أساليب بلاغية

أحمد مطلوب

المقدمة

المقدمة بسم الله الرّحمن الرّحيم هذه محاضرات فى علم المعانى أريد بها أن تكمل ما بدأناه فى «فنون بلاغية» وتقدم صورة صادقة للبلاغة العربية وتطور موضوعاتها. وهى محاضرات أخذت من القديم خطوطها واعتمدت على السابقين فى فصولها، ولم ترجع إلى ما أثير فى هذه الأيام، لأن الهدف ليس تجديد البلاغة وإنما تقديم ما عند القدماء بأسلوب يجمع بين عباراتهم وينسّق آراءهم، لتكون منطلقا إلى التجديد. وقد اقتضى المقرر الذى ينبغى أن يلم به طالب اللغة العربية فى مرحلة دراسته الجامعية الأولى أن يكون لأهم أساليب البلاغة نصيب فى هذه المحاضرات التى انقسمت إلى قسمين: الأول: الفصاحة والبلاغة، وهى مقدمة ينبغى أن يعرفها الدارس لأنّها الأساس الذى ينطلق منها إلى أساليب البلاغة وفنونها، بل هى الغاية التى يصل إليها حينما ينهى تطوافه فى الموضوعات التى وضعت لتنير الطريق له فى دراسة الأدب. الثانى: علم المعانى، الذى كان أحد علوم البلاغة العربية حينما قسمها السكاكى إلى البيان والمعانى والمحسنات اللفظية والمعنوية أى البديع. وكان العرب قبل ذلك قد درسوا هذا العلم فى كتب النحو، ولعل كتاب سيبويه أصدق ما وصل إلينا وأقربه إلى ذوق العربية، لأنه عنى بالأساليب إلى جانب عنايته بالقواعد والأصول. وقد سمينا هذا القسم «أساليب

بلاغية» لأنه يتصل بأهم وسائل التعبير وصياغة الكلام. وليس أدل على ذلك من أنّ المتحدث أو الأديب لا ينطلق فى تصوير نفسه وعرض أفكاره إلّا من خلالها. فالخبر والإنشاء، والتعريف والتنكير، والذكر والحذف، والتقديم والتأخير، والقصر، والفصل والوصل، والإيجاز والإطناب والمساواة، وخروج الكلام على مقتضى الظاهر- عمدة الكلام وزاد المنشئين. والدرس النحوى أولى بهذه الموضوعات لولا انصراف النحاة إلى العناية بالإعراب والبناء، والعوامل والتقديرات مما أبعد النحو عن هدفه وأحاله قواعد لا روح فيها. وسنظل نؤمن بأن هذه الدراسة من البلاغة حتى تعود إلى النحو أصالته وحتى نجد أساتذة النحو يغيّرون طرق تدريسه ويعنون بالأساليب البلاغية كعنايتهم بالقواعد والإعراب. إنّ دراسة الأساليب والوقوف عندها تفتح السبيل أمام الأديب مادام يكتب باللغة العربية، وهى لغة عريقة تشعبت فنون التعبير فيها وأصبحت طيعة لمن تعمق فيها وفهم أسرارها، ولن يكون المنشئ أديبا إذا نأى عن لغته وضرب عن أساليبها صفحا، وإنّه لمن أعجب العجب إذا لم ير فى الخبر والإنشاء، والتقديم والتأخير، والحذف والذكر، والإيجاز والإطناب وغيرها- فائدة وهى أصل الكلام وعمدة التعبير. ولن يغنى ما تقدّمه الكتب المترجمة والأساليب الغربية عما تتسم به لغة الضاد، وإن كانت تضيف أبعادا جديدة وتفتح آفاقا واسعة. وستبقى الأساليب البلاغية التى عرضت لها هذه المحاضرات خالدة ما دامت اللغة العربية حية فى العقول ونابضة فى القلوب، ولن يقدر على إنكارها من سولت له نفسه وظن أنّه سبق العصر وتخطّى الزمان. لقد سار البحث فى هذه المحاضرات كما سار فى «فنون بلاغية» ويتجلى ذلك فى أمرين: الأول: الوقوف على تعريفات القدماء وتقسيماتهم وآرائهم.

الثانى: الأخذ بالأمثلة التى ذكروها لئلا تتجرد القواعد والأصول من روحها التى ارتبطت بها حينما فكّر العرب الأوائل بضبط لغتهم وحفظها من الضياع. ولذلك لم يكن للجديد نصيب فيها، لأنّ فى ذلك ابتعادا عن منهج دراسة القديم وتجنيا على الأدب الحديث الذى خطا خطوات واسعة وكانت له مناهج درس جديرة بالتأمل العميق والنظر السليم والبحث الرصين. ولن يقدر على بحثه إلّا من وطن نفسه وأخلص النية، ووقف على القديم وأساليبه وعرف الحديث وفنونه، وليس ذلك بيسير. هذه ملامح محاضرات «أساليب بلاغية» جاءت كما بناها القدماء ليعرف الجيل الجديد ما كان من هذا العلم الذى لم ينضج ولم يحترق، ولتكون مقدمة لمن يريد أن يخطو باتزان فى طريق التجديد الذى من أول متطلباته قتل القديم درسا. ومن الله العون والتوفيق. الدكتور أحمد مطلوب أستاذ البلاغة والنقد فى كلية الآداب جامعة بغداد

الكتاب الأول الفصاحة والبلاغة

الكتاب الأول الفصاحة والبلاغة

الفصل الأول الفصاحة

الفصل الأول الفصاحة فى اللغة: لفظة الفصاحة مما شاع وعرفه العرب بمفهومه اللغوى قبل أن تأخذ الألفاظ دلالتها الفنية. ونجد لها فى المعاجم دلالتين: الأولى: لغوية تقوم على المعنى الأول الذى وضعه العرب واستعملوه قبل أن تظهر علوم البلاغة والنقد. ففى لسان العرب: «يوم مفصح: لا غيم فيه ولا قر. أفصح اللبن: ذهب اللبأ عنه. فصح اللبن: إذا أخذت عنه الرغوة. قال فضلة السلمى: رأوه فاز دروه وهو خرق … وينفع أهله الرجل القبيح فلم يخشوا مصالته عليهم … وتحت الرغوة اللبن الفصيح أفصحت الشاة والناقة: خلص لبنها. أفصح الصبح: بدا ضوؤه واستبان، وكل ما وضح فقد أفصح، وكل واضح مفصح. ويقال: قد فصحك الصبح، أى: بان لك وغلبك ضوؤه. فصحه الصبح: هجم عليه» الثانية: دلالة تقرب من المعنى الاصطلاحى الذى تعارف عليه البلاغيون، ففى اللسان: «الفصاحة: البيان. فصح الرجل فصاحة فهو فصيح من قوم فصحاء وفصاح وفصح، وامرأة فصيحة من نسوة فصاح وفصائح. رجل فصيح وكلام فصيح، أى: بليغ. لسان فصيح، أى: طلق. وقد جاء فى الشعر فى وصف العجم: أفصح، يريد به بيان القول وإن كان بغير العربية، كقول أبى النجم: أعجم فى آذانها فصيحا يعنى: صوت الحمار أنه أعجم، وهو فى آذان الأتن فصيح بين.

فى القرآن والحديث

وفصح الأعجمى فصاحة: تكلم بالعربية وفهم عنه. وقيل: جادت لغته حتى لا يلحن. أفصح كلامه إفصاحا وأفصح تكلم بالفصاحة، وكذلك الصبى يقال: أفصح الصبى فى منطقه إفصاحا إذا فهمت ما يقول فى أول ما يتكلم. أفصح الأغتم: إذا فهمت كلامه بعد غتمته. أفصح عن الشئ إفصاحا إذا بينه وكشفه. فصح الرجل وتفصح إذا كان عربى اللسان فازداد فصاحة. وقيل: تفصح فى كلامه وتفاصح: تكلف الفصاحة. يقال: ما كان فصيحا ولقد فصح فصاحة وهو البين فى اللسان والبلاغة. التفصح استعمال الفصاحة، وقيل: التشبه بالفصحاء. وقيل: جميع الحيوان ضربان: أعجم وفصيح، فالفصيح كل ناطق، والأعجم كل ما لا ينطق. الفصيح فى اللغة: المنطلق اللسان فى القول الذى يعرف جيد الكلام من رديئه. أفصح الكلام وأفصح به وأفصح عن الأمر. الفصيح فى كلام العامة: المعرب». وفى هذا يتضح معنى البيان والظهور فى كلمة «الفصاحة»، وليس هذا المعنى بعيدا عن الدلالة الأولى ولا عن المعنى الذى اصطلح عليه علماء البلاغة وهو رقة الألفاظ وجمالها، وبيان التعبير ووضوحه. فى القرآن والحديث: ولو مضينا نبحث عن لفظة «الفصاحة» فى تراثنا لرأيناها فى قوله تعالى حكاية عن نبيه موسى- عليه السّلام-: «وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً» (¬1) وفى الحديث النبوى الشريف: «أنا أفصح العرب بيد أنّى من قريش» (¬2)، و «غفر له بعدد كل فصيح وأعجم». وفسّره أصحاب ¬

_ (¬1) القصص 34. (¬2) قال عبد الله بن رواحة فى مدح الرسول- صلى الله عليه وسلم: لو لم تكن فيه آيات مبينة … كانت فصاحته تنبيك بالخبر

الجاحظ

الحديث بأن النبى محمدا- صلى الله عليه وسلم- أراد بالفصيح بنى آدم، وبالأعجم البهائم. (¬1) ولا تخرج لفظة «الفصاحة» فى القرآن الكريم والحديث النبوى الشريف عن معناها اللغوى وهو الظهور والبيان. وحينما دخلت هذه اللفظة الدراسات البلاغية والنقدية ارتبطت بلفظة البلاغة وصارت صنوها، وأصبح رجال البلاغة الأوائل لا يفرقون بينهما، بل لم يروا بأسا من أن يستعملوا إحداهما مكان الأخرى كما فعل أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (هـ) الذى لم يضع حدّا فاصلا بين اللفظتين وإنما أجراهما بمعنى واحد فى مواضع كثيرة من كتابه «البيان والتبيين». الجاحظ: عرف الجاحظ البلاغة بقوله: «وقال بعضهم- وهو أحسن ما اجتبيناه ودوناه-: لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه، ولفظه معناه، فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك» (¬2). وفى هذا التعريف التقاء الفصاحة بالبلاغة، والنص على امتزاجهما. والفصاحة- عنده- واسعة المعنى، ولذلك نراه يتحدث عنها وعن الألفاظ كثيرا، وتعتبر إشاراته فى كتابه «البيان والتبيين» من أوسع ما وصل إلينا من عهد التدوين الأول. ويرى أنّ الألفاظ جديرة بالرعاية والاهتمام، يقول: «و قد يستخف الناس ألفاظا ويستعملونها وغيرها أحق بذلك منها، ألا ترى أنّ الله تبارك وتعالى لم يذكر فى القرآن الجوع إلّا فى موضع العقاب أو فى موضع الفقر المدقع والعجز الظاهر. والناس لا يذكرون السّغب ويذكرون الجوع فى حال القدرة والسلامة، وكذلك ذكر المطر، لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلّا فى موضع الانتقام. والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون ¬

_ (¬1) النهاية فى غريب الحديث والأثر، ج 3، ص 450. (¬2) البيان والتبيين، ج 1 ص 115.

بين ذكر المطر وبين ذكر الغيت، ولفظ القرآن الذى عليه نزل أنه إذا ذكر الأبصار لم يقل الأسماع، وإذا ذكر سبع سماوات لم يقل الأرضين. ألا تراه لا يجمع الأرض أرضين ولا السمع أسماعا. والجارى على أفواه العامة غير ذلك لا يتفقدون من الألفاظ ما هو أحق بالذكر وأولى بالاستعمال» (¬1). وتكلم على تنافر الحروف فقال: «فأما فى اقتران الحروف فان الجيم لا تقارن الظاء ولا القاف ولا الطاء ولا الغين بتقديم ولا تأخير، والزاى لا تقارن الظاء ولا السين ولا الضاد ولا الذال بتقديم ولا بتأخير. وهذا باب كبير وقد يكتفى بذكر القليل حتى يستدل به على الغاية التى إليها يجرى» (¬2) وتحدث عن تنافر الألفاظ فقال: «ومن ألفاظ العرب ألفاظ تتنافر وإن كانت مجموعة فى بيت شعر لم يستطع المنشد إنشادها إلّا ببعض الاستكراه فمن ذلك قول الشاعر: وقبر حرب بمكان قفر … وليس قرب قبر حرب قبر ولما رأى من لا علم له أنّ أحدا لا يستطيع أن ينشد هذا البيت ثلاث مرات فى نسق واحد فلا يتتعتع ولا يتلجلج، وقيل لهم: إنّ ذلك إنما اعتراه إذ كان من أشعار الجن، صدقوا بذلك. ومن ذلك قول ابن يسير: لم يضرها والحمد لله شئ … وانثنت نحو عزف نفس ذهول فتفقّد النصف الأخير من هذا البيت فانك ستجد بعض ألفاظه يتبرأ من بعض» (¬3). ¬

_ (¬1) البيان، ج 1 ص 20. (¬2) البيان، ج 1 ص 69. (¬3) - البيان، ج 1 ص 65.

وينبغى أن تكون الألفاظ متماثلة متلائمة كى لا يقع بينها التنافر فتصبح كأولاد علة، يقول: «وأنشدنى أبو العاصى، قال: أنشدنى خلف الأحمر فى هذا المعنى: وبعض قريض القوم أولاد علة … يكد لسان الناطق المتحفظ (¬1) وقال أبو العاصى: وأنشدنى فى ذلك أبو البيداء الرياحى: وشعر كبعر الكبش فرّق بينه … لسان دعىّ فى القريض دخيل فانه يقول: إذا كان الشعر مستكرها وكانت ألفاظ البيت من الشعر لا يقع بعضها مماثلا لبعض كان بينها من التنافر ما بين أولاد العلّات. وإذا كانت الكلمة ليس موقعها إلى جنب أختها مرضيا موافقا كان على اللسان عند إنشاد ذلك الشعر مؤونة. قال: وأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء سهل المخارج، فتعلم بذلك أنّه قد أفرغ إفراغا واحدا، وسبك سبكا واحدا، فهو يجرى على اللسان كما يجرى على الدهان. وأما قوله: «كبعر الكبش» فانما ذهب إلى أنّ بعر الكبش يقع متفرقا غير مؤتلف ولا متجاور، وكذلك حروف الكلام وأجزاء البيت من الشعر تراها متفقة ملسا ولينة المعاطف سهلة، وتراها مختلفة متباينة ومتنافرة مستكرهة تشق على اللسان وتكده، والأخرى تراها سهلة لينة ورطبة مواتية، سلسة النظام خفيفة على اللسان حتى كأنّ البيت بأسره كلمة واحدة، وحتى كأنّ الكلمة بأسرها حرف واحد» (¬2). ويرى أنّ اللفظ كما لا ينبغى أن يكون عاميا وساقطا سوقيا، فكذلك لا ينبغى أن يكون غريبا وحشيا إلّا أن يكون المتكلم بدويا أعرابيا، فان ¬

_ (¬1) أولاد علة: هم بنو رجل واحد من أمهات شتى. (¬2) البيان، ج 1 ص 66.

الوحشى من الكلام يفهمه الوحشى من الناس كما يفهم السوقى رطانة السوقى. (¬1) لقد اهتم الجاحظ بالألفاظ اهتماما عظيما أولاها عناية كبيرة، وقد دفعه هذا الاهتمام إلى أن يقول: «والمعانى مطروحة فى الطريق يعرفها العجمى والعربى والبدوى والقروى والمدنى، وإنما الشأن فى إقامة الوزن، وتخير اللفظ وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفى صحة الطبع وجودة السبك، فانما الشعر صناعة وضرب من النسج، وجنس من التصوير» (¬2). وظن بعض الباحثين أنّه يميل إلى اللفظ كل الميل، وأنّه لا يرى للمعنى كبير أهمية، والواقع أنّه عنى باللفظ وأعطاه نصيبه من الاهتمام، وشغل بالمعنى والتصوير الأدبى الذى يقول عنه: «فانما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير»، وهذه نظريته التى شرحها عبد القاهر الجرجانى وسماها «نظرية النظم»، فالجاحظ اهتم بالألفاظ والمعانى والتصوير مع أنّه يروى أنّ بعضهم لا يحفل إلّا بالمعنى وحده كأبى عمرو الشيبانى الذى يرى أنّ المعنى متى كان رائعا حسنا ظل كذلك فى أية عبارة وضع. فالبيتان: لا تحسبنّ الموت موت البلى … فانما الموت سؤال الرجال كلاهما موت ولكنّ ذا … أفظع من ذاك لذل السؤال استحسنهما أبو عمرو على حين ليست عليهما مسحة من جمال سوى الوزن. وعابه الجاحظ ورأى أنّه مسرف فى تقديرهما، وقال: «وأنا رأيت أبا عمرو الشيبانى وقد بلغ من استجادته لهذين البيتين ونحن فى المسجد يوم الجمعة أن كلّف رجلا حتى أحضره دواة وقرطاسا حتى كتبهما له، وأنا أزعم أنّ صاحب هذين البيتين لا يقول شعرا أبدا، ولولا أن أدخل فى الحكم بعض الفتك لزعمت أنّ ابنه لا يقول شعرا أبدا» (¬3). ¬

_ (¬1) ينظر البيان، ج 1 ص 144. (¬2) الحيوان، ج 3 ص 131. (¬3) الحيوان، ج 3 ص 131.

ابن قتيبة

لقد اهتم الجاحظ باللفظ ولكنه لم يهمل المعنى، ولذلك فليس صحيحا ما ذهب إليه بعضهم وهو أنّ الجاحظ كرّس جهوده لخدمة الألفاظ، ولأجله خاض عبد القاهر الجرجانى غمار هذا البحث. ويرى الدكتور محمد مندور أنّ كل آراء عبد القاهر تنحصر فى مسألتين: الأولى: إنكاره لما رآه الجاحظ من أهمية فصاحة الألفاظ باعتبار تلك الفصاحة صنعة فى اللفظ ذاته، ثم ثورته على مذهب أبى هلال العسكرى الذى يرد جودة الكلام إلى محسنات لفظية تقف عند الشكل. الثانية: تعليقة جودة الكلام بخصائص فى النظم. (¬1) وعبارة الجاحظ «فانما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير»، وما نقله عبد القاهر من اهتمامه بالصياغة والصناعة، خير ما يفند هذا الرأى، لأنّ عبد القاهر سار على خطا الجاحظ ونقل مصطلحه فى التصوير وقال: «وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئا نحن ابتدأناه فينكره منكر بل هو مستعمل مشهور فى كلام العرب، ويكفيك قول الجاحظ: وإنّما الشعر صناعة، وضرب من التصوير» (¬2). فالجاحظ من أصحاب الصياغة ولذلك تسقط عنه تهمة الاهتمام بالشكلية والألفاظ، وإن كان كثير الاعتناء باللفظ واختيار ما يؤدى المعنى أداء حسنا، وهذه مهمة الأديب الذى يقدر قيمة الكلام ويبذل فى سبيله أعظم الجهود، وقد كان الجاحظ أديبا كبيرا وعالما قديرا، فعنى بالألفاظ كما عنى بالمعانى وكان له الفضل فى تصوير نظم الكلام. ابن قتيبة: وتحدث ابن قتيبة (- هـ) عن الألفاظ، وذكر أنّ الشعر أربعة أضرب: ¬

_ (¬1) ينظر فى الميزان الجديد، ص 149. (¬2) دلائل الإعجاز، ص 389.

- ضرب منه حسن لفظه وجاد معناه، كقول القائل فى بعض بنى أمية (¬1): فى كفه خيزران ريحه عبق … من كف أروع فى عرنينه شمم يغضى حياء ويغضى من مهابته … فما يكلّم إلا حين يبتسم وكقول أوس بن حجر: أيّتها النفس أجملى جزعا … إنّ الذين تحذرين قد وقعا - وضرب منه حسن لفظه وحلا فاذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة فى المعنى كقول القائل: ولما قضينا من منى كلّ حاجة … ومسّح بالأركان من هو ماسح وشدّت على حدب المهارى رحالنا … ولم ينظر الغادى الذى هو رائح أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا … وسالت بأعناق المطّى الأباطح يقول ابن قتيبة: «هذه الألفاظ كما ترى أحسن شئ مخارج ومطالع ومقاطع، وإن نظرت إلى ما تحتها من المعنى وجدته: ولمّا قطعنا أيام منى واستلمنا الأركان وعالينا إبلنا الأنضاء، ومضى الناس لا ينتظر الغادى الرائح ابتدأنا فى الحديث وسارت المطى فى الأباطح» (¬2). ونحوه قول المعلوط: ¬

_ (¬1) كذا فى الشعر والشعراء، وفى الهامش أنها للحزين الكنانى فى أبيات يمدح بها عبد الله بن عبد الملك بن مروان. والبيتان فى ديوان الفرزدق، ج 2 ص 187 (طبعة مكتبة صادر)، وهما فى مدح زين العابدين رضى الله عنه. (¬2) الشعر والشعراء، ج 1 ص 66. ولعبد القاهر الجرجانى غير هذا الرأى فهر يراها من أبدع الشعر وأعذبه وقد حللها تحليلا جميلا. (ينظر دلائل الإعجاز ص).

إنّ الذين غدوا بلبك غادروا … وشلا بعينك لا يزال معينا غيّضن من عبراتهنّ وقلن لى: … ماذا لقيت من الهوى ولقينا (¬1) - وضرب منه جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه كقول لبيد بن ربيعة: ما عاتب المرء الكريم كنفسه … والمرء يصلحه الجليس الصالح - وضرب منه تأخر معناه وتأخر لفظه، كقول الأعشى فى امرأة: وفوها كأقاحى … غذاه دائم الهطل كما شيب براح با … رد من عسل النّحل ولم يشر ابن قتيبة إلى لفظة «الفصاحة» فى كتابه «الشعر والشعراء» ولكنه استعمل كلمة «الألفاظ»، ويرى أنّ المحدث ليس له أن يتبع المتقدم فى استعمال وحشى الكلام ككثير من أبنية سيبويه، ولا أن يسلك فيما يقول الأساليب التى لا تصح فى الوزن ولا تحلو فى الأسماع. يقول: «وهذا يكثر، وفيما ذكرت منه ما دلك على ما أردت من اختيارك أحسن الروىّ وأسهل الألفاظ وأبعدها من التعقيد والاستكراه، وأقربها من أفهام العوام. وكذلك اختار للخطيب إذا خطب والكاتب إذا كتب فانه يقال: «أسير الشعر والكلام المطمع» يراد الذى يطمع فى مثله من سمعه وهو مكان النجم من يد المتناول» (¬2). وفى كتابه «أدب الكاتب» حديث عن الألفاظ والأبنية، ولكنه لا يسميها «فصاحة» وإنما هى قواعد يستعين بها الكاتب. وعقد فى كتابه «عيون الأخبار» بابا سماه «كتاب العلم والبيان» تحدّث فيه عن الإعراب واللحن والتشادق والغريب والبيان والألفاظ التى تقع فى كتب الأمان والعهود والخطب. وهو فى هذه الأبواب والفصول ليس كالجاحظ الذى أرسى كثيرا من قواعد الفصاحة ووضع أمثلتها التى تتردد فى كتب البلاغة والنقد. ¬

_ (¬1) البيتان فى ديوان جرير، ص 578، وهما من قصيدة فى هجاء الأخطل. (¬2) الشعر والشعراء، ج 1 ص 103.

المبرد

المبرد: وليس فيما كتب المبرد (- هـ) إشارة إلى الفصاحة وإن كان يفضل أن تكون الألفاظ جزلة. (¬1) ثعلب: ولا فيما كتب أبو العباس ثعلب (- هـ) الذى أشار إلى جزالة الألفاظ. (¬2) ابن المعتز: ولا فيما ألّف ابن المعتز (- هـ) صاحب كتاب البديع. قدامة: وتحدث قدامة بن جعفر (- هـ) عن نعت اللفظ، وقال ينبغى أن يكون سمحا، سهل مخارج الحروف من مواضعها، عليه رونق الفصاحة مع الخلو من البشاعة. (¬3) وذكر عيوب اللفظ وهى: - أن يكون ملحونا وجاريا على غير سبيل الإعراب واللغة. - وأن يركب الشاعر منه ما ليس بمستعمل إلّا فى الفرط. - ولا يتكلم به إلّا شاذا، وذلك هو الوحشى الذى مدح عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- زهيرا بمجانبته له وتنكّبه إياه فقال: «لا يتبع حوشىّ الكلام». - ومن عيوب اللفظ المعاظلة، وهى التى وصف عمر بن الخطاب زهيرا بمجانبته لها فقال: «كان لا يعاظل بين الكلام». وهى ليست مداخلة الشئ فى الشئ، لأنه محال أن ينكر مداخلة بعض الكلام فيما يشبهه من ¬

_ (¬1) الكامل، ج 1 ص 43. (¬2) قواعد الشعر، ص 59. (¬3) نقد الشعر، ص 26.

ابن وهب

بعض أو فيما كان من جنسه، وإنما يكون الإنكار فيما يدخل بعضه فيما ليس من جنسه وما هو غير لائق به. (¬1) ابن وهب: وفى كتاب «البرهان فى وجوه البيان» (¬2) لأبى الحسين إسحاق بن ابراهيم بن سليمان بن وهب الكاتب إشارات إلى جزالة اللفظ وسخافته وركاكته. ولم يحدد معانى هذه المصطلحات واكتفى بالتمثيل وقال: «وأما جزالة اللفظ فكقوله: وعلى عدوّك يا ابن عمّ محمد … رصدان: ضوء الشمس والإظلام فاذا تنبه رعته وإذا غفا … سلّت عليه سيوفك الأحلام وأما سخافة اللفظ وركاكته فمثل قول الآخر: يا عتب سيدتى أما لك دين … حتى متى قلبى لديك رهين فأنا الصبور لكل ما حملتنى … وأنا الشقىّ البائس المسكين (¬3) وقال عن الفصيح: «وأما الفصيح من الكلام، فهو ما وافق لغة العرب ولم يخرج عما عليه أهل الأدب، ولتصحيح ذلك وضع النحو، ولجمعه وضعت الكتب فى اللغة، وذكر المستعمل منها والشاذ والمهمل. وحق من ينشأ فى العرب أن يستعمل الاقتداء بلغتهم، ولا يخرج عن جملة ألفاظهم، ولا يقنع من نفسه بمخالفتهم فيخطئوه ويلحنوه» (¬4) وليس فى هذه الإشارات ما يوضّح رأى صاحب «البرهان» فى الفصاحة كما عرفها الجاحظ ومعاصروه. ¬

_ (¬1) نقد الشعر، ص 196. (¬2) هو النص الكامل للكتاب المطبوع باسم «نقد النثر» المنسوب إلى قدامة ابن جعفر. (¬3) البرهان فى وجوه البيان، ص 177. (¬4) البرهان، ص 252.

العسكرى

العسكرى: وذكر أبو هلال العسكرى (- هـ) رأيين فى الفصاحة: الأول: إن الفصاحة والبلاغة ترجعان إلى معنى واحد وإن اختلف أصلاهما؛ لأنّ كل واحد منهما هو الإبانة عن المعنى والإظهار له. يقول: «فأما الفصاحة فقد قال قوم: إنّها من قولهم: أفصح فلان عما فى نفسه إذا أظهره، والشاهد على أنّها هى الإظهار قول العرب: أفصح الصبح إذا اضاء. وأفصح اللبن إذا انجلت عنه رغوته فظهر، وفصح أيضا. وأفصح الأعجمى إذا أبان بعد أن لم يكن يفصح ويبين، وفصح اللحان إذا عبر عما فى نفسه وأظهره على جهة الصواب دون الخطأ. وإذا كان الأمر على هذا فالفصاحة والبلاغة ترجعان إلى معنى واحد وإن اختلف أصلاهما» (¬1). الثانى: أنهما مختلفان، وذلك أنّ الفصاحة تمام آلة البيان فهى مقصورة على اللفظ، لأنّ الآلة تتعلق باللفظ دون المعنى، والبلاغة إنّما هى إنهاء المعنى إلى القلب فكأنّها مقصورة على المعنى. يقول: «وقال بعض علمائنا: الفصاحة تمام آلة البيان، فلهذا لا يجوز أن يسمّى الله تعالى فصيحا إذ كانت الفصاحة تتضمن الآلة، ولا يجوز على الله تعالى الوصف بالآلة ويوصف كلامه بالفصاحة لما يتضمن من تمام البيان. والدليل على ذلك أنّ الألثغ والتمتام لا يسميان فصيحين لنقصان آلتهما عن إقامة الحروف. وقيل: «زياد الأعجم» لنقصان آلة نطقه عن إقامة الحروف، وكان يعبر عن «الحمار» بالهمار، فهو أعجم وشعره فصيح لتمام بيانه» (¬2). ووضّح الأمر بقوله: «ومن الدليل على أنّ الفصاحة تتضمن اللفظ والبلاغة تتناول المعنى، أنّ الببغاء يسمّى فصيحا ولا يسمى بليغا إذ هو مقيم ¬

_ (¬1) كتاب الصناعتين، ص 7. (¬2) كتاب الصناعتين، ص 7.

ابن سنان

الحروف وليس له قصد إلى المعنى الذى يؤديه. وقد يجوز مع هذا أن يسمى الكلام الواحد فصيحا بليغا إذا كان واضح المعنى، سهل اللفظ، جيد السبك، غير مستكره فج ولا متكلف وخم، ولا يمنعه من أحد الاسمين شئ لما فيه من إيضاح المعنى وتقويم الحروف». (¬1) وهذا هو رأيه، أما الرأى الأول فقد عرضه، لأنّ بعضهم يذهب إلى ذلك. وعقد فصلا فى تمييز الكلام تحدث فيه عن صفات الألفاظ الحسنة، وانتهى إلى أنّ الكلام إذا جمع العذوبة والجزالة والسهولة والرصانة مع السلاسة والنصاعة، واشتمل على الرونق والطلاوة، وسلم من الحيف فى التأليف، وبعد عن سماجة التركيب، وورد على الفهم الثاقب- قبله ولم يرده، وعلى السمع المصيب استوعبه ولم يمجه، والنفس تقبل اللطيف وتنبو عن الغليظ. (¬2) وأعطى الألفاظ أهمية كبيرة، لأنه ليس الشأن فى إيراد المعانى، لأنّ المعانى يعرفها العربى والعجمى والقروى والبدوى، وإنما هو فى جودة اللفظ وصفائه، وحسنه وبهائه، ونزاهته ونقائه، وكثرة طلاوته ومائه مع صحة السبك والتركيب. وليس يطلب من المعنى إلّا أن يكون على هذه الأوصاف، وهو ما أشار إليه الجاحظ من قبل، ولكنه جعل التصوير أساس البيان. ابن سنان: وعقد ابن سنان الخفاجى (- هـ) فى كتابه «سر الفصاحة» فصولا ضافية تحدث فيها عن صفات الحروف ومخارجها، وفصاحة اللفظة المفردة والألفاظ المؤلفة. ¬

_ (¬1) كتاب الصناعتين، ص 8. (¬2) كتاب الصناعتين، ص 57.

والفصاحة- عنده: «الظهور والبيان» (¬1)، والفرق بينها وبين البلاغة» أنّ الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ والبلاغة لا تكون إلّا وصفا للألفاظ مع المعانى. لا يقال فى كلمة واحدة لا تدل على معنى يفضل عن مثلها بليغة وإن قيل فيها فصيحة، وكل كلام بليغ فصيح، وليس كل فصيح بليغا» (¬2). ولكى تكون اللفظة الواحدة فصيحة ينبغى أن تتوفر فيها بعض الشروط قال: «إنّ الفصاحة على ما قدمنا نعت للألفاظ إذا وجدت على شروط عدة ومتى تكاملت تلك الشروط فلا مزيد على فصاحة تلك الألفاظ وبحسب الموجود منها تأخذ القسط من الوصف وبوجود أضدادها تستحق الاطّراح والذم. وتلك الشروط تنقسم قسمين: فالأول منها: يوجد فى اللفظة الواحدة على انفرادها من غير أن ينضم إليها شئ من الألفاظ وتؤلف معه. والقسم الثانى: «يوجد فى الألفاظ المنظومة بعضها مع بعض» (¬3) فأما الذى يوجد فى اللفظة الواحدة فثمانية أشياء: الأول: أن يكون تأليف تلك اللفظة من حروف متباعدة المخارج، وعلة ذلك أنّ الحروف التى هى أصوات تجرى من السمع مجرى الألوان من البصر، ولا شك فى أنّ الألوان المتباينة إذا جمعت كانت فى المنظر أحسن من الألوان المتقاربة، ولهذا كان البياض مع السواد أحسن منه مع الصفرة. ومثال التأليف من الحروف المتباعدة كثير جل كلام العرب عليه، فأما تأليف الحروف المتقاربة فمثل «الهعخع»، وقد روى أنّ الخليل بن أحمد الفراهيدى قال: «سمعنا كلمة شنعاء هى «الهعخع» وأنكرنا تأليفها. ¬

_ (¬1) سر الفصاحة، ص 59. (¬2) سر الفصاحة، ص 60. (¬3) سر الفصاحة، ص 65.

وقيل: إنّ أعرابيا سئل عن ناقته فقال: تركتها ترعى الهعخع» (¬1). وقال ابن سنان: «ولحروف الحلق مزية فى القبح إذا كان التأليف منها فقط وأنت تدرك هذا وتستقبحه كما يقبح عندك بعض الأمزجة من الألوان وبعض النغم من الأصوات» (¬2). الثانى: أن يكون لتأليف اللفظة فى السمع حسن ومزية على غيرها وإن تساويا فى التأليف من الحروف المتباعدة كما نجد لبعض النغم والألوان حسنا يتصور فى النفس ويدرك بالبصر والسمع دون غيره مما هو من جنسه. ومثاله فى الحروف «ع. ذ. ب» فان السامع يجد لقولهم «العذيب» - اسم موضع و «عذيبة» - اسم امرأة- و «عذب» و «عذاب» و «عذب» و «عذبات» ما لا يجده فيما يقارب هذه الألفاظ فى التأليف. وليس سبب ذلك بعد الحروف فى المخارج فقط ولكنه تأليف مخصوص مع البعد، ولو قدّمت الذال أو الباء لم تجد الحسن على الصفة الأولى فى تقديم العين على الذال لضرب من التأليف فى النغم يفسده التقديم والتأخير. وليس يخفى على أحد من السامعين أنّ تسمية الغصن غصنا أو فننا أحسن من تسميته عسلوجا، وأنّ أغصان البان أحسن من عساليج الشوحط (¬3). ومن الكلمات العذبة الجميلة «تفاوح» وقد استعملها المتنبى فقال: إذا سارت الأحداج فوق نباته … تفاوح مسك الغانيات ورنده (¬4) وهى فى غاية من الحسن، وقيل: إنّ المتنبى أول من نطق بها على هذا المثال. ¬

_ (¬1) سر الفصاحة، ص 57. (¬2) سر الفصاحة، ص 67. (¬3) الشوحط: شجر يتخذ منه القسى. (¬4) الرند: العود، أو الآس، أو شجر طيب الرائحة.

ومثال ما يكره قول المتنبى: مبارك الاسم أغرّ اللقب … كريم الجرشّى شريف النسب (¬1) فانك تجد فى «الجرشى» تأليفا يكرهه السمع وينبو عنه، وأين كلمة «النفس» من هذه اللفظة الثقيلة؟ الثالث: أن تكون الكلمة غير متوعرة وحشية كقول أبى تمام: لقد طلعت فى وجه مصر بوجهه … بلا طائر سعد ولا طائر كهل فان «كهلا» هنا من غريب اللغة، وروى أنّ الأصمعى لم يعرف هذه الكلمة وأنّها ليست موجودة إلّا فى شعر بعض الهذليين وهو قوله: فلو أنّ سلمى جاره أو أجاره … رياح بن سعد ردّه طائر كهل وقيل: إنّ الكهل الضخم، وهى لفظة ليست قبيحة التأليف لكنها وحشية غريبة لا يعرفها مثل الأصمعى. ولهذا اعتمد الحذاق من الشعراء على اختيار أسماء المنازل والنساء فى الغزل وتجنبوا ما لا يحسن لفظه، وعابوا على جرير قوله: وتقول بوزع قد دببت على العصا … هلا هزئت بغيرنا يا بوزع وذكروا أنّ الوليد بن عبد الملك قال له: أفسدت شعرك ب «بوزع». وقد قال ابن سنان: «وأنا أكره من قول كثير بن عبد الرحمن صاحب عزة: وما روضة بالحزن طيبة الثرى … يمجّ الندى جثجاثها وعرارها ذكر «الجثجاث» لأنه اسم غير مختار، ولو أمكنه ذكر غيره كان عندى أليق وأوفق. ولا أحب أيضا تسمية أبى تمام صاحبه- علاثة- ونداءه بالترخيم فى قوله: ¬

_ (¬1) كريم الجرشى: كريم النفس.

قف بالطلول الدارسات علاثا … أضحت حبال قطينهن رثاثا وإن كان الروى قاده إلى ذلك، فليت شعرى من حظر عليه القوافى واقتصر به على الثاء دون غيرها من الحروف» (¬1). الرابع: أن تكون الكلمة غير ساقطة عامية، ومثال العامية قول أبى تمام: جليت والموت مبد حرّ صفحته … وقد تفرعن فى أفعاله الأجل فان «تفرعن» مشتق من اسم «فرعون» وهو من ألفاظ العامة، وعادتهم أن يقولوا: «تفرعن فلان» إذا وصفوه بالجبرية. ومنه قول أبى نصر عبد العزيز بن نباتة: أقام قوام الدين زيغ قناته … وأنضج كىّ الجرح وهو فطير فلفظة «فطير» عامية مبتذلة. ومنه قول أبى تمام: قد قلت لما لجّ فى صدّه … اعطف على عبدك يا قابرى فان «قابرى» من ألفاظ عوام النساء. ومن ذلك لفظة «أو جعتها» فى قول ابن نباتة: فقد رفعت أبصارها كل بلدة … من الشوق حتى أوجعتها الأخادع ولفظة «الجورب» فى قول المتنبى: تستغرق الكفّ فوديه ومنكبه … وتكتسى منه ريح الجورب الخلق ¬

_ (¬1) سر الفصاحة، ص 76.

الخامس: أن تكون الكلمة جارية على العرف العربى الصحيح غير شاذّة. ويدخل فى هذا القسم ما ينكره أهل اللغة ويردّه علماء النحو من التصرف الفاسد فى الكلمة، وقد يكون ذلك لأجل أنّ اللفظة بعينها غير عربية كما أنكروا على أبى الشيص قوله: وجناح مقصوص تحيّف ريشه … ريب الزمان تحيّف المقراض وقالوا: ليس «المقراض» من كلام العرب، ولم يسمع عنهم إلا مثنى. وقد تكون الكلمة عربية إلا أنّها قد عبّر بها عن غير ما وضعت له فى عرف اللغة، كما قال البحترى: يشق عليه الريح كلّ عشية … جيوب الغمام بين بكر وأيّم فوضع «الأيم» مكان «الثيب» وليس الأمر كذلك، وإنّما «الأيم» التى لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا. ومن ذلك قول البحترى: شرطى الإنصاف إن قيل اشترط … وصديقى من إذا صافى قسط وأراد ب «قسط» عدل، لأنّ الأمر عليه، وليس الأمر كذلك وإنّما يقال «أقسط» إذا عدل، و «قسط» إذا جار، ومنه قوله تعالى: «وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً» (¬1) وقد يكون على جهة الحذف من الكلمة كقول رؤبة بن العجاج: قواطنا مكة من ورق الحما يريد: الحمام وقد يكون على وجه الزيادة فى الكلمة مثل أن تشبع الحركة فيها فتصير حرفا، كما قال الشاعر: وأنت على الغواية حين ترمى … وعن عيب الرجال بمنتزاح أى: بمنتزح. ¬

_ (¬1) الجن 15.

وقد يكون إيراد الكلمة على وجه الشاذ القليل، كلفظة «باهت» التى جاءت رديئة شاذة فى قول البحترى: متحيرين فباهت متعجب … مما يرى أو ناظر متأمّل والعربى المستعمل «بهت الرجل يبهت فهو مبهوت». ويدخل فى هذا القسم ما يسمى الضرورة الشعرية من إظهار التضعيف، أو مدّ المقصور، أو قصر الممدود، أو تأنيث المذكر على بعض التأويل، أو صرف ما لا ينصرف، وغير ذلك. السادس: أن لا تكون الكلمة قد عبّر بها عن أمر آخر يكره ذكره، فاذا أوردت وهى غير مقصود بها ذلك المعنى قبحت وإن كملت فيها الصفات كقول الشريف الرضى: أعزز علىّ بأن أراك وقد خلت … من جانبيك مقاعد العوّاد فايراد «مقاعد» فى هذا البيت صحيح، إلّا أنّه موافق لما يكره ذكره فى مثل هذا الشأن، لا سيما إضافته إلى من يحتمل إضافته إليهم وهم «العواد»، ولو انفرد لكان الأمر فيه سهلا فأما إضافته إلى ما ذكره ففيها قبح لاخفاء به. السابع: أن تكون الكلمة معتدلة غير كثيرة الحروف فانها متى زادت على الأمثلة المعتادة المعروفة قبحت وخرجت عن وجه من وجوه الفصاحة. ومن ذلك قول أبى نصر بن نباتة: فاياكم أن تكشفوا عن رؤوسكم … ألا إنّ مغناطيسهن الذوائب ف «مغناطيسهن» كلمة غير مرضية لطولها. ومنه قول أبى تمام: فلأذربيجان اختيال بعد ما … كانت معرّس عبرة ونكال سمجت ونبهنا على استسماجها … ما حولها من نضرة وجمال

فقوله «فلأذربيجان» كلمة رديئة لطولها وكثرة حروفها وهى غير عربية، وكذلك قوله «استسماجها» ردئ لكثرة الحروف وخروج الكلمة بذلك عن المعتاد فى الألفاظ إلى الشاذ النادر. ومنه قول المتنبى: إنّ الكريم بلا كرام منهم … مثل القلوب بلا سويداواتها (¬1) ف «سويداواتها» كلمة طويلة جدا. الثامن: أن تكون الكلمة مصغرة فى موضع عبر بها فيه عن شئ لطيف أو خفى أو قليل أو ما يجرى مجرى ذلك، فانها تحسن به. ومن ذلك قول عمر بن أبى ربيعة: وغاب قمير كنت أرجو طلوعه … وروّح رعيان ونوّم سمّر وهذا تصغير مختار فى موضعه، فأما الأسماء التى لم ينطق بها إلّا مصغرة كاللجين والثريا فليس للتصغير فيهما حسن يذكر، لأنّه غير مقصود بهما ما ذهب إليه ابن سنان. ومعظم هذه الشروط تدخل فى فصاحة الألفاظ المؤلفة، والإخلال بها قد يؤدى إلى زيادة القبح والتنافر فى الكلام، لأنّه حين تكون الألفاظ مجتمعة تحتاج إلى دقة فى التركيب واختيار اللطيف منها. يقول ابن سنان متحدثا عن الشرط الأول: «إنّ الأول منها أن يكون تأليف اللفظة من حروف متباعدة المخارج، وهذا بعينه فى التأليف وبيانه أن يجتنب الناظم تكرر الحروف المتقاربة فى تأليف الكلام كما أمرناه بتجنب ذلك فى اللفظة الواحدة، بل هذا فى التأليف أقبح، وذلك أنّ اللفظة المفردة لا يستمر فيها من تكرار الحرف الواحد أو تقارب الحرف مثلما يستمر فى الكلام المؤلف إذا طال واتسع» (¬2). ¬

_ (¬1) سويداء القلب: حبته، وجمعها سويداوات. (¬2) سر الفصاحة، ص 107.

عبد القاهر

ومما قبح قول أبى تمام: فالمجد لا يرضى بأن ترضى بأن … يرضى المؤمل منك إلّا بالرضى ومنه قول الآخر: وقبر حرب بمكان قفر … وليس قرب قبر حرب قبر ومنه قول المتنبى: وتسعدنى فى غمرة بعد غمرة … سبوح لها منها عليها شواهد وأما الثانى من شروط اللفظة المفردة فيكون فى التأليف إذا ترادفت الكلمات المختارة فيوجد الحسن فيها أكثر وتزيد طلاوته على ما لا يجمع من تلك الكلمات إلا القليل، وهذا يرجع إلى اللفظة بانفرادها وليس للتأليف فيه إلّا ما أثاره التواتر والترادف. وكذلك الثالث والرابع من الأقسام لا علقة للتأليف بهما، وإنّما يقبح إذا كثر فيه الكلام الوحشى أو العامى. وأما الخامس فللتأليف به علقة وكيدة، لأنّ إعراب اللفظة تبع لتأليفها من الكلام وعلى حكم الموضع الذى وردت فيه. وأما السادس فللتأليف فيه تعلق بحسب إضافة الكلمة إلى غيرها، فانّ القبح يختلف بحسب ذلك. وأما السابع فلا علقة للتأليف به، إلّا أنّ ظهور قبحه أجلى إذا ترادفت فيه الكلمات الطوال. وأما الثامن فلا علقة للتأليف به إذ كان لا يتعدى الكلمة بانفرادها. ودراسة ابن سنان للفصاحة من أخصب الدراسات، ولا يكاد المتأخرون يخرجون عنها فى كل ما ألفوا أو اختصروا أو شرحوا. عبد القاهر: وكانت الفصاحة والبلاغة والبراعة والبيان ألفاظا مترادفة عند عبد القاهر الجرجانى (- هـ أو هـ)، وكلها يعبر بها عن «فضل بعض القائلين

على بعض من حيث نطقوا وتكلموا وأخبروا السامعين عن الأغراض والمقاصد وراموا أن يعلموهم ما فى نفوسهم، ويكشفوا لهم عن ضمائر قلوبهم» (¬1) والألفاظ عنده خدم للمعانى وأوعية تتبعها فى حسنها وجمالها أو قبحها ورداءتها، يقول: «ولن تجد أيمن طائرا، وأحسن أولا وآخرا، وأهدى إلى الاحسان، وأجلب للاستحسان من أن ترسل المعانى على سجيتها وتدعها تطلب لأنفسها الألفاظ، فانها إذا تركت وما تريد لم تكتس إلّا ما يليق بها ولم تلبس من المعارض إلّا ما يزينها. فأما أن تضع فى نفسك أن لا بدّ من أن تجنس أو تسجع بلفظين مخصوصين فهو الذى أنت بعرض الاستكراه وعلى خطر من الخطأ والوقوع فى الذم. فان ساعدك الجد كما ساعد فى قوله: أو دعانى أمت بما أودعانى وكما ساعد أبا تمام فى نحو قوله: وأنجدتم من بعد إتهام داركم … فيا دمع أنجدنى على ساكنى نجد وقوله: هنّ الحمام فان كسرت عيافة … من حائهن فانهنّ حمام فذاك وإلا أطلقت ألسنة العيب» (¬2). إنّ الفصاحة تكون فى المعنى وليس للكلمة المفردة كبير قيمة، وكثيرا ما تستعمل اللفظة فى موضع فتكون حلوة الجرس عذبة، وتستعمل فى موضع آخر فتفقد تلك المزية، وإنما كان ذلك «لأنّ المزية التى من أجلها نصف اللفظ فى شأننا هذا بأنه فصيح مزية تحدث بعد أن لا تكون وتظهر فى العلم من بعد أن يدخلها النظم. وهذا شئ إن أنت طلبته فيها وقد جئت بها إفرادا ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز، ص 35. (¬2) أسرار البلاغة، ص 19، وينظر دلائل الإعجاز، 401.

لم ترم فيها نظما ولم تحدث لها تأليفا طلبت محالا. وإذا كان كذلك وجب أن تعلم قطعا أنّ تلك المزية فى المعنى دون اللفظ» (¬1). فالألفاظ عند عبد القاهر لا تتفاضل من حيث هى ألفاظ مجردة، ولا من حيث هى كلم مفردة، وإنما تثبت لها الفضيلة وخلافها فى ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التى تليها وما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ. ومما يشهد لذلك أنّك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك فى موضع ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك فى موضع آخر كلفظ «الأخدع» فى بيت الحماسة: تلفتّ نحو الحى حتى وجدتنى … وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا (¬2) وبيت البحترى: وإنى وإن بلّغتنى شرف الغنى … وأعتقت من رقّ المطامع أخدعى فان لها فى هذين البيتين ما لا يخفى من الحسن، ثم إنك تتأملها فى بيت أبى تمام: يا دهر قوّم من أخدعيك فقد … أضججت هذا الأنام من خرقك فتجد لها من الثقل على النفس ومن التنغيص والتكدير أضعاف ما وجدت هناك من الروح والخفة والإيناس والبهجة. ومن أعجب ذلك لفظة «الشئ» فانك تراها مقبولة حسنة فى موضع وضعيفة مستكرهة فى موضع آخر، وإن أردت أن تعرف ذلك فانظر إلى قول عمر بن أبى ربيعة: ومن مالئ عينيه من شئ غيره … إذا راح نحو الجمرة البيض كالدّمى وإلى قول أبى حية النميرى: إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة … تقاضاه شئ لا يملّ التقاضيا ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز، ص 307. (¬2) الأخدعان: عرقان فى جانبى العنق قد خفيا وبطنا، والليت: صفحة العنق.

فانك تعرف حسنها ومكانها من القبول، ثم انظر فى بيت المتنبى: لو الفلك الدوّار أبغضت سعيه … لعوّقه شئ عن الدوران فانك تراها تقل وتضؤل بحسب نبلها وحسنها فيما تقدم. ومن سر هذا الباب أنّك ترى اللفظة المستعارة قد استعيرت فى عدة مواضع ثم ترى لها فى بعض ذلك ملاحة لا تجدها فى الباقى، مثال ذلك أنك تنظر إلى لفظة «الجسر» فى قول أبى تمام: لا يطمع المرء أن يجتاب لجّته … بالقول ما لم يكن جسرا له العمل وقوله: بصرت بالراحة العظمى فلم ترها … تنال إلا على جسر من التّعب فترى لها فى الثانى حسنا لا تراه فى الأول، ثم تنظر إليها فى قول ربيعة الرقى: قولى: نعم، ونعم إن قلت واجبة … قالت: عسى وعسى جسر إلى نعم ترى لها لطفا وخلابة وحسنا ليس الفضل فيه بقليل. وينتهى عبد القاهر إلى أنّ الكلمة لو كانت إذا حسنت من حيث هى لفظ واذا استحقت المزية والشرف، استحقت ذلك فى ذاتها وعلى انفرادها دون أن يكون السبب فى ذلك حال لها مع أخواتها المجاورة لها فى النظم لما اختلفت بها الحال ولكانت إما أن تحسن أبدا أو لا تحسن أبدا (¬1). ولعل الغرض الدينى كان دافعا إلى هذا الرأى، لأن كلمات القرآن الكريم عربية نطق بها الشعراء والخطباء وتداولها الناس، وليس لها مزية وهى مفردة لا يضمها سلك يوحد بينها ويجمع متفرقها، ولكى يظهر عبد القاهر ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز، ص 38، 62.

إعجاز القرآن ويردّ ما كان يشيع فى البيئات المختلفة اتجه إلى نظرية النظم ليسد بها المسالك ويفند آراء المختلفين ويوقف طعنات الحاقدين. ولم يقف عند الاهتمام بالنظم وإنما اهتم بالتصوير الأدبى الذى لا يكون إلا بترتيب الألفاظ والتأليف بينها، يقول: «ومعلوم أنّ سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة، وأنّ سبيل المعنى الذى يعبر عنه سبيل الشئ الذى يقع التصوير والصوغ فيه كالفضة والذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار، فكما أنّ محالا إذا أنت أردت النظر فى صوغ الخاتم وفى جودة العمل ورداءته أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة أو الذهب الذى وقع فيه العمل وتلك الصنعة، كذلك محال إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزية فى الكلام أن تنظر فى مجرد معناه. وكما أنا لو فضلنا خاتما على خاتم بأن تكون فضة هذا أجود أو فضة ذاك أنفس لم يكن ذلك تفضيلا له من حيث هو خاتم، كذلك ينبغى إذا فضلنا بيتا على بيت من أجل معناه أن لا يكون تفضيلا له من حيث هو شعر وكلام» (¬1). فعبد القاهر يرى أنّ للتصوير الأدبى قيمة كبيرة، ولذلك أطال الكلام فى «أسرار البلاغة» على الوسائل التى تجعل الصورة حسنة مقبولة، وفصل القول فى نظرية النظم، وذهب إلى أبعد من ذلك ورأى أنّ فى الاستعارة ما لا يمكن بيانه إلّا بعد العلم بالنظم والوقوف على حقيقته. يقول متحدثا عن الاستعارة فى بيت الشاعر: سالت عليه شعاب الحىّ حين دعا … أنصاره بوجوه كالدنانير «فانك ترى هذه الاستعارة على لطفها وغرابتها إنمّا تم لها الحسن وانتهى إلى حيث انتهى بما توخّى فى وضع الكلام من التقديم والتأخير، وتجدها قد ملحت ولطفت بمعاونة تلك ومؤازرته لها. وإن شككت فاعمد إلى الجارين والظرف فأزل كلّا منها عن مكانه الذى وضعه الشاعر فيه فقل: «طالت ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز، ص 196.

شعاب الحى بوجوه كالدنانير عليه حين دعا أنصاره» ثم انظر كيف يكون الحال وكيف يذهب الحسن والحلاوة وكيف تعدم أريحيتك التى كانت وكيف تذهب النشوة التى كنت تجدها» (¬1). إنّ الفصاحة عنده لا تكون إلّا بتوخى معانى النحو، أى النظم، والألفاظ لا تفيد حتى تؤلف ضربا خاصا من التأليف ويعمد بها إلى وجه فى التركيب. فلو أنّك عمدت إلى بيت شعر أو فصل نثر فعددت كلماته حدّا كيف جاء واتفق وأبطلت نضده ونظامه الذى عليه بنى وفيه أفرغ المعنى وأجرى، وغيرت ترتيبه الذى بخصوصيته أفاد كما أفاد، وبنسقه المخصوص أبان المراد نحو أن تقول فى «قفانبك من ذكرى حبيب ومنزل»: «منزل قفا ذكرى من نبك حبيب» أخرجته من كمال البيان إلى محال الهذيان، وأسقطت نسبته من صاحبه، وقطعت الرحم بينه وبين منشئه، بل أحلت أن يكون له إضافة إلى قائل ونسب يخص بمتكلم (¬2). وانتهى إلى الحكم بالخطأ على من قصر الفصاحة على الكلمات من حيث هى ألفاظ منطوقة وأصوات مسموعة، والأديب لا يطلب اللفظ بحال، وإنّما يطلب المعنى فاذا ظفر به فاللفظ معه وإزاء ناظره، ولذلك لم تكن الفصاحة عنده من صفات المفردات من غير اعتبار التركيب. إنّ عبد القاهر ربط بين الفصاحة والنظم ولذلك لم يطل الكلام على شروط الفصاحة كما فعل معاصره ابن سنان الخفاجى، ولكنه مع ذلك لا ينكرها كل الإنكار، ونراه يقول فى خاتمة كتابه «دلائل الإعجاز»: «واعلم أنّا لا نأبى أن تكون مذاقة الحروف وسلامتها مما يثقل على اللسان داخلا فيما يوجب الفضيلة، وأن تكون مما يؤكد أمر الإعجاز، وإنما الذى ننكره ونفيل رأى من يذهب إليه أن يجعله معجزا به وحده ويجعله الأصل ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز، ص 78. (¬2) أسرار البلاغة، ص 8.

الرازى

والعمدة فيخرج إلى ما ذكرنا من شناعات (¬1)»، فهو لم ينكر فصاحة الألفاظ ونغمها ولكنه لم يرد أن يفسر الإعجاز بها، ولذلك لم يدرسها كما فعل الآخرون ولم يعن بها عناية تظهر ميزتها وتأثيرها فى الكلام (¬2). الرازى: عرّف فخر الدين الرازى (- هـ الفصاحة) بأنها «خلوص الكلام من التعقيد (¬3)» وهى- عنده- تتصل بالمعنى، لأنّ الإفادة اللفظية يستحيل تطرق الكمال والنقصان إليها، فان السامع للفظ إما أن يكون عالما بكونه موضوعا لمسماه أو لا يكون. فان كان عالما به عرف مفهومه بتمامه، وإن لم يكن عالما به لم يعرف منه شيئا أصلا. وحصر البحوث المتعلقة بالدلالة اللفظية فى أمرين: الاول: أنّ الفصاحة والبلاغة لا يجوز عودهما إلى الدلالة اللفظية. الثانى: أنّ الفصاحة وإن كانت غير عائدة إلى الدلالة اللفظية، لكن من الأمور العائدة إلى جوهر اللفظ وإلى دلالته الوضعية ما يفيد الكلام كمالا وزينة وجمالا (¬4). وهذه فكرة عبد القاهر التى بنى عليها نظريته فى النظم، ويرى بهاء الدين السبكى أنّ الرازى يميل إلى أنّ الفصاحة راجعة إلى الألفاظ والمعانى (¬5). ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز، ص 401. (¬2) ينظر الفصل الثالث «اللفظ والمعنى» فى كتابنا «عبد القاهر الجرجانى- بلاغته ونقده» ص-. (¬3) نهاية الإيجاز، ص 9. (¬4) نهاية الإيجاز، ص 11. (¬5) عروس الأفراح- شروح التلخيص، ج 1 ص 135.

ابن الأثير

ابن الأثير: وكان ضياء الدين ابن الأثير (- هـ) أوضح من السابقين تصورا وفهما للفصاحة، وقد اهتم بها اهتماما عظيما وصحّح كثيرا من الآراء فى كتابيه «المثل السائر فى أدب الكاتب والشاعر» و «الجامع الكبير». يقول عن الفصاحة: «اعلم أنّ هذا باب متعذر على الوالج ومسلك متوعر على الناهج، ولم يزل العلماء من قديم الوقت وحديثه يكثرون القول فيه والبحث عنه، ولم أجد من ذلك ما يعول عليه إلّا القليل. وغاية ما يقال فى هذا الباب أنّ الفصاحة هى الظهور والبيان فى أصل الوضع اللغوى، يقال: أفصح الصبح إذا ظهر. ثم إنهم يقفون عند ذلك ولا يكشفون عن السر فيه» (¬1). ولا تتبين الفصاحة بهذا القول لأنّه يعترض عليه بوجوه من الاعتراضات: الأول: أنه إذا لم يكن اللفظ ظاهرا بينا لم يكن فصيحا، ثم إذا ظهر وتبين صار فصيحا. الثانى: أنه إذا كان اللفظ الفصيح هو الظاهر البين فقد صار ذلك بالنسب والإضافات إلى الأشخاص، فان اللفظ قد يكون ظاهرا لزيد ولا يكون ظاهرا لعمرو، فهو إذن فصيح عند هذا وغير فصيح عند ذاك. وليس كذلك، بل الفصيح هو فصيح عند الجميع لا خلاف فيه بحال من الأحوال لأنّه إذا تحقق حد الفصاحة وعرف ما هى لم يبق فى اللفظ الذى يختص به خلاف. الثالث: أنه إذا جئ بلفظ قبيح ينبو عنه السمع وهو مع ذلك ظاهر بين ينبغى أن يكون فصيحا، وليس كذلك لأنّ الفصاحة وصف حسن اللفظ لا وصف قبح. فهذه الاعتراضات الثلاثة واردة على قول القائل: «إنّ اللفظ الفصيح هو الظاهر البين»، ومعنى ذلك أنّ ابن الأثير لا يأخذ بهذا القول الذى أثار حيرته فمضى يبحث عن تعريف للفصاحة، ويحقق القول فيها. وقد شرح ¬

_ (¬1) المثل السائر، ج 1 ص 64.

المسألة بوضوح فقال إنّ المقصود ب «أنّ الكلام الفصيح هو الظاهر البين» أن تكون ألفاظه مفهومة لا يحتاج فهمها إلى استخراج من كتاب لغة، وإنمّا كانت بهذه الصفة؛ لأنّها تكون مألوفة الاستعمال بين أرباب النظم والنثر دائرة فى كلامهم، وإنّما كانت مألوفة الاستعمال دائرة فى الكلام دون غيرها من الألفاظ لمكان حسنها، وذلك أنّ أرباب النظم والنثر غربلوا اللغة باعتبار ألفاظها وسبروا وقسموا فاختاروا الحسن من الألفاظ فاستعملوه ونفوا القبيح منها فلم يستعملوه، فحسن الألفاظ سبب استعمالها دون غيرها واستعمالها دون غيرها سبب ظهورها وبيانها، فالفصيح من الألفاظ هو الحسن. فان قيل: من أى وجه علم أرباب النظم والنثر الحسن من الألفاظ حتى استعملوه، وعلموا القبيح منها حتى نفوه ولم يستعملوه؟ قيل لهم: إنّ هذا من الأمور المحسوسة التى شاهدها فى نفسها، لأنّ الألفاظ داخلة فى حيز الأصوات، فالذى يستلذه السمع منها ويميل إليه هو الحسن، والذى يكرهه وينفر عنه هو القبيح. ألا ترى أنّ السمع يستلذ صوت البلبل من الطير وصوت الشحرور ويميل إليهما، ويكره صوت الغراب وينفر عنه، وكذلك يكره نهيق الحمار ولا يجد ذلك فى صهيل الفرس فالألفاظ جارية هذا المجرى فانه لا خلاف فى أنّ لفظة «المزنة» و «الديمة» حسنة يستلذها السمع، وأنّ لفظة «البعاق» قبيحة يكرهها السمع. وهذه اللفظات الثلاث من صفة، وهى تدل على معنى واحد، ومع هذا فانك ترى لفظتى «المزنة» و «الديمة» وما جرى مجراهما مألوفة الاستعمال، وترى لفظ «البعاق» وما جرى مجراه متروكا لا يستعمل، وإن استعمل فانما يستعمله جاهل بحقيقة الفصاحة أو من ذوقه غير سليم. لقد ثبت أنّ الفصيح من الألفاظ هو «الظاهر البين»، وإنّما كان ظاهرا بينا؛ لأنّه مألوف الاستعمال، وإنّما كان مألوف الاستعمال لمكان حسنه، وحسنه مدرك بالسمع، والذى يدرك بالسمع إنما هو اللفظ لأنه صوت يأتلف عن مخارج الحروف، فما استلذه السمع منه فهو الحسن وما كرهه فهو القبيح، والحسن هو الموصوف بالفصاحة والقبيح غير

موصوف بفصاحة لأنّه ضدها لمكان قبحه. ولو كانت الفصاحة لأمر يرجع إلى المعنى لكانت هذه الألفاظ فى الدلالة عليه سواء ليس منها حسن ومنها قبيح، ولما لم يكن كذلك علم أنّها تخص اللفظ دون المعنى. وابن الأثير لم يفصل بين اللفظ والمعنى فى هذا القول وإنّما خصّ اللفظ بصفة هى له، والمعنى يجئ فيه ضمنا وتبعا. وأشار إلى الفصاحة عند المتقدمين فقال: «وقد ذكر من تقدّمنى من علماء البيان للألفاظ المفردة خصائص وهيآت تتصف بها، واختلفوا فى ذلك، واستحسن أحدهم شيئا فخولف فيه وكذلك استقبح الآخر شيئا فخولف فيه، ولو حققوا النظر ووقفوا على السر فى اتصاف بعض الألفاظ بالحسن وبعضها بالقبح لما كان بينهم خلاف فى شئ منها» (¬1). وردّ رأى من ذهب إلى أنّ كل الألفاظ حسن وقال: «ومن يبلغ جهله إلى أن لا يفرق بين لفظة «الغصن» ولفظة «العسلوج»، وبين لفظة «المدامة» ولفظة «الاسفنط» وبين لفظة «السيف» ولفظة «الخنشليل»، وبين لفظة «الأسد» ولفظة «الفدوكس»، فلا ينبغى أن يخاطب بخطاب ولا يجاوب بجواب، بل يترك وشأنه كما قيل: «اتركوا الجاهل بجهله ولو ألقى الجعر (¬2) فى رحله». وما مثاله فى هذا المقام إلّا كمن يسوّى بين صورة زنجية سوداء شوهاء الخلق ذات عين محمرة وشفة غليظة كأنها كلوة وشعر قطط (¬3) كأنه زبيبة، وبين صورة رومية بيضاء مشربة بحمرة ذات خد أسيل وطرف كحيل، ومبسم كأنما نظم من أقاح، وطرة كأنها ليل على صباح. فاذا كان بانسان من سقم النظر أن يسوّى بين هذه الصورة وهذه فلا يبعد أن يكون به من سقم النظر أن يسوى بين هذه الألفاظ وهذه. ولا فرق بين النظر والسمع فى هذا المقام فان هذا حاسة وهذا حاسة، وقياس حاسة على حاسة مناسب». ¬

_ (¬1) المثل السائر، ج 1 ص 148. (¬2) الجعر: ما يبس من العذرة فى المجعر أى الدبر، أو نحو كل ذات مخلب من السباع. (¬3) الشعر القطط: القصير الجعد.

السكاكى

ثم قال: «ومن له أدنى بصيرة يعلم أنّ للالفاظ فى الأذن نغمة لذيذة كنغمة أوتار، وصوتا منكرا كصوت حمار، وأن لها فى الفم أيضا حلاوة كحلاوة العسل ومرارة كمرارة الحنظل، وهى على ذلك تجرى مجرى النغمات والطعوم (¬1)». وذكر أن ابن سنان قد تحدث عما يتعلق باللفظة الواحدة من الأوصاف وقسمها عدة أقسام- كما مر- وفيما قاله ابن سنان لا حاجة إليه، لأنّ تباعد المخارج يشمل معظم اللغة العربية، وأنّ جريان اللفظة على الصرف العربى ليس مما يوجب لها حسنا ولا قبحا وإنما يقدح فى معرفة مستعملها بما ينقله من الألفاظ، وأنّ تصغير الكلمة مما لا حاجة إلى ذكره لأنّ المعنى يسوق إليه. أما الأوصاف الأخرى التى ذكرها ابن سنان فقد أقام عليها ابن الأثير بحثه فى الألفاظ فقبل منها ما قبل ورفض ما رفض، وشرح تلك الأوصاف بما يغنى عن كثير من الكتب، وكانت دراسته من أوسع الدراسات وأعمقها ولم يأت بعده من أضاف إليها، واتجهت الكتب إلى التلخيص والقضاء على النزعة الأدبية التى، اتسمت بها دراسة ابن الأثير. السكاكى: وعندما قسم السكاكى (- هـ) البلاغة إلى علومها لم يعقد للفصاحة فصلا، وإنّما تكلم عليها بعد أن انتهى من علم البيان، وذكر أنّها قسمان: الأول: راجع إلى المعنى وهو خلوص الكلام من التعقيد. وشرح تعقيد الكلام وقال: هو أن يعثر صاحب الفكر فى متصرفه ويشيك الطريق إلى المعنى، كقول الفرزدق: وما مثله فى الناس إلّا مملكا … أبو أمه حىّ أبوه يقاربه وكقول أبى تمام: ثانيه فى كبد السماء ولم يكن … كاثنين ثان إذ هما فى الغار ¬

_ (¬1) المثل السائر، ج 1 ص 149 - 150.

ابن مالك

أما غير المعقد فهو أن يفتح صاحبه للفكرة الطريق ويمهده (¬1). الثانى: راجع إلى اللفظ، وهو: - أن تكون الكلمة عربية أصلية، وعلامة ذلك أن تكون على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم أدور واستعمالهم لها أكثر، لا مما أحدثها المولدون ولا مما أخطأت فيه العامة. - وأن تكون أجرى على قوانين اللغة. - وأن تكون سليمة من التنافر. وجعل الفصاحة غير لازمة للبلاغة التى حصر مرجعها فى المعانى والبيان، ولم يجعل للفصاحة مرجعا فى شئ منهما، وهو فى ذلك يتابع عبد القاهر والرازى اللذين نظرا إلى النظم ولم يوليا اللفظ المفرد أهمية كبيرة. ابن مالك: واختصر بدر الدين بن مالك (- هـ) القسم الثالث من «مفتاح العلوم» وتكلم على الفصاحة وأطلق عليها اسم البديع الذى قال عنه «هو معرفة توابع الفصاحة» وعرّف الفصاحة بأنّها «صوغ الكلام على وجه له توفية بتمام الأفهام لمعناه وتبين المراد منه (¬2)». وقسمها إلى معنوية ولفظية، وذكر ما فى «مفتاح العلوم» من صفاتهما، ثم قسم المعنوية إلى مختصة بالأفهام والتبيين ومختصة بالتزيين والتحسين. وهذه الأنواع الثلاثة هى علم البديع عند المتأخرين. القزوينى: وحينما جاء الخطيب القزوينى (- هـ) وجد الطريق ممهدا فأخذ عن علماء البلاغة المتقدمين ورتّب بحث الألفاظ ترتيبا علميا خالف فيه السكاكى ¬

_ (¬1) مفتاح العلوم، 196 - 197. (¬2) المصباح، ص 75.

وبدر الدين، لأنّه اتخذها مقدمة للبلاغة، وفى هذه المقدمة التى كانت كشفا عن معنى الفصاحة والبلاغة وانحصار علم البلاغة فى المعانى والبيان- تكلم على صفات الألفاظ وما ينبغى أن تكون عليه. وكان بحثه إيذانا باتخاذ الفصاحة مقدمة لعلوم البلاغة بعد أن كانت موضوعا تشيع فيه الحياة (¬1). بدأ القزوينى مقدمته بقوله: «للناس فى تفسير الفصاحة والبلاغة أقوال مختلفة لم أجد- فيما بلغنى منها- ما يصلح لتعريفهما به ولا ما يشير إلى الفرق بين كون الموصوف بهما الكلام وكون الموصوف بهما المتكلم، فالأولى أن نقتصر على تلخيص القول فيهما بالاعتبارين (¬2)». وهذا غير صحيح، لأنّ البلاغيين اهتموا بهما ووضعوا لهما حدودا وفرّقوا بينهما، وكانت بحوث الجاحظ وقدامة وأبى هلال وعبد القاهر وابن سنان وابن الأثير من أروع ما كتب وأبدع ما خطته يد بلاغى ناقد، وما مقدمة القزوينى إلّا خلاصة هذه الدراسات، فكيف لم يترك القدماء تعريفا للفصاحة أو البلاغة يمكن الركون إليه؟ ولعله فى ذلك متأثر بدعوى عبد القاهر الذى يقول: «لم أزل منذ خدمت العلم أنظر فيما قاله العلماء فى معنى الفصاحة والبلاغة والبيان والبراعة وفى بيان المغزى من هذه العبارات وتفسير المراد بها فأجد بعض ذلك كالرمز والإشارة فى خفاء، وبعضه كالتنبيه على مكان الخبئ ليطلب وموضع الدفين يبحث عنه فيخرج» (¬3). ويقول: «إنّا لم نر العقلاء قد رضوا من أنفسهم فى شئ من العلوم أن يحفظوا كلاما للأولين ويتدارسوه، ويكلم به بعضهم بعضا من غير أن يعرفوا له معنى ويقفوا منه على غرض صحيح، ويكون عندهم أن يسألوا عن بيان له وتفسير، إلّا علم الفصاحة فانك ترى طبقات من الناس يتداولون فيما بينهم ألفاظا للقدماء. وعبارات من غير أن يعرفوا لها معنى أصلا أو يستطيعوا إن يسألوا عنها أن يذكروا لها تفسيرا يصح» (¬4). ¬

_ (¬1) ينظر كتابنا القزوينى وشروح التلخيص، 249 - 283. (¬2) الإيضاح، ص 2. (¬3) دلائل الإعجاز، ص 28. (¬4) دلائل الإعجاز، ص 350.

وهذا صحيح فى عهد التأليف الأول وعند عبد القاهر الذى لم يفرق بين المصطلحين، لأنهما عنده يعبر بهما عن فضل بعض القائلين على بعض من حيث نطقوا وتكلموا وأخبروا السامعين عن الأغراض والمقاصد وراموا أن يعلموهم ما فى نفوسهم ويكشفوا لهم عن ضمائر قلوبهم (¬1)، أما القزوينى فالأمر عنده مختلف، لأنّ مصطلحات البلاغة استقرت فى عهده وأصبح للفصاحة والبلاغة محتوى واضح. والفصاحة والبلاغة عند القزوينى تقع كل واحدة منهما صفة لمعنيين: الأول: الكلام كما فى «قصيدة فصيحة أو بليغة»، و «رسالة فصيحة أو بليغة». الثانى: المتكلم كما فى «شاعر فصيح أو بليغ»، و «كاتب فصيح أو بليغ». وتحدث عن فصاحة اللفظة المفردة، وقال إنّ الفصاحة تقع صفة للمفرد فيقال «كلمة فصيحة» ولا يقال «كلمة بليغة». ووضع للفظة المفردة شروطا هى خلوصها من: - تنافر الحروف: والتنافر منه ما تكون الكلمة بسببه متناهية فى الثقل على اللسان كما روى أنّ أعرابيا سئل عن ناقته فقال: «تركتها ترعى الهعخع». ومنه ما دون ذلك كلفظة «مستشزر» فى قول امرئ القيس: غدائرها مستشزرات إلى العلى … تضلّ العقاص فى مثنّى ومرسل ولم يشرح القزوينى هذا التنافر ولم يذكر علته، وكان ابن سنان قد علله بقوله: «وعلة هذا واضحة وهى أنّ الحروف التى هى أصوات تجرى من السمع مجرى الألوان من البصر ولا شكّ فى أن الألوان المتباينة إذا جمعت ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز، ص 35.

كانت فى المنظر أحسن من الألوان المتقاربة وبهذا كان البياض مع السواد أحسن منه مع الصفرة لقرب ما بينه وبين الأصفر وبعد ما بينه وبين الأسود. وإذا كان هذا موجودا على هذه الصفة لا يحسن النزاع فيه كانت العلة فى حسن اللفظة المؤلفة من الحروف المتباعدة هى العلة فى حسن النقوش إذا مزجت من الألوان المتباعدة» (¬1). لقد جمعت لفظة «الهعخع» القبح من أطرافه، لأنّ جميع حروفها حلقية، وحرف حلقى واحد يبعث على الثقل فكيف إذا اجتمع الهاء والعين والخاء فى كلمة واحدة؟ ولفظة «مستشزرات» - وإن كانت أخف منها- ثقيلة لتوسط الشين التى هى من الحروف المهموسة الرخوة بين التاء التى هى من المهموسة الشديدة والزاى التى هى من المجهورة الرخوة. ويرى النقاد أنّ امرأ القيس لو قال: «مستشرف» لزال الثقل. - الغرابة: وهى أن تكون الكلمة وحشية لا يظهر معناها فيحتاج فى معرفته إلى البحث فى كتب اللغة، كما روى عن عيسى بن عمر النحوى أنّه سقط عن حماره فاجتمع عليه الناس فقال: «ما لكم تكأكأتم علىّ تكأكؤكم على ذى جنّة، افرنقعوا عنى». أو يخرج له وجه بعيد كما فى قول العجاج: وفاحما ومرسنا مسرّجا فانه لم يعرف ما أراد بقوله «مسرجا» حتى اختلف فى تخريجه، فقيل: هو من قولهم للسيوف «سريجية» منسوبة إلى قين يقال له سريج، يريد أنّه فى الاستواء والدقة كالسيف السريجى. وقيل: من السراج، يريد أنّه فى البريق كالسراج، وهذا يقرب من قولهم: «سرج وجهه» أى: حسن، و «سرّج الله وجهه» أى: بهّجه وحسّنه. ¬

_ (¬1) سر الفصاحة، 66.

وهذا بحث اهتم به النقاد والبلاغيون كابن سنان الذى عاب الذين يكثرون من الوحشى الغريب فى كلامهم وذكر ما وقع فيه بعضهم فخرج كلامه عن الفصاحة وبعد عن الفهم (¬1). وكابن الاثير الذى يرى أنّ الوحشى ليس المستقبح من الألفاظ وإنّما هو قسمان: غريب حسن، وغريب قبيح (¬2). - مخالفة القياس اللغوى، كقول الراجز: الحمد لله العلىّ الأجلل … الواهب الفضل الكريم المجزل فان القياس «الأجل» بالإدغام. ولم يوضح مخالفة القياس، وكان ابن سنان قد تكلم عليه ووضحه وأدخل فيه كل ما ينكره أهل اللغة ويرده علماء النحو من التصرف الفاسد فى الكلمة (¬3) ووضع القزوينى قاعدة للفظة الفصيحة فقال: «ثم علامة كون الكلمة فصيحة أن يكون استعمال العرب الموثوق بعربيتهم لها كثيرا أو أكثر من استعمالهم ما بمعناها» (¬4). وبعد أن انتهى من شروط اللفظة الفصيحة تحدّث عن فصاحة الكلام وهى: - خلوصه من ضعف التأليف، ومثل له بقوله: «ضرب غلامه زيدا» فان رجوع الضمير إلى المفعول المتأخر لفظا ممتنع عند الجمهور لئلا يلزم رجوعه إلى ما هو متأخر لفظا ورتبة، وقيل يجوز لقول الشاعر: جزى ربّه عنى عدىّ بن حاتم … جزاء الكلاب العاويات وقد فعل - التنافر: وهو أن تكون الألفاظ بسببه متناهية فى الثقل على اللسان متتابعة كما فى البيت الذى أنشده الجاحظ: وقبر حرب بمكان قفر … وليس قرب قبر حرب قبر ¬

_ (¬1) سر الفصاحة 75. (¬2) المثل السائر ج 1 ص 57، 155، 163. (¬3) سر الفصاحة، 82 - 91. (¬4) الإيضاح 4.

ومنه ما دون ذلك كقول أبى تمام: كريم متى أمدحه أمدحه والورى … معى وإذا ما لمته لمته وحدى وسبب التنافر فى «أمدحه» ما بين الحاء والهاء من تنافر لأنهمّا حلقيان، وتكرار الكلمة، فى الشرط والجزاء. - التعقيد: وهو أن لا يكون ظاهر الدلالة على المراد به وله سببان: الأول: ما يرجع إلى اللفظ وهو أن يختل الكلام ولا يدرى السامع كيف يتوصل منه إلى معناه كقول الفرزدق: وما مثله فى الناس إلّا مملكا … أبو أمه حىّ أبوه يقاربه ووضع القزوينى قاعدة للكلام الخالى من التعقيد اللفظى وقال إنّه: «ما سلم نظمه من الخلل فلم يكن فيه ما يخالف الأصل من تقديم أو تأخير أو إضمار أو غير ذلك إلّا وقد قامت عليه قرينة ظاهرة لفظية أو معنوية (¬1). وهذا ما تكلم عليه عبد القاهر وسماه «التعقيد» أو «فساد النظم» (¬2) وأدخله ابن سنان فى بحث التقديم والتأخير (¬3)، وعدّه ابن الأثير من المعاظلة المعنوية التى يسببها التقديم والتأخير» (¬4). الثانى: ما يرجع إلى المعنى وهو أن لا يكون فى انتقال الذهن من المعنى الأول إلى المعنى الثانى الذى هو لازمه والمراد به ظاهرا كقول العباس بن الأحنف: سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا … وتسكب عيناى الدموع لتجمدا ¬

_ (¬1) الإيضاح، ص 6. (¬2) أسرار البلاغة، ص 162. (¬3) سر الفصاحة، ص 125. (¬4) المثل السائر، ج 1 ص 294، ج 2 ص 44 وما بعدها.

كنّى بسكب الدموع عما يوجبه الفراق من الحزن، وأصاب؛ لأنّ من شأن البكاء أن يكون كناية عنه كقولهم: «أبكانى وأضحكنى» أى: أساءنى وسرنى، كما قال الحماسى: أبكانى الدهر ويا ربّما … أضحكنى الدهر بما يرضى ثم طرد ذلك فى نقيضه فأراد أن يكنّى عما يوجبه دوام التلاقى من السرور بالجمود لظنه أنّ الجمود خلوّ العين من البكاء مطلقا من غير اعتبار شئ آخر، وأخطأ لأنّ الجمود خلوّ العين من البكاء فى حال إرادة البكاء منها فلا يكون كناية عن المسرة وإنّما يكون كناية عن البخل كما قال الشاعر: ألا إنّ عينا لم تجد يوم واسط … عليك بجارى دمعها لجمود وضبط القزوينى الكلام الخالى من التعقيد وقال عنه: «ما كان الانتقال من معناه الأول إلى معناه الثانى الذى هو المراد به ظاهرا حتى يخيل إلى السامع أنّه فهمه من حاقّ اللفظ» (¬1). وأضاف إلى ذلك خلوص الكلام من كثرة التكرار، كقول المتنبى: وتسعدنى فى غمرة بعد غمرة … سبوح لها منها عليها شواهد وخلوّه من تتابع الإضافات، كقول ابن بابك: حمامة جرعا حومة الجندل اسجعى … فأنت بمرأى من سعاد ومسمع وكان الصاحب بن عباد قد أشار إليه بقوله: «إياك والاضافات المتداخلة فانها لا تحسن». ويرى القزوينى أنّ هذا الشرط لا يؤخذ به دائما، لأنّ ذلك إن أفضى باللفظ إلى الثقل على اللسان فقد حصل الاحتراز عنه وإلّا فلا تخلّ بالفصاحة، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: «الكريم بن الكريم ¬

_ (¬1) الإيضاح، ص 6.

ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم». وهذا رأى عبد القاهر الذى قال: «لكنه إذا سلم من الاستكراه ملح ولطف». ومما حسن فيه قول ابن المعتز: وظلّت تدير الراح أيدى جآذر … عتاق دنانير الوجوه ملاح ومما جاء فيه حسنا جميلا قول الخالدى يصف غلاما له: ويعرف الشعر مثل معرفتى … وهو على أن يزيد مجتهد وصيرفىّ القريض وزّان دينا … ر المعانى الدقاق منتقد (¬1) ومما يتصل بالألفاظ المركبة: الفنون التى سماها البلاغيون «المحسنات اللفظية» وهى عظيمة الأهمية فى دراسة الألفاظ، وينبغى أن توضع فى بحث الفصاحة لأنّ لها تأثيرا فى الكلام. وإذا تابع القزوينى صاحب «مفتاح العلوم» فتحدث عنها فى البديع فان دراستها هنا أجدى وأكثر نفعا. وقد سبق إلى ذلك علماء البلاغة كابن الأثير الذى قسم الصناعة اللفظية قسمين: الأول: فى اللفظة المفردة. الثانى: فى الألفاظ المركبة، وهى السجع، والتصريع، والتجنيس، والترصيع، ولزوم ما لا يلزم، والموازنة، واختلاف صيغ الألفاظ، وتكرار الحروف. هذه دراسة البلاغيين للفصاحة، أما النقاد فقد تحدثوا عن دقة الألفاظ وإيحائها وسهولتها وجزالتها وألفتها وغرابتها وغير ذلك مما نجده فى كتب البلاغة والنقد، وهو حديث فيه طرافة وجدّة يتم ما ذكره البلاغيون عن الفصاحة وأوصافها. ¬

_ (¬1) الإيضاح ص 8، ودلائل الإعجاز ص 82.

واهتم المعاصرون بالبحث فى الألفاظ الموحية والقوية والمؤنسة والعذبة، وتحدثوا عن تآلفها وتعبيرها عن الانفعال والفكرة وإحداثها الصور البديعة، وعنوا بها؛ لأنّ اختيار الكلمة المؤثرة هى أول خطوة للبناء الفنى. وكنا قد دعونا- كما دعا أمين الخولى- إلى الاقتصار على مصطلح «البلاغة» للدلالة على الفصاحة والبلاغة. ومما قلناه قبل أعوام: «ونرى- كما يرى الأستاذ أمين الخولى- أنّه لا حاجة إلى استعمال مصطلحين هما «الفصاحة» و «البلاغة» بل ينبغى التسوية بينهما كما رأينا عند الجاحظ وعبد القاهر تقليلا للأقسام، فنقول «بلاغة الكلمة» و «بلاغة الكلام» كما نستطيع أن نقول «بلاغة الألفاظ» و «بلاغة المعانى» أى جودة ذلك. وحينئذ نقول: إنّ من شروط البلاغة أن تكون الألفاظ كذا وكذا، ولا يعتبر الكلام بليغا ما لم تكن ألفاظه حسنة كمعانيه، وبذلك لا يكون مجال لقولهم إنّ فصاحة الألفاظ غير مستلزمة لبلاغتها وإن صرح السكاكى بأنّ البلاغة والفصاحة مما يكسو الكلام حلة التزيين ويرقيه أعلى درجات التحسين» (¬1). ولكن الأيام تغير كثيرا من الأحكام، فقد اتضح لنا أنّ استعمال مصطلح «الفصاحة للدلالة على الدراسة المتصلة بالألفاظ أكثر دقة وشمولا وجمعا لما تفرق من هذه المباحث فى كتب البلاغة والنقد. ولا يضير الدراسات الحديثة التمسك بالمصطلحات القديمة ذات الدلالة الواسعة والواضحة معا. والفصاحة إحدى تلك المصطلحات التى يمكن أن تجمع فى إطارها جميع البحوث الصوتية واللفظية، وهى دراسات واسعة ومجدية فى دراسة الأدب ونقده. ¬

_ (¬1) البلاغة عند السكاكى ص 303. وتنظر مادة (بلاغة) فى دائرة المعارف الإسلامية (الترجمة العربية ج ص)، ومناهج تجديد ص، وفن القول ص.

الفصل الثانى البلاغة

الفصل الثانى البلاغة كلمة «البلاغة» من الكلمات التى شاع استعمالها فى كتب الأدب، وكانت هى والفصاحة صنوين تستعملان معا أو تستعمل الواحدة فى موضع الأخرى. فى اللغة: والبلاغة- فى اللغة- الانتهاء والوصول، وفى لسان العرب: «بلغ الشئ يبلغ بلوغا وبلاغا: وصل وانتهى. تبلغ بالشئ: وصل إلى مراده. البلاغ: ما يتبلغ به ويتوصل إلى الشئ المطلوب. البلاغ: ما بلغك، والكفاية. الإبلاغ: الإيصال. بلغت المكان بلوغا: وصلت إليه، وكذا إذا شارفت عليه». وأشار ابن منظور إلى المعنى الاصطلاحى فقال: «البلاغة: الفصاحة. والبلغ والبلغ: البليغ من الرجال. ورجل بليغ وبلغ وبلغ: حسن الكلام فصيحه يبلغ بعبارة لسانه كنه ما فى قلبه، والجمع بلغاء. وقد بلغ بلاغة: صار بليغا». وليس فى هذا القول غير المعنى العام للكلمة، فهى- أولا- الانتهاء والوصول إلى الغاية، وهى، ثانيا- الفصاحة، أى أنّ الكلمتين مترادفتان. وهذا رأى معظم اللغويين والبلاغيين الأوائل. فى القرآن: ولو تلمسنا هذه اللفظة فى التراث العربى لرأيناها شائعة معروفة، وقد جاءت لفظة «بليغ» فى قوله تعالى: «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ

فى الحديث

لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً» (¬1). يقول الراغب الأصفهانى فى تفسيرها: «البلاغة تقال على وجهين: أحدهما: أن يكون بذاته بليغا، وذلك بأن يجمع ثلاثة أوصاف: صوابا فى موضوع لغته، وطبقا للمعنى المقصود، وصدقا فى نفسه. ومتى اخترم وصف من ذلك كان ناقصا فى البلاغة. والثانى: أن يكون بليغا باعتبار القائل والمقول له، وهو أن يقصد القائل أمرا فيرده على وجه حقيق أن يقبله المقول له. وقوله تعالى: «وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً» يصح حمله على المعنيين» (¬2). وذهب الزمخشرى مذهبا نفسيا فى تفسيرها، وأشار إلى تأثيرها رمزا فى قوله: «قل لهم قولا بليغا مؤثرا فى قلوبهم يغتمون به اغتماما ويستشعرون منه الخوف استشعائرا» (¬3). فى الحديث: وليس فى أحاديث النبى- صلى الله عليه وسلم- ما يشير إلى هذا المعنى مع كثرة ما جاء من مشتقاتها فى كلامه (¬4). فقد ورد عنه قوله: «إنّ الله يبغض البليغ الذى يتخلل بلسانه». وجاء عنه أنه عاب فيه المتشادقين والثرثارين والذى يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها (¬5). فى التراث: ولا نكاد نعثر على بغيتنا فى فترة صدر الإسلام، وحينما جاء العصر الأموى نجد معاوية بن أبى سفيان يسأل صحارا بن عياش: «ما هذه البلاغة ¬

_ (¬1) النساء 63. (¬2) المفردات فى غريب القرآن ص 60. (¬3) الكشاف ج 1 ص 407. (¬4) النهاية فى غريب الحديث والأثر ج 1 ص 152. (¬5) البيان والتبيين ج 1 ص 271.

التى فيكم؟» قال: «شئ تجيش به صدورنا فتقذفه على ألسنتنا». وقال له معاوية: «ما تعدّون البلاغة فيكم؟» قال «الايجاز». قال له معاوية: «وما الإيجاز؟» قال صحار: «أن تجيب فلا تبطئ، وتقول فلا تخطئ» (¬1). وفى كتاب «البيان والتبيين» تعريفات كثيرة للبلاغة عند العرب وغيرهم، فقد قيل للفارسى: ما البلاغة؟ قال: معرفة الفصل من الوصل. وقيل لليونانى: ما البلاغة؟ قال: حسن الاقتضاب عند البداهة، والغزارة يوم الإطالة. وقيل للهندى: ما البلاغة؟ قال: وضوح الدلالة وانتهاز الفرصة وحسن الإشارة. وقال بعض أهل الهند: «جماع البلاغة: البصر بالحجة، والمعرفة بمواضع الفرصة» (¬2). وفسرها عمرو بن عبيد (- هـ) فى أول الأمر تفسيرا دينيا حين قيل له: ما البلاغة؟ فقال: ما بلغ بك الجنة، وعدل بك عن النار، وما بصرك مواقع رشدك وعواقب غيك. قال السائل: ليس هذا أريد. قال: من لم يحسن أن يسكت لم يحسن أن يستمع ومن لم يحسن الاستماع لم يحسن القول. قال: ليس هذا أريد. قال: قال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «إنّا معشر الأنبياء بكاء» أى: قليلو الكلام، ومنه قيل: «رجل بكئ». وكانوا يكرهون أن يزيد منطق الرجل على عقله. قال: قال السائل: ليس هذا أريد. قال: كانوا يخافون من فتنة القول ومن سقطات الكلام ما لا يخافون من فتنة السكوت ومن سقطات الصمت. قال السائل: ليس هذا أريد. قال عمرو: فكأنك تريد تخير اللفظ فى حسن الإفهام؟ قال: نعم. قال: إنّك إذا أوتيت تقرير حجة الله فى عقول المكلفين وتخفيف المؤونة على المستمعين وتزيين تلك المعانى فى قلوب المريدين بالألفاظ المستحسنة، فى الآذان، المقبولة عند الأذهان رغبة فى سرعة استجابتهم ¬

_ (¬1) البيان ج 1 ص 96. (¬2) البيان ج 1 ص 88.

الجاحظ

ونفى الشواغل عن قلوبهم بالموعظة الحسنة على الكتاب والسنة، كنت قد أوتيت فصل الخطاب واستحققت على الله جزيل الثواب (¬1). وقال الأصمعى (- هـ) عن البليغ إنّه: «من طبّق المفصل وأغناك عن المفسّر» (¬2). وقال العتابى (- هـ) إنّ كل من أفهمك حاجته من غير إعادة ولا حبسة ولا استعانة فهو بليغ، فان أردت اللسان الذى يروق الألسنة ويفوق كل خطيب فاظهار ما غمض من الحق وتصوير الباطل فى صورة الحق» (¬3). الجاحظ: ولم يعرفها الجاحظ (- هـ) بعد أن ذكر كثيرا من تعريفاتها، واكتفى بأن اختار قولا أعجبه. يقول: «وقال بعضهم- وهو من أحسن ما اجتبيناه ودوّناه- لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه، ولفظه معناه، فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك (¬4)» وليس فى هذا التعريف ما يشير إلى المعنى الاصطلاحى الذى حدّده البلاغيون، والجاحظ فى كل ما ذكر لا يضع بين الفصاحة والبلاغة حدا فاصلا، فكثيرا ما تأتيان مترادفتين وهما عنده البيان بمعناه الواسع قبل أن يقيده المتأخرون. المبرد: وللمبرد (- هـ) رسالة صغيرة سماها «البلاغة» أجاب فيها عن رسالة أحمد بن الواثق الذى سأله: «أى البلاغتين أبلغ؟ أبلاغة الشعر أم بلاغة الخطب والكلام المنثور والسجع؟ وأيتهما عندك- أعزك الله- أبلغ؟» ¬

_ (¬1) البيان ج 1 ص 114، وينظر عيون الأخبار ج 2 ص 170. (¬2) البيان ج 1 ص 106. (¬3) البيان ج 1 ص 113. (¬4) البيان 1 ص 115.

العسكرى

وأجابه المبرد: «إنّ حق البلاغة إحاطة القول بالمعنى واختيار الكلام وحسن النظم حتى تكون الكلمة مقاربة أختها ومعاضدة شكلها، وأن يقرب بها البعيد، ويحذف منها الفضول» (¬1). ومصطلح «البلاغة» فى هذه الرسالة لا يعنى العلم المعروف، وإنّما هو تحديد لبعض معانيها. وإذا لم نجد فيها ما نطمح إليه فاننا نستطيع القول إنّ المبرد أول من أطلق «البلاغة» على بعض رسائله. العسكرى: ويظهر مصطلح البلاغة بوضوح فى «كتاب الصناعتين» لأبى هلال العسكرى (- هـ) الذى قال: «إن أحق العلوم بالتعلم وأولاها بالتحفظ بعد المعرفة بالله- جل ثناؤه- علم البلاغة ومعرفة الفصاحة (¬2)». وقال: «البلاغة من قولهم: بلغت المكان، إذا انتهيت إليها وبلغتها غيرى، ومبلغ الشئ منتهاه. والمبالغة فى الشئ: الانتهاء إلى غايته، فسميت البلاغة بلاغة، لأنها تنهى المعنى إلى قلب السامع فيفهمه، وسميت البلغة بلغة لأنك تتبلغ بها فتنتهى بك إلى ما فوقها وهى البلاغ أيضا (¬3)» وأبدى رأيه فى تعريفها، وحدّدها بقوله: «البلاغة: كل ما تبلغ به قلب السامع فتمكنه فى نفسه كتمكنه فى نفسك، مع صورة مقبولة ومعرض حسن» (¬4). والبلاغة- عنده- من صفة الكلام لا من صفة المتكلم، ولذلك لا يجوز أن يسمّى الله بليغا، إذ لا يجوز أن يوصف بصفة موضوعها الكلام. وتسمية المتكلم بأنّه بليغ توسع، وحقيقته أنّ كلامه بليغ كما نقول: «رجل محكم» ونعنى أنّ أفعاله محكمة. قال تعالى: «حِكْمَةٌ بالِغَةٌ» (¬5) فجعل البلاغة من ¬

_ (¬1) البلاغة ص 59. (¬2) كتاب الصناعتين ص 6. (¬3) كتاب الصناعتين ص 6. (¬4) كتاب الصناعتين ص 10. (¬5) القمر 5.

ابن سنان

صفة الحكمة ولم يجعلها من صفة الحكيم، إلّا أنّ كثرة الاستعمال جعلت تسمية المتكلم بأنّه بليغ كالحقيقة. وفى كتاب الصناعتين رأيان: الأول: أنّ الفصاحة والبلاغة ترجعان إلى معنى واحد وإن اختلف أصلاهما، لأنّ كل واحد منهما إنّما هو الإبانة عن المعنى والإظهار له. والثانى: أنّ الفصاحة والبلاغة مختلفتان، ذلك أنّ الفصاحة تمام آلة البيان فهى مقصورة على اللفظ، لأنّ الآلة تتعلق باللفظ دون المعنى، والبلاغة إنّما هى إنهاء المعنى إلى القلب فكأنها مقصورة على المعنى (¬1). ابن سنان: وحاول ابن سنان الخفاجى (- هـ) أن يحدد البلاغة ويرسم معالمها غير أنّه لم يأت بالكلمة الفاصلة والتعريف الجامع المانع. ولم يك وحده الذى فعل ذلك فقد مرت بالبلاغة تعريفات كثيرة نقلها الجاحظ فى «البيان والتبيين» وأبو هلال فى «كتاب الصناعتين»، ولذلك أشار إلى اضطراب القوم فى حدها والوقوف على كنهها، وقال: «وقد حدّ الناس البلاغة بحدود إذا حققت كانت كالرسوم والعلائم وليست بالحدود الصحيحة فمن ذلك قول بعضهم «لمحة دالة» وهذا وصف من صفاتها فأما أن يكون حاصرا لها وحدا يحيط بها فليس ذلك بممكن لدخول الإشارة من غير كلام يتلفظ به تحت هذا الحد» (¬2). ولم يعرف البلاغة، وإنما فرق بينها وبين الفصاحة وقال: «والفرق بين الفصاحة والبلاغة، أنّ الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ، والبلاغة لا تكون إلّا وصفا للألفاظ مع المعانى. لا يقال فى كلمة واحدة لا تدل على ¬

_ (¬1) كتاب الصناعتين ص 7. (¬2) سر الفصاحة ص 60.

عبد القاهر

معنى يفضل عن مثلها بليغة وإن قيل فيها فصيحة، وكل كلام بليغ فصيح، وليس كل فصيح بليغا» (¬1). لقد وضع ابن سنان حدّا فاصلا بين المصطلحين، وحصر الفصاحة فى الألفاظ، والبلاغة فى المعانى والألفاظ، وأصبحت الفصاحة شطر البلاغة وأحد جزأيها. وهذه التفاتة حسنة، ولكنه أطلق «الفصاحة» على موضوعات البلاغة وسمى كتابه «سر الفصاحة» ومعنى ذلك أنّها تشمل الألفاظ والمعانى وقد أوضح ذلك بقوله: «وفى البلاغة أقوال كثيرة غير خارجة عن هذا النحو، وإذا كانت الفصاحة شطرها وأحد جزأيها فكلامى على المقصود- وهو الفصاحة- غير متميز إلّا فى الموضع الذى يجب بيانه من الفرق بينهما على ما قدمت ذكره، فأما ما سوى ذلك فعام لا يختص، وخليط لا ينقسم» (¬2) وابن سنان حينما ينتقل إلى تأليف الكلام يظل مرتبطا بالحديث عن الألفاظ، لأنّ البلاغة أن توضع الألفاظ موضعها حقيقة أو مجازا، تقديما أو تأخيرا، قلبا أو حشوا، وغير ذلك مما فصّل القول فيه. عبد القاهر: ولم يفرّق عبد القاهر (- هـ) أو (هـ) بين المصطلحين، لأنّهما يعبر بهما عن «فضل بعض القائلين على بعض من حيث نطقوا وتكلموا وأخبروا السامعين عن الأغراض والمقاصد، وراموا أن يعلموهم ما فى نفوسهم، ويكشفوا لهم عن ضمائر قلوبهم» (¬3). والفصاحة والبلاغة والبراعة والبيان تأتى مترادفة عنده، ومعنى ذلك أنّ الحدود بينها لم تتضح، وأنّ هذه المصطلحات لم تستعمل وتأخذ معناها الدقيق. ¬

_ (¬1) سر الفصاحة ص 60. (¬2) سر الفصاحة ص 61. (¬3) دلائل الإعجاز ص 35.

الرازى

الرازى: ولم تأخذ لفظة «البلاغة» دلالتها المعروفة عند فخر الدين الرازى (هـ) وهى عنده: «بلوغ الرجل بعبارته كنه ما فى قلبه مع الاحتراز عن الاختصار المخل والاطالة المملة» (¬1) ولكنه ربط الفصاحة والبلاغة بالمعنى، ونحا منحى عبد القاهر فى فهمها. ابن الأثير: وقال ابن الأثير (- هـ) إنّ الكلام يسمى بليغا لأنه بلغ الأوصاف اللفظية والمعنوية، والبلاغة شاملة للألفاظ والمعانى وهى أخص من الفصاحة كالإنسان من الحيوان، وليس كل حيوان إنسانا، وكذلك يقال: «كل كلام بليغ فصيح، وليس كل فصيح بليغا». وفرّق بينهما وبين الفصاحة من وجه آخر غير الخاص والعام، وهى أنّها لا تكون إلّا فى اللفظ والمعنى بشرط التركيب، فانّ اللفظة المفردة لا تنعت بالبلاغة وتنعت بالفصاحة إذ يوجد فيها الوصف المختص بالفصاحة وهو الحسن، وأما وصف البلاغة فلا يوجد فيها لخلوها من المعنى المفيد الذى ينتظم كلاما (¬2) السكاكى: وحينما قسم السكاكى (- هـ) البلاغة ووضع معالمها فى كتابه «مفتاح العلوم» عرّفها تعريفا دقيقا وقال: «هى بلوغ المتكلم فى تأدية المعانى حدا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها، وإيراد التشبيه والمجاز والكناية على وجهها» (¬3). وبهذا التعريف أدخل مباحث علم المعانى وعلم البيان، وأخرج مباحث البديع، لأنّه وجوه يؤتى بها لتحسين الكلام وهى ليست من مرجعى البلاغة ¬

_ (¬1) نهاية الإيجاز ص 9. (¬2) المثل السائر ج 1 ص 69. (¬3) مفتاح العلوم ص 196.

القزوينى

وللبلاغة طرفان: أعلى وأسفل متباينان تباينا لا يتراءى لأحد ناراهما وبينهما مراتب متفاوتة تكاد تفوت الحصر، فمن الأسفل تبتدئ البلاغة، وهو القدر الذى إذا نقص منه شئ التحق ذلك الكلام بأصوات الحيوانات ثم تأخذ فى التزايد متصاعدة إلى أن تبلغ حد الإعجاز، وهو الطرف الأعلى وما يقرب منه. ولم يعرّف الفصاحة واكتفى بتقسيمها إلى قسمين: قسم راجع إلى المعنى، وقسم راجع إلى اللفظ، ولم يجعلها لازمة للبلاغة التى حصر مرجعيها فى المعانى والبيان. وقد أشار القزوينى إلى ذلك بقوله: «وجعل الفصاحة غير لازمة للبلاغة، وحصر مرجع البلاغة فى الفنين، ولم يجعل الفصاحة مرجعا لشئ منهما» (¬1). وقال التفتازانى: «لم يجعل البلاغة مستلزمة للفصاحة، وحصر مرجعها فى المعانى والبيان دون اللغة والصرف والنحو» (¬2)، ورأى أنّ مرجعها إلى هذه العلوم جميعا لا إلى مجرد المعانى والبيان. ولكن السكاكى- مع ذلك كله- رأى أنّ البلاغة بمرجعيها والفصاحة بنوعيها «مما يكسو الكلام حلة التزيين ويرقيه أعلى درجات التحسين» (¬3) ولذلك نراه حينما حلل بعض الآيات القرآنية اتخذ من مرجعى البلاغة ومن الفصاحة مقياسا لإظهار ما فيها من صور بيانية ومن روعة وتأثير فى النفوس. القزوينى: وكان الخطيب القزوينى (- هـ) آخر من وقف عند البلاغة من المتأخرين وميز بين بلاغة الكلام وبلاغة المتكلم فقال عن الأولى: «وأما بلاغة الكلام فهى مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته» ومقتضى الحال مختلف ومقامات الكلام متفاوتة، فمقام التنكير يباين مقام التعريف، ومقام الإطلاق يباين مقام التقييد، ومقام التقديم يباين مقام التأخير، ومقام الذكر ¬

_ (¬1) الإيضاح ص 249. (¬2) المطول ص 3. (¬3) مفتاح العلوم ص 200.

رأى

يباين مقام الحذف، ومقام القصر يباين مقام خلافه، ومقام الفصل يباين مقام الوصل، ومقام الإيجاز يباين مقام الإطناب والمساواة، وكذا خطاب الذكى يباين خطاب الغبى، وكذا لكل كلمة مع صاحبتها مقام. وتطبيق الكلام على مقتضى الحال هو الذى يسميه عبد القاهر النظم. (¬1) وقال عن الثانية: «وأما بلاغة المتكلم فهى ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ» (¬2). وقرر أنّ كل بليغ- كلاما كان أم متكلما- فصيح، وليس كل فصيح بليغا، وأنّ البلاغة فى الكلام مرجعها إلى الاحتراز عن الخطأ فى تأدية المعنى المراد، وإلى تمييز الكلام الفصيح من غيره. وقسّم البلاغة إلى ثلاثة أقسام، فكان ما يحترز به عن الخطأ علم المعانى، وما يحترز به عن التعقيد المعنوى علم البيان، وما يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال وفصاحته علم البديع. فالبلاغة- عنده- ثلاثة: - علم المعانى. - علم البيان. - علم البديع. ولم يخرج البلاغيون المتأخرون عن هذا التعريف والتقسيم، وأصبح مصطلح البلاغة يضم هذه العلوم الثلاثة. رأى: وحينما أطل فجر النهضة الحديثة حاول العرب التجديد فى الدراسات الأدبية، وكان للبلاغة نصيب منه. ومن أشهر الذين عنوا بذلك المرحوم أمين الخولى الذى أطلق على البلاغة «فن القول»، وسماه غيره «فن الكتابة» أو «فن التأليف الأدبى» أو «فن الإنشاء» أو «علم الأساليب» أو «فن ¬

_ (¬1) الإيضاح ص 9، والتلخيص ص 33. (¬2) الإيضاح ص 11.

الأنواع الأدبية» وحجتهم أنّ مصطلح «البلاغة» قد رثّ من كثرة ما تداولته الأجيال وأصبح مقترنا بألوان الأدب القاتمة التى خلّفتها العهود المظلمة. ولو عدنا إلى المصطلحات الجديدة التى حاول الدارسون أن يربطوا البلاغة يها ويقضوا على المصطلح القديم لرأيناهم غير موفقين، لأنّ مصطلحاتهم لا تحمل المعانى الكثيرة التى تحملها لفظة «البلاغة» القديمة، فلا «فن القول» ولا «علم الأساليب» ولا «فن الانشاء» تغنى عن هذا المصطلح أو تضم مباحثه وأقسامه كلها، لأنّ لكل مصطلح منها دلالته فى لغته التى استعمل فيها، وأنّ بعضها فقد محتواه بعد ترجمته وأصبح يضيق بالبلاغة العربية ذات الإرث العريق. وقد آثر بعضهم مصطلح «البلاغة» على هذه المصطلحات، وقال الأستاذ عدنان بن ذريل: «لقد وسعت مجالات البحث البلاغى الحديث إلى حدود أرحب أفقا، وسعت من حدود اللفظة والجملة إلى المجالات الرحبة التى للنوع الأدبى الواحد والأساليب المتنوعة فى القول، وصارت تشمل ما يكفل تبين إبداع الأديب أو جمال أدبه. ولنلاحظ أخيرا أنّ البلاغة كمصطلح فنى أدبى حديث تشمل الأسلوب وعلمه، إلا أنّها إلى جانب ذلك تتضمن الطاقة الأدبية أو الملكة أو المقدرة على التعبير عند الأديب، كما أنها تقصدها، وبذلك هى تتميز عن مصطلح أسلوب أو علم أسلوب. وبالفعل إذا نحن قارنا بين مصطلحى «بلاغة» و «علم الأسلوب» وجدنا أنّ مصطلح «بلاغة» يضعنا أمام ملكة التعبير الأدبى ثم التعبير الأدبى، كما يضعنا أمام أصول الأدب وجماله، بينما مصطلح «علم الأسلوب» أو «علم الأساليب» لا يتعدى إيحاؤه دراسة التعبير الأدبى وأساليبه، ومصطلح «أسلوب» مصطلح حديث يقصد طريقة فى التعبير خاصة بالأديب. يضاف إلى ذلك أنّ مصطلح «بلاغة» يشمل أيضا بحث الذوق الذى ظل الأقدمون ينوهون به، وهو أساسى أيضا فى بحث المحدثين، الأمر الذى يقربنا من المجالات المختلفة التى

للدراسة الأدبية وللتعبير الأدبى ومطابقته مقتضيات أحوال المخاطبين والجمهور» (¬1). وهذا ما آمنا به بعد دراسة طويلة للبلاغة ومصطلحاتها، وبذلك يبقى هذا المصطلح محتفظا بمعناه البلاغى القديم ومحتواه الأدبى الجديد، جامعا كثيرا من المباحث التى لا يمكن أن تضمها المصطلحات الجديدة كالفصاحة أو دراسة الألفاظ وعلم المعانى وعلم البيان وعلم البديع، وهى من أقدم الفنون التى عنى بها البلاغيون وأولوها أهمية عظيمة، وكانت دراساتهم المفصلة ونظراتهم العميقة دليلا على تلك العناية. أما التعبير الأدبى والملكة على إنشائه أو نقده فقد عبر عنها القزوينى تعبيرا دقيقا حينما قال: «وأما بلاغة الكلام فهى مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته» ... «وأما بلاغة المتكلم فهى ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ»، وفى هاتين العبارتين إشارة إلى الملكة الأدبية والتعبير الأدبى. ويضاف إلى ذلك أنّ مصطلح أسلوب لا يشمل البلاغة كلها بل يخص بعضها أو يكون أشد ارتباطا بقسم من موضوعاتها وهى «علم المعانى» ولذلك سمينا هذا الكتاب «أساليب بلاغية» وسمينا ما يبحث فى علمى البيان والبديع «فنون بلاغية»، وهى تسمية ليست أخيرة ولكنها أقرب إلى روح البلاغة العربية التى تضم الأساليب والفنون وغيرها. وأما الذوق فقد كان من القضايا التى اهتم بها البلاغيون وأقاموا عليها أحكامهم، ولا يخلو كتاب بلاغى أو نقدى من الرجوع إليه أو التحدث عنه وعقد فصول ضافية عنه، ومن ذلك الفصل الرائع الذى ختم به عبد القاهر الجرجانى كتابه «دلائل الاعجاز» وقرر أنّ العمدة فى إدراك البلاغة هو الذوق والإحساس الروحانى، وأنه لا بد من تهذيبه بالوقوف على مواطن الجمال فى الأدب، ولن يفهم الأدب ويهتز له من عدم الذوق وفقد الإحساس والشعور مهما أوتى من علم بالبلاغة وقواعدها، ومهما كدّ ذهنه وأجهد عقله. يقول ¬

_ (¬1) مجلة الأديب البيروتية (السنة- أيلول) ص.

مصوّرا ذلك أحسن تصوير: «والبلاء والداء العياء أن هذا الإحساس قليل فى الناس حتى أنّه ليكون أن يقع للرجل من هذه الفروق والوجوه فى شعر يقوله أو رسالة يكتبها الموقع الحسن ثم لا يعلم أنه قد أحسن فأما الجهل بمكان الإساءة فلا تعدمه، فلست تملك إذن من أمرك شيئا حتى تظفر بمن له طبع إذا قدحته ورى، وقلب إذا أريته رأى، فأما وصاحبك من لا يرى ما تريه ولا يهتدى للذى تهديه فانت رام معه فى غير مرمى، معنّ نفسك فى غير جدوى. وكما لا تقيم الشعر فى نفس من لا ذوق له، كذلك لا تفهم هذا الشأن من لم يؤت الآلة التى بها يفهم. إلّا أنّه إنّما يكون البلاء إذا ظن العادم لها أنّه أوتيها وأنّه ممن يكمل للحكم ويصح منه القضاء فجعل يقول القول لو علم غيّه لاستحيا منه، فأما الذى يحس بالنقص من نفسه ويعلم أنّه قد علم علما أوتيه من سواه فأنت منه فى راحة وهو رجل عاقل قد حماه عقله أن يعدو طوره وأن يتكلف ما ليس بأهل له» (¬1). لقد ضمت كتب البلاغة البحث فى الفصاحة والمعانى والبيان والبديع والسرقات والذوق الأدبى والإحساس الروحانى والعاطفة، وليس هناك ما يمنع أن تدرس الكتب الحديثة هذه الفنون ويعنى بها كما فعل القدماء، ويظل مصطلح «البلاغة» جامعا لها كما كان، لأنّ أى مصطلح من المصطلحات الجديدة التى أسرف بعضهم فى إشاعتها والتعصب لها لا يجمعها ويوحد بينها، وبذلك نحتفظ بالمصطلح القديم وما ينضوى تحته من فنون قديمة وحديثة، وللباحثين الجدد الحرية الواسعة فى معالجتها ورسم المناهج التى تكفل فائدتها وتطورها، ما دامت الأصول ثابتة والأسس متينة راسخة. ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز ص 421.

الكتاب الثانى المعاني

المعانى الكتاب الثانى [المعاني]

الفصل الأول علم المعانى

الفصل الأول علم المعانى علم المعانى من المصطلحات التى أطلقها البلاغيون على مباحث بلاغية تتصل بالجملة وما يطرأ عليها من تقديم وتأخير، أو ذكر وحذف، أو تعريف وتنكير، أو قصر، أو فصل ووصل، أو إيجاز وإطناب. وليس فى كتب البلاغة الأولى إشارة إلى هذا العلم، ولا نعرف أحدا استعمله وسمّى به قسما من موضوعات البلاغة قبل السكاكى (- هـ). وكان الأوائل يستعملون مصطلح «المعانى» فى دراساتهم القرآنية والشعرية، فيقولون: «معانى القرآن» أو «معانى الشعر»، ويتخذون من ذلك أسماء لكتبهم، وليس فى هذه المصطلحات ما يتصل بالبلاغة أو أحد علومها. ولعل عبارة «معانى النحو» التى وردت فى المناظرة التى جرت بين الحسن بن عبد المرزبانى المعروف بأبى سعيد السيرافى (- هـ) وأبى بشر متّى بن يونس فى مجلس الوزير أبى الفتح بن جعفر بن الفرات كانت من أقدم الإشارات إلى هذا المصطلح بمعناه القريب من البلاغة. قال السيرافى: «معانى النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته، وبين وضع الحروف فى مواضعها المقتضية لها، وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير، وتوخى الصواب فى ذلك وتجنب الخطأ من ذلك، وإن زاغ شئ عن هذا النعت فانه لا يخلو من أن يكون سائغا بالاستعمال بالنادر والتأويل البعيد أو مردودا لخروجه عن عادة القوم الجارية على فطرتهم» (¬1). ¬

_ (¬1) الإمتاع والمؤانسة ج 1 ص 121، ومعجم الأدباء ج 3 ص 117.

نظرية النظم

وعقد أحمد بن فارس (- هـ) فى كتابه «الصاحبى» بابا سماه «معانى الكلام» (¬1) وهى عند أهل العلم عشرة: خبر واستخبار، وأمر ونهى، ودعاء وطلب، وعرض وتحضيض، وتمن وتعجب. وبذلك يكون ابن فارس أول من أطلق مصطلح «معانى الكلام» على مباحث الخبر والإنشاء التى أصبحت فيما بعد أهم فصول علم المعانى. نظرية النظم: وكان لنظرية النّظم أثر كبير فى ظهور هذا اللون من الدراسات، وللنحاة العرب يد طولى فى دراسة الكلام وتحليله والوقوف عند الجملة وما يطرأ عليها من تقديم وتأخير، أو ذكر وحذف. ولعل سيبويه (- هـ) كان من أقدم الذين وقفوا عند هذه الجوانب ودرسها بعمق فى فصول كتابه الشهير وأبوابه، ولكن سيبويه والنحاة لم يسموا هذه البحوث نظما وإنّما هى قواعد تسير عليها العرب فى كلامها أو إنشائها. ولا نستطيع أن ننسب إليهم بعد ذلك نظرية النظم التى حاول بعض المعاصرين أن يربطها بهؤلاء النحاة ربطا وثيقا ليجرد البلاغيين الأصالة والتجديد، مع إيماننا بأنّ الموضوعات التى بنيت عليها هذه الفكرة كانت نحوية محضة، وقد استفاد منها البلاغيون وطوروها وصوروها أحسن تصوير. وإذا أردنا أن نتلمس فكرة النظم فينبغى أن نتلمسها فى كتب أخرى بعد أن رأينا ارتباطها بكتب النحو. وأقدم إشارة عثرنا عليها فى الكتب العربية عبارة ابن المقفع (- هـ) التى أشار فيها إلى صياغة الكلام. قال: «فاذا خرج الناس من أن يكون لهم عمل وأن يقولوا قولا بديعا. فليعلم الواصفون المخبرون أنّ أحدهم وإن أحسن وأبلغ ليس زائدا على أن يكون كصاحب فصوص وجد ياقوتا وزبرجدا ومرجانا فنظمه قلائد وسموطا وأكاليل ووضع كل فص موضعه وجمع إلى كل لون شبهه مما يزيده بذلك حسنا فسمّى بذلك صائغا رقيقا، وكصاغة الذهب والفضة صنعوا فيها ما ¬

_ (¬1) الصاحبى، ص 279 وما بعدها.

يعجب الناس من الحلى والآنية، وكالنحل وجدت ثمرات أخرجها الله طيبة وسلكت سبلا جعلها الله ذللا فصار ذلك شفاء وطعاما وشرابا منسوبا إليها مذكورا به أمرها وصنعتها. فمن جرى على لسانه كلام يستحسنه أو يستحسن منه فلا يعجبن به إعجاب المخترع المبتدع، فانه إنما اجتباه كما وصفنا» (¬1) وأخذ البلاغيون هذا الكلام وأداروه فى كتاباتهم من غير أن يشيروا إلى ابن المقفع فقال الجاحظ (- هـ): «فانما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير» (¬2)، وتحدث عن النظم فى كتبه وسمّى أحدها «نظم القرآن»، قال: «كما عبت كتابى فى الاحتجاج لنظم القرآن وغريب تأليفه وبديع تركيبه» (¬3). وقال: «وفى كتابنا المنزل الذى يدلّ على أنّه صدق، نظمه البديع الذى لا يقدر على مثله العباد مع ما سوى ذلك من الدلائل التى جاء بها من جاء به» (¬4). والجاحظ فى هذين النصين وغيرهما يؤمن بأنّ القرآن الكريم معجز بنظمه وما فيه من بلاغة تأسر القلوب. وكان لمسألة إعجاز القرآن أثر فى بلورة فكرة النظم، وقد ذهب قوم من المتكلمين إلى أن وجه الاعجاز هو ما اشتمل عليه القرآن من النظم الغريب المخالف لنظم العرب ونثرهم فى مطالعه ومقاطعه وفواصله. وذهبت جماعة منهم إلى أن وجه الاعجاز فى مجموع الأمرين: النظم، وكونه فى أعلى درجات البلاغة. ولأبى عبد الله محمد بن يزيد الواسطى (- هـ) كتاب فى إعجاز القرآن سماه «إعجاز القرآن فى نظمه وتأليفه»، ولا نعرف عنه شيئا مع أنّ عبد القاهر الجرجانى شرحه مرتين، لأنّ الأصل وشرحيه لم تصل وإن كان العنوان يدل على أنّه عالج مسألة النظم وأقام عليها إعجاز كتاب الله. ¬

_ (¬1) الأدب الصغير- آثار ابن المقفع ص 319، ورسائل البلغاء ص 5 - 6. (¬2) الحيوان ج 3 ص 132. (¬3) الحيوان ج 1 ص 9. (¬4) الحيوان ج 4 ص 90.

وفى كتب الاعجاز التى وصلت حديث عن النظم، ولكنه لا يجلو الصورة ولا يوضح الهدف، وإنما هو ومضات فى الطريق سار عليها البلاغيون، فأبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابى (- هـ) يرى أنّ القرآن إنّما صار معجزا لأنّه جاء بأفصح الألفاظ فى أحسن نظوم التأليف مضمنا أصح المعانى، ويقول إنّ «عمود هذه البلاغة التى تجمع لها هذه الصفات هو وضع كل نوع من الألفاظ التى تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به، الذى إذا أبدل مكانه غيره جاء منه إمّا تبدل المعنى الذى يكون منه فساد الكلام، وإمّا ذهاب الرونق الذى يكون معه سقوط البلاغة» (¬1) ويرى أبو الحسن على بن عيسى الرمانى (- هـ) أنّ أعلى مرتبة فى حسن البيان ما جمع أسباب الحسن فى العبارة من تعديل النظم حتى يحسن فى السمع ويسهل على اللسان وتتقبله النفس تقبل البرد (¬2). ويرى أبو بكر محمد بن الطيب الباقلانى (- هـ) أنّ كتاب الله معجز بالنظم؛ لأنّه خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد فى كلام العرب، يقول: «فأما شأو نظم القرآن فليس له مثال يحتذى عليه ولا إمام يقتدى به، ولا يصح وقوع مثله اتفاقا كما يتفق للشاعر البيت النادر، والكلمة الشاردة، والمعنى الفذ الغريب، والشئ القليل العجيب» (¬3). ويقول: «ليس الاعجاز فى نفس الحروف وإنّما هو فى نظمها وإحكام رصفها، وكونها على وزن ما أتى به النبى- صلى الله عليه وسلم- وليس نظمها أكثر من وجودها متقدمة ومتأخرة ومترتبة فى الوجود، وليس لها نظم سواها» (¬4). ويقول عن القرآن: «وهو معجزة الرسول- عليه السلام- دال على نبوته من ثلاثة أوجه: أحدها ما فيه من عجيب النظم، وبديع الرصف، وأنّه لا قدرة لأحد من الخلق على تأليف مثله ولا تأليف سورة منه أو آية بقدر سورة ....» (¬5). ¬

_ (¬1) بيان إعجاز القرآن- ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن ص 26. (¬2) النكت فى إعجاز القرآن- ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن ص 98. (¬3) إعجاز القرآن ص 169. (¬4) كتاب التمهيد ص 151. (¬5) كتاب الانتصار لنقل القرآن ص 59.

وكان كلام القاضى عبد الجبار الأسد آبادى (- هـ) أكثر وضوحا حينما رأى أنّ الفصاحة والبلاغة تقومان على ضمّ الكلمات وتقارنها، قال: «اعلم أنّ الفصاحة لا تظهر فى أفراد الكلام بالضم على طريقة مخصوصة، ولا بد مع الضم من أن يكون لكل كلمة صفة، وقد يجوز فى هذه الصفة أن تكون بالمواضعة التى تتناول الضم، وقد تكون بالإعراب الذى له مدخل فيه، وقد تكون بالموقع. وليس لهذه الأقسام الثلاثة رابع؛ لأنّه إمّا أن تعتبر فيه الكلمة أو حركاتها أو موقعها، ولا بد من هذا الاعتبار فى كل كلمة، ثم لا بد من اعتبار مثله فى الكلمات إذا انضم بعضها إلى بعض، لأنّه قد يكون لها عند الانضمام صفة، وكذلك لكيفية إعرابها وحركاتها وموقعها فعلى هذا الوجه الذى ذكرناه إنّما تظهر مزية الفصاحة بهذه الوجوه دون عداها. فان قال: فقد قلتم إنّ فى جملة ما يدخل فى الفصاحة حسن المعنى، فهلّا اعتبر تموه؟ قيل له: إنّ المعانى وإن كان لا بدّ منها فلا تظهر فيها المزية، ولذلك تجد المعبرين عن المعنى الواحد يكون أحدهما أفصح من الآخر والمعنى متفق. على أنّا نعلم أنّ المعانى لا يقع فيها تزايد فاذن يجب أن يكون الذى يعتبر التزايد عنده الألفاظ التى يعبر بها عنها. فاذا صحّت هذه الجملة فالذى تظهر به المزية ليس إلا الإبدال- الاختيار- الذى به يختص الكلمات أو التقدم والتأخر الذى يختص الموقع أو الحركات التى تختص الإعراب، فبذلك تقع المباينة. ولا بدّ فى الكلامين اللذين أحدهما أفصح من الآخر أن يكون إنّما زاد عليه بكل ذلك أو ببعضه ولا يمتنع فى اللفظة الواحدة أن تكون إذا استعملت فى معنى تكون أفصح منها إذا استعملت فى غيره، وكذلك فيها إذا تغيرت حركاتها. وكذلك القول فى جملة من الكلام». ثم قال: «وهذا يبين أنّ المعتبر فى المزية ليس بنية اللفظة، وأنّ المعتبر فيه ما ذكرناه من الوجوه. فأما حسن النغم وعذوبة القول فمما يزيد الكلام حسنا على السمع لا إنّه يوجد فضلا فى الفصاحة» (¬1). ¬

_ (¬1) المغنى ج 16 ص 199 وما بعدها.

تطور النظرية

ذلك ما كانت عليه نظرية النظم قبل القرن الخامس للهجرة، وليس فى أقوال الجاحظ ومن جاء بعده فكرة واضحة عنها إلا ما كان من كلام القاضى عبد الجبار الذى ربط الفصاحة بالنظم وبنى عليها رأيه فى إعجاز القرآن. تطور النظرية: لقد وضحت هذه النظرية وبلغت مداها على يد عبد القاهر الجرجانى (- هـ أو هـ) الذى أطال الكلام عليها، وسمّى موضوعات التقديم والتأخير، والذكر والحذف، والقصر، والفصل والوصل، والتعريف والتنكير، معانى النحو أو النّظم. والنظم- عنده- تعليق الكلام بعضها ببعض وجعل بعضها بسبب من بعض (¬1)، أو هو توخى معانى النحو وقد حصر موضوعاته فى قوله: «واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذى يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التى نهجت فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التى رسمت لك فلا تخل بشئ منها وذلك أنّا لا نعلم شيئا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر فى وجوه كل باب وفروقه فينظر فى الخبر إلى الوجوه التى تراها فى قولك: «زيد منطلق» و «زيد ينطلق» و «ينطلق زيد» و «منطلق زيد» و «زيد المنطلق» و «المنطلق زيد» و «زيد هو المنطلق» و «زيد هو منطلق». وفى الشرط والجزاء إلى الوجوه التى تراها فى قولك: «إن تخرج أخرج» و «إن خرجت خرجت» و «إن تخرج فأنا خارج» و «أنا خارج إن خرجت» و «أنا إن خرجت خارج». وفى الحال إلى الوجوه التى تراها فى قولك: «جاءنى زيد مسرعا» و «جاءنى يسرع» و «جاءنى وهو مسرع» أو «هو يسرع» و «جاءنى قد أسرع» و «جاءنى وقد أسرع»، فيعرف لكل من ذلك موضعه ويجئ به حيث ينبغى له. ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز ص (ص).

وينظر فى الحروف التى تشترك فى معنى ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصية فى ذلك المعنى، فيضع كلّا من ذلك فى خاصّ معناه نحو أن يجئ ب «ما» فى نفى الحال، وب «لا» إذا أراد نفى الاستقبال، وب «إن» فيما يترجح بين أن يكون وأن لا يكون، وب «إذا» فيما علم أنّه كائن. وينظر فى الجمل التى ترد فيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل ثم يعرف فيما حقه الوصل موضع الواو من موضع الفاء، وموضع الفاء من موضع «ثم»، وموضع «أو» من موضع «أم»، وموضع «لكن» من موضع «بل». ويتصرف فى التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير فى الكلام كله، وفى الحذف والتكرار والإضمار والإظهار، فيضع كلا من ذلك مكانه ويستعمله على الصحة وعلى ما ينبغى له. هذا هو السبيل، فلست بواجد شيئا يرجع صوابه إن كان صوابا وخطؤه إن كان خطأ إلى النظم ويدخل تحت هذا الاسم، إلّا وهو معنى من معانى النحو قد أصيب به موضعه ووضع فى حقه أو عومل بخلاف هذه المعاملة فأزيل عن موضعه واستعمل فى غير ما ينبغى له. فلا ترى كلاما قد وصف بصحة نظم أو فساده أو وصف بمزية وفضل فيه إلّا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد وتلك المزية وذلك الفضل إلى معانى النحو وأحكامه، ووجدته يدخل فى أصل من أصوله ويتصل بباب من أبوابه» (¬1). فمعانى النحو أو النّظم تشمل: الخبر، وأركان الجملة وما يتعلق بالمسند والمسند إليه من شرط وحال، وتشمل الفصل والوصل ومعرفة مواضعهما ومعانى الواو والفاء وثم وبل ولكن، وتشمل التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير، والحذف والتكرار، والإضمار والإظهار. والفرق بين هذه الأساليب ليس فرقا فى الحركات وما يطرأ على الكلمات، وإنّما فى معانى العبارات التى يحدثها ذلك الوضع والنظم الدقيق، ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز ص 64 - 65.

ولذلك فليست العمدة فى معرفة قواعد النحو وحدها ولكن فيما تؤدى إليه هذه القواعد والأصول. وقد يكون أحدنا لا يعرف التسميات الدقيقة لموضوعات النحو، ولكنه يعرف الفروق بينها ويحس بمعانيها حينما يسمعها، شأنه فى ذلك شأن البدوى الذى عاش بعيدا عن المصطلحات وما تعنى به كتب النحو غير أنه كان يفهم ما يسمع ويميز بين أسلوب وآخر. وليست المزية باللغة ومعرفتها، لأنّ ذلك لا يؤدى إلى التفاوت بين الكلام، ولا من أجل العلم بأنفس الفروق والوجوه فنستند إلى اللغة، ولكن للعلم بمواضعها وما ينبغى أن يصنع فيها. وليست بسلامة الحروف، وإنّما بالنظم الذى يعطى الكلمات والإعراب معنى دقيقا. والنظم مراتب، فمنه ما لا نرى المزية فيه إلّا بعد قراءة القطعة الشعرية كقول البحترى: بلونا ضرائب من قد نرى … فما إن رأينا لفتح ضريبا هو المرء أبدت له الحادثا … ت عزما وشيكا ورأيا صليبا تنقّل فى خلقى سؤدد … سماحا مرجّى وبأسا مهيبا فكالسيف إن جئته صارخا … وكالبحر إن جئته مستثيبا ففى هذه الأبيات تلاحقت الصور وضم بعضها إلى بعض. ومنه ما يهجم الحسن دفعة واحدة حتى يعرف من البيت الواحد مكان الشاعر من الفضل وموضعه من الحذق، ويشهد له بالفضل حتى يعلم أنّ البيت من قبل شاعر فحل وأنّه خرج من تحت يد صناع. ومن النظم ما يتحد فى الوضع ويدق فيه الصنع وذلك أن تتحد أجزاء الكلام ويدخل بعضها فى بعض ويشتد ارتباط ثان منها بأول، وأن يحتاج فى الجملة إلى أن توضع فى النفس وضعا واحدا وأن يكون الحال فيها حال البانى يضع بيمينه ههنا فى حال ما يضع بيساره هناك. ومنه ما لا يحتاج إلى فكر وروية لكى ينتظم، بل سبيله فى ضم بعضه إلى بعض سبيل من عمد إلى لآل فخرطها فى سلك لا يبغى أكثر من أن يمنعها التفرق، وكمن نضد أشياء

جمود النظرية

بعضها إلى بعض لا يريد فى نضده ذلك أن تجئ له منه هيئة أو صورة، بل ليس إلا أن تكون مجموعة فى رأى العين، وذلك إذا كان المعنى لا يحتاج أن يصنع فيه شئ غير عطف لفظ على مثله. ولا بد أن يتغير المعنى إذا تغير النظم وفى ذلك مجال رحب يجول فيه المنشئون (¬1) لقد وضّح عبد القاهر أصول «علم المعانى» فى كتابه «دلائل الإعجاز» «وسمّاه «النّظم» أو «معانى النحو». وليست معانى النحو إلّا علم المعانى الذى عرّفه السكاكى بقوله: «هو تتبع خواص تراكيب الكلام فى الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره، ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ فى تطبيق الكلام على ما يقتضى الحال ذكره» (¬2). جمود النظرية: كان السكاكى (- هـ) أول من أطلق مصطلح «علم المعانى» على الموضوعات التى سماها عبد القاهر النظم أو معانى النحو. ومع أنّه لم يطلق ذلك على بعض مباحث البلاغة أحد غيره إلّا أنّ الباحث ليحار حينما يجد مصطلحى «المعانى» و «البيان» قبله. فالزمخشرى (- هـ) يشير إليهما فى الكشاف ويقول وهو يتحدث عن التفسير: «ولا يغوص على شئ من تلك الحقائق إلّا رجل قد برع فى علمين مختصين بالقرآن وهما: علم المعانى وعلم البيان» (¬3). وكلامه غير واضح، لأنّه كثيرا ما يردّد هذين المصطلحين وكثيرا ما يطلق مصطلح «البيان» على البلاغة كلها، يضاف إلى ذلك أنّه لم يضع حدّا بين موضوعات المعانى والبيان. وعلة ذلك أنّه لم يكن يبحث فى البلاغة حينما ألّف «الكشاف» وإنّما كان يفسر القرآن الكريم ويوضّح ما فيه من معان رفيعة ومن روعة وجمال وتأثير فى النفوس. وكان يستخدم ¬

_ (¬1) للتفصيل فى نظرية النظم يراجع الفصل الثانى من كتابنا «عبد القاهر الجرجانى- بلاغته ونقده» ص-. (¬2) مفتاح العلوم، ص 77. (¬3) الكشاف، ج 1 ص (ك).

مصطلحات البلاغة وفنونها للوصول إلى هذه الغاية، ولذلك توزعت فى الكتاب ولم يجمعها جامع أو يحدّها منهج واضح. ونراه أحيانا يسمى البلاغة «بديعا» ففى تفسير قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ» (¬1) يقول: «هذا من الصّنعة البديعية التى تبلغ بالمجاز الذروة العليا، وهى أن تساق كلمة مساق مجاز» (¬2). ويخالف أحيانا ما تعارف عليه البلاغيون فيجعل الالتفات من البيان ويقول فى العدول عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب: «قلت: هذا يسمى الالتفات فى علم البيان» (¬3). وذكر الدكتور شوقى ضيف أنّ الزمخشرى أول من ميّزبين المصطلحين وقسّم البلاغة إلى معان وبيان، وأنّ السكاكى تأثر به فى هذا التقسيم (¬4)، ولكن ما ذكرناه وما يضمه تفسير الكشاف لا يؤيد هذا القول، وإن كانت عبارة الزمخشرى توحى بذلك قبل البحث والتدقيق. وذكر فخر الدين الرازى (- هـ) مصطلحى «علم المعانى» و «علم البيان» ولكنه لم يعرّفهما أو يوضحهما ولم يحدد موضوعاتهما. يقول وهو يتحدث عن الخبر: «ولكن الخبر هو الذى يتصور بالصور الكثيرة، وتظهر فيه الدقائق العجيبة والأسرار الغريبة من علم المعانى والبيان» (¬5). وعبارة «من علم المعانى والبيان» غامضة لا يفهم منها إلّا معنى عام هو البلاغة أمّا معانيهما التى حصرها السكاكى فلم يشر إليها، وهو فى ذلك يتابع الزمخشرى الذى ذكر المصطلحين من غير أن يعرفهما أو يفصل بينهما. ويكرر السكاكى بعض العبارات مثل «صناعة علم المعانى» و «علماء علم المعانى» و «أذهان الراضة من علماء المعانى» و «أئمة علم المعانى» (¬6)، ¬

_ (¬1) البقرة 16. (¬2) الكشاف ج 1 ص 53. (¬3) الكشاف ج 1 ص 11. (¬4) البلاغة تطور وتأريخ ص 221، 270، 288. (¬5) نهاية الإيجاز ص 36. (¬6) مفتاح العلوم ص 81، 95، 119، 121.

ولكنه لم يحدد معانيها أو يذكر علماء علم المعانى وأثمته. ولم نعثر فى تأريخ البلاغة على علماء اختصوا بهذا العلم وبحثوا فيه كما فعل السكاكى فى «مفتاح العلوم» إلا ما نلاحظه من وقوف عبد القاهر الجرجانى على «معانى النحو» فى كتابه «دلائل الإعجاز» و «البيان» فى كتابه «أسرار البلاغة» لكن هذا الوقوف لا يعنى أنّه ميز بينهما، لأنّ موضوعات البلاغة ظلت مختلطة فى التكابين، وإن كان الأول أقرب إلى علم المعانى والثانى ألصق بعلم البيان. ولأننا لم نستطع أن نتبين مفهوم المعانى قبل السكاكى مع ما جاء فى «الكشاف» و «نهاية الإيجاز» نقرر أنّه أول من قسم البلاغة إلى معان وبيان ومحسنات، وحدد موضوعاتها وأرسى قواعدها، وأنّه أول من أطلق على الموضوعات المتعلقة بالنظم مصطلح «علم المعانى» وعلى الموضوعات التى تبحث فى الصورة والخيال- التشبيه والمجاز والكناية- مصطلح «علم البيان» وأنّه أول من سمّى غير هذه البحوث محسنات أو «وجوها مخصوصة يصار اليها لقصد تحسين الكلام» وقسّمها إلى ما يختص بالمعنى وما يتعلق باللفظ. ولم يسمّها بديعا، وكان بدر الدين بن مالك (- هـ) صاحب «المصباح» هو الذى أطلق عليها هذا المصطلح وتابعه الخطيب القزوينى والمتأخرون. وكان للسكاكى منهج فى بحث موضوعات «علم المعانى» اختلف عن كل ما ألفناه فى كتب البلاغة الأولى، وقد قرر- كما قرر غيره- أنّ كلام العرب قسمان: الخبر والطلب ولذلك قسم المعانى إلى قانونين: الأول: يتعلق بالخبر. والثانى: يتصل بالطلب. وقسم القانون الأول إلى أربعة فنون: الأول: فى تفصيل اعتبارات الإسناد الخبرى، تكلم فيه على أنواع الخبر وأغراضه ومؤكداته وخروجه على مقتضى الظاهر. الثانى: فى تفصيل اعتبارات المسند إليه، تكلم فيه على حذفه وذكره، وتعريفه وتنكيره، وإضماره، وكونه معرفة سواء كان موصولا أم اسم

نقد المنهج

إشارة أم معرفا بالألف واللام أم بالإضافة. وتحدث عن نعت المعرف، وتأكيد المسند إليه، وبيانه، وتفسيره، وبدله، والحالة التى تقتضى العطف والفصل، وتنكيره، وتقديمه على المسند، وتأخيره، وقصره، وخروجه على مقتضى الظاهر، والالتفات. الثالث: فى تفصيل اعتبارات المسند، تكلم فيه على حذفه وذكره، وإفراده، وكونه فعلا، وتقييده وترك تقييده، وكونه منكّرا. ثم تحدث عن تخصيصه وتركه، وكونه اسما معرفا، وكونه جملة فعلية واسمية وظرفية، وتكلم على تأخيره وتقديمه. وعقد فى هذا الفن فصلا تحدث فيه عن العمل، وتركه وإثباته، وترك مفعوله وإثباته، وإضمار الفاعل وإظهاره. وتحدث عن اعتبار التقديم والتأخير مع الفعل، والحالات المقتضية لتقييد الفعل بالشرط. الرابع: فى تفصيل اعتبارات الفصل والوصل، والإيجاز والإطناب، والقصر. وقسّم القانون الثانى إلى خمسة فصول هى التمنى، والاستفهام، والأمر، والنهى، والنداء. وبعد أن أكمل بحث الخبر والطلب تحدث عن استعمال الخبر موضع الطلب واستعمال الطلب موضع الخبر، وذكر أسلوب الحكيم فى خاتمة البحث (¬1). نقد المنهج: لقد بحث السكاكى «علم المعانى» بهذا المنهج وقسمه هذا التقسيم، وبوبه هذا التبويب الذى تتضح فيه النزعة المنطقية. ويلاحظ أنّه قدّم البحث فى الخبر مع أنّ كثيرا من الموضوعات التى تحدث عنها فيه لا تخص الخبر وحده إنّما هى مشتركة بينه وبين الطلب. وقد علل سعد الدين التفتازانى (- هـ) ذلك بقوله: «وإنما ابتدأ بأبحاث الخبر لكونه أعظم شأنا وأعم فائدة؛ لأنّه هو الذى يتصوّر بالصور الكثيرة، وفيه تقع الصياغات ¬

_ (¬1) ينظر كتابنا «البلاغة عند السكاكى» ص وما بعدها.

العجيبة، وبه تقع- غالبا- المزايا التى بها التفاضل، ولكونه أصلا فى الكلام، لأنّ الإنشاء إنّما يحصل منه باشتقاق كالأمر والنهى، أو نقل ك «بئس» و «نعم» وبعت واشتريت، أو زيادة أداة كالاستفهام والتمنى وما أشبه ذلك. ثم قدم بحث أحوال الإسناد على أحوال المسند إليه والمسند مع أنّ النسبة متأخرة عن الطرفين، لأنّ علم المعانى إنّما يبحث عن أحوال اللفظ الموصوف بكونه مسندا إليه ومسندا. وهذا الوصف إنّما يتحقق بعد تحقيق الإسناد، لأنه ما لم يسند أحد الطرفين إلى الآخر لم يصر أحدهما مسندا إليه والآخر مسندا. والمتقدم على النسبة إنّما هو ذات الطرفين ولا بحث لنا عنهما» (¬1). ومهما حاول أنصار هذا المنهج أن يوجهوه فان البلاغة التى نقيس بها الأدب ونحكم عليه لا يمكن أن يعلل منهج بحثها هذا التعليل، وأن يصطنع لها اصطناعا يبعدها عن روحها الأدبية. ولكن هل نجح السكاكى فى هذا المنهج؟ وهل استطاع أن يحصر موضوعات علم المعانى حصرا دقيقا؟ الواقع أنّه لم ينجح فى هذا التقسيم الذى بناه على المنطق وحده، فحصر به موضوعات المعانى حصرا مزقها تمزيقا أفقدها كل حياة، وباعد بينها وبين ما يتطلبه الفن الأدبى الذى ينبغى أن يعتمد- أول ما يعتمد- على الذوق الرفيع. ولتوضيح ذلك نقول إنّ السكاكى قسّم مباحث المعانى حسب ركنى الجملة- المسند إليه والمسند- وعلى هذا الأساس ذكر التقديم- مثلا- فى المسند إليه مرة وفى المسند تارة أخرى. وفعل مثل هذا بالموضوعات الأخرى كالتأخير، والحذف، والذكر، والتعريف والتنكير. وكان من الدقة أن يبحث كل موضوع بحثا مستقلا فيتكلم على التقديم والتأخير فى فصل، والذكر والحذف فى ثان، والتعريف والتنكير فى ثالث، وبذلك تجمع أوصال الموضوع الواحد فى بحث يستوفى أجزاءه ويجمع شتاته. أمّا أن يوزع ¬

_ (¬1) المطول ص 43.

أقسام الموضوع الواحد هذا التوزيع ويذكر عنه فى كل باب نتفا يسيرة لا تجدى نفعا، فما لا يمكن الأخذ به والتعويل عليه. وبالمقارنة بين ما كتبه السكاكى وما كتبه عبد القاهر أو ابن الأثير يتضح مدى إفساده هذه المباحث وجوره عليها. فبعد أن كنا نقرأ فى «دلائل الإعجاز» أو «المثل السائر» موضوعات فيها عرض وتحليل وجمع لأطراف الموضوع الواحد جمعا يخرج الدارس منه بفكرة واضحة وفائدة كبيرة- بعد هذا كله- نقرأ فى «مفتاح العلوم» موضوعات تناثرت أطرافها فى عدة أبواب لا يخرج الدارس منها إلا بصورة حائلة، وقواعد جامدة، وأمثلة مبتسرة. وقد يلجأ لكى يكوّن فكرة صحيحة إلى أن يلم شتات الموضوع الواحد ويضم بعضها إلى بعض، وفى هذا إضاعة للجهد وإفساد للبلاغة والذوق. وكانت ثمرة ذلك أن بعثر السكاكى الموضوعات وأفقدها رونقها، وأصبحت لا تجدى نفعا إلّا بالرجوع إلى عدة فصول لجمع شتاتها وتوحيد أجزائها. أمّا بحث خروج الكلام على مقتضى الظاهر كوضع المضمر موضع المظهر، ووضع المظهر موضع المضمر، والالتفات فى المسند إليه فليس دقيقا، لأنّ هذه الفنون لا تخصه وحده وإنما تدخل المسند أيضا. وقد أشار السكاكى إلى ذلك بقوله: «واعلم أنّ هذا النوع أعنى نقل الكلام عن الحكاية إلى الغيبة لا يختص بالمسند إليه» (¬1). وكان ينبغى أن يضع لكل لون من هذه الفنون بحثا يفصّل القول فيه تفصيلا. وتكلم على استعمال المضارع مكان الماضى فى الحالات المقتضية لتقييد الفعل بالشرط مع أنّ الإخبار عن الفعل الماضى بالفعل المضارع أو بالمستقبل نوع من الالتفات كما صرح به البلاغيون. وعقد فصلا للفعل وما يتعلق به من ترك وإثبات، وإظهار وإضمار، ¬

_ (¬1) مفتاح العلوم ص 95.

وتقديم وتأخير، مع أنّ الفعل مسند، وكان ينبغى أن يبحثه فى باب المسند ويذكر أنّه يأتى فعلا واسما وجملة. ولكننا لا بدّ أن نحمد للسكاكى انتباهه إلى اشتراك كثير من المباحث التى ذكرها فى المسند والمسند إليه، فقد أشار- وهو يتحدث عن الحالة المقتضية لقصر المسند إليه على المسند- إلى أنّ القصر لا يختص بالمسند إليه وإنما يدخل المسند أيضا، ويجرى بين الفاعل والمفعول، وبين المفعولين، وبين الحال وذى الحال، وبين كل طرفين. يقول: «واعلم أنّ القصر كما يكون للمسند إليه على المسند يكون للمسند على المسند إليه، ثم هو ليس مختصا بهذا البين بل له شيوع وله تفريعات، فالأولى أن نفرد للكلام فى ذلك فصلا ونؤخره إلى تمام التعرف لما سواه فى قانوننا هذا ليكون إلى الوقوف عليه أقرب» (¬1) هذا ما يتعلق باتخاذ ركنى الجملة أساسا فى تقسيم مباحث علم المعانى، أما ما يتصل بالموضوعات نفسها فقد ذكر التقديم والتأخير، والحذف والذكر والفصل والوصل، والإيجاز والإطناب، والتعريف والتنكير، والقصر، فى القانون الأول أى فى باب الخبر. وليس فى هذا دقة، لأنّ هذه الموضوعات تدخل الطلب كما تدخل الخبر. وقد أشار عبد القاهر إلى ذلك بقوله: «أنّه لا يجوز أن يكون لنظم الكلام وترتيب أجزائه فى الاستفهام معنى لا يكون له ذلك المعنى فى الخبر، ذلك أنّ الاستفهام استخبار، والاستخبار هو طلب من المخاطب أن يخبرك. فاذا كان كذلك كان محالا أن يفرق الحال بين تقديم الاسم وتأخيره فى الاستفهام فيكون المعنى إذا قلت: «أزيد قام؟» غيره إذا قلت «أقام زيد؟»، ثم لا يكون هذا الافتراق فى الخبر. ويكون قولك «زيد قام» و «قام زيد» سواء ذاك، لأنه يؤدى إلى أن نستعمله أمرا لا سبيل فيه إلى جواب، وأن تستثبته المعنى على وجه ليس عنده عبارة يثبته لك بها على ذلك الوجه» (¬2). وبقوله: «وإذ قد عرفت الحكم فى الابتداء بالنكرة فى الاستفهام فابن الخبر عليه» (¬3). ¬

_ (¬1) مفتاح العلوم ص 94. (¬2) دلائل الإعجاز ص 108. (¬3) دلائل الإعجاز ص 109.

ولم يأخذ السكاكى برأى عبد القاهر مع أنّه اعتمد على كتابيه وجرّدهما من النزعة الأدبية وأحالهما هيا كل بتقسيماته المنطقية. والعجيب أنّ الخطيب القزوينى وسعد الدين التفتازانى وغيرهما من الشراح تابعوا السكاكى فى هذا التقسيم مع أنّهم ذكروا أنّ الموضوعات التى بحثت فى الخبر تدخل الطلب أيضا. يقول القزوينى بعد أن ذكر أحوال المسند: «كثير مما ذكر فى هذا الباب والذى قبله غير مختص بهما كالذكر والحذف وغيرهما. والفطن إذا أتقن اعتبار ذلك فيهما لا يخفى عليه اعتباره فى غيرهما» (¬1). وأعاد هذا القول فى كتابه «الإيضاح» بعد أن ذكر أحوال الإسناد والمسند إليه والمسند وأحوال متعلقات الفعل والقصر، وقال: «ما ذكرناه فى هذه الأبواب الخمسة السابقة ليس كله مختصا بالخبر بل كثير منه حكم الإنشاء فيه حكم الخبر، يظهر ذلك بأدنى تأمل» (¬2). وقال التفتازانى: «إنّ الإسناد الإنشائى أيضا إمّا مؤكد أو مجرد عن التأكيد، وكذا المسند إليه إمّا مذكور أو محذوف مقدم أو مؤخر، معرف أو منكر، إلى غير ذلك، وكذلك المسند اسم أو فعل، مطلق أو مقيد بمفعول أو بشرط أو بغيره. والمتعلقات إما متقدمة أو متأخرة، مذكورة أو محذوفة، وإسناده وتعلقه أيضا إما بقصر أو بغير قصر. والاعتبارات المناسبة فى ذلك مثل ما مر فى الخبر ولا يخفى عليك اعتباره بعد الإحاطة بما سبق» (¬3). ولكنّ البلاغيين سحروا بمنهج السكاكى وساروا عليه من غير أن يحاولوا إصلاحه إلا ما صدر عنهم من ملاحظات لا تبعد البلاغة عن جوهره كثيرا. ونرى- إذا ما أردنا أن نعيد ترتيب مباحث علم المعانى فى كتاب «مفتاح العلوم» - أن يبحث الخبر والإنشاء فى باب مستقل وتذكر أنواعهما وأساليبهما، ثم تبحث الجملة فى باب آخر يجمع أجزاءها ويكون للتقديم والتأخير فصل، وللذكر والحذف فصل ثان، وللتنكير والتعريف فصل ¬

_ (¬1) التلخيص ص 125. (¬2) الإيضاح ص 101. (¬3) المطول ص 246.

ثالث، وللقصر وأنواعه وطرقه فصل رابع، ولتقييد المسند والمسند إليه فصل خامس. ولا بدّ من بحث الفصل والوصل، والإيجاز والإطناب فى بابين مستقلين. وبهذه الطريقة نجمع ما فرّقه السكاكى ونبعث الحياة فى هذا الفن ليكون صالحا فى الدراسات الأدبية. وليس بغريب أن ندعو إلى هذا المنهج فقد بحث المتقدمون البلاغة بما هو قريب منه، وكان لأعلامهم كأبى هلال وابن رشيق وابن سنان وعبد القاهر وابن الأثير مناهج سليمة وبحوث طريفة ذات نفع عظيم وأثر كبير، لأنّهم لم يبعثروا الموضوعات فى فصول كثيرة وإنّما جمعوها جمعا دقيقا، وبذلك جاءت كتبهم آية فى الإبداع، وكانت بحوثهم غاية فى الوضوح والجلاء. وكان الخطيب القزوينى (- هـ) أوضح منهجا من السكاكى، والمعانى عنده «علم يعرف به أحوال اللفظ العربى التى بها يطابق مقتضى الحال» (¬1). وقد رفض تعريف السكاكى وهو «تتبع خواص تراكيب الكلام فى الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ فى تطبيق الكلام على ما يقتضى الحال ذكره» (¬2)، لأنّ التتبع ليس بعلم ولا صادق عليه فلا يصح تعريف شئ من العلوم به. وحصر علم المعانى فى ثمانية أبواب: الأول: أحوال الإسناد الخبرى. الثانى: أحوال المسند اليه. الثالث: أحوال المسند. الرابع: أحوال متعلقات الفعل. الخامس: القصر. السادس: الإنشاء. السابع: الفصل والوصل. الثامن: الإيجاز والإطناب (¬3). ¬

_ (¬1) الإيضاح ص 12. (¬2) مفتاح العلوم ص 77. (¬3) ينظر كتابنا «القزوينى وشروح التلخيص» ص وما بعدها.

ووجه الحصر أنّ الكلام إمّا خبر أو إنشاء، لأنّه إما أن يكون لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه، أو لا يكون لها خارج، الأول الخبر، والثانى الإنشاء. ثم الخبر لا بد له من إسناد ومسند إليه ومسند، وأحوال هذه الثلاثة هى الأبواب الثلاثة الأولى. ثم المسند قد يكون له متعلقات إذا كان فعلا أو متصلا به أو فى معناه كاسم الفاعل ونحوه، وهذا هو الباب الرابع، ثم الإسناد والتعلق كل واحد منهما يكون إمّا بقصر أو بغير قصر، وهذا هو الباب الخامس. والإنشاء هو الباب السادس. ثم الجملة إذا قرنت بأخرى فتكون الثانية إمّا معطوفة على الأولى أو غير معطوفة، وهذا هو الباب السابع ولفظ الكلام البليغ إما زائد على أصل المراد لفائدة أو غير زائد عليه، وهذا هو الباب الثامن. وهذا المنهج يختلف قليلا عن منهج السكاكى، وهو أقرب إلى الكمال لأنّ القزوينى ضم الموضوعات المتشابهة فى فصول مستقلة، وكان فى بحثه ألصق بالبلاغة وروحها من صاحب «مفتاح العلوم» الذى مزقها كل ممزق. وسيطر هذا المنهج على البلاغيين وظلت كتبهم تقسم علم المعانى هذا التقسيم، ولم يخرج عنه معظم المتأخرين والمحدثين. وإذا كان علم المعانى قريبا من النحو أو هو توخى معانى النحو فانّه يختلف عنه فى معالجة الموضوعات، وقد فصل القول فى ذلك عبد القاهر وانتهى إلى أنّنا لا نريد المعانى الأول وإنّما المعانى الثوانى وهى عنده معنى المعنى. ولخص المتأخرون فائدة علم المعانى فقال بهاء الدين السبكى: «ولعلك تقول: أى فائدة لعلم المعانى فانّ المفردات والمركبات علت بالعلوم الثلاثة- اللغة والنحو والصرف- وعلم المعانى غالبه من علم النحو؟ كلا إنّ غاية النحوى أن ينزل المفردات على ما وضعت له ويركبها عليها ووراء ذلك مقاصد لا تتعلّق بالوضع مما يتفاوت به أغراض المتكلم على أوجه لا تتناهى وتلك الأسرار لا تعلم إلّا بعلم المعانى، والنحوى- وإن ذكرها- فهو على وجه إجمالى يتصرف فيه البيانى تصرفا خاصا لا يصل إليه النحوى. وهذا كما أنّ معظم أصول الفقه من علم اللغة والنحو والحديث وإن كان مستقلا بنفسه.

واعلم أنّ علمى أصول الفقه والمعانى فى غاية التداخل فانّ الخبر والإنشاء اللذين يتكلم فيهما المعانى هما موضوع غالب الأصول وأنّ كل ما يتكلم عليه الأصولى من كون الأمر للوجوب والنهى للتحريم ومسائل الإخبار والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد والإجمالى والتفصيل والتراجيح كلها ترجع إلى موضوع علم المعانى، وليس فى أصول الفقه ما ينفرد به كلام الشارع عن غيره إلّا الحكم الشرعى والقياس، وأشياء يسيرة» (¬1). وهذا ما أطال الكلام عليه عبد القاهر الذى قال إنّ الصحة فى الكلام هى الخطوة الأولى، أمّا الخطوة الثانية فهى فهم الكلام واستخلاص ما فيه من المعانى الثوانى التى يدل عليها، ولذلك كان «علم المعانى» ضروريا فى فهم الأساليب البلاغية، بعد أن فقد النحو رونقه وبهاءه، وأصبح قواعد لا تعنى إلّا بالإعراب والبناء، والعوامل، والجدل المنطقى الذى لا يخدم اللغة بقدر ما يعوقها عن النمو والازدهار. ... ¬

_ (¬1) عروس الأفراح- شروح التلخيص ج 1 ص 51 - 53.

الفصل الثانى الخبر والانشاء

الفصل الثانى الخبر والانشاء [ظهور دراسته] ظهرت دراسات هذا الموضوع فى رحاب علم الكلام، وكان لمسألة خلق القرآن أثر فى ذلك، وقد بنى المعتزلة رأيهم على أساس أنّ القرآن أمر ونهى وخبر، وذلك مما ينفى عنه صفة القدم التى ذهب إليها معظم المسلمين. وظهر فى بيئة الاعتزال رأيان فى صدق الخبر وكذبه: الرأى الأول: ينسب إلى أبى إسحاق إبراهيم بن سيار المعروف بالنظام (- هـ أو هـ) وخلاصة هذا الرأى أنّ صدق الخبر مطابقة حكمه لاعتقاد المخبر صوابا كان أو خطأ، وكذبه مطابقة حكمه له. واحتج بوجهين: أحدهما: أنّ من اعتقد أمرا فأخبر به ثم ظهر خبره بخلاف الواقع يقال: ما كذب ولكنه أخطأ. كما روى عن عائشة- رضى الله عنها- قالت فيمن شأنه كذلك «ما كذب ولكنه وهم». الثانى: قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ» (¬1) كذبهم فى قولهم: «إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ» وإن كان مطابقا للواقع لأنّهم لم يعتقدوه. وردّ الخطيب القزوينى على الوجه الأول بأنّ المنفى تعمد الكذب لا الكذب بدليل تكذيب الكافر إذا قال: «الإسلام باطل» وتصديقه إذا قال: «الإسلام حق». فقول السيدة عائشة «ما كذب» متأول بما كذب عمدا وأجاب عن الوجه الأول بوجوه: ¬

_ (¬1) المنافقون 1، والآية: «إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ».

أحدها: أنّ المعنى نشهد شهادة واطأت فيها قلوبنا ألسنتنا، كما يترجم عنه «إنّ» واللام، وكون الجملة اسمية فى قولهم: «إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ»، فالتكذيب فى قولهم «نشهد» وادعائهم فيه المواطأة لا فى قولهم «إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ» وثانيها: أنّ التكذيب فى تسميتهم إخباره شهادة، لأنّ الإخبار إذا خلا عن المواطأة لم يكن شهادة فى الحقيقة. وثالثها: أنّ المعنى لكاذبون فى قولهم: «إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ» عند أنفسهم لاعتقادهم أنّه خبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه. الرأى الثانى: ينسب إلى أبى عثمان الجاحظ (- هـ)، وفيه أنكر انحصار الخبر فى الصدق والكذب، وزعم أنّه ثلاثة أقسام: صادق، وكاذب، وغير صادق ولا كاذب. فالخبر الصادق هو المطابق للواقع مع الاعتقاد بأنّه مطابق، والخبر الكاذب هو الذى لا يطابق الواقع مع الاعتقاد بأنّه غير مطابق. أما الخبر الذى ليس بصادق ولا كاذب فهو أربعة أنواع: - الخبر المطابق للواقع مع الاعتقاد بأنه غير مطابق. - الخبر المطابق للواقع بلا اعتقاد. - الخبر غير المطابق للواقع مع الاعتقاد بأنه مطابق. - الخبر غير المطابق للواقع بلا اعتقاد. واحتج بقوله تعالى: «أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ» (¬1)، فانهم حصروا دعوى النبى- صلى الله عليه وسلم- الرسالة فى الافتراء والإخبار حال الجنون، بمعنى امتناع الخلو، وليس إخباره حال الجنون كذبا لجعلهم الافتراء فى مقابلته، ولا صدقا لأنّهم لم يعتقدوا صدقه، فثبت أنّ من الخبر ما ليس بصادق ولا كاذب (¬2). ¬

_ (¬1) سبأ 8. (¬2) ينظر الإيضاح ص 13 - 15، وشروح التلخيص ج 1 ص 176 وما بعدها.

وانتقلت هذه المباحث إلى كتب البلاغة والأدب، فقال ابن قتيبة (- هـ) وهو يتحدث عما كان فى زمانه من معارف أذهلت بعضهم: «والكلام أربعة: أمر، وخبر، واستخبار، ورغبة. ثلاثة لا يدخلها الصدق والكذب وهى: الأمر، والاستخبار، والرغبة. وواحد يدخله الصدق والكذب وهو الخبر» (¬1). وقسّم ثعلب (- هـ) قواعد الشعر إلى أمر، ونهى، وخبر، واستخبار (¬2). وقسم أبو الحسين إسحاق بن إبراهيم بن وهب الكلام إلى خبر وطلب، وقال: «الخبر: كل قول أفدت به مستمعه ما لم يكن عنده، كقولك: «قام زيد» فقد أفدته العلم بقيامه ... والطلب: كل ما طلبته من غيرك (¬3)» وعقد أحمد بن فارس (- هـ) فى كتابه «الصاحبى» بابا سماه «معانى الكلام» وهى عند أهل العلم عشرة: خبر واستخبار، وأمر ونهى، ودعاء وطلب، وعرض وتحضيض، وتمن وتعجب. وقال فى تعريف الخبر: «أمّا أهل اللغة فلا يقولون فى الخبر أكثر من أنّه إعلام: تقول أخبرته أخبره، والخبر هو العلم. وأهل النظر يقولون: الخبر ما جاز تصديق قائله أو تكذيبه، وهو إفادة المخاطب أمرا فى ماض من زمان، أو مستقبل، أو دائم (¬4)». ¬

_ (¬1) أدب الكاتب ص 4. (¬2) قواعد الشعر ص 25 وما بعدها. (¬3) البرهان فى وجوه البيان ص 113. (¬4) الصاحبى ص 179.

الخبر

الخبر تعريفه: وكان للبلاغيين المتأخرين وقفة عند الخبر ودلالته، وقد عادوا فى بحثه إلى منهج المعتزلة وأدخلوا فيه المباحث الفلسفية والعقائدية فقال فخر الدين الرازى (- هـ) إنّه «القول المقتضى بتصريحه نسبة معلوم إلى معلوم بالنفى أو بالاثبات. ومن حدّه بأنّه المحتمل للصدق والكذب المحدودين بالخبر لزمه الدور. ومن حده المحتمل للتصديق والتكذيب المحدودين بالصدق والكذب، واقع فى الدور مرتين (¬1)». وعرض السكاكى (- هـ) أقوال السابقين فى تعريف الخبر وناقشها وذهب إلى أنّ الخبر والطلب مستغنيان عن التعريف الحدىّ (¬2). أمّا الخطيب القزوينى (- هـ) فقد ذكر آراء السابقين كالنظّام والجاحظ ولكنه أخذ برأى الجمهور وقال فى بداية بحثه للخبر: «اختلف الناس فى انحصار الخبر فى الصادق والكاذب، فذهب الجمهور إلى أنّه منحصر فيهما، ثم اختلفوا فقال الأكثر منهم صدقه مطابقة حكمه للواقع، وكذبه عدم مطابقة حكمه له. هذا هو المشهور وعليه التعويل (¬3)». وإلى ذلك ذهب معظم شراح التلخيص (¬4). وصفوة القول أنّ الخبر كل كلام يحتمل الصدق والكذب لذاته، وهذا التعريف يصدق على كل كلام يؤخذ من غير النظر إلى قائله. والأخبار التى وردت فى القرآن الكريم وأحاديث النبى- صلى الله عليه وسلم- والحقائق ¬

_ (¬1) نهاية الإيجاز ص 37. (¬2) مفتاح العلوم ص 78 - 79. (¬3) الإيضاح ص 13. (¬4) شروح التلخيص ج 1 ص 183.

أضربه

العلمية والبديهيات التى لا يشك فيها، لا يمكن أن تحتمل الكذب مع أنّها إخبار عن شئ، ولذلك تخرج من هذا التعريف، أما غيرها من الأخبار فهى قابلة للتصديق والتكذيب من أى إنسان صدرت؛ لأنّها ينظر إليها لذاتها لا لذات القائلين. أضربه: للجملة الخبرية معنى يحدده تركيبها، فاذا أطلقت خالية من أى تأكيد كانت لها دلالة، وإذا أكدت بمؤكد واحد أو أكثر كانت لها دلالة أخرى. وقد انتبه العرب إلى ذلك فى إطلاقهم الخبر، وأشار عبد القاهر إلى هذه الاختلافات فقال: «واعلم أنّ مما أغمض الطريق إلى معرفة ما نحن بصدده أنّ ههنا فروقا خفية تجهلها العامة وكثير من الخاصة، ليس أنّهم يجهلونها فى موضع ويعرفونها فى آخر، بل لا يدرون أنّها هى ولا يعلمونها فى جملة ولا تفصيل. روى ابن الأنبارى أنّه قال: ركب الكندى المتفلسف إلى أبى العباس (¬1) وقال له: إنّى لأجد فى كلام العرب حشوا. فقال له أبو العباس: فى أى موضع وجدت ذلك؟ فقال: أجد العرب يقولون: «عبد الله قائم» ثم يقولون: «إنّ عبد الله قائم» ثم يقولون: «إنّ عبد الله لقائم» فالألفاظ متكررة والمعنى واحد. فقال أبو العباس: بل المعانى مختلفة لاختلاف الألفاظ. فقولهم: «عبد الله قائم» إخبار عن قيامه، وقولهم: «إنّ عبد الله قائم» جواب عن سؤال سائل، وقولهم: «إنّ عبد الله لقائم» جواب عن إنكار منكر قيامه. فقد تكررت الألفاظ لتكرر المعانى. قال: فما أحار المتفلسف جوابا. وإذا كان الكندى يذهب هذا عليه حتى يركب فيه ركوب مستفهم أو معترض فما ظنك بالعامة ومن هو فى عداد العامة ممن لا يخطر شبه هذا بباله» (¬2). ¬

_ (¬1) يريد به المبرد. (¬2) دلائل الإعجاز ص 242.

فالخبر ثلاثة أضرب: الاول: الابتدائى، وهو الخبر الذى يكون خاليا من المؤكدات لأنّ المخاطب خالى الذهن من الحكم الذى تضمنه. ومن ذلك قوله تعالى: «قالَ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا» (¬1). وقوله: «وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا، ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» (¬2). ومنه قول المتنبى: أنا الذى نظر الأعمى إلى أدبى … وأسمعت كلماتى من به صمم أنام ملء جفونى عن شواردها … ويسهر الخلق جرّاها ويختصم ففى هذه الأمثلة إلقاء للخبر إلى مخاطب خالى الذهن من حكمه، ولذلك جاءت من غير توكيد. الثانى: الطلبى، وهو الخبر الذى يتردد المخاطب فيه ولا يعرف مدى صحته، أو هو كما قال السكاكى: «وإذا ألقاها إلى طالب لها متحير طرفاها عنده دون الاستناد فهو منه بين بين لينقذه عن ورطة الحيرة، استحسن تقوية المنقذ بإدخال اللام فى الجملة أو «إنّ» (¬3). ومن ذلك قوله تعالى: «وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى، قالَ يا مُوسى: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ» (¬4). وقوله: «إِذْ قالُوا: لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا» (¬5). ومنه قول جرير: إنّ العيون التى فى طرفها حور … قتلننا ثم لم يحيين قتلانا ¬

_ (¬1) الأنبياء 36. (¬2) النور 47. (¬3) مفتاح العلوم ص 91. (¬4) القصص 20. (¬5) يوسف 8.

وقول البحترى: هل يجلبنّ إلىّ عطفك موقف … ثبت لديك أقول فيه وتسمع؟ فى هذه الأمثلة أكد الخبر باحدى أدوات التأكيد، مثل «إنّ» فى الآية الأولى والبيت الأول، واللام فى الآية الثانية «ليوسف» والنون فى «يجلبنّ» والمؤكد فى كل منها واحد. الثالث: الإنكارى، وهو الخبر الذى ينكره المخاطب إنكارا يحتاج إلى أن يؤكد بأكثر من مؤكد. ففى قوله تعالى: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ. إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ، فَقالُوا: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ. قالُوا: ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا، وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ. قالُوا: رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ» (¬1). حيث قال أولا: «إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ» وقال ثانيا: «إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ» حينما ازداد إنكارهم ولذلك أكّده ب «إنّ» أولا وباللام ثانيا ليزيل منهم ذلك الشك والإنكار. ومنه قوله: «إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ» (¬2). ومنه قول الحماسى: إنّا لنصفح عن مجاهل قومنا … ونقيم سالفة العدو الأصيد (¬3) ومتى نجد يوما فساد عشيرة … نصلح وإن نر صالحا لا نفسد وفى هذه الأمثلة مؤكدان «إنّ» واللام. ¬

_ (¬1) يس 13 - 16. (¬2) الصافات 39. (¬3) السالفة: صفحة العنق. الأصيد: المتكبر.

مؤكداته

مؤكداته: للخبر مؤكدات كثيرة منها: - إنّ: وهى التى تنصب الاسم وترفع الخبر، ومنها قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» (¬1)، وقوله: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ» (¬2) .. وقول الشاعر: إنّ التى زعمت فؤادك ملّها … خلقت هواك كما خلقت هوى لها وقول البحترى: شرفا بنى العباس إنّ أباكم … عم النبى وعيصه المتفرع إنّ الفضيلة للذى استسقى به … عمر وشفّع إذ غدا يستشفع ول «إنّ» أثر فى العبارة غير التوكيد، وفى «دلائل الإعجاز» (¬3) إشارات إلى مواقعها فى الكلام، ولكن الذى يتصل بالموضوع، التأكيد كما فى بيت أبى نواس: عليك باليأس من الناس … إنّ غنى نفسك فى الياس يقول عبد القاهر معلقا عليه: «فقد ترى حسن موقعها وكيف قبول النفس لها، وليس ذلك إلّا لأنّ الغالب على الناس أنّهم لا يحملون أنفسهم على اليأس ولا يدعون الرجاء والطمع ولا يعترف كل أحد ولا يسلم أنّ الغنى فى اليأس، فلما كان كذلك كان الموضع موضع فقر إلى التأكيد فلذلك كان من حسنها ما ترى. ¬

_ (¬1) فاطر 5. (¬2) الحج 1: (¬3) دلائل الإعجاز ص 243 وما بعدها، وينظر نهاية الإيجاز ص 174 وما بعدها، والطراز ج 2 ص 220.

ومثله سواء قول محمد بن وهيب: أجارتنا إنّ التعفّف بالياس … وصبر على استدرار دنيا بابساس (¬1) حريان أن لا يقذفا (¬2) بمذلة … كريما وأن لا يحوجاه إلى الناس أجارتنا إنّ القداح كواذب (¬3) … وأكثر أسباب النجاح مع الياس هو كما لا يخفى كلام مع من لا يرى أنّ الأمر كما قال بل ينكره ويعتقد خلافه ومعلوم أنّه لم يقله إلّا والمرأة تحدوه وتبعثه على التعرض للناس وعلى الطلب» (¬4). - أن: وهى التى تنصب الاسم وترفع الخبر، كقوله تعالى: «قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ (¬5) وقوله: «فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (¬6). ولم يعدّ بعضهم «أنّ» من المؤكدات لأنّ ما بعدها فى حكم المفرد والتأكيد المقصود هو تأكيد النسبة لا المسند ولا المسند إليه، ولكن ابن هشام يقول: «أنّ تكون حرف توكيد تنصب الاسم وترفع الخبر، والأصح أنّها فرع عن «إنّ» المكسورة» (¬7). - كأنّ: وفيها التشبيه المؤكد إن كانت بسيطة وإن كانت مركبة من كاف التشبيه و «أنّ» فهى متضمنة لأنّ فيها ما سبق وزيادة. كقوله تعالى: ¬

_ (¬1) الإبساس: هو التصويب عند الحلب ليستدر لبن الناقة ويتألفها. (¬2) أى: اليأس والصبر حريان. (¬3) القداح: جمع قدح- بالكسر فيهما- وهى الأزلام التى يستقسمون بها فى الجاهلية الحظ. (¬4) دلائل الإعجاز ص 250. (¬5) الأنبياء 108. (¬6) القصص 50. (¬7) مغنى اللبيب ج 1 ص 39.

«وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا، وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» (¬1). وقول بكر بن النطاح: تراهم ينظرون إلى المعالى … كما نظرت إلى الشّيب الملاح يحدّون العيون إلىّ شزرا … كأنى فى عيونهم السّماح - لكنّ: لتأكيد الجمل، وقيل: للتأكيد مع الاستدراك، وقيل: إنّها للتوكيد دائما مثل «إنّ» (¬2). ومنه قوله تعالى: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» (¬3). وقول المتنبى: فلا تعجبا إنّ السيوف كثيرة … ولكنّ سيف الدولة اليوم واحد - لام الابتداء: وتفيد تأكيد مضمون الجملة، ولهذا زحلقوها فى باب «إنّ» عن صدر الجملة كراهية ابتداء الكلام بمؤكدين. ومنه قوله تعالى: «إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ» (¬4). - الفصل: وهو من مؤكدات الجملة، وقد نصّ سيبويه على أنّه يفيد التأكيد، وقال فى قوله تعالى: «إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً» (¬5). إنّ ضمير الفصل «أنا» وصف للياء فى «ترنى» يزيد تأكيدا (¬6). ¬

_ (¬1) القصص 82. (¬2) مغنى اللبيب 1 ص 291، والبرهان فى علوم القرآن ج 2 ص 408. (¬3) القصص 56. (¬4) إبراهيم 39. (¬5) الكهف 39. (¬6) الكتاب ج 1 ص 395، وينظر البرهان فى علوم القرآن ج 2 ص 409.

- أمّا: وهى حرف شرط وتفصيل وتوكيد، ومنه قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا» (¬1). ولكن ابن هشام قال: «وأمّا التوكيد فقلّ من ذكره ولم أر من أحكم شرحه غير الزمخشرى فانه قال: فائدة «أما» فى الكلام أن تعطيه فضل توكيد تقول: «زيد ذاهب» فاذا قصدت توكيد ذلك وأنّه لا محالة ذاهب وأنّه بصدد الذهاب وأنّه منه عزيمة قلت: «أما زيد فذاهب» ولذلك قال سيبويه فى تفسيره: مهما يكن من شئ فزيد ذاهب وهذا التفسير مدل بفائدتين: بيان كونه توكيدا، وأنّه فى معنى الشرط» (¬2). ومنه قول الشاعر: ولم أر كالمعروف أمّا مذاقه … فحلو وأمّا وجهه فجميل - قد: وهى حرف تحقيق، ومنه قوله تعالى: «وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (¬3). وقوله: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ» (¬4). وقول المقنع الكندى: يعاتبنى فى الدّين قومى وإنّما … ديونى فى أشياء تكسبهم حمدا أسدّ به ما قد أخلّوا وضيّعوا … ثغور حقوق ما أطاقوا لها سدّا ¬

_ (¬1) البقرة 26. (¬2) مغنى اللبيب ج 1 ص 57. (¬3) آل عمران 101. (¬4) المؤمنون 1 - 2.

- السين: وهى حرف يختص بالمضارع ويخلصه للاستقبال، كقوله تعالى: «أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ» (¬1)، فالسين تفيد وجود الرحمة لا محالة، فهى تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد فى قولك: «سأنتقم منك يوما» أى: أنّك لا تفوتنى وإن تبطأت (¬2). سيعلم الجمع ممن ضمّ مجلسه … بأنّنى خير من تمشى به قدم - القسم: وهو عند النحاة جملة يؤكد بها الخبر، حتى أنّهم جعلوا قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ» (¬3)، قسما وإن كان فيه إخبار إلّا أنّه لما جاء توكيدا للخبر سمى قسما (¬4). وللقسم أحرف هى: الباء والواو والتاء، والباء هى الأصل لدخولها على كل مقسم به. ومنه قوله تعالى: «وَالضُّحى * وَاللَّيْلِ إِذا سَجى» (¬5)، وقوله: «وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ. وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ» (¬6) وقوله: «قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ» (¬7)، وقوله: «وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ» (¬8). ومنه قول ابن أبى ربيعة: فو الله لا أدرى وإن كنت داريا … بسبع رمين الجمر أم بثمان ¬

_ (¬1) التوبة 71. (¬2) مغنى اللبيب ج 1 ص 138، والبرهان فى علوم القرآن ج 2 ص 418. (¬3) المنافقون 1. (¬4) البرهان فى علوم القرآن ج 3 ص 40. (¬5) الضحى 1 - 2. (¬6) التين 1 - 3. (¬7) يوسف 85. (¬8) الأنبياء 57.

- نونا اليوكيد: وهما الثقيلة والخفيفة، ومن ذلك قوله تعالى: «وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ» (¬1) وقوله: «لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ» (¬2). ومنه قول الشاعر: لأستسهلنّ الصّعب أو أدرك المنى … فما انقادت الآمال إلا لصابر - لن: يؤتى بها لتأكيد النفى، كقوله تعالى: «وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ، قالَ: لَنْ تَرانِي، وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ، فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي» (¬3). ومنه قول الطرماح: لقد زادنى حبا لنفسى أنّنى … بغيض إلى كل امرئ غير طائل وأنّى شقى باللئام ولن ترى … شقيّا بهم إلّا كريم الشمائل - الحروف الزائدة: وهى كثيرة، منها الباء كما فى قوله تعالى: «وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» (¬4). وقول معن بن أوس: ولست بماش ما حييت لمنكر … من الأمر لا يمشى إلى مثله مثلى و «من» كقوله تعالى: «وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها» (¬5)، وقوله «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ» (¬6). ¬

_ (¬1) يوسف 32. (¬2) العلق 15. (¬3) الأعراف 143. (¬4) ق 29. (¬5) الأنعام 59. (¬6) الملك 3.

أغراضه

ومنها قول زهير: ومهما تكن عند امرئ من خليقة … وإن خالها تخفى على الله تعلم - حروف التنبيه: ومنها «أما» حرف استفتاح وتكثر قبل القسم، كقول أبى صخر الهذلى: أما والذى أبكى وأضحك والذى … أمات وأحيا والذى أمره الأمر لقد تركتنى أحسد الوحش أن أرى … أليفين منها لا يروعهما النّفر و «ألا» الاستفتاحية، كقوله تعالى: «أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ» (¬1)، وقوله: «أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» (¬2). ومنه قول المعرى: ألا فى سبيل المجد ما أنا فاعل … عفاف وإقدام ومجد ونائل أغراضه: للخبر غرضان أصليان هما: الأول: فائدة الخبر، ومعناه إفادة المخاطب الحكم الذى تضمنته الجملة أو الكلام، وهذا هو الأصل فى كل خبر؛ لأنّ فائدته تقديم المعرفة أو العلم إلى الآخرين. ومن ذلك قوله تعالى: «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ، الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ، الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ، يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ، نُورٌ عَلى نُورٍ، يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ، وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (¬3). وقوله: «تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً. الَّذِي لَهُ ¬

_ (¬1) البقرة 12. (¬2) يونس 62. (¬3) النور 35.

مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً» (¬1). ومنه قول الشاعر: فلا الجود يفنى المال والجدّ مقبل … ولا البخل يبقى المال والجدّ مدبر وقول أبى نواس: ذكر الكرخ نازح الأوطان … فصبا صبوة ولات أوان ليس لى مسعد بمصر على الشّو … ق إلى أوجه هناك حسان الثانى: لازم الفائدة، وهذا الغرض لا يقدم جديدا للمخاطب وإنّما يفيد أنّ المتكلم عالم بالحكم. ومن ذلك قولنا لصديق: «زاركم محمد أمس»، فالمخاطب يعلم ذلك ولكن الغرض من هذه الجملة إخباره أنّ المتحدث عارف بذلك. ومنه قول المتنبى مخاطبا سيف الدولة الحمدانى ومادحا شجاعته وبطولته: تدوس بك الخيل الوكور على الذرى … وقد كثرت حول الوكور المطاعم وسيف الدولة يعلم ذلك. وقول أحد الشعراء معاتبا: وتغتابنى فى كل ناد تحلّه … وتزعم أنى لست كفؤا لمثلكا ¬

_ (¬1) الفرقان 1 - 2.

ولكنّ الخبر كثيرا ما يخرج على خلاف مقتضى الظاهر، يقول السكاكى «هذا ثم إنّك ترى المفلقين السحرة فى هذا الفن ينفثون الكلام لا على مقتضى الظاهر كثيرا» (¬1). ومن ذلك: - أن ينزل غير السائل منزلة السائل إذا قدم إليه ما يلوح له بحكم الخبر فيستشرف له استشراف المتردد الطالب، كقوله تعالى: «وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ» (¬2)، وقوله: «وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ» (¬3). قال القزوينى: «وسلوك هذه الطريقة شعبة من البلاغة فيها دقة وغموض، وروى عن الأصمعى أنّه قال: كان أبو عمرو بن العلاء وخلف الأحمر يأتيان بشارا فيسلمان عليه بغاية الإعظام ثم يقولان: يا أبا معاذ ما أحدثت؟ فيخبرهما وينشدهما ويكتبان عنه متواضعين له حتى يأتى وقت الزوال ثم ينصرفان، فأتياه يوما فقالا: ما هذه القصيدة التى أحدثتها فى ابن قتيبة؟ قال هى التى بلغتكما. قالا: بلغنا أنّك أكثرت فيها من الغريب. قال: نعم، إنّ ابن قتيبة يتباصر بالغريب، فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرف. قالا: فأنشدناها يا أبا معاذ، فأنشدهما: بكّرا صاحبىّ قبل الهجير … إنّ ذاك النجاح فى التبكير حتى فرغ منها، فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ مكان «إنّ ذاك النجاح»: «بكّرا فالنجاح» كان أحسن. فقال بشار: إنّما بنيتها أعرابية وحشية، فقلت: «إنّ ذاك النجاح» كما يقول الأعراب البدويون، ولو قلت: «بكّرا فالنجاح» كان هذا من كلام المولدين، ولا يشبه ذلك الكلام ولا يدخل فى معنى القصيدة. فقام خلف فقبّل بين عينيه. ¬

_ (¬1) مفتاح العلوم ص 82، وينظر الإيضاح ص 19. (¬2) هود 37. (¬3) يوسف 52.

الأغراض المجازية

فهل كان ما جرى بين خلف وبشار بمحضر من أبى عمرو بن العلاء- وهم من فحولة هذا الفن- إلّا للطف المعنى فى ذلك وخفائه» (¬1). - أن ينزل غير المنكر منزلة المنكر إذا ظهر عليه شئ من أمارات الإنكار، ومنه قوله تعالى: «ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ» (¬2)، وقد أكد إثبات الموت تأكيدين- وإن كان مما لا ينكر- لتنزيل المخاطبين منزلة من يبالغ فى إنكار الموت لتماديهم فى الغفلة والإعراض عن العمل لما بعده، ولهذا قيل: «ميتون» دون «تموتون». ومنه قول حجل ابن نضلة: جاء شقيق عارضا رمحه … إنّ بنى عمك فيهم رماح فانّ مجيئه هكذا مدلّا بشجاعته قد وضع رمحه عارضا، دليل على إعجاب شديد منه واعتقاد أنّه لا يقوم إليه من بنى عمه أحد، كأنهم كلهم عزل ليس مع أحد منهم رمح. - أن ينزل المنكر منزلة غير المنكر، إذا كان معه ما إن تأمله ارتدع عن الإنكار، كما يقال لمنكر الإسلام: «لإاسلام حق»، وعليه قوله تعالى «لا رَيْبَ فِيهِ» (¬3) وقوله «ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ» (¬4). وقد أكّد إثبات البعث تأكيدا واحدا- وإن كان مما ينكر- لأنّه لما كانت أدلته ظاهرة كان جديرا بأن لا ينكر. الأغراض المجازية: الأصل فى الخبر أن يلقى لغرضين هما: فائدة الخبر، ولازم الفائدة، غير أنّه كثيرا ما يخرج على خلاف مقتضى الظاهر. ولكنه لا يقتصر على ذلك وإنما يخرج مجازا إلى أغراض كثيرة تفهم من السياق وقرائن الأحوال ومن ذلك: ¬

_ (¬1) الإيضاح ص 19، وينظر دلائل الإعجاز ص 211، ومفتاح العلوم ص 82. (¬2) المؤمنون 15. (¬3) البقرة 2. (¬4) المؤمنون 16.

- إظهار الضعف: ومنه قوله تعالى: «قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً» (¬1) وقول الشاعر: إنّ الثمانين- وبلغتها- … قد أحوجت سمعى إلى ترجمان وقول أبى نواس: دبّ فىّ السقام سفلا وعلوا … وأرانى أموت عضوا فعضوا - الاسترحام: ومنه قول إبراهيم بن المهدى مخاطبا المأمون: أتيت جرما شنيعا … وأنت للعفو أهل فان عفوت فمنّ … وإن قتلت فعدل وقول الآخر: فمالى حيلة إلا رجائى … لعفوك إن عفوت وحسن ظنى - تحريك الهمة: ومنه قوله تعالى: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ» (¬2). - إظهار التحسر: ومنه قول أعرابى يرثى ولده: ولما دعوت الصبر بعدك والأسى … أجاب الأسى طوعا ولم يجب الصّبر وقول المتنبى: أقمت بأرض مصر فلا ورائى … تخبّ بى الركاب ولا أمامى وقوله فى الرثاء: الحزن يقلق والتجمل يردع … والقلب بينهما عصىّ طيّع يتنازعان دموع عين مسهّد … هذا يجئ بها وهذا يرجع ¬

_ (¬1) مريم 4. (¬2) يونس 26.

- المدح: ومنه قول النابغة الذبيانى: فإنك شمس والملوك كواكب … إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب - الفخر: ومنه قول عمرو بن كلثوم: إذا بلغ الفطام لناصبىّ … تخرّ له الجبابر ساجدينا وقول أبى فراس الحمدانى: إنّا إذا اشتد الزما … ن وناب خطب وادلهم ألفيت حول بيوتنا … عدد الشجاعة والكرم للقا العدا بيض السيو … ف، وللندى حمر النّعم هذا وهذا دأبنا … يودى دم ويراق دم وقول الشريف الرضى: لغير العلى منى القلى والتجنّب … ولولا العلى ما كنت فى العيش أرغب وقور فلا الألحان تأسر عزمتى … ولا تمكر الصهباء بى حين أشرب ولا أعرف الفحشاء إلّا بوصفها … ولا أنطق العوراء والقلب مغضب - التوبيخ: ومن ذلك قولنا لتارك الصلاة: «الصلاة ركن من أركان الإسلام». - التحذير: ومنه قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق».

- الأمر: ومنه قوله تعالى: «وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ» (¬1) وقوله: «وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ» (¬2)، فان السياق يدل على أنّ الله تعالى أمر بذلك لا أنّه خبر. - النهى: ومنه قوله تعالى: «لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» (¬3). - الوعد: ومنه قوله تعالى: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ» (¬4). - الوعيد: ومنه قوله تعالى: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» (¬5). - الدعاء: ومنه قوله تعالى «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» (¬6)، أى: أعنّا على عبادتك، وقولنا: «عفا الله عنه». - الإنكار والتبكيت: ومنه قوله تعالى: «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» (¬7) - التمنى: ومنه قولنا: «وددتك عندنا». - الإنكار: ومنه: «ماله علىّ حق». - النفى: ومنه: «لا بأس عليك». - التعظيم: ومنه: «سبحان الله». ¬

_ (¬1) البقرة 228. (¬2) البقرة 233. (¬3) الواقعة 79. (¬4) فصلت 53. (¬5) الشعراء 227. (¬6) الفاتحة 5. (¬7) الدخان 49.

وربما كان اللفظ خبرا والمعنى شرطا وجزاء، كقوله تعالى: «إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ» (¬1)، فظاهره خبر، والمعنى إنّا إن نكشف عنكم العذاب تعودوا. ومنه قوله: «الطَّلاقُ مَرَّتانِ» (¬2)، والمعنى: من طلّق امرأة مرتين فليمسكها بعدهما بمعروف أو يسرحها باحسان (¬3). ... ¬

_ (¬1) الدخان 15. (¬2) البقرة 229. (¬3) تنظر أغراض الخبر المجازية فى الصاحبى لابن فارس ص 179، والبرهان فى علوم القرآن ج 2 ص 310.

الانشاء

الانشاء تعريفه: الانشاء كل كلام لا يحتمل الصدق والكذب لذاته؛ لأنه ليس لمدلول لفظه قبل النطق به واقع خارجى يطابقه أو لا يطابقه. وهذا ما اعتمد عليه القدماء حينما فصلوا بين الخبر والانشاء فقال القزوينى: «ووجه الحصر أنّ الكلام إما خبر أو إنشاء، لأنّه إما أن يكون لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه، أو لا يكون لها خارج. الأول الخبر، والثانى الإنشاء» (¬1). أقسامه: والإنشاء قسمان: الأول: الإنشاء الطلبى، وهو ما يستدعى مطلوبا غير حاصل وقت الطلب، وهو خمسة أنواع: الأمر، والنهى، والاستفهام، والتمنى، والنداء. الثانى: الإنشاء غير الطلبى: وهو ما لا يستدعى مطلوبا، وله أساليب مختلفة منها: - صيغ المدح والذم: ومنها «نعم وبئس» كقوله تعالى: «إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ، وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (¬2)، وقوله: «وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ» (¬3)، وقوله: «يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ» (¬4). ¬

_ (¬1) الإيضاح ص 13. (¬2) البقرة 271. (¬3) النحل 30. (¬4) الحج 13.

وقول زهير فى مدح هرم بن سنان: نعم امرأ هرم لم تعر نائبة … إلّا وكان لمرتاع لها وزرا ومنها «حبّذا ولا حبّذا»، كقول جرير: يا حبّذا جبل الريان من جبل … وحبذا ساكن الريان من كانا وحبذا نفحات من يمانية … تأتيك من قبل الريان أحيانا ومنها الأفعال المحولة إلى «فعل» مثل «كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ (¬1). - التعجب: وله صيغتان قياسيتان هما: «ما أفعله» كقوله تعالى: «قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ» (¬2) وقوله: «فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ» (¬3) وقول الشاعر: فما أكثر الإخوان حين تعدّهم … ولكنهم فى النائبات قليل وقول الآخر: بنفسى تلك الأرض ما أطيب الربى … وما أحسن المصطاف والمتربّعا و «أفعل به» كقوله تعالى: «أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا» (¬4). ويأتى سماعيا كقولهم: «لله دره عالما». - القسم: ويكون بالواو والتاء والباء، كقوله تعالى: «وَالضُّحى. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى» (¬5) وقوله: «تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا» (¬6)، وقولنا: «أقسم بالله أنّى برئ». ¬

_ (¬1) الكهف 5. (¬2) عبس 17. (¬3) البقرة 175. (¬4) مريم 38. (¬5) الضحى 1 - 2. (¬6) يوسف 91.

ومن صيغ القسم التى تأتى كثيرا «لعمر» كقوله تعالى: «لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ» (¬1). وقول الشاعر: لعمرك ما أدرى وإنّى لأوجل … على أيّنا تعدو المنية أول - الرجاء: وهو طلب حصول أمر محبوب قريب الوقوع. والحرف الموضوع له «لعل» كقوله تعالى: «فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ، إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» (¬2). وقول ذى الرمة: لعلّ انحدار الدمع يعقب راحة … من الوجد أو يشفى نجىّ البلابل (¬3) أما الأفعال التى تستعمل فى هذا الأسلوب فهى: «عسى»، كقوله تعالى: «فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ» (¬4). وقول الشاعر: عسى الكرب الذى أمسيت فيه … يكون وراءه فرج قريب و «حرى» مثل: «حرى محمد أن يقوم». و «اخلولق» مثل: «اخلولقت السماء أن تمطر». وتسمى هذه الثلاثة «أفعال الرجاء». ¬

_ (¬1) الحجر 72. (¬2) هود 22. (¬3) البلابل: جمع بلبال، وهو الهم. (¬4) المائدة 52.

الإنشاء الطلبى

- صيغ العقود: مثل: «بعت» و «اشتريت» و «وهبت» و «قبلت». وهذه أساليب خبر، لكنها لا يراد بها الإخبار لأنّها لا تحتمل الصدق والكذب، ولذلك لم توضع مع الخبر. ولايتهم البلاغيون بهذه الأساليب الإنشائية لقلة الأغراض المتعلقة بها، ولأنّ معظمها أخبار نقلت من معانيها الأصلية. أما الإنشاء الذى يعنون به فهو الطلبى لما فيه من تفنن فى القول لخروجه عن أغراضه الحقيقية إلى أغراض مجازية تفهم من سياق الكلام. الإنشاء الطلبى: وأساليب الإنشاء الطلبى خمسة هى: الأول: الأمر: وهو طلب الفعل على وجه الاستعلاء والإلزام، أو كما قال العلوى: «وهو صيغة تستدعى الفعل، أو قول ينبئ عن استدعاء الفعل من جهة الغير على جهة الاستعلاء» (¬1). وله أربع صيغ هى: - فعل الأمر: كقوله تعالى: «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ» (¬2)، وقول الحطيئة: دع المكارم لا ترحل لبغيتها … واقعد فانّك أنت الطاعم الكاسى - المضارع المقرون بلام الأمر: كقوله تعالى: «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ» (¬3). وقول أبى تمام: كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر … فليس لعين لم يفض ماؤها عذر ¬

_ (¬1) الطراز ج 3 ص 281. (¬2) النور 56. (¬3) الطلاق 7.

- اسم فعل الأمر: كقوله تعالى: «عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» (¬1)، أى: الزموا أنفسكم. ومنه «صه» بمعنى اسكت، و «مه» بمعنى «اكفف» و «آمين» بمعنى استجب و «بله» بمعنى دع، و «رويده» بمعنى أمهله، و «نزال» بمعنى انزل و «دراك» بمعنى أدرك. - المصدر النائب عن فعل الأمر: كقوله تعالى: «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» (¬2) وقول قطرى بن الفجاءة: فصبرا فى مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع وقد يخرج الأمر عن معناه الأصلى- وهو طلب الفعل على وجه الاستعلاء والإلزام إلى معان أخرى تفهم من سياق الكلام، ومن هذه الأغراض المجازية: - الدعاء: وهو الطلب على سبيل التضرع، كقوله تعالى: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ» (¬3) ويسميه ابن فارس «المسألة» (¬4). ومنه قوله تعالى: «رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ، فَآمَنَّا، رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ» (¬5). وقوله: «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» (¬6). ومنه قول المتنبى: أزل حسد الحسّاد عنى بكبتهم … فأنت الذى صيّرتهم لى حسّدا ¬

_ (¬1) المائدة 105. (¬2) البقرة 83. (¬3) نوح 28. (¬4) الصاحبى 184. (¬5) آل عمران 193. (¬6) الفاتحة 6.

- الالتماس: وهو الطلب الصادر عن المتساوين قدرا ومنزلة على سبيل التلطف كقول ابن زيدون: دومى على العهد مادمنا محافظة … فالحرّ من دان إنصافا كما دينا - التمنى: وهو الطلب الذى لا يرجى وقوعه، كقول عنترة: يا دار عبلة بالجواء تكلمى … وعمى صباحا دار عبلة واسلمى وقول امرئ القيس: ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلى … بصبح وما الإصباح منك بأمثل وقول المعرى: فيا موت زر إنّ الحياة ذميمة … ويا نفس جدّى إنّ دهرك هازل وقول ابن زيدون: ويا نسيم الصّبا بلّغ تحيتنا … من لو على البعد حيّا كان يحيينا - النصح والإرشاد: وهو الطلب الذى لا إلزام فيه وإنّما النصيحة الخالصة، كقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ» (¬1)، وقوله: «وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ» (¬2). وقول المتنبى فى مدح سيف الدولة: كذا فليسر من طلب الأعادى … ومثل سراك فليكن الطلاب - التمييز: وهو الطلب بأن يختار المخاطب بين أمرين أو أكثر، كقول بشار: فعش واحدا أو صل أخاك فانّه … مقارف ذنب مرة ومجانبه ¬

_ (¬1) البقرة 282. (¬2) البقرة 282.

- الإباحة: كقوله تعالى: «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ» (¬1). وقال القزوينى: «ومن أحسن ما جاء فيه قول كثير: أسيئى بنا أو أحسنى لا ملومة … لدينا، ولا مقلية إن تقلّت (¬2) أى: لا أنت ملومة ولا مقلية. ووجه حسنه إظهار الرضا بوقوع الداخل تحت لفظ الأمر حتى كأنه مطلوب، أى: مهما اخترت فى حقى من الإساءة والإحسان، فأنا راض به غاية الرضا فعاملينى بهما، وانظرى هل تتفاوت حالى معك فى الحالين» (¬3). - التعجيز: وهو الطلب بما لا يقدر عليه المخاطب كقوله تعالى: «يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ» (¬4)، وقوله: «وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (¬5). وقول الشاعر: أرونى بخيلا طال عمرا ببخله … وهاتوا كريما مات من كثرة البذل - التهديد: كقوله تعالى: «اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (¬6) وقوله: «قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ» (¬7). ¬

_ (¬1) البقرة 187. (¬2) مقلية مكروهة بغيضة. تقلت: تكرهت وتبغضت. (¬3) الإيضاح ص 143. (¬4) الرحمن 33. (¬5) البقرة 23. (¬6) فصلت 40. (¬7) إبراهيم 30.

ومنه قول الشاعر: إذا لم تخش عاقبة الليالى … ولم تستحى فاصنع ما تشاء - التسوية: كقوله تعالى: «فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا» (¬1)، ومنه قول المتنبى: عش عزيزا أو مت وأنت كريم … بين طعن القنا وخفق البنود - الإهانة: كقوله تعالى: «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» (¬2)، وقوله: «كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً» (¬3). - التسخير: هو التذليل والإهانة، كقوله تعالى: «كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ» (¬4)، ويسميه ابن فارس «التكوين» (¬5). - الاحتقار: كقوله تعالى: «أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ» (¬6)، وبعضهم يجمع الإهانة والاحتقار فى غرض واحد. - التسليم: كقوله تعالى: «فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ» (¬7). - الندب: كقوله تعالى: «فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ» (¬8). ¬

_ (¬1) الطور 16. (¬2) الدخان 49. (¬3) الإسراء 50. (¬4) الأعراف 166. وخاسئين: مبعدين مطرودين لا يسمح لكم بالقرب من الناس. (¬5) الصاحبى ص 185. (¬6) يونس 80، والشعراء 43. (¬7) طه 72. (¬8) الجمعة 10.

- التعجب: كقوله تعالى: «أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ» (¬1)، ومنه قول كعب بن زهير: أحسن بها خلة لو أنّها صدقت … موعودها ولو انّ النصح مقبول - التلهيف والتحسير: كقوله تعالى: «قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ» (¬2). ومنه قول جرير: موتوا من الغيظ غما فى جزيرتكم … لن تقطعوا بطن واد دونه مضر - الوجوب: وذلك أن يكون أمرا وهو واجب كقوله تعالى: «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ» (¬3). - الخبر: ويكون أمرا والمعنى خبر كقوله تعالى: «فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً» (¬4). والمعنى: إنّهم سيضحكون قليلا ويبكون كثيرا. - الامتنان: كقوله تعالى: «فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ» (¬5)، والظاهر أنّه قسم من الإباحة لكن معه امتنان. - الاكرام: مثل قوله تعالى: «ادْخُلُوها بِسَلامٍ» (¬6)، وهو من الإباحة أيضا. - التكوين: كقوله تعالى: «كُنْ فَيَكُونُ» (¬7)، وهو قريب من التسخير، إلّا أنّ هذا أعم. ¬

_ (¬1) مريم 38. (¬2) آل عمران 119. (¬3) البقرة 43. (¬4) التوبة 82. (¬5) النحل 114. (¬6) الحجر 46. (¬7) البقرة 117، وغيرها.

الثانى النهى

- التفويض: كقوله تعالى: فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ» (¬1). - التكذيب: كقوله تعالى: «قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها» (¬2)، وقوله: «قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا» (¬3). - المشورة: كقوله تعالى: «فَانْظُرْ ماذا تَرى» (¬4). - الاعتبار: كقوله تعالى: «انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ» (¬5). ويرى السبكى أنّ فى غالب هذه المعانى نظرا (¬6). الثانى النهى: النهى طلب الكف عن الفعل على وجه الاستعلاء والإلزام. ويتفق مع الأمر فى: - أنّ كل واحد منهما لا بدّ فيه من اعتبار الاستعلاء. - أنّهما يتعلقان بالغير، فلا يمكن أن يكون الإنسان آمرا لنفسه أو ناهيا لها. - أنّهما لا بدّ من اعتبار حال فاعلهما فى كونه مريدا لهما. ويختلفان فى: - أنّ كل واحد منهما مختص بصيغة تخالف الآخر. - أنّ الأمر دالّ على الطلب، والنهى دالّ على المنع. ¬

_ (¬1) طه 72. (¬2) آل عمران 93. (¬3) الأنعام 150. (¬4) الصافات 102. (¬5) الأنعام 99. (¬6) تنظر هذه الأغراض فى الصاحبى ص 184، ومفتاح العلوم ص 152، والإيضاح ص 143، وشروح التلخيص ج 2 ص 313.

- أنّ الأمر لا بدّ فيه من إرادة مأموره، وأنّ النهى لا بدّ فيه من كراهية منهيه (¬1). وللنهى صيغة واحدة هى المضارع المقرون ب «لا» الناهية الجازمة، كقوله تعالى: «وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» (¬2). وقد تخرج هذه الصيغة إلى معان مجازية كثيرة منها: - الدعاء: ويكون صادرا من الأدنى إلى الأعلى، كقوله تعالى: «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا، رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً» (¬3)، وقوله: «رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا» (¬4). وقول كعب بن زهير: لا تأخذنّى بأقوال الوشاة ولم … أذنب ولو كثرت فىّ الأقاويل - الالتماس: ويكون صادرا من أخ إلى أخيه أو صديق إلى صديقه، كقوله تعالى على لسان هارون يخاطب أخاه موسى: «قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي» (¬5). وقول المعرى: لا تطويا السرّ عنى يوم نائبة … فانّ ذلك ذنب غير مغتفر - التمنى: ويكون النهى موجها إلى ما لا يعقل، كقول الخنساء: أعينىّ جودا ولا تجمدا … ألا تبكيان لصخر الندى - النصح: كقوله تعالى: «وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ» (¬6). ¬

_ (¬1) الطراز ج 3 ص 285. (¬2) الحجرات 12. (¬3) البقرة 286. (¬4) آل عمران 8. (¬5) طه 94. (¬6) البقرة 282.

الثالث: الاستفهام

وكقول الشاعر: لا تحلفنّ على صدق ولا كذب … فما يفيدك إلّا المأثم الحلف - التهديد: كقولنا لمن لا يمتثل للأمر: «لا تمتثل أمرى». - التوبيخ: كقول الشاعر: لاتنه عن خلق وتأتى مثله … عار عليك إذا فعلت عظيم - التحقير: كقول الحطيئة: دع المكارم لا ترحل لبغيتها … واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسى وقول المتنبى: لا تشتر العبد إلّا والعصا معه … إنّ العبيد لأنجاس مناكيد - التيئيس: ومنه قوله تعالى: «لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ» (¬1) وقول المتنبى فى مدح سيف الدولة: لا تطلبنّ كريما بعد رؤيته … إنّ الكرام بأسخاهم يدا ختموا - بيان العاقبة: كقوله تعالى: «وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا» (¬2)، أى: عاقبة الظلم العذاب لا الغفلة (¬3). الثالث: الاستفهام: الاستفهام طلب العلم بشئ لم يكن معلوما من قبل، وهو الاستخبار الذى قالوا فيه إنّه طلب خبر ما ليس عندك، أى طلب الفهم. ومنهم من فرق بينهما ¬

_ (¬1) التوبة 66. (¬2) إبراهيم 42. (¬3) تنظر هذه الأغراض المجازية فى مفتاح العلوم ص 152، والإيضاح ص 145، وشروح التلخيص ج 2 ص 325.

وقال إنّ الاستخبار ما سبق أولا ولم يفهم حق الفهم، فاذا سألت عنه ثانيا كان استفهاما (¬1). ولكن المستعمل فى الدراسات البلاغية مصطلح «الاستفهام». وللاستفهام أدوات كثيرة وهى نوعان: الأول: حرفان، وهما الهمزة وهل. وتستعمل الهمزة لطلب التصديق وهو إدراك النسبة أى تعيينها مثل: «أقام محمد؟» الجواب عنها يكون ب «نعم» أو «لا»، وللتصور وهو إدراك المفرد أى تعيينه مثل «أقام محمد أم قعد؟» والجواب عنها يكون بتحديد المفرد. أما «هل» فلا يطلب بها غير التصديق مثل: «هل قام محمد؟»، الجواب عنها يكون ب «نعم» أو «لا». الثانى: أسماء، ولا يطلب بها إلّا التصور، وهى: - ما: يطلب بها شرح السئ، مثل: «ما البلاغة؟». - من: للسؤال عن الجنس مثل: «من هذا؟». - أى: للسؤال عما يميز أحد المتشاركين فى أمر يعمهما، مثل: «أى الثياب عندك؟». - كم: للسؤال عن العدد، مثل «كم كتابا عندك؟». - كيف: للسؤال عن الحال، مثل: «كيف محمد؟». - أين: للسؤال عن المكان، مثل: «أين كنت؟». - أنّى: تستعمل تارة بمعنى كيف، كقوله تعالى: «أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها؟» (¬2) وتارة بمعنى «من أين» كقوله تعالى: «يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا؟» (¬3). ¬

_ (¬1) الصاحبى ص 181، والبرهان فى علوم القرآن ج 2 ص 326. (¬2) البقرة 259. (¬3) آل عمران 37.

الثالث التمنى

وتارة بمعنى «متى» مثل: «أنّى تسافر؟». - متى: للسؤال عن الزمان، مثل: «متى جئت؟». - أيّان: للسؤال عن الزمان، كقوله تعالى: «يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ» (¬1) وكقوله: «يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ» (¬2). ولكن الاستفهام قد يخرج عن معانيه الأصلية إلى معان كثيرة منها: - النفى: كقوله تعالى: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» (¬3). وقول البحترى: هل الدهر إلّا غمرة وانجلاؤها … وشيكا وإلّا ضيقة وانفراجها - التعجب: كقوله تعالى على لسان سليمان- عليه السّلام-: «ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ؟» (¬4) وقوله: «مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ» (¬5). وقول المتنبى: أبنت الدهر عندى كل بنت … فكيف وصلت أنت من الزحام؟ الثالث التمنى: كقوله تعالى: «فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا؟» (¬6). وقول المتنبى: أيدرى الربع أىّ دم أراقا … وأىّ قلوب هذا الركب شاقا ¬

_ (¬1) القيامة 6. (¬2) الذاريات 12. (¬3) الرحمن 60. (¬4) النمل 20. (¬5) الفرقان 7. (¬6) الأعراف 53.

- التقرير: كقوله تعالى: «أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى؟ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى» (¬1) وقوله: «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ؟ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ» (¬2)، وقوله: «أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ» (¬3). وقول ابن الرومى: ألست المرء تجبى كلّ حمد … إذا ما لم يكن للحمد جاب - التعظيم: كقول المتنبى فى الرثاء: من للمحافل والجحافل والسّرى … فقدت بفقدك نيّرا لا يطلع ومن اتخذت على الضيوف خليفة … ضاعوا ومثلك لا يكاد يضيّع وقول الآخر: أضاعونى وأىّ فتى أضاعوا … ليوم كريهة وسداد ثغر - التحقير: كقوله تعالى على لسان الكفار: «أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا» (¬4). وقول الشاعر: فدع الوعيد فما وعيدك ضائرى … أطنين أجنحة الذباب يضير؟ - الاستبطاء: كقوله تعالى: «حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟» (¬5). وقول الشاعر: حتى متى أنت فى لهو وفى لعب … والموت نحوك يهوى فاغرا فاه ¬

_ (¬1) الضحى 6 - 7. (¬2) الانشراج 1 - 2. (¬3) الفيل 2. (¬4) الفرقان 41. (¬5) البقرة 214.

- الاستبعاد: كقوله تعالى: «أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ، وَقالُوا: مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ» (¬1)، أى يستبعد ذلك منهم بعد أن جاءهم الرسول ثم تولوا عنه. وقول أبى تمام: من لى بانسان إذا أغضبته … وجهلت كان الحلم رد جوابه؟ وقول المتنبى: وما قتل الأحرار كالعفو عنهم … ومن لك بالحرّ الذى يحفظ اليدا - الإنكار: وهو على وجهين: (أ) إما للتوبيخ، بمعنى ما كان ينبغى أن يكون، مثل: «أعصيت ربك؟». (ب) وإما للتكذيب بمعنى «لم يكن» كقوله تعالى: «أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً» (¬2)، وقوله: «أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ» (¬3). أو بمعنى «لا يكون» كقوله تعالى: «أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ» (¬4). وعليه بيت امرئ القيس: أيقتلنى والمشرفىّ مضاجعى … ومسنونة زرق كأنياب أغوال وقول الآخر: أأترك إن قلت دراهم خالد … زيارته؟ إنّى إذن للئيم - التهكم: كقوله تعالى: «أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا؟» (¬5). ¬

_ (¬1) الدخان 13 - 14. (¬2) الإسراء 40. (¬3) الصافات 153. (¬4) هود 28. (¬5) هود 87.

وقول المتنبى: أفى كل يوم ذا الدمستق قادم … قفاه على الإقدام للوجه لائم - التسوية: كقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» (¬1). وقوله: «وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ؟» (¬2). وقول المتنبى: ولست أبالى بعد إدراكى العلى … أكان تراثا ما تناولت أم كسبا - الوعيد: كقوله تعالى: «أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ» (¬3). - التهويل: كقوله تعالى: «وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ. مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ» (¬4)، بلفظ الاستفهام وهى قراءة ابن عباس- رضى الله عنهما-. لما وصف الله تعالى العذاب بأنه مهين لشدته وفظاعة شأنه أراد أن يصوّر كنهه فقال: «من فرعون؟ أى: أتعرفون من هو فى فرط عتوه وتجبره؟ ما ظنكم بعذاب يكون هو المعذب به؟. - التنبيه: كقوله تعالى: «فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ؟» (¬5)، وقوله: «أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ» (¬6)، وقوله: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ» (¬7)، وقوله: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً» (¬8). ¬

_ (¬1) البقرة 6. (¬2) الأنبياء 109. (¬3) المرسلات 16. (¬4) الدخان 30 - 31. (¬5) التكوير 26. (¬6) الفرقان 45. (¬7) الفيل 1. (¬8) الحج 63.

- التشويق: كقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ؟ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (¬1)، وقوله: «قالَ: يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى» (¬2). - الأمر: كقوله تعالى: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟» (¬3)، وقوله: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟» (¬4)، وقوله: «وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» (¬5). - النهى: كقوله تعالى: «ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ» (¬6)، وقوله: «أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ» (¬7) بدليل قوله: «فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ» (¬8). - العرض: كقوله تعالى: «أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ؟» (¬9)، وقوله تعالى: «أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ» (¬10). - التحضيض: كقوله تعالى: «أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ» (¬11). أى: ائتهم وأمرهم بالاتقاء. ¬

_ (¬1) الصف 10 - 11. (¬2) طه 120. (¬3) هود 14. (¬4) المائدة 91. (¬5) النساء 75. (¬6) الانفطار 9. (¬7) التوبة 13. (¬8) المائدة 44. (¬9) النور 22. (¬10) التوبة 13. (¬11) الشعراء 10 - 11.

- التفجع: كقوله تعالى: «مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً» (¬1). - التبكيت: كقوله تعالى: «أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟» (¬2). - الإرشاد: كقوله تعالى: «أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها؟» (¬3). - الإفهام: كقوله تعالى: «وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ؟» (¬4). - التكثير: كقوله تعالى: «وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها؟» (¬5)، وقوله: «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ» (¬6). ومنه قول الشاعر: كم من دنىّ لها قد صرت أتبعه … ولو صحا القلب عنها كان لى تبعا - الإخبار والتحقيق: كقوله تعالى: «هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً» (¬7). هذه أهم الأغراض التى يخرج إليها الاستفهام عن معناه الحقيقى (¬8)، وهى كثيرة وقد يتداخل بعضها ببعض، ولكن الذوق السليم وقرائن الأحوال تشير إلى الغرض وتحدده. وهذا التقسيم الذى قام عليه بحث الاستفهام عمدة ¬

_ (¬1) الكهف 49. (¬2) المائدة 116. (¬3) البقرة 30. (¬4) طه 17. (¬5) الأعراف 4. (¬6) الحج 48. (¬7) الإنسان 1. (¬8) ينظر الصاحبى ص 181، ومفتاح العلوم ص 150، والمصباح ص 42، والإيضاح ص 137، وشروح التلخيص ج 2 ص 290.

الرابع - التمنى

البلاغيين غير أن الذين عنوا بعلوم القرآن يبحثونه بصورة أخرى ويقسمونه تقسيما آخر، فالزركشى (¬1) يقسمه إلى: الاستفهام بمعنى الخبر وهو ضربان: أحدهما: نفى، ويسمى استفهام إنكار، والمعنى فيه على أنّ ما بعد الأداة منفى، ولذلك تصحبه «إلّا» كقوله تعالى: «فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ» (¬2). والثانى: إثبات، ويسمى استفهام تقرير، كقوله تعالى: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ» (¬3) أى: أنا ربكم. ويأتى هذا على وجوه كثير منها: مجرد الإثبات، والاثبات مع الافتخار، والتوبيخ والعقاب، والتبكيت، والتسوية، والتعظيم، والتهويل، والتسهيل والتخفيف، والتفجع، والتكثير، والاسترشاد. والقسم الثانى: الاستفهام المراد به الإنشاء، وهو على ضروب: مجرد الطلب، والنهى، والتحذير، والتذكير، والتنبيه، والترغيب، والدعاء، والعرض، والتحضيض، والاستبطاء، والإياس، والإيناس، والتهكم، والاستهزاء، والتحقير، والتعجب، والاستبعاد، والتوبيخ. وهذا التقسيم أكثر دقة غير أنّ التمييز بين أغراض النوعين صعب، ولذلك كان الجمع بين النوعين أكثر سهولة وأقرب إلى المدارك كما فعل علماء البلاغة. الرابع- التمنى: التمنى توقع أمر محبوب فى المستقبل، والفرق بينه وبين الترجى، أنّه يدخل المستحيلات والترجى لا يكون إلّا فى الممكنات (¬4). ولكن البلاغيين يميزون بين نوعين فى التمنى: ¬

_ (¬1) ينظر كتابه البرهان فى علوم القرآن ج 2 ص 326 وما بعدها. (¬2) الأحقاف 35. (¬3) الأعراف 172. (¬4) البرهان فى علوم القرآن ج 2 ص 323.

الأول: توقع الأمر المحبوب الذى لا يرجى حصوله لكونه مستحيلا، كقوله تعالى: «يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً» (¬1). وقول الشاعر: ألا ليت الشباب يعود يوما … فأخبره بما فعل المشيب الثانى: توقع الأمر المحبوب الذى لا يرجى حصوله لكونه ممكنا غير مطموع فى نيله، كقوله تعالى: «يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ» (¬2). والأداة الموضوعة للتمنى: «ليت»، وقد تستعمل ثلاثة أحرف للدلالة عليه: أحدها: هل، كقوله تعالى: «فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا» (¬3). والثانى: لو، سواء كانت مع «ودّ» كقوله تعالى: «وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ» (¬4)، أو لم تكن كقوله تعالى: «لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً» (¬5)، وقوله: «لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ» (¬6). والثالث: لعلّ، كقوله تعالى: «لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ. أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى» (¬7). ومنه قول الشاعر: أسرب القطا هل من يعير جناحه … لعلّى إلى من قد هويت أطير (¬8) ¬

_ (¬1) النساء 73. (¬2) القصص 79. (¬3) الأعراف 53. (¬4) القلم 9. (¬5) هود 80. (¬6) البقرة 167. (¬7) غافر 36 - 37. (¬8) ينظر التمنى فى مفتاح العلوم ص 147، والإيضاح ص 131، وشروح التلخيص ج 2 ص 238، والطراز ج 3 ص 291، والبرهان فى علوم القرآن ج 2 ص 321.

الخامس: النداء

الخامس: النداء: النداء التصويب بالمنادى ليقبل أو هو طلب إقبال المدعو على الداعى، وله أدوات هى: - الهمزة: وتكون لنداء القريب، كقول امرئ القيس: أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمى فأجملى - (أ) حرف لنداء البعيد، وهو مسموع لم يذكره سيبويه، وذكره غيره (¬1). - أيا: وتكون لنداء البعيد وقيل: لنداء القريب والبعيد، كقول الشاعر: أيا جبلى نعمان بالله خليا … نسيم الصّبا يخلص إلىّ نسيمها - أى: لنداء البعيد. - آى: لنداء البعيد. - هيا: لنداء البعيد. - وا: لنداء البعيد، وهى فى الأصل حرف نداء مختص بباب الندبة نحو «وا محمداه» وأجاز بعضهم استعماله فى النداء الحقيقى (¬2). - يا: لنداء البعيد، وقد ينادى به القريب توكيدا، وقيل: هى مشتركة بين القريب والبعيد، وهى أكثر أحرف النداء استعمالا، كقوله تعالى: «يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ» (¬3)، وقد تحذف كما فى قوله تعالى: «يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا» (¬4). ¬

_ (¬1) مغنى اللبيب ج 1 ص 20. (¬2) مغنى اللبيب ج ص 369. (¬3) البقرة 35. (¬4) يوسف 29.

ومنه قول ابن زيدون: يا سارى البرق غاد القصر واسق به … من كان صرف الهوى والودّ يسقينا ويا نسيم الصّبا بلّغ تحيتنا … من لو على البعد حيّا كان يحيينا وقد أشار سيبويه إلى استعمال حروف النداء للقريب مرة وللبعيد تارة أخرى، وقال: «فأما الاسم غير المندوب فينبه بخمسة أشياء: ب «يا» و «أيا» و «هيا» و «أى» وبالألف نحو قولك: «أحار بن عمرو» إلّا أنّ الأربعة غير الألف قد يستعملونها إذا أرادوا أن يمدوا أصواتهم للشئ المتراخى عنهم أو الإنسان المعرض عنهم الذى يرونه أنّه لا يقبل عليهم إلّا باجتهاد، أو النائم المستثقل، وقد يستعملون هذه التى للمد فى موضع الألف ولا يستعملون الألف فى هذه المواضع التى يمدون فيها. وقد يجوز لك أن تستعمل هذه الخمسة غير «وا» إذا كان صاحبك قريبا مقبلا عليك توكيدا، وإن شئت حذفتهن كلهن استغناء» (¬1). وقد يخرج النداء إلى أغراض مختلفة منها: - الإغراء والتحذير: وقد اجتمعا فى قوله تعالى: «ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها» (¬2) وقول المتنبى: يا أعدل الناس إلّا فى معاملتى … فيك الخصام وأنت الخصم والحكم - الاستغاثة: مثل: «يا ناصر الدين». - الندبة: كقول المتنبى: واحرّ قلباه من قلبه شبم … ومن بجسمى وحالى عنده سقم ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه ج 1 ص 325. (¬2) الشمس 13.

- التعجب: كقوله تعالى: «يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ» (¬1)، لأنّ الحسرة لا تنادى وإنّما تنادى الأشخاص لأنّ فائدته التنبيه، ولكن المعنى على التعجب كقوله: «يا عجبا لم فعلت؟» (¬2). - الاختصاص: مثل: «علىّ أيها الرجل يعتمد»، و «اغفر اللهم لنا أيتّها العصابة»، أى: مخصصا به دون الرجال، واغفر لنا مخصوصين من بين العصائب. - التنبيه: كقوله تعالى: «يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا» (¬3)، لأنّ حرف النداء يختص بالأسماء. - التحسر: كقول ابن الرومى: يا شبابى وأين منى شبابى … آذنتنى حباله بانقضاب لهف نفسى على نعيمى ولهوى … تحت أفنانه اللدان الرطاب وقول الآخر: أيا قبر معن كيف واريت جوده … وقد كان منه البرّ والبحر مترعا هذه أساليب الخبر والإنشاء المختلفة، وقد اتضح أنّ لكل أسلوب دلالته، وهى غير الإعراب وحركاته، بل ما وراء ذلك من المعانى التى تحملها الجمل والعبارات. وإذا كان لكل من الخبر والإنشاء دلالاته فانّ ¬

_ (¬1) يس 30. (¬2) البرهان فى علوم القرآن ج 3 ص 353. (¬3) مريم 23.

أحدهما قد يقع موقع الآخر لأغراض بلاغية (¬1). والعمدة فى ذلك الذوق المهذب والاطلاع الواسع وقرائن الأحوال. وأساليب الخبر والإنشاء مدى رحب يجول فيه الأدباء ويتصرف فيه الشعراء، وقد أخذ بها القدماء فأحسنوا وأضافوا، وهى من وسائل التعبير وطرقه المتشعبة. ويقدر الأديب على أن يتوسع فيها وأن يأتى بما لم يسبق إليه إذا أحسن استخدامها وكان له ذوق رفيع. ... ¬

_ (¬1) ينظر مفتاح العلوم ص 154، والإيضاح ص 146، وشروح التلخيص ج 2 ص 338، والبرهان فى علوم القرآن ج 3 ص 347، 350، والطراز ج 3 ص 293.

الفصل الثالث أحوال الجملة

الفصل الثالث أحوال الجملة تعريفها: الجملة كلمات تأتلف لتدل على معنى، أو هى- كما يقول النحاة-: «اللفظ المفيد فائدة يحسن السكوت عليها» (¬1). ولا تكون الجملة تامة إلّا إذا استوفت ركنين هما: المسند إليه والمسند، وإذا ما حذف منها أحد هذين الركنين فان النحاة يلجأون إلى التقدير ليستقيم الكلام. واستعمل القدماء هذين المصطلحين فقال سيبويه: «هذا باب المسند والمسند إليه وهما ما لا يستغنى واحد منهما عن الآخر ولا يجد المتكلم منه بدّا. فمن ذلك الاسم المبتدأ والمبنىّ عليه وهو قولك: «عبد الله أخوك» و «هذا أخوك» ومثل ذلك قولك: «يذهب زيد» فلا بدّ للفعل من الاسم كما لم يكن للاسم الأول بدّ من الآخر فى الابتداء. ومما يكون بمنزلة الابتداء قولك «كان عبد الله منطلقا» و «ليت زيدا منطلق» لأنّ هذا يحتاج إلى ما بعده كاحتياج المبتدأ إلى ما بعده» (¬2). ولم يأخذ النحاة بهذين المصطلحين بعد سيبويه وإن أداروهما فى كتبهم، وإنّما استعملوا ما يقابلهما من مبتدأ وخبر أو فعل وفاعل وغيرها، ولكن علماء البلاغة أخذوهما وبنوا عليهما دراستهم فى علم المعانى، فانحصرت فى المسند والمسند إليه وما يتبعهما من ذكر وحذف، وتقديم وتأخير، وقصر. ولا يتجاوز ذلك إلّا حينما يتحدثون عن الفصل والوصل، والمساواة والإيجاز ¬

_ (¬1) شرح ابن عقيل ج 1 ص 14. (¬2) كتاب سيبويه ج 1 ص 7.

المسند إليه

والاطناب، وهو تجاوز لا يبعد عن الجملتين فى أكثر الأحيان. وكان أكثر البلاغيين تمسكا بهذا المنهج رجال المدرسة الكلامية كالسكاكى والقزوينى وشراح التلخيص، أما عبد القاهر الجرجانى وضياء الدين بن الأثير وغيرهما من أعلام المدرسة الأدبية فلم يتجهوا هذا الاتجاه ولم ينحوا هذا المنحى، وإنّما كانوا يحكّمون الذوق ويتحسسون مواطن الجمال فى الكلام. ونتج عن ذلك أن مزقت البلاغة شر ممزق فكان الحذف فى عدة مواضع، والذكر فى أبواب متفرقة، لأنهما درسا فى المسند إليه مرة وفى المسند تارة وفى متعلقات الفعل تارة ثالثة. ومثل هذا يقال فى الموضوعات التى بحثها عبد القاهر وابن الأثير فى فصول موحدة جمعت الروعة والنفع، وإنارة السبيل، وتهذيب الذوق وتنمية الملكة الأدبية. المسند إليه: وهو المحكوم عليه أو المخبر عنه، ففى قوله تعالى: «وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ، وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ» (¬1)، أسند الوعد إلى الله سبحانه وتعالى، فلفظ الجلالة مسند إليه، و «الوعد» مسند. وفى قول المتنبى: طوى الجزيرة حتى جاءنى خبر … فزعت فيه بآمالى إلى الكذب أسند طى الجزيرة إلى الخبر، ف «الخبر» مسند إليه. ومواضع المسند إليه هى: - الفاعل للفعل التام وشبهه: ومن الأول قوله تعالى: «أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» (¬2)، ف «أمر» مسند إليه لأنه فاعل ل «أتى». ¬

_ (¬1) التوبة 68. (¬2) النحل 1.

وقول الشاعر: أهاج لك الأحزان نوح حمامة … تغنّت بليل فى ذرى ناعم نضر ف «نوح» مسند إليه لأنه فاعل ل «أهاج». وشبه الفعل هو مشتقاته كاسم الفاعل والصفة المشبهة، كقول عمر بن أبى ربيعة: وكم مالئ عينيه من شئ غيره … إذا راح نحو الجمرة البيض كالدّمى ففى «مالئ» ضمير مستتر فاعل، وهو المسند إليه. ومن أمثلة الصفة المشبهة: «أنت القوىّ جسمه»، فكلمة «جسمه» فاعل للصفة «القوىّ» وهى مسند إليه. - نائب الفاعل: كقوله تعالى: «فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ، قالُوا: سِحْرانِ تَظاهَرا، وَقالُوا: إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ» (¬1). ف «موسى» نائب فاعل وهو مسند إليه. وقوله تعالى: «وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» (¬2) فالشمس نائب فاعل أى مسند إليه. ومنه قول الشاعر: أكرم أخاك بأرض مولده … وأمدّه من فعلك الحسن فالعزّ مطلوب وملتمس … وأعزّه ما نيل فى الوطن ففى «مطلوب» و «ملتمس» ضميران مستتران وهو نائب فاعل للفعل المبنى للمجهول أى مسند إليه. ¬

_ (¬1) القصص 48. (¬2) القيامة 9.

- المبتدأ الذى له خبر: كقوله تعالى: «وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى» (¬1) ف «الآخرة» مسند إليه لأنّها مبتدأ. وقول المتنبى: شرّ البلاد مكان لا صديق به … وشرّ ما يكسب الإنسان ما يصم (¬2) ف «شر» مسند إليه. - ما أصله المبتدأ: وهو: - اسم كان وأخواتها، كقوله تعالى: «ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ، وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» (¬3) وقول المعرى: ضحكنا وكان الضّحك منّا سفاهة … وحقّ لسكان البرية أن يبكوا ف «محمد» فى الآية اسم كان وهو مسند إليه لأنّه مبتدأ فى الأصل، ومثل ذلك «الضحك» فى البيت، وكل واحدة مبتدأ فى الأصل. - اسم إنّ وأخواتها، كقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» (¬4) وهى مبتدأ فى الأصل. وقول جرير: إنّ العيون التى فى طرفها حور … قتلننا ثم لم يحيين قتلانا ف «العيون» مسند إليه لأنها اسم «إن» وهى مبتدأ فى الأصل. ¬

_ (¬1) الضحى 4. (¬2) يصم: يعيب. (¬3) الأحزاب 40. (¬4) النور 23.

المسند

- المفعول الأول ل «ظنّ» وأخواتها، كقوله تعالى: «وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً» (¬1) ف «الساعة» مسند إليه لأنّها مبتدأ فى الأصل. وقول المتنبى: كنا نظنّ دياره مملوءة … ذهبا فمات وكلّ شئ بلقع ف «دياره» مسند إليه لأنّها مبتدأ فى الأصل. - المفعول الثانى ل «أرى» وأخواتها، مثل: «أريتك العلم نافعا» ف «العلم» مسند إليه، وهو المفعول الأول ل «أرى» وأصله مبتدأ لأنّ الجملة: «العلم نافع». المسند: وهو المحكوم به أو المخبر به، ففى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ» (¬2)، أسندنا المحبة إلى الله تعالى، فهى مسند ولفظ الجلالة مسند إليه. وقول جرير: يصرعن ذا اللبّ حتى لا حراك به … وهنّ أضعف خلق الله إنسانا فالفعل «يصرع» مسند، و «أضعف» مسند أيضا. ومواضع المسند هى: - الفعل التام: كقوله تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» (¬3)، ف «أفلح» فعل تام وهو مسند، و «المؤمنون» مسند إليه. ¬

_ (¬1) الكهف 36. (¬2) الصف 4. (¬3) المؤمنون 1.

وقول المتنبى: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه … وصدّق ما يعتاده من توهّم ف «ساء» فعل تام وهو مسند، و «فعل» مسند إليه. - اسم الفعل: وهو لفظ يقوم مقام الأفعال فى الدلالة على معناها وفى عملها. وتكون بمعنى الأمر- وهو الكثير فيها- مثل: «مه» بمعنى اكفف، و «آمين» بمعنى استجب. وتكون بمعنى الماضى مثل: «شتّان» بمعنى افترق، و «هيهات» بمعنى بعد. وبمعنى المضارع مثل «أوّه» بمعنى أتوجع و «وى» بمعنى أعجب (¬1). ومنه قوله تعالى: «وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ: وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا، وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» (¬2). وقوله: «هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ». (¬3) وأسماء الأفعال كثيرة، ومنها ما هو فى أصله ظرف، وما هو مجرور بحرف مثل: «عليك محمدا» أى: الزمه، و «إليك» أى: تنحّ، و «دونك الكتاب» أى: خذه. ومنه قول المتنبى: هيهات عاق عن العواد قواضب … كثر القتيل بها وقلّ العانى - خبر المبتدأ: كقوله تعالى: «الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا» (¬4) ف «زينة» خبر وهى مسند. وقول الشاعر: أقول للنفس تأساء وتعزية … إحدى يدىّ أصابتنى ولم ترد كلاهما خلف من فقد صاحبه … هذا أخى حين أدعوه وذا ولدى ¬

_ (¬1) ينظر شرح ابن عقيل ج 2، ص 302. (¬2) القصص 82. (¬3) المؤمنون 36. (¬4) الكهف 46.

فالكلمات «خلف» و «أخى» و «ولدى» كل واحدة منها خبر، أى مسند. - المبتدأ المكتفى بمرفوعه: وهو كل وصف (¬1) اعتمد على استفهام أو نفى ورفع فاعلا ظاهرا أو ضميرا منفصلا وتم الكلام به. مثل «أقائم الرجلان» ف «قائم» مبتدأ وهو مسند لأنّ «الرجلان» فاعل له سدّ مسدّ الخبر. و «أقائم أنتما» مثلها فى الإسناد. ومنه قوله تعالى: «أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ» (¬2)، ف «راغب» مبتدأ وهو المسند، والضمير «أنت» فاعل سد مسد الخبر. وقول الشاعر: أمنجز أنتم وعدا قد وثقت به … أم اقتفيتم جميعا نهج عرقوب ف «منجز» مبتدأ وهو مسند، و «أنتم» فاعل سد مسد الخبر، وهو مسند إليه. وقول الآخر: غير لاه عداك فاطرّح الله … وو لا تغترر بعارض سلم ف «غير لاه» مبتدأ وهو مسند و «عداك» فاعل سدّ مسدّ الخبر، وهو مسند إليه. - ما أصله خبر المبتدأ: وهو: - خبر كان وأخواتها، كقوله تعالى: «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» (¬3) ف «عليما» مسند، لأنه خبر «كان» وهو خبر للمبتدأ فى أصل الجملة. ¬

_ (¬1) يراد به ما يتحمل ضميرا من المشتقات وهو ماعدا اسمى الزمان والمكان واسم الآلة. (¬2) مريم 46. (¬3) النساء 92.

وقوله: «فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ» (¬1)، ف «خائفا» خبر «أصبح» وهو مسند، لأنه خبر للمبتدأ فى الأصل. وقول عروة بن الورد: ومن يك مثلى ذا عيال ومقترا … من المال يطرح نفسه كل مطرح ليبلغ عذرا أو ينال رغيبة … ومبلغ نفس عذرها مثل منجح - خبر إنّ وأخواتها، كقوله تعالى: «وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» (¬2) ف «ربى» مسند لأنه خبر «إنّ» وهو خبر المبتدأ فى الأصل. وقول المتنبى: فان تفق الأنام وأنت منهم … فانّ المسك بعض دم الغزال ف «بعض» مسند. - المفعول الثانى ل «ظن» وأخواتها، كقوله تعالى: «وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً» (¬3) ف «قائمة» مسند لأنّها المفعول الثانى ل «ظنّ» وهى خبر فى الأصل. وقول المتنبى: كنّا نظنّ دياره مملوءة … ذهبا فمات وكلّ شئ بلقع ف «مملوءة» مسند لأنها المفعول الثانى ل «نظن» وهى خبر فى الأصل، «أى: دياره مملوءة ذهبا». ¬

_ (¬1) القصص 18. (¬2) مريم 36. (¬3) الكهف 36.

- المفعول الثالث ل «أرى وأخواتها»، مثل: «أريتك العلم نافعا» ف «نافعا» مسند، لأنه المفعول الثالث ل «أرى» وأصله خبر المبتدأ. - المصدر النائب عن فعل الأمر: كقوله تعالى: «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» (¬1) وقول قطرى بن الفجاءة: فصبرا فى مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع هذان هما ركنا الجملة، وما زاد عليهما- غير المضاف إليه والصلة- فهو قيد أو تكملة أو فضلة وهى: أدوات الشرط والنفى، والمفعولات، والحال، والتوابع، والنواسخ. وليس معنى ذلك أنّ الفضلة أو القيد لا قيمة لها بل لها دور كبير فى العبارة، ولكنها سميت كذلك لأنّها خارجة عن الإسناد. وفى الأنواع التى تقدمت لونان من التعبير: الأول: الابتداء بالاسم أو تقديمه على الفعل، وهذا النوع من الجمل هو ما يطلق عليه «الجملة الاسمية». الثانى: الابتداء بالفعل أو تقديمه على الاسم، وهذا النوع من الجمل هو ما يطلق عليه «الجملة الفعلية». ويقسم النحاة الجملة إلى اسمية وفعلية وظرفية (¬2)، والعمدة فى التمييز بين هذه الأنواع هو تصدر المسند أو المسند إليه، أما الحروف التى تتقدم عليها فلا عبرة بها. ولكن لماذا يبدأون بالاسم مرة وبالفعل تارة أخرى، ويقولون هذه «جملة اسمية» وتلك «جملة فعلية»، وهل هناك فرق بين الجملتين؟ ¬

_ (¬1) البقرة 83. (¬2) ينظر: مغنى اللبيب، ج 2، ص 376.

لقد حاول القدماء أن يضعوا سمات يستدل بها المتكلم أو الكاتب، وقالوا إنّ توجيه الخطاب بالجملة الاسمية ينقدح فيه معنيان: الأول: أن تريد أنّ الفاعل قد فعل ذلك الفعل على جهة الاختصاص به دون غيره، كقوله تعالى: «وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى. وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا» (¬1) فصدر الجملة بالضمير دلالة على اختصاصه تعالى بالإماتة والإحياء والإضحاك والإبكاء، وإنما أورد الضمير وصيّر الجملة اسمية تكذيبا وردّا وانكارا لمن زعم أنه مشارك لله تعالى فى هذه الخصال. الثانى: التحقق وتمكين المعنى فى نفس السامع بحيث لا يخالجه فيه ريب، كقوله تعالى: «وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ، إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ» (¬2) فخاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية وشياطينهم بالجملة الاسمية المحققة ب «إنّ» المشددة، وإنّما كان الأمر كذلك لأنّهم فى خطابهم لإخوانهم مخبرون عن أنفسهم بالثبات والتصميم على اعتقاد الكفر مصرون على التمادى فى الجحود والإنكار، فلهذا وجهوه بالجملة المؤكدة الاسمية بخلاف خطابهم للمؤمنين فانما كان عن تكلف وإظهار للايمان خوفا ومداجاة من غير عزم عليه ولا شرح صدرهم به. أما توجيه الخطاب بالجملة الفعلية فيراد به الإخبار بمطلق العمل مقرونا بالزمان من غير أن يكون هناك مبالغة وتوكيد، كقوله تعالى: «وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ» (¬3) وقوله: «نَزَّلَ الْكِتابَ» (¬4)، فالغرض الإخبار بهاتين الجملتين بالفعل الماضى فى غير إشعار بمبالغة هناك، ولمّا أراد المبالغة فى الجملة الأولى قال فى آخرها: «فَهُمْ يُوزَعُونَ» (¬5) وقال فى الثانية: «وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ»، فإتيانه بالجملتين الاسميتين من آخر الجملتين السابقتين المصدرتين بالفعلين دلالة على المبالغة والتأكيد فى المقصود وهو ¬

_ (¬1) النجم 43 - 44. (¬2) البقرة 14. (¬3) النمل 17. (¬4) الأعراف 196. (¬5) النمل 17. يوزعون: يكفون ويحبسون.

التولى للصالحين والإيزاع (¬1). ولذلك قالوا أن للاسم دلالة على الحقيقة دون زمانها، وللفعل دلالة على الحقيقة وزمانها، وقال فخر الدين الرازى: «إن كان الغرض من الإخبار الإثبات المطلق غير المشعر بزمان وجب أن يكون الإخبار بالاسم كقوله تعالى: «وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ» (¬2) لأنّه ليس الغرض إلّا إثبات البسط للكلب، فأما تعريف زمان ذلك فليس بمقصود. وأما إذا كان الغرض فى الإخبار الإشعار بزمان ذلك الثبوت فالصالح له الفعل كقوله تعالى: «هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ» (¬3) فانّ المقصود بتمامه لا يحصل بمجرد كونه معطيا للرزق بل بكونه معطيا للرزق فى كل حين وأوان» (¬4). ويؤتى بالجملة الظرفية، إذا كان المراد اختصار الجملة الفعلية مثل: «محمد فى الدار» بدل: استقر فيها أو حصل فيها. فالجملة الاسمية تدل على الاختصاص والتحقق والثبوت والتأكيد، فى حين تدل الجملة الفعلية على التجدد، لأنّ الفعل مرتبط بالزمان وتحولاته، وقد لخص الخطيب القزوينى ذلك بقوله: «وفعليتها لإفادة التجدد، واسميتها لافادة الثبوت، فانّ من شأن الفعلية أن تدل على التجدد، ومن شأن الاسمية أن تدل على الثبوت». (¬5) ولذلك لم يكن من العبث صياغة الجملة فى اللغة العربية بأشكال مختلفة، فلكل صورة هدف ولكل تركيب غاية، وفى ذلك توسع فى الأساليب ودقة فى الأداء والتعبير. وتتصل بدراسة المسند والمسند إليه ومتعلقاتهما موضوعات كثيرة، غير أنّ الأقتصار على أهمها وعلى ماله علاقة بالأساليب المتنوعة أقرب إلى الدراسات البلاغية، ولذلك سيكون الوقوف على التعريف والتنكير، والذكر والحذف والتقديم والتأخير، والقصر. ¬

_ (¬1) الطراز ج 2، ص 25 وما بعدها. (¬2) الكهف 18. (¬3) فاطر 3. (¬4) نهاية الإيجاز، ص 41. (¬5) الإيضاح، ص 99، وينظر دلائل الإعجاز، ص 132 وما بعدها.

التعريف والتنكير

التعريف والتنكير المعرفة ما دل على شئ بعينه، والنكرة ما دل على شئ لا بعينه. وأقسام المعرفة خمسة، وأعرفها المضمر، ثم العلم، ثم اسم الإشارة، والموصول، ثم المعرف بالألف واللام، ثم المضاف إلى واحد منها إضافة معنوية. وتتفاوت النكرات أيضا فى مراتب التنكير، وكلما ازدادت النكرة عموما زادت إبهاما فى الوضع (¬1). التعريف: يدخل التعريف على المسند إليه، لأنّ الأصل فيه أن يكون معرفة لأنّه المحكوم عليه، والحكم على المجهول لا يقيد، ولذلك فانه يعرف لتكون الفائدة أتم، لأنّ احتمال تحقق الحكم متى كان أبعد كانت الفائدة فى الإعلام به أقوى ومتى كان أقرب كانت أضعف. والتعريف مختلف ويكون بوسائل هى: الأول: الإضمار، وذلك: - إذا كان المقام مقام التكلم، كقول بشار: أنا المرعّث لا أخفى على أحد … ذرّت بى الشمس للقاصى وللدانى (¬2) وقول الشاعر: أنا الذى يجدونى فى صدورهم … لا أرتقى صدرا منها ولا أرد ¬

_ (¬1) ينظر البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن ص 133، والتبيان فى علم البيان ص 50، والطراز ج 2 ص 11. (¬2) رعثها- بالتضعيف- ألبسها الرعثة- بالفتح وبالتحريك- وهى القرط. ذرت: طلعت.

وقول الآخر: ونحن التاركون لما سخطنا … ونحن الآخذون لما رضينا - أو كان المقام مقام الخطاب كقول الحماسية أمامة مخاطبة الشاعر الأموى ابن الدمينة: وأنت الذى أخلفتنى ما وعدتنى … وأشمتّ بى من كان فيك يلوم وقول الآخر: أنت الذى تنزل الأيام منزلها … وتمسك الأرض من خسف وزلزال وقول الآخر: أنت الذى لم تدع سمعا ولا بصرا … إلّا شفى فأمرّ العيش إمرارا وأصل الخطاب أن يكون لمعين وقد يترك إلى غير معين كما تقول: «فلان لئيم إن أكرمته أهانك وإن أحسنت إليه أساء إليك»، فلا تريد مخاطبا بعينه بل تريد: إن أكرم وإن أحسن إليه، فتخرجه فى صورة الخطاب ليفيد العموم، أى سوء معاملته غير مختص بواحد دون واحد. وهو فى القرآن الكريم كثير، كقوله تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ» (¬1) أخرج فى صورة الخطاب لما أريد العموم للقصد إلى تفظيع حالهم وأنها تناهت فى الظهور حتى امتنع اختفاؤها فلا تختص بها رؤية راء مختص به كل من يتأتى منه رؤية داخل فى هذا الخطاب. - أو كان المقام الغيبة، لكون المسند إليه مذكورا أو فى حكم المذكور لقرينة، كقوله تعالى: «اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» (¬2)، أى: العدل، وقوله: «وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ» (¬3) أى: لأبوى الميت. ومنه قول الشاعر: ¬

_ (¬1) السجدة 12. (¬2) المائدة 8. (¬3) النساء 11.

الثانى: العلمية، وذلك

من البيض الوجوه بنى سنان … لو انّك تستضئ بهم أضاءوا هم حلّوا من الشرف المعلّى … ومن حسب العشيرة حيث شاءوا وقول الآخر: هو البحر من أى النواحى أتيته … فلجّته المعروف والبرّ ساحله وقول الآخر: هو المهرب المنجى لمن أحدقت به … مكاره دهر ليس عنهنّ مهرب (¬1) الثانى: العلمية، وذلك: - لإحضاره بعينه فى ذهن السامع ابتداء باسم مختص به كقوله تعالى: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» (¬2)، وقول الشاعر: أبو مالك قاصر فقره … على نفسه ومشيع غناه وقول الآخر: الله يعلم ما تركت قتالهم … حتى علوا فرسى بأشقر مزبد (¬3) وعلمت أنّى إن أقاتل واحدا … أقتل ولا يضرر عدوى مشهدى - أو لتعظيمه أو إهانته كما فى الكنى والألقاب المحمودة والمذمومة. - أو لكناية حيث الاسم صالح لها، ومما ورد صالحا للكناية من غير باب المسند إليه قوله تعالى: «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ» (¬4)، أى: جهنمى. ومثّل السكاكى بهذه الآية للمسند إليه على اعتبار أنّ «أبى لهب» مضاف إلى «يدا» وأنكر ذلك بعض شراح التلخيص، وأوجد بعضهم له عذرا (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر مفتاح العلوم ص 85، والإيضاح ص 34، وشروح التلخيص ج 1 ص 288. (¬2) الإخلاص 1. (¬3) الأشقر: الدم الذى صار علقا. المزبد: ما علاه الزبد ونحوه من الرغوة. (¬4) المسد 1. (¬5) شروح التلخيص ج 1 ص 301.

الثالث: الموصولية، ويكون ذلك لأسباب منها

- أو لإيهام استلذاذه، كقول الشاعر: بالله يا ظبيات القاع قلن لنا … ليلاى منكنّ أم ليلى من البشر والأصل أن يقول: «أم هى من البشر» ولكنه ذكر اسمها الصريح تلذذا به. - أو التبرك به، كقولنا: «الله الهادى ومحمد هو الشفيع» عند قول الجاهل: «هل الله الهادى ومحمد الشفيع؟» - أو التفاؤل مثل: «سعد فى دارك». - أو التطير مثل: «السفاح فى دار صديقك». - أو التسجيل على السامع أى التحقيق والتثبيت عليه كما يحقق الشئ بالكتابة حتى لا يجد إلى إنكار السامع سبيلا. فاذا قيل لأحد: هل سببت هذا وأهنت؟ فيقول: زيد سببته وأهنته (¬1). الثالث: الموصولية، ويكون ذلك لأسباب منها: - عدم علم المخاطب بالأحوال المختصة به سوى الصلة، كقولك: «الذى كان معنا أمس رجل عالم». - أو لاستهجان التصريح بالاسم، أما من جهة تركيبه من حروف يستقبح اجتماعها أو لإشعاره فى أصله بمعنى تقع النفرة منه لاستقذاره عرفا. - أو زيادة التقرير، كقوله تعالى: «وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ» (¬2)، فانه مسوق لتنزيه يوسف- عليه السلام- عن ¬

_ (¬1) ينظر مفتاح العلوم ص 86، والإيضاح ص 35، وشروح التلخيص ج 1 ص 292. (¬2) يوسف 23.

الرابع: الإشارة،

الفحشاء، والمذكور أدل عليه من «امرأة العزيز» وغيره، والعدول عن التصريح باب من البلاغة يصار إليه كثيرا. - أو التفخيم، كقوله تعالى: «فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ» (¬1)، وقول أبى نواس: مضى بها ما مضى من عقل شاربها … وفى الزجاجة باق يطلب الباقى - أو تنبيه المخاطب على غلطه كقول الشاعر: إنّ الذين ترونهم إخوانكم … يشفى غليل صدورهم أن تصرعوا - أو للايماء إلى وجه بناء الخبر، كقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ» (¬2). - وربما جعل ذريعة إلى التعريض بالتعظيم لشأن الخبر كقول الشاعر: إنّ الذى سمك السماء بنى لنا … بيتا دعائمه أعزّ وأطول (¬3) أو لشأن غير الخبر كقوله تعالى: «الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ» (¬4) فانّه قصد به تعظيم شأن شعيب، ويحتمل أن يقال إنّه لبناء الخبر عليه فان تكذيبهم شعيبا مناسب لخسرانهم (¬5). [الرابع: الإشارة،] الرابع: الإشارة، ويؤتى بالمسند إليه اسم إشارة لأحد أمور، وذلك: - أن يقصد تميزه لإحضاره فى ذهن السامع حسا، فالإشارة أكمل ما يكون من التمييز كقول ابن الرومى.: هذا أبو الصقر فردا فى محاسنه … من نسل شيبان بين الضّال والسّلم ¬

_ (¬1) طه 78. (¬2) غافر 60. داخرين: صاغرين. (¬3) سمك: رفع. (¬4) الأعراف 92. (¬5) ينظر مفتاح العلوم ص 87، والإيضاح ص 35، وشروح التلخيص ج 1 ص 302.

وقول الآخر: أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا … وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدّوا وقول الآخر: وإذا تأمل شخص ضيف مقبل … متسربل سربال ليل أغبر (¬1) أوما إلى الكوماء: هذا طارق … نحرتنى الأعداء إن لم تنحرى - أو للقصد أنّ السامع غبى لا يتميز الشئ عنده إلّا بالحس، كقول الفرزدق: أولئك آبائى فجئنى بمثلهم … إذا جمعتنا يا جرير المجامع - أو أن يقصد بيان حاله فى القرب أو البعد أو التوسط كقولك: «هذا زيد، وذاك عمرو، وذاك بشر». وربما جعل القرب ذريعة إلى التحقير كقوله تعالى: «وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً، أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ» (¬2)، وقوله: «وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً، أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا؟» (¬3)، «وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ» (¬4). ومنه قول الشاعر: تقول ودقّت نحرها بيمينها … أبعلى هذا بالرحا المتقاعس أو يقصد بالبعد العناية بتميزه وتعيينه، كقوله تعالى: «أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (¬5). ¬

_ (¬1) متسربل: لابس السربال وهو القميص. (¬2) الأنبياء 36. (¬3) الفرقان 41. (¬4) العنكبوت 64. (¬5) البقرة 5.

وربما جعل البعد ذريعة إلى التعظيم كقوله تعالى: «الم. ذلِكَ الْكِتابُ» (¬1) ذهابا إلى أبعد درجته، وقوله: «وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها» (¬2). وقد يجعل ذريعة إلى التحقير كما يقال «ذلك اللعين فعل كذا». - أو للتنبيه إذا ذكر قبل المسند إليه مذكور وعقب بأوصاف على أنّ ما يرد بعد اسم الاشارة فالمذكور جدير باكتسابه من أجل تلك الأوصاف كقول حاتم الطائى. ولله صعلوك يساور همّه … ويمضى على الأحداث والدّهر مقدما فتى طلبات لا يرى الخمص ترحة … ولا شبعة إن نالها عدّ مغنما اذا ما رأى يوما مكارم أعرضت … تيمّم كبراهنّ ثمّت صمّما ترى رمحه ونبله ومجنّه … وذا شطب عضب الضريبة مخذما وأحناء سرج قاتر ولجامه … عتاد أخى هيجا وطرفا مسوّما فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه … وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمّما (¬3) ¬

_ (¬1) البقرة 1 - 2. (¬2) الزخرف 72. (¬3) يساور: يواثب ويغالب. الخمص: الجوع. الترحة: الشقاء والفقر: تيمم.: قصد. المجن: الترس. الشطب: طرائق وخطوط فى متن السيف: العضب: القاطع. الضريبة من السيف: حده. المخذم: القاطع. السرج القاتر: الجيد. الطرف: الجواد الأصيل. المسوم: المعلم لشهرته.

الخامس: التعريف باللام،

لقد عدد له خصالا حميدة كالمضاء على الأحداث مقدما والصبر على ألم الجوع والأنفة من أن يعد الشبعة مغنما وتيمم كبرى المكرمات، والتأهب للحرب بأدواتها، ثم عقب ذلك بقوله: «فذلك» فأفاد أنّه جدير باتصافه بما ذكر من الصفات. ومنه قوله تعالى: «أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (¬1). أفاد اسم الإشارة زيادة الدلالة على المقصود من اختصاص المذكورين قبله باستحقاق الهدى من ربحهم والفلاح (¬2). [الخامس: التعريف باللام،] الخامس: التعريف باللام، والتعريف بالأداة وهى اللام على مذهب، والألف واللام على مذهب تكون لأحد أمور: - أن يشار به إلى معهود بينك وبين مخاطبك كما إذا قال لك قائل: «جاءنى رجل من بلدة كذا» فتقول: ما فعل الرجل؟ وعليه قوله تعالى: «وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى» (¬3)، أى: وليس الذكر الذى طلبت كالأنثى التى وهبت لها. - أو يراد به نفس الحقيقة، مثل: «الماء مبدأ كلّ حى»، وقول المعرى: والخلّ كالماء يبدى لى ضمائره … مع الصفاء ويخفيها مع الكدر (¬4) السادس: التعريف بالإضافة، ويكون لأسباب هى: ¬

_ (¬1) البقرة 5. (¬2) مفتاح العلوم ص 88، والإيضاح ص 38، وشروح التلخيص ج 1 ص 313. (¬3) آل عمران 36. (¬4) مفتاح العلوم ص 88، والإيضاح ص 41، وشروح التلخيص ج 1 ص 320.

- أن لا يكون لإحضار المسند إليه فى الذهن طريق أخصر من الاضافة وينبغى أن يقيد بما اذا كان المقام مقام اختصار، كقول الشاعر: هواى مع الركب اليمانين مصعد … جنيب وجثمانى بمكة موثق (¬1) - أو أن تغنى إضافته عن التفصيل المتعذر أو المرجوع لجهة، كقول الشاعر: بنو مطر يوم اللقاء كأنّهم … أسود لهم فى غيل خفّان أشبل (¬2) وقول الآخر: قومى هم قتلوا أميم أخى … فاذا رميت يصيبنى سهمى - أو لتضمنها تعظيما لشأن المضاف إليه أو المضاف أو غيرهما. فتعظيم شأن المضاف كقوله تعالى: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» (¬3) ففيه تعظيم لشأن العباد بأنّهم عباد الله. ومن تعظيم شأن المضاف إليه قولك: «كتابى من أجلّ الكتب» ففيه تعظيم لشأن المضاف إليه بانه صاحب كتاب عظيم. - أو تضمنها تحقير شأن المضاف أو المضاف إليه أو غيرهما مثل «أبو السارق جاء» و «أخو محمد سارق». - أو لتضمنها الاستهزاء كما فى قوله تعالى على لسان فرعون: «إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ» (¬4)، فانّ إضافة ضمير المسند إليه إلى المخاطبين ليس على سبيل الاعتراف برسالة موسى- عليه السلام- ولكن على سبيل الاستهزاء (¬5). ¬

_ (¬1) مصعد، ذاهب مبعد فى الأرض. جنيب: منحى، مبعد، أو مقدم يتبعه غيره. (¬2) الغيل: المأسدة. خفان: مأسدة قرب الكوفة. (¬3) الإسراء 65. (¬4) الشعراء 27. (¬5) ينظر مفتاح العلوم ص 89، والإيضاح ص 44، وشروح التلخيص ج 1 ص 345.

تعريف المسند

[تعريف المسند] أمّا تعريف المسند فلإفادة السامع إمّا حكما على أمر معلوم له بطريق من طرق التعريف بأمر آخر معلوم له كذلك، وإما لازم حكم بين أمرين كذلك وقد شرح القزوينى هذه الافادة بقوله: «تفسير هذا أنّه قد يكون للشئ صفتان التعريف ويكون السامع عالما باتصافه باحداهما دون الأخرى، فاذا أردت أن تخبره بأنّه متصف بالأخرى تعمد إلى اللفظ الدال على الأولى وتجعله مبتدأ، وتعمد إلى اللفظ الدال على الثانية وتجعله خبرا فتفيد السامع ما كان يجهله من اتصاف بالثانية كما إذا كان للسامع أخ يسمى زيدا وهو يعرفه بعينه واسمه ولكن لا يعرف أنّه أخوه وأردت أن تعرفه أنّه أخوه فتقول له: «زيد أخوك» سواء عرف أنّ له أخا ولم يعرف أنّ زيدا أخوه أو لم يعرف أنّ له أخا أصلا. وإن عرف أنّ له أخا فى الجملة وأردت أن تعينه عنده قلت: «أخوك زيد». أما إذا لم يعرف أنّ له أخا أصلا فلا يقال ذلك لاقناع الحكم بالتعيين على من لا يعرفه المخاطب أصلا، فظهر الفرق بين قولنا: «زيد أخوك» وقولنا: «أخوك زيد». وكذا إذا عرف السامع إنسانا يسمّى زيدا بعينه واسمه، وعرف أنّه كان من إنسان انطلاق ولم يعرف أنّه كان من زيد أو غيره فأردت أن تعرفه أنّ زيدا هو ذلك المنطلق فتقول: «زيد المنطلق» وإن أردت أن تعرف أنّ ذلك المنطلق هو زيد قلت: «المنطلق زيد». وكذا إذا عرف السامع إنسانا يسمى زيدا بعينه واسمه، وهو يعرف معنى جنس المنطلق وأردت أن تعرفه بأنّ زيدا متصف به فتقول: «زيد المنطلق» وإن أردت أن تعين عنده جنس المنطلق قلت: «المنطلق زيد» (¬1). وكان عبد القاهر الجرجانى من أحسن الذين ميزوا بين تعريف المسند وتنكيره (¬2) وقد أوضح الفروق بين هاتين الجملتين: ¬

_ (¬1) الإيضاح ص 98 - 98، وينظر شروح التلخيص ج 2 ص 93 وما بعدها. (¬2) ينظر دلائل الإعجاز ص 132 وما بعدها.

- زيد منطلق. - زيد المنطلق. وقال إنّ فى كل واحد من هذه الأحوال غرضا خاصا وفائدة لا تكون فى الباقى، فالعبارة الأولى «زيد منطلق» كان الكلام فيها مع من لم يعلم أنّ انطلاقا كان لا من «زيد» ولا من «عمرو» فهى تفيده ذلك ابتداء. والعبارة الثانية «زيد المنطلق» كان الكلام فيها مع من عرف أنّ انطلاقا كان إمّا من «زيد» وإمّا من «عمرو» فهى تعلمه أنّه كان من «زيد» دون غيره. والنكتة هنا هى أن يثبت المتكلم فى العبارة الأولى «زيد منطلق» فعلا لم يعلم السامع من أصله أنّه كان، ويثبت فى الثانى «زيد المنطلق» فعلا قد علم السامع به أنّه كان ولكنه لم يعلمه ل «زيد». ومن الفرق بين الجملتين أنّه إذا نكر الخبر جاز أن يؤتى بمبتدأ ثان على أن يشرك بحرف العطف فى المعنى الذى أخبر به عن الأول، وإذا عرّف الخبر- المسند- لم يجز؛ ولذلك يقال: «زيد منطلق وعمرو» أى: «وعمرو منطلق أيضا» ولا يصح «زيد المنطلق وعمرو» لأنّ المعنى مع التعريف على على إرادة إثبات انطلاق مخصوص قد كان من واحد، فاذا أثبت ل «زيد» لم يصح إثباته ل «عمرو». ثم إن كان ذلك الانطلاق من الاثنين وجب الجمع بينهما فى الخبر فيقال: «زيد وعمرو هما المنطلقان» لا أن يفرقا فيثبت أولا ل «زيد» ثم ل «عمرو» بعد ذلك. وربما كانت الألف واللام فى المسند على معنى الجنس ثم يكون لها فى ذلك وجوه: الأول: قصر جنس المعنى على المخبر للمبالغة مثل «زيد هو الجواد وعمرو هو الشجاع» أى: إنّه الكامل إلّا أنّ الكلام خرج فى صورة توهم أنّ الجود أو الشجاعة لم توجد إلّا فيه. ولا يجوز فى هذه الحالة العطف عليه للاشراك، ولو قيل «زيد هو الجواد وعمرو» كان خلفا من القول. الثانى: قصر جنس المعنى الذى يفاد بالخبر على المخبر عنه لا على معنى المبالغة وترك الاعتداد بوجوده فى غير المخبر عنه بل على دعوى أنّه لا يوجد

إلّا منه، ولا يكون ذلك إلّا إذا قيد المعنى بشئ يخصصه ويجعله فى حكم نوع برأسه، وذلك كنحو أن يقيد بالحال والوقت مثل: «هو الوفى حين لا تظن نفس بنفس خيرا». وهكذا إذا كان الخبر بمعنى يتعدى ثم اشترط له مفعول مخصوص كقول الأعشى: هو الواهب المائة المصطفا … ة إمّا مخاضا وإما عشارا فقد جعل الوفاء فى الوقت الذى لا يفى فيه أحد نوعا خاصا من الوفاء، وكذلك جعلت «هبة المائة من الإبل» نوعا خاصا، أى أنّ المقصور هو الوفاء فى هذا الوقت لا الوفاء مطلقا، وأنّ المقصور هبة المائة من الإبل فى إحدى الحالتين- إمّا مخاضا وإمّا عشارا- لاهبتها مطلقا ولا الهبة مطلقا. الثالث: أن لا يقصد قصر المعنى فى جنسه على المذكور كما فى الوجهين السابقين وإنما لغير ذلك، كما فى قول الخنساء: إذا قبح البكاء على قتيل … رأيت بكاءك الحسن الجميلا لم ترد الشاعرة أنّ ما عدا البكاء عليه فليس بحسن ولا جميل ولم تقيد الحسن بشئ فيتصور أن يقصر على البكاء كما قصر الأعشى «هبة المائة» على الممدوح، ولكنها أرادت أن تقره فى جنس ما حسنه الحسن الظاهر الذى لا ينكره أحد ولا يشك فيه شاكّ. ومثله قول حسان: وإنّ سنام المجد من آل هاشم … بنو بنت مخزوم ووالدك العبد أراد أن يثبت العبودية ثم يجعله ظاهرا لأمر فيها ومعروفا بها، ولو قال: «ووالدك عبد» لم يكن قد جعل حاله فى العبودية حالة ظاهرة متعارفة. وعلى ذلك قول الآخر: أسود إذا ما أبدت الحرب نابها … وفى سائر الدهر الغيوث المواطر ولتعريف المسند- الخبر- بالألف واللام نكات أخرى ذكرها عبد القاهر الجرجانى ومن ذلك أن يقال: «هو البطل المحامى وهو المتقى

التنكير

المرتجى» ولا يقصد بهذه الجملة شئ مما مضى، فهى لا تشير إلى معنى قد علم المخاطب أنه كان ولم يعلم أنّه ممن كان كما فى «زيد هو المنطلق»، ولا تريد قصر معنى عليه على معنى أنه لم يحصل لغيره على الكمال كما فى «زيد هو الشجاع»، ولا أن تدل على أنّه ظاهر بهذه الصفة كما فى «ووالدك العبد» وإنّما تريد أن تقول هذه العبارة للسامع: «هل سمعت بالبطل المحامى؟ وهل حصلت معنى هذه الصفة؟ وكيف ينبغى أن يكون الرجل حتى يستحق أن يقال ذلك له وفيه؟ فاذا كنت قتلته علما وتصورته حقّ تصوره فعليك صاحبك واشدد به يدك فهو ضالتك وعنده بغيتك». ويزداد هذا المعنى ظهورا بأن تكون الصفة التى يراد الإخبار بها عن المبتدأ مجراة على موصوف كقول ابن الرومى: هو الرجل المشروك فى جلّ ماله … ولكنه بالمجد والحمد مفرد وقول الآخر: أنا الرجل المدعوّ عاشق فقره … إذا لم تكارمنى صروف زمانى وفى هذه الدراسة تتضح قدرة عبد القاهر على التحليل وتؤكد أنّ لاختلاف الصيغ وللتعريف والتنكير دلالات لم تعن بها كتب النحو المتأخرة، ولا نجدها إلّا فى كتب البلاغة وفى مقدمتها «دلائل الإعجاز» وكان حقها أن تدرس فى كتب النحو لتفهم الأساليب العربية وتعرف المقاصد والأغراض. التنكير: للتنكير دلالة غير ما نراه فى التعريف، «وقد يظن ظان أنّ المعرفة أجلى فهى من النكرة أولى، ويخفى عليه أنّ الإبهام فى مواطن خليق وأنّ سلوك الايضاح ليس بسلوك للطريق خصوصا فى موارد الوعد والوعيد والمدح والذم اللذين من شأنهما التشييد. وعلة ذلك أن مطامح الفكر متعددة المصادر بتعدد الموارد، والنكرة متكثرة الأشخاص يتقاذف الذهن من مطالعها إلى مغاربها وينظرها بالبصيرة من منسمها إلى غاربها فيحصل فى النفس لها فخامة وتكتسى

تنكير المسند اليه

منها وسامة. وهذا فيما ليس لمفرده مقدار محصور بخلاف المعرفة فانّه لواحد بعينه يثبت الذهن عنده ويسكن إليه» (¬1)، فالتنكير يجئ لفائدة يقصر عن إفادتها العلم. [تنكير المسند اليه] وينكر المسند إليه لأغراض منها: - الإفراد: كقوله تعالى: «وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى (¬2)»، أى: فرد من أشخاص الرجال. - النوعية: كقوله تعالى: «وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ (¬3)»، أى: نوع من الأغطية، وهو غطاء التعامى عن آيات الله. - التعظيم: كقوله تعالى: «وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ (¬4)»، أى: حياة عظيمة. - التحقير: كقول الشاعر: له حاجب عن كلّ شئ يشينُه … وليس له عن طالب العرف حاجب فتنكير «حاجب» الأولى للتعظيم، وتنكير «حاجب» الثانية للتحقير، لأنّ مقام المدح يقتضى أنّ الحاجب- أى المانع- عن كل ما يشين- أى يعيب- الممدوح عظيم، والحاجب عن المعروف والإحسان ينسلب حقيره فمن باب أجرى عظيمه، وذلك لما فى معنى التنكير من الإيماء إلى أنّ هذا الأمر لا يعرف لبلوغه الدرجة العليا فى الرفعة أو فى الدقة فمن شأنه أن ينكر ولا يعرف لكونه لا يدرك. ومثال التعظيم والتحقير أيضا قول الشاعر: ولله منى جانب لا أضيعه … وللهو منى والخلاعة جانب ¬

_ (¬1) البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن ص 136. (¬2) القصص 20. (¬3) البقرة 7. (¬4) البقرة 179.

تنكير المسند

- التكثير: بمعنى أنّ ذلك الشئ كثير حتى أنّه لا يحتاج إلى تعريف، مثل: «إنّ له لمالا» وحمل الزمخشرى التنكير فى قوله تعالى: «قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً» (¬1) عليه. - التقليل: كقوله تعالى: «وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» (¬2) أى: رضوان قليل أكبر. - وقد يكون التنكير لمانع من التعريف، كقول الشاعر: إذا سئمت مهنده يمين … لطول الحمل بدّله شمالا فالشاعر لم يقل «يمينه» تحاشيا من نسبة السآمة إلى يمين الممدوح. - وقد يكون لقصد النكارة والجهل بالمسمى كقوله تعالى: «أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً» (¬3)، أى: منكورة مجهولة. - وقد يكون تنكيره لإخفاء الاسم أو الشئ لسبب من الأسباب كالخوف عليه أو الخوف منه أو صونا له. (¬4) [تنكير المسند] وينكر المسند لأغراض منها: - إرادة إفادة عدم الحصر والعهد: مثل «زيد كاتب وعمرو شاعر» حيث يراد إفادة الإخبار بمجرد الكتابة والشعر لا حصر الكتابة فى «زيد» والشعر فى «عمرو» ولا أحدهما معهودا. ¬

_ (¬1) الأعراف 113. (¬2) التوبة 72. (¬3) يوسف 9. (¬4) ينظر مفتاح العلوم ص 91، والإيضاح ص 45، وشروح التلخيص ج 1 ص 347.

- إرادة التفخيم والتعظيم، كقوله تعالى: «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» (¬1)، فالتنكير هنا جاء للدلالة على فخامة هداية الكتاب وكمالها. - إرادة التحقير: مثل: «الحاصل لى من هذا المال شئ»، أى: حقير (¬2). وفى هذه الأنواع وأمثلتها إيضاح لأسلوب التعريف والتنكير الذى هو فى أدق الأساليب لما فيه من معان تختلف باختلاف تعريفها باحدى الوسائل أو تنكيرها. ... ¬

_ (¬1) البقرة 2. (¬2) ينظر مفتاح العلوم ص 100، والإيضاح ص 97، وشروح التلخيص ج 2 ص 91.

الذكر والحذف

الذكر والحذف فى كتب النحو حديث عن الذكر والحذف ولكن النحاة يهتمون بالواجب منهما، ويشيرون إلى الجواز إشارة عابرة، وهو الأولى بالرعاية والاهتمام لأنّ فيه تتضح الأساليب وتظهر المواهب. وكان علماء البلاغة أحرص من غيرهم على هذه الجوانب فأولوها عناية كبيرة وأوضحوا ما فى الذكر والحذف من أغراض: [الذكر] الذكر: المسند إليه والمسند وغيرهما تذكر فى العبارة لسبب من الأسباب ومن أغراض ذكر المسند إليه: - أنّه الأصل ولا مقتضى للحذف، فاذا حذف ذهب المعنى. - ضعف التعويل على القرينة، وذلك إذا ذكر المسند إليه فى الكلام وطال عهد السامع به، أو ذكر معه كلام فى شأن غيره مما يوقع فى اللبس إن لم يذكر. - التنبيه على غباوة السامع حتى أنّه لا يفهم إلّا بالتصريح. - زيادة الإيضاح والتقرير: كقوله تعالى: «أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (¬1)، ففى تكرير اسم الاشارة زيادة إيضاح وتقرير لتميزهم على غيرهم. - إظهار التعظيم بالذكر: مثل: «القهار يصون عباده» لعظم هذا الاسم. أو إظهار الإهانة: مثل: «اللعين إبليس». - التبرك باسمه: مثل: «محمد رسول الله خير الخلق». - الاستلذاذ بذكره: مثل: «الله خالق كل شئ ورازق كل حى». ¬

_ (¬1) البقرة 5.

ذكر المسند

- بسط الكلام حيث يقصد الإصغاء: كقوله تعالى حكاية عن موسى- عليه السلام-: «هِيَ عَصايَ» (¬1)، ولذلك زاد على الجواب بقوله: «أتوكأ عليها». وذكر السكاكى أنّ المسند إليه يذكر لكون الخبر عام النسبة إلى كل مسند إليه (¬2)، كقول الشاعر: الله أنجح ما طلبت به … والبرّ خير حقيبة الرحل وقول أبى ذؤيب الهذلى: النفس راغبة إذا رغّبتها … وإذا تردّ إلى قليل تقنع ولكن القزوينى قال: «وفيه نظر، لأنّه إن قامت قرينة تدل عليه إن حذف فعموم الخبر وإرادة تخصيصه بمعين وحدهما لا يقتضيان ذكره وإلّا فيكون ذكره واجبا» (¬3). [ذكر المسند] أما ذكر المسند فللأسباب التى تقدمت فى المسند إليه كزيادة التقرير، والتعريض بغباوة السامع، والاستلذاذ، والتعظيم، والإهانة، وبسط الكلام. أو ليتعين كونه اسما فيستفاد منه الثبوت، أو كونه فعلا فيستفاد منه لتجدد، أو كونه ظرفا فيورث احتمال الثبوت والتجدد (¬4). الحذف: الحذف- لغة- الإسقاط، واصطلاحا إسقاط بعض الكلام أو كله لدليل (¬5) والحذف عند البديعيين غير ما نراه عند علماء المعانى، فهو «أن يحذف المتكلم ¬

_ (¬1) طه 18. (¬2) مفتاح العلوم ص 85. (¬3) الإيضاح ص 34، وينظر شروح التلخيص ج 1 ص 282 وما بعدها. (¬4) مفتاح العلوم ص 99، والإيضاح ص 86، وشروح التلخيص ج 2 ص 19. (¬5) البرهان فى علوم القرآن ج 3 ص 102.

من كلامه حرفا من حروف الهجاء أو جميع الحروف المهملة بشرط عدم التكلف والتعسف (¬1)»، وهذا لون من ألوان البديع. واختلفوا فى الحذف هل هو مجاز؟ ويرى الزركشى أنّه «إن أريد بالمجاز استعمال اللفظ فى غير موضعه فالمحذوف ليس كذلك لعدم استعماله، وإن أريد بالمجاز إسناد الفعل إلى غيره- وهو المجاز العقلى- فالحذف كذلك» (¬2). وكان عبد القاهر قد أبدع فى تحليل الجملة وإظهار ما فيها من حذف أو ذكر، وعقد فصلا فى الحذف قال فيه: «هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فانك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للافادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن. وهذه جملة قد تنكرها حتى تخبر وتدفعها حتى تنظر» (¬3). ولا يجوز حذف المسند إليه إلّا إذا دل عليه دليل من اللفظ أو الحال، ويترجح حذفه إذا كان مبتدأ لدواع منها: - الاحتراز عن العبث بترك ما لا ضرورة لذكره، وذلك يكسب الكلام قوة وجمالا. ويكثر هذا الحذف فى جواب الاستفهام كقوله تعالى: «وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ. نارٌ حامِيَةٌ» (¬4) أى: هى نار حامية. وبعد الفاء المقترنة بالجمل الاسمية الواقعة جوابا للشرط كقوله تعالى: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها» (¬5) أى: فعمله لنفسه وإساءتها عليها. ¬

_ (¬1) خزانة الأدب للحموى ص 439. (¬2) البرهان فى علوم القرآن ج 3 ص 104. (¬3) دلائل الإعجاز ص 112. (¬4) القارعة 10 - 11. (¬5) فصلت 46.

وبعد القول، كقوله تعالى: «وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» (¬1) أى: قالوا القرآن أساطير. ومن المواضع التى يطرد فيها حذف المبتدأ القطع والاستئناف، وذلك حين يبدأ المتكلم بذكر شئ ويقدم بعض أمره ثم يدع الكلام الأول ويستأنف كلاما آخر، وهو حين يفعل ذلك يأتى فى أكثر الأمر بخبر من غير مبتدأ (¬2) ومن ذلك قول الشاعر: وعلمت أنّى يوم ذا … ك منازل كعبا ونهدا قوم إذا لبسوا الحدي … د تنمّروا حلقا وقدّا (¬3) وقول الآخر: هم حلّوا من الشرف المعلّى … ومن حسب العشيرة حيث شاءوا بناة مكارم وأساة كلم … دماؤهم من الكلب الشفاء ومنه: سأشكر عمرا إن تراخت منيتى … أيادى لم تمنن وإن هى حلّت فتى غير محجوب الغنى عن صديقه … ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلّت ومنه قول جميل بثينة: وهل بثينة يا للناس قاضيتى … دينى وفاعلة خيرا فأجزيها ترنو بعينى مهاة أقصدت بهما … قلبى عشية ترمينى وأرميها هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة … ريا العظام بلين العيش غاذيها ¬

_ (¬1) الفرقان 5. (¬2) ينظر دلائل الإعجاز ص 113. (¬3) تنمر: تشبه بالنمر: القد: الجلد وتصنع منه الدروع.

وقول الأقيشر فى ابن عم له موسر سأله فمنعه: سريع إلى ابن العم يلطم وجهه … وليس إلى داعى النّدى بسريع حريص على الدنيا مضيع لدينه … وليس لما فى بيته بمضيع قال عبد القاهر معلقا على هذه الأبيات: «فتأمل الآن هذه الأبيات كلها واستقرها واحدا واحدا وانظر إلى موقعها فى نفسك وإلى ما تجده من اللطف والظرف إذا أنت مررت بموضع الحذف منها ثم قلبت النفس عما تجد وألطفت النظر فيما تحس به. ثم تكلف أن تردّ ما حذف الشاعر وأن تخرجه إلى لفظك وتوقعه فى سمعك فانك تعلم أنّ الذى قلت كما قلت، وأن ربّ حذف هو قلادة الجيد وقاعدة التجويد» (¬1). - ضيق المقام عن إطالة الكلام: وذلك للتوجع كقول الشاعر: قال لى: كيف أنت؟ قلت عليل … سهر دائم وحزن طويل أى: أنا عليل. أو للخوف من فوات الفرصة مثل: «حريق» أى: هذه حريق. - تيسير الإنكار عند الحاجة: مثاله أن يذكر شخص فتقول «فاسق» ثم تخشى من غائلة ذلك فتنكره، فلو قلت: «زيد فاسق» لقامت البينة ولم تستطع الإنكار. - تعجيل المسرة بالمسند: مثل: «أخى»، أى: هذا أخى. - تكثير الفائدة: كقوله تعالى: «قالَ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ» (¬2)، أى، فأمرى صبر جميل، أو فصبرى صبر جميل. ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز ص 116. (¬2) يوسف 18.

وإذا كان المسند إليه فاعلا فانه يترجح حذفه حينما لا يحقق ذكره غرضا معينا فى الكلام كقوله تعالى: «وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ» (¬1) أى: بمثل ما عاقبكم المعتدى به. أو للمحافظة على السجع فى النثر، وعلى الوزن فى الشعر، أو أنّ الفاعل معلوم كقوله تعالى: «وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً» (¬2)، أى خلق الله الإنسان. ويحذف للجهل به، أو للتحقير، أو الخوف منه، أو عليه، وغير ذلك من الدواعى والأسباب التى يقتضيها المقام (¬3). ولا يجوز حذف المسند إلّا إذا دل عليه دليل، ويترجح حذفه إذا كان خبرا لدواع منها: - الاحتراز عن العبث بعدم ذكر ما لا ضرورة لذكره، إمّا مع ضيق المقام من وزن أو غيره كقول الشاعر: ومن يك أمسى بالمدينة رحله … فانى وقيّار بها لغريب (¬4) أى: وقيار كذلك. وقول قيس بن الخطيم: نحن بما عندنا وأنت بما عن … دك راض والرأى مختلف أى: نحن بما عندنا راضون. وأما بدون التضييق كقوله تعالى: «وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ» (¬5) أى: والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك. ¬

_ (¬1) النحل 126. (¬2) النساء 28. (¬3) ينظر مفتاح العلوم ص 84، والإيضاح ص 31، وشروح التلخيص ج 1 ص 273. (¬4) قيار: اسم فرس الشاعر أو جمله. (¬5) التوبة 62.

قرينته

ويكثر حذف المسند لهذا السبب إذا كانت الجملة جوابا عن استفهام علم منه الخبر، مثل: «أبى» جوابا لمن سألك: «من فى الدار؟» أو إذا كانت الجملة بعد «إذا» الفجائية مثل: «خرجت فاذا محمد» ويحتمل أن يكون الخبر «بالباب» أو «حاضر». أو كانت الجملة معطوفة على جملة اسمية والمبتدآن مشتركان فى الحكم مثل: «أنت مسافر وأخوك» أى: وأخوك مسافر أيضا. ومنه قوله تعالى: «أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها» (¬1) أى: وظلها دائم كذلك. - تكثير الفائدة: ومنه قوله تعالى: «بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ» (¬2) فقوله: «فصبر جميل» يحتمل أن يكون من حذف المسند إليه أو المسند، فاذا حذف المسند إليه كان التقدير: «فأمرى صبر جميل» وإذا حذف المسند كان التقدير: «فصبر جميل أجمل». ويترجح حذف المسند إذا كان فعلا للدواعى التى تقدمت، ومن ذلك قوله تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» (¬3) أى: خلقهن الله. (¬4) [قرينته] ولا بدّ لحذف المسند من قرينة تميزه، والقرينة إما: - سؤال محقق، أى واقع، كقوله تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» (¬5) تقديره: خلقهن الله. والمعنى: يتحقق السؤال ههنا تحققه قبل الجواب لا إنّه محقق الوقوع عند نزول الآية لأنّ فعل الشرط مستقبل المعنى، بل الاقتصار على لفظ الجلالة الكريمة يستدعى تقدم سؤال استغنى به عن ذكر «خلقهن». ¬

_ (¬1) الرعد 35. (¬2) يوسف 18. (¬3) لقمان 25. (¬4) ينظر مفتاح العلوم ص 84 وص 108 والإيضاح ص 80، وشروح التلخيص ج 2 ص 2 وما بعدها. (¬5) لقمان 25.

حذف المفعول

- أو سؤال مقدر، أى غير منطوق به كقول الشاعر: ليبك يزيدا ضارع لخصومة … ومختبط مما تطيح الطوائح (¬1) فانه لما قال «ليبك يزيد» كأنّ سائلا سأله من يبكيه؟ فقال: ضارع. أى: يبكيه ضارع. ومنهم من قدر المحذوف «الباكى» فيكون المحذوف المسند إليه (¬2) [حذف المفعول] ويحذف المفعول به فى الجملة وقد قال عبد القاهر إنّ الحاجة إلى حذفه أمسّ وإنّ اللطائف فيه أكثر (¬3)، ويكون ذلك لأغراض بلاغية منها: [اغراضه] - البيان بعد الإبهام: كما فى فعل المشيئة إذا لم يكن فى تعلقه بمحذوفه غرابة، مثل: «لو شئت جئت أو لم أجئ» أى: لو شئت المجئ أو عدم المجئ. فعند النطق ب «لو شئت» علم السامع أنك علقت المشيئة بشئ فيقع فى نفسه أنّ هنا شيئا تعلقت به مشيئتك بأن يكون أو لا يكون فاذا قلت: «جئت» أو «لم أجئ» عرف ذلك الشئ. ومنه قوله تعالى: «فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ» (¬4)، وقوله: «فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ» (¬5)، وقوله: «مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ» (¬6). ومنه قول البحترى: لو شئت عدت بلاد نجد عودة … فحللت بين عقيقه وزروده (¬7) ¬

_ (¬1) المختبط: هو الذى يأتى للمعروف من غير وسيلة. الإطاحة: الإذهاب والإهلاك، والطوائح: جمع مطيحة على غير القياس كلواقح جمع ملقحة. (¬2) ينظر شروح التلخيص ج 2 ص 13. (¬3) دلائل الإعجاز ص 117. (¬4) الأنعام 149. (¬5) الشورى 24. (¬6) الأنعام 39. (¬7) العقيق وزرود: موضعان.

ومنه: ولو شئت أن أبكى دما لبكيته … عليك ولكن ساحة الصّبر أوسع - دفع ما يوهم فى أول الأمر إرادة شئ غير المراد: كقول البحترى: وكم ذدت عنى من تحامل حادث … وسورة أيام حززن إلى العظم (¬1) ولو قال: «حززن اللحم» لجاز أن يتوهم السامع قبل ذكر ما بعده أنّ الحزّ كان فى بعض اللحم ولم ينته إلى العظم فترك ذكر اللحم ليبرئ السامع من هذا الوهم ويصور فى نفسه من أول الأمر أنّ الحزّ مضى فى اللحم حتى لم يرده إلا العظم. - تضمن إيقاع الفعل على صريح لفظه إظهارا لكمال العناية بوقوعه عليه كقول البحترى: قد طلبنا فلم نجد لك فى السّؤ … دد والمجد والمكارم مثلا أى: قد طلبنا لك مثلا فى السؤدد والمجد والمكارم. - القصد إلى التعميم فى المفعول والامتناع أن يقصره السامع على ما يذكر معه دون غيره مع الاختصار: كقوله تعالى: «وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ» (¬2)، أى: يدعو كل أحد. - رعاية الفاصلة: كقوله تعالى: «وَالضُّحى. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى. ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى» (¬3)، أى: وما قلاك. - استهجان ذكره: ومنه ما روى عن عائشة- رضى الله عنها- أنها قالت: «ما رأيت منه ولا رأى منى»، تعنى العورة. - الاختصار: كقوله تعالى: «أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ (¬4)»، أى: أرنى ذاتك (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الأيام: شدتها وصولتها. (¬2) يونس 25. (¬3) الضحى 1 - 3. (¬4) الأعراف 143. (¬5) ينظر دلائل الإعجاز ص 118، ونهاية الإيجاز ص 139، ومفتاح للعلوم ص 109، والإيضاح ص 105، وشروح التلخيص ج ص 131.

التقديم والتأخير

التقديم والتأخير وهذا الباب تتبارى فيه الأساليب وتظهر المواهب والقدرات، وهو دلالة على التمكن فى الفصاحة وحسن التصرف فى الكلام ووضعه الوضع الذى يقتضيه المعنى. يقول الزركشى: «هو أحد أساليب البلاغة، فانهم أتوا به دلالة على تمكنهم فى الفصاحة وملكتهم فى الكلام وانقياده لهم، وله فى القلوب أحسن موقع وأعذب مذاق» (¬1) واختلفوا فى عده من المجاز، فمنهم من عده منه لأن تقديم ما رتبته التأخير كالمفعول وتأخير ما رتبته التقديم كالفاعل، نقل كل واحد منهما عن رتبته وحقه. وقال الزركشى: «والصحيح أنه ليس منه، فان المجاز نقل ما وضع له إلى ما لم يوضع» (¬2). [احوال المعاني] والمعانى لها فى التقديم خمسة أحوال: الأولى: تقدم العلة على معلولها عند القائلين بها كتقدم الكون على الكائنية والعلم على العالمية. الثانية: التقدم بالذات، كتقدم الواحد على الاثنين، على معنى أن الوحدة لا يمكن تحقق الاثنينية إلا بعد سبقها. الثالثة: التقدم بالشرف كتقدم الأنبياء على الأتباع والعلماء على الجهال. الرابعة: التقدم بالمكان كتقدم الإمام على المأموم وتقدم من يقرب إلى الحائط دون من تأخر عنه. الخامسة: التقدم بالزمان، كتقدم الشيخ على الشباب والأب على الابن. (¬3) ¬

_ (¬1) البرهان فى علوم القرآن ج 3 ص 233. (¬2) البرهان ج 3 ص 233، وينظر الفوائد ص 82. (¬3) الطراز ج 2 ص 56.

وجها التقديم

وهذه المعانى ثابتة معروفة عقلا، ولذلك لا يقع فيها تفاوت أو تفنن فى التعبير. [وجها التقديم] وتقديم الشئ على وجهين: الأول: تقديم على نية التأخير، وذلك فى كل شئ أقر مع التقديم على حكمه الذى كان عليه وفى جنسه الذى كان فيه، كخبر المبتدأ إذا قدّم على المبتدأ، والمفعول إذا قدم على الفاعل. والتقديم لا يخرج الخبر أو المفعول عما كانا عليه قبل التقديم. الثانى: تقديم لا على نية التأخير، ولكن على أن ينقل الشئ عن حكم إلى حكم ويجعل بابا غير بابه وإعرابه غير إعرابه، وذلك أن يعمد إلى اسمين يحتمل كل واحد منهما أن يكون مبتدأ ويكون الآخر خبرا له فيقدم هذا تارة على ذاك وأخرى ذاك على هذا. ومثاله: «زيد المنطلق» و «المنطلق زيد» فالتقديم والتأخير يؤثران فى معنى الجملة، لأنّ ما يقدم هو المبتدأ أو المسند إليه وما يؤخر هو الخبر أو المسند، وكذلك «ضربت محمدا» و «محمد ضربته» ف «محمد» فى الجملة الأولى مفعول به، وفى الثانية «مبتدأ». وهذا يختلف عن النوع الأول الذى لا يتغير فيه حكم المتقدم أو المتأخر، ففى «منطلق زيد» و «زيد منطلق» ظل «زيد» مسندا إليه و «منطلق» مسندا، وفى «ضرب زيد عمرا» و «ضرب عمرا زيد» بقى «زيد» مسندا إليه- فاعلا- و «عمرو» مفعولا به. (¬1) [تقديم المسند اليه] وباب التقديم والتأخير واسع لأنّه يشمل كثيرا من أجزاء الكلام، فالمسند إليه يقدم لأغراض بلاغية منها: - أنّه الأصل ولا مقتضى للعدول عنه كتقديم الفاعل على المفعول، والمبتدأ على الخبر، وصاحب الحال عليها. ¬

_ (¬1) ينظر تفصيل ذلك فى دلائل الإعجاز ص 83 وما بعدها.

- أن يتمكن الخبر فى ذهن السامع لأنّ فى المبتدأ تشويقا إليه، كقول المعرى: والذى حارت البرية فيه … حيوان مستحدث من جماد - أن يقصد تعجيل المسرة إن كان فى ذكر المسند إليه تفاؤل مثل: «سعد فى دارك» أو المساءة إن كان فيه ما يتطير به مثل «السفاح فى دار صديقك». - إيهام أنّ المسند إليه لا يزول عن الخاطر مثل: «الله ربى». - إيهام التلذذ بذكره، كقول الشاعر: بالله يا ظبيات القاع قلن لنا … ليلاى منكنّ أم ليلى من البشر - تخصيص المسند إليه بالخبر الفعلى إن ولى حرف النفى مثل: «ما أنا قلت هذا»، وقول المتنبى: وما أنا أسقمت جسمى به … ولا أنا أضرمت فى القلب نارا - تقوية الحكم وتقريره: كقوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ» (¬1) ومما يدخل فى هذا الحكم تقديم «مثل» و «غير»، وقد قال عبد القاهر: ومما يرى تقديم الاسم فيه كاللازم «مثل» و «غير» فى نحو قوله: مثلك يثنى المزن عن صوبه … ويستردّ الدمع عن غربه وكذلك حكم «غير» إذا سلك به هذا المسلك» (¬2)، ومنه قول المتنبى: غيرى بأكثر هذا الناس ينخدع … إن قاتلوا جبنوا أو حدثوا شجعوا وقال القزوينى: «واستعمال «مثل» و «غير» هكذا مركوز فى الطباع وإذا تصفحت الكلام وجدتهما يقدمان أبدا على الفعل إذا نحى بهما نحو ما ذكرناه ¬

_ (¬1) المؤمنون 59. (¬2) دلائل الإعجاز، ص 106.

تقديم المسند

ولا يستقيم المعنى فيهما إذا لم يقدما. والسر فى ذلك أنّ تقديمهما يفيد تقوى الحكم» (¬1). - إفادة العموم: مثل: «كل إنسان لم يقم» فيقدم ليفيد نفى القيام عن كل واحد من الناس. (¬2) [تقديم المسند] ويقدم المسند لأغراض منها: - تخصيص المسند بالمسند إليه: كقوله تعالى: «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» (¬3) وقوله: «لَكُمْ دِينُكُمْ* وَلِيَ دِينِ. (¬4) - التنبيه من أول الأمر على أنّه خبر لانعت، كقول حسان بن ثابت يمدح النبى- صلى الله عليه وسلم-: له همم لا منتهى لكبارها … وهمّته الصّغرى أجلّ من الدهر له راحة لو أنّ معشار جودها … على البرّ كان البرّ أندى من البحر - التفاؤل بتقديم ما يسر: مثل: «عليه من الرحمن ما يستحقه». - التشويق إلى ذكر المسند إليه: كقول محمد بن وهيب: ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها … شمس الضحى وأبو إسحق والقمر وقول المعرى: وكالنار الحياة فمن رماد … أواخرها، وأولها دخان (¬5) ¬

_ (¬1) الإيضاح، ص 64. (¬2) ينظر مفتاح العلوم، ص 93، والإيضاح ص 52، وشروح التلخيص ج 1، ص 389. (¬3) آل عمران 189. (¬4) الكافرون 6. (¬5) مفتاح العلوم، ص 105، والإيضاح ص 101، وشرح التلخيص ج 2، ص 109.

انواع من التقديم

ومن التقديم: تقديم تعلقات الفعل عليه كالمفعول والجار والمجرور والحال، ويكون ذلك لأغراض منها: [انواع من التقديم] - الاختصاص: كقوله تعالى: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» (¬1) - الاهتمام بالمتقدم: كقوله تعالى: «قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ» (¬2) - التبرك: مثل «قرآنا قرأت». - ضرورة الشعر، وهو كثير لا يحصره حدّ. - رعاية الفاصلة: كقوله تعالى: «فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ. وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ» (¬3) وهذه الأغراض كثيرة، وقد ذكر الزمخشرى أنّ تقديم هذه الأنواع للاختصاص، غير أن ابن الأثير يرجع ذلك إلى وجهين: الأول: الاختصاص، كقوله تعالى: «قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ. وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ. بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ» (¬4) فانه إنما قيل «بل الله فاعبد» ولم يقل «بل اعبد الله» لأنه إذا تقدم وجب اختصاص العبادة به دون غيره، ولو قال «بل اعبد» لجاز إيقاع الفعل على أى مفعول شاء. الثانى: يختص بنظم الكلام، كقوله تعالى: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» وقد ذكر الزمخشرى فى تفسيره أنّ التقديم فى هذا الموضع قصد به الاختصاص وليس كذلك فانّه لم يقدم المفعول فيه على الفعل للاختصاص، وإنّما قدّم ¬

_ (¬1) الفاتحة 5. (¬2) الإنعام 164. (¬3) الضحى 9 - 10. (¬4) الزمر 64 - 66.

لمكان نظم الكلام، لأنه لو قال: نعبدك ونستعينك لم يكن له من الحسن ما لقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. ألا ترى أنّه تقدّم قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» (¬1)، فجاء بعد ذلك قوله: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» وذاك لمراعاة حسن النظام السجعى الذى هو على حرف النون، ولو قال «نعبدك ونستعينك» لذهبت تلك الطلاوة وزال ذلك الحسن، وهذا غير خاف على أحد من الناس فضلا عن أرباب علم البيان» (¬2). وهناك أنواع كثيرة من التقديم لا ترجع إلى المسند إليه والمسند ولا إلى متعلقات الفعل عليه وإنما ترجع إلى أمور كثيرة، بحثها الزركشى (¬3) فى أنواع التقديم والتأخير، وقسمها إلى ما قدم والمعنى عليه، وما قدم والنية به التأخير، والقسم الأول واسع فسيح ومقتضياته كثيرة ذكر منها خمسة وعشرين لونا، وأهمها: - السبق: كقوله تعالى: «وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى» (¬4). - الذات: كقوله تعالى: «ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ، وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ» (¬5). - العلة والسببية: كقوله تعالى: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» (¬6) لأن العبادة سبب حصول الإعانة. - المرتبة: كقوله تعالى: «غَفُورٌ رَحِيمٌ» (¬7)، لأنّ المغفرة سلامة والرحمة غنيمة، والسلامة مطلوبة قبل الغنيمة. ¬

_ (¬1) الفاتحة 2 - 4. (¬2) المثل السائر ج 2 ص 39، وينظر الطراز ج 2 ص 66. (¬3) البرهان فى علوم القرآن ج 3 ص 239. (¬4) الأحزاب 7. (¬5) المجادلة 7. (¬6) الفاتحة 5. (¬7) البقرة 173، وآيات كثيرة.

- التعظيم: كقوله تعالى: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ» (¬1). - الغلبة والكثرة: كقوله تعالى: «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ» (¬2) - الاهتمام عند المخاطب: كقوله تعالى: «فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها» (¬3) - مراعاة الافراد: كقوله تعالى: «الْمالُ وَالْبَنُونَ» (¬4)، فان المفرد سابق على الجمع. - قصد الترتيب. - خفة اللفظ. - رعاية الفاصلة: كقوله تعالى: «خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ» (¬5). وهذه الأنواع التى ذكرها الزركشى لم يتطرق لها البلاغيون إلّا من خلال الجملة، ولذلك كانت دراستهم لها قاصرة، أما الذين عنوا بأسلوب القرآن الكريم فقد تجاوزوا هذه المرحلة ونظروا إلى التقديم والتأخير نظرة أوسع وأكثر عمقا فجاءت مادتهم أغزر ودراساتهم أخصب، ولا يكاد يستثنى من ذلك إلّا عبد القاهر الذى أبدع فى تحليل الأساليب البلاغية، ونقل النحو من الإعراب والبناء إلى المعانى التى تحتملها العبارات، وكانت نظريته فى «النظم» من أحسن ما عرف النقد القديم. ¬

_ (¬1) النساء 69. (¬2) فاطر 32. (¬3) النساء 86. (¬4) الكهف 46. (¬5) الحاقة 30 - 31.

ومن أمثلة تحليله للتقديم والتأخير قوله فى النكرة إذا قدمت على الفعل أو قدم الفعل عليها: «إذا قلت: «أجاءك رجل؟» فأنت تريد أن تسأله: هل كان مجئ من أحد من الرجال إليه. فان قدمت الاسم فقلت: «أرجل جاءك؟» فأنت تسأله على جنس ما جاءه أرجل هو أم امرأة؟ ويكون هذا منك إذا كنت علمت أنّه قد أتاه آت ولكنك لم تعلم جنس ذلك الآتى، فسبيلك فى ذلك سبيلك إذا أردت أن تعرف عين الآتى فقلت: «أزيد جاءك أم عمرو؟» ولا يجوز تقديم الاسم فى المسألة الأولى، لأنّ تقديم الاسم يكون إذا كان السؤال عن الفاعل، والسؤال عن الفاعل يكون إمّا عن عينه أو عن جنسه ولا ثالث. وإذا كان كذلك كان محالا أن تقدم الاسم النكرة وأنت لا تريد السؤال عن الجنس لأنّه لا يكون لسؤالك حينئذ متعلق من حيث لا يبقى بعد الجنس إلا العين. والنكرة لا تدل على عين شئ فيسأل بها عنه. فان قلت: «أرجل طويل جاءك أم قصير؟» كان السؤال عن أن الجائى من جنس طوال الرجال أم قصارهم؟ فان وصفت النكرة بالجملة فقلت: أرجل كنت عرفته من قبل أعطاك هذا أم رجل لم تعرفه؟ كان السؤال عن المعطى أكان ممن عرفه قبل أم كان إنسانا لم تتقدم منه معرفة. وإذ قد عرفت الحكم فى الابتداء بالنكرة فى الاستفهام فابن الخبر عليه فاذا قلت: «رجل جاءنى» لم يصلح حتى تريد أن تعلمه أنّ الذى جاءك رجل لا امرأة، ويكون كلامك مع من قد عرف أن قد أتاك آت. فان لم ترد ذاك كان الواجب أن تقول: «جاءنى رجل» فتقدم الفعل (¬1). وهذه قيمة التقديم والتأخير فى اللغة العربية، وليس من العبث أن يشغل البلاغيون- وعلى رأسهم عبد القاهر- أنفسهم بهذه المسألة أو غيرها من المسائل الأخرى المتصلة بالأساليب لولا أنّ لكل تعبير معناه، ولكل وضع هدفه ومغزاه. وفى ذلك اتساع فى القول وقدرة على التعبير. ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز ص 109 - 110.

القصر

القصر تعريفه: القصر- فى اللغة- الحبس، قال تعالى: «حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ» (¬1) أى: محبوسة فيها. وأمّا معناه فى الاصطلاح فهو تخصيص شئ بشئ بطريق مخصوص. وذلك كتخصيص المبتدأ بالخبر بطريق النفى فى قوله تعالى: «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» (¬2)، وتخصيص الخبر بالمبتدأ مثل: «ما شاعر إلّا المتنبى». طرفاه: وللقصر طرفان: - المقصور، وهو الشئ المخصص. - المقصور عليه، وهو الشئ المخصص به. ففى الآية السابقة «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» خصصنا الغرور بمتاع الدنيا، وفى «لا يَعْلَمُ .... ... الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ» خصصنا علم الغيب بالله تعالى. ف «الحياة الدنيا» مقصور عليه، و «الغرور» مقصور، و «عِلْمُ الْغَيْبِ» مقصور ولفظ الجلالة مقصور عليه. ويقع القصربين: - المبتدأ والخبر: كقوله تعالى: «وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ» (¬3). و «ما أديب إلّا علىّ». - بين الفعل والفاعل مثل: «لا ينجح إلّا محمد»، و «ما قام إلّا أنا». ¬

_ (¬1) الرحمن 72. (¬2) الحديد 20. (¬3) آل عمران 144.

أنواعه

- بين الفاعل والمفعول مثل: «ما شاهد خالد إلّا الحديقة»، فى قصر الفاعل على المفعول، أما قصر المفعول على الفاعل فمثل: «ما شاهد الحديقة إلّا خالد». - بين المفعولين مثل: ما أعطيت محمدا إلّا كتابا» فى قصر المفعول الأول على الثانى، أمّا قصر المفعول الثانى على الأول فمثل «ما أعطيت كتابا إلّا محمدا». - بين الحال وصاحبها، مثل: «ما جاء راكضا إلّا محمد» فى قصر الحال على صاحبها، أما قصر صاحب الحال عليها فمثل: «ما جاء محمد إلّا راكضا» ومثل ذلك كل متعلقات الفعل، فان القصر يجرى فيها ما عدا اثنين: الأول: المصدر المؤكد، فلا يقع القصر بينه وبين الفعل ولذلك لا يجوز أن نقول: «ما ضربت إلّا ضربا»، وأما قوله تعالى: «إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا» (¬1) فتقديره: ظنا ضعيفا. الثانى: المفعول معه، فانه لا يجئ بعد «إلا»، ولذلك لا يقال: «ما سرت إلّا والحائط». أنواعه: وينقسم القصر بحسب الحقيقة والإضافة إلى: - قصر حقيقى: وهو أن يختص المقصور بالمقصور عليه بحسب الحقيقة لا يتعداه إلى غيره أصلا، كقوله تعالى: «إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ» (¬2) فالتذكر صفة لا تتجاوز إلى غيرهم من سائر الناس فى الحقيقة والواقع. ومنه: «ما خاتم الأنبياء والرسل إلّا محمد» فخاتم الأنبياء والرسل وهو المقصور مختص بمحمد- صلى الله عليه وسلم- وهو المقصور عليه لا يتجاوزه إلى غيره. ¬

_ (¬1) الجاثية 32. (¬2) الرعد 19.

- قصر إضافى: وهو غير الحقيقى وذلك بأن يكون القصر فيه بالإضافة إلى شئ مخصوص لا إلى جميع ما عدا المقصور عليه. ومنه قوله تعالى: «وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ» (¬1)، ف «محمد» مقصور على الرسالة بالإضافة إلى شئ آخر، وليس المقصود أنّ الرسالة مختصة به وحده. ومنه قولنا: «ما محمد إلّا كاتب» فليس المقصود أنّ محمدا مقصور على الكتابة وحدها بحيث لا يتعداها إلى شئ آخر، لأن الحقيقة والواقع خلاف ذلك، وإنّما المقصود أنّه مقصور على الكتابة بالإضافة إلى شئ آخر معين كالشعر أو الرسم أو غيرهما. وينقسم القصر باعتبار طرفيه: المقصور والمقصور عليه إلى: - قصر موصوف على صفة: كقوله تعالى: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى (¬2)»، فقد قصرت العبادة على التقريب قصر موصوف على صفة. - قصر صفة على موصوف: مثل: «ما فى الدار إلّا محمد» فقد قصر الوجود فى الدار على «محمد» قصر صفة على موصوف. والمراد بالصفة فى أسلوب القصر الصفة المعنوية لا النعت الذى بذكره النحاة، لأنّ الاستثناء لا يقع بين الصفة والموصوف. وينقسم القصر بحسب الحقيقة والادعاء إلى: - قصر حقيقى على سبيل الحقيقة. - قصر إضافى على سبيل الحقيقة. وهذا النوعان هما اللذان يقصدان عند إطلاق القصر الحقيقى والقصر الإضافى كما سبق. ¬

_ (¬1) آل عمران 144. (¬2) الزمر.

- قصر حقيقى على سبيل الادعاء والمبالغة: ومثال قصر الصفة على الموصوف: «لا شاعر فى العرب إلّا المتنبى» إذا كان هناك فى العالم شعراء غير المتنبى ولكن لا نريد الاعتراف بهم مبالغة فى إضفاء الشاعرية على المتنبى. ومثال قصر الموصوف على الصفة: «ما حاتم إلّا جواد» أى أنّ حاتما لا يتصف بغير الجود من الصفات مبالغة فى كمال الجود فيه. - قصر إضافى على سبيل الادعاء والمبالغة: ومثال قصر الصفة على الموصوف: «ما عالم إلّا محمد» وذلك إذا أريد قصر العلم على محمد بالنسبة إلى خالد إذا كان عالما أيضا. ومثال قصر الموصوف على الصفة: «ما محمد إلّا كاتب» إذا قصر «محمد» على الكتابة بالنسبة إلى صفة الشعر أو الرسم، ويراد بذلك انتفاء صفة الشعر أو الرسم منه. وينقسم القصر الإضافى فقط بحسب حال المخاطب إلى ثلاثة أقسام: - قصر إفراد: وذلك إذا اعتقد المخاطب الشركة فى الحكم بين المقصور عليه وغيره. - قصر قلب: وذلك إذا اعتقد المخاطب عكس الحكم الذى يثبت بالقصر. - قصر تعيين: وذلك إذا كان المخاطب مترددا فى الحكم بين المقصور عليه وغيره. فاذا قيل فى قصر الصفة على الموصوف: «الأديب محمد لا خالد» وكان المخاطب يعتقد اشتراك محمد وخالد فى صفة الأدب كان القصر قصر إفراد. وإذا كان المخاطب يعتقد غير ذلك كان القصر قصر قلب. وإذا كان المخاطب مترددا لا يدرى أيهما الأديب كان القصر قصر تعيين. وإذا قيل فى قصر الموصوف على الصفة: «ما محمد إلّا مدرس» وكان المخاطب يعتقد اتصاف محمد بمهنة التدريس والإدارة كان القصر قصر إفراد.

شروطه

وإذا كان المخاطب يعتقد اتصاف محمد بالتدريس لا بالادارة كان القصر قصر قلب. وإذا كان المخاطب مترددا لا يدرى أى الصفتين هى صفة محمد كان القصر قصر تعيين. ولا يجرى هذا التقسيم فى القصر الحقيقى، لأنّ القصر فى ذلك النوع قصر بالنسبة إلى ما عدا المقصور عليه على الإطلاق فلا يمكن أن يتصور فى الشركة أو العكس أو التردد على ما نراه فى القصر الإضافى الذى يجرى فيه القصر بالنسبة إلى شئ محدود. شروطه: وشروط قصر الموصوف على الصفة إفرادا عدم تنافى الصفتين حتى تكون المنفية فى قولنا: «ما زيد إلّا شاعر» كونه كاتبا، لا كونه مفحما لا يقول الشعر ليتصور اعتقاد المخاطب اجتماعهما. وشرط قصره قلبا تحقق تنافيهما حتى تكون المنفية فى قولنا «ما زيد إلّا قائم» كونه قاعدا أو جالسا، لا كونه أسود أو أبيض، ليكون إثباتها مشعرا بانتفاء غيرها. وقصر التعيين أعم، لأنّ اعتقاد كون الشئ موصوفا بأحد أمرين معينين على الإطلاق لا يقتضى جواز اتصافه بهما معا ولا امتناعه. وبهذا علم أنّ كل ما يصلح أن يكون مثالا لقصر الإفراد أو قصر القلب يصلح أن يكون مثالا لقصر التعيين من غير عكس. طرقه: أهم طرق القصر أربعة: - النفى والاستثناء: ويكون المقصور عليه فى هذه الطريق بعد أداة الاستثناء، كقوله تعالى: «وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ

قَبْلِهِ الرُّسُلُ» (¬1)، وقوله: «وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ» (¬2) أى: لستم فى دعواكم للرسالة عندنا بين الصدق والكذب كما يكون ظاهر حال المدعى إذا ادعى بل أنتم عندنا كاذبون فيها. ومنه: «ما محمد إلّا شاعر» ووجه القصر فيه أنّه متى قيل: «ما محمد» توجه النفى إلى صفته لا ذاته لأنّ أنفس الذوات يمتنع نفيها وإنّما تنفى صفاتها، وحيث لا نزاع فى طوله وقصره وما شاكل ذلك وإنما النزاع فى كونه شاعرا أو كاتبا تناولهما النفى، فاذا قيل: «إلا شاعر» جاز القصر. وتستعمل «غير» فى القصر استعمال «إلّا». - إنّما: ويكون المقصور عليه مؤخرا وجوبا، ومنه قوله تعالى: «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» (¬3). ومنه قول قيس بن الرقيات: إنّما مصعب شهاب من الله … تجلّت عن وجهه الظّلماء والدليل على أنّها تفيد القصر أمور: الأول: كونها متضمنة معنى «ما» و «إلّا»، لقول المفسرين فى قوله تعالى: «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ» (¬4) - بالنصب- معناه «ما حرم عليكم إلا الميتة». الثانى: لقول النحاة إنّ «إنّما» لإثبات ما يذكر بعدها ونفى ما سواه. الثالث: لصحة انفصال الضمير معها مثل: «إنّما يضرب أنا»، أى: «ما يضرب إلّا أنا». ¬

_ (¬1) آل عمران 144. (¬2) يس 15. (¬3) فاطر 28. (¬4) البقرة 173.

ومن ذلك قول الفرزدق: أنا الذائد الحامى الذمار وإنّما … يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلى وقول عمرو بن معد يكرب: قد علمت سلمى وجاراتها … ما قطّر الفارس إلّا أنا (¬1) - العطف ب «لا» أو «لكن» أو «بل»: فان كان العطف ب «لا» كان المقصور عليه مقابلا لما بعدها، وإن كان العطف ب «لكن» و «بل» كان المقصور عليه ما بعدهما. ومثال قصر الموصوف على الصفة إفرادا: «محمد شاعر لا كاتب»، أو «ما محمد كاتب بل شاعر». ومثال قصر الموصوف على الصفة قلبا: «محمد قائم لا قاعد»، أو «ما محمد قاعدا بل قائم». ومثال قصر الصفة على الموصوف إفرادا أو قلبا بحسب المقام: «محمد قائم لا خالد»، أو «ما خالد قائما بل زيد». - تقديم ما حقه التأخير: وهنا يكون المقصور عليه هو المقدم. فمن قصر الموصوف على الصفة إفرادا «شاعر هو» لمن يعتقده شاعرا أو كاتبا. ومن قصر الموصوف على الصفة قلبا: «قائم هو» لمن يعتقده قاعدا. ومثال قصر الصفة على الموصوف إفرادا: «أنا كفيت مهمّك» بمعنى وحدى لمن يعتقد أنّك وغيرك كفيتما مهمّه. ومثال قصر الصفة على الموصوف قلبا: «أنا كفيت مهمّك» بمعنى لا غيرى لمن يعتقد أنّ غيرك كفى مهمه دونك. ¬

_ (¬1) قطر: صرع.

وهذه الطرق الأربعة تختلف من وجوه: الأول: أنّ دلالة الثلاثة الأولى بالوضع دون الرابع. الثانى: انّ الأصل فى العطف أن يدل على المثبت والمنفى جميعا بالنص فلا يترك ذلك إلّا كراهة الإطناب فى مقام الاختصاص كما إذا قيل «محمد يعلم النحو والصرف والعروض والقوافى» أو «محمد يعلم النحو، وخالد وبكر وعمرو» فتقول فيهما «محمد يعلم النحو لا غير» وفى معناه «ليس إلّا» أى لا غير النحو ولا غير محمد. وأما الثلاثة الباقية فتدل بالنص على المثبت دون المنفى. الثالث: أنّ النفى لا يجامع الأول لأنّ شرط المنفى ب «لا» أن لا يكون منفيا قبلها بغيرها ويجامع الآخرين فيقال: «إنّما زيد كاتب لا شاعر» و «هو يأتينى لا محمد». الرابع: أنّ أصل النفى والاستثناء أن يكون ما استعمل له مما يجهله المخاطب وينكره كقولك لصاحب وقد رأيت شبحا من بعيد «ما هو إلّا محمد» إذا وجدته يعتقده غير محمد ويصر على الإنكار. وعليه قوله تعالى: «وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ» (¬1). وهناك طرق أخرى للقصر غير أنّ البلاغيين لم يتفقوا عليها كل الاتفاق ولذلك تظل الوجوه الأربعة عمدة هذا الأسلوب (¬2) ... ¬

_ (¬1) آل عمران 62. (¬2) ينظر مفتاح العلوم ص 138، والإيضاح ص 118، وشروح التلخيص ج 2 ص 166.

الفصل الرابع الفصل والوصل

الفصل الرابع الفصل والوصل قيل للفارسى: ما البلاغة؟ قال: معرفة الفصل من الوصل. وذهب كثير من بلاغيى العرب إلى ما ذهب إليه الفارسى، وعدّوا الفصل والوصل فنا عظيما، صعب المسلك، دقيق المأخذ لا يحيط علما بكنهه إلا من أوتى فى فهم كلام العرب طبعا سليما، ورزق فى إدراك أسراره ذوقا صحيحا. ولذلك قصر بعضهم البلاغة على معرفته، ولكن آخرين كالقزوينى قال: «وما قصرها عليه لأن الأمر كذلك، وإنما حاول بذلك التنبيه على مزيد غموضه وأنّ أحدا لا يكمل فيه إلّا كمل فى سائر فنونها، فوجب الاعتناء بتحقيقه على أبلغ وجه فى البيان» (¬1). والوصل عطف بعض الجمل على البعض والفصل تركه، ولذلك نرى أن يبحث هذا الموضوع بعد بحث الجملة لارتباطه بها؛ ولأنه يخص الجمل ومعانيها حينما تفصل أو تربط لا مشاركة الثانى للأول فى الإعراب وحده. قال العلوى: «ولسنا نريد بتلك الأسرار واللطائف ما يكون متعلقا بعلوم الإعراب من كون الأحرف العاطفة تلحق المعطوف فى الإعراب، ... بل نريد أمرا أخص من ذلك وأغوص على تحصيل الأسرار الغريبة واللطائف العجيبة» (¬2). تكلم الجاحظ (¬3) وغيره من أوائل النقاد على الفصل والوصل، ووقف عنده أبو هلال العسكرى وقفة طويلة وذكر أقوالا كثيرة تدل على أهمية هذا ¬

_ (¬1) الإيضاح ص 147. (¬2) الطراز ج 2 ص 33. (¬3) ينظر البيان والتبيين ج 1 ص 88.

الموضوع من ذلك أن المأمون قال لبعضهم: من أبلغ الناس؟ فقال: من قرب الأمر البعيد المتناول، والصعب الدرك بالألفاظ اليسيرة. قال: ما عدل سهمك عن الغرض، ولكن البليغ من كان كلامه فى مقدار حاجته، ولا يجيل الفكرة فى اختلاس ما صعب عليه من الألفاظ، ولا يكره المعانى على إنزالها فى غير منازلها، ولا يتعمد الغريب الوحشى، ولا الساقط السوقى، فان البلاغة إذا اعتزلتها المعرفة بمواضع الفصل والوصل كانت كاللآلى بلا نظام. (¬1) وبحث أبو هلال فى هذا الفصل، ما يتصل بفصول القصيدة ومقاطعها، وهم يعنون بالفصول والمقاطع أواخر الأبيات التى تقابل مطالعها وابتداءاتها وتطرق إلى فواصل كتاب الله. وقال إنّ من حسن المقطع جودة الفاصلة وحسن موقعها وتمكنها فى موضعها، وذلك على ثلاثة أضرب: الأول: أن يضيق على الشاعر موضع القافية فيأتى بلفظ قليل الحروف فيتمم به البيت كقول زهير: وأعلم ما فى اليوم والأمس قبله … ولكنّنى عن علم ما فى غد عمى وقول النابغة الذبيانى: كالأقحوان غداة غبّ سمائه … جفت أعاليه وأسفله ندى (¬2) وقوله: لا مرحبا بغد ولا أهلا به … إن كان تفريق الأحبة فى غد أفد الترحّل غير أنّ ركابنا … لما تزل برحالنا وكأن قد ¬

_ (¬1) كتاب الصناعتين ص 438. (¬2) غب سمائه: المطر ..

الثانى: أن يضيق به المكان أيضا ويعجز عن إيراد كلمة سالمة تحتاج إلى إعراب ليتم بها البيت، فيأتى بكلمة معتلة لا تحتاج إلى الإعراب فيتممه به، مثل قول زهير: صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو … وأقفر من سلمى التعانيق فالثقل (¬1) ثم قال: وقد كنت من سلمى سنينا ثمانيا … على صير أمر ما يمر وما يحلو (¬2) الثالث: أن تكون الفاصلة لائقة بما تقدمها من ألفاظ الجزء من الرسالة أو البيت من الشعر، وتكون مستقرة فى قرارها ومتمكنة فى موضعها حتى لا يسد مسدها غيرها وإن لم تكن قصيرة قليلة الحروف كقوله تعالى: «وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى. وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا. وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» (¬3) وقوله: «وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى. وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى» (¬4). ف «أبكى» مع «أضحك» و «أحيا» مع «أمات» و «الأنثى» مع «الذكر» و «الأولى» مع «الآخرة» و «الرضا» مع «العطية» فى نهاية الجودة وغاية حسن الموقع. ومن الشعر قول الحطيئة: هم القوم الذين إذا ألمّت … من الأيام مظلمة أضاءوا وقول أبى نواس: إذا امتحن الدنيا لبيب تكشّفت … له عن عدو فى ثياب صديق و «الصديق» هنا جيد الموقع، لأن معنى البيت يقتضيه، وهو محتاج إليه. ¬

_ (¬1) التعانيق والثقل: واديان. (¬2) صير أمر: منتهاه. (¬3) النجم 43 - 45. (¬4) الضحى 4 - 5.

ودراسة أبى هلال وغيره من البلاغيين والنقاد لهذا الموضوع تختلف عن دراسة البلاغيين المتأخرين، ولذلك لا نجد فى دراساتهم ما تطرق إليه أبو هلال ولعل عبد القاهر الجرجانى كان من أوائل الذين بحثوه بحثا مفصلا يقوم على التقسيم والتحديد والتعليل والتحليل وربطه بباب العطف عندما ربط البلاغة بمعانى النحو وجعل النظم توخّيا له. وقد أجمل مواضع الفصل والوصل بقوله: «إنّ الجمل على ثلاثة أضرب: - جملة حالها مع التى قبلها حال الصفة مع الموصوف والتأكيد مع المؤكد فلا يكون فيها العطف ألبتة لشبه العطف فيها- لو عطفت- بعطف الشئ على نفسه. - وجملة حالها مع التى قبلها حال الاسم يكون غير الذى قبله إلّا أنه يشاركه فى حكم ويدخل معه فى معنى مثل أن يكون كلا الاسمين فاعلا أو مفعولا أو مضافا إليه فيكون حقها العطف. - وجملة ليست فى شئ من الحالين، بل سبيلها مع التى قبلها سبيل الاسم مع الاسم لا يكون منه فى شئ فلا يكون إياه ولا مشاركا له فى معنى بل هو شئ إن ذكر لم يذكر إلّا بأمر ينفرد به ويكون ذكر الذى قبله وترك الذكر سواء فى حاله لعدم التعلق بينه وبينه رأسا، وحق هذا ترك العطف ألبتة. فترك العطف يكون إمّا للاتصال إلى الغاية، أو الانفصال إلى الغاية، والعطف لما هو واسطة بين الأمرين، وكان له حال بين حالين، فاعرفه (¬1)» وعلى هذا الأساس وضع عبد القاهر أصول بحث الفصل والوصل، وقوانينه، وذكر الأمثلة الكثيرة. وجاء علماء البلاغة فاختصروا بحوثه وبوبوها، وكان تحديدهم أدق ضبطا وقواعدهم أكثر تقييدا. وكان السكاكى من أشهر الذين اتبعوه ولكنه لم يوضح الموضوع ولم يبحثه بحثا جيدا، ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز ص 187.

مواضع الفصل

وانصرف إلى الكلام على الجامع وأنواعه، واستفاد الخطيب القزوينى من الرجلين فكانه بحثه للفصل والوصل يجمع بين تحديد القاعدة والشرح والتعليل أى بين طريقتى عبد القاهر والسكاكى. ثم جاء شراح التلخيص فأولوا هذا الموضوع عناية كبيرة وانتهى إلى صورته الأخيرة التى نجدها فى كتب البلاغة. مواضع الفصل: يجب الفصل فى خمسة مواضع: الأول: أن يكون بين الجملتين اتحاد تام وهو «كمال الاتصال»، وذلك: - أن تكون الجملة الثانية توكيدا للأولى، والمقتضى للتأكيد دفع توهم التجوز والغلط وهو قسمان: أحدهما: أن تنزل الثانية من الأولى منزلة التأكيد المعنوى من متبوعه فى إفادة التقرير مع الاختلاف فى المعنى، كقوله تعالى: «الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ» (¬1)، فانّ وزان «لا رَيْبَ فِيهِ» وزان نفسه فى «جاءنى محمد نفسه». وقوله: «كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها، كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً» (¬2)، فالثانى مقرر لما أفاده الأول. وثانيهما: أن تنزل الثانية من الأولى منزلة التأكيد اللفظى من متبوعه فى اتحاد المعنى، كقوله تعالى: «ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» (¬3) فان «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» معناه: أنّه فى الهداية بالغ درجة لا يدرك كنهها حتى كأنه هداية محضة. ¬

_ (¬1) البقرة 1 - 2. (¬2) لقمان 7. الوقر: الثقل فى الإذن. (¬3) البقرة 2.

ومن أمثلة كون الجملة الثانية توكيدا للأولى قول المتنبى: وما الدّهر إلّا من رواة قصائدى … إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا فالجملة «إذا قلت ...» توكيد للأولى، لأنّ معنى الجملتين واحد. ومنه قول الشاعر: يهوى الثناء مبرز ومقصّر … حبّ الثناء طبيعة الإنسان فالجملة «حب الثناء ...» توكيد للأولى، لأنّ معنى الجملتين واحد. - أن تكون الجملة الثانية بدلا من الأولى، والمقتضى للإبدال كون الأولى غير وافية بتمام المراد بخلاف الثانية والمقام يقتضى اعتناء بشأنه لنكتة ككونه مطلوبا فى نفسه أو فظيعا أو عجيبا أو لطيفا، وهو ضربان: أحدهما: أن تنزل الثانية من الأولى منزلة بدل البعض (¬1) من متبوعه، كقوله تعالى: «أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» (¬2) فانه مسوق للتنبيه على نعم الله تعالى عند المخاطبين، وقوله: «أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» أوفى بتأديته مما قبله لدلالته عليها بالتفصيل من غير إحالة على علمهم مع كونهم معاندين، والإمداد بما ذكر من الأنعام وغيرها بعض الإمداد بما يعلمون، ويحتمل الاستئناف. وثانيهما: أن تنزل الثانية من الأولى منزلة بدل الاشتمال (¬3) من متبوعه كقوله تعالى: «اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ» (¬4) فانّ المراد به حمل المخاطبين على اتباع الرسل، وقوله: ¬

_ (¬1) بدل البعض: هو بدل الجزء من كله قليلا كان ذلك الجزء أو مساويا للنصف أو أكثر منه. مثل: «جاء الطلاب ربعهم أو نصفهم أو ثلثاهم». (¬2) الشعراء 132 - 134. (¬3) بدل الاشتمال: هو بدل الشئ مما يشتمل عليه على شرط أن لا يكون جزءا منه. مثل: «نفعنى المعلم علمه» و «أعجبت خالدا شجاعته». (¬4) يس 20 - 21.

«اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ» أوفى بتأدية ذلك، لأنّ معناه: لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم وتربحون صحة دينكم فينظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة. ومنه قول الشاعر: أقول له ارحل لا تقيمنّ عندنا … وإلّا فكن فى السّرّ والجهر مسلما وقد فصل «لا تقيمن» عن «ارحل» لقصد البدل، لأنّ المقصود من كلامه هذا كمال إظهار الكراهة لاقامته بسبب خلاف سره العلنى، وقوله: «لا تقيمن عندنا» أو فى بتأدية هذا المقصود من قوله «ارحل» لدلالته عليه بالمطابقة مع التأكيد. - أن تكون الثانية بيانا للأولى، وذلك بأن تنزل منها منزلة عطف البيان من متبوعه فى إفادة الإيضاح، والمقتضى للتبيين أن يكون فى الأولى نوع خفاء مع اقتضاء المقام إزالته، كقوله تعالى: «فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ، قالَ: يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى؟» (¬1)، فصل جملة «قال» عما قبلها لكونها تفسيرا له وتبيينا. ومنه قول المعرى: الناس للناس من بدو ومن حضر … بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم فالجملة الثانية «بعض لبعض ...» إيضاح للأولى «الناس للناس ...» وهى بيان لها. الثانى: أن يكون بين الجملتين كمال الانقطاع، وذلك: - أن تختلف الجملتان خبرا وإنشاء لفظا ومعنى، كقول الشاعر: وقال رائدهم: ارسوا نزاولها … فكلّ حتف امرئ يجرى بمقدار ¬

_ (¬1) طه 120.

فالجملة الأولى «ارسوا» إنشاء لفظا ومعنى، و «نزاولها» خبر لفظا ومعنى، لأنّ الغرض تعليل الأمر بالإرساء بالمزاولة للحرب أى: «ارسوا السفينة نزاول الحرب». أو معنى لا لفظا، مثل: «مات فلان، رحمه الله» فالجملة الأولى خبرية لفظا والثانية إنشائية معنى لا لفظا، لأن لفظ الفعل خبر لا أمر. - أن لا يكون بين الجملتين جامع أو مناسبة، بل تكون كل جملة مستقلة بنفسها مثل: «الليل رهيب. أقبل محمد»، ولا صلة بين الجملتين، ولذلك ترك العطف بينهما لكمال الانقطاع. الثالث: أن تكون الجملة الثانية جوابا عن سؤال يفهم من الجملة الأولى فتنزل منزلته ويسمى هذا «شبه كمال الاتصال» أو «الاستئناف» والاستئناف ثلاثة أضرب، لأن السؤال الذى تضمنته الجملة الأولى إما عن: - سبب الحكم فيها مطلقا، كقول الشاعر: قال لى: كيف أنت؟ قلت عليل … سهر دائم، وحزن طويل أى: ما بالك عليلا؟ أو ما سبب علتك. وقول الآخر: وقد غرضت من الدنيا فهل زمنى … معط حياتى لغرّ بعد ما غرضا (¬1) جرّبت دهرى وأهليه فما تركت … لى التجارب فى ود امرئ غرضا أى: لم تقول هذا؟ وما الذى اقتضاك أن تطوى عن الحياة إلى هذا الحد، أى تعرض عنها. - أو عن سبب خاص له كقوله تعالى: «وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ» (¬2). كأنه قيل: هل النفس أمارة بالسوء؟ فقيل: إنّ النفس لأمارة بالسوء. ¬

_ (¬1) غرض: ضجر ومل. الغر: من لا تجربة له. (¬2) يوسف 53.

- أو عن غير هذين النوعين، كقوله تعالى: «قالُوا: سَلاماً، قالَ: سَلامٌ» (¬1)، كأنه قيل: فماذا قال إبراهيم عليه السلام؟ فقيل: قال سلام. ومنه قول الشاعر: زعم العواذل أنّنى فى غمرة … صدقوا، ولكن غمرتى لا تنجلى (¬2) لما حكى عن العواذل أنّهم قالوا: هو فى غمرة، وكان ذلك مما يحرك السامع لأن يسأله فيقول: فما قولك فى ذلك وما جوابك عنه؟ أخرج الكلام مخرجه إذا كان ذلك قد قيل له وصار كأنه قال: أقول صدقوا أنا كما قالوا ولكن لا مطمع لهم فى فلاحى، ولو قال: «زعم العواذل أنّنى فى غمرة وصدقوا» لكان يكون لم يصح فى نفسه أنّه مسؤول وأن كلامه كلام مجيب (¬3). ومنه قول الوليد بن يزيد: عرّفت المنزل الخالى … عفا من بعد أحوال عفاه كلّ حنّان … عسوف الويل هطّال (¬4) فانه لما قال: «عفا» وكان العفاء مما لا يحصل للمنزل بنفسه كان مظنة أن يسأل عن الفاعل. ومثله قول المتنبى: وما عفت الرياح له محلّا … عفاه من حدا بهم وساقا فانه لما نفى الفعل الموجود عن الرياح، كان مظنة أن يسأل عن الفاعل. ¬

_ (¬1) هود 69. (¬2) الغمرة: الشدة. (¬3) ينظر دلائل الإعجاز ص 182. (¬4) عفاه: محاه. حنان: مصوت، والمقصود الرعد المصاحب للمطر. عسوف: شديد. الوبل: المطر الشديد.

وقد يحذف صدر الاستئناف لقيام قرينة، كقوله تعالى: «يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ. رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ» (¬1) فيمن قرأ «يسبّح» مبنيا للمفعول- للمجهول- كأنه قيل: من يسبحه؟ فقيل: رجال. وقد يحذف الاستئناف كله ويقام ما يدل عليه مقامه، كقول الشاعر: زعمتم أنّ إخوتكم قريش … لهم إلف وليس لكم إلاف (¬2) حذف الجواب الذى هو: كذبتم فى زعمكم، وأقام مقامه «لهم إلف وليس لكم إلاف» مقامه لدلالته عليه. ويجوز أن يقدر قوله: «لهم إلف ...» جوابا لسؤال اقتضاه الجواب المحذوف كأنه لما قال المتكلم: «كذبتم» قالوا: «لم كذبنا؟» فقال: «لهم إلف وليس لكم إلاف» فيكون فى البيت استئنافان. وقد يحذف ولا يقام شئ مقامه، كقوله تعالى: «نِعْمَ الْعَبْدُ» (¬3) أى: أيوب، أو هو لدلالة ما قبل الآية وما بعدها عليه (¬4). الرابع: أن يكون بين الجملتين «شبه كمال الانقطاع»، وذلك بأن تكون الجملة الثانية بمنزلة المنقطعة عن الأولى وينبغى هنا الفصل لأنّ عطفها عليها يوهم لعطفها على غيره، ويسمى هذا الفصل «قطعا». ومنه قول الشاعر: وتظنّ سلمى أنّنى أبغى بها … بدلا، أراها فى الضلال تهيم لم يعطف «أراها» على «تظن» لئلا يتوهم السامع أنّه معطوف على «أبغى» لقربه منه، مع أنّه ليس بمراد، ويحتمل الاستئناف. ¬

_ (¬1) النور 36 - 37. (¬2) الإلف والإيلاف: العهد. (¬3) ص 44. (¬4) تبدأ الآية بقوله تعالى: «وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ ...».

مواضع الوصل

الخامس: أن تكون الجملتان متوسطتين بين كمال الاتصال وكمال الانقطاع مع قيام المانع من الوصل كأن يكون للأولى حكم لم يقصد إعطاؤه للثانية، كقوله تعالى: «وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ. اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ» (¬1). فجملة «اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ» لا يصح عطفها على جملة «قالوا ...» لئلا يلزم من ذلك اختصاص استهزاء الله بهم بوقت خلوهم إلى شياطينهم، والواقع أنّ استهزاء الله بهم غير مقيد بوقت من الأوقات. ولا يصح أن تعطف جملة «الله يستهزئ بهم» على جملة «إنّا معكم» لئلا يلزم أن تكون من مقول المنافقين مع أنّها من مقول الله تعالى. مواضع الوصل: يجب الوصل فى ثلاثة مواضع: الأول: أن يكون بين الجملتين كمال الانقطاع مع الإيهام، وذلك بأن تكون إحداهما خبرية والأخرى إنشائية ولو فصلت لأوهم الفصل خلاف المقصود. ومنه قول البلغاء: «لا، وأيدك الله»، ومثل: «لا، ولطف الله» و «لا، وحفظك الله». الثانى: أن تكون الجملتان متفقتين خبرا وإنشاء لفظا ومعنى كقوله تعالى: «إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ» (¬2)، وقوله: «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ» (¬3)، وقوله: «يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ» (¬4)، وقوله: «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا» (¬5) أو أن تكونا متفقتين خبرا وإنشاء معنى لا لفظا كقوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ، لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، وَبِالْوالِدَيْنِ ¬

_ (¬1) البقرة 14 - 15. (¬2) الانفطار 13 - 14. (¬3) الروم 19. (¬4) النساء 142. (¬5) الأعراف 21.

إِحْساناً، وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً» (¬1)، عطف قوله «قولوا» على قوله «لا تعبدون» لأنّه بمعنى: لا تعبدوا. الثالث: أن يكون للجملة الأولى محل من الإعراب وقصد إشراك الجملة الثانية لها فى الحكم الإعرابى، وهذا كعطف المفرد على المفرد، لأنّ الجملة لا يكون لها محل من الإعراب حتى تكون واقعة موقع المفرد. وينبغى هنا أن تكون مناسبة بين الجملتين كقوله تعالى: «يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ» (¬2) وقوله: «وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (¬3). ولذلك عيب على أبى تمام: لا والذى هو عالم أنّ النوى … صبر، وأنّ أبا الحسين كريم إذ لا مناسبة بين كرم أبى الحسين- محمد بن الهيثم- ومرارة النوى، ولا تعلق لأحدهما بالآخر. ومن إشراك الجملة الثانية بالأولى فى الحكم الإعرابى قول المتنبى: وللسرّ منى موضع لا يناله … نديم ولا يفضى إليه شراب فجملة «لا يناله نديم» صفة ل «موضع» ولذلك جاز أن يعطف عليها جملة «ولا يفضى إليه شراب». وذكر عبد القاهر الجرجانى لونا من الوصل (¬4)، وهو أن يؤتى بالجملة فلا يعطف على ما يليها ولكن تعطف على جملة بينها وبين هذه التى تعطف جملة أو جملتان، مثال ذلك قول المتنبى: تولّوا بغتة فكأنّ بينا … تهيّبنى ففاجأنى اغتيالا فكان مسير عيسهم ذميلا … وسير الدمع إثرهم انهمالا ¬

_ (¬1) البقرة 83. (¬2) سبأ 2. (¬3) البقرة 245. (¬4) ينظر دلائل الإعجاز ص 188.

قوله: «فكان مسير عيسهم» معطوف على «تولوا بغتة» دون ما يليه من قوله: «ففاجأنى»، لأنّا إن عطفناه على هذا الذى يليه أفسدنا المعنى من حيث إنه يدخل فى معنى «كأنّ» وذلك يؤدى إلى أن لا يكون «مسير عيسهم» حقيقة ويكون متوهما كما كان تهيب البين كذلك، وهذا أصل كبير. والسبب فى ذلك أن الجملة المتوسطة بين هذه المعطوفة أخيرا وبين المعطوف عليها الأولى ترتبط فى معناها بتلك الأولى كالذى ترى أنّ قوله «فكأنّ بينا تهيبنى» مرتبط بقوله «تولوا بغتة» وذلك أن الثانية مسبب والأولى سبب. ألا ترى أنّ المعنى «تولوا بغتة فتوهمت أن بينا تهيبنى» ولا شك أنّ هذا التوهم كان بسبب أن كان التولى بغتة، وإذا كان كذلك كانت مع الأولى كالشئ الواحد، وكانت منزلتها منها منزلة المفعول والظرف وسائر ما يجئ بعد تمام الجملة من معمولات الفعل مما لا يمكن إفراده على الجملة وأن يعتد كلاما على حدته. ثم قال: «وههنا شئ آخر دقيق، وهو أنّك إذا نظرت إلى قوله: «فكان مسير عيسهم ذميلا» وجدته لم يعطف هو وحده على ما عطف عليه ولكن تجد العطف قد تناول جملة البيت مربوطا آخره بأوله، ألا ترى أنّ الغرض من هذا الكلام أن يجعل توليهم بغتة وعلى الوجه الذى توهم من أجله أنّ البين تهيبه مستدعيا بكاءه وموجبا أن ينهمل دمعه فلم يعنه أن يذكر ذملان العيسى إلّا ليذكر هملان الدمع وأن يوفق بينهما، وكذلك الحكم فى الأول. فنحن وإن كنا قلنا إنّ العطف على «تولوا بغتة» فانا لا نعنى أنّ العطف عليه وحده مقطوعا عما بعده بل العطف عليه مضموما إليه ما بعده إلى آخره، وإنما أردنا بقولنا: إنّ العطف عليه، أن نعلمك أنّه الأصل والقاعدة وأن نصرفك عن أن تطرحه وتجعل العطف على ما يلى هذا الذى تعطفه فتزعم أنّ قوله «فكان مسير عيسهم» معطوف على «فاجأنى» فتقع فى الخطأ كالذى أريناك فأمر العطف إذن موضوع على أنّك تعطف تارة جملة على جملة وتعمد أخرى إلى جملتين أو جمل فتعطف بعضا على بعض ثم تعطف مجموع هذى على مجموع تلك» (¬1). ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز ص 189.

اقتران الجملة الحالية بالواو

اقتران الجملة الحالية بالواو: ويتصل بالفصل والوصل اقتران الجملة الحالية بالواو وعدم اقترانها بها وقد ألحقه البلاغيون بهذا المبحث، وعقد له الرازى وعبد القاهر والسكاكى والقزوينى فصولا (¬1) فى كتبهم وألحقوه بباب الفصل والوصل. ولكن دراسة عبد القاهر كانت أعمق هذه الدراسات ولذلك فسيكون تلخيصها هنا شرحا للموضوع وتبيانا له. تجئ الحال تارة مع الواو وأخرى بغير الواو، وفى تمييز ما يقتضى الواو مما لا يقتضيه صعوبة والقول فى ذلك: - أنّ الجملة إذا كانت من مبتدأ وخبر فالغالب عليها أن تجئ مع الواو، مثل: «جاء محمد وعمرو أمامه». ومنه قول امرئ القيس: أيقتلنى والمشرفىّ مضاجعى … ومسنونة زرق كأنياب أغوال ومثال خلوها من الواو قولهم «كلّمته فوه إلى فىّ» و «رجع عود على بدئه». - إن كان المبتدأ من الجملة ضمير ذى الحال لم يصلح بغير الواو، مثل: «جاء محمد وهو راكب». - إن كان الخبر فى الجملة من المبتدأ والخبر ظرفا ثم كان قد قدم على المبتدأ، مثل: «عليه معطف» كثر فيها أن تجئ بغير واو. ومنه قول بشار: إذا أنكرتنى بلدة أو نكرتها … خرجت مع البازى علىّ سواد - وإن كانت الجملة من فعل وفاعل والفعل مضارع مثبت غير منفى لم يكد يجئ بالواو مثل: «جاء محمد يسعى أخوه بين يديه» أو «جاء محمد ¬

_ (¬1) ينظر نهاية الإيجاز ص 137، ودلائل الإعجاز ص 156، ومفتاح العلوم ص 131، والإيضاح 165.

يسعى»، وعليه التنزيل والكلام، ومثاله قوله تعالى: «وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ» (¬1)، وقوله: «وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى. الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى» (¬2) وقوله: «وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» (¬3). - فان دخل حرف نفى على المضارع تغير الحكم فجاء بالواو وبتركها كثيرا، كقول مسكين الدارمى: أكسبته الورق البيض أبا … ولقد كان ولا يدعى لأب وقول مالك بن رفيع وكان جنى جناية فطلبه مصعب بن الزبير: أتانى مصعب وبنو بنيه … فأين أحيد عنهم لا أحيد أقادوا من دمى وتوّعدونى … وكنت وما ينهنهنى الوعيد (¬4) وقول الشاعر: مضوا لا يريدون الرواح وغالهم … من الدهر أسباب جرين على قدر وقول أعشى همدان: أتينا أصبهان فهزّلتنا … وكنا قبل ذلك فى نعيم وكان سفاهة منى وجهلا … مسيرى لا أسير إلى حميم ففى المثالين الأولين اقترنت بالواو، وفى المثالين الأخيرين لم تقترن. - ومما يجئ بالواو وغير الواو الماضى، وهو لا يقع حالا إلّا مع «قد» مظهرة أو مقدرة مثل: «أتانى وقد جهده السير». ومثال ما جاء بغير واو: فآبوا بالرماح مكسّرات … وأبنا بالسيوف قد انحنينا ¬

_ (¬1) المدثر 6. (¬2) الليل 17 - 18. (¬3) الأعراف 186. (¬4) أى جعلوا من دمى قودا، وهى الدية.

محسنات الوصل

محسنات الوصل: من محسنات الوصل تناسب الجملتين فى الاسمية والفعلية، وتناسب الجملتين الفعليتين فى المضى والمضارعة، وفى الإطلاق والتقييد، ولا يعدل عن ذلك إلّا لغرض أو لمانع، كما إذا أريد بإحداهما التجدد وبالأخرى الثبوت مثل: «قام محمد وعمرو قاعد» إذا أريد أن قيام محمد متجدد وقعود عمرو ثابت مستمر. أو أن يراد حكاية الحال الماضية واستحضار الصورة فى الذهن كقوله تعالى: «فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ» (¬1). أو أن يراد الإطلاق فى إحداهما والتقييد فى الأخرى كقوله تعالى: «وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ، وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ» (¬2)، والجملة الأولى مطلقة، والثانية مقيدة؛ لأنّ الشرط مقيد للجواب (¬3). الفصل والوصل فى المفردات: لم يتعرض البلاغيون إلّا للجمل حينما ترتبط أو تنفصل، أمّا المفردات فلم يتعرضوا لها، ولعل السبب وضوح هذه المسألة أو أن الحكم يعلم من الجملتين. وكان عبد القاهر الجرجانى قد اتخذ من الحديث عن عطف المفردات سبيلا للحديث عن عطف الجمل، ولكنه لم يعقد لهذا القسم دراسة لأنّه مما يتحدث عنه النحاة ولا يقع فيه الإشكال (¬4). وأشار السكاكى إلى أنّ الفصل والوصل بين الجمل هو الأصل فى هذا الفن (¬5)، ¬

_ (¬1) البقرة 87. (¬2) الأنعام 8. (¬3) ينظر مفتاح العلوم ص 131، والإيضاح ص 165، وشروح التلخيص ج 3 ص 109. (¬4) دلائل الإعجاز ص 171 وما بعدها. (¬5) مفتاح العلوم ص 120.

وظن الخطيب القزوينى أنّ غير ذلك متروك ولذلك عرف هذا الأسلوب بقوله: «الوصل عطف بعض الجمل على بعض والفصل تركه» (¬1)، وعلى ذلك سار شراح تلخيصه غير أنّ العصام يعقب على كلام التفتازانى بقوله: «وعبارته بأنّ الفصل والوصل مختصان اصطلاحا بالجمل والمقتضيات لهما جارية فى المفردات أيضا. فلا ينبغى التخصيص اصطلاحا ونحن نفهم من عبارة المفتاح عدم اختصاصها بها، وإنما هو الأصل فى الجمل حيث قال: «تمييز موضع العطف عن غير موضعه فى الجمل هو الأصل فى هذا الفن» (¬2). «واحفظها فى المفردات أيضا لئلا يكون بمعزل عن البلاغة، وكيف يظن أنّ عطف الجمل التى هى أخبار المبتدأ، أو أحوال لصاحب، أو صفات لمنعوت، وتركه مبنيات على أحوال دون ما فى المفردات» (¬3). ولعل بهاء الدين السبكى شارح تلخيص القزوينى، كان من أحسن الذين تعرضوا لهذا البحث، وقال إنّ الأصل فى المفرد فصله مما قبله، لأنّ ما قبله (¬4): - إمّا عامل فيه مثل «زيد قائم» فلا يعطف المعمول على عامله. - أو معمول فلا يعطف العامل على معموله. - أو كلاهما معمول والفعل يطلبهما طلبا واحدا فلا يمكن عطفه لأنّه يلزم قطع العامل عن الثانى مثل: «علمت زيدا قائما». وإذا اجتمع مفردان وأمكن من جهة الصناعة عطف أحدهما على الآخر فان كان بينهما جامع تم الوصل وإلّا كان الفصل هو الأساس. وسار بهاء الدين السبكى فى بحث هذا النوع على منهجه فى الجمل، وهو أقسام: ¬

_ (¬1) الإيضاح ص 147. (¬2) هذه عبارة السكاكى فى المفتاح ص 120. (¬3) الشرح الأطول ج 2 ص 2. (¬4) عروس الأفراح، شروح التلخيص ج 3 ص 113 وما بعدها.

الأول: أن يكون بين المفردين كمال الانقطاع بلا إيهام غير المراد مثل «زيد عالم قائم» فانه لا جامع بين هذين الخبرين ولذلك يفصلان، ومثل ذلك الأعداد واحد أثنان ثلاثة أربعة ... ، وحروف الهجاء ألف باء ... ففى مثل هذه الحالة يجب الفصل. الثانى: أن يكون بينهما كمال الانقطاع وفى الفصل إيهام غير المراد مثل: «ظننت زيدا ضاربا وعالما» فيجب العطف إذ لو لم يعطف لتوهم أن «عالما» «معمول» ل «ضاربا». الثالث: كمال الاتصال بأن يكون تأكيدا معنويا، أو لفظيا، أو عطف بيان، أو نعتا، أو بدلا نحو «جاء زيد نفسه» و «جاء زيد أبو عبد الله» و «جاء زيد القاسم» فلا يعطف شئ من ذلك. أو يكون فى معنى واحد من هذه الأمور كما فى عطف الجمل أو فصلها أو أن يكونا بمنزلة خبر واحد، مثل: «هذا حلو حامض» إذا جعلناهما خبرين. الرابع: شبه كمال الانقطاع بأن يكون للمفرد الأول حكم لا يقصد إعطاؤه للثانى نحو «زيد مجيب إن قصد صالح» إذا أريد الإخبار بأنّه صالح مطلقا فان عطف «صالح» على «مجيب» يوهم أنّه صالح إن قصد، لأنّ الشرط فى أحد المتعاطفين شرط فى الآخر بخلاف الشرط فى واحد من خبرى المبتدأ. وتارة يكون عطفه على المفرد قبله يوهم عطفه على غيره مثل «كان زيد ضاربا عمرا قائما» فلو قيل: «وقائما» لأوهم أنّه معطوف على «عمرو» المفعول. الخامس: شبه كمال الاتصال، مثل «زيد غضبان ناقص الحظ» كأنّ سائلا سأل: لم غضب؟. السادس: أن يكون بينهما التوسط من كمال الانقطاع وكمال الاتصال مثل «زيد معط مانع» على أن يكونا خبرين، فإذا أريد جعل الثانى صفة تعين الوصل.

أما العطف بين الجمل والمفردات، فقد جوّز أكثر النحاة عطف الفعل على الاسم وعطف الاسم على الفعل إذا كان كل منهما فى تقدير الآخر. وقال السهيلى يحسن عطف الفعل على الاسم إذا كان اسم فاعل، ويقبح عطف الاسم على الفعل. وقال إنّ مثل «مررت برجل يقوم قاعد» ممتنع إلّا على وجه. وجوّزه الزجاج كعطف الفعل على الاسم، والأكثرون على الجواز (¬1). قال تعالى: «صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ (¬2)» وقال: «فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً. فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (¬3)». ... ¬

_ (¬1) عروس الأفراح- شروح التلخيص ج 3 ص 115. (¬2) الملك 19. (¬3) العاديات 3 - 4.

الفصل الخامس الايجاز والاطناب

الفصل الخامس الايجاز والاطناب الايجاز والإطناب والمساواة من الأساليب التى لا تتضح كثيرا إلّا بالحديث عن أنواعها وعرض أمثلتها، لأنّ الاتفاق على مقياس يلجأ إليه الدارسون من الأمور الصعبة. وكان السكاكى قد ذهب إلى أنّ الذى يحدد هذه الأساليب هو العرف وقد سماه «متعارف الأوساط»، يقول: «أمّا الإيجاز والإطناب فلكونهما نسبيين لا يتيسر الكلام فيهما إلّا بترك التحقيق والبناء على شئ عرفى مثل جعل كلام الأوساط على مجرى متعارفهم فى التأدية للمعانى فيما بينهم. ولا بدّ من الاعتراف بذلك مقيسا عليه ولنسمّه «متعارف الأوساط» وأنه فى باب البلاغة لا يحمد ولا يذم» (¬1)، ولذلك كان الإيجاز أداء المقصود من الكلام بأقل من عبارات متعارف الأوساط، وكان الإطناب أداءه بأكثر من عباراتهم، سواء كانت القلة أو الكثرة راجعة إلى الجمل أو إلى غير الجمل. ولكن الخطيب القزوينى رأى الاتفاق على متعارف الأوساط صعبا، ووجد أنّ بناء التعريف عليه أصعب، والأقرب أن يقال: «المقبول من طرق التعبير عن المعنى هو تأدية أصل المراد بلفظ مساو له أو ناقص عنه واف، أو زائد عليه لفائدة» (¬2). وهذا التعريف لا يكون دقيقا إن لم تعرض أساليب الإيجاز والإطناب ليبنى عليها أسلوب المساواة ويحدد بدقة ووضوح، ولذلك قال إنّ المساواة «أن يكون اللفظ بمقدار أصل المراد لا ناقصا عنه بحذف أو غيره، ولا زائدا عليه بنحو تكريم أو تتميم أو ¬

_ (¬1) مفتاح العلوم ص 133. (¬2) الإيضاح ص 117.

اعتراض»، أى أنّ المساواة لا تتضح إلّا بعد دراسة الأسلوبين الآخرين ومعرفتهما معرفة دقيقة، ولكنه قدّم الكلام على المساواة لأنّها الأصل المقيس عليه، وهذا التقديم لا يخدم القياس لأنّ المساواة لا تعرف إلّا بعد معرفة الكلام المحذوف أو الزائد، وبذلك تكون الكلام الذى ليس فيه حذف أو زيادة. وميز بين الكلام التام والناقص ولذلك قال إنّ «واف» احتراز عن الإخلال، وهو أن يكون اللفظ قاصرا عن أداء المعنى، كقول عروة بن الورد: عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم … ومقتلهم عند الوغى كان أعذرا فانه أراد: إذ يقتلون نفوسهم فى السلم. وقول الحارث بن حلزة: والعيش خير فى ظلا … ل النّوك ممن عاش كدّا (¬1) فانه أراد: العيش الناعم فى ظلال النوك خير من العيش الشاق فى ظلال العقل، فأخلّ بالمعنى. واحترز فى الزيادة وقال إنّها لفائدة، لكى لا يدخل فيها: - التطويل: وهو أن لا يتعين الزائد فى الكلام، كقول عدى بن زيد العبادى: وقددت الأديم لراهشيه … وألفى قولها كذبا ومينا (¬2) فان الكذب والمين واحد. - الحشو: وهو ما يتعين أنّه الزائد، وهو نوعان: ¬

_ (¬1) النوك: الحمق. الكد: التعب والمشقة. (¬2) قددت: قطعت. الأديم. الجلد. الراهشان: عرقان فى باطن الذراعين.

الأول: ما يفسد المعنى، كقول المتنبى: ولا فضل فيه للشجاعة والنّدى … وصبر الفتى لولا لقاء شعوب (¬1) فانّ لفظ «الندى» فيه حشو يفسد المعنى، لأنّ المعنى أنّه لا فضل فى الدنيا للشجاعة والصبر والندى لولا الموت، وهذا الحكم صحيح فى الشجاعة دون الندى، لأنّ الشجاع لو علم أنّه يخلد فى الدنيا لم يخش الهلاك فى الإقدام فلم يكن لشجاعته فضل بخلاف الباذل ماله فإنه إذا علم أنّه يموت هان عليه بذله. الثانى: ما لا يفسد المعنى، كقول الشاعر: ذكرت أخى فعاودنى … صداع الرأس والوصب (¬2) فانّ فى لفظ «الرأس» حشوا لا فائدة فيه لأنّ الصداع لا يستعمل إلّا فى الرأس، وليس بمفسد للمعنى. وقول زهير: وأعلم علم اليوم والأمس قبله … ولكنّنى عن علم ما فى غد عم فانّ قوله «قبله» مستغنى عنه غير مفسد. وهذه المقدمة ضرورية فى دراسة هذا الموضوع، ولكنه لن يتضح إلّا بعد الحديث عن أجزائه وإيضاح أمثلته وأساليبه. ¬

_ (¬1) شعوب: الموت، المنية. (¬2) الوصب: المرض والوجع الدائم ونحول الجسم، وقد يطلق على النعب والفتور فى البدن.

الايجاز

الايجاز تعريفه: الايجاز- لغة-: التقصير، تقول: أوجزت الكلام، أى: قصرته وكلام موجز من أوجز. والايجاز- اصطلاحا- أن يكون اللفظ أقل من المعنى، مع الوفاء به وإلّا كان إخلالا يفسد الكلام. وهذا الأسلوب من أهم خصائص اللغة العربية فى القديم، فقد كان العرب لا يميلون إلى الاطالة والشرح والإسهاب، وكانوا يعدون الإيجاز هو البلاغة، فأكثم بن صيفى يرى أنّ البلاغة هى الايجاز، وكان جعفر بن يحيى يقول لكتّابه: «إن قدرتم أن تجعلوا كتبكم توقيعات فافعلوا» (¬1). وفعلوا مثل ذلك فى القصائد، وقد قيل لبعضهم: مالك لا تزيد على أربعة واثنين؟ قال: هنّ بالقلوب أوقع وإلى الحفظ أسرع وبالألسن أعلق، وللمعانى أجمع وصاحبها أبلغ وأوجز. وقيل لآخر: ألا تطيل القصائد، فقال: أبى لى أن أطيل الشعر قصدى … إلى المعنى وعلمى بالصواب وإيجازى بمختصر قريب … حذفت به الفضول من الجواب فأبعثهنّ أربعة وستا … مثقفة بألفاظ عذاب خوالد ماحدا ليل نهارا … وما حسن الصبا بأخى الشباب وهنّ إذا وسمت بهن قوما … كأطواق الحمائم فى الرّقاب وكنّ إذا أقمت مسافرات … تهاداها الرواة مع الركاب (¬2) ¬

_ (¬1) البيان والتبيين ج 1 ص 86، وكتاب الصناعتين ص 173. (¬2) كتاب الصناعتين ص 174.

وفى هذه الأبيات خلاصة لأغراض الإيجاز، فبه يصل المتكلم إلى هدفه من غير تمهيد أو زيادة لا يقتضيها المعنى، وبه يأتى الكلام قصيرا يسهل حفظه وروايته، وهذا ما يبدو واضحا فى الأمثال والخطب والشعر، وبهذا الأسلوب أيضا تصل المعانى إلى القلب فى أسرع ما يكون وتؤثر فيه فيهتز طربا إن كان الكلام مما يسر، وينفعل ويتجهم إن كان مما لا يسر. وكان لهذه الصفة التى أولع بها العرب أن اهتم البلاغيون والنقاد بأسلوب الايجاز، ووضعوا له حدودا وأقساما، وبينوا مواضعه، لأنّه ليس بمحمود فى كل موضع ولا بمختار فى كل كتاب بل لكل مقام مقال، وإلى ذلك أشار ابن قتيبة بقوله: «ولو كان الإيجاز محمودا فى كل الأحوال لجرّده الله تعالى فى القرآن، ولم يفعل الله ذلك ولكنه أطال تارة للتوكيد، وحذف تارة للايجاز، وكرر تارة للافهام» (¬1). وقال ابن جنى إنّ الإطالة والإيجاز هما فى كل كلام مقيد مستقل بنفسه ولو بلغ الإيجاز غايته لم يكن له بدّ من أن يعطيك تمامه وفائدته مع أنّه لا بد فيه من تركيب الجملة فان نقصت عن ذلك لم يكن هناك استحسان ولا استعذاب. وقال إنّ العرب إلى «الايجاز أقبل وعن الإكثار أبعد»، وضرب مثلا بالقرآن الكريم وما فيه من الحذف الذى يجعل الكلام موجزا (¬2). ومعنى ذلك أنّ هذا الأسلوب ضرورى كغيره إذا أراد المتكلم أن يكون مطابقا لمقتضى الحال ولذلك يقول أبو هلال العسكرى: «إنّ الإيجاز والإطناب يحتاج إليهما فى جميع الكلام وكل نوع منه، ولكل واحد منهما موضع، فالحاجة إلى الإيجاز فى موضعه كالحاجة إلى الإطناب فى مكانه فمن أزال التدبير فى ذلك عن جهته، واستعمل الإطناب فى موضع الإيجاز واستعمل الإيجاز فى موضع الإطناب أخطأ» (¬3). ¬

_ (¬1) أدب الكاتب ص 15. (¬2) ينظر الخصائص ج 1 ص 39، 83، 86. (¬3) كتاب الصناعتين ص 190.

وتحدث ابن رشيق عن الإيجاز وذكر تعريف الرمانى وهو: «الإيجاز هو العبارة عن الغرض بأقل ما يمكن من الحروف» وقسّمه إلى نوعيه المعروفين (¬1). وعقد ابن سنان له بحثا وسمّاه «الإشارة» وقال عنه: «هو أن يكون المعنى زائدا على اللفظ، أى أنّه لفظ موجز يدل على معنى طويل على وجه الإشارة واللمحة» (¬2). والمختار عنده فى الفصاحة والدال على البلاغة هو أن يكون المعنى مساويا للفظ أو زائدا عليه، أى أن يكون اللفظ القليل يدل على الكثير دلالة واضحة ظاهرة لا أن تكون الألفاظ لفرط إيجازها قد ألبست المعنى وأغمضته حتى يحتاج فى استنباطه إلى طرف من التأمل ودقيق الفكر. وعرّف الرازى الإيجاز بقوله: «وحده أنّه العبارة عن الغرض بأقل ما يمكن من الحروف من غير إخلال» (¬3). وقال السكاكى إنّ الإيجاز والإطناب- كما سبق- من الأمور النسبية كالأبوة والبنوة وهى التى يتوقف تعقلها على تعقل غيرها، فإنّ الكلام الموجز إنّما يدرك من حيث وصفه بالإيجاز بالقياس إلى كلام آخر أكثر منه، وكذلك المطنب إنّما يدرك من حيث وصفه بالإطناب إلى كلام آخر يكون أقل منه. وتحدث عنه ابن الأثير وعقد له فصلا فى «المثل السائر» وفصلا فى «الجامع الكبير» وقال فى تعريفه: «هو حذف زيادات الألفاظ» (¬4)، وهذا النوع من الأساليب شريف لا يتعلق به إلّا فرسان البلاغة، وذلك لعلو منزلته وبعد مناله. ثم قال بعد أن مهد لبحثه: «حد الإيجاز هو دلالة اللفظ ¬

_ (¬1) العمدة ج 1 ص 221. (¬2) سر الفصاحة ص 243. (¬3) نهاية الإيجاز ص 145. (¬4) المثل السائر ج 2 ص 71، والجامع الكبير ص 122.

أقسامه

على المعنى من غير أن يزيد عليه، والتطويل هو ضد ذلك، وهو أن يدل على المعنى بلفظ يكفيك بعضه فى الدلالة عليه» (¬1). وسماه ابن الزملكانى «الإشارة» وقال: «هو إثبات المعانى المتكثرة باللفظ القليل» (¬2). وقال العلوى: «وهو فى مصطلح أهل هذه الصناعة عبارة عن تأدية المقصود من الكلام بأقل عبارة متعارف عليها» (¬3). وهذه التعريفات لا تخرج عن القول بأنّ الإيجاز هو التعبير عن المعانى بألفاظ قليلة تدل عليها لا دلالة تحتاج إلى تأمل دقيق. أقسامه: الإيجاز ضربان: [الأول: إيجاز القصر:] الأول: إيجاز القصر: وهو تقليل الألفاظ وتكثير المعانى ويرى ابن الأثير أنّ التنبه لهذا النوع عسر، لأنّه يحتاج إلى فضل تأمل (¬4)، ومن ذلك قوله تعالى: «وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ» (¬5). وتتبين قيمة هذه الآية الكريمة حينما تقارن بقولهم: «القتل أنفى للقتل»، ويتضح ذلك فى وجوه: أحدها: أنّ عدة حروف ما يناظره منه وهو «فِي الْقِصاصِ حَياةٌ» عشرة فى التلفظ وعدة حروفه أربعة عشر. وثانيها: ما فيه من التصريح بالمطلوب الذى هو الحياة بالنص عليها فيكون أزجر عن القتل بغير حق لكونه أدعى إلى الاقتصاص. ¬

_ (¬1) المثل السائر ج 2 ص 74. (¬2) التبيان فى علم البيان ص 110، وينظر البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن ص 232. (¬3) الطراز ج 3 ص 316. (¬4) المثل السائر ج 2 ص 78. (¬5) البقرة 179.

وثالثها: ما يفيده تنكير «حياة» من التعظيم أو النوعية. ورابعها: اطراده بخلاف قولهم، فانّ القتل الذى ينفى القتل هو ما كان على وجه القصاص لا غيره. وخامسها: سلامته من التكرار الذى هو من عيوب الكلام بخلاف قولهم. وسادسها: استغناؤه عن تقدير محذوف بخلاف قولهم، فان تقديره: القتل أنفى للقتل من تركه. وسابعها: أنّ القصاص ضد الحياة، فالجمع بينهما طباق. وثامنها: جعل القصاص كالمنبع والمعدن للحياة بادخال «فى» عليه (¬1). ومن القصر قوله تعالى: «مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ» (¬2) وقوله: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» (¬3) وقوله: «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» (¬4). ومنه قول الشريف الرضى: مالوا إلى شعب الرّحال وأسندوا … أيدى الطعان إلى قلوب تخفق فانه لما أراد أن يصفهم بالشجاعة فى أثناء وصفهم بالغرام عبّر عن ذلك بقوله «أيدى الطعان». وهذا مفهوم الإيجاز بالقصر عند البلاغيين، غير أنّ ابن الأثير (¬5) يعدّه فرعا من الإيجاز الذى لا يحذف منه شئ، لأنّه يقسم الإيجاز إلى قسمين: ¬

_ (¬1) الإيضاح ص 182، وينظر كتاب الصناعتين ص 175، والمثل السائر ج 2 ص 125 وبديع القرآن ص 192، ونهاية الإيجاز ص 145. (¬2) المؤمنون 91. (¬3) يونس 23. (¬4) فاطر 43. (¬5) المثل السائر ج 2 ص 114، وينظر الطراز ج 2 ص 119 وما بعدها.

الايجاز بالحذف

[الايجاز بالحذف:] - الايجاز بالحذف: وهو ما يحذف منه المفرد والجملة. - ما لا يحذف منه شئ، وهو ضربان: الأول: ما ساوى لفظه معناه ويسمى التقدير. الثانى: ما زاد معناه على لفظه ويسمى الإيجاز بالقصر. وقسم الإيجاز بالقصر إلى نوعين: أحدهما ما دل لفظه على محتملات متعددة، ويمكن التعبير عنه بمثل ألفاظه وفى عدتها. ومنه قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى. فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ. وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى» (¬1). فقوله: «فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ» من جوامع الكلم التى يستدل على قلتها بالمعانى الكثيرة، أى غشيهم من الأمور الهائلة والخطوب الفادحة ما لا يعلم كنهه إلّا الله ولا يحيط به غيره. ومنه قوله تعالى: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» (¬2)، فجمع فى الآية جميع مكارم الأخلاق، لأنّ فى الأمر بالمعروف صلة الرحم ومنع اللسان عن الغيبة وعن الكذب، وغضّ الطّرف عن المحرمات وغير ذلك، وفى الإعراض عن الجاهلين الصبر والحلم وغيرهما. ومثاله قول السموأل: وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها … فليس إلى حسن الثناء سبيل فانّ هذا البيت قد اشتمل على مكارم الأخلاق جميعها من سماحة وشجاعة وعفة وتواضع وحلم وصبر وغير ذلك، فانّ هذه الأخلاق كلها ضيم النفس لأنّها تجد بحملها ضيما أى: مشقة وعناء. ¬

_ (¬1) طه 77 - 79. (¬2) الأعراف 199.

أدلة الحذف

وثانيهما: ما دل لفظه على محتملات متعددة، ولا يمكن التعبير عنه بمثل ألفاظه وفى عدتها، بل يستحيل ذلك وهو أعلى طبقات الإيجاز مكانا، ومنه قوله تعالى: «وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ» الذى فاق كل كلام وفضل غيره من كلام العرب. الثانى: إيجاز الحذف: وهو ما يكون بحذف كلمة أو جملة أو أكثر مع قرينة تعين المحذوف. أو هو كما قال ابن الأثير: «ما يحذف منه المفرد والجملة لدلالة فحوى الكلام على المحذوف، ولا يكون إلّا فيما زاد معناه على لفظه» (¬1). وقال عن هذا الأسلوب: «أما الإيجاز بالحذف فانه عجيب الأمر شبيه بالسحر، وذاك أنّك ترى فيه ترك الذكر أفصح من الذكر والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون مبينا إذا لم تبيّن، وهذه جملة تنكرها حتى تخبر وتدفعها حتى تنظر. والأصل فى المحذوفات جميعا على اختلاف ضروبها أن يكون فى الكلام ما يدل على المحذوف، فان لم يكن هناك دليل على المحذوف فانه لغو من الحديث لا يجوز بوجه ولا سبب. ومن شرط المحذوف فى حكم البلاغة أنّه متى أظهر صار الكلام إلى شئ غث لا يناسب ما كان عليه أولا من الطلاوة والحسن» (¬2). أدلة الحذف: أدلة الحذف كثيرة منها: - أن يدل العقل على الحذف، والمقصود الأظهر على تعيين المحذوف، كقوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ» (¬3)، فانّ العقل يدل على الحذف، والمقصود الأظهر يرشد إلى أنّ التقدير: حرّم عليكم تناول الميتة والدم ولحم الخنزير، لأنّ الغرض الأظهر منها تناولها. ¬

_ (¬1) المثل السائر ج 2 ص 78. (¬2) المثل السائر ج 2 ص 82. (¬3) المائدة 3.

- أن يدل العقل على الحذف والتعيين، كقوله تعالى: «وَجاءَ رَبُّكَ» (¬1) أى: أمر ربك أو عذابه أو بأسه. - أن يدل العقل على الحذف، والعادة على التعيين، كقوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز: «فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ» (¬2)، دل العقل على الحذف فيه، لأنّ الإنسان إنّما يلام على كسبه فيحتمل أن يكون التقدير فى حبه لقوله «قَدْ شَغَفَها حُبًّا» (¬3)، وأن يكون فى مراودته لقوله: «تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ» (¬4)، وأن يكون فى شأنه وأمره فيشملهما. والعادة دلت على تعيين المراودة، لأنّ الحب المفرط لا يلام الانسان عليه فى العادة لقهره صاحبه وغلبته إياه، وإنّما يلام على المراودة الداخلة تحت كسبه التى يقدر أن يدفعها عن نفسه. - أن تدل العادة على الحذف والتعيين، كقوله تعالى: «لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ» (¬5) مع أنّهم كانوا أخبر الناس بالحرب، فكيف يقولون بأنّهم لا يعرفونها؟ فلا بد من حذف، وتقديره «مكان قتال» أى: إنكم تقاتلون فى موضع لا يصلح للقتال ويخشى عليكم منه، ويدل على أنّهم أشاروا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن لا يخرج من المدينة وأنّ الحزم البقاء فيها. - الشروع فى الفعل، كقول المؤمن: «بسم الله الرحمن الرحيم» عند الشروع فى القراءة أو أى عمل، فانه لا يفيد أنّ المراد «بسم الله أقرأ». والمحذوف يقدر ما جعلت التسمية مبدأ له. ¬

_ (¬1) الفجر 22. (¬2) يوسف 32. (¬3) يوسف 30. (¬4) يوسف 30. (¬5) آل عمران 167.

النوع الأول: حذف جزء جملة

- اقتران الكلام بالفعل، فإنه يفيد تقديره، كقولنا لمن أعرس «بالرفاء والبنين» (¬1)، فإنه يفيد بالرفاء والبنين أعرست (¬2). والمحذوف- كما تقدم- نوعان: [النوع الأول: حذف جزء جملة] النوع الأول: حذف جزء جملة، وهو حذف المفردات ويكون على صور مختلفة: - حذف الفاعل والاكتفاء فى الدلالة عليه بذكر الفعل، كقول العرب «أرسلت» وهم يريدون المطر ولا يذكرون السماء. ومنه قوله تعالى: «كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ. وَقِيلَ مَنْ راقٍ» (¬3)، والضمير فى «بلغت» للنفس ولم يجر لها ذكر. ومنه قول حاتم الطائى: أماوىّ ما يغنى الثراء عن الفتى … إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر يريد النفس، ولم يجر لها ذكر: - حذف الفعل وجوابه، وهو نوعان: أحدهما: يظهر بدلالة المفعول عليه كقوله تعالى: «فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها» (¬4)، أى: احذروا. ومنه قول المتنبى: ولولا أنّ أكثر ما تمنّى … معاودة لقلت ولا مناكا فقوله «ولا مناكا» فيه محذوف تقديره: ولا صاحبت مناكا. ¬

_ (¬1) الرفاء- بالكسر-: الاتفاق والتلاحم. (¬2) الإيضاح ص 193، وتنظر شروح التلخيص ج 3 ص 203. (¬3) القيامة 26 - 27. (¬4) الشمس 13.

وقوله: ولا إلّا بأن يصغى وأحكى … فليتك لا يتيّمه هواكا فقوله «ولا إلّا بأن يصغى وأحكى» فيه محذوف تقديره: ولا أرضى إلّا بأن يصغى وأحكى. وثانيهما: لا يظهر فيه قسم الفعل لأنّه لا يكون هناك منصوب يدل عليه، وإنّما يظهر بالنظر إلى ملاءمة الكلام. كقوله تعالى: «وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» (¬1)، فقوله «لقد جئتمونا» يحتاج إلى إضمار فعل أى: فقيل لهم لقد جئتمونا، أو فقلنا لهم. ومن هذا الضرب إيقاع الفعل على شيئين وهو لأحدهما، كقوله تعالى: «فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ» (¬2) وهو ل «أمركم» وحده، وإنّما المراد أجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم. ومن حذف الفعل باب يسمى «باب إقامة المصدر مقام الفعل» ويؤتى به لضرب من المبالغة والتوكيد كقوله تعالى: «فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ» (¬3) قوله «ضرب الرقاب» أصله: فاضربوا الرقاب ضربا فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه وفى ذلك اختصار وتوكيد. وأما حذف جواب الفعل فانه لا يكون فى الأمر المحتوم كقوله تعالى: «فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا» (¬4) فجزم «يخوضوا ويلعبوا» لأنّهما جواب أمر «فذرهم» وحذف الجواب فى هذا لا يدخل فى باب الإيجاز. - حذف المفعول به، كقوله تعالى: «وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى. وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا» (¬5)، فبعد كل فعل مفعول به محذوف. ¬

_ (¬1) الكهف 48. (¬2) يونس 71. (¬3) محمد 4. (¬4) الزخرف 83. (¬5) النجم 43 - 44.

ويكون ذلك لأغراض: أحدها: أن يكون غرض المتكلم بيان حال الفعل والفاعل فقط كقوله تعالى: «وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ: ما خَطْبُكُما؟ قالَتا: لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ. فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ: رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» (¬1). وقد حذف المفعول به من أربعة مواضع لأنّ الغرض الحديث عن موسى لا عن كون المسقى غنما، أو إبلا، أو غير ذلك. وثانيها: أن يكون غرض المتكلم ذكره ولكنه يحذفه ليوهم أنّه لم يقصده كقول البحترى: شجو حسّاده وغيظ عداه … أن يرى مبصر ويسمع واع والمعنى: أن يرى مبصر محاسنه، ويسمع واع أخباره، ولكنه تغاضى عن ذلك. وثالثها: أن يحذف المفعول لأنّه معلوم، ويأتى هذا بعد فعل المشيئة كقوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ» (¬2)، وقوله: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ» (¬3)، أى: لو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها. ومما جاء على مثال ذلك شعرا قول البحترى: لو شئت لم تفسد سماحة حاتم … كرما ولم تهدم مآثر خالد ¬

_ (¬1) القصص 23 - 24. (¬2) النحل 9. (¬3) البقرة 20.

الأصل فى ذلك: لو شئت ألّا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها فحذف ذلك من الأول استغناء بدلالته عليه فى الثانى (¬1). - حذف المضاف إليه وإقامة كل واحد منهما مقام الآخر. فمن حذف المضاف قوله تعالى: «وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ» (¬2)، أى أهلها. وقول الشاعر: إذا لاقيت قومى فاسأليهم … كفى قوما بصاحبهم خبيرا هل اعفو عن أصول الحقّ فيهم … إذا عسرت وأقتطع الصدورا أراد أنه يقتطع ما فى الصدور من الضغائن، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. ومن حذف المضاف إليه قوله تعالى: «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ» (¬3)، أى من قبل ذلك ومن بعده. وهذا النوع قليل الاستعمال لأنّ المضاف يكتسى منه تعريفا وتخصيصا فحذفه يخلّ بالكلام لإذهاب فائدته بخلاف المضاف نفسه، فانّه لا يخل حذفه من جهة أنّ المضاف إليه يذهب بفائدته ويقوم مقامه. وربما حذف المضاف والمضاف إليه وهذا نادر كقوله تعالى: «فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ» (¬4)، أى من أثر حافر فرس الرسول- صلى الله الله عليه وسلم- وقد قال العلوى عنه: «ولا يكاد يوجد إلّا حيث دلالة الكلام عليه» (¬5) وسماه ابن الأثير «حذف المضاف مكررا» (¬6). ¬

_ (¬1) ينظر المثل السائر ج 2 ص 97، وبديع القرآن ص 185، والطراز ج 2 ص 104. (¬2) يوسف 82. (¬3) الروم 4. (¬4) طه 96. (¬5) الطراز ج 2 ص 107. (¬6) المثل السائر ج 2 ص 99.

- حذف الموصوف والصفة وإقامة كل واحد منهما مقام الآخر، فمن حذف الموصوف قوله تعالى: «وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً» (¬1) أى: آية مبصرة، ولم يرد الناقة فانها لا معنى لوصفها بالبصر. ومنه قول الشاعر: أنا ابن جلا وطلّاع الثنايا … متى أضع العمامة تعرفونى أى: انا ابن رجل جلا. وقول البحترى: وإذا ما رأيت صورة إنطا … كيّة ارتعت بين روم وفرس والمنايا مواثل وأنو شر … وان يزجى الصفوف تحت الدّرفس فى اخضرار من اللباس على أص … فر يختال فى صبيغة ورس فقوله «على أصفر» أى على فرس أصفر، وهذا مفهوم من قرينة الحال لأنّه لما قال «على أصفر» علم بذلك أنه أراد فرسا أصفر. ومن حذف الصفة قوله تعالى: «وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً» (¬2) أى: كل سفينة صحيحة أو صالحة. - حذف الشرط وجوابه: ومثال حذف الشرط قوله تعالى: «يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ» (¬3)، فالفاء فى قوله «فاعبدون» جواب شرط محذوف، والمعنى: إنّ أرضى واسعة فان لم تخلصوا لى العبادة فى أرض فأخلصوها فى غيرها. ومنه قوله: «فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» (¬4)، أى: فأفطر فعدة من أيام أخر. ¬

_ (¬1) الإسراء 59. (¬2) الكهف 79. (¬3) العنكبوت 56. (¬4) البقرة 184.

ومن حذف الشرط قوله تعالى: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ، كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ. قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (¬1) يقول: إن كنتم منكرين للبعث فهذا يوم البعث، أى: قد تبين بطلان قولكم. ومنه قول الشاعر: قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا … ثم القفول فقد جئنا خراسانا كأنه قال: إن صحّ ما قلتم إن خراسان أقصى ما يراد بنا فقد جئنا خراسان وآن لنا أن نخلص. وأما حذف جواب الشرط فكقوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (¬2)، فان جواب الشرط هنا محذوف تقديره: إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين؟ ويدل على المحذوف قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ». ويحذف جواب الشرط: - لمجرد الاختصار، كالآية السابقة، وكقوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ، أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى» (¬3)، أى: لكان هذا القرآن. - للدلالة على أنّه شئ لا يحيط به الوصف، أو لتذهب نفس السامع كل مذهب، كقوله تعالى: «وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً، ¬

_ (¬1) الروم 55 - 56. (¬2) الأحقاف 10. (¬3) الرعد 31.

حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ» (¬1) وقد حذف جواب الشرط لعظمة المشهد ولكى تذهب النفس فى تصوره كل مذهب (¬2). ولهذا المعنى حذفت الصلة من قولهم: «جاء بعد اللتيا والتى» (¬3) أى المشار إليه بهما وهى المحنة والشدائد قد بلغت شدتها وفظاعة شأنها مبلغا يبهت الواصف معه حتى لا يحير بنت شفة (¬4). - لعلم المخبر بوضع الكلام، وقد سأل سيبويه أستاذه الخليل عن قوله تعالى: «حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها» (¬5) أين جوابها؟ وعن قوله تعالى: «وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ» (¬6) «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ» (¬7)، فقال: «إنّ العرب قد تترك فى مثل هذا الخبر الجواب فى كلامهم لعلم المخبر لأى شئ وضع هذا الكلام» (¬8). - حذف القسم وجوابه، ومثال حذف القسم «لأفعلن» أى: والله لأفعلن. ومثال حذف جوابه قوله تعالى: «وَالْفَجْرِ* وَلَيالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ* وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ* هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ* أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ* إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ* الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ» (¬9)، فجواب القسم هنا محذوف تقديره: ليعذبن أو نحوه. ¬

_ (¬1) الزمر 73. (¬2) ينظر الإيضاح ص 187، وشروح التلخيص ج 3 ص 193. (¬3) اللتيا: تصغير التى. (¬4) مفتاح العلوم ص 134 - 135، والإيضاح ص 188. (¬5) الزمر 73. (¬6) البقرة 165. (¬7) الأنعام 27. (¬8) كتاب سيبويه ج 1 ص 453. (¬9) الفجر 1 - 8.

- حذف لو وجوابها، ومثال حذف «لو» قوله تعالى: «مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ» (¬1). وتقديره: لو كان معه آلهة لذهب كل إله بما خلق. ومنه قول قريط بن أنيف: لو كنت من مازن لم تستبح إبلى … بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا إذن لقام بنصرى معشر خشن … عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا والتقدير: إذن لو كنت منهم لقام بنصرى معشر خشن. ومثال حذف جواب «لو» قوله تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ» (¬2) وتقدير جواب لو: لرأيت أمرا عظيما. ومنه قول أبى تمام: لو يعلم الكفر كم من أعصر كمنت … له العواقب بين السّمر والقضب والتقدير: لو يعلم الكفر لأخذ أهبة الحذار. - حذف جواب «لولا» كقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا، لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» (¬3) تقديره ولولا فضل الله عليكم ورحمته لعجل لكم العذاب. - حذف جواب «لما» كقوله تعالى: «فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» (¬4)، ¬

_ (¬1) المؤمنون 91. (¬2) سبأ 51. (¬3) النور 19 - 20. (¬4) فات 102 - 105.

وتقديره: فلما أسلما وتلّه للجبين وناديناه أن يا ابراهيم قد صدقت الرؤيا كان ما كان مما ينطق به الحال ولا يحيط به الوصف. - حذف جواب «أما»، كقوله تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ» (¬1)، والتقدير: فيقال لهم أ كفرتم بعد إيمانكم، فحذف القول وأقام المقول مقامه. - حذف جواب «إذا» كقوله تعالى: «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ» (¬2)، والتقدير: وإذا قيل لهم اتقوا أعرضوا وأصروا على تكذيبهم، وقد دل عليه قوله: «إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ». - حذف المبتدأ والخبر. ولا يكون حذف المبتدأ إلّا مفردا، والأحسن حذف الخبر لأنّ منه ما يأتى جملة. ومن المواضع التى يحسن فيها حذف المبتدأ على طريق الإيجاز قولهم «الهلال والله»، أى: هذا الهلال. ومن المواضع التى يصح فيها حذف الخبر قولنا «لولا محمد لكان كذا» ومن المواضع التى يحتمل أن يكون المحذوف فيها إمّا المبتدأ وإمّا الخبر قوله تعالى: «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ» (¬3) فيحتمل أن يكون المبتدأ محذوفا وتقديره «فأمرى صبر جميل» ويحتمل أن يكون من باب حذف الخبر وتقديره «فصبر جميل أجمل». - حذف «لا» من الكلام وهى مرادة، كقوله تعالى: «تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ» (¬4) أى: لا تفتأ، فحذفت «لا» من الكلام وهى مرادة. ¬

_ (¬1) آل عمران 106. (¬2) يس 45 - 46. (¬3) يوسف 85. (¬4) يوسف 85.

النوع الثانى: حذف الجمل

ومنه قول امرئ القيس: فقلت: يمين الله أبرح قاعدا … ولو قطعّوا رأسى لديك وأوصالى أى: لا أبرح قاعدا ... - حذف الواو من الكلام وإثباتها، وأحسن حذوفها فى المعطوف والمعطوف عليه، ومنه قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ» (¬1). أى: لا يألونكم خبالا وودوا ... - حذف بعض اللفظ وهو سماعى لا يجوز القياس عليه (¬2)، ومنه قول علقمة بن عبدة: كأنّ إبريقهم ظبى على شرف … مفدّم بسبا الكتّان ملثوم (¬3) فقوله: «بسبا الكتان» يريد بسبائب الكتان. وهذا وأمثاله مما يقبح ولا يحسن وإن كانت العرب قد استعملته فانه لا يجوز لنا أن نستعمله. [النوع الثانى: حذف الجمل] النوع الثانى: حذف الجمل وهو قسمان: أحدهما: حذف الجمل المفيدة التى تستقل بنفسها كلاما وهذا أحسن المحذوفات وأدلها على الاختصار ولا نكاد نراه إلّا فى كتاب الله تعالى. وثانيهما: حذف الجمل غير المفيدة. وجملة هذين النوعين أربعة أضرب: الضرب الأول: حذف السؤال المقدر ويسمى الاستئناف ويكون على وجهين: ¬

_ (¬1) آل عمران 118. (¬2) ينظر المثل السائر ج 2 ص 113؛ والطراز ج 2 ص 112. (¬3) الفدام: خرقة تجعل فى فم الإبريق. سبائب الكتان: جمع سبيبة وهى الشقة، وقيل: الشقة البيضاء.

- إعادة الأسماء والصفات، كقوله تعالى: «الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (¬1)، والاستئناف واقع فى هذا الكلام على «أولئك» لأنه لما قال «الم. ذلك الكتاب» إلى قوله «وبالآخرة هم يوقنون» اتجه السائل أن يقول: ما بال المستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى، فأجيب بأن أولئك الموصوفين غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلا وبالفلاح آجلا. - الاستئناف بغير إعادة الأسماء والصفات، كقوله تعالى: «وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ* إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ* قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ» (¬2). فمخرج هذا القول مخرج الاستئناف، لأن ذلك من مظان المسألة عن حاله عند لقاء ربه، وكأنّ قائلا قال: كيف حال هذا الرجل عند لقاء ربه بعد ذلك التصلب فى دينه والتسخى لوجهه بروحه؟ فقيل: قيل ادخل الجنة ولم يقل قيل له لانصباب الغرض إلى المقول لا إلى المقول له مع كونه معلوما، وكذلك قوله تعالى: «يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ» مرتب على تقدير سؤال سائل عما وجد. الضرب الثانى: الاكتفاء بالسبب عن المسبب وبالمسبب عن السبب، فاما الاكتفاء بالسبب عن المسبب فكقوله تعالى: «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ ¬

_ (¬1) البقرة 1 - 5. (¬2) يس 22 - 27.

إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ» (¬1)، فذكر الرحمة التى هى السبب فى إرساله إلى الخلق ودل بها على المسبب وهو الإرسال. وعليه قول المتنبى: أتى الزمان بنوه فى شبيبته … فسرّهم وأتيناه على الهرم أى: فساءنا. وأما حذف الجملة غير المفيدة من هذا الضرب فكقوله تعالى حكاية عن مريم- عليها السلام- «قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا. قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا» (¬2)، فقوله: «ولنجعله آية للناس» تعليل معلّله محذوف أى: وإنما فعلنا ذلك لنجعله آية للناس، فذكر السبب الذى صدر الفعل من أجله، وهو جعله آية للناس، ودل به على المسبب الذى هو الفعل. وأما الاكتفاء بالمسبب عن السبب، فكقوله تعالى: «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» (¬3)، أى: إذا أردت قراءة القرآن. فاكتفى بالمسبب الذى هو القراءة عن السبب الذى هو الإرادة، والدليل على ذلك أنّ الاستعاذة قبل القراءة والذى دلت عليه أنّها بعد القراءة. الضرب الثالث: الإضمار على شريطة التفسير، وهو أن يحذف من صدر الكلام ما يؤتى به فى آخره فيكون الآخر دليلا على الأول. وهو ثلاثة أوجه (¬4): ¬

_ (¬1) القصص 44 - 45. (¬2) مريم 20 - 21. (¬3) النحل 98. (¬4) ينظر المثل السائر ج 2 ص 86، والجامع الكبير ص 125، والطراز ج 2 ص 97.

- أن يأتى على طريق الاستفهام فتذكر الجملة الأولى دون الثانية، كقوله تعالى: «أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (¬1)، تقدير الآية: أفمن شرح الله صدره للاسلام كمن أقسى قلبه؟ ويدل على المحذوف قوله «فويل للقاسية قلوبهم». - أن يرد على حد النفى والإثبات، كقوله تعالى: «لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا» (¬2). تقديره: لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ومن أنفق من بعده وقاتل، ويدل على المحذوف قوله: «أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا». - أن يرد على غير هذين الوجهين، فلا يكون استفهاما ولا نفيا وإثباتا كقوله تعالى: «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا، وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ» (¬3) فالمعنى فى الآية: والذين يعطون ما أعطوا من الصدقات وسائر القرب الخالصة لوجه الله تعالى «وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ» أى: خائفة من أن ترد عليهم صدقاتهم فحذف قوله: ويخافون أن ترد عليهم هذه النفقات، ودل عليه بقوله «وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ» فظاهر الآية أنّهم وجلون من الصدقة وليس من وجلهم لأجل الصدقة، وإنّما وجلهم لأجل خوف الرد المتصل بالصدقة. وكقول أبى تمام: يتجنب الآثام ثم يخافها … فكأنّما حسناته آثام ¬

_ (¬1) الزمر 22. (¬2) الحديد 10. (¬3) المؤمنون 60.

التقدير: أنه يتجنب الآثام فاذا تجنبها فقد أتى بحسنة ثم يخاف أن لا تكون تلك الحسنة مقبولة، فكأنما حسناته آثام فلم يخف الحسنة لكونها حسنة وإنّما خاف ما يتصل بها من الرد فكأنها مخوفة كما تخاف الآثام. ومنه قول أبى نواس: سنّة العشّاق واحدة … فاذا أحببت فاستكن فحذف الاستكانة من الأول وذكرها فى المصراع الثانى، لأنّ التقدير: سنة العاشقين واحدة وهى أن يستكينوا ويتضرعوا، فاذا أحببت فاستكن. الضرب الرابع: ما ليس بسبب ولا مسبب، ولا إضمار على شريطة التفسير، ولا استئناف. فمن حذف الجمل المفيدة فيه قوله تعالى: «قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ. وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ» (¬1)، فانه حذف من هذا الكلام جملة مفيدة تقديرها: فرجع الرسول فأخبرهم بمقالة يوسف فعجبوا لها أو فصدقوه عليها وقال الملك: «ائتونى به». ومن حذف الجمل غير المفيدة قوله تعالى: «يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا* قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا* قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً* قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا ¬

_ (¬1) يوسف 47 - 50.

فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا* يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا» (¬1). هذا الكلام قد حذف منه جملة دل عليها صدره وهو البشرى بالغلام وتقديرها: ولما جاءه الغلام ونشأ وترعرع قلنا له: يا يحيى خذ الكتاب بقوة، فالجملة المحذوفة ليست من الجمل المفيدة. ومما ورد على ذلك شعرا قول المتنبى: لا أبغض العيس لكّنى وقيت بها … قلبى من الهمّ أو جسمى من السّقم وفى هذا البيت حذف، والتقدير: لا أبغض العيس لإنضائى إياها فى الأسفار ولكنى وقيت بها كذا وكذا، فالثانى دليل على حذف الأول. ومما يتصل بهذا الضرب حذف ما يجئ بعد «أفعل» مثل: «الله أكبر» أى: أكبر من كل كبير. وعليه ورد قول البحترى: الله أعطاك المحبّة فى الورى … وحباك بالفضل الذى لا ينكر ولأنت أملأ فى العيون لديهم … وأجلّ قدرا فى الصدور وأكبر أى: أنت أملأ فى العيون من غيرك (¬2). ... ¬

_ (¬1) مريم 7 - 12. (¬2) ينظر التفصيل فى هذه المسائل المثل السائر ج 2 ص 71 وما بعدها، والجامع الكبير ص 122 وما بعدها، والإيضاح ص 185 وما بعدها، والطراز ج ص 88 وما بعدها، وشروح التلخيص ج 3 ص 183 وما بعدها.

الاطناب

الاطناب تعريفه: الإطناب- لغة- مصدر أطنب فى كلامه إطنابا، إذا بالغ فيه وطوّل ذيوله لإفادة المعانى. واشتقاقه من قولهم: «أطنب بالمكان» إذا طال مقامه فيه. والإطناب- اصطلاحا- زيادة اللفظ على المعنى لفائدة. وقد شغل هذا الأسلوب النقاد منذ عهد مبكر وعرض له الجاحظ، وعقد له البلاغيون فصولا ضافية، من ذلك ما فعله أبو هلال العسكرى الذى ذكر فى مطلع البحث حجة أصحاب الإطناب، فقد قالوا: «المنطق إنّما هو بيان، والبيان لا يكون إلّا بالإشباع، والشفاء لا يقع إلّا بالإقناع، وأفضل الكلام أبينه، وأبينه أشده إحاطة بالمعانى، ولا يحاط بالمعانى إحاطة تامة إلّا بالاستقصاء، والإيجاز للخواص، والإطناب مشترك فيه الخاصة والعامة، والغبى والفطن، والريض والمرتاض، ولمعنى ما أطيلت الكتب السلطانية فى إفهام الرعايا» (¬1). ولكن أبا هلال يرى أنّ الإيجاز والإطناب يحتاج إليهما فى الكلام، وهذا هو الصحيح لتتم المطابقة لمقتضى الحال. وكان ابن الأثير من أكثر البلاغيين اهتماما بهذا الأسلوب، وقد عرّفه بقوله: «هو زيادة اللفظ على المعنى لفائدة» (¬2). وعرفه ابن قيم الجوزية بقوله: «هو زيادة فى اللفظ لتقوية المعنى» (¬3) ويتفق هذا التعريف مع التعريفات الأخرى التى لا تكاد تخرج عن هذا المعنى ¬

_ (¬1) كتاب الصناعتين ص 190. (¬2) المثل السائر ج 2 ص 128، وينظر الجامع الكبير ص 146. (¬3) الفوائد ص 907.

وهو أنّ الإطناب زيادة اللفظ لغرض يقصد إليه المتكلم، وإلّا كان إطالة لا يقتضيها المقام. والتطويل من المصطلحات التى تتردد، وقد ذم بعضهم هذا الأسلوب وميّز بينه وبين الإطناب فقال أبو هلال: «فالإطناب بلاغة والتطويل عى، لأنّ التطويل بمنزلة سلوك ما يبعد جهلا بما يقرب، والإطناب بمنزلة سلوك طريق بعيد نزه يحتوى على زيادة فائدة» (¬1). وفرّق ابن الأثير بينهما فقال فى التطويل إنّه «يدل على المعنى بلفظ يكفيك بعضه فى الدلالة عليه» (¬2). وقال عنه: «هو زيادة اللفظ عن المعنى لغير فائدة» (¬3)، فى حين قال عن الإطناب إنه «زيادة اللفظ على المعنى لفائدة» (¬4)، واذا حذفت منه الزيادة المؤكدة للمعنى تغير ذلك المعنى وزال ذلك التأكيد عنه وذهبت فائدة التصوير والتخييل التى تفيد السامع ما لم يكن إلّا بها، فقوله تعالى: «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» (¬5) لا يسمى إيجازا لأنه أتى فيه بزيادة لفظ هى «الصدور» ولا يسمى تطويلا لأن التطويل لا فائدة فيه أصلا وهذا فيه فائدة ولذلك سمى إطنابا، وليس كذلك التطويل فالبيت: طلوع الثنايا بالمطايا وسابق … إلى غاية من يبتدرها يقدّم فيه تطويل لأنّ لفظة «المطايا» فضلة لا حاجة إليها (¬6) ¬

_ (¬1) كتاب الصناعتين ص 191. (¬2) المثل السائر ج 2 ص 74. (¬3) المثل السائر ج 2 ص 129. (¬4) المثل السائر ج 2 ص 128. (¬5) الحج 46. (¬6) ينظر المثل السائر ج 2 ص 74 وص 157.

أقسامه

وفرّق الخطيب القزوينى بين الإطناب والتطويل ولكنه قال عن الثانى: «وهو ألا يتعين الزائد فى الكلام» (¬1) وسمّى الذى يتعين فيه الزائد حشوا. أقسامه: يأتى الإطناب على أشكال مختلفة منها: [- الإيضاح بعد الإبهام:] - الإيضاح بعد الإبهام: ويأتى لأغراض: الأول: ليرى المعنى فى صورتين مختلفتين. الثانى: ليتمكن فى النفس فضل تمكن، فان المعنى إذا ألقى على سبيل الإجمال والإبهام تشوّقت نفس السامع إلى معرفته على سبيل التفصيل والإيضاح. الثالث: لتكمل اللذة بالعلم به، فانّ الشئ إذا حصل كمال العلم به دفعة لم يتقدم حصول اللذة به ألم وإذا حصل الشعور به من وجه دون وجه تشوقت النفس إلى العلم بالمجهول فيحصل لها بسبب المعلوم لذة. الرابع: لتفخيم الأمر وتعظيمه. ومثال هذا الأسلوب قوله تعالى: «وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ» (¬2)، فان «أنّ دابر هؤلاء مقطوع مصبحين» إيضاح للإبهام الذى تضمنه لفظ «الأمر» وفيه تفخيم للأمر وتعظيم له. ومنه قوله تعالى: «قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي» (¬3)، فان قوله «اشرح لى» يفيد طلب شرح لشئ ما، وقوله «صدرى» يفيد تفسيره وبيانه، وكذلك قوله: «وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي» والمقام مقتض للتأكيد. ¬

_ (¬1) الإيضاح ص 177. (¬2) الحجر 66. (¬3) طه 25 - 26.

ومن الإيضاح بعد الإبهام باب «نعم وبئس» إذ لو لم يقصد الإطناب لقيل «نعم محمد» و «بئس زيد». ومنه «التوشيع» وهو أن يؤتى فى عجز الكلام بمثنى مفسر باسمين أحدهما معطوف على الآخر، كما جاء فى الخبر: «يشيب ابن آدم وتشب معه خصلتان: الحرص وطول الأمل». ومنه قول الشاعر: سقتنى فى ليل شبيه بشعرها … شبيهة خديها بغير رقيب فما زلت فى ليلين: شعر وظلمة … وشمسين: من خمر، ووجه حبيب ومنه قول ابن الرومى: إذا أبو قاسم جادت لنا يده … لم يحمد الأجودان: البحر والمطر وإن أضاءت لنا أنوار غرّته … تضاءل النيرّان: الشّمس والقمر وإن نضا حدّه أوسلّ عزمته … تأخر الماضيان: السيف والقدر من لم يبت حذرا من سطو صولته … لم يدر ما المزعجان: الخوف والحذر ينال بالظن ما يعيى العيان به … والشاهدان عليه: العين والأثر

- ذكر الخاص بعد العام

وقول البحترى: لما مشين بذى الأراك تشابهت … أعطاف قضبان به وقدود فى حلّتى حبر وروض فالتقى … وشيان: وشى ربى ووشى برود وسفرن فامتلأت عيون راقها … وردان: ورد جنى وورد خدود (¬1) [- ذكر الخاص بعد العام:] - ذكر الخاص بعد العام: ويؤتى به للتنبيه على فضل الخاص حتى كأنه ليس من جنس العام تنزيلا للتقارير فى الوصف منزلة التقارير فى الذات، كقوله تعالى: «حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ، وَالصَّلاةِ الْوُسْطى» (¬2) وقد خصّ «الصلاة الوسطى» - وهى صلاة العصر- بالذكر لزيادة فضلها. ومنه قوله تعالى: «مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ» (¬3) و «جبريل» و «ميكائيل» من الملائكة. وقوله: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» (¬4)، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر داخل فى الخير ولكنه تعالى خصهما. ومنه قول المتنبى: فان تفق الأنام وأنت منهم … فان المسك بعض دم الغزال ¬

_ (¬1) ينظر الإيضاح ص 195 - 196، وخزانة الأدب ص 169، والبرهان فى علوم القرآن ج 2 ص 477، وشروح التلخيص ج 3 ص 215. (¬2) البقرة 938. (¬3) البقرة 98. (¬4) آل عمران 104.

- ذكر العام بعد الخاص

وقول ابن الرومى: كم من أب قد علا بابن ذرا شرف … كما علت برسول الله عدنان (¬1) [- ذكر العام بعد الخاص:] - ذكر العام بعد الخاص: ويؤتى به لإفادة العموم مع العناية بشأن الخاص. قال الزركشى: «وهذا أنكر بعض الناس وجوده، وليس بصحيح» (¬2) ومثّل له بقوله تعالى: «إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي» (¬3)، والنسك العبادة، فهو أعم من الصلاة. ومنه قوله: «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» (¬4). [- التكرير:] - التكرير: وهو أن يأتى المتكلم بلفظ ثم يعيده بعينه سواء كان اللفظ متفق المعنى أم مختلفا، أو يأتى بمعنى ثم يعيده (¬5). ويؤتى به لأغراض: الأول: التأكيد، كقوله تعالى: «كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ» (¬6)، وفى «ثم» دلالة على أنّ الإنذار الثانى أبلغ وأشد. الثانى: زيادة التنبيه على ما ينفى التهمة ليكمل تلقى الكلام بالقبول، ومنه قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِي آمَنَ: يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ. يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ» (¬7)، فانه كرر فيه النداء لذلك. ¬

_ (¬1) الإيضاح ص 197، وشروح التلخيص ج 3 ص 216، والبرهان فى علوم القرآن ج 2 ص 464. (¬2) البرهان فى علوم القرآن ج 2 ص 471. (¬3) الأنعام 162. (¬4) التوبة 78. (¬5) ينظر الفوائد ص 111، والمثل السائر ج 2 ص 129، 157، والجامع الكبير ص 204، وخزانة الأدب ص 164، والمصباح ص 105. (¬6) التكاثر 3 - 4. (¬7) غافر 38 - 39.

الثالث: إذا طال الكلام وخشى تناسى الأول أعيد ثانيا تطرية له وتجديدا لعهده، كقوله تعالى: «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ، ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» (¬1). الرابع: فى مقام التعظيم والتهويل، كقوله تعالى: «الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ» (¬2) وقوله: «الْقارِعَةُ. مَا الْقارِعَةُ» (¬3)، وقوله: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ» (¬4). الخامس: التعجب، كقوله تعالى: «فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ» (¬5) فأعيد تعجبا من تقديره وإصابته الغرض. السادس: لتعدد المتعلق، كما كرّره تعالى من قوله: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» * فى سورة الرحمن، فانها وإن تعددت فكل واحد منها متعلق بما قبله. السابع: الترغيب فى قبول النصح، كقوله تعالى: «وَقالَ الَّذِي آمَنَ: يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ. يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ» (¬6)، فقد كرر «يا قوم» لتعطيف قلوبهم. الثامن: التلذذ بذكر المكرر، كقول الشاعر: سقى الله نجدا والسلام على نجد … ويا حبّذا نجد على القرب والبعد التاسع: إظهار التحسر كقول الحسين بن مطير يرثى معن بن زائدة: ¬

_ (¬1) النحل 119. (¬2) الحاقة 1 - 2. (¬3) القارعة 1 - 2. (¬4) القدر 1 - 2. (¬5) المدثر 19 - 90. (¬6) غافر 38 - 39.

- الإيغال

فيا قبر معن أنت أوّل حفرة … من الأرض خطّت للسماحة موضعا ويا قبر معن كيف واريت جوده … وقد كان منه البرّ والبحر مترعا ويؤتى لغير ذلك من الأغراض التى يحددها المقام (¬1). [- الإيغال:] - الإيغال: واختلف فى معناه، فقيل: هو ختم البيت بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها، كزيادة المبالغة فى قول الخنساء: وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به … كأنّه علم فى رأسه نار فهى لم تقف عند تشبيهه بالجبل المرتفع بل أضافت النار فى رأسه. وقيل إنّه لا يختص بالنظم، ومن ذلك قوله تعالى «اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ» (¬2). ولذلك فتعريفه بأنه «الإتيان فى مقطع البيت وعجزه أو فى الفقرة الواحدة بنعت لما قبله مفيد للتأكيد والزيادة» (¬3) يجمع النوعين. [- التذييل:] - التذييل: قال ابن سنان: «هو أن يكون اللفظ زائدا على المعنى وفاضلا عنه» (¬4)، ويفهم من هذا التعريف أنّه يريد «التطويل»، أو الإطناب، لأنّه قسّم دلالة الألفاظ على المعانى ثلاثة أقسام: المساواة والتذييل والإشارة، وليس كذلك تعريف المتأخرين، فهو «تعقيب الجملة بجملة تشتمل على ¬

_ (¬1) ينظر الإيضاح ص 197، وشروح التلخيص ج 3 ص 218، والبرهان فى علوم القرآن ج 4 ص 11. (¬2) يس 21. (¬3) الطراز ج 3 ص 131، وينظر سر الفصاحة ص 181، وكتاب الصناعتين ص 380، والجامع الكبير ص 241، والمصباح ص 104، وبديع القرآن ص 91، وتحرير التحبير ص 232، 241، وخزانة الأدب ص 234؛ والإيضاح ص 199 وشروح التلخيص ج 3 ص 220. (¬4) سر الفصاحة ص 243، 256.

معناها للتوكيد» (¬1). وقد قال أبو هلال عن هذا الأسلوب: «فأما التذييل فهو إعادة الألفاظ المترادفة على المعنى بعينه حتى يظهر لمن لم يفهمه ويتوكد عند من فهمه، وهو ضد الإشارة والتعريض. وينبغى أن يستعمل فى المواطن الجامعة والمواقف الحافلة، لأن تلك المواطن تجمع البطئ الفهم، والبعيد الذهن، والثاقب القريحة، والجيد الخاطر، فاذا تكررت الألفاظ على المعنى الواحد توكد عند الذهن اللقن وصحّ للكليل البليد» (¬2). والتذييل ضربان: الأول: لا يخرج مخرج المثل لعدم استقلاله بافادة المراد وتوقفه على ما قبله كقوله تعالى: «ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ» (¬3) أى: هل نجازى ذلك الجزاء الذى يستحقه الكفور إلّا الكفور، فان جعلنا الجزاء عاما كان الثانى مفيدا فائدة زائدة. ومنه قول الشاعر: فدعوا نزال فكنت أول نازل … وعلام أركبه إذا لم أنزل فالشطر الثانى تذييل ولكنه غير مستقل عن الأول. وقول المتنبى: وما حاجة الأضعان حولك فى الدجى … إلى قمر؟ ما واجد لك عادمه (¬4) فقوله «ما واجد لك عادمه» تذييل. ¬

_ (¬1) الإيضاح ص 200، والمصباح ص 98، الفوائد ص 121، شروح التلخيص ج 3 ص 225 الطراز ج 3 ص 111، البرهان فى علوم القرآن ج 3 ص 68، خزانة الأدب ص 110. (¬2) كتاب الصناعتين ص 373. (¬3) سبأ 17. (¬4) أى لا يعدم القمر من يجدك.

وقول ابن نباتة السعدى: لم يبق جودك لى شيئا أؤمله … تركتنى أصحب الدنيا بلا أمل فقوله: «تركتنى أصحب الدنيا بلا أمل» تذييل غير مستقل عن الجملة السابقة. الثانى يخرج مخرج المثل لاستقلاله بنفسه، كقوله تعالى: «وَقُلْ: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً» (¬1)، فقوله: «إنّ الباطل كان زهوقا» تذييل وهو مستقل عن السابق ولذلك يخرج مخرج المثل. ومنه قوله تعالى: «وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ. كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» (¬2)، فقوله «كل نفس ذائقة الموت» مستقلة ويضرب بها المثل. ويصحّ أن يكون قوله «أفإن متّ فهم الخالدون» من الضرب الأول أيضا. وقوله: «وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ» (¬3)، فقوله «إنّ النفس لامّارة بالسوء» تذييل يضرب به المثل. ومنه قول النابغة الذبيانى: ولست بمستبق أخا لا تلمّه … على شعث أىّ الرجال المهذّب فقوله «أىّ الرجال المهذب» تذييل وهو مستقل عما قبله ولذلك يضرب به المثل. وقول أبى نواس: عرم الزمان على الذين عهدتهم … بك قاطنين، وللزمان عرام (¬4) فقوله «وللزمان عرام» تذييل وهو مثل. ¬

_ (¬1) الإسراء 81. (¬2) الأنبياء 34 - 35. (¬3) يوسف 53. (¬4) العرام: الشدة والشراسة والأذى.

- التكميل

ومنه قول إبراهيم بن المهدى فى رثاء ولده: تبدّل دارا غير دار وجيرة … سواى، وأحداث الزمان تنوب فقوله «وأحداث الزمان تنوب» مثل، وهو مستغن عما قبله. والتذييل: - إما لتأكيد منطوق كلام، كقوله تعالى: «وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ، إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً». - وإما لتأكيد مفهومه كبيت النابغة: ولست بمستبق أخا لا تلمّه … على شعث أىّ الرجال المهذّب [- التكميل:] - التكميل: وهو الاحتراس، غير أنّ بدر الدين بن مالك يذكر فى كتابه «المصباح» (¬1) نوعين هما: الأول: الاحتراس: وهو أن تأتى فى المدح أو غيره بكلام فتراه مدخولا بعيب من جهة دلالة منطوقه أو فحواه فتردفه بكلام آخر لتصونه عن احتمال الخطأ. ومنه قول الخنساء: ولولا كثرة الباكين حولى … على إخوانهم لقتلت نفسى ففطنت لتوجه أن يقال لها قد ساويت أخاك بالهالكين من إخوان الناس فلم فرطت فى الجزع عليه، فاحترست بقولها: وما يبكون مثل أخى ولكن … أعزّى النّفس عنه بالتأسى الثانى: التكميل: وهو أن تأتى فى شئ من الفنون بكلام فتراه ناقصا لكونه مدخولا بعيب من جهة دلالة مفهومه فتكمله بجملة ترفع عنه النقص. ومنه قول السموأل: ¬

_ (¬1) المصباح ص 97 - 98.

وما مات منا سيّد فى فراشه … ولا طلّ منا حيث كان قتيل (¬1) فرأى أنّه وصف قومه بالصبر على القتل دون الانتصار من قاتليهم فكمله بالشطر الثانى. وجمع معظم البلاغيين بين المصطلحين وقال القزوينى: «وأما التكميل ويسمى الاحتراس أيضا وهو أن يؤتى فى كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفعه» (¬2)، أى يدفع ذلك التوهم. وهو ضربان: الأول: ضرب يتوسط الكلام، كقول طرفة: فسقى ديارك- غير مفسدها- … صوب الربيع وديمة تهمى فقوله «غير مفسدها» احتراس عن أن تذهب معالمها. وقول الآخر: لو أن عزّة خاصمت شمس الضّحى … فى الحسن عند موفّق لقضى لها فقوله «عند موفق» تكميل واحتراس من أنّها تقاضى الشمس عند حاكم غير موفق. وقول ابن المعتز: صببنا عليها- ظالمين- سياطنا … فطارت بها أيد سراع وأرجل فقوله «ظالمين» احتراس وتكميل، ولو حذفها الشاعر لفهم أن فرسه بطيئة تستحق الضرب. ¬

_ (¬1) يقول فى الشطر الأول أنهم شجعان أهل حرب لا يموت أحدهم موتا طبيعيا وإنما يموتون بجراحات المعركة. وطل الرجل: أهدر دمه. ومعناه: أنهم لا يفوتهم ثأر قتيل من قتلاهم، فهم أقوياء. (¬2) الإيضاح ص 202، وينظر شروح التلخيص ج 3 ص 231، والبرهان فى علوم القرآن ج 3 ص 68، والطراز ج 3 ص 108 وسماه «الإكمال».

- التتميم

الثانى: ضرب يقع فى آخر الكلام، كقوله تعالى: «فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ» (¬1)، فانه لو اقتصر على وصفهم بالذلّة على المؤمنين لتوهم أنّ ذلتهم لضعفهم، فلما قال «أعزة على الكافرين» علم أنّها منهم تواضع لهم. ومنه قول عنترة: اثنى علىّ بما علمت فانّنى … سهل مخالفتى إذا لم أظلم فقوله «إذا لم أظلم» احتراس دل به على أنّه قد يخالف فيرجع إلى الحق راضيا ولكنه لا يقبل الظلم. [- التتميم:] - التتميم: وهو أن يؤتى فى كلام لا يوهم خلاف المقصود بفضلة (¬2) تفيد نكتة (¬3)، أو كما قال العلوى: «هو تقييد الكلام بفضلة» (¬4). ويأتى لأغراض: الأول: المبالغة، كقوله تعالى: «وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ» (¬5)، أى: مع حبه، والضمير للطعام أى مع اشتهائه والحاجة إليه. ومنه: «وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ» (¬6)، وقوله: «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» (¬7) ومنه قول زهير: من يلق يوما على علاته هرما … يلق السماحة منه والندى خلقا فقوله «على علاته» تتميم للمبالغة. ¬

_ (¬1) المائدة 54. (¬2) الفضلة: هى غير المسند والمسند إليه. (¬3) الإيضاح ص 205، وشروح التلخيص ج 3 ص 235. (¬4) الطراز ج 3 ص 104. (¬5) الإنسان 8. (¬6) البقرة 177. (¬7) آل عمران 92.

- الاعتراض

الثانى: الصيانة عن احتمال الخطأ فترد رافعة له. ومنه قول الشاعر: لئن كان باقى عيشنا مثل ما مضى … فللحبّ إن لم يدخل النار أروح فقوله «إن لم يدخل النار» معناه سلامة العاقبة، وقد أتم به المعنى صيانة عن احتمال الخطأ، فقد أراد أنّ أول الحب لذة وراحة فان كان آخره مثل أوله فهو لا محالة أحمد عاقبة، لكن أن تكون العاقبة سليمة. الثالث: استقامة الوزن، ومنه قول المتنبى: وخفوق قلب لو رأيت لهيبه … يا جنّتى لرأيت فيه جهنما فقوله «يا جنتى» أتى بها من أجل استقامة الوزن (¬1). [- الاعتراض:] - الاعتراض: وهو كثير فى الأساليب العربية، وقد قال ابن جنى: «اعلم أنّ هذا القبيل من هذا العلم كثير قد جاء فى القرآن وفصيح الشعر ومنثور الكلام وهو جار عند العرب مجرى التأكيد فلذلك لا يشنع عليهم ولا يستنكر عندهم» (¬2). وقال القزوينى فى تعريفه: «وهو أن يؤتى فى أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين معنى، بجملة أو أكثر لا محلّ لها من الإعراب لنكتة سوى ما ذكر فى تعريف التكميل» (¬3). ومنهم من يذهب إلى أنّ الاعتراض هو الحشو (¬4)، وفرّق ابن حجة الحموى بينهما، وقال: «والفرق بينهما ظاهر، وهو أنّ الاعتراض يفيد زيادة فى غرض المتكلم والناظم، والحشو إنّما يأتى لإقامة الوزن لا غير» (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر الإيضاح ص 205، والطراز ج 3 ص 104 - 106. (¬2) الخصائص ج 1 ص 335. (¬3) الإيضاح ص 206، وينظر شروح التلخيص ج 3 ص 237، نهاية الإيجاز ص 111، المصباح ص 99. (¬4) المثل السائو ج 2 ص 183، والجامع الكبير ص 118، والطراز ج 2 ص 167. (¬5) خزانة الأدب ص 366.

وللاطناب بالاعتراض أغراض بلاغية منها: الأول: التنزيه: كقوله تعالى: «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ- سبحانه- وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ» (¬1)، ف «سبحانه» تضمنت تنزيها لله تعالى عن البنات. الثانى: التعظيم: كقوله تعالى: «فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ- لَوْ تَعْلَمُونَ- عَظِيمٌ» (¬2). الثالث: الدعاء، كما فى قول عوف بن محلم يشكو كبره: إنّ الثمانين- وبلّغتها- … قد أحوجت سمعى إلى ترجمان وقول المتنبى: وتحتقر الدنيا احتقار مجرّب … يرى كل ما فيها- وحاشاك- فانيا وقوله «حاشاك» دعاء حسن فى موضعه. الرابع: التنبيه، كقول الشاعر: واعلم- فعلم المرء ينفعه- … أن سوف يأتى كلّ ما قدرا ومنه قول أبى خراش الهذلى يذكر أخاه عروة: تقول أراه بعد عروة لاهيا … وذلك رزء- لو علمت- جليل فلا تحسبى أنّى تناسيت عهده … ولكنّ صبرى- يا أميم- جميل فقوله «لو علمت» و «يا أميم» جملتان اعتراضيتان تفيدان التنبيه على عظم المصاب وعلى تجلده وصبره. الخامس: المبادرة إلى اللوم، كقول كثير عزة: لو انّ الباخلين- وأنت منهم- … رأوك تعلّموا منك المطالا ¬

_ (¬1) النحل 57. (¬2) الواقعة 75 - 76.

السادس: التحسر، كقول إبراهيم بن المهدى فى رثاء ابنه: وإنّى- وإن قدّمت قبلى- لعالم … بأنّى- وقد أخّرت- منك قريب السابع: الاستعطاف، ومثل له السبكى (¬1) ببيت المتنبى: وخفوق قلب لو رأيت لهيبه … - يا جنّتى- لرأيت فيه جهنما ووجه حسن الاعتراض «حسن الإفادة مع أنّ مجيئه مجئ مالا معول عليه فى الإفادة فيكون مثله مثل الحسنة تأتيك من حيث لا ترتقبها» (¬2) وهذا هو النوع المفيد من الاعتراض، أمّا الذى يأتى لغير فائدة فهو على وجهين: الأول: أن يكون غير مفيد لكنه لا يكسب الكلام حسنا ولا قبحا، كقول زهير: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش … ثمانين حولا- لا أبالك- يسأم فقوله «لا بالك» ليس فيه فائدة توكيد، وليس فيه قبح. الثانى: أن يكون غير مفيد لكنه يكون قبيحا لخروجه عن قوانين العربية وانحرافه عن أقيستها، كقول الشاعر: فقد والشك بيّن لى عناء … بوشك فراقهم صرد يصيح ف «الشك» هنا قبيح. وهذا النوع يكون أقبح فى النثر ولذلك لم يأت فى فصيح كلام العرب وبليغه (¬3). ¬

_ (¬1) عروس الأفراح- شروح التلخيص ج 3 ص 241. (¬2) الإيضاح ص 209. (¬3) ينظر الطراز ج 2 ص 174.

المساواة

المساواة تلك أساليب الإيجاز والإطناب، وما عدا ذلك فهو أسلوب المساواة التى عرفها البلاغيون بأنها تساوى اللفظ والمعنى بحيث لا يزيد أحدهما على الآخر (¬1) أو هى «أن يكون اللفظ بمقدار أصل المراد لا ناقصا عنه بحذف أو غيره، ولا زائدا عليه بنحو تكرير أو تتميم أو اعتراض» (¬2). ومعرفة أساليب الإيجاز والإطناب تحدد أسلوب المساواة، ولذلك لم نشر إليها فى مطلع هذا الفصل كما فعل البلاغيون وإن كان تعريف بدر الدين ابن مالك يشير إلى أنّها لا تعرف إلا بعد تحديد الإيجاز والإطناب. يقول: «أما المساواة وهو أن يكون لفظ الكلام بمقدار معناه لا ناقصا عنه بحذف للاختصار ولا زائدا عليه بمثل الاعتراض والتتميم والتكرار» (¬3). ومعنى ذلك أنّ معرفتها رهينة بأساليب الإيجاز والإطناب، فهى تالية لها فى العرض والتحديد. ومن أجل ذلك تأخّر الحديث عنها ليسهل التمييز ويتضح القصد، أما الاتفاق على متعارف الأوساط فهو أمر من الصعب تحديده ليقاس عليه، وذلك لاختلاف الناس فى هذا المتعارف وتعدد الأغراض والأهداف التى ترسم الأسلوب الذى يقاس عليه الإيجاز والإطناب. ويرى أبو هلال العسكرى أنّ المساواة هى المذهب المتوسط بين الإيجاز والإطناب، وإلى ذلك أشار القائل بقوله: «كأنّ ألفاظه قوالب لمعانيه» أى: لا يزيد بعضها على بعض (¬4). ¬

_ (¬1) ينظر سر الفصاحة ص 243، والتبيان فى علم البيان ص 180، وبديع القرآن ص 79، وتحرير التحبير ص 197، والمثل السائر ج 2 ص 78، والفوائد ص 178، والطراز ج 3 ص 322، وخزانة الأدب ص 459. (¬2) الإيضاح ص 177. (¬3) المصباح ص 35. (¬4) كتلت الصناعتين ص 177.

امثله

وقال حازم القرطاجنى: «لأن الكلام المتقطع الأجزاء، المنبتر التراكيب، غير ملذوذ ولا مستحلى، وهو يشبه الرشفات المتقطعة التى لا تروى غليلا. والكلام المتناهى فى الطول يشبه استقصاء الجرع المؤدى إلى الغصص، فلا شفاء مع التقطيع المخل، ولا راحة مع التطويل الممل، ولكن خير الأمور أوسطها» (¬1). [امثله] ومن أمثلة المساواة قوله تعالى: «حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ» (¬2) وقوله: «وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ» (¬3) وقوله: «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» (¬4) وقوله: «وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» (¬5) وقوله: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» (¬6) وقوله: «وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ» (¬7) وقوله: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (¬8). ومنها قول النابغة الذبيانى: فانك كالليل الذى هو مدركى … وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع ¬

_ (¬1) منهاج البلغاء ص 65. (¬2) الرحمن 72. (¬3) القلم 9. (¬4) فاطر 43. (¬5) الأنعام 68. (¬6) الرحمن 60. (¬7) سبأ 17. (¬8) النحل 90.

وقول طرفة: ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد وقول الآخر: تهدى الأمور بأهل الرأى ما صلحت … فان تأبّت فبالأشرار تنقاد وقول الآخر: أهابك إجلالا وما بك قدرة … علىّ ولكن ملء عين حبيبها وما هجرتك النفس أنّك عندها … قليل، ولكن قلّ منك نصيبها وقول زهير: ومهما يكن عند امرئ من خليقة … وإن خالها تخفى على الناس تعلم وقوله: إذا أنت لم تقصر عن الجهل والخنا … أصبت حليما أو أصابك جاهل وفى هذه الأمثلة مساواة بين اللفظ والمعنى، وهذا الأسلوب لا يستغنى عنه متكلم، وهو كالإيجاز والإطناب من مقتضيات الأحوال.

الفصل السادس الخروج على مقتضى الظاهر

الفصل السادس الخروج على مقتضى الظاهر الأصل فى الكلام أن يكون على مقتضى الظاهر ولكنه قد يخرج على خلافه لنكتة أو سبب من الأسباب، ولهذا الخروج أساليب مختلفة منها: وضع المضمر موضع المظهر: والمراد بموضع المظهر أن يتقدم ما يعود عليه، كقولهم ابتداء من غير جرى ذكر لفظا أو قرينة حال «نعم رجلا زيد وبئس رجلا عمرو»، فان فى «نعم» ضميرا، وكان أصله «نعم الرجل» و «زيد» خبر مبتدأ، أى هو زيد، أو مبتدأ محذوف خبره أى زيد هو. ومنه قول الشاعر: نعم امرءا هرم لم تعر نائبة … إلّا وكان لمرتاع بها وزرا ومنه قوله تعالى: «بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا» (¬1). وكما فى ضمير الشأن والقصة كقوله تعالى: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» (¬2)، وقوله: «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» (¬3) ويؤتى بذلك ليتمكن فى ذهن السامع ما يعقبه، وذلك أنّ السامع متى لم يفهم من الضمير معنى بقى منتظرا لعقبى الكلام كيف تكون فيتمكن المسموع بعده فضل تمكن فى ذهنه، وهو السر فى التزام تقديمه (¬4). ¬

_ (¬1) الكهف 50. (¬2) الإخلاص 1. (¬3) الحج 46. (¬4) ينظر مفتاح العلوم ص 94، والإيضاح ص 68، وشروح التلخيص ج 1 ص 448.

وضع المظهر موضع المضمر

وضع المظهر موضع المضمر: فان كان ذلك الظاهر اسم إشارة ففائدته: - كمال العناية فى ترك مقتضى الظاهر إلى غيره لاختصاصه بحكم غريب، كقول ابن الراوندى: كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه … وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا هذا الذى ترك الأوهام حائرة … وصيّر العالم النحرير زنديقا فالمشار إليه هو كون العاقل محروما والجاهل مرزوقا، أو إعياء مذاهب العاقل ورزق الجاهل. - التهكم بالسامع والتعجب من أمره، كقوله تعالى: «ص، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ. كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ. وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ» (¬1). فالإتيان باسم الإشارة فى قوله «هذا ساحر كذّاب» إنّما هو للتهكم من الكفار. - التنبيه على كمال بلادة السامع، كأن يقال: «من الحاكم؟» فيقال فى الجواب «ذلك محمد» بدل «هو محمد». - التنبيه على كمال فطنة السامع، وذلك أن يكون غير المحسوس عنده كالمحسوس. ومثال ذلك أن يقال «هذه قضية مهمة» بدل «هى قضية مهمة». - ادعاء كمال ظهور المسند إليه عند المتكلم ولو لم يكن ظاهرا فى نفسه، وذلك أن يقال «هذه مسألة واضحة» بدل «هى مسألة واضحة». وإن كان المظهر غير اسم إشارة فالعدول إليه عن الضمير يأتى لأسباب منها: ¬

_ (¬1) ص 1 - 4.

- زيادة تمكين المسند إليه فى ذهن السامع كقوله تعالى: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ» (¬1) - إدخال الروع والمهابة فى قلب السامع أو تقوية ما يدعو المخاطب إلى الامتثال والطاعة ومثاله «الحاكم يأمرك، بل أنا آمرك». - الاستعطاف، كقول الشاعر إلهى عبدك العاصى أتاكا … مقرا بالذنوب وقد دعاكا وهذه صور المسند إليه، أما صور الخروج على مقتضى الظاهر فى غير ذلك فكقول عبد الله ابن الدمينة: تعاللت كى أشجى وما بك علّة … تريدين قتلى قد ظفرت بذلك وكان مقتضى الظاهر أن يقول «قد ظفرت به» ولكنه عدل عنه وقال «قد ظفرت بذلك». ومنه قوله تعالى: «وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ» (¬2) وكان مقتضى الظاهر أن يقول «وبه نزل». وقوله: «فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» (¬3)، وكان مقتضى الظاهر أن يقول «فتوكل على» (¬4) وليس فى دراسة البلاغيين لهذا الأسلوب غير ما ذكرنا، أمّا الذين عنوا بعلوم القرآن فكانت نظرتهم أوسع ومسائلهم أكثر تشعبا واستيعابا. ولعل الزركشى من أبرز الذين بحثوا هذا الموضوع، وقد قال عن وضع الظاهر ¬

_ (¬1) الإخلاص 1 - 2. (¬2) الإسراء 105. (¬3) آل عمران 159. (¬4) ينظر مفتاح العلوم ص 94، والإيضاح ص 70، وشروح التلخيص ج 1 ص 452.

اسباب الخروج

موضع المضمر: «والعجيب أن البيانيين لم يذكروه فى أقسام الإطناب» (¬1) وذكر أن منه قول النابغة الجعدى: إذا الوحش ضمّ الوحش فى ظللاتها … سواقط من حرّ وقد كان أظهرا (¬2) ولو أتى على وجهه لقال: «إذا الوحش ضمها». ومنه قوله تعالى: «وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ» ثم قال: «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ» (¬3) ولم يقل «يؤذونه» مع ما فى ذلك من التعظيم. وقرر الزركشى أنّ الأصل فى الأسماء أن تكون ظاهرة وأصل المحدث عنه كذلك، والأصل أنّه إذا ذكر ثانيا أن يذكر مضمرا للاستغناء عنه بالظاهر السابق كما أنّ الأصل فى الأسماء الإعراب وفى الأفعال البناء، وإذا جرى المضارع مجرى الاسم أعرب كقوله تعالى: «فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (¬4)، وقوله: «فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» (¬5)، وقوله: «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً» (¬6). [اسباب الخروج] وللخروج على خلاف الأصل أسباب: أحدها: قصد التعظيم، كقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ، ¬

_ (¬1) البرهان فى علوم القرآن ج 2 ص 482. (¬2) يصف الشاعر سيره فى الهاجرة إذا استكن الوحش من حر الشمس واحتدامها. الظللات: جمع ظلة، وهو ما يستظل به. (¬3) التوبة 61. (¬4) العنكبوت 17. (¬5) الشورى 40. (¬6) النصر 3.

وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (¬1)، وقوله: «أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (¬2). الثانى: قصد الإهانة والتحقير، كقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» (¬3)، وقوله: «إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ، إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً» (¬4). ومنه قول الشاعر: فما للنّوى لا بارك الله فى النوى … وعهد النوى عند الفراق ذميم الثالث: الاستلذاذ بذكره، كقوله تعالى: «وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ» (¬5) إن كان الحق الثانى هو الأول. وقوله: «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً» (¬6)، وقوله: «وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ» (¬7)، ولم يقل «منها» ولهذا عدل عن ذكر الأرض إلى الجنة وإن كان المراد بالأرض الجنة. الرابع: زيادة التقدير، كقوله تعالى: «اللَّهُ الصَّمَدُ» بعد قوله «اللَّهُ أَحَدٌ» (¬8) ويدل على إرادة التقدير سبب نزولها، وهو ما نقل عن ابن عباس أنّ قريشا قالت: يا محمد صف لنا ربك الذى تدعوننا إليه فنزل «الله أحد» معناه أنّ الذى سألتمونى وصفه هو الله، ثم لما أريد تقدير كونه «الله» أعيد بلفظ الظاهر دون ضميره. ¬

_ (¬1) البقرة 282. (¬2) المجادلة 22. (¬3) النور 91. (¬4) الإسراء 53. (¬5) الإسراء 105. (¬6) فاطر 10. (¬7) الزمر 74. (¬8) الإخلاص 1 - 2.

ومنه قوله تعالى: «يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ» (¬1). الخامس: إزالة اللبس حيث يكون الضمير يوهم أنّه غير المراد كقوله تعالى «قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ» (¬2)، لو قال «تؤتيه» لأوهم أنه الأول. ومنه قوله تعالى: «الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ، عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ» (¬3) كرر «السوء» لأنه لو قال «عليهم دائرته» لالتبس بأن يكون الضمير عائدا إلى الله تعالى. السادس: أن يكون القصد تربية المهابة وإدخال الروعة فى ضمير السامع بذكر الاسم المقتضى لذلك كما يقول الحاكم لمن يأمره بأمر «الحاكم يأمرك بكذا» مكان «أنا آمرك بكذا». ومنه قوله تعالى: «الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ» (¬4) وقوله: «وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ» (¬5)، ولم يقل «لخزنتها». السابع: قصد تقوية داعية المأمور، كقوله تعالى: «فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» (¬6)، ولم يقل «علىّ»، وحين قال «على الله» لم يقل «إنه يحب» أو «إنى أحب» تقوية لداعى المأمور بالتوكل بالتصريح باسم المتوكل عليه. الثامن: تعظيم الأمر، كقوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا ¬

_ (¬1) آل عمران 78. (¬2) آل عمران 26. (¬3) الفتح 6. (¬4) الحاقة 1 - 2. (¬5) غافر 49. (¬6) آل عمران 159.

كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ» (¬1)، وقوله: «هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً. إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ» (¬2)، ولم يقل «خلقناه» للتنبيه على عظم خلقه للانسان. ومنه قوله تعالى: «يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا» (¬3) فإنما أعيد لفظ «الجبال» والقياس الاضمار لتقدم ذكرها، ولو لم يذكر «الجبال» لاحتمل عود الضمير إلى الأرض. التاسع: أن يقصد التوصل بالظاهر إلى الوصف، كقوله تعالى: «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ» (¬4) بعد قوله فى صدر الآية «إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ...» دون «فآمنوا بالله وبى» ليتمكن من إجراء الصفات التى ذكرها من النبى الأمى الذى يؤمن بالله، فانه لو قال «وبى» لم يتمكن من ذلك لأنّ الضمير لا يوصف ليعلم أنّ الذى وجب الإيمان به والاتباع له هو من وصف بهذه الكلمات كائنا من كان أنا أو غيرى إظهارا للنصفة وبعدا من التعصب لنفسه. العاشر: التنبيه على علة الحكم، كقوله تعالى: «فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ» (¬5)، وقوله: «فَإِنَّ اللَّهَ» (¬6) دون «فانه». الحادى عشر: قصد العموم، كقوله تعالى: «حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها» (¬7) ولم يقل «استطعمهم» للاشعار بتأكيد العموم وأنهما ¬

_ (¬1) العنكبوت 19 - 20. (¬2) الانسان 1 - 2. (¬3) المزمل 14. (¬4) الأعراف 158. (¬5) البقرة 59. (¬6) البقرة 98، والآية: «مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ». (¬7) الكهف 77.

لم يتركا أحدا من أهلها إلّا استطعماه وأبى، ومع ذلك قابلهم بأحسن الجزاء، وفيه التنبيه على محاسن الأخلاق ودفع السيئة بالحسنة. ومنه قوله تعالى: «وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ» (¬1) فإنه لو قيل: «إنّها لأمارة» لاقتضى تخصيص ذلك فأتى بالظاهر ليدل على أنّ المراد التعميم مع أنه برئ من ذلك بقوله بعده «إلا ما رحم ربى» وقوله «إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ». ولم يقل «إنّه» إما للتعظيم وإما للاستلذاذ. الثانى عشر: قصد الخصوص، كقوله تعالى: «وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ» (¬2) ولم يقل «لك» لأنه لو أتى بالضمير لأخذ جوازه لغيره كما فى قوله تعالى: «وَبَناتِ عَمِّكَ» فعدل عنه إلى الظاهر للتنبيه على الخصوصية وإنه ليس لغيره ذلك. الثالث عشر: مراعاة التجنيس كقوله تعالى: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسِ. إِلهِ النَّاسِ. مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ. الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» (¬3). الرابع عشر: أن يتحمل ضميرا لا بدّ منه، كقوله تعالى: «أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها» (¬4). الخامس عشر: كونه أهم من الضمير، كقوله تعالى: «أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى» (¬5) وقال بعضهم إن أعيدت «إحداهما» لتعادل الكلم وتوازن الألفاظ فى التركيب، وهو المعنى فى الترصيع البديعى بل هذا أبلغ من الترصيع فان الترصيع توازن الألفاظ من حيث صيغها وهذا من حيث تركيبها فكأنه ترصيع معنوى. والآية متضمنة لقسمين: قسم ¬

_ (¬1) يوسف 53. (¬2) الأحزاب 50. (¬3) سورة الناس-. (¬4) الكهف 77. (¬5) البقرة 282.

القلب

الضلال وقسم التذكير فأسند الفعل الثانى إلى ظاهر حيث أسند الأول ولم يوصل بضمير مفصول لكون الأول لازما فأتى بالثانى على صورته من التجرد عن المفعول ثم أتى به خبرا بعد اعتدال الكلام وحصول التماثل فى تركيبه. السادس عشر: كون ما يصلح للعود ولم يسق الكلام له، كقوله تعالى: «رُسُلُ اللَّهِ، اللَّهُ أَعْلَمُ» (¬1). السابع عشر: الإشارة إلى عدم دخول الجملة فى حكم الأولى، كقوله تعالى: «فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ» (¬2)، فان «يمحو» استئناف وليس عطفا على الجواب، لأن المعلق على الشرط عدم قبل وجوده. ولم يذكر البلاغيون إلّا بعض هذه الدواعى والأسباب الكثيرة التى وردت فى كتاب الله تعالى. القلب: [تعريفه] وهو الخروج على مقتضى الظاهر، وذلك أن يجعل أحد أجزاء الكلام مكان الآخر والآخر مكانه على وجه يثبت حكم كل منهما للآخر (¬3) [الآراء فيه] وفى كونه من أساليب البلاغة خلاف، وتتضح فيه ثلاثة آراء: الأول: إنكاره، ومن أوائل الذين ذهبوا إلى ذلك سيبويه الذى يرد القلب إذا جاء فى الكلام ويصفه بالرداءة والبعد عن الجودة، يقول: «وأما قوله» أدخل فوه الحجر «فهذا جرى على سعة الكلام والجيد «أدخل فاه الحجر» كما قال: «أدخلت فى رأسى القلنسوة» والجيد أدخلت فى القلنسوة رأسى». قال الشاعر: ¬

_ (¬1) الأنعام 124. (¬2) الشورى 24. (¬3) شروح التلخيص ج 1 ص 486.

ترى الثور فيها مدخل الظّل رأسه … وسائره باد إلى الشّمس أجمع فوجه الكلام فيه هذا كراهية الانفصال» (¬1). والأصل أن يقول: مدخل رأسه الظل، لأنّ الرأس هو الداخل فى الظل، والظل هو موضع الدخول. ووقف الآمدى هذا الموقف من القلب فقال إنّ المتأخر لا يرخص له فى القلب، «لأنّ القلب إنّما جاء فى كلام العرب على السهو، والمتأخر إنّما يحتذى على أمثلتهم ويقتدى بهم وليس ينبغى أن يتبعهم فيما سهوا فيه» (¬2). وذكر رأى الذين يذهبون إلى أنّ القلب جاء فى كتاب الله كقوله: «ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ» (¬3)، وقال إنّ هذا ليس بقلب وإنّما هو صحيح مستقيم، وإنما أراد الله تعالى: «ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ» أى: تميلها من ثقلها، ذكر ذلك الفراء وغيره وقالوا إنّما المعنى «لتنوء العصبة». وانتهى الآمدى إلى أنّ القلب القبيح لا يجوز فى الشعر ولا فى القرآن، وهو ما جاء فى كلام العرب على سبيل الغلط، وقال معقبا على بيت الفرزدق يصف ذئبا: وأطلس عسّال وما كان صاحبا … رفعت لنارى موهنا فأتانى (¬4) وإنما أراد رفعها للذئب وأنشده المبرد وقال: «القلب جائز للاختصار إذا لم يدخل الكلام لبس» كأنه يجيز ذلك للعرب الأوائل دون المتأخرين. ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه ج 1 ص 92. (¬2) الموازنة ج 1 ص 207. (¬3) القصص 76. (¬4) الأطلس: الأغبر. عسال: نسبه إلى مشيته، يقال: مر الذئب يعسل، وهو مشى خفيف كالهرولة. الوهن والموهن من الليل: نحو منتصفه أو بعد ساعة منه.

وما علمت أحدا قال «للاختصار» غيره، فلو قال: لإصلاح الوزن أو للضرورة كما قال غيره كان ذلك أشبه. ويجوز أن يكون الفرزدق فى هذا البيت سها أو اضطر لإصلاح الوزن» (¬1). وتحدث ابن سنان الخفاجى عن هذا الأسلوب وقال: ومن وضع الألفاظ موضعها أن لا يكون الكلام مقلوبا فيفسد المعنى ويصرفه عن وجهه» (¬2) ولذلك أمثلة مذكورة منها قول عروة بن الورد العبسى: فلو أنّى شهدت أبا سعاد … غداة غدا لمهجته يفوق فديت بنفسه نفسى ومالى … وما آلوك إلّا ما أطيق يريد أن يقول: فديت نفسه بنفسى. وكذلك بيت الفرزدق السابق فى وصف الذئب، وإنما النار هى المرفوعة للذئب. وحمل بعضهم على المقلوب قول المتنبى: وعذلت أهل العشق حتى ذقته … فعجبت كيف يموت من لا يعشق وتقديره: كيف لا يموت من يعشق. وقال بعضهم إنّ الكلام جار على طريقته، والمراد به: كيف تكون المنية غير العشق، أى أن الأمر الذى يقدر فى النفوس أنه فى أعلى مراتب الشدة هو الموت، ولما ذقت العشق فعرفت شدته عجبت كيف يكون هذا الأمر الصعب المتفق على شدته غير العشق، وكيف يجوز أن لا تعم علته حتى تكون منايا الناس كلهم به. وكان هذا أشبه بمراد المتنبى من حمل الكلام على القلب. ¬

_ (¬1) الموازنة ج 1 ص 209 - 210. (¬2) سر الفصاحة ص 129.

وقال ابن سنان عن قوله تعالى: «ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ» (¬1)، إنّه ليس من القلب، وإنّما المراد أنّ المفاتيح تنوء بالعصبة، أى: تميلها من ثقلها. وكذلك قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ» (¬2) ليس- على ما يزعم بعضهم- المراد به: وإنّ حبه للخير لشديد، بل المقصود به أنّه لحب المال لبخيل، والشدة: البخل، أى: من حبه للمال يبخل. وحمل ابن جنى على المقلوب قول المتنبى: نحن ركب ملجنّ فى زى ناس … فوق طير لها شخوص الجمال وقال إنّ تقديره: نحن ركب من الإنس فى زى الجن فوق جمال لها شخوص طير. وقال ابن سنان معقبا على هذا التفسير: «وهذا عندى تعسف من أبى الفتح لا تقود إليه الضرورة. ومراد أبى الطيب المبالغة على حسب ما جرت به عادة الشعراء فيقول: نحن قوم من الجن لجوبنا الفلاة والمهامه والقفار التى لا تسلك وقلة فرقنا فيها، إلّا أنّنا فى زى الإنس، وهم على الحقيقة كذلك ونحن فوق طير من سرعة إبلنا إلّا أنّ شخوصها شخوص الجمال، ولا شك أيضا فى ذلك (¬3)». وقال عن بيت قطرى بن الفجاءة: ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب … جذع البصيرة قارح الإقدام «حملوه على المقلوب وقالوا: يريد قارح البصيرة جذع الإقدام، كما يقال غرور أى مجرب. وقد كان أبو العلاء صاعد بن عيسى الكاتب أجازنى فى بعض الأيام هذا البيت وقال: ما المانع من أن يكون مقصوده: لم أصب ¬

_ (¬1) القصص 76. (¬2) العاديات 8. (¬3) سر الفصاحة ص 132، وينظر عروس الأفراح- شروح التلخيص ج 1 ص 491.

أى لم ألف على هذه الحال بل وجدت على خلافها جذع الإقدام قارح البصيرة ويكون الكلام على جهته غير مقلوب. وتمكن الدلالة على أنّ قوله «لم أصب» فى البيت بمعنى «لم ألف» دون ما يقولون من أنّ مراده به لم أجرح بقوله، قبله: لا يركنن أحد إلى الإحجام … يوم الوغى متخوفا لحمام فلقد أرانى للرماح دريئة … من عن يمينى تارة وأمامى حتى خضبت بما تحدّر من دمى … أكناف سرجى أو عنان لجامى فكيف يكون لم يصب وقد خضب هذا بدمه؟ فأما قولهم: إنّه أراد من دمى أى من دم قومى وبنى عمى فمبالغة منهم فى التعسف والعدول عن وجه الكلام ليستمر لهم أن يكون فاسدا غير صحيح. وهذا الذى ذكره أبو العلاء وسبق إليه، له وجه يجب تقبله واتباعه فيه وفحوى كلام قطرى يدل على أنّه أراد أنّه جرح ولم يمت، إعلاما أن الإقدام غير علة فى الحمام، وحثا على الشجاعة، ونهيا عن الفرار» (¬1). وقال بعد ذلك كله «ومن طريف التفسير للشعر أن يتأول ليقع الفساد فيه، ولو حمل على ظاهره كان صوابا صحيحا» (¬2)، ومعنى ذلك أنّ ابن سنان لا يميل إلى القلب والتأويل لئلا يخرج الكلام على مقتضى الظاهر فيفسد ويبعد عن الهدف الذى رمى إليه قائله. وأنكر القلب حازم القرطاجنى وقال إنّه مما يجب أن ينزه كتاب الله عنه لأنّ العرب إذا صدر ذلك منهم فيقصد العبث أو التهكم أو المحاكاة أو حال الاضطرار، والله منزّه عن ذلك. وقال: «فكل كلام يمكن حمله على غير القلب بتأويل لا يبعد معناه فليس يجب حمله على القلب. وأما ما لا يمكن ¬

_ (¬1) سر الفصاحة ص 132 - 133. (¬2) سر الفصاحة ص 113.

فيه التأويل فواجب أن لا يعمل عليه وأن يوقف عنده» (¬1). وهذا ما ذهب إليه ابن سنان من قبل، بل إنّ حازم القرطاجنى ذكر أمثلته وتعليقه عليها. الثانى: قبوله مطلقا، وكان القاضى الجرجانى قد وقف عند قول المتنبى: وعذلت أهل العشق حتى ذقته … فعجبت كيف يموت من لا يعشق وذكر أنّ بعض من يحتج عن المتنبى أخرجه مخرج القلب، وهو كثير يقبله مطلقا أو يرفضه مطلقا (¬2). ولعل السكاكى كان أوضح البلاغيين وأصرحهم فى هذه المسألة فقبل القلب مطلقا وقال: «إنّ هذا النمط مسمى فيما بيننا بالقلب، وهى شعبة من الإخراج لا على مقتضى الظاهر، ولها شيوع فى التراكيب، وهى مما يورث الكلام ملاحة ولا يشجع عليها إلّا كمال البلاغة تأتى فى الكلام وفى الأشعار» (¬3). ومثل له بقول القطامى: فلّما أن جرى سمن عليها … كما طينّت بالفدن السياعا (¬4) أراد: كما طينت الفدن بالسياع. ولم ير السبكى فى هذا القلب معنى لطيفا (¬5). وأدخل السكاكى فى القلب قوله تعالى: «وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا» (¬6) أى: جاءها بأسنا فأهلكناها. وقوله تعالى: «ثُمَّ دَنا ¬

_ (¬1) منهاج البلغاء ص 184، وتنظر ص 391، والبرهان فى علوم القرآن ج 3 ص 288. (¬2) ينظر الوساطة ص 469. (¬3) مفتاح العلوم ص 101. (¬4) الفدن: القصر المشيد. السياع: الطين بالتبن. (¬5) عروس الأفراح- شروح التلخيص ج 1 ص 490. (¬6) الأعراف 4.

فَتَدَلَّى» (¬1) أى: تدلّى فدنا. وقوله «اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ» (¬2) على ما يحمل من «ألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون، ثم تولّ عنهم». ونفى الخطيب القزوينى أن يكون فى هذه الآيات قلب، إذ ليس فى تقديره اعتبار لطيف أو نكتة. ويرى أنّ الأصل فى الآية الأولى: «أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا أى إهلاكنا». والأصل فى الآية الثانية: «ثم أراد الدنو من محمد- صلى الله عليه وسلم- فتدلى فتعلق عليه فى الهواء». والأصل فى الآية الثالثة: «تنحّ عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه ليكون ما يقولونه بمسمع منك فانظر ماذا يرجعون، فيقال: إنّه دخل من كوّة فألقى الكتاب إليها وتوارى فى الكوة» (¬3). الثالث: قبوله إذا تضمن اعتبارا لطيفا، وإلّا فلا يقبل، ولذلك قال ابن الضائع: «يجوز القلب على التأويل ثم قد يقرب التأويل فيصح فى فصيح الكلام، وقد يبعد فيختص بالشعر» (¬4). وإلى ذلك ذهب الخطيب القزوينى فقال: «والحق أنّه إن تضمّن اعتبارا لطيفا قبل وإلّا رد» (¬5)، كقول رؤبة: ومهمه مغبرة أرجاؤه … كأنّ لون أرضه سماؤه أى: كأنّ لون سمائه لغبرتها لون أرضه، فعكس التشبيه للمبالغة. وسار على مذهبه شرّاح تلخيصه فى قبول أسلوب القلب أو ردّه. ¬

_ (¬1) النجم 8. (¬2) النمل 28. (¬3) الايضاح ص 79. (¬4) البرهان فى علوم القرآن ج 3 ص 288. (¬5) الابضاح ص 77.

اقسامه

[اقسامه] وللقلب أقسام تحدث عنها الزركشى وهى (¬1): الأول: قلب الإسناد، وهو أن يشمل الإسناد إلى شئ والمراد غيره، كقوله تعالى: «ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ» (¬2) إن لم تجعل الباء للتعدية لأن ظاهره أن المفاتح تنوء بالعصبة، ومعناه أن العصبة تنوء بالمفاتح لثقلها فأسند «لتنوء» إلى «المفاتح» والمراد إسناده إلى العصبة، لأنّ الباء للحال والعصبة مستصحبة المفاتح لا تستصحبها المفاتح، وفائدته المبالغة بجعل المفاتح كأنها مستتبعة للعصبة القوية بثقلها. وقيل: لا قلب فيه، والمراد: أن المفاتح تنوء بالعصبة أى تميلها من ثقلها. وقيل فى قوله تعالى: «وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ» (¬3) إنّه من المقلوب وإنّه «سكرة الحق بالموت». الثانى: قلب المعطوف، وهو جعل المعطوف عليه معطوفا والمعطوف معطوفا عليه كقوله تعالى: «فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ» (¬4) حقيقته: فانظر ماذا يرجعون ثم تولّ عنهم، لأنّ نظره ما يرجعون من القول غير متأتّ مع توليه عنهم، وما يفسر به التولى من أنّه يتوارى فى الكوة التى ألقى منها الكتاب مجاز، والحقيقة راجحة عليه. ومنه قوله: «ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى» (¬5) أى: تدلى فدنا، لأنّه بالتدلى نال الدنو والقرب إلى المنزلة الرفيعة وإلى المكانة لا إلى المكان. ورأى ابن سنان والقزوينى أنّ الآيتين لم تأتيا على القلب وإنّما على الأسلوب الأصلى وذلك لعدم تضمن القلب فيهما اعتبارا لطيفا. ¬

_ (¬1) البرهان فى علوم القرآن ج 3 ص 288 وما بعدها. (¬2) القصص 76. (¬3) ق 19. (¬4) النمل 28. (¬5) النجم 8.

الثالث: العكس، وهو أمر لفظى، كقوله تعالى: «ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ» (¬1). وقوله: «هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ» (¬2)، وقوله: «لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ» (¬3). الرابع: المستوى، وهو أنّ الكلمة أو الكلمات تقرأ من أولها إلى آخرها ومن آخرها إلى أولها لا يختلف لفظها ولا معناها، كقوله تعالى: «وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ» (¬4) وقوله: «كُلٌّ فِي فَلَكٍ» (¬5). الخامس: مقلوب البعض، وهو أن تكون الكلمة الثانية مركبة من حروف الكلمة الأولى مع بقاء بعض حروف الكلمة الأولى، كقوله تعالى: «فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ» (¬6)، ف «بنى» مركب من حروف «بين» وهو مفرق، إلّا أن الباقى بعضها فى الكلمتين وهو أولها. ولعل مذهب الخطيب القزوينى أقرب المذاهب فى القلب حينما قال: «وردّه مطلقاقوم، وقبله مطلقا قوم منهم السكاكى. والحق أنّه اذا تضمن اعتبارا لطيفا قبل، وإلّا ردّ» (¬7). الأسلوب الحكيم: وقد سماه عبد القاهر الجرجانى «المغالطة» (¬8) وسماه السكاكى «أسلوب الحكيم» وقال عنه: «ولهذا النوع- أعنى إخراج الكلام لا على مقتضى ¬

_ (¬1) الأنعام 52. (¬2) البقرة 187. (¬3) الممتحنة 10. (¬4) المدثر 3. (¬5) الأنبياء 33. (¬6) طه 94. (¬7) الايضاح ص 77. (¬8) ينظر الايضاح ص 76، وعروس الأفراح- شروح التلخيص ج 1 ص 479.

الاسلوب الحكيم

[الاسلوب الحكيم] الظاهر- أساليب متفننة إذ ما من مقتضى ظاهرى إلّا ولهذا النوع مدخل فيه بجهة من جهات البلاغة على ما ننبه على ذلك منذ اعتنينا بشأن هذه الصناعة ونرشد إليه تارة بالتصريح وتارة بالفحوى، ولكل من تلك الأساليب عرق فى البلاغة يتشرب من أفانين سحرها، ولا كالأسلوب الحكيم فيها» (¬1). [قسماه] وللأسلوب الحكيم قسمان: الأول: تلقى المخاطب- بالكسر- بغير ما يترقب، وذلك يكون بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيها على أنّه الأولى بالقصد إليه. كقول القبعثرى للحجاج بن يوسف الثقفى وقد قال له الحجاج متوعدا له بالقتل: «لأحملنّك على الأدهم»: «مثل الأمير من حمل على الأدهم والأشهب». فأراد الحجاج أن يقيده فتلقاه القبعثرى بغير ما يترقبه من فهمه التوعيد بألطف وجه مشيرا إلى أنّ من كان مثله من السلطنة إنما يناسبه أن يجود بأن يحمل على الأدهم والأشهب من الخيل ويكون جديرا بأن يصفد- بضم الياء- أى يعطى، لا أن يصفد- بفتحها- أى يشد ويوثق. ومنه قول الشاعر: أتت تشتكى عندى مزاولة القرى … وقد رأت الضيفان ينحون منزلى فقلت كأنى ما سمعت كلامها … هم الضيف جدّى فى قراهم وعجّلى الثانى: تلقى السائل بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيها على أنّه الأولى بحاله أو المهم له. وذلك كقوله تعالى: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» (¬2)، فقالوا: ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يتزايد قليلا قليلا حتى يمتلئ ويستوى ثم لا يزال ينقص حتى يود كما بدا. ¬

_ (¬1) مفتاح العلوم ص 155. (¬2) البقرة 189.

التغليب

وكقوله تعالى: «يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ؟ قُلْ: ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» (¬1). سألوا عن بيان ما ينفقون فأجيبوا ببيان المصرف (¬2) وللأسلوب الحكيم أثر فى الكلام، وقد أوضح السكاكى هذا الأثر بقوله: «وإنّ هذا الأسلوب الحكيم لربما صادف المقام فحرك من نشاط السامع، سلبه حكم الوقور وأبرزه فى معرض المسحور. وهل ألان شكيمة الحجاج لذلك الخارجى وسل سخيمته (¬3) حتى آثر أن يحسن على أن يسئ غير أن سحره بهذا الأسلوب اذا توعده الحجاج بالقيد فى قوله «لأحملنك على الأدهم» فقال متغابيا: «مثل الأمير- يحمل على الأدهم والأشهب» مبرزا وعيده فى معرض الوعد متوصلا أن يريه بألطف وجه أن امرءا مثله فى مسند الإمرة المطاعة خليق بأن يصفد لا أن يصفد، وأن يعد لا أن يوعد» (¬4). التغليب: [تعريفه] وهو إعطاء الشئ حكم غيره، وقيل: ترجيح أحد المغلوبين على الآخر أو إطلاق لفظة عليهما، إجراء للمختلفين مجرى المتفقين. (¬5) [انواعه] وهو أنواع: الأول: تغليب المذكر، كقوله تعالى: «وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» (¬6)، غلب المذكر لأن الواو جامعة ولأن لفظ الفعل مقتض ¬

_ (¬1) البقرة 215. (¬2) ينظر مفتاح العلوم ص 155، والايضاح ص 75، وشروح التلخيص ج 1 ص 479. (¬3) السخيمة: الضغينة، يقال: سللت سخيمته باللطف والترضى، أى: أخرجت ضغينته من صدره. (¬4) مفتاح العلوم ص 156. (¬5) البرهان فى علوم القرآن ج 3 ص 302. (¬6) القيامة 9.

ولو أريد العطف امتنع. وقوله: «وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ» (¬1)، وقوله: «إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ» (¬2). والأصل «من القانتات» و «من الغابرات» فعدت الأنثى من المذكر بحكم التغليب. الثانى: تغليب المتكلم على المخاطب والمخاطب على الغائب، كقوله تعالى: «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ» (¬3)، بتاء الخطاب، غلب جانب «أنتم» على جانب «قوم» والقياس أن يجئ بالياء لأنه وصف القوم، وقوم اسم غيبة ولكن حسن آخر الخطاب وصفا ل «قوم» لوقوعه خبرا عن ضمير المخاطبين. ومنه قوله تعالى: «فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ» (¬4)، غلب جانب «أنت» على جانب «من» فأسند إليه الفعل وكان تقديره «فاستقيموا» فغلب الخطاب على الغيبة، لأنّ حرف العطف فصل بين المسند إليهم الفعل فصار كما نرى. الثالث: تغليب العاقل على غيره، وذلك بأن يتقدم لفظ يعم من يعقل ومن لا يعقل فيطلق اللفظ المختص بالعاقل على الجميع. ومنه قوله تعالى: «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ» (¬5)، لما تقدم لفظ «الدابة» والمراد بها عموم من يعقل ومن لا يعقل غلب من يعقل فقال «فمنهم من يمشى». وقد يجتمع فى لفظ واحد تغليب المخاطب على الغائب والعقلاء على غيرهم كقوله تعالى: «جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ» (¬6)، أى: خلق لكم أيّها الناس من جنسكم ذكورا وإناثا وخلق الأنعام أيضا من أنفسها ذكورا وإناثا. يذرؤكم- أى ينبتكم ويكثركم أيها ¬

_ (¬1) التحريم 12. (¬2) الأعراف 83. (¬3) النمل 55. (¬4) هود 112. (¬5) النور 45. (¬6) الشورى 11.

الناس والأنعام فى هذا التدبير والجعل- فهو خطاب للجميع، للناس المحاسبين وللأنعام المذكورة بلفظة الغيبة، ففيه تغليب المخاطب على الغائب، وإلّا لما صح ذكر الجميع- الناس والأنعام- بطريق الخطاب لأنّ الأنعام غيب وفيه تغليب العقلاء على غيرهم، وإلا لما صح خطاب الجمع بلفظ «كم» المختص بالعقلاء. ففى لفظ «كم» تغليبان، ولولا التغليب لكان القياس أن يقال يذرؤكم وإياها. الرابع: تغليب المتصف بالشئ على ما لم يتصف به، كقوله تعالى: «وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا» (¬1)، قيل: غلب غير المرتابين على المرتابين. الخامس: تغليب الأكثر على الأقل، وذلك بأن ينسب إلى الجميع وصف يختص بالأكثر، كقوله تعالى: «لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» (¬2)، وأدخل شعيب فى قوله «لتعودن» بحكم التغليب إذ لم يكن فى ملتهم أصلا حتى يعود إليها. السادس: تغليب الجنس الكثير الأفراد على فرد من غير هذا الجنس مغمور فيما بينهم بأن يطلق اسم الجنس على الجميع، كقوله تعالى: «فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ» (¬3)، وأنه عد منهم مع أنّه كان من الجن تغليبا لكونه جنيا واحدا فيما بينهم، ولأنّ حمل الاستثناء على الاتصال هو الأصل. السابع: تغليب الموجود على ما لم يوجد، كقوله تعالى: «بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» (¬4) فان المراد المنزل كله، وإنما عبر عنه بلفظ المضى وإن كان بعضه مترقبا تغليبا للموجود على ما لم يوجد. ¬

_ (¬1) البقرة 23. (¬2) الأعراف 88. (¬3) ص 73 - 74. (¬4) البقرة 4.

الالتفات

الثامن: تغليب الإسلام، كقوله تعالى: «وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ» (¬1)، لأنّ الدرجات للعلو، والدركات للسفل، فاستعمل الدرجات فى القسمين تغليبا. التاسع: تغليب ما وقع بوجه مخصوص على ما وقع بغير هذا الوجه، كقوله تعالى: «ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ» (¬2)، ذكر الأيدى لأنّ أكثر الأعمال تزاول بها فحصل الجمع بالواقع بالأيدى. العاشر: تغليب الأشهر، كقوله تعالى: «يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ» (¬3) أراد المشرق والمغرب فغلب المشرق لأنّه أشهر الجهتين. ومن ذلك قولهم: «أبوان» للأب والأم، و «قمران» للشمس والقمر، و «العمران» لأبى بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضى الله عنهما. الالتفات: [تعريفه] وهو الفن الأول من محاسن الكلام التى ذكرها ابن المعتز، وقد قال فى تعريفه: «هو انصراف المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار وعن الإخبار إلى المخاطبة وما يشبه ذلك. ومن الالتفات الانصراف عن معنى يكون فيه إلى معنى آخر» (¬4). وقال قدامة بن جعفر فى تعريفه: «هو أن يكون الشاعر آخذا فى معنى فكأنه يعترضه إمّا شك فيه أو ظن بأن رادّا يرد عليه قوله أو سائلا يسأله عن سببه فيعود راجعا على ما قدمه فإما أن يؤكده أو يذكر سببه أو يحل الشك فيه» (¬5). وفسّره أبو هلال بما يقرب من هذا، ولكنه قسمه ضربين: ¬

_ (¬1) الأحقاف 19. (¬2) آل عمران 182. (¬3) الزخرف 38. (¬4) البديع ص 58. (¬5) نقد الشعر ص 167، ونقل هذا التعريف ابن أبى الأصبع فى تحرير التحبير ص 123، وبديع القرآن ص 42.

الأول: أن يفرغ المتكلم من المعنى فاذا ظننت أنه يريد أن يجاوزه يلتفت إليه فيذكره بغير ما تقدم ذكره به، كقول جرير: أتنسى إذ تودعنا سليمى … بعود بشامة سقى البشام (¬1) ولم يذكر قدامة هذا الضرب فى تعريفه، وإنّما انصبّ تعريفه على الضرب. الثانى الذى ذكره أبو هلال نقلا عنه لاتفاق العبارات وهو: الثانى: أن يكون الشاعر آخذا فى معنى كأنّه يعترضه شك أو ظن أنّ رادّا يرد قوله، أو سائلا يسأله عن سببه فيعود راجعا إلى ما قدمه فإما أن يؤكده أو يذكر سببه أو يزيل الشك عنه، كقول المعطل الهذلى: تبين صلاة الحرب منا ومنهم … إذا ما التقينا والمسالم بادن (¬2) فقوله: «والمسالم بادن» رجوع من المعنى الذى قدمه حتى بين أن علامة صلاة الحرب من غيرهم أن المسالم بادن والمحارب ضامر (¬3). ويسمى بعضهم الالتفات «الصّرف» وهو مصطلح صاحب «البرهان فى وجوه البيان» الذى قال فى تعريفه: «وأما الصرف فانه يصرفون القول من المخاطب إلى الغائب ومن الواحد إلى الجماعة» (¬4). وسماه أسامة بن منقذ «الانصراف» وقال فيه: «هو أن يرجع من الخبر إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الخبر» (¬5). وقال ابن رشيق عنه: «هو الاعتراض عند قوم وسماه آخرون الاستدراك» (¬6) ولكن الاعتراض والاستدراك غير الالتفات، ولعل ¬

_ (¬1) البشام: شجر لا ثمر له. (¬2) تبين: تستبين. صلاة الحرب: الذين يصلونها. (¬3) كتاب الصناعتين ص 392. (¬4) البرهان فى وجوه البيان ص 152. (¬5) البديع فى نقد الشعر ص 200. (¬6) العمدة ج 2 ص 45.

مصطلح «الانصراف» أو «الالتفات» أقرب إلى الدلالة وقد سار البلاغييون على مصطلح الالتفات، وأصبح هذا الأسلوب ذا شعب كثيرة تحدث عنها بالتفصيل الزمخشرى فى تفسيره والسكاكى فى مفتاحه والقزوينى فى إيضاحه وابن الأثير فى المثل السائر والزركشى فى البرهان فى علوم القرآن. وكان هؤلاء من أكثر الذين عنوا بدراسة هذا الأسلوب، وقال الزمخشرى عنه وهو يفسر قوله تعالى: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» (¬1): «فان قلت لم عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب؟ قلت: هذا يسمّى الالتفات فى البيان، وقد يكون من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى التكلم، كقوله تعالى: «حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ» (¬2)، وقوله تعالى: «وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ» (¬3). وقد التفت امرؤ القيس ثلاث التفاتات فى ثلاثة أبيات: تطاول ليلك بالإثمد … ونام الخلىّ ولم ترقد وبات وباتت له ليلة … كليلة ذى العائر الأرمد وذلك من نبأ جاءنى … وخبرّته عن أبى الأسود وذلك على عادة افتتانهم فى الكلام وتصرفهم فيه، ولأنّ الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع وإيقاظا للاصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد. وقد تختص مواقعه بفوائد، ومما اختص به هذا الموضع أنه لما ذكر الحقيق بالحمد وأجرى عليه تلك الصفات العظام تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالثناء وغاية الخضوع والاستعانة فى المهمات فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات فقيل: إياك من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة لا نعبد غيرك ولا نستعينه ليكون الخطاب أدل على أنّ العبادة له، لذلك التميز الذى لا تحق العبادة إلّا به» (¬4). ¬

_ (¬1) الفاتحة 5. (¬2) يونس 22. (¬3) فاطر 9. (¬4) الكشاف ج 1 ص 11 - 12.

وكلام السكاكى لا يخرج عما ذكره الزمخشرى إلّا ما أضاف من أمثلة وشواهد شعرية، كقول ربيعة بن مقروم: بانت سعاد فأمسى القلب معمودا … وأخلفتك ابنة الحرّ المواعيدا (¬1) فالتفت حيث لم يقل «وأخلفتنى»، ثم قال: ما لم ألاق امرءا جزلا مواهبه … سهل الفناء، رحيب الباع محمودا وقد سمعت بقوم يحمدون فلم … أسمع بمثلك لا حلما ولا جودا فالتفت حيث لم يقل «بمثله». وقال السكاكى بعد هذه الأمثلة وغيرها: «وأمثال ما ذكر أكثر من أن يضبطها القلم، وهذا النوع قد يختص مواقعه بلطائف معان قلما تتضح إلّا لأفراد بلغائهم أو للحذاق المهرة فى هذا الفن والعلماء النحارير. ومتى اختص موقعه بشئ من ذلك كساه فضل بهاء ورونق وأورث السامع زيادة هزة ونشاط ووجد عنده من القبول أرفع منزلة ومحل إن كان ممن يسمع ويعقل» (¬2) وهذا أمر طبيعى فالزمخشرى لم يرد أن يبحث الالتفات، وإنما تكلم عليه حينما جاء فى الآية الكريمة، أما السكاكى فهدفه البحث فى هذا الأسلوب لا تفسير الآيات وما فيها من فنون بلاغية. والاتفاق بين الرجلين هو فى تحديد معناه وتعريفه، وقد اتفقا على أنه نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب فمن الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى المتكلم. واتفقا على أنّ نقل الكلام من أسلوب إلى آخر أدخل فى القبول عند السامع وأحسن تطرية لنشاطه. ولكنه مع ذلك خالفه فى أمر واحد، وهو أنه أدخل الالتفات فى علم المعانى وقال: «ويسمّى هذا النقل التفاتا عند علماء المعانى، والعرب يستكثرون منه ويرون الكلام إذا انتقل من أسلوب إلى أسلوب أدخل فى القبول عند السامع وأحسن تطرية لنشاطه وأملأ باستدرار إصغائه. ¬

_ (¬1) المعمود: الموجع. (¬2) مفتاح العلوم ص 96.

وهم أحرياء بذلك، أليس قرى الأضياف سجيتهم، ونحر العشار دأبهم وهجيراهم- لا مزقت أيدى الأدوار لهم أديما، ولا أباحت لهم حريما- أفتراهم يحسنون قرى الأشباح فيخالفون فيه بين لون ولون وطعم وطعم، ولا يحسنون قرى الأرواح فلا يخالفون فيه بين أسلوب وأسلوب وإيراد وإيراد، فان الكلام المفيد عند الانسان لكن بالمعنى لا بالصورة أشهى غذاء لروحه وأطيب قرى لها» (¬1). وأدخله ثانية فى علم البديع وعده من المحسنات المعنوية، ولكنه لم يبحثه واكتفى بقوله: «وقد سبق ذكره فى علم المعانى» (¬2). أما الزمخشرى فقد عدّه من البيان وإن كان لا يقصد به علم البيان الذى ضبطه السكاكى بتعريفه وإنما يريد به البيان بمعناه العام، ولعل هذا الموقف أسلم من موقف السكاكى الذى تردد فيه فأدخله فى علم المعانى مرة وفى علم البديع تارة أخرى. وقد علل ابن يعقوب المغربى هذا التردد وبيّن مكان الالتفات فى كل علم بقوله: «فان قلت: لأى وجه خصص تسميته بعلماء المعانى مع أنّ عدّ الالتفات من البديع أقرب، لأنّ حاصل ما فيه أنه يفيد الكلام ظرافة وحسن تطرية فيصغى إليه لظرافته وابتداعه ولا يكون الكلام به مطابقا لمقتضى الحال فلا يكون من علم المعانى فضلا عن كونه يختص بهم فيسمونه به دون أهل البديع؟. قلت: أما كونه من الأحوال التى تذكر فى علم المعانى فصحيح كما إذا اقتضى المقام فائدته من طلب مزيد الاصغاء لكون الكلام سؤالا أو مدحا أو إقامه حجة أو غير ذلك، فهو من هذا الوجه من علم المعانى. ومن جهة كونه شيئا ظريفا مستبدعا يكون من علم البديع. وكثيرا ما يوجد فى المعانى مثل هذا فليفهم، وأما تخصيص علماء المعانى بالتسمية فلا حجر فيه، والله أعلم» (¬3). ¬

_ (¬1) مفتاح العلوم ص 95. (¬2) مفتاح العلوم ص 202. (¬3) مواهب الفتاح- شروح التلخيص ج 1 ص 464.

ولولا تقسيم السكاكى البلاغة إلى أقسامها وحصر كل قسم بتعريف منطقى جامع مانع لما احتاج ابن يعقوب المغربى وغيره إلى هذا التمحل والإغراق فى التأويل، وإلّا فهل يمكن استعمال أسلوب الالتفات من غير أن يؤدى معنى فيكون مطابقا لمقتضى الحال وتكون فيه ظرافة وطلاوة؟ إنّ الانتقال من أسلوب إلى آخر لا يكون إلا إذا اقتضى الحال وأريد به نوع من الإبداع والمتعة الفنية. ولذلك ينطبق عليه تعريفا علم المعانى وعلم البديع ولا نرى مبررا التفريق فى عدّه من المعانى مرة ومن البديع تارة أخرى على الوجه الذى يذهب إليه البلاغيون. ولما كان الالتفات ضربا من فنون البلاغة له أسلوبه وجماله فليس من الدقة أن يبقى مترددا فيكون فى علم المعانى إذا اقتضى المقام فائدته، ويكون فى علم البديع إذا أريد به الطرافة، وإنما يفرد له باب كما فعل ابن الأثير الذى لم ينظر إليه هذه النظرة الجامدة، (¬1) وقد أدخلناه فى علم المعانى لأننا نبحث البلاغة كما تركها القدماء، ولأننا لا نريد هنا إبداء وجهة النظر، فذلك أمر مجاله غير هذه المحاضرات التى أخذت نسيجها من القدماء. ولم يخرج الخطيب القزوينى على السكاكى فى بحث الالتفات ونقل كلامه وأمثلته غير أنه قارن بينه وبين الجمهور، فالسكاكى قال: «واعلم أن هذا النوع اعنى نقل الكلام عن الحكاية إلى الغيبة لا يختص المسند إليه ولا هذا القدر بل الحكاية والخطاب والغيبة ثلاثتها ينقل كل واحد منها إلى الآخر ويسمى هذا النقل التفاتا» (¬2). والمشهور عند الجمهور أن الالتفات هو التعبير عن معنى بطريق من الطرق الثلاثة بعد التعبير عنه بطريق آخر منها. وهذا أخص من تفسير السكاكى لأنه أراد بالنقل أن يعبر بطريق من هذه الطرق عما عبر عنه بغيره، أو كان مقتضى الظاهر أن يعبر عنه بغيره منها. ولذلك فكل التفات عندهم التفات عنده وليس العكس صحيحا (¬3). ¬

_ (¬1) ينظر البلاغة عند السكاكى ص 136 - 138 وص 235 وما بعدها. (¬2) مفتاح العلوم ص 95. (¬3) ينظر الايضاح ص 71.

اقسامه

ونظر ابن الأثير إلى هذا الأسلوب نظرة أعمق وقال عنه: «وهذا النوع وما يليه هو خلاصة علم البيان التى حولها يدندن وإليها تستند البلاغة وعنها يعنعن. وحقيقته مأخوذة من التفات الإنسان عن يمينه وشماله فهو يقبل بوجهه تارة كذا وتارة كذا، وكذلك يكون هذا النوع من الكلام خاصة لأنه ينتقل فيه من صيغة كالانتقال من خطاب حاضر إلى غائب، أو من خطاب غائب إلى حاضر، أو من فعل ماض إلى مستقبل، أو من مستقبل إلى ماض، أو غير ذلك. ويسمى أيضا «شجاعة العربية»، وإنما سمى بذلك لأن الشجاعة هى الإقدام، وذاك أنّ الرجل الشجاع يركب ما لا يستطيعه غيره ويتورد ما لا يتورده سواه، وكذا هذا الالتفات فى الكلام فان اللغة العربية تختص به دون غيرها من اللغات» (¬1). [اقسامه] وقسمه إلى ثلاثة أقسام: الأول: الرجوع من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة. الثانى: الرجوع من الفعل المستقبل إلى فعل الأمر ومن الفعل الماضى إلى فعل الأمر. الثالث: الإخبار عن الفعل الماضى بالمستقبل وعن المستقبل بالماضى. وأحسن ما فى بحثه الأمثلة الكثيرة التى وشح بها كلامه، وردّه رأى الزمخشرى ومن تابعه فى فائدة أسلوب الالتفات. وقد وضح ابن الأثير رأيه بقوله: «وقال الزمخشرى- رحمه الله- إنّ الرجوع من الغيبة إلى الخطاب إنّما يستعمل للتفنن فى الكلام والانتقال من أسلوب إلى أسلوب تطرية لنشاط السامع وإيقاظا للاصغاء إليه. وليس الأمر كما ذكره، لأنّ الانتقال فى الكلام من أسلوب إلى أسلوب إن لم يكن إلّا تطرية لنشاط السامع وإيقاظا للاصغاء إليه، فان ذلك دليل على أنّ السامع يمل من أسلوب واحد فينتقل إلى غيره ليجد نشاطا للاستماع، وهذا قدح فى الكلام لا وصف له، لأنه لو ¬

_ (¬1) المثل السائر ج 2 ص 4، وينظر الجامع الكبير ص 98.

كان حسنا لما مل، ولو سلّمنا إلى الزمخشرى ما ذهب إليه لكان إنما يوجد ذلك فى الكلام المطول، ونحن نرى الأمر بخلاف ذلك، لأنّه قد ورد الانتقال من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة فى مواضع كثيرة من القرآن الكريم ويكون مجموع الجانبين معا يبلغ عشرة ألفاظ أو أقل من ذلك. ومفهوم قول الزمخشرى فى الانتقال من أسلوب إلى أسلوب إنّما يستعمل قصدا للمخالفة بين المنتقل عنه والمنتقل إليه لا قصدا لاستعمال الأحسن. وعلى هذا فاذا وجدنا كلاما قد استعمل فى جميعه الإيجاز ولم ينتقل عنه أو استعمل فيه جميعه الإطناب ولم ينتقل عنه، وكان كلا الطرفين واقعا فى موقعه قلنا: هذا ليس بحسن إذ لم ينتقل فيه من أسلوب إلى أسلوب وهذا قول فيه ما فيه، وما أعلم كيف ذهب على مثل الزمخشرى مع معرفته بفن الفصاحة والبلاغة». ثم يبيّن رأيه بقوله: «والذى عندى فى ذلك أنّ الانتقال من الخطاب إلى الغيبة أو من الغيبة إلى الخطاب، لا يكون إلّا لفائدة اقتضته، وتلك الفائدة أمر وراء الانتقال من أسلوب إلى أسلوب، غير أنها لا تحدّ بحدّ ولا تضبط بضابط، لكن يشار إلى مواضع منها ليقاس عليها غيرها، فانا قد رأينا الانتقال من الغيبة إلى الخطاب قد استعمل لتعظيم شأن المخاطب، ثم رأينا ذلك بعينه وهو ضد الأول قد استعمل فى الانتقال من الخطاب إلى الغيبة، فعلمنا حينئذ أنّ الغرض الموجب لاستعمال هذا النوع من الكلام لا يجرى على وتيرة واحدة وإنما هو مقصور على العناية بالمعنى المقصود، وذلك المعنى يتشعب شعبا كثيرة لا تنحصر، وإنما يؤتى بها على حسب الموضع الذى ترد فيه» (¬1). وكانت طريقته فى إظهار روعة أسلوب الالتفات ضرب الأمثلة والتعليق عليها والوقوف على ما فيها من جمال وتأثير. وهذه الطريقة أنفع فى معالجة البلاغة ولكن لا يمنع أن تكون هناك قواعد عامة تهدى، وقد حصر المتأخرون أسباب الالتفات فى فوائد عامة وخاصة (¬2)، فمن الفوائد العامه التفنن والانتقال من أسلوب إلى آخر، لما فى ذلك من تنشيط السامع، واستجلاب ¬

_ (¬1) المثل السائر ج 2 ص 4 - 5. (¬2) ينظر البرهان فى علوم القرآن ج 3 ص 325.

صفائه، واتساع مجارى الكلام، وتسهيل الوزن والقافية، وهذا ما أشار إليه البلاغيون المتقدمون ورفضه ابن الأثير. وأما الفوائد الخاصة فتختلف باختلاف محاله ومواقع الكلام فيه على ما يقصده المتكلم، ومنها: - قصد تعظيم شأن المخاطب، كما فى قوله تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» (¬1) فان العبد إذا افتتح حمد مولاه بقوله «الحمد لله» الدالّ على اختصاصه بالحمد وجد من نفسه التحرك للاقبال عليه سبحانه، فاذا انتقل إلى قوله: «رَبِّ الْعالَمِينَ» الدال على ربوبيته لجميعهم قوى تحركه، فاذا قال: «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» الدال على أنه منعم بأنواع النعم جليلها وحقيرها تزايد التحرك عنده، فاذا وصل إلى «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» وهو خاتمة الصفات الدالة على أنّه مالك الأمر يوم الجزاء فيتأهب قربه، ويتقن الإقبال عليه بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة فى المهمات. ثم انتقل من خطاب الغائب إلى الحاضر فقال: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» لينسب إلى التعظيم حال المخاطبة والمواجهة على ما هو أعلى رتبة وذلك عن طريق التأدب. وعلى نحو من ذلك جاء آخر السورة فقال: «الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» مصرحا بذكر المنعم وإسناد الإنعام إليه لفظا، ولم يقل «صراط المنعم عليهم» فلما صار إلى ذكر الغضب روى عنه لفظ الغضب فى النسبة إليه لفظا وجاء باللفظ متحرفا عن ذكر الغاضب فلم يقل «غير المغضوب غضبت عليهم» تفاديا عن نسبة الغضب فى اللفظ حال المواجهة. - التنبيه على ما حق الكلام أن يكون واردا عليه، كقوله تعالى: «وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (¬2)، أصل الكلام «وما لكم لا تعبدون الذى فطركم» ولكنه أبرز الكلام فى معرض المناصحة ¬

_ (¬1) الفاتحة 1. (¬2) يس 22.

لنفسه، وهو يريد مناصحتهم ليتلطف بهم ويريهم أنّه لا يريد لهم إلّا ما يريد لنفسه ثم انقضى غرضه من ذلك قال: «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» ليدل على ما كان من أصل الكلام ومقتضيا له، ثم ساقه هذا المساق إلى أن قال: «إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ» (¬1). - أن يكون الغرض به التتميم لمعنى مقصود للمتكلم فيأتى به محافظة على تتميم ما قصد إليه من المعنى المطلوب، كقوله تعالى: «فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (¬2). أصل الكلام «إنا كنا مرسلين رحمة منا» ولكنه وضع الظاهر موضع المضمر للانذار بأنّ الربوبية تقتضى الرحمة للمربوبين للقدرة عليهم، أو لتخصيص النبى- صلى الله عليه وسلم- بالذكر أو الإشارة إلى أن الكتاب إنما هو إليه دون غيره، ثم التفت باعادة الضمير إلى الرب الموضوع موضع المضمر للمعنى المقصود من تتميم المعنى. - قصد المبالغة: كقوله تعالى «حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ» (¬3) كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليتعجب منها ويستدعى منه الإنكار والتقبيح لها، إشارة منه إلى سبيل المبالغة إلى أن ما يعتمدونه بعد الإنجاء من البغى فى الأرض بغير الحق مما ينكر ويقبح. - قصد الدلالة على الاختصاص: كقوله تعالى: «وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ» (¬4)، فانه لما كان سوق السحاب إلى البلد الميت وإحياء الأرض بعد موتها بالمطر دالا على القدرة الباهرة التى لا يقدر عليها غيره، عدل عن لفظ الغيبة إلى التكلم لأنه أدخل فى الاختصاص وأدل عليه «سقنا» و «أحيينا». ¬

_ (¬1) يس 25. (¬2) الدخان 4 - 6. (¬3) يونس 22. (¬4) فاطر 9.

- قصد الاهتمام: كقوله تعالى: «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها، وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» (¬1). فعدل عن الغيبة فى «قضاهن» و «أوحى» إلى التكلم فى «وزينا السماء الدنيا» للاهتمام بالإخبار عن نفسه، فانه تعالى جعل الكواكب فى سماء الدنيا للزينة والحفظ، وذلك لأنّ طائفة اعتقدت فى النجوم أنّها ليست فى سماء الدنيا وأنها ليست حفظا ولا رجوما فعدل إلى التكلم والإخبار عن ذلك لكونه مهما من مهمات الاعتقاد ولتكذيب الفرقة المعتقدة بطلانه. - قصد التوبيخ: كقوله تعالى: «وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا» (¬2). عدل عن الغيبة إلى الخطاب للدلالة على أنّ قائل مثل قولهم ينبغى أن يكون موبخا ومنكرا عليه، ولما أراد توبيخهم على هذا أخبر عنه بالحضور فقال: «لقد جئتم»، لأنّ توبيخ الحاضر أبلغ فى الإهانة له. وللالتفات أقسام كثيرة ذكرها البلاغيون والذين اهتموا بعلوم القرآن، ويمكن تلخيصها فيما يأتى: - الالتفات من التكلم إلى الخطاب: ووجهه حثّ السامع وبعثه على الاستماع حيث أقبل المتكلم عليه، وأنّه أعطاه فضل عناية وتخصيص بالمواجهة، كقوله تعالى: «وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (¬3). الأصل: «وإليه أرجع» فالتفت من التكلم إلى الخطاب. وفائدته أنّه أخرج الكلام فى معرض مناصحته لنفسه وهو يريد نصح قومه تلطفا وإعلاما أنه يريد لهم ما يريده لنفسه ثم التفت إليهم لكونه ¬

_ (¬1) فصلت 11 - 12. (¬2) مريم 88 - 89. (¬3) يس 22.

فى مقام تخويفهم ودعوتهم إلى الله. ثم إنّ قومه لمّا أنكروا عليه عبادته لله أخرج الكلام معهم بحسب حالهم فاحتج عليهم بأنّه يقبح منه أنّه لا يعبد فاطره ومبدعه ثم حذرهم بقوله: «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ». - الالتفات من التكلم إلى الغيبة: ووجهه أن يفهم السامع أنّ هذا نمط المتكلم وقصده من السامع حضر أو غاب، وأنه فى كلامه ليس ممن يتلون ويتوجه فيكون فى المضمر ونحوه ذا لونين، وأراد بالانتقال إلى الغيبة الإبقاء على المخاطب، فالغيبة أروح له، كقوله تعالى: «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ» (¬1)، حيث لم يقل «لنا» تحريضا على فعل الصلاة لحق الربوبية. ومنه قوله تعالى: «فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (¬2). فقد قال سبحانه: «أَمْراً مِنْ عِنْدِنا» ثم انتقل إلى خطاب الغيبة فقال: «رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ». - الالتفات من الخطاب إلى التكلم: ومنه قوله تعالى: «فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا. إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا» (¬3)، فقد التفت من الخطاب «فاقض ما أنت قاض» إلى التكلم «إنا آمنا بربنا». - الالتفات من الخطاب إلى الغيبة: ومنه قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ، وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ ¬

_ (¬1) الكوثر 1 - 2. (¬2) الدخان 4 - 6. (¬3) طه 72 - 73.

وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ، دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ» (¬1). فقد التفت عن «كنتم» إلى «جرين بهم» لفائدة، وهى أنّه ذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها كالمخبر لهم، ويستدعى منهم الإنكار عليهم، إذ لو استمر على خطابهم لفاتت الفائدة. - الالتفات من الغيبة إلى التكلم: ومنه قوله تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ» (¬2). فقد التفت من الغيبة «سبحان الذى أسرى» إلى التكلم «الذى باركنا حوله». ومنه: «وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا» (¬3). فقد التفت من الغيبة «وأوحى»، إلى التكلم «وزينا». - الالتفات من الغيبة إلى الخطاب: ومنه سورة الفاتحة فقد بدأها سبحانه بقوله: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» ثم انتقل إلى الخطاب فقال «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ». وإنما عدل فيه من الغيبة إلى الخطاب لأنّ الحمد دون العبادة فلما صار إلى العبادة التى هى أخص الطاعات قال: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» فخاطب بالعبادة إصراحا بها وتقربا منه بالانتهاء إلى محدود منها. ومنه قوله تعالى: «وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا» (¬4) ولم يقل «لقد جاءوا» للدلالة على أنّ من قال مثل قولهم ينبغى أن يكون موبخا عليه منكرا عليه قومه، كأنه يخاطب به قوما حاضرين. ¬

_ (¬1) يونس 22. (¬2) الأسراء 1. (¬3) فصلت 12. (¬4) مريم 88 - 89.

ومما ينخرط فى هذا النوع الرجوع من خطاب الغيبة إلى خطاب النفس كقوله تعالى: «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها. وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» (¬1). وهذا رجوع من الغيبة إلى خطاب النفس فانه قال «وَزَيَّنَّا» بعد قوله «ثُمَّ اسْتَوى» وقوله «فَقَضاهُنَّ» و «أوحى». ومما ورد فى الشعر قول أبى تمام: وركب يساقون الركاب زجاجة … من السّير لم تقصد بها كفّ قاطب (¬2) فقد أكلوا منها الغوارب بالسّرى … وصارت لها أشباحهم كالغوارب (¬3) يصرّف مسراها جذيل مشارق … إذا آبه همّ عذيق مغارب (¬4) يرى بالكعاب الرّود طلعة ثائر … وبالعرمس الوجناء غرّة آيب (¬5) كأنّ بها ضغنا على كلّ جانب … من الأرض أو شوقا إلى كل جانب (¬6) ¬

_ (¬1) فصلت 11 - 12. (¬2) الركب: جماعة الراكبين. القاطب: الذى يمزج الخمر بالماء. (¬3) الغارب: الكاهل. السرى: سير الليل. (¬4) الجذيل: تصغير جذل وهو عود ينصب لتحتك به الجمال الجربى. العذيق: تصغير عذق وهو قنو النخلة. ويكنى بهذين الوصفين عن الرجل المحنك المجرب للأمور. (¬5) الكعاب: الفتاة. الرود: الناعمة. العرمس: الناقة. الوجناء: القوية. (¬6) الضغن: الحقد. يريد أنه كثير الترحال فهو إما كاره لجميع بقاع الأرض أو محب لها.

إذا العيس لاقت بى أبا دلف فقد … تقطّع ما بينى وبين النوائب (¬1) هنالك تلقى الجود من حيث قطّعت … تمائمه والمجد مرخى الذوائب (¬2) فقد قال «يصرّف مسراها» مخاطبة الغائب ثم قال بعد ذلك «إذا العيس لاقت بى» مخاطبا نفسه ومبشرا لها بالبعد عن المكروه والقرب من المحبوب، ثم جاء بالبيت الذى يليه معدولا به عن خطاب غيره وهو خطاب لحاضر، ثم قال «هنالك تلقى الجود». - الالتفات من الفعل المستقبل إلى فعل الأمر: ومنه قوله تعالى: «قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ* إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ «إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» (¬3)، فانه إنما قال «شهد الله» و «اشهدوا» ولم يقل «وأشهدكم» ليكون موازنا له وبمعناه لأنّ شهادة الله على البراءة من الشرك صحيح ثابت، وأما إشهادهم فما هو إلّا تهاون بهم ودلالة على قلة المبالاة بأمرهم ولذلك عدل به عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما وجئ به على لفظ الأمر. - الالتفات من الفعل الماضى إلى فعل الأمر: ومنه قوله تعالى: «قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» (¬4)، وقد عدل إلى الأمر للعناية بتوكيده فى نفوسهم. ¬

_ (¬1) العيس: الإبل البيض. النوائب: المصائب. (¬2) التمائم: جمع تميمة وهى ما يعلق على الصبى ليحفظه. الذوائب: خصل الشعر. (¬3) هود 53 - 54. (¬4) الأعراف 29.

- الالتفات من الفعل الماضى إلى المستقبل: ومنه قوله تعالى: «وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ» (¬1). ف «تثير» للمستقبل وما قبله وما بعده ماض وإنما جئ بها كذلك حكاية للحال التى يقع فيها إثارة الريح السحاب واستحضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة. وعلى هذا ورد قول تأبط شرا: بأنّى قد لقيت الغول تهوى … بسهب كالصّحيفة صحصحان (¬2) فأضربها بلا دهش فخرّت … صريعا لليدين وللجران (¬3) فانه قصد أن يصور لقومه الحال التى تشجع فيها على ضرب الغول كأنهم يبصرهم إياها مشاهدة للتعجب من جرأته، ولو قال «فضربتها» لزالت هذه الفائدة. - الالتفات من المستقبل إلى الماضى: ومنه قوله تعالى: «وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» (¬4)، فانه إنما قال «ففزع» بلفظ الماضى بعد قوله «ينفخ» وهو مستقبل للإشعار بتحقيق الفزع وأنه كائن لا محالة لأن الفعل يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعا به. ¬

_ (¬1) فاطر 9. (¬2) السهب: الأرض المستوية وجمعه سهوب. الصحصحان: الأرض الواسعة المستوية. (¬3) الجران من البعير: مقدم عنقه، ويقال: ألقى البعير جرانه: أى برك، وألقى فلان على هذا الأمر جرانه: أى وطن نفسه عليه. (¬4) النمل 87.

أساليب أخرى

ومنه قوله تعالى: «وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً» (¬1)، وإنما قيل «وَحَشَرْناهُمْ» ماضيا بعد «نسير» و «ترى» وهما مستقبلان للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز ليشاهدوا تلك الأحوال كأنه قال: وحشرناهم قبل ذلك لأنّ الحشر هو المهم ومن أجل ذلك ذكر بلفظ الماضى. ومما يجرى هذا المجرى الإخبار باسم المفعول عن الفعل المستقبل وإنما يفعل ذلك لتضمنه معنى الفعل الماضى، كقوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ، ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ» (¬2)، فانه إنما آثر اسم المفعول الذى هو «مجموع» على الفعل المستقبل الذى هو «يجمع» لما فيه من الدلالة على ثبات معنى الجمع لليوم وأنه الموصوف بهذه الصفة. ولم يدخل الزركشى الأنواع الأربعة الأخيرة فى الالتفات وإنما بحثها فى مبحث خاص وقال إنّها تقرب من الالتفات، فى حين عدّها ابن الأثير النوع الثانى والنوع الثالث من أقسامه الثلاثة (¬3). أساليب أخرى: وهناك أساليب أخرى من إتيان الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، وكل منها يصلح أن يكون من أبواب المعانى إذا اعتبرت فيه نكتة لطيفة. وكان الخطيب القزوينى قد أهملها ونبه إليها السبكى (¬4)، وأشار إلى بعضها الزركشى وقال عنها إنّها تقرب من الالتفات (¬5). ¬

_ (¬1) الكهف 47. (¬2) هود 103. (¬3) ينظر المثل السائر ج 2 ص 4 - 19، والجامع الكبير ص 96 وما بعدها، والبرهان فى علوم القرآن ج 3 ص 314 - 337. (¬4) عروس الأفراح- شروح التلخيص ج 1 ص 491 - 492. (¬5) البرهان فى علوم القرآن ج 3 ص 234.

ومن هذه الأساليب: - الانتقال من خطاب الواحد لخطاب الاثنين، كقوله تعالى: «قالُوا: أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ» (¬1). - الانتقال من خطاب الواحد إلى خطاب الجمع، كقوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ» (¬2). - الانتقال من الاثنين إلى الواحد، كقوله تعالى: «قالَ: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى» (¬3). - الانتقال من الاثنين إلى الجمع، كقوله تعالى: «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» (¬4). - الانتقال من الجمع إلى الواحد كقوله تعالى: «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» (¬5). - الانتقال من الجمع إلى التثنية، كقوله تعالى: «يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا، لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (¬6). ¬

_ (¬1) يونس 78. (¬2) الطلاق 1. (¬3) طه 49. (¬4) يونس 87. (¬5) يونس 87. (¬6) الرحمن ص- 34.

والخروج على مقتضى الظاهر كما ظهر فى الأساليب المتقدمة، يعطى المتكلم أو الكاتب مجالا رحبا للتعبير عن الآراء بطرق مختلفة، وفى ذلك حرية لا تنكر. وهذه الأساليب ألصق بمباحث المجاز لأنّها تعبير عن المعنى بغير لفظه الموضوع له وبغير أسلوبه المعتاد. وقد أشار القدماء إلى ذلك فقال الزركشى وهو يتحدث عن التغليب: «جميع باب التغليب من المجاز، لأنّ اللفظ لم يستعمل فيما وضع له، ألا ترى أنّ القانتين موضوع للذكور الموصوفين بهذا الوصف فاطلاقه على الذكور والإناث على غير ما وضع له، وقس على هذا جميع الأمثلة» (¬1). ولعل ضمّ هذه الأساليب إلى المجاز المرسل يوحّد أجزاءه ويجمع منه ما تفرق فى أبواب البلاغة المختلفة، وذلك ما دعونا إليه فى دراساتنا السابقة. ... ¬

_ (¬1) البرهان فى علوم القران ج 3 ص 312.

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع الآمدى (أبو القاسم الحسن بن بشر): - الموازنة بين شعر أبى تمام والبحترى. ت. السيد أحمد صقر. دار المعارف- القاهرة هـ- م. ابن أبى الأصبع المصرى: - بديع القرآن. ت. الدكتور حفنى محمد شرف. القاهرة هـ- م. - تحرير التحرير فى صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن. ت. الدكتور حفنى محمد شرف. القاهرة هـ- م. ابن الأثير (ضياء الدين): - الجامع الكبير فى صناعة المنظوم من الكلام والمنثور. ت. الدكتور مصطفى جواد والدكتور جميل سعيد. بغداد هـ- م. - المثل السائر فى أدب الكاتب والشاعر. ت. محمد محيى الدين عبد الحميد القاهرة هـ- م. ابن الأثير (أبو السعادات المبارك بن محمد الجزرى): - النهاية فى غريب الحديث والأثر. ت. طاهر أحمد الزاوى ومحمود محمد الطناحى. القاهرة هـ- م. أحمد مطلوب (الدكتور): - البلاغة عند السكاكى. بغداد هـ- م. - عبد القاهر الجرجانى- بلاغته ونقده. بيروت هـ- م. - فنون بلاغية. بيروت هـ- م.

- القزوينى وشروح التلخيص. بغداد هـ- م. - مصطلحات بلاغية. بغداد هـ- م. - مناهج بلاغية. بيروت هـ- م. الأسد آبادى (القاضى أبو الحسن عبد الجبار): - المغنى فى أبواب التوحيد والعدل. الجزء السادس عشر فى إعجاز القرآن. ت. المرحوم أمين الخولى. القاهرة هـ- م. الاسفرايينى (إبراهيم بن محمد بن عربشاه): - الأطول (الشرح الأطول على التلخيص). تركية هـ. الباقلانى (أبو بكر محمد بن الطيب): - إعجاز القرآن. ت. السيد أحمد صقر. دار المعارف- القاهرة. - كتاب التمهيد. ت. الأب رتشرد مكارثى اليسوعى. بيروت م - نكت الانتصار لنقل القرآن. ت. الدكتور محمد زغلول سلام. الإسكندرية م. التفتازانى (سعد الدين بن مسعود بن عمر): - المطول (الشرح المطول على التلخيص) تركية هـ. التوحيدى (أبو حيان): - الإمتاع والمؤانسة. ت. أحمد أمين وأحمد الزين. القاهرة. ثعلب (أبو العباس أحمد بن يحيى): - قواعد الشعر. ت. محمد عبد المنعم خفاجى. القاهرة هـ- م. الجاحظ (أبو عثمان عمرو بن بحر): - البيان والتبيين. ت. عبد السلام هارون. القاهرة هـ- م. - الحيوان. ت. عبد السلام هارون. القاهرة هـ- م.

الجرجانى (عبد القاهر): - أسرار البلاغة. ت. هـ- ريتر. استامبول م. - دلائل الإعجاز. ت. محمد رشيد رضا. ط. القاهرة هـ. الجرجانى (على بن عبد العزيز): - الوساطة بين المتنبى وخصومه. ت. محمد أبو الفضل إبراهيم وعلى محمد البجاوى. ط. القاهرة. ابن جنى (أبو الفتح عثمان): - الخصائص. ت. محمد على النجار. القاهرة هـ- م. الحموى (أبو بكر على بن حجة): - خزانة الأدب وغاية الأرب. القاهرة هـ. الخفاجى (أبو محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان): - سر الفصاحة. ت. عبد المتعال الصعيدى. القاهره هـ- م. الخطابى (أبو سليمان حمد بن محمد بن ابراهيم): - بيان إعجاز القرآن. (طبع فى كتاب ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن) ت. الأستاذ محمد خلف الله أحمد والدكتور محمد زغلول سلام. دار المعارف القاهره. الخولى (المرحوم أمين): - فن القول. القاهره هـ- م. - مناهج تجديد فى النحو والبلاغة والتفسير والأدب. القاهره م. الرازى (فخر الدين محمد بن عمر): - نهاية الإيجاز فى دراية الإعجاز. القاهره هـ.

الرمانى (أبو الحسن على بن عيسى): - النكت فى إعجاز القرآن (مطبوع فى ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن) ت. محمد خلف الله أحمد ومحمد زغلول سلام. دار المعارف- القاهرة. الزركشى (بدر الدين محمد بن عبد الله): - البرهان فى علوم القرآن. ت. محمد أبو الفضل إبراهيم. القاهرة هـ- م. وما بعدها. الزمخشرى (جار الله محمود بن عمر): - الكشاف. ط. القاهره هـ- م. الزملكانى (عبد الواحد بن عبد الكريم): - البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن. ت. الدكتور أحمد مطلوب والدكتورة خديجة الحديثى. بغداد هـ- م. - التبيان فى علم البيان المطلع على إعجاز القرآن. ت. الدكتور أحمد مطلوب والدكتورة خديجة الحديثى. بغداد هـ- م. السبكى (بهاء الدين): - عروس الأفراح فى شرح تلخيص المفتاح (مطبوع فى كتاب شروح التلخيص). القاهره م. السكاكى (أبو يعقوب يوسف بن أبى بكر محمد بن على): - مفتاح العلوم. القاهرة هـ- م. سيبويه (عمرو عثمان بن قنبر): - كتاب سيبويه. القاهرة هـ. شوفى ضيف (الدكتور): - البلاغة تطور وتاريخ. دار المعارف- القاهرة م.

العسكرى (أبو هلال الحسن بن عبد الله): - كتاب الصناعتين. ت. على محمد البجاوى ومحمد أبو الفضل إبراهيم القاهرة هـ- م. ابن عقيل (بهاء الدين عبد الله بن عقيل): - شرح ابن عقيل. ت. محمد محيى الدين عبد الحميد. ط. القاهرة هـ- م. العلوى (يحيى بن حمزة): - الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز. القاهرة هـ- م. ابن فارس (أبو الحسين أحمد): - الصاحبى فى فقه اللغة وسنن العرب فى كلامها. ت. الدكتور مصطفى الشويمى. بيروت هـ- م. ابن قتيبة (أبو محمد عبد الله بن مسلم): - أدب الكاتب. ت. محمد محيى الدين عبد الحميد. ط. القاهرة هـ- م. - تأويل مشكل القرآن. ت. السيد أحمد صقر. القاهرة هـ- م. - الشعر والشعراء. ت. أحمد محمد شاكر. ط. دار المعارف- القاهرة هـ- م. - عيون الأخبار. دار الكتب. القاهرة. قدامة بن جعفر: - نقد الشعر. ت. كمال مصطفى. القاهرة م.

القرطاجنى (أبو الحسن حازم): - منهاج البلغاء وسراج الأدباء. ت. الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة. تونس م. القزوينى (الخطيب جلال الدين محمد بن عبد الرحمن): - الإيضاح. ت. لجنة باشراف محمد محيى الدين عبد الحميد. القاهرة. - التلخيص. ت. عبد الرحمن البرقوقى. ط. القاهرة هـ- م. القيروانى (أبو على الحسن بن رشيق): - العمدة فى محاسن الشعراء وآدابه ونقده. ت. محمد محيى الدين عبد الحميد. ط. القاهرة هـ- م. ابن قيم الجوزية (شمس الدين أبو عبد الله محمد): - الفوائد (المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان). القاهرة هـ. ابن مالك (بدر الدين أبو عبد الله محمد بن جمال): - المصباح (تلخيص القسم الثالث من مفتاح العلوم للسكاكى). القاهرة هـ. المبرد (أبو العباس محمد بن يزيد): - البلاغة. ت. الدكتور رمضان عبد التواب. القاهرة م. - الكامل. ت. الدكتور زكى مبارك. القاهرة هـ- م. - المقتضب. ت. محمد عبد الخالق عضيمة. القاهرة هـ وما بعدها. محمد كرد على: - رسائل البلغاء. ط القاهرة هـ- م.

محمد مندور (الدكتور): - فى الميزان الجديد. ط. القاهرة. ابن المعتز (عبد الله): - البديع. طبعة كراتشكوفسكى. لندن م. المغربى (ابن يعقوب): - مواهب الفتاح فى شرح تلخيص المفتاح (مطبوع فى شروح التلخيص) القاهرة م. ابن منقذ (أسامة): - البديع فى نقد الشعر. ت. الدكتور أحمد أحمد بدوى والدكتور حامد عبد الحميد. القاهرة هـ- م. ابن المقفع (عبد الله): - الأدب الصغير. (مطبوع فى كتاب آثار ابن المقفع ورسائل البلغاء). ابن هشام (أبو محمد عبد الله جمال الدين الأنصارى): - مغنى اللبيب عن كتب الأعاريب. ت. محمد محيى الدين عبد الحميد القاهرة. ابن وهب (أبو الحسين اسحاق بن إبراهيم بن سليمان الكاتب): - البرهان فى وجوه البيان. ت. الدكتور أحمد مطلوب والدكتورة خديجة الحديثى. بغداد هـ- م.

للمؤلف

للمؤلف أولا: الدراسات: - البلاغة عند السكاكى. بغداد م. - القزوينى وشروح التلخيص. بغداد م. - النقد الأدبى الحديث فى العراق. القاهرة م. - الرصافى- آراؤه اللغوية والنقدية- القاهرة م. - مصطلحات بلاغية. بغداد م. - مناهج بلاغية. بيروت م. - عبد القاهر الجرجانى- بلاغته ونقده- بيروت م. - اتجاهات النقد الأدبى فى القرن الرابع للهجرة. بيروت م. - فنون بلاغية- البيان والبديع- بيروت م. - دعوة إلى تعريب العلوم فى الجامعات. بيروت م. - دراسات بلاغية ونقدية. بغداد م. - أساليب بلاغية- الفصاحة والبلاغة والمعانى- بيروت م. ثانيا: التحقيق: - ديوان القطامى. بيروت م. - شعر عروة بن حزام. بغداد م. - التمام فى تفسير أشعار هذيل لابن جنى. بغداد م. - ديوان قيس بن الخطيم. بغداد م. - فوح الشذا بمسألة كذا لابن هشام. بغداد م. - التبيان فى علم البيان لابن الزملكانى. بغداد م. - البخلاء للخطيب البغدادى. بغداد م. - ديوان ديك الجن. بيروت م. - من شعر أبى حيان الأندلسى. بغداد م.

ثالثا: المدرسية

- البرهان فى وجوه البيان لابن وهب. بغداد م. - الجمان فى تشبيهات القرآن لابن ناقيا. بغداد م. - ديوان أبى حيان الأندلسى. بغداد م. - البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن لابن الزملكانى. بغداد م - تحفه الأريب بما فى القرآن من الغريب لأبى حيان الأندلسى. بغداد م. ثالثا: المدرسية: - النصوص الأدبية للصفوف الرابعة التجارية. بغداد م. - قواعد اللغة العربية للصفوف الرابعة التجارية. بغداد م. - قواعد اللغة العربية للصفوف الخامسة التجارية. بغداد م. - لغتى للصفوف الخامسة الابتدائية. بغداد م. - لغتى للصفوف السادسة الابتدائية. بغداد م. - البلاغة للصفين الرابع والخامس الاعداديين (المدارس الإسلامية).

§1/1