في صدر هذه الآية وهو قوله عز وجل: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الزمر: 67]، أن محصول المعنى على القدرة، ثم لا نستجيز أن نجعل القبضة اسما للقدرة، بل نصير إلى القدرة من طريق التأويل والمثل، فنقول: إنّ المعنى والله أعلم أن مثل الأرض في تصرّفها تحت أمر الله وقدرته، وأنه لا يشذّ شيء مما فيها من سلطانه عزّ وجلّ، مثل الشيء يكون في قبضة الآخذ له منّا والجامع يده عليه. كذلك حقّنا أن نسلك بقوله تعالى: مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ هذا المسلك، فكأنّ المعنى- والله أعلم- أنه عزّ وجلّ يخلق فيها صفة الطيّ حتى ترى كالكتاب المطويّ بيمين الواحد منكم، وخصّ «اليمين» لتكون أعلى وأفخم للمثل. ¬

_ (¬1) البيت للشماخ وهو ابن ضرار الغطفاني، والبيت من ديوانه ص 336، والإيضاح 201، 274 بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي، والكامل بتحقيقنا 1/ 186، ولسان العرب (عرب)، (يمن)، وتهذيب اللغة 8/ 221، 5/ 523، وجمهرة اللغة 319، 994، وتاج العروس (عرب)، ومقاييس اللغة 6/ 158، وقد أورده ابن جني في الخصائص في الجزء الثالث بلا نسبة. وعرابة: اسم رجل من الأنصار من الأوس.

وإذا كنت تقول: «الأمر كلّه لله»، فتعلم أنه على سبيل أن لا سلطان لأحد دونه ولا استبداد وكذلك إذا قلت للمخلوق: «الأمر بيدك»، أردت المثل، وأنّ الأمر كالشيء يحصل في يده من حيث لا يمتنع عليه. فما معنى التوقّف في أن «اليمين» مثل، وليست باسم للقدرة، وكاللغة المستأنفة؟ ومن أين يتصوّر ذلك وأنت لا تراها تصلح حيث لا وجه للمثل والتشبيه؟ فلا يقال: «هو عظيم اليمين»، بمعنى عظيم القدرة، و «قد عرفت يمينك على هذا»، كما تقول: «عرفت قدرتك». وهكذا شأن البيت، إذا أحسنت النّظر وجدته إذا لم تأخذه من طريق المثل، ولم تأخذ مجموع المعنى من مجموع التلقّي واليمين على حدّ قولهم: «تقبّلته بكلتا اليدين»، وكقوله (¬1): [من الطويل] ولكن باليدين ضمانتي … وملّ بفلج فالقنافذ عوّدي وقبل هذا البيت (¬2): [من الطويل] لعمرك ما ملّت ثواء ثويّها … دليجة، إذ ألقى مراسي مقعد وهو يشكوك إلى طبع الشعر، ورأيت المعنى يتألّم ويتظلّم. وإن أردت أن تختبر ذلك فقل: إذا ما راية رفعت لمجد … تلقّاها عرابة باليمين (¬3) ¬

_ (¬1) البيت لأوس بن حجر في ديوانه يمدح فيهما حليمة بنت فضالة بن كلدة ويذكر فضلها وذلك حين صرعته ناقته. الأغاني 11/ 76. ويروى الشطر الثاني منه بلفظ: وحلّ بشرج م القبائل عوّدي والضمانة: مرض يصيب الجسد من كبر أو بلاء أو نحوهما. والفلج والقنافذ: موضعان فالفلج موضع بين البصرة وضريّة، وقيل: هو واد بطريق البصرة إلى مكة، والقنافذ: أرض فيها صعود وهبوط، وقيل: أجبل رمل. وعوّدي: جمع عائد، وهو الذي يعود المريض وأضيفت إلى ياء المتكلم. (¬2) البيت لأوس بن حجر في ديوانه وهو يسبق البيت السابق في الترتيب، وهو في الأغاني أيضا 11/ 76. والثواء: الإقامة والثويّ: المقيم وهو الضيف. «وألقى مراسي مقعد» يريد أقام عندها لا يستطيع الحركة، والمقعد: الذي أقعده المرض أو غيره. ويروى البيت «حليمة» بدل «دليجة». انظر السابق. (¬3) سبق تخريجه، ويروى «تناولها عرابة باقتدار» بدل «باليمين».

ثم انظر، هل تجد؟ ما كنت تجد، إن كنت ممّن يعرف طعم الشعر، ويفرّق بين التّفه الذي لا يكون له طعم وبين الحلو اللذيذ؟ وممّا يبيّن ذلك من جهة العبارة: أنّ الشعر كما تعلم لمدح الرّجل بالجود والسخاء، لأنه سأل الشمّاخ عمّا أقدمه؟ فقال: «جئت لأمتار»، فأوقر رواحله تمرا وأتحفه بغير ذلك. وإذا كان كذلك، كان المجد الذي تطاول له ومدّ إليه يده، من المجد الذي أراده أبو تمام بقوله (¬1): [من الوافر] توجّع أن رأت جسمي نحيفا … كأنّ المجد يدرك بالصّراع ولو كان في ذكر البأس والبطش وحيث تراد القوة والشدة، لكان حمل اليمين على صريح القوّة أشبه، وبأن يقع منه في القلب معنى يتماسك أجدر. فإن قال: أراد تلقّاها بجدّ وقوّة رغبة، قيل فينبغي أن يضع اليمين في مثل هذه المواضع. ومن التزم ذلك فالسكوت عنه أحسن. وما زال الناس يقولون للرجل إذا أرادوا حثّه على الأمر، وأن يأخذ فيه بالجدّ: «أخرج يدك اليمنى!» وذاك أنها أشرف اليدين وأقواهما، والتي لا غناء للأخرى دونها، فلا عني إنسان بشيء إلا بدأ بيمينه فهيّأها لنيله. ومتى ما قصدوا جعل الشيء في جهة العناية، جعلوه في اليد اليمنى، وعلى ذلك قول البحتري (¬2): [من الوافر] وإنّ يدي، وقد أسندت أمري … إليه اليوم، في يدك اليمين «إليه»، يعني إلى يونس بن بغا، وكان حظيّا عند الممدوح، وهو المعتز بالله. ولو أن قائلا قال: إذا ما راية رفعت لمجد … ومكرمة مددت لها اليمينا لم تره عادلا باليمين عن الموضع الذي وضعها الشمّاخ فيه. ولو أن هذا التأويل منهم كان في قول سليمان بن قتّة العدويّ (¬3): [من الوافر] بني تيم بن مرّة إنّ ربّي … كفاني أمركم وكفاكموني ¬

_ (¬1) البيت لأبي تمام في ديوانه ص 181، من قصيدة قالها يمدح مهدي بن أصرم مطلعها: خذي عبرات عينك عن زماعي … وصوني ما أذلت من القناع والزماع: الاعتزام، كانت نساء العرب إذا أيقن بالفراق كشفن رءوسهن وأبدين محاسنهن وبكين ليدعون بذلك إلى ترك الرحيل. (¬2) البيت في ديوانه فانظره. (¬3) الأبيات لسليمان بن قتة العدوي، وهو مولى تيم قريش. تيم بن مرة بن كعب بن لؤي. والفرس: مصدر فرس الأسد فريسته الكسر، قال ابن الأعرابي: الفرس أن تدقّ الرقبة قبل أن تذبح الشاة وافترس الدّابة: أخذه فدقّ عنقه. اللسان (فرس). الضّغن: الحقد، والضّغين: الرجل إذا وغر صدره ودوي،

فحيّوا ما بدا لكم، فإنّي … شديد الفرس للضغن الحرون يعاني فقدكم أسد مدلّ … شديد الأسر يضبث باليمين لكانوا أعذر فيه، لأن المدح مدح بالقوة والشدة. وعلى ذلك فإنّ اعتبار الأصل الذي قدّمت، وهو أنك لا ترى «اليمين» حيث لا معنى لليد، يقف بنا على الظاهر، كأنه قال: إذا ضبث ضبث باليمين. ومما يبيّن موضع بيت الشمّاخ، إذا اعتبرت به، قول الخنساء (¬1): [من المتقارب] إذا القوم مدّوا بأيديهم … إلى المجد مدّ إليه يدا فنال الذي فوق أيديهم … من المجد، ثم مضى مصعدا إذا رجعت إلى نفسك، لم تجد فرقا بين أن يمدّ إلى المجد يدا، وبين أن يتلقّى رايته باليمين. وهذا إن أردت الحقّ أبين من أن تحتاج فيه إلى فضل قول. إلّا أنّ هذا الضرب من الغلط، كالداء الدّويّ، حقّه أن يستقصى في الكيّ عليه والعلاج منه، فجنايته على معاني ما شرف من الكلام عظيمة، وهو مادّة للمتكلفين في التأويلات البعيدة والأقوال الشّنيعة. ومثل من توقّف في التفات هذه الأسامي إلى معانيها الأوّل، وظنّ أنها مقطوعة عنها قطعا يرفع الصلة بينها وبين ما جازت إليه، مثل من إذا نظر في قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق: 37]، فرأى المعنى على الفهم والعقل 1 أخذه ساذجا وقبله غفلا، وقال: «القلب، هاهنا بمعنى: العقل» وترك أن يأخذه من جهته، ويدخل إلى المعنى من طريق المثل فيقول: «إنّه حين لم ينتفع بقلبه، ولم يفهم بعد أن كان القلب للفهم، جعل كأنه قد عدم القلب جملة وخلع من صدره خلعا، كما جعل الذي لا يعي الحكمة ولا يعمل الفكر فيما تدركه عينه وتسمعه ¬

_ وامرأة ذات ضغن على زوجها إذا أبغضته وتضاغن القوم: انطووا على الأحقاد. اللسان (ضغن). والحرون: الصعب الذي لا ينقاد. وفرس حرون من خيل حرن: لا ينقاد إذا اشتد به الجري. المدلّ: الجريء، يقال: هي تدلّ عليه أي تجترئ عليه، يقال: ما دلّك عليّ؟ أي: ما جرّاك عليّ؟ ودلّ عليّ قومي أي: جرّأهم. اللسان (دلل). والأسر: السجن والحبس والقوة وأسرت الرجل أسرا فهو أسير ومأسور أي: محبوس، والإسار: الرباط. اللسان (أسر). والضبث: قبضك بكفّك على الشيء. (¬1) البيتان من المتقارب للخنساء في ديوانها ص 35، 36، وفي الكامل بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي 3/ 245.

أذنه، كأنه عادم للسمع والبصر، وداخل في العمى والصمم» ويذهب عن أنّ الرجل إذا قال: «قد غاب عني قلبي»، و «ليس يحضرني قلبي» فإنه يريد أن يخيّل إلى السامع أنه قد فقد قلبه، دون أن يقول: «غاب عني علمي وعزب عقلي»، وإن كان المرجع عند التحصيل إلى ذلك، كما أنه إذا قال: «لم أكن هاهنا»، يريد شدّة غفلته عن الشيء، فهو يضع كلامه على تخييل أنه كان غاب هكذا بجملته وبذاته، دون أن يريد الإخبار بأنّ علمه لم يكن هناك. وغرضي بهذا أن أعلمك أنّ من عدل عن الطريقة في الخفيّ، أفضى به الأمر إلى أن ينكر الجليّ، وصار من دقيق الخطأ إلى الجليل، ومن بعض الانحرافات إلى ترك السبيل. والذي جلب التّخليط والخبط الذي تراه في هذا الفنّ، أنّ الفرق بين أن يكون التشبيه مأخوذا من الشيء وحده، وبين أن يؤخذ ما بين شيئين، وينتزع من مجموع كلام، هو كما عرّفتك في الفرق بين الاستعارة والتمثيل باب من القول تدخل فيه الشّبهة على الإنسان من حيث لا يعلم، وهو (¬1) من السّهل الممتنع، يريك أن قد انقاد وبه إباء، ويوهمك أن قد أثّرت فيه رياضتك وبه بقيّة شماس. ومن خاصّيته أنك لا تفرق فيه بين الموافق والمخالف، والمعترف به والمنكر له، فإنك ترى الرجل يوافقك في الشيء منه، ويقرّ بأنه مثل، حتى إذا صار إلى نظير له خلّط: إمّا في أصل المعنى، وإما في العبارة. فالتخليط في المعنى كما مضى، من تأوّل اليمين على القوة. وكذكرهم أن القلب في الآية بمعنى العقل، ثم عدّهم ذلك وجها ثانيا. والتخليط في العبارة، كنحو ما ذكره بعضهم في قوله (¬2): [من المتقارب] هوّن عليك فإنّ الأمور … بكفّ الإله مقاديرها فإنه استشهد به في تأويل خبر جاء في عظم الثواب على الزكاة إذا كانت من ¬

_ (¬1) أي: الفرق بين أن يكون التشبيه مأخوذا من الشيء الواحد أو ما بين شيئين. (رشيد). (¬2) البيت للأعور الشنّي في الدرر 4/ 139، وفي الإيضاح ص 275 بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي، وشرح أبيات سيبويه 1/ 338، وشرح شواهد المغني 1/ 427، 2/ 874، والكتاب 1/ 64، ولبشر بن أبي خازم في العقد الفريد 3/ 207، ونسبها في كتاب العمدة إلى عمر بن الخطاب، ونقل البغدادي عن البيهقي في الأسماء والصفات بإسناده أن عمر كان يكثر إنشادهما دون نسبة وقال البغدادي في شرح شواهد المغني: رأيتهما في ديوان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وقال الشيخ شاكر: الصواب هو الأول يقصد للأعور الشنّي.

فصل «في المجاز العقلي والمجاز اللغوي والفرق بينهما»

الطّيب ثم قال: «الكفّ هاهنا بمعنى: السلطان والملك والقدرة، قال: وقيل الكف هاهنا بمعنى: النعمة». والخبر هو ما رواه أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ أحدكم إذا تصدّق بالتمرة من الطّيّب- ولا يقبل الله إلّا الطيب- جعل الله ذلك في كفّه، فيربّيها كما يربّي أحدكم فلوّه (¬1) حتى يبلغ بالتمرة مثل أحد»، ما يظنّ بمن نظر في العربية يوما أن يتوهّم أن «الكفّ» يكون على هذا الإطلاق، وعلى الانفراد، بمعنى السلطان والقدرة والنعمة، ولكنه أراد المثل فأساء العبارة، إلّا أنّ من سوء العبارة ما أثر التقصير فيه أظهر، وضرره على الكلام أبين. واستقصاء هذا الباب لا يتمّ حتى يفرد بكلام، والوجه الرجوع إلى الغرض. ويجب أن تعلم قبل ذلك أنّ خلاف من خالف في «اليد» و «اليمين»، وسائر ما هو مجاز لا من طريق التشبيه الصريح أو التمثيل، لا يقدح فيما قدّمت من حدّث الحقيقة والمجاز، لأنه لا يخرج في خلافه عن واحد من الاعتبارين، فمتى جعل «اليمين» على انفرادها تفيد القوة، فقد جعلها حقيقة، وأغناها عن أن تستند في دلالتها إلى شيء وإن اعترف بضرب من الحاجة إلى الجارحة والنظر إليها، فقد وافق في أنها مجاز. وكذا القياس في الباب كله، فاعرفه. فصل «في المجاز العقلي والمجاز اللغوي والفرق بينهما» والذي ينبغي أن يذكر الآن: حدّ الجملة في الحقيقة والمجاز، إلّا أنك تحتاج أن تعرف في صدر القول عليها ومقدّمته أصلا، وهو المعنى الذي من أجله اختصّت الفائدة بالجملة، ولم يجز حصولها بالكلمة الواحدة، كالاسم الواحد، والفعل من غير اسم يضمّ إليه. والعلّة في ذلك أن مدار الفائدة في الحقيقة على الإثبات والنفي، ألا ترى أن «الخبر» أوّل معاني الكلام وأقدمها، والذي تستند سائر المعاني إليه وتترتّب عليه؟ وهو ينقسم إلى هذين الحكمين. وإذا ثبت ذلك، فإن الإثبات يقتضي مثبتا ومثبتا له، نحو أنك إذا قلت «ضرب زيد» أو «زيد ضارب»، فقد أثبتّ الضرب فعلا أو وصفا لزيد وكذلك النفي يقتضي منفيّا ومنفيّا عنه، فإذا قلت: «ما ضرب زيد» و «ما زيد ضارب»، فقد نفيت الضرب عن زيد وأخرجته عن أن يكون فعلا له. فلما ¬

_ (¬1) الفلوّ والفلوّ: المهر الصغير أو الجحش إذا فطما، وجمعه: أفلاء.

كان الأمر كذلك احتيج إلى شيئين يتعلّق الإثبات والنفي بهما، فيكون أحدهما مثبتا والآخر مثبتا له وكذلك يكون أحدهما منفيّا والآخر منفيّا عنه. فكان ذانك الشيئان: المبتدأ والخبر، والفعل والفاعل. وقيل للمثبت وللمنفي «مسند» و «حديث»، وللمثبت له والمنفيّ عنه «مسند إليه» و «محدّث عنه». وإذا رمت الفائدة أن تحصل لك من الاسم الواحد أو الفعل وحده، صرت كأنّك تطلب أن يكون الشيء الواحد مثبتا ومثبتا له، ومنفيّا ومنفيّا عنه، وذلك محال. فقد حصل من هذا أنّ لكل واحد من حكمي الإثبات والنفي حاجة إلى أن تقيّده مرّتين، وتعلّقه بشيئين. تفسير ذلك: أنك إذا قلت: «ضرب زيد»، فقد قصدت إثبات الضرب لزيد. فقولك: «إثبات الضرب»، تقييد للإثبات بإضافته إلى الضرب ثم لا يكفيك هذا التقييد حتى تقيّده مرّة أخرى فتقول: «إثبات الضرب لزيد»، فقولك: «لزيد»، تقييد ثان وفي حكم إضافة ثانية. وكما لا يتصوّر أن يكون هاهنا إثبات مطلق غير مقيّد بوجه أعني أن يكون إثبات ولا مثبت له ولا شيء يقصد بذلك الإثبات إليه، لا صفة ولا حكم ولا موهوم بوجه من الوجوه كذلك لا يتصوّر أن يكون هاهنا إثبات مقيّد تقييدا واحدا، نحو إثبات شيء فقط، دون أن تقول: «إثبات شيء لشيء»، كما مضى من إثبات الضرب لزيد. والنفي بهذه المنزلة، فلا يتصوّر نفي مطلق، ولا نفي شيء فقط، بل تحتاج إلى قيدين كقولك: «نفي شيء عن شيء». فهذه هي القضية المبرمة الثابتة التي تزول الرّاسيات ولا تزول. ولا تنظر إلى قولهم: «فلان يثبت كذا»، أي: يدّعي أنه موجود، و «ينفي كذا»، أي: يقضي بعدمه كقولنا: «أبو الحسن يثبت مثال جخدب بفتح الدال، وصاحب الكتاب ينفيه»، لأنّ الذي قصدته هو الإثبات والنفي في الكلام. ثم اعلم أن في الإثبات والنفي بعد هذين التقييدين حكما آخر: هو كتقييد ثالث، وذلك أنّ للإثبات جهة، وكذلك النفي. ومعنى ذلك: أنك تثبت الشيء للشيء مرّة من جهة، وأخرى من جهة غير تلك الأولى. وتفسيره: أنّك تقول: «ضرب زيد»، فتثبت الضرب فعلا لزيد وتقول «مرض زيد» فتثبت المرض وصفا له، وهكذا سائر ما كان من أفعال الغرائز والطباع، وذلك في الجملة على ما لا يوصف الإنسان بالقدرة عليه، نحو: كرم وظرف وحسن وقبح وطال وقصر. وقد يتصوّر في الشيء الواحد أن تثبته من الجهتين جميعا، وذلك في

كل فعل دلّ على معنى يفعله الإنسان في نفسه نحو: «قام» و «قعد». إذا قلت: «قام زيد»، فقد أثبتّ القيام فعلا له من حيث تقول: «فعل القيام» و «أمرته بأن يفعل القيام»، وأثبتّه أيضا وصفا له من حيث أن تلك الهيئة موجودة فيه، وهو في اكتسابه لها كالشخص المنتصب، والشجرة القائمة على ساقها التي توصف بالقيام، لا من حيث كانت فاعلة له، بل من حيث كان وصفا موجودا فيها. وإذ قد عرفت هذا الأصل، فها هنا أصل آخر يدخل في غرضنا: وهو أن الأفعال على ضربين: «متعدّ» و «غير متعدّ»، فالمتعدّي على ضربين: ضرب يتعدّى إلى شيء هو مفعول به، كقولك: «ضربت زيدا»، «زيدا» مفعول به، لأنك فعلت به الضرب ولم يفعله بنفسه. وضرب يتعدّى إلى شيء هو مفعول على الإطلاق، وهو في الحقيقة «كفعل» وكلّ ما كان مثله في كونه عامّا غير مشتقّ من معنى خاصّ «كصنع، وعمل، وأوجد، وأنشأ». ومعنى قولي: «من معنى خاصّ» أنه ليس «كضرب» الذي هو مشتقّ من «الضرب» أو «أعلم» الذي هو مأخوذ من العلم. وهكذا كل ما له مصدر، ذلك المصدر في حكم جنس من المعاني. فهذا الضّرب (¬1) إذا أسند إلى شيء كان المنصوب له مفعولا لذلك الشيء على الإطلاق، كقولك: «فعل زيد القيام»، فالقيام مفعول في نفسه وليس بمفعول به. وأحقّ من ذلك أن تقول: «خلق الله الأناسيّ، وأنشأ العالم، وخلق الموت والحياة»، والمنصوب في هذا كله مفعول مطلق لا تقييد فيه، إذ من المحال أن يكون معنى: «خلق العالم» «فعل الخلق به»، كما تقول في «ضربت زيدا» «فعلت الضرب بزيد»، لأن «الخلق» من «خلق» «كالفعل» من «فعل»، فلو جاز أن يكون المخلوق كالمضروب، لجاز أن يكون المفعول في نفسه كذلك، حتى يكون معنى: «فعل القيام» «فعل شيئا بالقيام»، وذلك من شنيع المحال. وإذ قد عرفت هذا، فاعلم أن الإثبات في جميع هذا الضرب أعني فيما منصوبه مفعول، وليس مفعولا به يتعلق بنفس المفعول. فإذا قلت: «فعل زيد الضرب»، كنت أثبتّ الضرب فعلا لزيد، وكذلك تثبت «العالم» في قولك: «خلق الله العالم»، خلقا لله تعالى. ولا يصحّ في شيء من هذا الباب أن تثبت المفعول وصفا البتة، وتوهّم ذلك خطأ عظيم وجهل نعوذ بالله منه. ¬

_ (¬1) يريد بهذا الضرب نحو فعل وصنع إلخ. (رشيد).

وأما الضرب الآخر: وهو الذي منصوبه مفعول به، فإنك تثبت فيه المعنى الذي اشتقّ منه فعل فعلا للشيء، كإثباتك الضرب لنفسك في قولك: «ضربت زيدا»، فلا يتصوّر أن يلحق الإثبات مفعوله، لأنه إذا كان مفعولا به، ولم يكن فعلا لك، استحال أن تثبته فعلا، وإثباته وصفا أبعد في الإحالة. فأما قولنا في نحو: «ضربت زيدا»، إنك أثبتّ زيدا مضروبا، فإنّ ذلك يرجع إلى أنك تثبت الضرب واقعا به منك، فأمّا أن تثبت ذات زيد لك، فلا يتصوّر، لأن الإثبات كما مضى لا بدّ له من جهة، ولا جهة هاهنا. وهكذا إذا قلت: «أحيا الله زيدا»، كنت في هذا الكلام مثبتا الحياة فعلا لله تعالى في زيد، فأما ذات زيد، فلم تثبتها فعلا لله بهذا الكلام، وإنما يتأتّى لك ذلك بكلام آخر، نحو أن تقول: «خلق الله زيدا» و «وأوجده» وما شاكله، مما لا يشتقّ من معنى خاصّ كالحياة والموت ونحوهما من المعاني. وإذ قد تقرّرت هذه المسائل، فينبغي أن تعلم أن من حقك إذا أردت أن تقضي في الجملة بمجاز أو حقيقة، أن تنظر إليها من جهتين: إحداهما: أن تنظر إلى ما وقع بها من الإثبات، أهو في حقه وموضعه، أم قد زال عن الموضع الذي ينبغي أن يكون فيه؟ والثانية: أن تنظر إلى المعنى المثبت أعني: ما وقع عليه الإثبات كالحياة في قولك: «أحيا الله زيدا»، والشيب في قولك: «أشاب الله رأسي»، أثابت هو على الحقيقة، أم قد عدل به عنها؟ وإذا مثّل لك دخول المجاز على الجملة من الطريقين، عرفت ثباتها على الحقيقة منهما. فمثال ما دخله المجاز من جهة الإثبات دون المثبت قوله (¬1): [من الطويل] وشيّب أيّام الفراق مفارقي … وأنشزن نفسي فوق حيث تكون ¬

_ (¬1) البيت لجميل في ديوانه وجاء برواية لفظها: وتشيّب روعات الفراق مفارقي … وأنشزن نفسي فوق حيث تكون وفي الإيضاح ص 31 بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي ونسبه البعض لجرير بن عطية. والمفارق جمع مفرق، وهو مواضع افتراق الشعر، والمعنى: أيام الفراق رفعت نفسه عن مكانها من الجسم وبلغت بها الحلقوم.

وقوله (¬1): [من المتقارب] أشاب الصغير وأفنى الكبي … ر كرّ الغداة ومرّ العشي المجاز واقع في إثبات الشيب فعلا للأيام ولكرّ الليالي، وهو الذي أزيل عن موضعه الذي ينبغي أن يكون فيه، لأن من حق هذا الإثبات، أعني إثبات الشّيب فعلا، أن لا يكون إلا مع أسماء الله تعالى، فليس يصحّ وجود الشيب فعلا لغير القديم سبحانه. وقد وجّه في البيتين كما ترى إلى الأيام وكرّ الليالي، وذلك ما لا يثبت له فعل بوجه، لا الشيب ولا غير الشيب. وأما المثبت فلم يقع فيه مجاز، لأنه الشيب وهو موجود كما ترى. وهكذا إذا قلت: «سرّني الخبر» و «سرّني لقاؤك»، فالمجاز في الإثبات دون المثبت، لأن المثبت هو «السرور»، وهو حاصل على حقيقته. ومثال ما دخل المجاز في مثبته دون إثباته، قوله عز وجل: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [الأنعام: 122]، وذلك أن المعنى- والله أعلم- على أن جعل العلم والهدى والحكمة حياة للقلوب، على حدّ قوله عز وجل: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52]، فالمجاز في المثبت وهو «الحياة»، فأما الإثبات فواقع على حقيقته، لأنه ينصرف إلى أن الهدى والعلم والحكمة فضل من الله وكائن من عنده. ومن الواضح في ذلك قوله عز وجل: فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [فاطر: 9]، وقوله: إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى [فصلت: 39]، جعل خضرة الأرض ونضرتها وبهجتها بما يظهره الله تعالى فيها من النّبات والأنوار والأزهار وعجائب الصنع، حياة لها، فكان ذلك مجازا في المثبت، من حيث جعل ما ليس ¬

_ (¬1) البيت للصلتان العبدي وهو في الكامل بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي 3/ 25، والبيت جاء ضمن عدة أبيات له في الشعر والشعراء ومنها: إذا ليلة هرّمت يومها … أتى بعد ذلك يوم فتي نروح ونغدو لحاجاتنا … وحاجة من عاش لا تنقضي وهو من الشعر المستحسن له وجاءت الأبيات عنه في خزانة الأدب 1/ 308، وعيون الأخبار 3/ 132، وديوان الحماسة بشرح المرزوقي 3/ 1209، والحيوان 3/ 477، إلا أن الجاحظ نسبها للصلتان السعدي والأبيات بلا نسبة في لسان العرب (هرم).

بحياة حياة على التشبيه، فأما نفس الإثبات فمحض الحقيقة، لأنه إثبات لما ضرب الحياة مثلا له فعلا لله تعالى، لا حقيقة أحقّ من ذلك. وقد يتصوّر أن يدخل المجاز الجملة من الطريقين جميعا. وذلك أن يشبّه معنى بمعنى وصفة بصفة، فيستعار لهذه اسم تلك، ثم تثبت فعلا لما لا يصحّ الفعل منه، أو فعل تلك الصفة، فيكون أيضا في كل واحد من الإثبات والمثبت مجاز، كقول الرجل لصاحبه: «أحيتني رؤيتك»، يريد: آنستني وسرّتني ونحوه، فقد جعل الأنس والمسرّة الحاصلة بالرؤية حياة أوّلا، ثم جعل الرؤية فاعلة لتلك الحياة. وشبيه به قول المتنبي (¬1): [من الطويل] وتحيي له المال الصّوارم والقنا … ويقتل ما يحيي التّبسّم والجدا جعل الزيادة والوفور حياة في المال، وتفريقه في العطاء قتلا، ثم أثبت الحياة فعلا للصوارم، والقتل فعلا للتبسم، مع العلم بأنّ الفعل لا يصحّ منهما. ونوع منه: «أهلك النّاس الدينار والدرهم»، جعل الفتنة هلاكا على المجاز، ثم أثبت الهلاك فعلا للدينار والدرهم، وليسا مما يفعلان، فاعرفه. وإذ قد تبيّن لك المنهاج في الفرق بين دخول المجاز في الإثبات، وبين دخوله في المثبت، وبين أن ينتظمهما عرفت الصورة في الجميع، فاعلم أنه إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من العقل، وإذا عرض في المثبت فهو متلقّى من اللغة، فإن طلبت الحجّة على صحة هذه الدّعوى، فإنّ فيما قدّمت من القول ما يبيّنها لك، ويختصر لك الطريق إلى معرفتها. وذلك أن الإثبات إذا كان من شرطه أن يقيّد مرّتين كقولك: «إثبات شيء لشيء»، ولزم من ذلك أن لا يحصل إلا بالجملة التي هي تأليف بين حديث ومحدّث عنه، ومسند ومسند إليه، علمت أن مأخذه العقل، وأنه القاضي فيه دون اللغة، لأن اللغة لم تأت لتحكم بحكم أو لتثبت وتنفى، وتنقض وتبرم. فالحكم بأن الضّرب ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه ص 124 من قصيدة يمدح بها سيف الدولة ويهنئه بعيد الأضحى، مطلعها: لكلّ امرئ من دهره ما تعودا … وعادة سيف الدولة الطعن في العدا انظر البيت في الإيضاح بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي، وشرح التبيان للعكبري 1/ 195، والإشارات والتنبيهات ص 26. والصوارم: السيوف، والقنا: جمع قناة وهي الرمح، والجدا: العطاء والجدا مقصور الجدوى، والجدا: المطر العام والمعنى الأول هو الأنسب للبيت، وقد ذكره شارح ديوانه، إذ لا محل لكونه بمعنى المطر هنا ويثبته أيضا تعليق الخطيب بعده.

فعل لزيد، أو ليس بفعل له، وأن المرض صفة له، أو ليس بصفة له، شيء يضعه المتكلم ودعوى يدّعيها. وما يعترض على هذه الدعوى من تصديق أو تكذيب، أو اعتراف أو إنكار، وتصحيح أو إفساد، فهو اعتراض على المتكلّم، وليس اللغة من ذلك بسبيل، ولا منه في قليل ولا كثير. وإذا كان كذلك، كان كلّ وصف يستحقّه هذا الحكم من صحة وفساد، وحقيقة ومجاز، واحتمال واستحالة، فالمرجع فيه والوجه إلى العقل المحض وليس للغة فيه حظّ، فلا تحلى ولا تمرّ، والعربيّ فيه كالعجميّ، والعجميّ كالتركيّ، لأن قضايا العقول هي القواعد والأسس التي يبنى غيرها عليها، والأصول التي يردّ ما سواها إليها. فأما إذا كان المجاز في المثبت كنحو قوله تعالى: فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ [سورة فاطر: 9]، فإنما كان مأخذه اللغة، لأجل أنّ طريقة المجاز بأن أجري اسم الحياة على ما ليس بحياة، تشبيها وتمثيلا، ثم اشتقّ منها- وهي في هذا التقدير- الفعل الذي هو «أحيا»، واللغة هي التي اقتضت أن تكون الحياة اسما للصّفة التي هي ضدّ الموت، فإذا تجوّز في الاسم فأجري على غيرها، فالحديث مع اللغة، فاعرفه. إن قال قائل في أصل الكلام الذي وضعته على أن المجاز يقع تارة في الإثبات، وتارة في المثبت، وأنه إذا وقع في الإثبات فهو طالع عليك من جهة العقل، وباد لك من أفقه وإذا عرض في المثبت فهو آتيك من ناحية اللغة: ما قولكم إن سوّيت بين المسألتين، وادّعيت أن المجاز بينهما جميعا في المثبت وأنزّل هكذا فأقول: «الفعل» الذي هو مصدر «فعل» قد وضع في اللغة للتأثير في وجود الحادث، كما أن الحياة موضوعة للصفة المعلومة، فإذا قيل: «فعل الرّبيع النّور»، جعل تعلّق النّور في الوجود بالربيع من طريق السّبب والعادة «فعلا»، كما تجعل خضرة الأرض وبهجتها حياة، والعلم في قلب المؤمن نورا وحياة. وإذا كان كذلك، كان المجاز في أن جعل ما ليس بفعل فعلا، وأطلق اسم الفعل على غير ما وضع له في اللغة، كما جعل ما ليس بحياة حياة وأجري اسمها عليه، فإذا كان ذلك مجازا لغويّا، فينبغي أن يكون هذا كذلك. فالجواب أنّ الذي يدفع هذه الشبهة، أن تنظر إلى مدخل المجاز في المسألتين. فإن كان مدخلهما من جانب واحد، فالأمر كما ظننت، وإن لم يكن كذلك استبان لك الخطأ في ظنّك. والذي بيّن اختلاف دخوله فيهما، أنك تحصل على المجاز في مسألة «الفعل»

بالإضافة لا بنفس الاسم، فلو قلت: «أثبتّ النّور فعلا» لم تقع في مجاز، لأنه فعل لله تعالى، وإنما تصير إلى المجاز إذا قلت: «أثبتّ النّور فعلا للربيع». وأما في مسألة «الحياة»، فإنك تحصل على المجاز بإطلاق الاسم فحسب من غير إضافة، وذلك قولك: «أثبت بهجة الأرض حياة» أو «جعلها حياة»، أفلا ترى المجاز قد ظهر لك في «الحياة» من غير أن أضفتها إلى شيء، أي: من غير أن قلت: «لكذا»؟ وهكذا إذا عبّرت بالنفس، تقول في مسألة الفعل: «جعل ما ليس بفعل للربيع فعلا له»، وتقول في هذه: «جعل ما ليس بحياة حياة» وتسكت، ولا تحتاج أن تقول: «جعل ما ليس بحياة للأرض حياة للأرض»، بل لا معنى لهذا الكلام، لأن يقتضي أنك أضفت حياة حقيقة إلى الأرض، وجعلتها مثلا تحيا بحياة غيرها، وذلك بيّن الإحالة. ومن حقّ المسائل الدقيقة أن تتأمّل فيها العبارات التي تجري بين السائل والمجيب، وتحقّق، فإنّ ذلك يكشف عن الغرض، ويبيّن جهة الغلط. وقولك: «جعل ما ليس بفعل فعلا» احتذاء لقولنا: «جعل ما ليس بحياة حياة» لا يصحّ- لأن معنى هذه العبارة أن يراد بالاسم غير معناه لشبه يدّعى أو شيء كالشبه، لا أن يعطّل الاسم من الفائدة، فيراد بها ما ليس بمعقول. فنحن إذا تجوّزنا في «الحياة»، فأردنا بها العلم، فقد أودعنا الاسم معنى، وأردنا به صفة معقولة كالحياة نفسها ولا يمكنك أن تشير في قولك: «فعل الربيع النّور»، إلى معنى تزعم أن لفظ «الفعل» ينقل عن معناه إليه، فيراد به، حتى يكون ذلك المعنى معقولا منه، كما عقل التأثير في الوجود، وحتى تقول: «لم أرد به التأثير في الوجود، ولكن أردت المعنى الفلانيّ الذي هو شبيه به أو كالشبيه، أو ليس بشبيه مثلا، إلا أنه معنى خلف معنى آخر على الاسم، إذ ليس وجود النور بعقب المطر، أو في زمان دون زمان، مما يعطيك معنى في المطر أو في الزمان، فتريده بلفظ «الفعل»، فليس إلا أن تقول: «لما كان النّور لا يوجد إلا بوجود الربيع، توهّم للربيع تأثير في وجوده، فأثبتّ له ذلك»، وإثبات الحكم أو الوصف لما ليس له قضيّة عقلية، لا تعلّق لها في صحّة وفساد باللغة، فاعرفه. ومما يجب ضبطه في هذا الباب: أن كل حكم يجب في العقل وجوبا حتى لا

يجوز خلافه، فإضافته إلى دلالة اللّغة وجعله مشروطا فيها محال لأن اللغة تجري مجرى العلامات والسّمات، ولا معنى للعلامة والسّمة حتى يحتمل الشيء ما جعلت العلامة دليلا عليه وخلافه، فإنما كانت «ما» مثلا علما للنفس، لأن هاهنا نقيضا له وهو الإثبات. وهكذا إنما كانت «من» لما يعقل، لأن هاهنا ما لا يعقل، فمن ذهب يدّعي أن في قولنا: «فعل» و «صنع» ونحوه دلالة من جهة اللغة على القادر، فقد أساء من حيث قصد الإحسان، لأنه- والعياذ بالله- يقتضي جواز أن يكون هاهنا تأثير في وجود الحادث لغير القادر، حتى يحتاج إلى تضمين اللفظ الدلالة على اختصاصه بالقادر، وذلك خطأ عظيم. فالواجب أن يقال: «الفعل» موضوع للتأثير في وجود الحادث في اللغة، والعقل قد قضى وبتّ الحكم بأن لا حظّ في هذا التأثير لغير القادر. وما يقوله أهل النظر من أنّ من لم يعلم الحادث موجودا من جهة القادر عليه، فهو لم يعلمه فعلا لا يخالف هذه الجملة، بل لا يصحّ حقّ صحّته إلا مع اعتبارها. وذلك أن «الفعل» إذا كان موضوعا للتأثير في وجود الحادث، وكان العقل قد بيّن بالحجج القاطعة والبراهين الساطعة استحالة أن يكون لغير القادر تأثير في وجود الحادث، وأن يقع شيء مما ليس له صفة القادر، فمن ظنّ الشيء واقعا من غير القادر، فهو لم يعلمه فعلا، لأنه لا يكون مستحقّا هذا الاسم حتى يكون واقعا من غيره. ومن نسب وقوعه إلى ما لا يصح وقوعه منه، ولا يتصوّر أن يكون له تأثير في وجوده وخروجه من العدم، فلم يعلمه واقعا من شيء البتة. وإذا لم يعلمه واقعا من شيء، لم يعلمه فعلا، كما أنه إذا لم يعلمه كائنا بعد أن لم يكن، لم يعلمه واقعا ولا حادثا، فاعرفه. واعلم أنك إن أردت أن ترى المجاز وقد وقع في نفس الفعل والخلق، ولحقهما من حيث هما لا إثباتهما، وإضافتهما، فالمثال في ذلك قولهم في الرجل يشفي على هلكة ثم يتخلّص منها: «هو إنما خلق الآن» و «إنما أنشئ اليوم» و «قد عدم ثم أنشئ نشأة ثانية»، وذلك أنك تثبت هاهنا خلقا وإنشاء، من غير أن يعقل ثابتا على الحقيقة، بل على تأويل وتنزيل، وهو أن جعلت حالة إشفائه على الهلكة عدما وفناء وخروجا من الوجود، حتى أنتج هذا التقدير أن يكون خلاصه منها ابتداء وجود وخلقا وإنشاء. أفيمكنك أن تقول في نحو: «فعل الربيع النور» بمثل هذا التأويل، فتزعم أنك

أثبتّ فعلا وقع على النّور من غير أن كان ثمّ فعل، ومن غير أن يكون النّور مفعولا؟ أو هو مما يتعوّذ بالله منه، وتقول: الفعل واقع على النّور حقيقة، وهو مفعول مجهول على الصّحة، إلا أن حقّ الفعل فيه أن يثبت لله تعالى، وقد تجوّز بإثباته للربيع؟ أفليس قد بان أن التجوّز هاهنا في إثبات الفعل للربيع لا في الفعل نفسه، فإن التجوّز في مسألة المتخلّص من الهلكة حيث قلت: «إنه خلق مرة ثانية» في الفعل نفسه، لا في إثباته؟ فلك كيف نظرت فرق بين المجاز في الإثبات، وبينه في المثبت. وينبغي أن تعلم أن قولي: «في المثبت مجاز»، ليس مرادي أن فيه مجازا من حيث هو مثبت، ولكن المعنى أن المجاز في نفس الشيء الذي تناوله الإثبات نحو أنك أثبتّ الحياة صفة للأرض في قوله تعالى: يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [سورة الحديد: 17]، والمراد غيرها، فكان المجاز في نفس الحياة لا في إثباتها هذا، وإذا كان لا يتصوّر إثبات شيء لا لشيء، استحال أن يوصف المثبت من حيث هو مثبت بأنه مجاز أو حقيقة. ومما ينتهي في البيان إلى الغاية أن يقال للسائل: هبك تغالطنا بأن مصدر «فعل» نقل أوّلا من موضعه في اللغة، ثم اشتقّ منه، فقل لنا ما نصنع بالأفعال المشتقّة من معان خاصّة، كنسج، وصاغ، ووشّى، ونقش؟ أتقول إذا قيل «نسج الربيع» و «صاغ الربيع» و «وشّى»: إن المجاز في مصادر هذه الأفعال التي هي النّسج والوشي والصّوغ، أم تعترف أنه في إثباتها فعلا للربيع؟ وكيف تقول: «إن في أنفسها مجازا»، وهي موجودة بحقيقتها؟ بل ماذا يغني عنك دعوى المجاز فيها، لو أمكنك، ولا يمكنك أن تقتصر عليها في كون الكلام مجازا- أعني لا يمكنك أن تقول: «إن الكلام مجاز من حيث لم يكن ائتلاف تلك الأنوار نسجا ووشيا»، وتدع حديث نسبتها إلى الربيع جانبا؟ هذا، وهاهنا مالا وجه لك لدعوى المجاز في مصدر الفعل منه كقولك: «سرّني الخبر»، فإن السرور بحقيقته موجود، والكلام مع ذلك مجاز. وإذا كان كذلك، علمت ضرورة ليس المجاز إلّا في إثبات السرور فعلا للخبر، وإيهام أنه أثّر في حدوثه وحصوله. ويعلم كلّ عاقل أن المجاز لو كان من طريق اللغة، لجعل ما ليس بالسرور سرورا، فأمّا الحكم بأنه فعل للخبر، فلا يجري في وهم أنه يكون من اللغة بسبيل، فاعرفه.

فإن قال: «النسج فعل معنى، وهو المضامّة بين أشياء، وكذلك الصّوغ فعل الصورة في الفضّة ونحوها، وإذا كان كذلك، قدّرت أن لفظ الصّوغ مجاز من حيث دلّ على الفعل والتأثير في الوجود، حقيقة من حيث دلّ على الصّورة، كما قدّرت أنت في «أحيا الله الأرض»، أنّ «أحيا» من حيث دلّ على معنى فعل حقيقة، ومن حيث دلّ على الحياة مجاز». قيل: ليس لك أن تجيء إلى لفظ أمرين، فتفرّق دلالته وتجعله منقولا عن أصله في أحدهما دون الآخر. لو جاز هذا لجاز أن تقول في اللطم الذي هو ضرب باليد، أنه يجعل مجازا من حيث هو ضرب، وحقيقة من حيث هو باليد، وذلك محال- لأن كون الضرب باليد لا ينفصل عن الضرب، فكذلك كون الفعل فعلا للصورة لا ينفصل عن الصورة. وليس الأمر كذلك في قولنا: «أحيا الله الأرض»، لأن معنا هنا لفظين: أحدهما مشتقّ وهو «أحيا» - والآخر: مشتقّ منه وهو «الحياة»، فنحن نقدّر في المشتقّ أنه نقل عن معناه الأصلي في اللّغة إلى معنى آخر، ثم اشتقّ منه «أحيا» بعد هذا التقدير ومعه، وهو مثل أنّ لفظ اليد ينقل إلى النعمة، ثم يشتقّ منه «يديت»، فاعرفه. ومما يجب أن تعلم في هذا الباب: أن الإضافة في الاسم كالإسناد في الفعل. فكلّ حكم يجب في إضافة المصدر من حقيقة أو مجاز، فهو واجب في إسناد الفعل. فانظر الآن إلى قولك: «أعجبني وشي الربيع الرياض، وصوغه تبرها، وحوكه ديباجها»، هل تعلم لك سبيلا في هذه الإضافات إلى التعليق باللغة، وأخذ الحكم عليها منها، أم تعلم امتناع ذلك عليك؟ وكيف، والإضافة لا تكون حتى تستقرّ اللغة، ويستحيل أن يكون للغة حكم في الإضافة ورسم، حتى يعلم أنّ حقّ الاسم أن يضاف إلى هذا دون ذلك؟ وإذا عرفت ذلك في هذه المصادر التي هي «الصوغ» و «الوشي» و «الحوك» فضع مصدر فعل الذي- هو عمدتك في سؤالك، وأصل شبهتك- موضعها وقل: «أما ترى إلى فعل الربيع لهذه المحاسن»، ثم تأمّل هل تجد فصلا بين إضافته وإضافة تلك؟ فإذا لم تجد الفصل البتة، فاعلم صحة قضيّتنا، وانفض يدك بمسألتك، ودع النّزاع عنك، وإلى الله تعالى الرغبة في التوفيق.

فصل

فصل قال أبو القاسم الآمدي في قول البحتري (¬1): [من البسيط] فصاغ ما صاغ من تبر ومن ورق … وحاك ما حاك من وشي وديباج صوغ الغيث النبت وحوكه النبات، ليس باستعارة بل هو حقيقة، ولذلك لا يقال: «هو صائغ» ولا «كأنه صائغ» وكذلك لا يقال: «حائك» و «كأنه حائك»، على أن لفظة «حائك» خاصّة في غاية الركاكة، إذا أخرج على ما أخرجه عليه أبو تمام في قوله (¬2): [من الطويل] إذا الغيث غادى نسجه خلت أنّه … خلت حقب حرس له وهو حائك وهذا قبيح جدّا، والذي قاله البحتري: «وحاك ما حاك»، حسن مستعمل، فانظر ما بين الكلامين لتعلم ما بين الرّجلين. قد كتبت هذا الفصل على وجهه، والمقصود منه منعه أن تطلق الاستعارة على «الصوغ» و «الحوك»، وقد جعلا فعلا للربيع، واستدلاله على ذلك بامتناع أن يقال: «كأنه صائغ» و «كأنه حائك». اعلم أن هذا الاستدلال كأحسن ما يكون، إلا أن الفائدة تتمّ بأن تبيّن جهته، ومن أين كان كذلك؟ والقول فيه: إن التشبيه كما لا يخفى يقتضي شيئين مشبّها ومشبّها به. ثم ينقسم إلى الصريح وغير الصريح، فالصريح أن تقول: «كأنّ زيدا الأسد»، فتذكر كل واحد من المشبّه والمشبّه به باسمه- وغير الصريح أن تسقط المشبّه به من الذكر، وتجري اسمه على المشبّه كقولك: «رأيت أسدا»، تريد رجلا شبيها بالأسد، إلا أنك تعيره اسمه مبالغة وإيهاما أن لا فصل بينه وبين الأسد، وأنه قد استحال إلى الأسدية. ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه فانظره. والتّبر: الذهب كله وقيل: الذهب المكسور، وقيل: الفتات من الذهب والفضة والورق والورق: الدراهم المضروبة. والوشي: من الثياب وهو يكون من كل لون والجمع: وشاء. والديباج: ضرب من الثياب والدّبج: النقش والتزيين والديباج جمعها: دبابيج وديابيج. (¬2) البيت في ديوانه ص 211، والبيت فيه «أتت» بدل «خلت» وهو من قصيدة يمدح فيها أبا سعيد محمد بن يوسف الثغري مطلعها: قرى دراهم منّي الدموع السوافك … وإن عاد صبحي بعدهم وهو حالك والسوافك: المنصبة، والحالك: الأسود. وقال الشيخ شاكر: انتهى كلام أبي القاسم الآمدي هنا وهو في كتابه الموازنة 1/ 497، 498 (المعارف). ونقله الشيخ (يقصد عبد القاهر) في دلائل الإعجاز رقم 647 ص 553 اه. والحقبة: مدة من الدهر جمعها حقب، والحرس: الدهر.

فإذا كان الأمر كذلك وأنت تشبّه شخصا بشخص، فإنك إذا شبّهت فعلا بفعل كان هذا حكمه، فأنت تقول مرّة: «كأن تزيينه لكلامه نظم درّ»، فتصرّح بالمشبّه والمشبّه به، وتقول أخرى: «إنما ينظم درّا»، تجعله كأنه ناظم درّا على الحقيقة. وتقول في وصف الفرس: «كأن سيره سباحة»، و «كأن جريه طيران طائر»، هذا إذا صرّحت، وإذا أخفيت واستعرت قلت: «يسبح براكبه»، و «يطير بفارسه»، فتجعل حركته سباحة وطيرانا. ومن لطيف ذلك ما كان كقول أبي دلامة يصف بغلته (¬1): [من الوافر] أرى الشهباء تعجبن إذ غدونا … برجليها، وتخبز باليمين شبّه حركة رجليها حين لم تثبتهما على موضع تعتمد بهما عليه وهوتا ذاهبتين نحو يديها، بحركة يدي العاجن، فإنه لا يثبت اليد في موضع، بل يزلّها إلى قدّام، وتزلّ من عند نفسها لرخاوة العجين- وشبّه حركة يديها بحركة يد الخابز، من حيث كان الخابز يثني يده نحو بطنه، ويحدث فيها ضربا من التقويس، كما تجد في يد الدابّة إذا اضطربت في سيرها، ولم تقف على ضبط يديها، ولن ترمي بها إلى قدّام، ولن تشدّ اعتمادها، حتى تثبت في الموضع الذي تقع عليه فلا تزول عنه ولا تنثني وأعود إلى المقصود. فإذا كان لا تشبيه حتى يكون معك شيئان، وكان معنى الاستعارة أن تعير المشبّه لفظ المشبّه به، ولم يكن معنا في «صاغ الربيع» أو «حاك الربيع» إلا شيء واحد، وهو الصّوغ أو الحوك، كان تقدير الاستعارة فيه محالا جاريا مجرى أن تشبّه الشيء بنفسه، وتجعل اسمه عاريّة فيه، وذلك بيّن الفساد. فإن قلت: أليس الكلام على الجملة معقودا على تشبيه الربيع بالقادر، في تعلّق وجود الصوغ والنسج به؟ فكيف لم يجز دخول «كأنّ» في الكلام من هذه الجهة؟ فإن هذا التشبيه ليس هو التشبيه الذي يعقد في الكلام ويفاد بكأن والكاف ونحوهما، وإنما هو عبارة عن الجهة التي راعاها المتكلم حين أعطى الربيع حكم القادر في إسناد الفعل إليه. وزانه وزان قولنا: إنهم يشبّهون «ما» بليس، فيرفعون بها ¬

_ (¬1) البيت لأبي دلامة وقيل: إنه قاله في مدح بغلته التي كانت تسمى الشهباء، والعاجن من الرجال: المعتمد على الأرض بجمعه إذا أراد النهوض، وعجنت الناقة: تضرب بيديها إلى الأرض في سيرها.

المبتدأ وينصبون بها الخبر فيقولون: «ما زيد منطلقا»، كما يقولون: «ليس زيد منطلقا»، فنخبر عن تقدير قدّروه في نفوسهم، وجهة راعوها في إعطاء «ما» حكم «ليس» في العمل. فكما لا يتصوّر أن يكون قولنا: «ما زيد منطلقا»، تشبيها على حدّ «كأنّ زيدا الأسد»، كذلك لا يكون «صاغ الربيع» من التشبيه. فكلامنا إذن في تشبيه مقول منطوق به، وأنت في تشبيه معقول غير داخل في النطق. هذا، وإن يكن هاهنا تشبيه، فهو في الربيع لا في الفعل المسند إليه، واختلافنا في «صاغ» و «حاك» هل يكون تشبيها واستعارة أم لا؟ فلا يلتقي التشبيهان، أو يلتقي المشئم والمعرق. وهذا هو القول على الجملة إذا كانت حقيقة أو مجازا، وكيف وجه الحدّ فيها؟ فكلّ جملة وضعتها على أن الحكم المفاد بها على ما هو عليه في العقل، وواقع موقعه منه، فهي حقيقة. ولن تكون كذلك حتى تعرى من التأوّل، ولا فصل بين أن تكون مصيبا فيما أفدت بها من الحكم أو مخطئا وصادقا أو غير صادق. فمثال وقوع الحكم المفاد موقعه من العقل على الصحة واليقين والقطع قولنا: «خلق الله تعالى الخلق، وأنشأ العالم، وأوجد كل موجود سواه». فهذه من أحقّ الحقائق وأرسخها في العقول، وأقعدها نسبا في العقول، والتي إن رمت أن تغيب عنها غبت عن عقلك، ومتى هممت بالتوقّف في ثبوتها استولى النّفي على معقولك، ووجدتك كالمرميّ به من حالق إلى حيث لا مقرّ لقدم، ولا مساغ لتأخّر وتقدّم، كما قال أصدق القائلين جلّت أسماؤه، وعظمت كبرياؤه: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ [الحج: 31]. وأمّا مثال أن توضع الجملة على أن الحكم المفاد بها واقع موقعه من العقل، وليس كذلك، إلا أنه صادر من اعتقاد فاسد وظنّ كاذب، فمثل ما يجيء في التنزيل من الحكاية عن الكفار نحو: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24]، فهذا ونحوه من حيث لم يتكلم به قائله على أنّه متأوّل، بل أطلقه بجهله وعماه إطلاق من يضع الصّفة في موضعها، لا يوصف بالمجاز، ولكن يقال: «عند قائله أنه حقيقة»، وهو كذب وباطل، وإثبات لما ليس بثابت، أو نفي لما ليس بمنتف، وحكم لا يصحّحه العقل في الجملة، بل يردّه ويدفعه، إلّا أن قائله جهل مكان الكذب والبطلان فيه، أو جحد وباهت. ولا يتخلّص لك الفصل بين الباطل وبين المجاز، حتى تعرف حدّ المجاز،

وحدّه: أنّ كلّ جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضعه من العقل لضرب من التأوّل، فهي مجاز. ومثاله ما مضى من قولهم: «فعل الربيع»، وكما جاء في الخبر «إنّ ممّا ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلمّ»، قد أثبت الإنبات للربيع، وذلك خارج عن موضعه من العقل، لأن إثبات الفعل لغير القادر لا يصحّ في قضايا العقول، إلّا أن ذلك على سبيل التأوّل، وعلى العرف الجاري بين الناس، أن يجعلوا الشيء، إذا كان سببا أو كالسبب في وجود الفعل من فاعله، كأنه فاعل. فلما أجرى الله سبحانه العادة وأنفذ القضيّة أن تورق الأشجار، وتظهر الأنوار، وتلبس الأرض ثوب شبابها في زمان الربيع، صار يتوهّم في ظاهر الأمر ومجرى العادة، كأنّ لوجود هذه الأشياء حاجة إلى الربيع، فأسند الفعل إليه على هذا التأوّل والتنزيل. وهذا الضرب من المجاز كثير في القرآن، فمنه قوله تعالى: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها [إبراهيم: 25]، وقوله عزّ اسمه: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً [الأنفال: 2]، وفي الأخرى: فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً [التوبة: 124]، وقوله: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها [الزلزلة: 2]، وقوله عز وجل: حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ [الأعراف: 57] أثبت الفعل في جميع ذلك لما لا يثبت له فعل إذا رجعنا إلى المعقول، على معنى السّبب. وإلّا فمعلوم أن النخلة ليست تحدث الأكل، ولا الآيات توجد العلم في قلب السامع لها، ولا الأرض تخرج الكامن في بطنها من الأثقال، ولكن إذا حدثت فيها الحركة بقدرة الله، ظهر ما كنز فيها وأودع جوفها. وإذا ثبت ذلك، فالمبطل والكاذب لا يتأوّل في إخراج الحكم عن موضعه وإعطائه غير المستحق، ولا يشبه كون المقصود سببا بكون الفاعل فاعلا، بل يثبت القضية من غير أن ينظر فيها من شيء إلى شيء، ويردّ فرعا إلى أصل، وتراه أعمى أكمه يظنّ ما لا يصحّ صحيحا، وما لا يثبت ثابتا، وما ليس في موضعه من الحكم موضوعا موضعه. وهكذا المتعمّد للكذب يدّعي أن الأمر على ما وضعه تلبيسا وتمويها، وليس هو من التّأويل في شيء. والنكتة أن المجاز لم يكن مجازا لأنه إثبات الحكم لغير مستحقّه، بل لأنه أثبت لما لا يستحق تشبيها وردّا له إلى ما يستحقّ، وأنه ينظر من هذا إلى ذاك، وإثباته ما أثبت للفرع الذي ليس بمستحقّ، ويتضمّن الإثبات للأصل الذي هو

المستحقّ، فلا يتصوّر الجمع بين شيئين في وصف أو حكم من طريق التشبيه والتأويل، حتى يبدأ بالأصل في إثبات ذلك الوصف والحكم له. ألا تراك لا تقدر على أن تشبّه الرجل بالأسد في الشجاعة، ما لم تجعل كونها من أخصّ أوصاف الأسد وأغلبها عليه نصب عينيك؟ وكذلك لا يتصوّر أن يثبت المثبت الفعل للشيء على أنه سبب، ما لم ينظر إلى ما هو راسخ في العقل من أن لا فعل على الحقيقة إلا للقادر، لأنه لو كان نسب الفعل إلى هذا السبب نسبة مطلقة- لا يرجع فيها إلى الحكم القادر، والجمع بينهما من حيث تعلّق وجوده بهذا السبب من طريق العادة، كما يتعلق بالقادر من طريق الوجوب- لما اعترف بأنه سبب، ولادّعى أنه أصل بنفسه، مؤثّر في وجود الحادث كالقادر. وإن تجاهل متجاهل فقال بذلك- على ظهور الفضيحة وإسراعها إلى مدّعيه- كان الكلام عنده حقيقة، ولم يكن من مسألتنا في شيء، ولحق بنحو قول الكفار: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24]. وليس ذلك المقصود في مسألتنا، لأن الغرض هاهنا ما وضع فيه الحكم واضعه على طريق التأوّل، فاعرفه. ومن أوضح ما يدلّ على أنّ إثبات الفعل للشيء على أنه سبب يتضمّن إثباته للمسبّب، من حيث لا يتصوّر دون تصوّره، أن تنظر إلى الأفعال المسندة إلى الأدوات والآلات، كقولك: «قطع السكّين» و «قتل السيف»، فإنك تعلم أنه لا يقع في النفس من هذا الإثبات صورة، ما لم تنظر إلى إثبات الفعل للمعمل الأداة والفاعل بها. فلو فرضت أن لا يكون هاهنا قاطع بالسكّين ومصرّف لها، أعياك أن تعقل من قولك: «قطع السكين» معنى بوجه من الوجوه. وهذا من الوضوح، بحيث لا يشكّ عاقل فيه. وهذه الأفعال المسندة إلى من تقع تلك الأفعال بأمره، كقولك: «ضرب الأمير الدرهم» و «بنى السّور»، لا تقوم في نفسك صورة لإثبات الضّرب والبناء فعلا للأمير، بمعنى الأمر به، حتى تنظر إلى ثبوتهما للمباشر لهما على الحقيقة. والأمثلة في هذا المعنى كثيرة تتلقّاك من كل جهة، وتجدها أنّى شئت. واعلم أنه لا يجوز الحكم على الجملة بأنها مجاز إلا بأحد أمرين: فإمّا أنه يكون الشيء الذي أثبت له الفعل مما لا يدّعي أحد من المحقّين والمبطلين أن مما يصحّ أن يكون له تأثير في وجود المعنى الذي أثبت له، وذلك نحو قول الرجل: «محبّتك جاءت بي إليك»، وكقول عمرو بن العاص في ذكر الكلمات التي استحسنها: «هنّ مخرجاتي من الشأم»، فهذا ما لا يشتبه على أحد أنّه مجاز.

وإمّا أنه يكون قد علم من اعتقاد المتكلّم أنه لا يثبت الفعل إلا للقادر، وأنه ممن لا يعتقد الاعتقادات الفاسدة، كنحو ما قاله المشركون وظنّوه من ثبوت الهلاك فعلا للدهر، فإذا سمعنا نحو قوله (¬1): [من المتقارب] أشاب الصغير وأفنى الكبي … ر كرّ الغداة ومرّ العشي وقول ذي الإصبع (¬2): [من المنسرح] أهلكنا الليل والنهار معا … والدّهر يعدو مصمّما جذعا كان طريق الحكم عليه بالمجاز، أن تعلم اعتقادهم التوحيد، إما بمعرفة أحوالهم السابقة، أو بأن تجد في كلامهم من بعد إطلاق هذا النحو، ما يكشف عن قصد المجاز فيه، كنحو ما صنع أبو النجم، فإنه قال أوّلا (¬3): [من الرجز] قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي … عليّ ذنبا كلّه لم أصنع من أن رأت رأسي كرأس الأصلع … ميّز عنه قنزعا عن قنزع جذب الليالي: أبطئي أو أسرعي فهذا على المجاز وجعل الفعل للّيالي ومرورها، إلّا أنه خفيّ غير بادي الصفحة، ثم فسّر وكشف عن وجه التأوّل وأفاد أنه بنى أول كلامه على التخيّل فقال: ¬

_ (¬1) البيت للصلتان العبدي وهو في الكامل بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي 3/ 25، والبيت سبق تخريجه فارجع له إن شئت. (¬2) البيت في ديوانه، وفي الأغاني 3/ 93، وجاء الأول لأربعة أبيات قالها بعد ما كبر وخرف فهجره أصهاره ولاموه فقال: أهلكنا الليل والنهار معا … والدهر يعدو مصمّما جذعا فليس فيما أصابني عجب … إن كنت شيبا أنكرت أو صلعا وكنت إذ رونق الشباب به … ماء شبابي تخاله شرعا والحيّ فيه الفتاة ترمقني … حتى مضى شأو ذاك فانقشعا والجذع من الرجال: الشاب الحدث، وانقشع: انجلى عنه. (¬3) الأبيات لأبي النجم وأورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص 25، وعزاه لأبي النجم، وبدر الدين بن مالك في المصباح ص 144، والطيبي في التبيان 1/ 321 بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي، وهو في الإيضاح ص 28، والمفتاح ص 504، بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي، ودلائل الإعجاز ص 278. والبيت الثاني معروف فيه روايتان إحداهما: «طيّر عنها قنزعا» والأخرى «سيّر عنه». والأصلع: من لا شعر له. والقنزع: ما ارتفع من الشعر وطال، وقيل: هو القليل من الشعر إذا كان في وسط الرأس خاصة. وقيل: هو الشّعر حوالي الرأس والجمع قنازع.

أفناه قيل الله للشمس اطلعي … حتّى إذا واراك أفق فارجعي (¬1) فبيّن أن الفعل لله تعالى، وأنه المعيد والمبدي، والمنشئ والمفني، لأنّ المعنى في «قيل الله»، أمر الله، وإذا جعل الفناء بأمره فقد صرّح بالحقيقة وبيّن ما كان عليه من الطريقة. واعلم أنه لا يصحّ أن يكون قول الكفّار: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ، ومن باب التأويل والمجاز، وأن يكون الإنكار عليهم من جهة ظاهر اللفظ، وأنّ فيه إيهاما للخطأ. كيف؟ وقد قال تعالى بعقب الحكاية عنهم: وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [سورة الجاثية: 24]، والمتجوّز أو المخطئ في العبارة لا يوصف بالظن، إنّما الظانّ من يعتقد أن الأمر على ما قاله وكما يوجبه ظاهر كلامه. وكيف يجوز أن يكون الإنكار من طريق إطلاق اللفظ دون إثبات الدهر فاعلا للهلاك، وأنت ترى في نصّ القرآن ما جرى فيه اللفظ على إضافة فعل الهلاك إلى الريح مع استحالة أن تكون فاعلة، وذلك قوله عز وجل: «مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ [آل عمران: 117]، وأمثال ذلك كثير؟ ومن قدح في المجاز، وهمّ أن يصفه بغير الصدق، فقد خبط خبطا عظيما، ويهرف بما لا يخفى. ولو لم يجب البحث عن حقيقة المجاز والعناية به، حتى تحصّل ضروبه، وتضبط أقسامه، إلا للسلامة من مثل هذه المقالة، والخلاص ممّا نحا نحو هذه الشّبهة، لكان من حقّ العاقل أن يتوفّر عليه، ويصرف العناية إليه، فكيف وبطالب الدّين حاجة ماسّة إليه من جهات يطول عدّها، وللشيطان من جانب الجهل به مداخل خفيّة يأتيهم منها، فيسرق دينهم من حيث لا يشعرون، ويلقيهم في الضلالة من حيث ظنّوا أنهم يهتدون؟ وقد اقتسمهم البلاء فيه من جانبي الإفراط والتفريط، فمن مغرور مغرى بنفيه دفعة، والبراءة منه جملة، يشمئزّ من ذكره، وينبو عن اسمه، يرى أن لزوم الظواهر فرض لازم، وضرب الخيام حولها حتم واجب، وآخر يغلو فيه ويفرط، ويتجاوز حدّه ويخبط، فيعدل عن الظاهر والمعنى عليه، ويسوم نفسه التعمّق في التأويل ولا سبب يدعو إليه. ¬

_ (¬1) البيت لأبي النجم أيضا، وهو يعقب الأبيات السابقة فانظره في الإيضاح بتحقيق د. هنداوي، والمفتاح كذلك بتحقيقنا والبيت في نفس المصادر السابقة فارجع لها إن شئت. وأفناه: قيل الضمير لجذب، وقيل: لشعر رأسه، وقيل: لأبي النجم وهو المناسب لما بعده، وقيل الله: أمره. خزانة الأدب 1/ 365.

أمّا التفريط، فما تجد عليه قوما في نحو قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ [البقرة: 210]، وقوله: وَجاءَ رَبُّكَ [الفجر: 22]، و: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5]، وأشباه ذلك من النّبوّ عن أقوال أهل التحقيق. فإذا قيل لهم: «الإتيان» و «المجيء» انتقال من مكان إلى مكان، وصفة من صفات الأجسام، وأن «الاستواء» إن حمل على ظاهره لم يصحّ إلّا في جسم يشغل حيّزا ويأخذ مكانا، والله عز وجل خالق الأماكن والأزمنة، ومنشئ كل ما تصحّ عليه الحركة والنّقلة، والتمكن والسكون، والانفصال والاتصال، والمماسّة والمحاذاة، وأن المعنى على: «إلّا أن يأتيهم أمر الله» و «جاء أمر ربك»، وأنّ حقه أن يعبّر بقوله تعالى: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر: 2]، وقول الرجل: «آتيك من حيث لا تشعر»، يريد أنزل بك المكروه، وأفعل ما يكون جزاء لسوء صنيعك، في حال غفلة منك، ومن حيث تأمن حلوله بك. وعلى ذلك قوله: [من الطويل] أتيناهم من أيمن الشّقّ عندهم … ويأتي الشقيّ الحين من حيث لا يدري نعم، إذا قلت ذلك للواحد منهم، رأيته إن أعطاك الوفاق بلسانه، فبين جنبيه قلب يتردّد في الحيرة ويتقلّب، ونفس تفرّ من الصواب وتهرب، وفكر واقف لا يجيء ولا يذهب، يحضره الطبيب بما يبرئه من دائه، ويريه المرشد وجه الخلاص من عميائه، ويأبى إلا نفارا عن العقل، ورجوعا إلى الجهل، لا يحضره التوفيق بقدر ما يعلم به أنه إذا كان لا يجري في قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82]، على الظاهر، لأجل علمه أن الجماد لا يسأل مع أنه لو تجاهل متجاهل فادّعى أن الله تعالى خلق الحياة في تلك القرية حتى عقلت السؤال، وأجابت عنه ونطقت، لم يكن قال قولا يكفر به، ولم يزد على شيء يعلم كذبه فيه فمن حقّه أن لا يجثم هاهنا على الظاهر، ولا يضرب الحجاب دون سمعه وبصره حتى لا يعي ولا يراعى، مع ما فيه، إذا أخذ على ظاهره، من التعرض للهلاك والوقوع في الشرك. فأمّا الإفراط، فما يتعاطاه قوم يحبّون الإغراب في التأويل، ويحرصون على تكثير الوجوه، وينسون أن احتمال اللفظ شرط في كل ما يعدل به عن الظاهر، فهم يستكرهون الألفاظ على ما لا تقلّه من المعاني، يدعون السليم من المعنى إلى السقيم، ويرون الفائدة حاضرة قد أبدت صفحتها وكشفت قناعها، فيعرضون عنها حبّا للتشوّف، أو قصدا إلى التمويه وذهابا في الضلالة. وليس القصد هاهنا بيان ذلك فأذكر أمثلته، على أن كثيرا من هذا الفنّ مما

يرغب عن ذكره لسخفه، وإنما غرضي بما ذكرت أن أريك عظم الآفة في الجهل بحقيقة المجاز وتحصيله، وأن الخطأ فيه مورّط صاحبه، وفاضح له، ومسقط قدره، وجاعله ضحكة يتفكّه به، وكاسيه عارا يبقى على وجه الدهر، وفي مثل هذا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين» (¬1)، وليس حمله روايته وسرد ألفاظه، بل العلم بمعانيه ومخارجه، وطرقه ومناهجه، والفرق بين الجائز منه والممتنع، والمنقاد المصحب، والنّابي النافر. وأقلّ ما كان ينبغي أن تعرفه الطائفة الأولى، وهم المنكرون للمجاز، أن التنزيل كما لم يقلب اللغة في أوضاعها المفردة عن أصولها، ولم يخرج الألفاظ عن دلالتها، وأنّ شيئا من ذلك إن زيد إليه ما لم يكن قبل الشرع يدلّ عليه، أو ضمّن ما لم يتضمّنه أتبع ببيان من عند النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذلك كبيانه للصلاة والحج والزكاة والصوم. كذلك لم يقض بتبديل عادات أهلها، ولم ينقلهم عن أساليبهم وطرقهم، ولم يمنعهم ما يتعارفونه من التشبيه والتمثيل والحذف، والاتساع. وكذلك كان من حق الطائفة الأخرى أن تعلم، أنه عزّ وجلّ لم يرض لنظم كتابه الذي سمّاه هدى وشفاء، ونورا وضياء، وحياة تحيا بها القلوب، وروحا تنشرح عنه الصدور ما هو عند القوم الذين خوطبوا به خلاف البيان، وفي حدّ الإغلاق والبعد من التبيان، وأنه تعالى لم يكن ليعجز بكتابه من طريق الإلباس والتعمية، كما يتعاطاه الملغز من الشعراء والمحاجي من الناس، كيف وقد وصفه بأنه عربيّ مبين؟ هذا، وليس التعسّف الذي يرتكبه بعض من يجهل التأويل من جنس ما يقصده أولو الألغاز وأصحاب الأحاجي، بل هو شيء يخرج عن كلّ طريق، ويباين كلّ مذهب، وإنما هو سوء نظر منهم، ووضع للشيء في غير موضعه، وإخلال بالشريطة، وخروج عن القانون، وتوهّم أن المعنى إذا دار في نفوسهم، وعقل من تفسيرهم، فقد فهم من لفظ المفسّر، وحتى كأنّ الألفاظ تنقلب عن سجيّتها، وتزول عن موضوعها، فتحتمل ما ليس من شأنها أن تحتمله، وتؤدّي ما لا يوجب حكمها أن تؤدّيه. ¬

_ (¬1) المراد بالغالين: المبتدعة، وبالمبطلين الذين يتعمدون الباطل وينتحلون من كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم ما يؤيد باطلهم. (رشيد).

هذا كلام في ذكر المجاز وفي بيان معناه وحقيقته

بسم الله الرحمن الرحيم هذا كلام في ذكر المجاز وفي بيان معناه وحقيقته «المجاز» «مفعل» من «جاز الشيء يجوزه»، إذا تعدّاه. وإذا عدل باللفظ عما يوجبه أصل اللغة، وصف بأنه «مجاز»، على معنى أنهم جازوا به موضعه الأصليّ، أو جاز هو مكانه الذي وضع فيه أوّلا. ثمّ اعلم بعد أنّ في إطلاق «المجاز» على اللفظ المنقول عن أصله شرطا، وهو أن يقع نقله على وجه لا يعرى معه من ملاحظة الأصل. ومعنى «الملاحظة»، أن الاسم يقع لما تقول إنه مجاز فيه، بسبب بينه وبين الذين تجعله حقيقة فيه، نحو أن «اليد» تقع للنعمة، وأصلها الجارحة، لأجل أن الاعتبارات اللغوية تتبع أحوال المخلوقين وعاداتهم، وما يقتضيه ظاهر البنية وموضوع الجبلّة، ومن شأن النعمة أن تصدر عن «اليد»، ومنها تصل إلى المقصود بها، والموهوبة هي منه. وكذلك الحكم إذا أريد باليد القوة والقدرة، لأن القدرة أثر ما يظهر سلطانها في اليد، وبها يكون البطش والأخذ والدفع والمنع والجذب والضرب والقطع، وغير ذلك من الأفاعيل التي تخبر فضل إخبار عن وجوه القدرة، وتنبئ عن مكانها، ولذلك تجدهم لا يريدون باليد شيئا لا ملابسة بينه وبين هذه الجارحة بوجه. ولوجوب اعتبار هذه النكتة في وصف اللّفظ بأنه «مجاز»، لم يجز استعماله في الألفاظ التي يقع فيها اشتراك من غير سبب يكون بين المشتركين، كبعض الأسماء المجموعة في الملاحن، مثل أن «الثّور» يكون اسما للقطعة الكبيرة من الأقط (¬1)، و «النهار» اسم لفرخ الحبارى، و «الليل»، لولد الكروان، كما قال: [من المتقارب] أكلت النّهار بنصف النّهار … وليلا أكلت بليل بهيم (¬2) ¬

_ (¬1) الأقط: شيء يتخذ من اللبن المخيض يطبخ ثم يترك حتى يمصل، والقطعة منه أقطة، وقيل: هو من ألبان الإبل خاصة. اللسان (أقط). (¬2) البيت لم أعثر على قائله، وهو في اللسان بغير نسبة (ليل).

وذلك أن اسم «الثور» لم يقع على الأقط لأمر بينه وبين الحيوان المعلم، ولا «النهار» على الفرخ لأمر بينه وبين ضوء الشمس، أدّاه إليه وساقه نحوه. والغرض المقصود بهذه العبارة- أعني قولنا: «المجاز» - أن نبيّن أن للّفظ أصلا مبدوءا به في الوضع ومقصودا، وأنّ جريه على الثاني إنما هو على سبيل الحكم يتأدّى إلى الشيء من غيره، وكما يعبق الشيء برائحة ما يجاوره، وينصبغ بلون ما يدانيه. ولذلك لم ترهم يطلقون «المجاز» في الأعلام، إطلاقهم لفظ النّقل فيها حيث قالوا: «العلم على ضربين: منقول ومرتجل، وأن المنقول منها يكون منقولا عن اسم جنس، كأسد وثور وزيد وعمرو، أو صفة، كعاصم وحارث، أو فعل، كيزيد ويشكر أو صوت كببّة، فأثبتوا لهذا كله النّقل من غير العلمية إلى العلمية، ولم يروا أن يصفوه بالمجاز فيقولوا مثلا: إن «يشكر» حقيقة في مضارع «شكر»، ومجاز في كونه اسم رجل وأن «حجرا» حقيقة في الجماد، ومجاز في اسم الرجل. وذلك أن «الحجر» لم يقع اسما للرجل لالتباس كان بينه وبين الصخر، على حسب ما كان بين اليد والنعمة، وبينها وبين القدرة ولا كما كان بين الظّهر الكامل وبين المحمول في نحو تسميتهم المزادة «راوية»، وهي اسم للبعير الذي يحملها في الأصل وكتسميتهم البعير «حفضا»، وهو اسم لمتاع البيت الذي حمل عليه ولا كنحو ما بين الجزء من الشخص وبين جملة الشخص، كتسميتهم الرجل «عينا»، إذا كان ربيئة، والناقة «نابا» ولا كما بين النّبت والغيث، وبين السماء والمطر، حيث قالوا: «رعينا الغيث»، يريدون النبت الذي الغيث سبب في كونه وقالوا: «أصابنا السماء»، يريدون المطر. وقال (¬1): [من الرجز] تلفّه الأرواح والسميّ ¬

_ (¬1) الرجز للعجاج في ديوانه 1/ 512 وعجزه: في دفء أرطأة لها حنيّ وهو في صفة ثور الوحش وقد غمره المطر، شرح الإيضاح ص 542، وشرح المفصل 5/ 44، ولسان العرب (سما)، وتاج العروس (غيف) وكتاب العين 3/ 302، وبلا نسبة في شرح المفصل 10/ 30، والممتع في التصريف 1/ 236، وديوان الأدب 4/ 47، والمخصص 9/ 4، 116. والسماء: المطر، يقال: ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم. أي: المطر، قال الشاعر: إذا سقط السماء بأرض قوم … رعيناه وإن كانوا غضابا والأرواح: الرياح.

وذلك أن في هذا كله تأوّلا، وهو الذي أفضى بالاسم إلى ما ليس بأصل فيه «فالعين» لما كانت المقصودة في كون الرجل ربيئة، صارت كأنها الشخص كلّه، إذ كان ما عداها لا يغنى شيئا مع فقدها و «الغيث»، لمّا كان النبت يكون عنه، صار كأنه هو و «المطر» لما كان ينزل من السماء، عبروا عنه باسمها. واعلم أن هذه الأسباب الكائنة بين المنقول والمنقول عنه، تختلف في القوة والضعف والظهور وخلافه. فهذه الأسماء التي ذكرتها، إذا نظرت إلى المعاني التي وصلت بين ما هي له، وبين ما ردّت إليه، وجدتها أقوى من نحو ما تراه في تسميتهم الشاة التي تذبح عن الصبيّ إذا حلقت عقيقته، عقيقة (¬1) وتجد حالها بعد أقوى من حال «العقيرة»، في وقوعها للصوت في قولهم: «رفع عقيرته»، وذلك أنّه شيء جرى اتفاقا، ولا معنى يصل بين الصّوت وبين الرجل المعقورة. على أن القياس يقتضي أن لا يسمّى «مجازا»، ولكن يجرى مجرى الشيء يحكى بعد وقوعه، كالمثل إذا حكي فيه كلام صدر عن قائله من غير قصد إلى قياس وتشبيه، بل للإخبار عن أمر من قصده بالخطاب كقولهم: «الصّيف ضيّعت اللّبن»، ولهذا الموضع تحقيق لا يتمّ إلّا بأن يوضع له فصل مفرد. والمقصود الآن غير ذلك، لأن قصدي في هذا الفصل أن أبيّن أن «المجاز» أعمّ من «الاستعارة»، وأن الصحيح من القضيّة في ذلك: أن كلّ استعارة مجاز، وليس كلّ مجاز استعارة. وذلك أنّا نرى كلام العارفين بهذا الشأن أعني علم الخطابة ونقد الشعر، والّذين وضعوا الكتب في أقسام البديع، يجري على أن «الاستعارة» نقل الاسم من أصله إلى غيره للتشبيه على حدّ المبالغة. قال القاضي أبو الحسن في الحسن في أثناء فصل يذكرها فيه: «وملاك الاستعارة، تقريب الشّبه، ومناسبة المستعار للمستعار منه». وهكذا تراهم يعدّونها في أقسام البديع، حيث يذكر «التجنيس» و «التطبيق» و «الترشيح» و «ردّ العجز على الصدر» وغير ذلك، من غير أن يشترطوا شرطا، ويعقبوا ذكرها بتقييد فيقولوا: «ومن البديع الاستعارة التي من شأنها كذا». فلولا أنها عندهم لنقل الاسم بشرط التشبيه على المبالغة، وإمّا قطعا وإمّا قريبا من المقطوع عليه، لما استجازوا ذكرها. مطلقة غير مقيّدة. يبيّن ذلك أنها إن كانت تساوق المجاز وتجري مجراه حتى تصلح لكل ما ¬

_ (¬1) العقيقة: أصلها الشّعر الذي يكون على رأس الصبي حين يولد وإنما سميت تلك الشاة التي تذبح عقيقة لأنه يحلق عنه ذلك الشعر عند الذبح وهذا من الأشياء التي ربّما سميت باسم غيرها إذا كانت معها أو من سببها، فسميت الشاة عقيقة لعقيقة الشّعر.

يصلح له، فذكرها في أقسام البديع يقتضي أن كل موصوف بأنه مجاز، فهو بديع عندهم، حتى يكون إجراء «اليد» على النعمة بديعا، وتسمية البعير «حفضا»، والناقة «نابا»، والربيئة «عينا»، والشاة «عقيقة»، بديعا كله، وذلك بيّن الفساد. وأمّا ما تجده في كتب اللغة من إدخال ما ليس طريق نقله التشبيه في الاستعارة، كما صنع أبو بكر بن دريد في الجمهرة، فإنه ابتدأ بابا فقال: «باب الاستعارات» ثم ذكر فيه: أن «الوغى» اختلاط الأصوات في الحرب، ثم كثر وصارت الحرب «وغى»، وأنشد (¬1): [من السريع] إضمامة من ذودها الثّلاثين … لها وغى مثل وغى الثّمانين يعني اختلاط أصواتها وذكر قولهم: «رعينا الغيث والسّماء»، يعني المطر وذكر ما هو أبعد من ذلك فقال: «الخرس»، ما تطعمه النّفساء، ثم صارت الدّعوة للولادة «خرسا» و «الإعذار» الختان، وسمّي الطعام للختان إعذارا وأن «الظعينة» أصلها المرأة في الهودج، ثم صار البعير والهودج ظعينة و «الخطر» ضرب البعير بذنبه جانبي وركيه، ثم صار ما لصق من البول بالوركين خطرا، وذكر أيضا «الرّاوية» بمعنى المزادة، و «العقيقة». وذكر فيما بين ذكره لهذه الكلم أشياء هي استعارة على الحقيقة، على طريقة أهل الخطابة ونقد الشعر، لأنه قال: «الظمأ»، العطش وشهوة الماء، ثم كثر ذلك حتى قالوا: «ظمئت إلى لقائك»، وقال: «الوجور» ما أوجرته الإنسان من دواء أو غيره، ثم قالوا: «أوجره الرمح»، إذا طعنه في فيه. فالوجه في هذا الذي رأوه من إطلاق «الاستعارة» على ما هو تشبيه، كما هو شرط أهل العلم بالشعر، وعلى ما ليس من التشبيه في شيء، ولكنه نقل اللفظ عن الشيء إلى الشيء بسبب اختصاص وضرب من الملابسة بينهما، وخلط أحدهما بالآخر أنهم كانوا نظروا إلى ما يتعارفه الناس في معنى العاريّة، وأنها شيء حوّل عن مالكه ونقل عن مقرّه الذي هو أصل في استحقاقه، إلى ما ليس بأصل، ولم يراعوا عرف القوم. ووزانهم في ذلك وزان من يترك عرف النحويين في «التمييز»، واختصاصهم له بما احتمل أجناسا مختلفة كالمقادير والأعداد وما شاركهما، في أن ¬

_ (¬1) البيت ذكره ابن دريد في جمهرة اللغة ص 1255، وأسرار البلاغة ص 400. وإضمامة: جماعة من الناس ليس أصلهم واحدا، ولكنهم لفيف والجمع الأضاميم.

الإبهام الذي يراد كشفه منه هو احتماله الأجناس، فيسمّي الحال مثلا تمييزا، من حيث أنك إذا قلت: «راكبا»، فقد ميّزت المقصود وبيّنته، كما فعلت ذلك في قولك: «عشرون درهما» و «منوان سمنا» و «قفيزان برّا» و «لي مثله رجلا» و «لله درّه رجلا». وليس هذا المذهب بالمذهب المرضيّ، بل الصواب أن تقصر «الاستعارة» على ما نقله نقل التشبيه للمبالغة، لأن هذا نقل يطّرد على حدّ واحد، وله فوائد عظيمة ونتائج شريفة، فالتطفل به على غيره في الذكر، وتركه مغمورا فيما بين أشياء ليس لها في نقلها مثل نظامه ولا أمثال فوائده، ضعف من الرأي وتقصير في النظر. وربما وقع في كلام العلماء بهذا الشأن «الاستعارة» على تلك الطريقة العامّية، إلا أنه لا يكون عند ذكر القوانين وحيث تقرّر الأصول. ومثاله أن أبا القاسم الآمدي قال في أثناء فصل يجيب فيه عن شيء اعترض به على البحتري في قوله (¬1): [من الكامل] فكأنّ مجلسه المحجّب محفل … وكأنّ خلوته الخفيّة مشهد أن المكان لا يسمّى مجلسا إلّا وفيه قوم. ثم قال: «ألا ترى إلى قول مهلهل (¬2): [من الكامل] واستبّ بعدك يا كليب المجلس ¬

_ (¬1) البيت للبحتري في ديوانه، ذكره الآمدي في الموازنة وقال أيضا: ومما نسبوا فيه البحتري إلى سواء القسمة قوله: فكأن مجلسه المحجب محفل … وكأن خلوته الخفية مشهد وقالوا: «إنه ليس في المصراع الثاني من الفائدة إلا ما في الأول لأن مجلسه المحجب هي خلوته الخفية، وقوله محفل كقوله مشهد، والمعنى عندي صحيح لأن المجلس المحجب قد يكون فيه الجماعة الذين يخصهم وفي الأكثر الأعم لا يسمى مجلسا إلا وفيه قوم. ألا ترى إلى قول مهلهل: واستب بعدك يا كليب المجلس. أي أهل المجلس على الاستعارة فجعل البحتري مجلسه الذي احتجب فيه مع من يخصه كالحفل والمحفل هو الجمع الكثير والخلوة الخفية قد يكون منفردا أو يكون معه محبوبه فبينها وبين المجلس فرق أي: فكأنه إذا خلا خلوة خفية ففيها معه من يشاهده ومن يشاهده يجوز أن يكون واحدا أو اثنين، والمحفل لا يكون إلا عددا كثيرا، فهذا أيضا فرق صحيح بين المحفل والمشهد. وإنما أراد البحتري أنه لا يفعل في مجلس المحجب إلا ما يفعله إذا حضره من يشاهده ينسبه إلى شدة التصون وكرم السريرة» اه. (رشيد). (¬2) البيت هو للمهلهل في رثاء أخيه كليب وصدر البيت: نبئت أن النار بعدك أوقدت وفي تاج العروس (جلس)، وأمالي القالي 1/ 95، وسمط اللآلي ص 298.

على الاستعارة»، فأطلق لفظ «الاستعارة» على وقوع «المجلس» هنا، بمعنى القوم الذين يجتمعون في الأمور، وليس «المجلس» إذا وقع على القوم من طريق التشبيه، بل على حدّ وقوع الشيء على ما يتّصل به، وتكثر ملابسته إياه. وأيّ شبه يكون بين القوم ومكانهم الذي يجتمعون فيه؟ إلّا أنه لا يعتدّ بمثل هذا، فإنّ ذلك قد يتّفق حيث ترسل العبارة. وقال الآمديّ نفسه: «ثم قد يأتي في الشعر ثلاثة أنواع أخر، يكتسي المعنى العامّ بها بهاء وحسنا، حتى يخرج بعد عمومه إلى أن يصير مخصوصا ثم قال: وهذه الأنواع هي التي وقع عليها اسم البديع، وهي الاستعارة والطباق والتجنيس». فهذا نصّ في وضع القوانين على أن «الاستعارة» من أقسام البديع، ولن يكون النّقل بديعا حتى يكون من أجل الشبيه على المبالغة كما بيّنت لك. وإذا كان كذلك، ثم جعل «الاستعارة» على الإطلاق بديعا، فقد أعلمك أنها اسم للضرب المخصص من النّقل دون كلّ نقل، فاعرف. واعلم أنّا إذا أنعمنا النظر، وجدنا المنقول من أجل التشبيه على المبالغة، أحقّ بأن يوصف بالاستعارة من طريق المعنى. بيان ذلك: أن ملك المعير لا يزول عن المستعار، واستحقاقه إيّاه لا يرتفع. فالعاريّة إنما كانت عاريّة، لأن يد المستعير يد عليها، ما دامت يد المعير باقية، وملكه غير زائل، فلا يتصوّر أن يكون للمستعير تصرّف لم يستفده من المالك الذي أعاره، ولا أن تستقرّ يده مع زوال اليد المنقول عنها، وهذه جملة لا تراها إلّا في المنقول نقل التشبيه، لأنك لا تستطيع أن تتصوّر جري الاسم على الفرع من غير أن تحوجه إلى الأصل. كيف؟ ولا يعقل تشبيه حتى يكون هاهنا مشبّه ومشبّه به. هذا، والتشبيه ساذج مرسل، فكيف إذا كان على معنى المبالغة، على أن يجعل الثاني أنه انقلب مثلا إلى جنس الأوّل، فصار الرجل أسدا وبحرا وبدرا، والعلم نورا، والجهل ظلمة، لأنّه إذا كان على هذا الوجه، كانت حاجتك إلى أن تنظر به إلى الأصل أمسّ، لأنه إذا لم يتصوّر أن يكون هاهنا سبع من شأنه الجرأة العظيمة والبطش الشديد، كان تقديرك شيئا آخر تحوّل إلى صفته وصار في حكمه، من أبعد المحال. وأمّا ما كان منقولا لا لأجل التشبيه، كاليد في نقلها إلى النعمة، فلا يوجد ذلك فيه، لأنك لا تثبت للنعمة بإجراء اسم «اليد» عليها شيئا من صفات الجارحة المعلومة، ولا تروم تشبيها بها البتة، لا مبالغا ولا غير مبالغ. فلو فرضنا أن تكون

اليد» اسما وضع للنعمة ابتداء، ثم نقلت إلى الجارحة، لم يكن ذلك مستحيلا. وكذلك لو ادّعى مدّع أنّ جري اليد على النعمة أصل ولغة على حدتها، وليست مجازا، لم يكن مدّعيا شيئا يحيله العقل. ولو حاول محاول أن يقول في مسألتنا قولا شبيها بهذا، فرام تقدير شيء يجري عليه اسم الأسد على المعنى الذي يريده بالاستعارة، مع فقد السبع المعلوم، ومن غير أن يسبق استحقاقه لهذا الاسم في وضع اللغة، رام شيئا في غاية البعد. وعبارة أخرى: العاريّة من شأنها أن تكون عند المستعير على صفة شبيهة بصفتها وهي عند المالك، ولسنا نجد هذه الصورة إلا فيما نقل التشبيه للمبالغة دون ما سواه. ألا ترى أن الاسم المستعار يتناول المستعار له، ليدلّ على مشاركته المستعار منه في صفة هي أخصّ الصفات التي من أجلها وضع الاسم الأول؟ أعني أن الشجاعة أقوى المعاني التي من أجلها سمّي الأسد أسدا، وأنت تستعير الاسم للشيء على معنى إثباتها له على حدّها في الأسد. فأما «اليد» ونقلها إلى النعمة، فليست من هذا في شيء، لأنها لم تتناول النعمة لتدلّ على صفة من صفات اليد بحال. ويحرّر ذلك نكتة: وهي أنك تريد بقولك: «رأيت أسدا»، أن تثبت للرجل الأسدية، ولست تريد بقولك: «له عندي يد»، أن تثبت للنعمة اليديّة، وهذا واضح جدّا. واعلم أنّ الواجب كان أن لا أعدّ وضع «الشفة» موضع «الجحفلة»، و «الجحفلة» في مكان «المشفر»، ونظائره التي قدّمت ذكرها في الاستعارة، وأضنّ باسمها أن يقع عليه، ولكني رأيتهم قد خلطوه بالاستعارات وعدّوه معدّها، فكرهت التشدّد في الخلاف، واعتددت به في الجملة، ونبّهت على ضعف أمره بأن سمّيته «استعارة غير مفيدة». وكان وزان ذلك وزان أن يقال: «المفعول على ضربين مفعول صحيح، ومشبّه بالمفعول». فيتجوّز باعتداد المشبّه بالمفعول في الجملة، ثم يفصل بالوصف. ووجه شبه هذا النحو الذي هو نقل «الشفة» إلى موضع «الجحفلة» بالاستعارة الحقيقية، لأنك تنقل الاسم إلى مجانس له. ألا ترى أنّ المراد بالشفة والجحفلة عضو واحد، وإنما الفرق أنّ هذا من الفرس، وذاك من الإنسان، والمجانسة والمشابهة من واد واحد؟ فأنت تقول: أعير الشيء اسمه الموضوع له هنالك أي في الإنسان- هاهنا- أي في الفرس-، لأن أحدهما مثل صاحبه وشريكه في جنسه، كما أعرت الرجل اسم الأسد، لأنه شاركه في صفته الخاصّة به، وهي الشجاعة

البليغة. وليس لليد مع النعمة هذا الشبه، إذ لا مجانسة بين الجارحة وبين النعمة، وكذا لا شبه ولا جنسية بين البعير ومتاع البيت، وبين المزادة وبين البعير، ولا بين العين وبين جملة الشخص فإطلاق اسم «الاستعارة» عليه بعيد. ولو كان اللفظ يستحقّ الوصف بالاستعارة بمجرّد النقل، لجاز أن توصف الأسماء المنقولة من الأجناس إلى الأعلام بأنها مستعارة، فيقال: «حجر»، مستعار في اسم الرجل، ولزم كذلك في الفعل المنقول نحو: «يزيد ويشكر» وفي الصوت نحو: «ببّة» في قوله (¬1): [من الرجز] لأنكحنّ ببّه … جارية خدبّة مكرمة محبّة … تجبّ أهل الكعبة وذلك ارتكاب قبيح، وفرط تعصّب على الصواب. ويلوح هاهنا شيء. هو أنّا وإن جعلنا «الاستعارة» من صفة اللفظ فقلنا: «اسم مستعار»، و «هذا اللفظ استعارة هاهنا وحقيقة هناك»، فإنّا على ذلك نشير بها إلى المعنى، من حيث قصدنا باستعارة الاسم، أن نثبت أخصّ معانيه للمستعار له. يدلّك على ذلك قولنا: «جعله أسدا» و «جعله بدرا» و «جعل للشمال يدا»، فلولا أنّ استعارة الاسم للشيء تتضمّن استعارة معناه له، لما كان هذا الكلام معنى. لأن «جعل»، لا يصلح إلا حيث يراد إثبات صفة للشيء، كقولنا: «جعله أميرا، وجعله لصّا»، نريد أنه أثبت له الإمارة واللصوصية. وحكم «جعل» إذا تعدّى إلى مفعولين، حكم «صيّر»، فكما لا تقول: صيّرته أميرا» إلا على معنى أنك أثبتّ له صفة الإمارة، وكذلك لم تقل: «جعله أسدا» إلا على أنه أثبت له معنى من معاني الأسود، ولا يقال: «جعلته زيدا»، بمعنى سمّيته زيدا، ولا يقال للرجل: «اجعل ¬

_ (¬1) البيتان لهند بنت أبي سفيان في لسان العرب (ببب)، والتنبيه والإيضاح 1/ 42، وتاج العروس (ببب)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 263، وتهذيب اللغة 15/ 393، والأبيات برواية أخرى لفظها: والله ربّ الكعبة … لأنكحن ببّه جارية خدبّة … مكرمة محبّة تحبّ من أحبه … تجبّ أهل الكعبة وببة: لقب عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم وكانت أمه هند بنت أبي سفيان ترقصه بهذه الأبيات فلزمه اسم «ببّه» و «تجبّ أهل الكعبة» تغلب نساء قريش في الحسن.

فصل في تقسيم المجاز إلى اللغوي والعقلي، واللغوي إلى الاستعارة وغيرها

ابنك زيدا» بمعنى سمّه زيدا، ولا يقال: «ولد لفلان ابن فجعله زيدا» أي: سمّاه زيدا. وإنما يدخل الغلط في ذلك على من لا يحصّل هذا الشأن. فأما قوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: 19]، فإنما جاء على الحقيقة التي وصفتها، وذلك أنهم أثبتوا للملائكة صفة الإناث، واعتقدوا وجودها فيهم. وعن هذا الاعتقاد صدر عنهم ما صدر من الاسم- أعني إطلاق اسم البنات، وليس المعنى أنهم وضعوا لها لفظ الإناث، أو لفظ البنات، اسما من غير اعتقاد معنى، وإثبات صفة، هذا محال لا يقوله عاقل- أو ما يسمعون قول الله عز وجل: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ [الزخرف: 19]، فإن كانوا لم يزيدوا على إجراء الاسم على الملائكة ولم يعتقدوا إثبات صفة ومعنى، فأيّ معنى لأن يقال: «أشهدوا خلقهم»؟ هذا، ولو كانوا لم يقصدوا إثبات صفة، ولم يفعلوا أكثر من أن وضعوا اسما، لما استحقّوا إلّا اليسير من الذّم، ولما كان هذا القول كفرا منهم. والأمر في ذلك أظهر من أن يخفى ولكن قد يكون للشيء المستحيل وجوه في الاستحالة فتذكر كلّها، وإن كان في الواحد منها ما يزيل الشبهة ويتمّ الحجّة. فصل في تقسيم المجاز إلى اللغوي والعقلي، واللغوي إلى الاستعارة وغيرها واعلم أن «المجاز» على ضربين: مجاز من طريق اللغة، ومجاز من طريق المعنى والمعقول. فإذا وصفنا بالمجاز الكلمة المفردة كقولنا: «اليد مجاز في النعمة» و «الأسد مجاز في الإنسان وكلّ ما ليس بالسبع المعروف»، كان حكما أجريناه على ما جرى عليه من طريق اللغة، لأنا أردنا أنّ المتكلم قد جاز باللفظة أصلها الذي وقعت له ابتداء في اللغة، وأوقعها على غير ذلك، إمّا تشبيها، وإمّا لصلة وملابسة بين ما نقلها إليه وما نقلها عنه. ومتى وصفنا بالمجاز الجملة من الكلام، كان مجازا من طريق المعقول دون اللغة، وذلك أن الأوصاف اللّاحقة للجمل من حيث هي جمل، لا يصحّ ردّها إلى اللّغة، ولا وجه لنسبتها إلى واضعها، لأن التأليف هو إسناد فعل إلى اسم، واسم إلى اسم، وذلك شيء يحصل بقصد المتكلم، فلا يصير «ضرب» خبرا عن «زيد» بواضع اللغة، بل بمن قصد إثبات الضرب فعلا له، وهكذا: «ليضرب زيد»، لا يكون أمرا

لزيد باللغة، ولا «اضرب» أمرا للرجل الذي تخاطبه وتقبل عليه من بين كل من يصحّ خطابه باللغة، بل بك أيّها المتكلم. فالذي يعود إلى واضع اللغة، أنّ «ضرب» لإثبات الضرب، وليس لإثبات الخروج، وأنه لإثباته في زمان ماض، وليس لإثباته في زمان مستقبل. فأمّا تعيين من يثبت له، فيتعلّق بمن أراد ذلك من المخبرين بالأمور، والمعبّرين عن ودائع الصّدور، والكاشفين عن المقاصد والدّعاوى، صادقة كانت تلك الدعاوى أو كاذبة ومجراة على صحتها، أو مزالة عن مكانها من الحقيقة وجهتها ومطلقة بحسب ما تأذن فيه العقول وترسمه أو معدولا بها عن مراسمها نظما لها في سلك التّخييل، وسلوكا بها في مذهب التأويل. فإذا قلنا مثلا: «خطّ أحسن مما وشّاه الربيع» أو «صنعه الربيع»، وكنّا قد ادعينا في ظاهر اللفظ أن للربيع فعلا أو صنعا، وأنه شارك الحيّ القادر في صحّة الفعل منه. وذلك تجوّز من حيث المعقول لا من حيث اللغة، لأنه إن قلنا: «إنه مجاز من حيث اللغة»، صرنا كأنّا نقول: إن اللغة هي التي أوجبت أن يختصّ الفعل بالحيّ القادر دون الجماد، وإنها لو حكمت بأنّ الجماد يصحّ منه الفعل والصّنع والوشي والتزيين، والصّبغ والتحسين، لكان ما هو مجاز الآن حقيقة، ولعاد ما هو الآن متأوّل، معدودا فيما هو حقّ محصّل، وذلك محال. وإنما يتصوّر مثل هذا القول في الكلم المفردة، نحو «اليد» للنعمة، وذاك أنه يصحّ أن يقال: لو كان واضع اللغة وضع «اليد» أوّلا للنعمة، ثم عدّاها إلى الجارحة، لكان حقيقة فيما هو الآن مجاز، ومجازا فيما هو حقيقة فلم يكن بواجب من حيث المعقول أن يكون لفظ «اليد» اسما للجارحة دون النعمة، ولا في العقل أن شيئا بلفظ، أن يكون دليلا عليه أولى منه بلفظ، لا سيما في الأسماء الأول التي ليست بمشتقّة. وإنما وزان ذلك وزان أشكال الخطّ التي جعلت أمارات لأجراس الحروف المسموعة، في أنه لا يتصوّر أن يكون العقل اقتضى اختصاص كل شكل منها بما اختصّ به، دون أن يكون ذلك لاصطلاح وقع وتواضع اتّفق. ولو كان كذلك، لم تختلف المواضعات في الألفاظ والخطوط، ولكانت اللغات واحدة، كما وجب في عقل كل عاقل يحصّل ما يقول، أن لا يثبت الفعل على الحقيقة إلا للحيّ القادر. فإن قلت: فإن اللغة رسمت أن يكون «فعل» لإثبات الفعل للشيء كما زعمت، ولكنّا إذا قلنا: «فعل الربيع الوشي» أو «وشّى الربيع»، فإننا نريد بذلك معنى معقولا، وهو أن الربيع سبب في كون الأنوار التي تشبه الوشي .. فقد نقلنا الفعل عن

حكم معقول وضع له، إلى حكم آخر معقول شبيه بذلك الحكم، فصار ذلك كنقل الأسد عن السبع إلى الرجل الشبيه به في الشجاعة. أفتقول: «الأسد» على الرجل مجاز من حيث المعقول، لا من حيث اللغة، كما قلت في صيغة: «فعل» إذا أسندت إلى ما لا يصحّ أن يكون له فعل إنّها مجاز من جهة العقل، لا من جهة اللغة؟ فالجواب أن بينهما فرقا، وإن ظننتهما متساويين. وذلك أن «فعل» موضوع لإثبات الفعل للشيء على الإطلاق، والحكم في بيان من يستحق هذا الإثبات وتعيينه إلى العقل. وأما «الأسد» فموضوع للسبع قطعا، واللغة هي التي عيّنت المستحقّ له، وبرسمها وحكمها ثبت هذا الاستحقاق والاختصاص، ولولا نصّها لم يتصوّر أن يكون هذا السّبع بهذا الاسم أولى من غيره. فأمّا استحقاق الحيّ القادر أن يثبت الفعل له واختصاصه بهذا الإثبات دون كل شيء سواه، فبفرض العقل ونصّه لا باللغة، فقد نقلت «الأسد» عن شيء هو أصل فيه باللغة لا بالعقل. وأمّا «فعل» فلم تنقله عن الموضع الذي وضعته اللغة فيه، لأنه كما مضى، موضوع لإثبات الفعل للشيء في زمان ماض، وهو في قولك: «فعل الربيع» باق على هذه الحقيقة غير زائل عنها. ولن يستحقّ اللفظ الوصف بأنه مجاز، حتى يجري على شيء لم يوضع له في الأصل. وإثبات الفعل لغير مستحقّه، ولما ليس بفاعل على الحقيقة، لا يخرج «فعل» عن أصله، ولا يجعله جاريا على شيء لم يوضع له، لأن الذي وضع له «فعل» هو إثبات الفعل للشيء فقط، فأمّا وصف ذلك الشيء الذي يقع هذا الإثبات له، فخارج عن دلالته، وغير داخل في الموضع اللغويّ، بل لا يجوز دخوله فيه، لما قدّمت من استحالة أن يقال: «إنّ اللغة هي التي أوجبت أن يختصّ الفعل بالحيّ القادر دون الجماد»، وما في ذلك من الفساد العظيم، فاعرفه فرقا واضحا، وبرهانا قاطعا. وهاهنا نكتة جامعة، وهي أن «المجاز» في مقابلة «الحقيقة»، فما كان طريقا في أحدهما من لغة أو عقل، فهو طريق في الآخر. ولست تشكّ في أنّ طريق كون «الأسد» حقيقة في السبع، اللّغة دون العقل، وإذا كانت اللغة طريقا للحقيقة فيه، وجب أن تكون هي أيضا الطريق في كونه مجازا في المشبّه بالسّبع، إذا أنت أجريت اسم الأسد عليه فقلت: «رأيت أسدا»، تريد رجلا لا تميّزه عن الأسد في بسالته وإقدامه وبطشه. وكذلك إذا علمت أن طريق الحقيقة في إثبات الفعل للشيء هو العقل، فينبغي أن تعلم أنه أيضا الطريق إلى المجاز فيه. فكما أن العقل هو الذي دلّك حين

قلت: «فعل الحيّ القادر»، أنك لم تتجوّز، وأنك واضع قدمك على محض الحقيقة، كذلك ينبغي أن يكون هو الدالّ والمقتضى، إذا قلت: «فعل الربيع»، أنك قد تجوّزت وزلت عن الحقيقة، فاعرفه. فإن قال قائل: كان سياق هذا الكلام وتقريره يقتضي أنّ طريق المجاز كلّه العقل، وأن لا حظّ للّغة فيه، وذاك أنّا لا نجري اسم الأسد على المشبّه بالأسد، حتى ندّعي له الأسدية، وحتى نوهم أنه حين أعطاك من البسالة والبأس والبطش، ما تجده عند الأسد، صار كأنه واحد من الأسود قد استبدل بصورته صورة الإنسان، وقد قدّمت أنت فيما مضى ما بيّن أنك لا تتجوّز في إجراء اسم المشبّه به على المشبّه، حتى تخيّل إلى نفسك أنه هو بعينه فإذا كان الأمر كذلك فأنت في قولك: «رأيت أسدا»، متجوّز من طريق المعقول، كما أنك كذلك في «فعل الربيع». وإذا كان كذلك، عاد الحديث إلى أنّ المجاز فيهما جميعا عقليّ، فكيف قسّمته قسمين لغويّ وعقلي؟ فالجواب: أنّ هذا الذي زعمت- من أنك لا تجري اسم المشبّه به على المشبّه حتى تدّعي أنه قد صار من ذلك الجنس، نحو أن تجعل الرجل كأنه في حقيقة الأسد صحيح كما زعمت، لا يدفعه أحد. كيف السبيل إلى دفعه، وعليه المعوّل في كونه التشبيه على حدّ المبالغة، وهو الفرق بين الاستعارة وبين التشبيه المرسل؟ إلّا أن هاهنا نكتة أخرى قد أغفلتها، وهي أنّ تجوّزك هذا الذي طريقه العقل، يفضي بك إلى أن تجري الاسم على شيء لم يوضع له في اللغة على كل حال، فتجوز بالاسم على الجملة الشيء الذي وضع له، فمن هاهنا جعلنا اللغة طريقا فيه. فإن قلت: لا أسلّم أنه جرى على شيء لم يوضع له في اللغة، لأنك إذا قلت: «لا تجريه على الرجل حتى تدّعي له أنه في معنى الأسد»، لم تكن قد أجريته على ما لم يوضع له، وإنما كان يكون جاريا على غير ما وضع له، أن لو كنت أجريته على شيء لتفيد به معنى غير الأسدية. وذلك ما لا يعقل، لأنك لا تفيد بالأسد في التشبيه أنه رجل مثلا، أو عاقل، أو على وصف لم يوضع هذا الاسم للدلالة عليه البتة. قيل لك: قصارى حديثك هذا أنّا أجرينا اسم الأسد على الرجل المشبّه بالأسد على طريق التأويل والتخييل، أفليس على كل حال قد أجريناه على ما ليس بأسد على الحقيقة؟ وألسنا قد جعلنا له مذهبا لم يكن له في أصل الوضع؟ وهبنا قد ادّعينا للرجل الأسدية حتى استحق بذلك أن نجري عليه اسم الأسد،

أترانا نتجاوز في هذه الدعوى حديث الشجاعة، حتى ندّعي للرجل صورة الأسد وهيئته وعبالة عنقه ومخالبه، وسائر أوصافه الظاهرة البادية للعيون؟ ولئن كانت الشجاعة من أخصّ أوصاف الأسد وأمكنها، فإن اللغة لم تضع الاسم لها وحدها، بل لها في مثل تلك الجثّة وهاتيك الصورة والهيئة وتلك الأنياب والمخالب، إلى سائر ما يعلم من الصورة الخاصّة في جوارحه كلّها. ولو كانت وضعته لتلك الشجاعة التي تعرفها وحدها، لكان صفة لا اسما، ولكان كل شيء يفضي في شجاعته إلى ذلك الحدّ مستحقّا للاسم استحقاقا حقيقيّا، لا على طريق التشبيه والتأويل. وإذا كان كذلك، فإنّا وإن كنّا لم ندلّ به على معنى لم يتضمّنه اسم الأسد في أصل وضعه، فقد سلبناه بعض ما وضع له، وجعلناه للمعاني التي هي باطنة في الأسد وغريزة وطبع به وخلق، مجرّدة عن المعاني الظاهرة التي هي جثّة وهيئة وخلق، وفي ذلك كفاية في إزالته عن أصل وقع له في اللغة، ونقله عن حدّ جريه فيه إلى حدّ آخر مخالف له. وليس في «فعل»، إذا تجوّز فيه شيء من ذلك، لأنّا لم نسلبه لا بالتأويل ولا غير التأويل شيئا وضعته اللغة له، لأنه كما ذكرت غير مرّة: لإثبات الفعل للشيء من غير أن يتعرّض لذلك الشيء ما هو، أو هو مستحقّ لأن يثبت له الفعل أو غير مستحق. وإذا كان كذلك، كان الذي أرادت اللغة به موجودا فيه ثابتا له في قولك: «فعل الربيع»، ثبوته إذا قلت: «فعل الحيّ القادر»، لم يتغيّر له صورة، ولم ينقص منه شيء، ولم يزل عن حدّ إلى حدّ، فاعرفه. فإن قلت: قد علمنا أنّ طريق المجاز ينقسم إلى ما ذكرت من اللغة والمعقول، وأنّ «فعل» في نحو: «فعل الربيع»، مما طريقه المعقول، وأنّ نحو: «الأسد» إذا قصد به التشبيه، واستعير لغير السبع، طريق مجازه اللغة، وبقي أن نعلم لم خصّصت المجاز- إذا كان طريقه العقل- بأن توصف به الجملة من الكلام دون الكلمة الواحدة. وهلّا جوّزت أن يكون «فعل» على الانفراد موصوفا به؟ فإنّ سبب ذلك أن المعنى الذي له وضع «فعل» لا يتصوّر الحكم عليه بمجاز أو حقيقة حتى يسند إلى الاسم، وهكذا كل مثال من أمثلة الفعل، لأنه موضوع لإثبات الفعل للشيء، فما لم نبيّن ذلك الشيء الذي نثبته له ونذكره، لم يعقل أنّ الإثبات واقع موقعه الذي نجده مرسوما به في صحف العقول، أم قد زال عنه وجازه إلى غيره.

فصل في الحذف والزيادة، وهل هما من المجاز أم لا

هذا، وقولك: هلّا جوّزت أن يكون «فعل» على الانفراد موصوفا به، محال، بعد أن نثبت أن لا مجاز في دلالة اللفظ، وإنما المجاز في أمر خارج عنه. فإن قلت: أردت: هلّا جوّزت أن ينسب المجاز إلى معناه وحده، وهو إثبات الفعل فيقال: «هو إثبات فعل على سبيل المجاز»؟ فإنّ ذلك لا يتأتّى أيضا إلا بعد ذكر الفاعل، لأن المجاز أو الحقيقة، إنما يظهر ويتصوّر من المثبت والمثبت له والإثبات، وإثبات الفعل من غير أن يقيّد بما وقع الإثبات له، لا يصحّ الحكم عليه بمجاز أو حقيقة، فلا يمكنك أن تقول: «إثبات الفعل مجاز أو حقيقة» هكذا مرسلا، إنما تقول: «إثبات الفعل للربيع مجاز، وإثباته للحيّ القادر حقيقة». وإذا كان الأمر كذلك علمت أن لا سبيل إلى الحكم بأنّ هاهنا مجازا أو حقيقة من طريق العقل، إلا في جملة من الكلام. وكيف يتصوّر خلاف ذلك؟ ووزان الحقيقة والمجاز العقليين، وزان الصدق والكذب، فكما يستحيل وصف الكلم المفردة بالصدق والكذب، وأن يجرى ذلك في معانيها مفرّقة غير مؤلّفة، فيقال: «رجل- على الانفراد- كذب أو صدق»، كذلك يستحيل أن يكون هاهنا حكم بالمجاز أو الحقيقة، وأنت تنحو نحو العقل إلا في الجملة المفيدة. فاعرفه أصلا كبيرا والله الموفق للصواب، والمسئول أن يعصم من الزّلل بمنّه وفضله. فصل في الحذف والزيادة، وهل هما من المجاز أم لا واعلم أن الكلمة كما توصف بالمجاز، لنقلك لها عن معناها، كما مضى، فقد توصف به لنقلها عن حكم كان لها، إلى حكم ليس هو بحقيقة فيها. ومثال ذلك: أن المضاف إليه يكتسي إعراب المضاف في نحو: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82]، والأصل: «واسأل أهل القرية»، فالحكم الذي يجب للقرية في الأصل وعلى الحقيقة هو الجرّ، والنصب فيها مجاز. وهكذا قولهم: «بنو فلان تطؤهم الطريق»، يريدون أهل الطريق، الرّفع في «الطريق» مجاز، لأنه منقول إليه عن المضاف المحذوف الذي هو «الأهل»، والذي يستحقّه في أصله هو الجرّ. ولا ينبغي أن يقال: «إن وجه المجاز في هذا، الحذف»، فإن الحذف إذا تجرّد

عن تغيير حكم من أحكام ما بقي بعد الحذف لم يسمّ مجازا. ألا ترى أنك تقول: «زيد منطلق وعمرو»، فتحذف الخبر، ثم لا توصف جملة الكلام من أجل ذلك بأنه مجاز؟ وذلك لأنه لم يؤدّ إلى تغيير حكم فيما بقي من الكلام. ويزيده تقريرا: أن المجاز إذا كان معناه: «أن تجوز بالشيء موضعه وأصله»، فالحذف بمجرّده لا يستحقّ الوصف به، لأنّ ترك الذكر وإسقاط الكلمة من الكلام، لا يكون نقلا لها عن أصلها، إنما يتصوّر النقل فيما دخل تحت النطق. وإذا امتنع أن يوصف المحذوف بالمجاز، بقي القول فيما لم يحذف. وما لم يحذف ودخل تحت الذكر، لا يزول عن أصله ومكانه حتى يغيّر حكم من أحكامه أو يغيّر عن معانيه، فأما وهو على حاله، والمحذوف مذكور، فتوهّم ذلك فيه من أبعد المحال، فاعرفه. وإذا صحّ امتناع أن يكون مجرّد الحذف مجازا، أو تحقّ صفة باقي الكلام بالمجاز، من أجل حذف كان على الإطلاق، دون أن يحدث هناك بسبب ذلك الحذف تغيّر حكم على وجه من الوجوه علمت منه أنّ الزيادة في هذه القضية كالحذف، فلا يجوز أن يقال إن زيادة «ما» في نحو: فَبِما رَحْمَةٍ [آل عمران: 159] مجاز، أو أن جملة الكلام تصير مجازا من أجل زيادته فيه. وذلك أنّ حقيقة الزيادة في الكلمة أن تعرى من معناها، وتذكر ولا فائدة لها سوى الصّلة، ويكون سقوطها وثبوتها سواء. ومحال أن يكون ذلك مجازا، لأن المجاز أن يراد بالكلمة غير ما وضعت له في الأصل أو يزاد فيه أو يوهم شيء ليس من شأنه، كإيهامك بظاهر النّصب في «القرية» أن السؤال واقع عليها. والزائد الذي سقوطه كثبوته لا يتصوّر فيه ذلك. فأما غير الزائد من أجزاء الكلام الذي زيد فيه، فيجب أن ينظر فيه، فإن حدث هناك بسبب ذلك الزائد حكم تزول به الكلمة عن أصلها، جاز حينئذ أن يوصف ذلك الحكم، أو ما وقع فيه، بأنه مجاز، كقولك في نحو قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11]: إن الجرّ في «المثل» مجاز، لأن أصله النصب، والجرّ حكم عرض من أجل زيادة «الكاف»، ولو كانوا إذ جعلوا «الكاف» مزيدة لم يعملوها، لما كان لحديث المجاز سبيل على هذا الكلام. ويزيده وضوحا أن الزيادة على الإطلاق لو كانت تستحق الوصف بأنها مجاز، لكان ينبغي أن يكون كل ما ليس بمزيد من الكلم مستحقّا الوصف بأنه حقيقة، حتى يكون «الأسد» في قولك: «رأيت أسدا» وأنت تريد رجلا، حقيقة.

فإن قلت: المجاز على أقسام، والزيادة من أحدها. قيل: هذا لك إذا حدّدت المجاز بحدّ تدخل الزيادة فيه، ولا سبيل لك إلى ذلك، لأن قولنا: «المجاز»، يفيد أن تجوز بالكلمة موضعها في أصل الوضع، وتنقلها عن دلالة إلى دلالة، أو ما قارب ذلك. وعلى الجملة، فإنه لا يعقل من «المجاز» أن تسلب الكلمة دلالتها، ثم لا تعطيها دلالة أخرى، وأن تخليها من أن يراد بها شيء على وجه من الوجوه. ووصف اللفظة بالزيادة، يفيد أن لا يراد بها معنى، وأن تجعل كأن لم يكن لها دلالة قطّ. فإن قلت: أو ليس يقال إن الكلمة لا تعرى من فائدة ما، ولا تصير لغوا على الإطلاق، حتى قالوا: إنّ «ما» في نحو: «فبما رحمة من الله»، تفيد التوكيد؟ فأنا أقول إنّ كون «ما» تأكيدا، نقل لها عن أصلها ومجاز فيها. وكذلك أقول: إن كون الباء المزيدة في «ليس زيد بخارج»، لتأكيد النفي، مجاز في الكلمة، لأن أصلها أن تكون للإلصاق فإنّ ذلك على بعده لا يقدح فيما أردت تصحيحه، لأنه لا يتصوّر أن تصف الكلمة من حيث جعلت زائدة بأنها مجاز، ومتى ادّعينا لها شيئا من المعنى، فإنّا نجعلها من تلك الجهة غير مزيدة. ولذلك يقول الشيخ أبو علي في الكلمة إذا كانت تزول عن أصلها من وجه ولا تزول من آخر: «معتدّ بها من وجه، غير معتدّ بها من وجه»، كما قال في اللّام من قولهم: «لا أبا لزيد»، وجعلها من حيث منعت أن يتعرّف «الأب» بزيد، معتدّا بها من حيث عارضها لام الفعل من «الأب» التي لا تعود إلا في الإضافة نحو: «أبو زيد» و «أبا زيد»، غير معتدّ بها، وفي حكم المقحمة الزائدة. وكذلك توصف «لا» في قولنا: «مررت برجل لا طويل ولا قصير»، بأنها مزيدة ولكن على هذا الحدّ، فيقال: «هي مزيدة غير معتدّ بها من حيث الإعراب، ومعتدّ بها من حيث أوجبت نفي الطول والقصر عن الرجل، ولولاها لكانا ثابتين له». وتطلق الزيادة على «لا» في نحو قوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ [الحديد: 29]، لأنها لا تفيد النفي فيما دخلت عليه، ولا يستقيم المعنى إلّا على إسقاطها. ثم إن قلنا إنّ «لا» هذه المزيدة تفيد تأكيد النفي الذي يجيء من بعد في قوله: أَلَّا يَقْدِرُونَ، وتؤذن به، فإنّا نجعلها من حيث أفادت هذا التأكيد غير مزيدة، وإنما نجعلها مزيدة من حيث لم تفد النفي الصريح فيما دخلت عليه، كما أفادته في المسألة.

وإذا ثبت أنّ وصف الكلمة بالزيادة، نقيض وصفها بالإفادة، علمت أن الزيادة، من حيث هي زيادة، لا توجب الوصف بالمجاز. فإن قلت: تكون سببا لنقل الكلمة عن معنى هو أصل فيها إلى معنى ليس بأصل كدت تقول قولا يجوز الإصغاء إليه، وذلك، إن صحّ، نظير ما قدّمت من أن الحذف أو الزيادة قد تكون سببا لحدوث حكم في الكلمة تدخل من أجله في المجاز، كنصب القرية في الآية وجرّ المثل في الأخرى، فاعرفه. واعلم أن من أصول هذا الباب: أن من حقّ المحذوف أن المزيد أن ينسب إلى جملة الكلام، لا إلى الكلمة المجاورة له، فأنت تقول إذا سئلت عن: «اسأل القرية»: في الكلام حذف، والأصل: «أهل القرية»، ثم حذف «الأهل»، تعني حذف من بين الكلام. وكذلك تقول: «الكاف» زائدة في الكلام والأصل: «ليس مثله شيء». ولا تقول هي زائدة في «مثل»، إذ لو جاز ذلك، لجاز أن يقال إنّ «ما» في «فبما رحمة»، مزيدة في الرحمة، أو في «الباء» وأن «لا» مزيدة في «يعلم»، وذلك بيّن الفساد، لأن هذه العبارة إنما تصلح حيث يراد أن حرفا زيد في صيغة اسم أو فعل، على أن لا يكون لذلك الحرف على الانفراد معنى، ولا تعدّه وحده كلمة، كقولك: «زيدت الياء للتصغير في رجيل، والتاء للتأنيث في ضاربة». ولو جاز غير ذلك، لجاز أن يكون خبر المبتدأ إذ حذف في نحو: «زيد منطلق وعمرو»، محذوفا من المبتدأ نفسه، على حدّ حذف اللام من يد ودم، وذلك ما لا يقوله عاقل. فنحن إذا قلنا: إن «الكاف» مزيدة في «مثل»، فإنما نعني أنها لمّا زيدت في الجملة وضعت في هذا الموضع منها. والأصحّ في العبارة أن يقال: «الكاف في «مثل» مزيدة»، يعني الكاف الكائنة في «مثل» مزيدة، كما تقول: «الكاف التي تراها في «مثل» مزيدة» وكذلك تقول: «حذف المضاف من الكلام»، ولا تقول: «حذف المضاف من المضاف إليه». وهذا أوضح من أن يخفى، ولكنّي استقصيته، لأني رأيت في بعض العبارات المستعملة في المجاز والحقيقة ما يوهم ذلك، فاعرفه. ومما يجب ضبطه هنا أيضا: أن الكلام إذا امتنع حمله على ظاهره حتى يدعو إلى تقدير حذف، أو إسقاط مذكور، كان على وجهين:

أحدهما: أن يكون امتناع تركه على ظاهره، لأمر يرجع إلى غرض المتكلم، ومثاله الآيتان المتقدم تلاوتهما. ألا ترى أنك لو رأيت «اسأل القرية» في غير التنزيل، لم تقطع بأن هاهنا محذوفا، لجواز أن يكون كلام رجل مرّ بقرية قد خربت وباد أهلها، فأراد أن يقول لصاحبه واعظا ومذكّرا، أو لنفسه متّعظا ومعتبرا: «اسأل القرية عن أهلها، وقل لها ما صنعوا»، على حد قولهم: «سل الأرض من شقّ أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك، فإنها إن لم تجبك حوارا، أجابتك اعتبارا» وكذلك: إن سمعت الرجل يقول: «ليس كمثل زيد أحد»، لم تقطع بزيادة الكاف، وجوّزت أن يريد: ليس كالرجل المعروف بمماثلة زيد أحد. الوجه الثاني: أن يكون امتناع ترك الكلام على ظاهره، ولزوم الحكم بحذف أو زيادة، من أجل الكلام نفسه، لا من حيث غرض المتكلم به، وذلك مثل أن يكون المحذوف أحد جزءي الجملة، كالمبتدإ في نحو قوله تعالى: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يوسف: 18 و 83]، وقوله: مَتاعٌ قَلِيلٌ [النحل: 117]، لا بدّ من تقدير محذوف، ولا سبيل إلى أن يكون له معنى دونه، سواء كان في التنزيل أو في غيره، فإذا نظرت إلى: «صبر جميل» في قول الشاعر (¬1): [من الرجز] يشكو إليّ جملي طول السّرى … صبر جميل، فكلانا مبتلى وجدته يقتضي تقدير محذوف، كما اقتضاه في التنزيل، وذلك أن الداعي إلى تقدير المحذوف هاهنا، هو أن الاسم الواحد لا يفيد، والصفة والموصوف حكمهما حكم الاسم الواحد، و «جميل» صفة «للصبر». وتقول للرجل: «من هذا؟»، فيقول: «زيد»، يريد: هو زيد، فتجد هذا الإضمار واجبا، لأن الاسم الواحد لا يفيد. وكيف يتصوّر أن يفيد الاسم الواحد، ومدار الفائدة على إثبات أو نفي، وكلاهما يقتضي شيئين: مثبت ومثبت له، ومنفيّ ومنفيّ عنه؟ ¬

_ (¬1) البيت لم أعرف قائله وهو في كتاب سيبويه 1/ 321، وفي شروح سقط الزند ص 620 برواية: «صبرا جميلا»، وأمالي المرتضى 1/ 107، ويروى «شكا إلى». وبين الشطر الأول والثاني عند المرتضى: يا جملي ليس إليّ المشتكى … الدرهمان كلفاني ما ترى والسري: السير ليلا.

وأما وجوب الحكم بالزيادة لهذه الجهة، فكنحو قولهم: «بحسبك أن تفعل»، و: كَفى بِاللَّهِ [سورة النساء: 6، وآيات أخر]، إن لم تقض بزيادة «الباء»، لم تجد للكلام وجها تصرفه إليه، وتأويلا تتأوله عليه البتة، فلا بدّ لك من أن تقول: إن الأصل: «حسبك أن تفعل»، و «كفى الله»، وذلك أن «الباء» إذا كانت غير مزيدة، كانت لتعدية الفعل إلى الاسم، وليس في «بحسبك أن تفعل» فعل تعدّيه الباء إلى حسبك. ومن أين يتصوّر أن يتعدّى إلى المبتدأ فعل، والمبتدأ هو المعرّى من العوامل اللفظية؟ وهكذا الأمر في «كفى» أو أقوى، وذلك أن الاسم الداخل عليه الباء في نحو: «كفى بزيد»، فاعل كفى، ومحال أن تعدّي الفعل إلى الفاعل بالباء أو غير الباء، ففي الفعل من الاقتضاء للفاعل ما لا حاجة معه إلى متوسّط وموصل ومعدّ، فاعرفه، والله أعلم بالصواب. تم بعون الله وتوفيقه طبع كتاب (أسرار البلاغة) للإمام عبد القاهر الجرجاني

§1/1