أساليب الدعوة إلى الله في القرآن الكريم

أبو المجد سيد نوفل

مقدمة

أساليب الدعوة إلى الله تعالى في القرآن الكريم لفضيلة الدكتور: أبو المجد سيد نوفل أستاذ بالدراسات العليا بالجامعة الحلقة الأولى مقدمة: لكل دعوة جانبان، جانب المعاني والمضامين، وهو الذي يشمل قضايا الدعوة ومبادئها وأهدافها.. وجانب الأساليب والعبارات، وهو الذي تصاغ فيه هذه المعاني ... ولكل من الجانبين خصائصه التي تميزه عن الآخر. فمن خصائص الدعوة الإسلامية مثلاً صدقها، وشمولها، وحيويتها ... ومن خصائص أساليبها، الوضوح والبيان، والحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن.... ولقد عني العلماء بدراسة أساليب الدعوة، ومن هذه الدراسة تقسيمهم هذه الأساليب إلى خبرية، وإنشائية، وجدلية، وبراهينية، وقصصية.. إلى آخر هذه التقسيمات التي حفلت بها كتبهم قديماً وحديثاً. وهي تقسيمات تدور حول الألفاظ، والجمل، والتراكيب اللغوية والأدبية. ونستطيع هنا أن نضيف تقسيماً آخر لهذه الأساليب، وهو يدور حول المعنى والمضمون الديني فإذا اشتمل الأسلوب على معنى من معاني الإيمان مثلاً فهو أسلوب إيماني، وإذا دار حول معنى عبادة من العبادات يبين أمرها، وحكمها.. فهو أسلوب عبادي. وإذا اشتمل على أحكام تشريعية أو خلقية، أو جهادية.. فهو أسلوب تشريعي، أو خلقي أو جهادي ... وهكذا تظهر لنا أساليب عقائدية، وعبادية، وتشريعية في حقل الدعوة وأساليبها. على أن كلاً من هذه الأساليب سيظهر في صور متعددة، وفنون مختلفة، كفنون القصة والمثل، والمجادلة وما إليها من الأساليب التي أشرنا إليها قبلاً. وفي هذا النهج محاولة لضبط أساليبها، وتوضيح معانيها وتكاملها.

ما هو أسلوب الدعوة؟

2- ما هو أسلوب الدعوة؟ والمراد بأسلوب الدعوة هنا ما بلغت به أوامر الله تعالى وإرشاداته إلى المدعوين وهو لا يخرج عما جاء به القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. وهو يجمع على "أساليب" وهو الطريق، والوجه، والمذهب، ... وهو الفن: يقال: أخذ فلان في أساليب من القول أي أفانين منه1. وله تعاريف منها: أنه كلمات مناسبة في مواضع مناسبة. أو هو الفن البياني الذي غايته قوة الأداء مع الصحة، وسمو التعبير مع الدقة وإبداع الصورة وجمالها2. ومنها: أنه الكلام الحسن الذي يصفه بعض علماء البيان بقوله: "يحسن بسلامته وسهولته وفصاحته، وتخير لفظه، وإصابة معناه، وجودة مطالعه، ولين مقاطعه واستواء تقاسيمه وتعادل أطرافه، وتشبه أعجازه بهوادبه، وموافقة مآخيره لمباديه ... "3. هذه هي صفات الكلام الحسن. أما الكلام الأحسن فهو كلام الله نعالى الذي وصفه الله تعالى بقوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الزمر آية 23) . ولقد أخذت هذه الأساليب بنفوس الكفرة، وهم أرباب القول، وفحول البيان، فأعجبوا بها، وافتتنوا بجمالها، وشهدوا لها رغم عداوتهم للإسلام وبقائهم على الشرك. روي أن الوليد قال لبني مخزوم: "والله لقد سمعت من محمد -صلى الله عليه وسلم- آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق وإنه يعلو وما يعلى"4.

_ 1 لسان العرب. 2 وحي القلم لمصطفى صادق الرافعي. 3 الصناعتين لأبي هلال العسكري. 4 ابن هشام جـ1.

خصائص هذه الأساليب

3- خصائص هذه الأساليب: وأساليب الدعوة جزء من الدعوة، والدعوة هي القرآن الكريم. ومن هنا فهي متعبد بتلاوتها والتدبر فيها: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ... } (محمد آية 24) . - وقد تعهد الله تعالى بحفظها، وجمعها، وبيانها: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة آية 16-19) .

- وما دامت من عند الله تعالى فليس فيها تبديل ولا تحريف، وليس لأجد ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه أن يغير فيها أو يبدل: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (الحاقة آية 16-19) . - وهي من عند الله تعالى بلفظها ومعناها باللغة العربية: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (الشعراء آية 192-195) . ولقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتحدى أمة البيان والبلاغة والإنس والجن أن يأتوا بمثل القرآن فعجزوا، ثم طلب منهم أن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا، ثم طلب منهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، فثبت أنه كلام الله لا كلام غيره: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة آية 23-24) . ولقد ظلت هذه الأساليب تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تباعاً، وعلى مدى ثلاثاً وعشرين سنة حتى اكتمل نزول القرآن، وهو الموجود الآن في المصاحف والمحفوظ في الصدور. وهي على هذه الكثرة الكثيرة من السور والآيات البينات1 لم يحصل فيها تناقض واحد، ولا غلط واحد.. وظلت كذلك حتى اليوم وبعد أربعة عشر قرناً هي هي سليمة من أي تبديل أو تحريف.. وذلك بعكس أساليب اليهودية والنصرانية2. وأساليب الدعوة في القرآن على تعدد صورها وألوانها ... لم تصطدم مع العلم قديمه وحديثه، العلم الصحيح القائم على المنطق السليم، وأن ما في أحدث نظريات العلم من حقائق عن الكون ومظاهر الحياة المادية والإنسان، والحيوان، والنبات ... لا يتناقض مع ما في

_ 1 أحصى بعض العلماء آيات القرآن الكريم فوجدها أكثر من ستة آلاف آية. انظر: الإتقان في علوم القرآن جزء 1 ص 88 طبعة رابعة. 2 أثبتت الأبحاث الدينية أن أهل الكتاب لا يوجد عندهم سند متصل. وأن التوراة الموجودة أو العهد القديم معظمها مجهودات بشرية، وأن أناجيل النصارى المعتمدة عندهم الآن لا تخرج عن إنجيل مترجم جهل الأصل المترجم منه كإنجيل متى أو عن إنجيل جهل كاتبه ولم يعرف على وجه اليقين. ومن هنا فهي كتب لا علاقة لها بالوحي، ومن ثم فقد وقع فيها التضارب والاختلاف. وقد أحصى بعض الباحثين الاختلافات في العهدين القديم والجديد وذكر منها مائة وعشرين اختلافاً، كما أحصى الأغلاط وذكر منها مائة وعشرة من الأغلاط وأتى باستشهادات على التحريفات اللفظية ذكر منها خمسة وثلاثين شاهداً، وعلى التحريفات بالزيادة وذكر منها خمسة وأربعين شاهداً، وعلى التحريفات بالنقصان وذكر منها عشرين شاهداً، ثم ذكر كثيراً من المغالاطات التي امتلأت بها هذه الكتب وذلك بالأدلة التي لا مجال فيها للطعن، انظر: إظهار الحق لرحمة الله بن خليل الرحمن الهندي الجزء الأول.

القرآن الكريم من أساليب، بل هذه الأساليب. بمعانيها العميقة لا زالت ولن تزال تؤيد العلم في اتجاهاته السليمة، واكتشافاته لمظاهر الكون لمعرفة أسراره، وذلك بعكس الأديان الأخرى التي عاشت في صراع مرير مع العلم حتى الآن1. وهذه الأساليب فضلا عن تأديتها مهام العبادات والتكاليف والأحكام الشرعية ... هي أساليب جمالية ونصوص أدبية امتاعية، تقوم اللسان، وتعلم البيان، وترقق المشاعر.. وكلما قرئت اطمأنت بها النفوس، واقشعرت منها الجلود خشية لله وخضوعا لعظمته: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد/28) ، {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ... } (الزمر/23) . ومن مقومات هذه الأساليب أنها قامت على الحق: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ... } (السجدة/2) . وعلى الصدق": {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} (النساء/122) . وعلى الوضوح والإبانة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} (النساء/174) . وعلى اليسر: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (القمر/17) . وعلى الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... } (النحل/125) . وهي أساليب لا باطل فيها: { ... لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ... } (فصلت/42) . ولا كذب: { ... مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى ... } (يوسف/111) . ولا عسر ولا حرج: { ... وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج ... } (الحج/78) . ولا لغو ولا لهو.. {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ... } (الأنبياء/16-18) .. ولا خيال، وهو ما يقوم عليه شعر الشعراء، وفن الأدباء، وغيرهما

_ 1 فالكنسية النصرانية تقول أن الله خلق العالم ابتداء من سنة 4004 ق. م، وظلت تقول بهذا القول حتى مطلع القرن الماضي. ولقد أعلن مجلس كنسي في بداية القرن العاشر الميلادي أنه القرن الأخير وأن العالم سينتهي بانتهائه لأن الله جعل المدة بين إنزال ابنه تعالى الله عما يقول الكافرون علوا كبيرا ونهاية العالم بعد ألف سنة فقط –انظر قصة الحضارة ج 14 ولديورانت. ولقد انتهى القرن العاشر الميلادي ولم ينتهي العالم كما قالت الكنيسة، ومر بعده تسعة قرون ولازال العالم باقيا. ونهايته عند خالقه وصانعه {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَة ... } .

مما يبعد عن الحقيقة ويضرب في أودية الوهم والخرافة.. {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ... } (الشعراء آية 224-227) . ولن يدخل في هذا الخيال ما اشتملت عليه هذه الأساليب من تشبيهات وتراكيب بلاغية لأن هذه وإن احتوت على ضروب من التصويرات فإنما هي لتقريب المعنى وإبرازه في صورة المحسوس، وكشفه، وتوضيحه وإظهار الحقيقة دون زيادة أو نقصان ودون أي معنى خرافي أو أسطوري. لأن كلام الله عز وجل متنزه عن ذلك {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} (الفرقان آية 5-6) . وهي أساليب هداية حقيقية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتدعو إلى المثل العليا والحياة الطيبة في أسمى صورها وغاياتها، إنها شفاء للناس، ورحمة للعالمين. {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ... } (الإسراء آية 9) . {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ..} (الإسراء آية 82) . وليست كأساليب المنافقين، والمبشرين، والمستشرقين.. التي تقدم للناس في صور ظاهرها فيه رحمة وباطنها من قبله العذاب، ظاهرها تعليم، وتطبيب، وبر وإحسان، وباطنها هدم، وكيد، وحرب للإسلام، وليست كأساليب الشيوعية والاستعمار، تنادي بالحريات، وتدافع عن الفقراء وتشيد بالإنسان وتخفي وراءها الدمار والغصب، وسفك الدماء، واحتلال الأوطان، ونهب خيراتها والقضاء على معتقداتها، ومسخ الإنسان آلة لا إرادة لها، وتحقيره، ووأد حريته ... ليعيش عيشة الذل والفقر والهمجية. - وأساليب الدعوة الإسلامية أساليب أدب وعفة.. ليس فيها ما يخدش الحياء أو ينافي الفضيلة، أو يساعد على تحريك الغرائز الحيوانية الممقوتة في الإنسان. وإذا تعرضت هذه الأساليب إلى تصوير بعض المواقف التي تلعب فيها الغريزة الحيوانية بعض أدوارها لإظهار الصراع بين الخير والشر للعظة والتبصرة ... فإنها سرعان ما تسد النوافذ التي قد تطل منها تخيلات دنيا، فنراها تنتقل بالنفس على الفور إلى آفاق من السمو والرفعة، وتفتح لها طاقات من النور والروحانية ... يتلاشى معها ما قد يكون علق بالنفس من شوائب تلك التخيلات، ففي قصة يوسف عليه السلام هذا الموقف الذي تصوره هذه الآية {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (يوسف آية 23) . فهنا تشتمل الآية على عدد من الجمل، نصفها الأول جاء لتصوير موقف امرأة العزيز من يوسف عليه السلام حيث تراوده عن نفسها {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} ، وتسد عليه النوافذ كيلا يهرب منها {وَغَلَّقَتِ

الأَبْوَابَ} وتأمره صراحة بفعل الحرام {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} وذكر هذه الأمور قد يفتح باب النفس البشرية أودية من التصورات مما يتوجب على الأسلوب الحكيم أن يطمس هذه التصورات، ويسد هذه الأودية حتى لا تؤثر في النفس أثرها السيئ. وهذا هو ما صنعه القرآن الكريم حيث سارع بإيراد موقف يوسف بعد إيراده موقف امرأة العزيز بدون فصل، وفي آية واحدة، في هذه الجمل الثلاث التي تحمل معاني الخشية من الله، والأمانة على العرض، والحذر من الهلاك ... وهي قيم رفيعة، ومثل عليا، وروحانية صافية من شأنها أن تنتقل بالنفس من مواقف المادية والجنسية والمراودة.. إلى آفاق الروحية، والطهر والعفة.. واستشعار النفس للإحاطة الإلهية والمراقبة الربانية والتخوف من الذي لا يغفل عن ظلم الظالمين ولا ينام عن عقاب المعتدين {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} . وهكذا إذا أراد القرآن معالجة مشكلة من المشاكل المتصلة بالإنسان من حيث جانبه الحيواني نراه يبتعد كل الابتعاد عن الخوض في التصورات الجنسية، والإيحاءات النفسية الشريرة، ويوصد الأبواب في وجه الوسواس الخناس {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} (الناس آية 5) ، وينأى عن العبارات الفاضحة، والألفاظ الخادشة للحياء، والمثيرة للبهيمية في الإنسان {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل آية 9) . وذلك بعكس أساليب الكتب التي يزعم أصحابها أنها مقدسة، وأنها متصلة بالوحي، إذ أن أساليب هذه الكتب تنطق صراحةً لا ضمناً بألفاظ الفحش، والغزل القبيح، وعبارات الجنس المرذول، وتفتح كل منافذ التصورات الدنيئة والتخيلات السوداء المثيرة للغرائز البهيمية في الإنسان. وأسوق بعض الأمثلة على ذلك وهي قليل من كثير فيما يلي: جاء في سفر "نشيد الأنشاد" لسليمان، والمسجل في العهد القديم، وهو الذي يطلق عليه اليهود والنصارى التوراة ويعدونه كتاباً مقدساً ما يلي: "لقد شبهتك يا حبيبتي بغرس في مركبات فرعون. ما أجمل خديك.. وعنقك" "الإصحاح الأول". "حبيبي بين ثديي يبيت.. ها أنت جميلة يا حبيبتي، ها أنت جميلة، عيناك حمامتان" "الإصحاح الأول". "كذلك حبيبي، شماله تحت رأسي، ويمينه تعانقني ... " "الإصحاح الثاني".

"ها أنت جميلة يا حبيبتي، فمك حلو، خدك كفلقة رمانة ... " "الإصحاح الرابع". "صوت حبيبي قارعا افتحي يا أختي يا حبيبتي، يا حمامتي قد خلعت ثوبي كيف ألبسه قد غسلت رجلي فكيف أوسخها.. حبيبي مد يده من الكوة فأنت عليه أحشائي، حبيبي بطنه عاج.. ساقاه عمود رخام.. حلقه حلاوة، وكله مشتهيات.." "الإصحاح الخامس". وهكذا. كتاب ديني، مقدس عند اليهود والنصارى، وهو المرجع الأساسي للديانتين معاً، يقوم على أشعار، وإصحاحات، وعبارات.. من هذا النمط الرخيص المتقدم!!! غزل فاضح، وعبارات مستهجنة، وتصورات جنسية سافلة ... !!! فهل بعد هذا يتعجب متعجي من الدعوة اليهودية إلى التحلل، والإباحية، ونشر الدعارة والفسوق، وإذاعة الرذيلة.. في العالم كله.. على يد كتابهم ومؤلفيهم ورؤسائهم وفلاسفتهم.. وعلى يد فرويد.. وغير فرويد!!! ومن تحلل في أوربا وأمريكا، وسائر المجتمعات التي تدين بالمسيحية.. ولا تجد غضاضة في إظهار عورات النساء أمام الأجانب، والعلاقات الحرام بين الأنثى والذكر.. والسقوط الخلقي السافر الذي يسود هذه المجتمعات الآثمة الضالة؟؟؟!!! إن القوم يخلصون لكتابهم، ويحكمون شريعتهم فيما بينهم، وينشرونها على الناس!!!! ولكن: إذا لم تستح فاصنع ما شئت. إن أساليب الوحي السماوي تفيض حياءً، وأدباً، وعفة.. في ألفاظها، وعباراتها ومعانيها. وهي نور وهداية إلى الخير والفضيلة ... ولا صلة لها البتة بالتغزل في أفواه النساء، وخدودهم وبطونهن، وحلوقهن، وسيقانهن، وشهواتهن ... على الوجه الحرام الذي يخدش الحياء، ويزري بالفضيلة ويهدم البناء الخلقي الصالح إلى آخر ما جاءت به أساليب اليهودية والنصرانية معاً!!!

الأساليب العقائدية ومنهج القرآن في تقريرها

4- الأساليب العقائدية ومنهج القرآن في تقريرها: ونأخذ الآن في أساليب الدعوة في القرآن الكريم بادئين بالأساليب العقائدية فنقول: لقد بدأ ت الدعوة إلى الله تعالى في المرحلة المكية من حياة النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى العقيدة الإسلامية وتقريرها، وتثبيتها في القلوب، واستمرت على هذا النحو طوال هذه المرحلة، والمرحلة التالية وهي المرحلة المدنية، وستظل كذلك إلى ما شاء الله تعالى.

ولا بدع في ذلك: إذ أن البدء بغرس العقيدة في النفس كالبدء بغرس الحبة في الأرض، وهو أول عمل يقوم به من يريد أن يحصد الزرع المثمر. ولا ريب أن ثمار العقيدة هي الأخلاق وتكوين حماة الدعوة وأبطالها، وتربية جنود الإسلام على الصبر والثبات، والتضحية، والصدق والجهاد في الله حق جهاده، لنشر راية الإسلام والدفاع عنها. وهذا هو ما حدث في الماضي البعيد، على يد الأنبياء والرسل والهداة.. وفي الماضي القريب على يدي النبي الخاتم صلوات الله عليه وسلامه، ويحدث في مختلف مراحل التاريخ على يد دعاة الإسلام الذين لا يبدؤون دعواتهم إلا بالدعوة إلى التوحيد الخالص ومحاربة الشرك والوثنية في شتى صورها. وهذه هي الدعوات الناجحة التي تستقيم بعدها أحوال العباد. ولقد شبه القرآن الكريم تمكن (لا إله إلا الله) من قلب المسلم، وإثمارها الفضائل والعمل الطيب.. في سائر الأوقات ما دامت على هذا النحو. بالشجرة الطيبة الثابتة الجذور فهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (إبراهيم آية 24-25) . ولعظيم شأن العقيدة في النفوس، وما يترتب عليها من آثار خطيرة في سائر حياة الإنسان.. فلقد استحوذت أساليبها على نصيب كبير في القرآن الكريم، بل كادت أن تكون كله، إذ أنه ما من جزء أو سورة، أو آية خلت من الدعوة إلى العقيدة صراحةً أو ضمناً. ولقد جاءت هذه الأساليب متنوعة، وبهذه الكثرة.. لتقرير العقيدة وتثبيتها ... من ناحية وبيان أهدافها وأغراضها وآثارها من ناحية أخرى. واتخذ القرآن لبيان ذلك طريقين: أحدهما: إيجابي، وهو يتمثل في بيان العقيدة الصحيحة، وتفصيل عناصرها، والاستدلالات عليها وبيان آثارها، وصفات أهلها ... وثانيهما: سلبي، ويتمثل في بيان العقائد الفاسدة، وأنواعها، والاستدلال على فسادها وبيان آثارها، وما يتصف به أهلها ... ومن هنا نستطيع القول بأن منهاج عرض العقيدة الإسلامية في القرآن إنما هو منهج كامل واضح، وذلك بتجلية العقيدة بالطريق الإيجابي المتمثل في بيانها وتفصيل أمرها.. ثم بإيراد ما يضادها من العقائد الأخرى الفاسدة، والقرآن بهذا يضع الحقيقتين المتضادتين بجانب بعضهما، ليتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ويتضح الليل من النهار، والعمي من الإبصار.. {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ..} (الأنفال آية 42) .

وبضدها تتميز الأشياء وهكذا لم يعد هنا عذر لمعتذر، ولا ريبة لمرتاب، إلا من ختم الله على قلبه وجعل الغشاوة على سمعه وبصره. ولنضرب بعض الأمثال على ما ذكرنا فيما يلي: فمن الطريق الأول: قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ... } (البقرة آية 285) . وقوله تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} (النبأ آية 17-23) . وقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر آية 49) . وهو لبيان العقيدة، وبيان عناصرها، من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره حلوه ومره. وقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الحشر آية 22-24) . وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الإخلاص) . وقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى آية 11) . وهو لبيان بعض صفاته تعالى، وعلى رأسها الوحدانية، وأنه عز وجل له الأسماء الحسنى وليس كمثله شيء، و: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس آية 82) . وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض} (المؤمنون آية 91) . وقوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ... } (يس آية 78-79) . وهو للاستدلال على الوحدانية والبعث. وقوله تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (البقرة آية 1-5) .

وقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ... } (التوبة آية 71) . وهو لبيان صفات أهل هذه العقيدة، فهم المهتدون بالقرآن، المتقون لربهم، المقيمون الصلاة، والمؤتون الزكاة، والمؤمنون بكل ما أنزل الله، والعاملون للآخرة والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والمطيعون لله ورسوله. وقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ... } (النور آية 55) . وقوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً ... } (نوح آية 9-12) . وهو لبيان أثر العقيدة في الدنيا، من الاستخلاف في الأرض، وتمكين الدين، والقوة والأمن.. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (الأنبياء آية 101-103) . وهو لبيان أثر العقيدة في الآخرة، فالمؤمنون مبعدون عن النار، خالدون في النعيم مستمتعون بما تشتهيه أنفسهم، لا يعتريهم ألم ولا حزن، وهم في جنات عدن ورضوان من الله أكبر. ومن الطريق الثاني: قوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلالٍ} (الرعد آية 14) . وقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} (الأنعام آية 100) . وقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت آية 41) .

فالمشركون بالله غيره من الأصنام، والأوثان، والجن، والناس، وغيرهم ... على ضلال وعمى، وجهل وغباء.. إذ أنهم يعبدون مالا قدرة له على عمل أي شيء إذ أنه فاقد القدرة والاستطاعة. فأنىّ له ذلك وهو الضعيف الذي لا يمد معبوده بأي نفع، ومن ابتغى نفعاً عند غير الله فكمن يضع كفيه في الماء لتحملا الماء ليشرب. لكن أنىّ له ذلك ويداه مبسوطتان فهيهات هيهات أن يحملا له ماء أو يذهبا عنه ظمأ، وهو كمثل من يحتمي بالضعيف الواهن الذي لا قدرة له على شيء أصلا. وهو لبيان بعض العقائد الفاسدة وهو الشرك، والاستدلال على فساده وقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة آية 30-31) . وقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (المائدة آية 73) . وهو لبيان بعض عقائد أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين ينسبون الولد لله سبحانه وتعالى، ويتخذون الإنسان ولياً ورباً، ويعبدون مع الله آلهةً أخرى وهاهم النصارى يكفرون بالله ويقولون عنه أنه ثالث ثلاثة. مع أن الجميع مأمورون بعبادة الإله الواحد، وقد أنذروا من الانحراف عنها. وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} (البقرة آية 204-206) . وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ..} (البقرة آية 8-10) . وهو لبيان عقيدة النفاق التي تجعل صاحبها يظهر مالا يبطن، وظاهره حسن، وباطنه سوء، ظاهره الإسلام وباطنه الكفر، يسعى في الأرض فساداً ويهلك الحرث والنسل كدأبه في الحياة، يحسب نفسه على كل شيء لكنه مخدوع مريض فحسبه جهنم ولبئس المهاد.

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ... } (البقرة آية 6-7) . وقوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (البقرة آية 96) . وقوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة آية 78-79) . وقوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (التوبة آية 67) . وهو لبيان بعض صفات المشركين الذين قست قلوبهم وصمت عن سماع الحق، وبعض صفات أهل الكتاب من اليهود الذين يعبدون المادة ويحرصون على المال بل هم أحرص الناس على حياة ولهذا فهم يكرهون الموت خوفاً من العذاب ولكن هيهات. وبعض صفات المنافقين الذين يسعون في الأرض فساداً حيث ينهون عن المعروف ويأمرون بالمنكر ويدعون إلى الباطل. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (النور آية 39-40) . وقوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (آل عمران آية 112) . وقوله تعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (التوبة آية 55) . {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (التوبة آية 107) .

وهو لبيان آثار العقائد الفاسدة، فالكفار لا وزن لأعمالهم، ولو عملوا خيراً فلا اعتداد به، وهم في ضلال وعمىً لأنهم عبدوا غير الله. أما اليهود فهم الأذلاء ولو كان معهم أقوى الناس، والله لا يمدهم بصره ولو ملكوا كل أسباب القوة المادية، وهم العصاة الفسقة الذين باءوا يغضب من الله. وكذلك المنافقون، يعذبهم الله بأموالهم وأولادهم بسبب نفاقهم وسعيهم بين الناس بالفساد، وهم الكاذبون في أعمالهم ولو كان منها بناء المساجد لأنهم يتخذونها رياءً وسمعةً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله. وهذه آثار العقائد الفاسدة في الدنيا، أما آثارها في الآخرة ففي قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأنعام آية 179) . وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (المائدة آية 36-37) . وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} (النساء آية 145) . وهكذا يسير القرآن الكريم في عرض منهج العقيدة، داعياً إلى التوحيد، وناهياً عن الشرك والعقائد الفاسدة، ومبيناً آثار كل منها ليتميز الخبيث من الطيب، وتتضح الحقائق كاملة لا شائبة فيها. (يتبع)

منهج القرآن في الإستدلال على صدق العقيدة الإسلامية

أساليب الدعوة إلى الله تعالى في القرآن الكريم لفضيلة الدكتور أبو المجد سيد نوفل أستاذ بالدراسات العليا بالجامعة الحلقة الثانية: 5- منهج القرآن في الاستدلال على صدق العقيدة الإسلامية. ولقد ساق القرآن الكريم الأدلة الكثير على صحة العقيدة الإسلامية وفساد غيرها من العقائد الأخرى. فالله عز وجل يوجه الأنظار إلى الآثار الناطقة بوجوده؛ وهو استدلال بالصنعة على الصانع وبالأثر على مؤثر، وهو دليل واضح لا يحتاج إلى كبير عناء. ومن هنا فلقد كان الكون كله أرضه وسماؤه، وما فيهما.. حقلا واسعا لصياغة هذه الأدلة فجاءت آيات القرآن تحمل الدعوة إلى النظر في السماء، والنجوم، والشمس، والقمر، والأرض، والجبال، والبحار، والأنهار، والإنسان، والحيوان، والنبات، والجماد داعية إلى التأمل الصحيح والنظر الدقيق في هذه الآيات البينات. وليس بعد ذلك سوى الإيمان بوجود الصانع جل وعلا، الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا. ويوجه القرآن العقول إلى ملاحظة الواقع المشاهد والتزام المنطق السليم في الحكم على الأشياء؛ وذلك في استدلاله على صحة الإيمان بالبعث والإعادة، فإن المنكر للإعادة يقول: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} ؟ فيقول الله. عز وجل: {.. يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (يس أية 79) .

ويعني هذا: أنك أيها المنكر للبعث تسلم ولاشك بوجود العظام.. وهو يستلزم الإقرار بأنها مصنوعة ولا يمكن أن تصنع من عدم؛ لأن العدم لا يصنع وجودا. فإذا انتهيت من ذلك وجب عليك التسليم بأن العظام إذا رمت وبليت فليس هناك أي مانع من إعادتها إلى ما كانت عليه قبل أن تبلى؛ لأن من قدر على صنعها ابتداءً، فهو أقدر على إعادة صنعها؛ لأن الإعادة أَسهل من البدء.. {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيم قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} . والقرآن الكريم يستدل بالظاهرة الكونية على صدق ما يقول، بإيراد الظاهرة مجملة ثم يأخذ في بيان ما تشتمل علَيه من آيات، وفي بيان أنوع كل آية، وما تحمله من دليل وبيان آثارها وجمال صنعتها.. فالسماء مثلا أصلها كذا، وهي مؤلفة من كذا، ووظائفها كذا.. ثم يفصل هذه الآية (السماء) ويبين ما اشتملت عليه، ففيها النجوم والشمس والقمر.. وكل من هذه له خصائصه وآثاره في الكون. والماء مثلا. له أنواعه، ووظائفه، وأثاره، وكذلك الإنسان ... خلق من كذا وركب من كذا وهكذا يستخدم القرآن الكريم المظاهر الكونية أدلة على صحة ما يقول، وينهج في هذا الاستدلال منهج الإجمال والتفصيل، والتنويع.. ليزيد من تقرير العقيدة وتثبيتها.

نماذج من هذا الإستدلال

6- نماذج من هذا الاستدلال فعندما صدع الرسول صلى والله عليه وسلم بأمر ربه معلنا كلمة التوحيد، وأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رب العالمين. وأَن رب العالمين ليس وَدَّا، ولا سواعا،. ولا يغوث، ويعوق، ونسرا، وليس وثنا، ولا ملكا، ولا زعيما، ولا حاكما.. ولا شمسا ولا قمرا، ولا ماء ولا نارا، إنه الله وحده رب العالمين ... استدل على صحة ما يقول بوجود الأرض والسماوات. فهما الآيتان الناطقتان بوجوده تعالى ووحدانيته، فهو وحده خالقهما، وهو الذي خلق الأرض، وجعل فيها الرواسي، وأودع فيها البركة والأقوات، وقسم فيها الأرزاق، وهو صاحب السموات السبع، لا يعجزه شيء فيها ولا في الأرض وكل من السماوات والأرض وما فيهما طوع يمينه. فالإيمان به جلّ وعلا واجب، ولا ينبغي الإيمان بغيره؛ لأنه كفر وانحراف عن الطريق المستقيم. {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} فصلت-12.

وفي سوق هذا الدليل على هذا النحو الكفاية لذوي العقول والألباب.. لكنه تعالى، وهو الأعلم بخلقه، وما يصلح لهم من أدلة الإقناع والتأكيد...... يأخذ في بيان بعض صفات كل من السماء والأرض ثم يبين بعض ما اشتملت عليه كل منهما. فالسماء: خلقها الله بغير عمد {.... خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا.....} لقمان/10. كما خلقها بقدرته تعالى {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} الذاريات/47 وهي سبع سموات مطبقة بعضها فوق بعض {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} نوح/15 وهي عظام شداد {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} النبأ/12.. وهي لا شقوق فيها ولا تصدع {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} الملك/3. وهى السقف المحفوظ {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} الأنبياء/32 وهي الممسوكة بقدرته حتى لا تقع على الأرض {.. وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ..} الحج/65. والأرض: جعلها الله تعالى ذلولا صالحة للمشي والإعاشة {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} الملك/15 وهي مدحوة {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} النازعات/30 ممدودة غير مطوية {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً} الرعد/3. مبسوطة غير مقبوضة. {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطاً. لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} نوح 19- 20 وهي مهاد وسكن للإنسان ولغيره {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً} النبأ/6. وهي الميتة بالجدب والحية بالخصب والري {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} يس/33. وهي التي خلق منها وعاش فيها الإنسان، وهي التي يعاد إليها ميتا، ويبعث منها يوم القيامة {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} طه هـ/55. والماء: هو أصل كل حي {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ..} الأنبياء/30، وهو سبب إحياء الأرض بعد موتها. {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ... } النحل/65. وهو سبب إخراج الثمر، ورزق للعباد {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ..} البقرة/22. ومنه العذب ومنه الملح {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ. لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} الواقعة/ 68- 70. {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} الرحمن/19-20 وهو يكون البحار والأنهار التي يستخرج منها اللؤلؤ والسمك وتسير فيها الفلك { ... لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيه ... } النحل/14

والإنسان: مخلوق من تراب {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ... } فاطر/11. ومن نطفة {.. مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} عبس/19 ومن علقة {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} العلق/19 ومن طين {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} الأنعام/2 ومن نفس واحدة {.. خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ... } النساء/1. ومن ماء دافق {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} الطارق/6. ومن صلصال من حمأ مسنون {.. مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} الحجر/26. وجعل خليفة لله في الأرض {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً..} البقرة/30 وخلقه سويا {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ..} الانفطار/7. وجعل له عينين ولسانا وشفتين، وهداه النجدين {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} البلد/ 8-10. وفضَّله على سائر المخلوقات بعقله {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} الفجر/5، وعلمه البيان {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} الرحمن/4. وخلقه على ألوان ولغات متعددة {.. وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ..} الروم/22. ويسر له أمره.. {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} عبس/20 وسخر له ما في السموات وما في الأرض {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ... } الجاثية/17. وهكذا في سائر الآيات يبين أصلها، وخصائصها، وأثارها ... كآيات الشمس، والقمر والنجوم، والظلمات، والنشر، والليل، والنهار، والرياح، والسحاب، والشجر، والجبال، والحيوان، والطير، والنبات، والزرع، والثمر..... جاء بها على هذا النحو السابق لبيان عظمة الصنع الإلهي، وروعة الخلق الرباني.... وبهذا يتأكد الإيمان بالذي خلق فسوى والذي قدر فهدى. كما سلك القرآن الكريم هذا المسلك في تقرير سائر مبادئه ومطالبه....

العقيدة في الأساليب الخبرية والإنشائية

7- العقيدة في الأساليب الخبرية والإنشائية: ولا يمكننا عرض كلّ الأساليب التي صيغت فيها العقيدة في القرآن الكريم في هذا البحث القصير؛ إذ أن هذا أمر يصعب تحققه. ولهذا سنكتفي بإيراد نماذج من هذه الأساليب موضحين كل نموذج بمثال أو أكثر، وفيه الكفاية لبيان المراد. الأساليب الخبرية: يقول أهل اللغة والبيان: إن الكلام ينحصر في نوعين هما الخبر والإنشاء، فالكلام الذي يحتمل التصديق والتكذيب هو الخبر، والكلام الذي يقترن معناه بلفظه هو الإنشاء 1.

_ 1 وقيل: إن الخبر كلام يفيد بنفسه نسبة أمر من الأمور نفيا أو إثباتا. فإذا قلنا القرآن كلام الله تعالى فإننا نفيد نسبة القرآن إلى الله تعالى. وإذا قلنا الأناجيل الموجودة الآن ليست كلام الله فإننا ننفي هذه النسبة.. أما الإنشاء فهو الذي يحصل مدلوله في الخارج بالكلام أي إذا قلت (قم) فإن القيام يحصل بعد تلفظك بلفظ (قم) لا قبله. والخبر خلافه. والقصد بالخبر هو: إفادة المخاطب أمرا من الأمور كإخبار الله تعالى بأنه خلق كذا وكذا.. ومن أقسامه النفي مثل {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} .

ولقد أورد على تعريف الخبر السابق خبره تعالى، فإنه لا يكون إلا صادقا. وأجيب بأنه يصح دخوله إذا نظرنا إليه من حيث اللغة بقطع النظر عن محتواه. أما من حيث معناه ونسبته إلى قائله فأخبار الله تعالى لصدورها عنه جل وعلا لا تحتمل إلا الصدق فقط سواء كانت إيجابا أو سلباً {.. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} النساء/122. فإذا قال الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ. وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ. وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} الذاريات 47- 49 فهو إخبار عن أنه هو الخالق للأرض والسماء، وكل شيء، وهو إخبار صادق؛ لأنه من الله عز وجل. والقصد من هذا الخبر أن ينظر المخلوق في هذه الآيات ويتأمل صنعها ليؤمن بوجود صانعها. ومن هذا القبيل قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} الأعراف/54. كما أخبر تعالى بأنه واحد لا شريك له. والدليل على ذلك يظهر فيما يراه الإنسان أمامه من صنع السماء والأرض، واختلاف الليل والنهار، وخلق البحار والماء، والرياح والسحاب، ولولا وجود هذه الأمور لتوقفت الحياة. وهذه الآيات توجد بنظام وأحكام، وكلّ منها دائب في عمله على أبدع ما يكون، وهو مسخر لإيجاد الحياة الطيبة للإنسان، وهو ما ينطق بوحدة الصنع الدالة على وحدة الصائغ جل وعلا {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} البقرة 163- 164. وتأكيداً لتفرده سبحانه وتعالى بالخلق والصنع، وتقرير لوحدانيته، فلقد نفى إيجاد أي شيء في هذا العالم عن غيره، ونفى وجود إله أو آلهة أخرى، ونفى أن يكون له شريك، وأخبر أن المتخذين من دونه آلهة لا يستطيعون ضرا ولا نفعا، وأنهم سيكفرون بمن عبدوهم يوم القيامة. إنه تعالى الواحد الأحد المنفرد بالخلق، والمحيطة علمه بجميع مخلوقاته في حركاتهم وسكناتهم، وفي شتى أمورهم وأحوالهم، يعلم أعمارهم وبيده رقابهم.. وهو وحده القادر. ومن قدرته أنه خلق البحرين العذب والملح، لا يطغى أحدهما على الآخر، ومنها يأكل الإنسان لحوم الأسماك، ويستخرج اللؤلؤ وغيره مما يتحلى به الإنسان، وفيهما تسير الجواري المنشآت في البحر كالإعلام، وسائل نقل بحرية للإنسان وغيره.. وهو وحده الذي

يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، وهو وحده مسخِّر الشمس والقصر للإنسان، كل يجرى إلى أجل مسمى عنده سبحانه وتعالى.. وهو وحده مالك الملك وهو على كل شيء قدير، أما الذين يدعون من دونه فلا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا لغيرهم من باب أولى.. {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} فاطر/11-14.

في الأساليب الإنشائية

في الأساليب الإنشائية: والإنشاء كما تقدم، هو ما يحصل مدلوله في الخارج بالكلام فإذا قلت (لا تقم) فإن عدم القيام يحصل بعد تلفظك ب (لا تقم) . وأقسام الإنشاء كثيرة منها (الأمر) وهو: طلب فعل غير كف ومثاله قوله تعالى لنبي أمرا إياه بالشهادة {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ..} محمد/19 والأمر للنبي عليه السلام أمر لأمته ومنها (النهي) . وهو: طلب الكف عن الفعل؛ ومثاله: قوله تعالى لنبيه ناهيا إياه عن الشرك: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ..} الإسراء/22 وهو نهي له عليه السلام ولأمته. ومنها الاستفهام وهو طلب الفهم مثل قوله تعالى {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا..} النازعات/27 -28. ومنها (الشرط) مثل قوله تعالى الذي أقام به الدليل على فساد عقيدة الشرك، واستقامة عقيدة الوحدانية {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا..} الأنبياء/22. ومنها (النداء) مثل قوله تعالى الذي بين فيه فساد عقيدة الشرك، وأن المدعوين من دون الله ضعفاء لا يستطيعون خلق أقل الأشياء، وأَنهم إذا ضاع منهم شيء لا يملكون إرجاعه ومن كان هذا شأنه لا يستحق التأليه ولا العبودية.. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} الحج/73.

العقيدة في أساليب المحاورة والمحججة

العقيدة في أساليب المحاورة والمحججة ... أساليب الدعوة إلى الله تعالى في القرآن الكريم الدكتور أبو المجد سيد نوفل أستاذ بجامعة الأزهر 8- العقيدة في أساليب المحاورة والمحاججة: والمحاورة: مصدر حاور. وأصله: حار، أي رجع، ويحاوره يرا جعه. وهى أسلوب يقتضى وجود طرفين أو أكثر يدور كلام بينهم في صورة حوار يقصد من ورائه الحكم على أمر ما إيجابا أو سلباً وهى طريقة من طرق توضيح المعنى وتثبيته، وهى تتميز بجذب انتباه السامع أو القاريء نحو الموضوع الذي تتحدد معانيه، وتنكشف أبعاده بطريقة تقوم على السؤال والجواب, والأخذ والرد، والاعتراض والمراجعة ولا يخفى مافي ذلك من عناصر الجذب والمتابعة والتشويق التى تساعد على إدراك الحقيقة العلمية إدراكا واضحا لا خفاء فيه. والمحاججة: نوع من المحاورة، وهى تتميز بوجود عنصر الإلزام والافحام، واضحا بارزاً بينما يكثر في المحاورة أسلوب العرض والوصفِ.. وقال العلماء: إت المحاجة أسلوب قدم الله فيه مخاطباته مع مخلوقاته في أجلى صور ليفهم العامة من جليها ما يقنعهم وتلزمهم الحجة، ويفهم الخواص من أثنائها ما يرمي على ما أدركه فهم الخطباء وقد اتخذ الأنبياء والمرسلون، والأئمة الهداة.. هذه الأساليب كثيرا في دعوتهم الناس إلى العقيدة والإ يمان بالله سبحانه تعالى. ولقد عرض القرآن الكريم الكثير من هذين اللونين لاشتمالهما على ما ينشط الذهن ويهيء الفكر للوقوف على الحقيقة والإيمان بالحق.

ومن المحاورة ما ورد في القرآن الكريم بين الله تعالى وبين ملائكته وبين آدم ... وفيه بين الله سبحانه وتعالى هذه الحقائق العقائدية، فهو سبحانه الرب المالك لكل شيء وهو الذي خلق الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وهو سبحانه القادر عل كل شيء، والعالم بكل شيء والذي يعلم مخلوقاته من علمه سبحانه، ويمنح منهم من يشاء من فضله وكرمه، فيجعل خلافته في الأرض في آدم لا في الملائكة، وأنه سبحانه وتعالى الفاعل المختار، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه. {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ. وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} البقرة/30-33. ومن مواقف نوح، وهود، وصالح، وموسى، وعيسى، ومحمد، وجميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين الكثير من أساليب الحوار مع أقوالهم لبيان الحق وعرض العقيدة وطلب الإيمان بالله تعالى. ومن المحاججة ما ورد في القرآن الكريم بين إبراهيم الخليل صلوات الله عليه وسلامه وبين عدو الله الذي حاج إبراهيم في ربه. فلقد قال إبراهيم له وهو يدعوه إلى الإيمان: أن الرب هو الذي يحيى ويميت، وأنت مخلوق من مخلوقاته يميتك ويحييك. فيقول النمرود: أنا رب مثل ربك لأني أحيى وأميت، آمر بقتل الناس فيموتون فأنا أميت, وأعفو عنهم فلا يموتون ويحيون, فأنا أحيى. لكن إبراهيم عليه السلام الذي آتاه الله رشده وعلمه من علمه يأتي للعدو بحجة أخرى لا يقوى على دفعها ولو ظاهرا. فيقول له إبراهيم: إن الله يأتي بالشمس من المشرق، فإن كنت صادقا في ادعائك الألوهية فأت بها من المغرب, وهنا لا مجال إلا الهزيمة لعدو الله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} البقرة/258.

العقيدة في أسلوب القصة

9- العقيدة في أسلوب القصة والقصة جمعها قصص بكسر القاف، وهي من قصص، والفعل قص، والمصدر قصص بفتح القاف قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ …}

يوسف/3, والقصص بفتح القاف إما مصدر بمعنى الاقتصاص أي نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص هذا القرآن بإيحائنا إليك والمراد بأحسن الاقتصاص أنه اقتص على أبدع طريقة وأعجب أسلوب، ألا ترى أن هذا الحديث مقتص من كتب الأولين وفي التواريخ، ولا ترى اقتصاصه في كتاب منها مقاربا لاقتصاصه في القرآن. أو بمعنى المقصوص أي نحن نقص عليك أحسن ما يقص من الأحاديث، وإنما كان أحسن لما يتضمنه من العبر والحكم والعجائب {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَاب..} يوسف/111 ويشتق القصص من قص أثره إذا أتبعه لأن الذي يقص الحديث يتبع ما حفظ منه شيئا فشيئا كما يقال تلا القرآن إذا قرأ، لأنه يتلو أي يتبع ما حفظ منه آية بعد آية. والقصة: هي أحد أنواع النثر الفني، ونمط من أنماط الأساليب الجمالية، تقوم على عوامل كثيرة، من التشويق، والحوار، والحبكة، والوحدة الموضوعية، وحل المشكلات عن طريق تسلسل الأحداث وربط المشاهد بعضها ببعض. والقصة عامة كلون من ألوان الأدب قديما وحديثا تقدم الحقائق المختلفة، كما تقدم إلى جانب ذلك الخيالات والمبالغات، والأساطير، وما إليها. وقد يكون هدفها التعبير، والنصح، والتوجيه،.. كما يكون هدفها مجرد المتعة الذهنية والعاطفية… وقد تتخذ وسيلة للحق أو للباطل، وللخير أو للشر.... لكن القصة في القرآن الكريم تتميز عن سائر أنواع القصص بأنها منزهة عن أي نقص في شكلها وفي مضمونها، ومنزهة عن الخيالات والأوهام، والأساطير، والأباطيل ... وهي عفيفة الأسلوب، طاهرة اللفظ والمعنى، حيية السياق والعرض، بارعة التركيب، سامية القصد، حسنة الهدف ... وهي تضم إلى جانب الإيضاح، والتعليم، والنصح ... جوانب الإقناع الذهني والنفسي والعلمي والأدبي، وتضم إلى جانب عرض الحقائق الدينية الحقائق التاريخية والاجتماعية والثقافية ... ومن هنا جاءت القصة في القرآن الكريم تحمل لواء الدعوة إلى الإسلام وتعرض مبادئه، وكانت أسلوبا من أساليب الدعوة إلى الله {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يوسف/111.

والقصص في القرآن الكريم كثيرة، منها قصة إبراهيم عليه السلام مع الأوثان والنمرود.... وقصص نوح وهود وصالح مع أقومهم.. وقصة موسى مع فرعون وبني إسرائيل، وقصة مريم وزكريا وعيسى مع اليهود والرومان ... وكلها تعرض دعوة الحق والتوحيد، وتقيم الأدلة على صحتها وسلامتها، وتبين آثارها ونتائج الأخذ بها واعتناقها.. كما تعرض العقائد الفاسدة من عبادة الأوثان، والأصنام، واتخاذ الآلهة مع الله ... وتقيم البراهين على فساد هذه العقائد، وما حل بالكافرين والمشركين، والعصاة من عذاب وعقاب ومن هذه القصص القصة التي جمعت سليمان عليه السلام، والهدهد وملكة بلقيس. وستظهر لنا من خلال تتبعنا لمشاهد هذه القصد عظمة القصص القرآني، وروعة صياغته وعظيم نفعه، وتصدره قمة القصص الرفيع الذي حوى كل أصول الأدب العالي، من جودة العرض وجمال الصورة، وإيضاح الفكرة، وقوة الحركة، وتناسب المشاهد، وحسن العرض. إن هذه القصة إثبات للخالق سبحانه وتعالى ووحدانيته، ودعوة إلى عقيدة التوحيد ونبذ غيرها من سائر العقائد الفاسدة.. وهي ذات مشاهد وأحداث، وأبطال، وصراعات، ومفاجآت ... وأعاجيب تفوق الأساطير، بيد أنها حقائق واقعة بقدرة من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ولا تشاهد في هذه القصة آدميين فحسب، وإنما تشاهد فيها الجن، ومن هو فوق الجن قوة وعلما.. كما تشاهد فيها الطيور تتكلم، والحشرات تنطق، كل بلغته، وكل يؤدي دوره في صدق، وقوة وإخلاص بين يدي سيده سليمان الذي علمه الله منطق الطير وآتاه من كل شيء فضلا منه سبحانه وتعالى عليه. في القصة تنطق النملة بنصح قومها وإشفاقها عليهم.. ويدعو الهدهد إلى الإيمان بالذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما خفي وما علن.. ويعمل الجن بين يدي الملك، ومن يزغ منهم عن أمره يذقه من عذاب أليم. والذي عنده علم من الكتاب يأتي بما هو أقوى من الخيال، لكنه حقيقة أجراها رب العالمين على يديه، حيث استطاع هذا العالم أن ينقل عرش الملكة من اليمن إلى الشام وهي مسافة لا تقل عن خمسة آلاف كيلو مترا في أقل من لمحة، أو قبل أن يرتد إلى سليمان طرفه.

في القصة قوة الأنبياء وحكمتهم، وعظمة الملوك وحنكتهم، ومشورة أهل الرأي وإخلاصهم وسهر الحاكم على رعيته الكبير منها والصغير حتى الحيوان والطير.. وجرأة المحكوم وحريته في القول والتعبير والعمل مادام يؤدي دوره بصدق ويقوم بواجبه.. وفيها رجوع أهل الفضل إلى الحق بعد ما تبين لهم.... وكل هذه العناصر من القصة هدفت في الأصل إلى أمرين: أولهما: بيان العقيدة الصحيحة التي يمثلها سليمان وجنوده، وهي عقيدة التوحيد وبيان عقيدة الشرك التي تمثلها بلقيس وقومها قبل إسلامهم. وثانيهما: تسخير كل مقومات الأمة، وتوجيه طاقاتهاِ إلى الدعوة إلى وجود الله ووحدانيته وصبغ أبناء الأمة بالصبغة الدينية..ِ فهذا الهدهد ينفق جهده وقته في البحث عما يخدم العقيدة ويعلي أمرها، ويعزز شأنها ... وتحتوي القصة على مشاهد كثيرة، كل منها يؤكد ما ذهبنا إليه ويقرره وأول هذه المشاهد، يبين قوة الملك، واتساع ملكه، وعظمة سلطانه، وكثرة أتباعهِ…فسليمان ملك سخرت له الرياح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب، والشياطين كل بناء وغواص وجمع له الإنس والجن والطير والحيوانات والحشرات، وهو عالم بلغات هؤلاء وهؤلاء {يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ, وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} النمل/16-17. وثانيها: يبين قوة هذا الملك العلمية والروحية، فهو قادر على سماع كل ما يدور في مملكته وقادر على سماع حديث النملة، ومعرفة لغتها، وهو يبتسم ضاحكا من قولها لبني قومها تنصحهم بدخول مساكنهم حتى لا يحطمهم سليطان وجيشه.. ثم هو يرجع الفضل في هذه النعمة وغيرها إلى صاحب الفضل اعترافا منه بعظيم منّه وكرمه سبحانه وتعالى عليه، وهو يرجوه توفيقه لينال رضاه {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} النمل/18-19. وثالثها: يبين مدى حب هذا الملك لرعيته، وحرصه على سعادتها، وتوفير الحرية والأمن لها.. فهو دائب التفقد لشئونها، وهو الساهر على سلامتها، وهو السائل عن غائبها والمعين لحاضرها، وهو الشديد في الحق، لا تأخذه فيه لومة لائم، وهو الغاضب لمحارم الله إذا

انتهكت، والمقيم للعدل بين سائر أفراد رعيته، الإنس والجن والحيوان والطير إنه لا يرى الهدهد بين الجمع الذي جمع له فيسأل عنه، ويعلن ذلك على الملأ.... وفيه ما فيه من إحاطته بجميع أجزاء مملكته وكافة أفراد رعيته… كما يعلن غضبه من تخلف الهدهد إلا أن يكون عنده عذر أو حجة مقبولة: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ, لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} النمل/20-21 وكانت المفاجأة عندما يتقدم هذا الغائب من الملك العظيم غير خائف ولا مرتاع وقي قوة واعتداد واعتزاز.. ليقول: ما غبت إلا لأمر هام عرفته أنا ولم تعرفه أنت أيها الملك وأحطت به ولم تحط به أنت. لقد رأيت أثناء طيراني ملكة لا تعبد الذي يخرج الخبء في السموات وفي الأرض ... وإنما تعبد الشمس هي وقومها من دون الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم. {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ. وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ. أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ. اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} النمل/22-26. ورابعها: يبين موقف سليمان من الهدهد، فهو يأمره بإقامة البينة على دعواه، ويكلفه بعمل ما يثبت قوله، ويأمره بنقل خطاب إلى هذه الملكة يدعوها فيه سليمان إلى الإيمان بالله تعالى وتوحيده، ونبذ عبادة الأوثان والأصنام هي وقومها. ويطير الهدهد بالكتاب من الشام إلى اليمن ويلقيه بين يدي الملكة، فتطلب من ذويها الرأي والمشورة فيرجعوا إليها الأمر لأنها العارفة بأمور السياسة والمطلعة على سير الملوك وأحوالهم أما هم فأهل الحرب والقوة.. ثم تقدم الملكة على عمل تجربة تتبين من ورائها مدى قوة هذا الملك وقصده، فهل هو كسائر الملوك الذين يسعون إلى جمع المال وقوة السلطة. وهو يسعى إلى هدف نبيل وغاية سامية كما جاء في كتابه فإن كان من الأولين فهو قابل لما ترسله إليه من هدايا مبق على عقيدتها.. فتنقض عليه بعد أن عرفت خباياه.. وإن كان من الآخرين فهو على حق ولا قبل لها به وعليها أن تستسلم إليه: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ. قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ. إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَتْ

يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ. قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ. قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ. وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} النمل27- 35. وخامسها: يعود بالقصة من اليمن إلى الشام ليقدم رسل بلقيس الهدايا إلى سليمان، فيغضب النبي عليه السلام ويقول لهم {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ. ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ. قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ. قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ. قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ. فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ. قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (النمل 36-44) . وهكذا عرضت هذه القصة العقيدة الصحيحة والعقيدة الفاسدة، وأقامت الدليل على صدق الأولى {أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} وعلى فساد الثانية {.. وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} . وما انتهت إليه هذه المشاهد من غلبة الحق وأهله، وهزيمة الباطل وجنده، واستسلام الملكة وإذ عانها أَخيرا للحق بعد ما تبين لها {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . بقي بيان عقيدة البعث والإيمان بالآخرة وبالقدر. وبيان العقيدة في أساليب المثل والأساليب النفسية، وأساليب الترغيب والترهيب، والأساليب البرهانية والوصفية والموضوعية، وغيرها.. وهى في مقال تال إن شاء الله. والله الموفق.

§1/1