أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض

المقري التلمساني

المقدمة

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا ومولانا محمّد وآله الحمد لله الذي أعلى مراتب العلماء الأعلام وزكى منهم العقول الراجحة والأحلام ومنحهم مآثر تقصر عن جمعها المحابر والأقلام ومفاخرات طارت كل مطار. وجعل معاليهم زاهرة زاهية وأضواء فهومهم نامية سامية وأنواء علومهم شامعة هامية وبواكف الأمطار وأطلعهم على حقائق الأسرار وهداهم وهدى بهم إلى ترتيب المدارك وتقريب المسالك وجلى بمشارق الأنوار من معارفهم وآدابهم عمن تمسك بأذيالهم وأهدابهم غياهب الجهل الحوالك فأضاءت الأقطار. وعرفهم المقاصد الحسان والوسائل المغتبطة والإلماع بأصول الرواية والسماع والإعلام بحدود قواعد الإسلام وإرشادهم إلى التنبيهات المستنبطة السامية الأخطار حتى رفلوا من حلل التحقيق السابغة في مطارف وبرود وورود من منهال السائغة كل عذب

برود وتنسموا من حجج الحق البالغ الروض المعطار واتنوا أزهار أضحت منية الطالب وبغية الرائد واجتلوا جواهر نظمت منها الدرر والفرائد في أجياد السطار. فإن أمهم ناقص عديم ألفي لديهم الغنية والإكمال أو قصدهم عليل سقيم وجد في أيديهم الشفاء فنال غاية الآمال وظفر بمنتهى الأوطار. والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمّد أفضل العالمين بإطلاق سراج المريدين وكنز العارفين الذي لا يخشى معه إملاق عمدتنا العظمى ووسيلتنا الكبرى عند الملك الخلاق صاحب المعجزات الباهرة التي اهتدى بها ذوو الأفكار والآيات الظاهرة التي حصل بها التمييز لمن له استذكار الموطأ الأكناف والأخلاق المنتقي من أعظم الذخائر وأنفس الأعلاق المختار من قبل نشأة آدم والكون

لم تفتح له أغلاق صلى الله عليه وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين لنجومهم في سما الحق أتلاق صلاة وتسليما دائمين ما أنشئت في ثنائه الأحمدي وأنشئت بفنائه المحمدي القصائد والأبيات والأشطار وبعد: فيقول أحمد ذو القصو ... رِ المقرى إذا انتسب جبر المهيمن صدعة ... ووقاه سي ما أكتسب وحباه منحة مؤمن ... محض العباد وأحتسب وأسدي إليه من المواهب أسناها ومن العواقب حسناها. إنه لمّا سبق القضاء وجرت الأقدار بارتحالي عن الوطن المحبوب والقرار بعد أن شممت عراره النجى ولا أشجان ولا أكدار في عشية لم يكن بعدها من عرار ونزحت عن بلد به الوالد وما ولد محل قطع التمائم وفتح الكمائم سقى الله عهاده صوب الغمائم: بلد تحف به الرياض كأنه ... وجه جميل والرياض عذاره

وكأنما واديه معصم غادة ... ومن الجسور المحكمات سواره وكان ذلك وغصن النشاط يانع وبرد الشباب قشيب وشمل النفس مجتمع دون مانع وكأس الأنس مزج بتسنيم القرب وشيب وفود الرأس غير خاضع ولا خانع إذ لم تطرق ساحته ولم تجس خلاله جيوش المشيب حللت الحضرة الفاسية حاطها الله حيث المجالس غاصة بالعامة والخاصة والمساجد آهلة معمورة والمشاهد بالزوار مغمورة والحل المعارف فضاضه والعوارف الجليلة مفاضه حضرة ديباجها ربيعي وامتزاجها بالنفوس طبيعي ولم لا وقد نظمت المفاخر ونسقتها وجمعت المآثر ووسقتها جادتها غر السحاب وسقتها: بلاد بها الحصباء در وتربها ... عبير وأنفاس الرياح شمول تسلسل منها ماؤها وهو مطلق ... وصح نسيم الروض وهو عليل فألقيت بها عصا التساير وقاها الله من الآفات والأغاير وأقتفيت في ذلك سنن بعض سلفي الأخيار إذ كان أشهر أسلافنا الشيخ الإمام صاحب التصانيف الشهيرة التي اقتادت المحاسن بزمام القاضي الأشهر العلامة

الأظهر أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن أحمد المقري القرشي التلمساني النشأة والقبر أفاض الله سجال الرحمة على مثوى ذلك الحبر انتقل إليها أيام السلطان المرحوم أبى عنان فارس فولاه قضاء جماعتها وبنى له المتوكلية أعظم المدارس حسبما ذكره غير واحد من أهل الفهارس وأشار إليه الوزير أبن الخطيب في كتاب الإحاطة التي أحيت من التأريخ الرسم الدارس. ولم تزل كتب الأقارب والإخوان ترد على وتثني عنان اعتنائها إلى وتكرر وتعدد وتنتاب وتتردد وتتنوع وتتجدد فأرتاح إليها ارتياح الغصن عند هزته وأحن إليها حنين كثير إلى معاهد عزته: يا من يذكرني حديث أحبتي ... طاب الحديث بذكرهم ويطيب اعد الحديث على من جنباته ... إنَّ الحديث عن الحبيب حبيب وكثير ما يحرك ذلك منى كامن شوق شب عمره عن الطوق وأجد من لواعج الأوار ما وجده الفرزدق عند مباينة النوار:

بلد الجزائر ما أمر نواها ... كلف الفؤاد بحبها وهواها يا عاذلي في حبها كن عاذري ... يكفيك منها ماؤها وهواها والحنين إلى الوطن مجال لكل حر ومضمار: إيه أحاديث نعمان وساكنه ... إنَّ الحديث عن الأحباب أسمار وليس بمستنكر حنين الناب إلى عطنه والمرء إلى محل نشأته ووطنه. وقد روينا في الصحيح من حنين سيد الوجود عليه الصلاة والسلام وأصحابه إلى مكة ما لا يجهله إلاّ من هو عن العلوم بمعزل. ومن الأبيات السائرة: كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل ورب ذكرى أثارت الأشواق وحركتها وأنشبت النفوس في حبائل البوس وتركتها وكم من ماجد بكى لفقد المشاهد وأهتم لبعد المعالم والمعاهد: سلام على تلك المعاهد أنها ... مرتاع ألافى وعهد صحابي ويا سرحة أنعمى فلطالما ... سكبت على مثواك ماء شبابي فله تلك المعاهد ما أبهج محياها وحاط بعين كلاءته تلك المشاهد ما أطيب رياها حين باكرها الوسمى وحياها:

حيا تلمسان الحيا فربوعها ... صدف يجود بدره المكنون ما شئت من فضل عميم إن سقى ... أروى ومن ليس بالممنون أو شئت من دين إذا قدح الهدى ... اورى ودنيا لم تكن بالدون ورد النسيم لها بنشر حديقة ... قد أزهرت أفنانها بفنون وإذا الحبيبة أم يحيا أنجبت ... فلما الشفوف على عيون العون طالما ذكرت الأبلة وشعب بوان ... وأنست صروف الزمان الخوان وأنبتت أزهار أنس ذات ألوان وثمار نخل من القرب صنوان وغير صنوان والشمل مجتمع بالجيران والإخوان والروض مطلول النبات مخضر العذبات مخضل الجنبات مفوف الخمائل

متضوع الشمائل مساب الماء منجاب السماء والغصون متأودة الأعطاف دانية الجنى والقطاف والنسيم يعبق نشرا والجو يتألق رونقا وبشرا فتقصر عنه أوصاف دوى الأصناف: والزهر حيانا بثغر باسم ... والنهر قابلنا بقلب صافي ولآلئ الأنداء في الغدير غرقى ودموع النهر لا ترقا والزهر تسقط وأكف الريح تكتب والغمام ينقط: كأن أكف الريح تكتب أسطرا ... على النهر إلاّ أن أحرفها زرق فتحنى عليهن الغصون قدودها ... لتقرأها جهرا من الورق الورق والورقاء تهتف لفقد إلف نازح فتهيج شجو الجاد والمازح: رب ورقاء هتوف بالضحى ... ذات شجو صدحت في فنن ذكرت إلفا ودهرا صالحا ... فبكت شجوا فهاجت حزنى فبكائي ربما أراقها ... وبكاها ربما أرقني فإذا تبدؤني أسعدها ... وإذا أبدؤها تسعدني ولقد تبكى فما أفهمها ... ولقد أبكى فما تفهمني غير أني بالشجا أعرفها ... وهي أيضاً بالشجا تعرفني

فأكرم بها من ذات طوق عبرت عما في ضميرها من جوى وسوق فساقت لواعج الأفكار أي سوق وبينها وبين الصب فرق عند ذوى الذوق: وترنمت ذات الجناح بسحرة ... بالواديين فهيجت أشواقي ورقا تعلمت البكا والبث من ... يعقوب والأحان من إسحاق أني تضاهين هوى وصبابة ... وأسى وفرط جوى وفيض مآقى وأنا الذي أملي الهوى من خاطري ... وهي التي تملي من الأوراق فما كان أسرع من تمزيق ذلك الإهاب وحصول شمله في يد الانتهاب وأنشد لسان حاله عند الذهاب: إلاّ إنَّ هذا الدهر يوم وليلة ... يكران من سبت عليك إلى سبت فقل لجديد العيش لا بد من بلى ... وقل لاجتماع الشمل لا بد من شت وهكذا الدنيا إحلاء وإمرار وإقرار وإنكار وإعلان وإسرار تعفى كل ربع عامر وتببد كل مأمور وآمر: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر بعدما نعمنا برهة من الزمان في ظلال الأمان وقطعنا نبذة من

الشباب في مواطن الأحباب ما بين دراسة ودراية ورواية وممارسة أمور تبعد عن طرق الغواية وتحبير طروس وملازمة دروس بين يدي أشيخ مجالستهم نامية الغروس وخصوصا شيخهم الذي فضله لا يفترق إلى دلال عمنا فتينا سيدي سعيد أحمد المقري شكر الله خلاله فهو شيخ أولئك الأعلام الذين ورثوا العلم من غير كلاله وعمروا ربوع المجد وتفيوا ظلاله وأرشدوا إلى سبل الهدى وأزاحوا عن الضلالة وعمرت أرضهم بكل مجد وجلاله وإن نبت بي عن جفوة وملالة فآها على ذلك العصر ما أبهاه وأجمله وأتمه وأكمله عصر يكاد يكلمنا فيه الجماد وتروينا الثماد وتحيينا العشيات والبكر ولا تنتابنا التعلات ولا الفكر فإن سألنا فعنه في الحقيقة وإن صرحنا أو كنينا فنعنى حماه وعقيقه: نسائل عن ثمامات بحزوى ... وبان الرمل يعلم ما عنينا وقد كشف الغطا فما نبالي ... أصرحنا بذكرى أم كنينا ولو إني أنادي يا سليمى ... لقالوا ما أردت سوى لبينى إلاّ لله طيف كان يسقى ... بكاسات الكرى زورا ومينا فأمسينا كأنا ما افترقنا ... وأصبحنا كأنا ما التقينا وكنا نحسب الدهر لا يدور وأن الأعجاز صدور والأهلة بدور

حتى ضرب الدهر ضربانه، وبدد الرفيق وأبانه؛ فلم تتأود قدود الأغصان، ولم تترنح أعطاف ألبان؛ وانقطعت الأسباب عن مواصلة الجيران والأحباب؛ الذين: جرى بعضهم ذات اليمين وبعضهم ... شمالاً وقلبي بينهم متوزعُ فو الله ما أدرى بليل وقد مضت ... حمولهم أي الفريقين أتبعُ؟ وهأنا الآن أحاول إطفاء لهيب بالضلوع وقد، وأعالج أدواء سقم جل وكيف لا وقد: روعت بالبين حتى ما أراع به ... وبالمصائب في أهلي وجيراني لم يترك الدهر لي علقاً أضم به ... إلاّ رماه بفقد أو بهجرانِ وفي هذا التاريخ الغريب وردت كتب من تلك الناحية حركت شجو الغريب؛ والشوق إلى لقائهم، والتوق إلى ما يرد من تلقائهم، يقتادان القلب بزمام فينقاد، ويوقدان نار الوجد بين الضلوع أي إقاد: هي الدار لا أصحو بها علاقة ... لأمر لنا بين الجوانح مضمرِ فجاء على أرجائها الغيث أنها ... منازل جيران كرام ومعشرِ وكان من جملة فصولها، وفروع اصلها؛ طلب التعريف والإلمام، ببعض أحوال الشيخ الإمام، قاضي الأئمة وعلم الأعلام، عمدة أرباب المحابر والأقلام، ومفخر علماء الإسلام ذى الفضائل التي استقلت رسومها، فلم تحتج إلى إعمال

العلام؛ والمحاسن التي بهرت أقمارا وشموسا سيدي أبي الفضل عياض أبن موسى؛ الشهير الصيت في كل قطر، صب الله على مثواه من الرحمات شآبيب القطر: فهو الإمام الذي سارت مآثره ... في الشرق والغرب سير الشمس والقمرِ وكم له من تآليف قد اشتهرت ... بكل قطر فسل تنبيك عن خبرِ فقالت: نالي بهذا الأمر يدان، ولو أيدني كل قاص ودان؛ وماذا عسى أن اصف من جلالة يتهلل بشرها، وجزالة يتضوع نشرها؛ وبلاغة تبذ بلاغة سحبان، وبراعة تقاعس عن رتبتها الشيب والشبان، وعلم أظهر غوامض الحقائق وأبان، وحلم أرسخ من رضوى وأبان. ومحاسن، ماؤها غير آسن، وحلى، حازت مراتب العلى، ومصنفات، مقرطات مشنفات، أعلاق لا تعدلها الأثمان، ولا تشد على مثلها الأيمان. على إني لست من رجال هذا المجال ولا من فرسان ميدان الإحسان؛ إذ الباع قصير، والعقل بقواعد العلم غير بصير؛ والقلب حليف أشجان وأوصاب، والفكر أليف غصص تجرع منها جنى حنظل أو صاب؛

لا أستطيع إنشاء قول، ولا أفكر إلاّ في هم أو هول؛ إلى ما دهم من الفتن، التي محت ما بالدهر من ازديان؛ وطرق من المحن، التي يغنى عن خبرها العيان؛ فتنوعت منها الأعداد، إلى أفراد وأزواج، وكثر الترداد، من الخطوب ذات الجموع والأفواج؛ وتفاقم وازداد، هول بحورها المتلاطمة الأمواج: ملنا من الأيام ما لا نطيقه ... كما حمل العظم الكسية العصائبا وعصر رجوعنا منه إبداء منحة ... فأندى ولكن محنة ومصائبا وما حال من قرت المصائب عيونه دموعا وجوانحه جوى، ورمته النوائب عن قسى النوى؛ فخلع على الكواكب كراه، وبرح به الشوق وبراه. وقطع ودج صبره وفراه، واعتراه من الدهر ما اعتراه، وضاعف ما به كذب حاسد افتراه؛ يأكل المحاسن، ويجهل بمساويه أن يحاسن؛ ويعيد الحق باطلا، والحلى عاطلا؛ ويقلب النحة محنة، ويرى المصافاة إحنة؛ يخاتل مخاتلة الذيب، ويكدر مناهل الخلوص والتهذيب، ويقابل الحق

الواضح بالتكذيب؛ ويشتغل بما لا يعنيه، ويعرض عما يقربه إلى ربه ويزلفه ويدنيه: لي حيلة فيمن ينم ... وليس للكذاب حيله من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليلة إلى الله المشتكى من هذا وأضرابه، ممن لم تصف موارد شرابه: مضت أعمارنا ومضت سنونا ... ولم تظفر بذى ثقة يدانِ وجربنا الزمان فلم يفدنا ... سوى التخويف من أهل الزمانِ ولا غرو أن كان لأهل الزمان اشباه، ولله بعض أهل الذكاء والتيقظ والانتباه: والناس مثل زمانهم ... قدوا الحذاء على مثله ورجال دهرك مثل ده ... رك في تقلبه وحاله ولذا إذا فسد الزما ... ن جرى الفساد على رجاله أستغفر الله، هذه نفثة مصدور ذي المثل، أو هفوة مغمور ساعدها طغيان القلم: نذم زماناً ما له من جناية ... ونشكوه لو تغنى عن المرء شكواه ولا ذنب فينا للزمان وإنّما ... جنينا فعوقبنا بما د جنيناه هو القدر الجاري على الكره والرضا ... فصبراً وتسليما لمّا قدر الله ونفوسنا أولى باللوم لو سلكنا سبيل خيار القوم؛ واقتفينا سنن التقوى، وتمسكنا بحبل التوفيق الأقوى:

وما دارنا إلاّ موات لو أننا ... نفكر والأخرى هي الحيوانُ شربنا بها عزاً بهمنٍ جهالةً ... وشتان عزٌ للفتى وهوانُ وحق لمن علم تقلبات الدهر بأهله وتصرفاته، أن يستعمل ما بقى من عمره فيما يوصله إلى منازل النعيم المقيم وغرفاته: للدهر قوس لا تزال سهامها ... تصمى الأنام أصاغراً وأكابرا طوبى لمن هجر القبيح ولم يكن ... إلاّ على فعل الجميل مثابرا جعلنا الله ممن ثابر على فعل الجميل، وبلغ من خير الدارين غاية التأمل. وين ورد علي هذا الخطاب الذي تقدم، وألفى ركن الاصطبار كاد يتهدم أو تهدم؛ أضربت عن جوابه حينا من الدهر، وما طلت مقتضى دينه من يوم إلى يوم، ومن شهر إلى شهر؛ والأرض تميد اضطرابا واختلالا، والأحوال تزيد دنفا واعتلالا؛ وأنا أحوم على مناهل الجواب حوما، وأروم الورود في مشاربها العذبة يوما فيوما؛ والأيام لا تسمح بنهله، ولا تفسح إليها فسحة ولا توسعها مهله؛ ثم وقع العزم والتصميم على جواب هذا السائل، راجيا من الله سبحانه أن يكون ذلك من أفضل القرب وأعظم الوسائل؛ ودخلت من هذا الباب بعد أن قرعت، وأخذت في هذا الغرض وشرعت، وشربت من ماء التصنيف وكرعت، وبذرت في أرض التأليف وزرعت، هذا مع إني ما مهرت ولا برعت؛ ولا أتقنت لصناعة التأليف عملا: لكن قدرة مثلي غير خلفية ... والنمل يعذر في القدر الذي حملا وكثيرا ما خرجت من الشيء إلى ما يناسبه ويدانيه؛ وربما أبعت

النجعة، ثم وقعت الأوبة والرجعة على رغم أنف قالي ذلك وشانيه وقربت بذلك كله شاسعا كي تسهل مئونته على معانيه وهصرت أفنان ألفاظه ومعانيه ليقرب اقتطاف لجانيه وسميته بأزهار الرياض في أخبار عياض وما يناسبها مما يحصل به ارتياح وارتياض تسمية وافقت إن شاء الله معناه وناسبت منزله ومغناه لأنه جمع أزهار ذات ألوان من ورد وأقحوان وبهار عرفه ذو انتشار ومنثور روضه مريع ممطور ونسرين يفوق أرجه مسك دارين وآيس عاطر الأنفس وشقيق خليق بالمدح حقيق ونيلوفر حاز من المحاسن النصيب الأوفر وأجريت جداول أنهار من الحكايات لسقي هذه الأزهار فأينع النوار وتألقت الأنوار وتفنن الناظر بين أنجاد وأغوار ولم يدر وقد انتقل من أطوار إلى أطوار وتأمل صرحا بني على غير شفا جرف هار: أضياء هدى أم ضياء نهار ... وشذا المحامد أم شذا الأزهار

وقد أفصح ترجمان التراجم عن عدها وسردها ولوح لنكته الاختتام بنيل وفرها والافتتاح بوردها. وهي هذه الترجمة: الأولى: روضة الورد في أولية هذا العالم الفرد. الثانية: روضة الأقحوان في ذكر حالة المنشأ والعنفوان. الثالثة: روضة البهار في ذكر جملة من شيوخه الذين فضلهم أظهر من شمس النهار. الرابعة: روضة المنثور في بعض ماله من منظوم ومنثور. الخامسة: روضة النسرين في تصانيفه العديمة النظير والقرين. السادسة: روضة الآس في وفاته وما قابله الدهر الذي ليس لجرحه من آس. السابعة: روضة الشقيق في جمل من فوائده ولمع من فرائده المنظومة نظم الدر العقيق. الثامنة: روضة النيلوفر في ثناء الناس عليه وذكر بعض مناقبه التي هي أعطر من المسك الأذفر. فدونك أيّها الناظر روضات أزهار وجنات تجري من تحتها الأنهار ابوابها ثمانية وقطوفها دانية تعطر منها نسيم الصبا بزهر الآداب وسما إلى

محاسنها من تعلق من التاريخ بأهداب لم أسبق إلى مثلها فما رأيت وإن بعدت فيها عن المهيع المطروق ونأيت والإنسان مغرم ببنيات أفكاره وإن قوبل ما صدر منه بإنكار وقد أنشدت بلسان حالها مخاطية من رضى بانتسابها وانتحالها: سرح جفونك في الحدا ... ئق وأجن أزهار الرياض من ورد أحمر أو شقا ... ئق أو بهار ذي بياض وأشرب بكاسات الرفا ... ئق من عيون أو حياض وأنظر مناقب ذي الحقا ... ئق عالم الدنيا عياض واركع بماء التعريف زلالا وأدر كأس التشريف حلالا وأرو من هذا النهر واقطف ما شئت من أصناف الزهر وأخطر هذه الروضة ببالك وأدر إليها وجه قبولك وإقبالك فمؤلفها وإن لم يكن بمصيب ولا ممن له في الإجادة حظ وافر ولا نصيب فمن ألفيت فيه تحسن بإحسان وتنال المرعى الخصيب: سلام مثل عرف المسك طيبا ... وحسنا مثل أزهار الرياض على لفظ الجلالة والمعالي ... إمام الدين والدنيا عياض إذا ما قيس بالعلماء طرا ... غدا بحرا وأضحوا كالحياض

وكنت حين شرعت في هذا المجموع السامي وأطلعت على بعضه صاحبنا الفقيه العلامة الأصيل الحاج الرحال أبا الحسن سيدي علي بن أحمد الخزرجي الشامي حفظ الله كماله وبلغه آماله خاطبني بقصيدة من نظمه أسماها الله ألم فيها بذكر هذا الموضوع بما يقتضيه شرف خلاله وكرم جلاله وأشار فيه إلى نقص العزم الرحلة التي نويت إذ ذاك للمكان الشريف لا حرمنا الله من مشاهدته عن قرب في حفظ وعافية بمنة ويمنة. وهي هذه وأنشدنيها من لفظه وكتبها بخطه وأرسلها إلي شكر الله صنيعه: أمفتي الغرب أبدعتم طرازا ... نثرتم فيه أزهار الرياض ونظمتم عقودا من لآل ... لجيد حلي المآثر من عياض وأورقتم غصون علاه لمّا ... سقاها فكرم سقي الحياض ونمقتم مطارف ما رأينا ... كطرتهم سوادا في بياض وناديتم عقائلها فذلت ... شوامسها إليكم باتياض وأسستم من الآثار طرا ... قواعد لا تساوم بانتقاض لك التبريز في العلياء فاقض ... على علمائها ما أنت قاضي

تبديتم بها بدرا وحزتم ... خصال سباقكم دون اعتراض نعتم بالكمال بغير عطف ... وكلهم بذلك النعت راضي وما وفوا بحقكم ولكن ... يؤدي البعض من بعض افتراض بعلمكم شفيتم أرض غرب ... وكانت ذات أحشاء مراض ولمّا أن بدا منكم فراق ... توقعت أن يؤل إلى انقراض وأنّ نجومها بالبعد يخشى ... عليها من سقوط وأنقضاض فأرسل شافعا خل حشاه ... بهذا البعد أمست في انفضاض يذكركم ليالي نيرات ... بأنسكم تنير دجى المضاض يود الطرف يجعلها اكتحالا ... مكان سواده دون اغماض بحق الله لا تبدي دجاها ... بغيبة بدركم بعد اتماض ولا تمهل شفاعة مستهام ... صدوق الود في آت وماضي ودم للدين والدنيا إماما ... وبحر هدى علومك في افتياض يعم الأرض ما لاحت بدور ... وما فاحت أزهار في رياض يكرع منه الملوك علا ونهلا ويضرع في الجواب فعلا لا قولا ويعيد السلام التام الزكي العام على المجلس العلمي ورحمه الله تعالى وبركاته. انتهى ما كتب به صانه الله وأضفى عليه حلل المجد.

وقد ذكرت في هذا المكتاب جكايات مختلفة وفنون مفيدة يزداد الناظر بها معرفة حسبما جرت بذلك عادة كثير من الأمة في مصنفاتهم ومجالس درسهم. وقد قال الماوردي أقضى القضاة في كتاب آداب الدين والدنيا: القلوب ترتاح إلى الفنون المختلفة وذكر أن المأمون كان ينتقل في قصره من موضع إلى موضع وينشد قول أبي العتاهية: لا يصلح النفس إذا كانت مدبرة ... إلاّ التنقل من حال إلى حال وقال أبو حنيفة: الحكايات عن العلماء أحب إليَّ من كثير من الفقه لأنها آداب القوم. وقال الشيخ سيدنا أبو القاسم الجنيد رضي الله عنه ونفعنا ببركاته: الحكايات جند من جنود الله يقوي الله بها أبدان المريدين. وقال الإمام المواق في كتابه المسمى " سند المهتدين " عن شيخه المنتوري بسنده إلى أبي العباس بن العريف قال: كنت في مجلس أستادي أبي علي الصدفي أقرأ عليه الحديث فقرأ يوما الحديث ثم أغلق الكتاب وجعل

يحكي حكايات الصالحين فوقع في نفسي: كيف يجيز الشيخ أن يقطع حديث رسول الله) ويحكي الحكايات؟ قال: فما تم لي الخاطر حتى نظر إليَّ الشيخ شزرا وقال: يا أحمد الحكايات جند من جنود الله يثبت الله بها قلوب العارفين من عباده. قال: فما بقي في جسدي شعرة إلاّ قطر منها العرق. فلما رآني دهشت قال لي: يا أحمد أين مصداق ذلك في كتاب الله؟ قلت: الشيخ أعلم قال: قوله تعالى:) وكلا نقص عليك من أنباء الرسل (الآية. انتهى. وهذا أوان الشروع وعلى الله قصد السبيل وهو حسبي ونعم الوكيل.

روضة الورد في أولية هذا الإمام الفرد

روضة الورد في أولية هذا الإمام الفرد أقول وعلى الله أعتمد ومن بحر كرمه أستمد: هذه ترجمة نذكر فيها أصله ومحتده وأوليته ومولده. قال الشيخ الإمام الرحال أبو عبد الله محمّد بن جابر الوادي آشي الملقب بشمس الدين رحمه الله ورضى عنه: هو عياض بن موسى بن عياض بن عمرون بن موسى بن عياض بن محمّد أبن عبد الله بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي. هكذا ذكر نسبه الشيخ أبو القاسم الملاحي. وعمرون ثبت عنده بنون بعد الواو. ووقع في نعجم أصحاب الصدفي للإمام الشهير القاضي ابى عبد الله محمّد بن عبد الله القضاعي المعروف بابن الأبار عمرو دون نون. قلت: ونحوه لابن خاتمة في الكتاب المسمى " مزية المرية على غيرها من البلاد الأندلسية ". وقال الشيخ أبو القاسم بن الملجوم: إجتاز علينا القاضي عياض عند انصرافه من سبته قاصدا إلى الحضرة زائرا لأبي بداره عشية يوم الأثنين الثامن لرجب سنة ثلاث وأربعين وخمس

مائة وفي هذه العشية استجزته وسألته عن نسبه فقال لي: إنما أحفظ: عياض بن موسى بن عياض بن عمرون بن موسى بن عياض. وأحفظ أيضاً بعد ذلك: محمد بن عبد الله بن موسى بن عياض. ولا أعرف أن محمدا هذا هو أبو عياض أو بينهما أحد. انتهى كلام أبن الملجوم. وقوله اجتاز علينا يعني بمدينة فاس وقوله قاصدا إلى الحضرة يعني مراكش. وأفادني الشيخ العارف المتبتل الرباني البركة سيدي حسين الزرويلي أبقى الله بركاته وأدام وجوده والنفع به: أن القاضي عياض رضي الله عنه لمّا دخل الحضرة الفاسية حاطها الله نزل بدار أبن الغرديس التغلبي بزنقة حجامة حسبما أشار إليه أبن الأحمر ولم تزل هذه الدار إلى الآن بيد أولاد أبن الغرديس. وقال نجل عياض الشيخ الإمام أبو عبد الله محمّد بن عياض قاضي دانية على ما قال أبن خلكان وقاضي غرناطة على ما قال أبن قنفذ وغيره. ولعله تولى القضاء فيهما معا رحمه الله المتوفى سنة خمس وسبعين وخمس مائة:

" كان أبي يقول: لا أدري: هل محمّد والد عياض أو بينهما رجل؟ فهو جده " انتهى. وهو مثل ما حكى أبن الملجوم عن عياض كما سبق قريبا. ورأيت في تاريخ الشمس أبن خلكان المسمى " وفيات الأعيان " في تعداد آباء القاضي عياض خلاف ما سبق ولا أدري هل ذلك تحريف من الناسخ أو هو من المؤلف؟ ونصه: " عياض بن موسى بن عياض بن موسى بن عياض بن محمّد بن موسى بن عياض اليحصبي ". انتهى. فأنت تراه قد أسقط عمرون فيما بين عياض وموسى وأسقط أيضاً عبد الله فيما بين محمّد وموسى. وقد وافق في إسقاط عبد الله الشيخ العلامة أبن خاتمة في " مزية المرية " فأنه قال في باب العين ما نصه: " ومن الغرباء: عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض بن محمّد بن موسى بن عياض اليحصبي ". انتهى. على إنَّ أبن خلكان وغيره من المشارقة ربما يقع لهم الغلط في تاريخ أهل المغرب لبعد الديار ولغير ذلك مما لا يخفى على ممارس علم التاريخ كما إنَّ كثيرا من المغاربة لا يحررون تاريخ المشارقة لمّا ذكرناه ولذا قال شيخ الإسلام أبن حجر في تأليفه المسمى " إنباء الغمر بأنباء العمر " حين عرف

بشيخه ولي الدين بن خلدون الحضرمي المغربي قاضي القضاة المالكية بالديار المصرية، وهو صاحب التاريخ الكبير المشهور، الموسوم " ديوان العبر، وكتاب المبتدأ والخبر، في تاريخ العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر " ما نصه: " وصنف التاريخ الكبير في سبع مجلدات ضخمة، ظهرت فيه فضائله، وأبان فيه عن براعته، ولم يكن مطلعا على الأخبار على جلتها، ولا سيما أخبار المشرق وهذا بين لمن نظر في كلامه ". انتهى. وأين هذا الكلام وقول الشيخ شمس الدين البغدادي في الشيخ ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون المذكور، رحم الله تعالى الجميع: قاضي القضاة لبن خلدون أتى عجبا ... تاريخه مخبر عن سائر الدولِ وليس بدعا ولا في الله ممتنعا ... أن يجمع العلم الكلي في رجلِ وبالجملة فما ذكرنا أولا في تعداد آباء القضي عياض، رحمه الله، هو الذي

عليه المعول، وعليه اعتمد ولده، وأبن الملجم، وابن بشكوال، وأبن جابر وأبن الخطيب في " الإحاطة " وغير واحد؛ وكفى بهؤلاء حجة. وناهيك بولده وأبن الملجم الذي أخذ ذلك من لفظه، حسبما سبق آنفاً؛ وهو الصواب الذي لا يعدل عنه، والله تعالى اعلم. واليحصبي، بضم الصاد وكسرها، وزاد بعضهم فتحها ونحوه لابن خلكان؛ واقتصر بعضهم على الكسر قائلا: وهو الصواب بناء على أنها اعني القبيلة، يحصب بكسر الصاد، كتغلب. ولا اشك أنَّ النسب إليه إن كان بكسر الصاد: يحصبي بالكسر كتغلبي؛ وأما ضم الصاد في النسب فهو مبني على أن " يحصب " بضم الصاد في الحي. قال أبن سيده في محكمه: ويحصب: قبيلة، وإنّما هي يحصب، يعني بضم الصاد، نقلت من قولك: حصبه بالحصى يحصبه؛ قال أبن جابر: وليس بالقوي ويحصب: من حمير وهو يحصب بن مدرك حسبيما هو مذكور في كتب الأنساب. قال القاضي أبو عبد الله محمد بن القاضي أبي الفضل عياض:

" استقر اجدادنا في القديم بجهة بسطة، من بلاد الندلس، ثم انتقلوا إلى مدينة فاس، وكان لهم استقرار بالقيروان، فلا أدري أكان قبل استقرارهم بالأندلس أم بعده؟ ولذلك يقول عبد الله بن حكيم: وكانت لهم بالقيروان مآثر ... عليها لمحض الحق أوضح برهانِ قال: وكان " عمرون " والد جد أبي، رحمه الله على جميعهم، رجلاً خيرا صالحا، من أهل القرآن، حج إحدى عشرة حجة وغزا مع أبن أبي عامر غزوات كثيرة، وانتقل من مدينة فاس إلى مدينة سبته، بعد دخول بني عبيد الغرب، وكان سبب ذلك أنّه كان له ة لأبيه نباهة بمدينة فاس، فأخذ أبن أبي عامر رهنا من أعيان مدينة فاس فأخذ فيهم أخوي " عمرون ": عيسى والقاسم، فخرج عمرون إلى مدينة سبتة، ليقرب من أخبارهما بمدينة قرطبة، فاستحسن سكنى مدينة سبتة، وكان موسراً، فاشترى بها أرضاً وهي المعروفة بالمنارة فبنى في بعضها مسجداً وفي بعضها دارا حبسها على المسجد وهو حتى الآن منسوب اليه، وحبس الأرض للدفن، ولم يزل منقطعا في ذلك المسجد إلى أن مات رحمه الله سنة سبع وتسعين وثلاث مائة. وولد له قبل وفاته بيسير ابنه عياض ثم ولد لعيلض ابنه موسى ثم ولد لموسى ابنه

عياض أبي رحمهم الله أجمعين؛ وذلك فيما رايته بخطه في النصف من شعبان عام ستّة وسبعين وأربع مائة بسبتة " انتهى. والسبتي: نسبة إلى سبتة، مدينة بساحل بحر الزقاق، مشهورة واختلف في سبب تسميتها فقيل لانقطاعها في البحر من قولك: سبت النعل: إذا قطعتها وقيل لأنَّ مخطها هو سبت بن حام بن نوح وإلى هذا الأخير ينظر قول لسان الدين الوزير الشهير، العلامة أبو عبد الله بن الخطيب السلماني الغرناطي، رحمه الله من قصيدة: حييت يا مختط سبت بن نوح ... بكل مزن يغتدى أو يروح مغني أبي الفضل على الذي ... أضحت برياه رياض تفوح وفيها يقول الأديب أبو الحكم مالك بن المرحل، من قصيدة طويلة بديعة جدا، مطلعها: سلام على سبتة المغرب ... أخية مكة أو يثربِ وفي مدحها يقول أيضاً رحمه الله: اخطر على سبتة وانظر إلى جمالها تصبو إلى حسنهِ كأنها عود غناء وقد ... ألقى في البحر على بطنهِ وقال الحجاري في المسهب: " أوّل من سكن بر الدوة وبر الأندلس من نوح بعد الطوفان سبت واندلس ابنا يافث بن نوح فنزل سبت في ىخر المعمور من بر العدوة،

وبنى له منزلا في موضع سبتة فدعيت باسمه، وتناسلت منه قبائل البربر، واتسعت في بر العدوة إلى أن بلغت إلى فلسطين، وكان ملكهم يسمى جالوت، وكان مجوسيا، وهزمه طالوت، وقتله داود، فانضمت البربر عن فلسطين وعن الديار المصرية واقتصرت من برقة إلى آخر المعمور؛ وسكن أخوه أندلس مقابلا له في انتهاء المعمور فعرفت باسمه " انتهى. وأكثر بلاد العدوة في الإقليم الثالث، وفيه حضرتها مراكش وما قارب منها الأندلس كسبتة وما قرب منها في الإقليم الرابع. قال أبن سعيد: " ولا نطالب في هذا البر بما صنعناه في الأندلس فأهل الأندلس إما عرب أو متعربون، قد توارثوا قوام اللسان وحافظوا عليه وأهل بر العدوة أما بربر أو متبربرون ". انتهى. وفي وصفها يقول لسان الدين بن الخطيب في مقامة وصف البلدان: " قلت: فمدينة سبتة؟ قال: تلك عروس المجلي، وثنية الصباح الأجلى؛

تبرجت تبرج العقيلة، ونظرت وجهها من البحر في المرآة الصقيلة، واختص ميزان حسناتها بالأعمال الثقيلة؛ وإذا قامت بيض أسوارها وكان جبل بليونش في جوارها وتهيم الخواطر بين أنجادها وأغوارها؛ إلى الميناء الفلكية، والمراقي الملكية. والركية الزكية غير المنزورة ولا البلكية ذات الوقود الجزل، المعد للأزل، والقصور المقصورة على الجد والهزل؛ والوجوه الزهر السحن، المضنون بها عن المحن؛ دار الناشبة، والحامية المضرمة للحرب المناشبة؛ والأسطول المرهوب، المحظور الألهوب والسلاح المكتوب المحسوب، والأثر المعروف المنسوب؛ كرسي الأمراء والشراف والوسيطة، لخامس أقاليم البسيطة، فلا حظ لها في الأنحراف؛

بصرة علوم اللسان وصنعاء الحلل الحسان وثمرة امتثال قوله " إنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان " الأمينة على الأختزان، القويمة المكيال والميزان، محشر أنواع الحيتان، ومحط قوافل العصير والحرير والكتان، وكفاها السكنى ببليونش في فصول الأزمان، ووجود المسكن النبيهة بأرخص الأثمان؛ والمدفن المرحوم غير المزحوم، وخزانة كتب العلوم، والآثار المنبئة عن أصالة الحلوم؛ إلا أنها فاغرة الأفواه للجنوب للغيث المصبوب عرضة للرياح ذات الهبوب عديمة الحرث فقيرة من الحبوب ثغر تنبو فيه المضاجع بالجنوب وناهيك بحسنة تعد من الذنوب؛ فأحوال أهلها رقيقة، وتكلفهم ظاهر مهما ظهرت وليمة أو غنيمة، واقتصادهم لا تلتبس منه طريقة وأنساب نفقاتهم في تقدير الأرزاق عريقة؛ فهم يمصون البلالةمص المحاجم، ويجعلون الخبز في الولائم بعدد الجماعة، وفتنتهم ببلدهم فتنة الواجم بالبشير المهاجم، وراعي الجديب بالمطر السحيم؛ فلا يفضلون على مدينتهم مدينة الشك عندي في مكة والمدينة ". انتهى. قلت: ولعله عرض بقوله: " الشك عندي في مكة والمدجينة " بقول مالك بن المرحل: " أخية مكة أو يثرب " والله اعلم. وكان لسان الدين بن الخطيب كثيرا ما ينزل في وجهاته المغربية عند الشريف الشهير، سيدي أبي العباس أحمد بن سيدي محمد أبن سيدي احمد،

أبن سيدي طاهر سيدي رفيع أبن سيدي علي المدعو بالمكين، أبن سيدي أحمد، أبن سيدي علي، أبن سيدي أبي الطاهر، أبن سيدي الحسين، أبن سيدي موهوب، أبن سيدي أحمد، أبن سيدي محمد، أبن سيدي طاهر، أبن سيدي الحسين، أبن مولانا علي، المعو بالهادي، أبن مولانا محمد، المدعو بالجواد، أبن مولانا علي الرضا أبن مولانا موسى، المدعو بالكاظم، أبن مولاي جعفر الصادق، أبن مولاي محمد الباقر بن زين العابدين علي، أبن ملانا الحسين الشهيد، أبن مولانا أمير المؤمنين، مولانا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ونفعنا ببركته هؤلاء السادات، الذين سردنا أسمائهم تبركاً بها. قال صاحب كتاب " الكواكب الوقادة، في ذكر من دفن في سبتة من العلماء والصلحاء القادة ": " كان هذا السيد الشريف يوسع أبن الخطيب إكراما، وكان من عادة الشريف المذكور أن يخرج إلى بساتينه في المصيف بقرية بليونش، كمنية العبا، وجنة الحافة، ويخرج في القبة السامية المطلة على البحر بجنة الحافة، ويجعل الطريق تحته، فإذا رأى جماعة سائرين من أي صنف كانوا، من التجار أو الغرباء أو البلديين، يوجه رجاله إليهم ويقدم لهم الطعام، ويرتاح إلى ذلك ويسر به ويؤنس كلاً بما يناسبه، من ذكر عيون أخبار بلده، وخاصة قطره، وما يجر إلى ذلك ويرجع اليه، من بديع الحكايات، ولطيف

النوادر؛ ثم يأمر بإدارته على تلك البستان، ورؤية ما بها من المصانع، ثم يبعث وراء آخرين، وينزل كل واحد منزلته، ويغيب عمن يخجله حضوره؛ ويغضى عن مداعبة إن وقعت، ويتجاهل الهفوة أن بدرت. وكان يخرج الوزير أبن الخطيب عند نزوله عنده إلى هذه القرية البليونشية. ومن بديع نظم أبن الخطيب فيها: بليونش أسنى الأماكن رفعة ... وأجل أرض الله طراً شانا هي جنة الدنيا التي من حلها ... نال الرضا والروح والريحانا قالوا القرود بها فقلت فضيلة ... حيوانها قد قارب الإنسانا وفيها يقول القاضي عياض: بليونش جنة ولكن ... طريقها يقطع النياطا كجنة الخلد لا يراها ... إلاّ الذي جاوز الصراطا ونقلت من خط أبن حيان بعد كلام في سبتة ما نصه: " ومتنزهاتها أعظمها بليونش تحتوي على مياه عيون وأودية ومتنزهات، وأبنية عظيمة؛ وفيها من جميع الأشجار والثمار ".

وفيها يقول أبو الحجاج المنصفي: بليونش شكلها بديع ... أفع في قالب الجمالِ فيها الذي ما رأته عيني ... يوماً ولم يخطر ببالي طريقها كالصدود لكن ... تعقبه لذة الوصالِ قال أبن رشيد: وأنشدني القاضي أبو عبد الله محمد بن أبي عبد الرحمن الكميلي قاضي أزمور فيها: بليونش كلها عذاب ... فالمشي في سبلها عقاب يكنفها شامخ منيف ... كأنه فوقها عقاب وهذا الشامخ يعرف بجبل نوسى. وإليه أشار المنصفي في مخمسة: وطود موسى لها تاج تاج على الراس وبهذا الجبل متعبد مبارك، وبساحله مغطس المرجان، ومن عجائب هذا المتعبد أنَّ من دخله ممن ليس له أهلاً فانه يجد في عنقه صفعاً إلى اسفل الجبل؛ وهو مسيرة ثلاثة أميال، وهو من سبتة على تسعة اميال، وبهذا الجبل منشأ

القرود، وهو مستشرف على بعض الأندلس. وبسبتة مدرسة بناها أبو الحسن الشاري، ووقف بها كتبا عظيمة. وبموضع يقال له التوتة يوجد كثير من اليلقوت الأحمر دقيق. ومن عجائبها أن البلارج لا تعشش فيها، وقلما تخطر عليها. ويقال أنها بناها سبت بن سام بن نوح وأنّه دعا لها باليمن والبركة ورووا في ذلك حديثا عن مالك عن نافع عن أبي عمر. قال عياض: وأبرأ أنا من عهدته، وقد خرجه في الغنية، ولذلك قال بعض الشعراء: فكل جبار إذا ما طغى ... وكان في طغيانه يسرفُ أرسل الله إلى سبتةٍ ... فكل جبار بها يقصفُ أنشدها أبو عبد الله محمد بن حمادة البرنسي، خال أبي لأمه، في كتابه المسمى " المقتبس، في أخبار المغرب والأندلس ". ومن نظم المنصفي في بليونش من قصيدة: انظر إلى نضرة زهر الربا ... كأنه وشى على كاعبِ ومتع الطرف ببليونش ... ومائها المنبعث الساكبِ تشاركت والحسن في وصفها ... تشارك العين مع الحاجبِ

وقد أرتنا اليوم من حسنها ... ما لم يكن في زمن الحاجبِ والحاجب: أحد ملوك سبتة؛ وله عمل أبن مرانة قصيدة في الكوائن والحوادث. فعالة بالطبع في أهلها ... ما تفعل القهوة بالشاربِ تذكر الشيخ زمان الصبا ... وتفسد التوبة للتائبِ وله: انظر إلى بهجة بليونش ... وحسن ذاك المنظر اللامعِ تحكى الثريا عندما أسرجت ... بليلة الختمة في الجامعِ ولمّا قفل السلطان الأشهر أبو عبد الله محمد بن يوسف بن الأحمر من المغرب، حين رجوعه إلى بلده مع قاضي حضرته غرناطة، أبي الحسن علي بن الحسن، المعروف بالنباهي شيخنا، ووزيره أبي عبد الله بن الخطيب، صنع له ضيافة ملوكية بالمنية، من قرية بليونش المشار إليها، حيث القصر هناك، وعنصر

الماء المختص بها. ومن هناك ركب البحر ليلا وذلك في جمادى الآخر من عام ثلاثة وستين وسبع مائة. وفي الحادي والعشرين من الشهر المذكور دخل دار ملكه حمراء غرناطة، وأكل من فضل هذه الضيافة معظم من كان بالقرية من قوي وضعيف ورفيع ووضيع. وكان شيخنا القاضي أبو الحسن المذكور يثني عليه، ويعظمه تعظيما يليق بمثله، ويقول في أثناء حديثه: فعل أبو العباس الشريف صاحب سبتة كذا، وصنع كذا. ولم تزل حالته هذه، رحمه الله عليه، إلى أن أسن وأقعد، فلزم منزله ثلاث سنين، من غير أن ينقص ذلك من منصبه شيئاً ولا من انتفاع الناس به؛ وكان ابيض اللون، حسن الهيئة والملبس، يخضب بالحناء؛ وتوفي في زمانته وقد نيف على الثمانين، عام ستنة وسبعين وسبع مائة، وله الآن قرابة بمدينة فاس بقيد الحياة " انتهى كلام صاحب الكواكب الوقادة باختصار، وبعضه بالمعنى. ومن نظم هذا الشريف، مما أمر به أن ينقش بالقبة المذكورة آنفاً في معنى الآستعاذة: وثقت بالله ربي ... وحسبي الله حسبي والله كافٍ وواقٍ ... ودافع كل خطب ولست أخشى إذا ما ... وثقت بالله ربي بلغت فيها مرادي ... منها مع صحبي والخمس تفقأ عيناً ... لكل حاسد ندبِ

وكان السلطان المرحوم أبو عنان فارس، أبن سلطان أبي الحسن المريني يجل هذا الشريف، ويعترف له بالفضل، ويعطيه العطاء الجزل، وكان يستدعيه كل سنة إلى حضرته فاس، لحضور المولد السعيد، الذي سنه ببلاد المغرب الشيخ أبو العباس العزفي، وتلك السنة إلى الآن بحسن نيته، واعتنائه بالجانب العلى، نفعه الله بذلك، ويخلع عليه الخلع الملوكية، ويعد له ديناراً مسكوكا يصنع بمدينة مراكش، زنته مائة دينار ذهباً، يدفع له ذلك مع جائزته، إلى غير ذلك مما كان يتحفه به، رحمه الله، ويصحبه في وجهته تلك من الضعفاء والتجار ما لا يحصى كثرة، ويتولى هو الإنفاق على الجميع من ماله، ويرفع عنهم اللوازم المخزنية، فكان التجار لأجل ذلك يرصدون وقت سفره وقفولته. وقدمه السلطان أبو عنان لمذكور ناظرا إلى بلده سبتة، وأمر صاحب قصبتها ألا يقطع أمراً إلاّ بمشورته، فكان العمال يخافونه ويشاورونه، فإذا رأى من أحدهم خروجا عن العادة، أو حيفا على الرعية، كتب إلى السلطان في شأنه، فيزله من فوره، ويعوضه بغيره. وكان يقول للسلطان: لعلك تحسبني خديما، لست كذلك، وإنّما نحن معشر أهل البيت شفعاء في الدنيا، وشفعاء في الآخرة. فكان أهل سبته في أيامه في عيش هني، ونعمة شاملة، بقي على هذه الحالة المرضية مدة عشرين سنة. وله بسبتة آثار تحكى الآثار العزفية، كالرياض

الأعظم، الذي إمام باب الميناء الأسفل الذي تأنق فيبنيانه وأبدع صنعته، وجلب إليه المياه بالدواليب حتى أوصله إلى القبة ذات الأعمدة، وكالرياض الذي بالصفارين، حيث كان قعوده مع خواص الناس وعامتهم. قال صاحب الكواكب الوقادة: " سمعت أحد كتابه الخاص به، الملازم له ليلاً ونهاراً، مع مرور الأيام والسنين، يقول: ما أمرني قط سيدي ومولاي الشريف بكتب شيء مخالف للشرع، بل في رفع المظالم، وإنهاء الشفاعات، وتوجيه الأمانات، وما في معنى ذلك، مما ندب إليه الشرع، وحض عليه، ووعد بالثواب على فعله. وطالما سمعت الكاتب المذكور يقسم على ذلك، فنفعه الله به ". انتهى. قلت: تذكرت بهذا الفعل الجميل ما كتب به على دواة أمير المؤمنين أبي عنان، رحمه الله، وهو: أنا دواة فارس ... أبي عنان المعتمد حلفت من يكتب بي ... بالواحد الفرد الصمد أنَّ لا يمد مدة ... في قطع رزق لأحد وقد رأيت في هذا الأيام دواة في غاية ما يكون من الإتقان والصنعة والتذهيب، وفيها مكتوب البيتان الأخيران، وهي عند بعض أصحابنا الكتاب الحضرة الفاسية أحاطه الله وأظنها هي الدواة التي كانت لأبي عنان، والله اعلم.

رجع إلى ذكر الشريف

رجع إلى ذكر الشريف وكان الشريف المذكور يصنع أنواع المطاعم الرفيعة، ويتبسط في ألوانها، ويطعمها الغني والفقير، والقوي والضعيف، ممن يحضر مجالسه أو يأتي إليه، وبالجملة فهو قطب الجود الذي عليه المدار، وإمام الأدب الذي لا يجاريه الرضي ولا مهيار؛ ومن نظمه وقد ساير قاضي الجماعة بحضرة غرناطة، أبا البركات البلفيقي الشهير بابن الحاج السلمي، ومن ولد العباس بن مرداس رضي الله عنه، زمن الشبيبة في بعض أسفاره ببر الأندلس، فلما أنتهبا إلى قرية بزليانة وأدركهما النصب، واشتد عليهما حر الهجير، نزولا وأكلا من باكر التين الذي هنالك، وشربا من ذلك الماء العذب، واستلقى أبو البركات على ظهره تحت شجرة مستظلا بظلها، ثم التفت إلى الشريف وقال: ماذا تقول، فدتك النفس في حالي ... يفنى زماني في حل وترحال وارتج عليه فقال لأبي العباس: أجز؛ فقال بديها: كذا النفوس اللواتي العز يصبها ... ترضى بمقام دون آمال

دعها تجوب الفيافي والقفار إلى ... أنَّ تبلغ السؤال أو تفنى بتجوال وكان عطاء هذا السيد الشريف المرسوم له من بيت المال، ثلاثين ديناراً من الذهب العين في رأس كل شهر، وهو خاتمة الشرفاء العظام بمدينة سبتة. ولهؤلاء الشرفاء بمدينة سبتة نحو الثلاثين قبراً، في روضتهم المنسوبة إليهم، بالجانب الشرقي من رابطة الفصال. وهؤلاء الشرفاء من ذرية أبي الطاهر الذي خرج من جزيرة صقلية، وكانت لهم بسبتة وجاهة وسيادة، وجلالة ومجادة؛ لمكان بيتهم الشريف، ونسبهم العالي المنيف؛ ما منهم واحد إلاّ غذاه العلم بلبانه، والأدب ببيانه. وولى منهم قضاء بلدهم سبتة رجلان، لم يطلع مثلهما الملوان؛ تقى وعلماً، وأناة وحلما؛ وأولهما القاضي أبو الشرف الرفيع، والثاني ابنه القاضي أبو الحسن علي. وكم نشأ عن هذا الأصل الطاهر من جهبذ تحرير، وعالم ماهر؛ وسخى جواد، له إلى الإعطاء ارتياح وإلى الكرم استناد؛ وناهيك بخاتمهم أبي العباس المذكور. وكان فائدة مضرب الميناء لهذا الشريف الحسيني، دون أنَّ يشكره غيره، وكان له بضرب أويات يوم يضرب فيه، ويومان لبيت المال،

وكانت عادة عامل المضارب، الناظر في فوائدها وما تحتاج إليه من نفقة وآلة، أنَّ يأمر رجاله وأعوانه، حين يقعد النواتية الكيس، بالوقوف إليه، والدفاع عنه، بعد أنَّ يحضر الشهود، خفراً وضبطاً لمّا يحصل من فائدة المضرب المالي في يوميه؛ فإذا كان يوم السيد الشريف يأمر رجاله وخادمه وأعلاجه الإسلاميين، بإباحة المضرب للمساكين، وتفريق الحوت على من لا يصل إليه، ممن يحضر متنزها، إما لحفظ مروءة، وإما لغير ذلك. ولا يزال الناظر من قبله، وهو القائد فارح أحد أعلاجه، واقفاً على حصانه، وقد أحاطت به رجاله، إلى أنَّ يرضى كل من يحضر، وما فضل عن ذلك فهو له. وأما السيد الشريف فلا يحضر، إذ همته أرفع من ذلك، وقدره أعظم، ومكانته بسبته مكانته، بحيث يأتي إليه في الموضع الذي أعده لجلوسه برياضة الذي بالصفارين صبيحة كل يوم صاحب القصبة، كائنا من كان، مسلماً عليه، ثم ينصرف، ثم يأتي الوالي على قبض الجباية مسلماً، ثم ينصرف بعد تقبيل قدمه، ثم يأتي صاحب الشرطة، وكذا جميع أمراء سبتة، إلاّ القاضي، لمكان خطته، فيعامل كلا بما يستحق من إكرام وإهانة، وإغلاظ ومجاملة، فلا يتخلف أحد عن غرضه، ولا يصدر إلاّ عن رأيه ونظره. وهذا كله مع النصيحة للمسلمين، وجلب المنفعة لهم بالقول والفعل، وإطعام الطعام الذي لا يقدر عليه الأمير فمن دونه، ورفع المظالم، ومنح الجاه، إلى غير ذلك، نفعه الله. فكان من حكمة الله عز وجل وبركته أهل البيت،

وفضل الجود والكرم ومكارم الأخلاق، وإيصال المنفعة للعباد، أنَّ يخرج في اليوم الذي له بالمضرب من الحوت، أي نوع كان من الجاري، أضعاف ما يخرج في اليومين، ويحصل له من الفائدة أكثر مما يحصل لمتولي النظر فيهما، فيتصل بيده من فائدة يومه خمس مائة الدينار وسبع المائة، وربما يزيد، وقد انتهى في بعض الأحيان إلى ألفي دينار في اليوم، حسبما يسنيه الله عز وجل؛ هذا بهد العادة التي عودها نفسه النفيسة، من الإيثار والبذل، للسرى والنذل. ولم تكن له همة، رحمه الله، في احتكار المال وجمعه، بل يصرف ذلك كله في إطعام الطعام، الخاص والعام، وفي تشديد البنيان، والإنفاق على الفعلة والصناع والخدام، وآثاره ومصانعه بداخل سبتة وخارجها شهادة بذلك مدى الأيام؛ وكم في أثناء هذا التصرف من مؤاساة الفقير، وإعانة الضعيف، وإغاثة الملهوف، برفع لازم أو وظيف، حسبما هو معلوم معروف منقول. وكان ملوك بني مرين يعتنون له أتم اعتناء، ويبادرون إلى موافقة أغراضه، وقبول شفاعته، وما يتلقاه حين وروده على حضرتهم فاس إلاّ الملك بنفسه، إلى غير ذلك من مناقبه رضي الله عنه، ونفعنا به، وبسلفه الطاهر. قلت: وإنّما ذكرت التعريف بهذا الشريف الفياض، تفاؤلا بالابتداء به بعد عياض، لأني اشترط إني أخرج من الشيء إلى ما يناسبه، فبدأت

في ذلك بهذا السيد الشريف، الذي عظمت مجادته، وكرمت مناسبه، وزكت مآثره، وعلت مناصبه؛ والأعمال بالنيات، والله يبلغنا في الدارين غاية الأمنيات. وبعد أنَّ بلغت سبته ما ذكرناه من أحوالها، وبقيت مدة آمنة من شرور الدنيا وأهوالها، وأطلعت في سمائها نجومها، كانت علومها للمردة وجومها؛ كعياض المؤلف فيه هذا الكتاب، وهؤلاء الشرفاء الذين لا يمترى في فضلهم ولا يرتاب، وبنى العز في المشاهير الذين برزوا في ميدان السبق على الخاصة والجماهير؛ وحازوا رياسة الدين والدنيا، وفازوا بالمكانة السامية والمرتبة العليا؛ وغيرهم ممن لا يحصى كثره، ممن كان لهم تقديم وأثرة، عدا عليها الدهر بعدوانه، وسقط شرفها من إيوانه؛ واستولى عليها العدو الكافر، في قضية يطول شرحها، وعظم على أهل الإيمان قرحها، وأعضل أطبائها الملوك إلى الآن جرحها، ولم يزل بنفوس المؤمنين شجوها وبرحها. أخبرني الفقيه الطيب العدل الفرضي، سيدي أبو القاسم بن محمّد الوزير الغساني رحمه الله: أنّه لمّا دخل سبته، حين وجهه أمير المؤمنين، مولانا المنصور، رحمه الله، إليها في شأن فداء الكفار المأخوذين بالغزوة الشهيرة، ذهب إلى المدرسة التي كان بناها أحد ملوك بني مرين رحمهم الله، وأظنه أبا عنان،

وهي من أجلّ المدارس وأعظمها، فرأى في محرابها ناقوساً وصليباً، قال: فساءني ذلك، فرفعت بصري فإذا كتابة بخط رائق، في تلك النقوش فوق ذلك الناقوس، فيها قوله تعالى:) شهد الله أنّه لا إله إلاّ هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم إنَّ الدين عند الله الإسلام (. وكان ذلك الكتب قديماً فيها من جملة ما كتب المسلمون بها حين بناها، على ما جرت به عادة الملوك من كتب الآيات القرآنية في النقوش بالزليج والمرمر. قال لي رحمه الله: فتعجبت من ذلك الاتفاق، وسلاني ذلك بعض التسلى، وإلى الله ترجع الأمور. وكان أخذ سبتة، أعادها الله، سنة تسع وعشرون وثمان مائة. بعد ما استولى العدو الكافر على معظم بلاد الأندلس، مثل قرطبة، ومرسية، وطليطلة، وبلنسية، وغيرها، مما يطول تعداده. وقد قال بعض الشعراء حين أخذت طليطلة، وكانت من أوّل ما اخذ من القواعد العظام، يخاطب أهل الأندلس: يأهل أندلس شدوا رحالكم ... فما المقام بها إلاّ من الغلط السلك ينثر من أطرافه وأرى ... سلك الجزيرة منثور من الوسط من جاور الشر لا يأمن بوائقه ... كيف الحياة مع الحيات في سفط

ولله در الإمام العلامة خاتمة أدباء الأندلس، أبي الطيب صالح أبن شريف الزندي رحمه الله إذ قال بلاد الأندلس، ويبعث العزائم ويحركها من أهل الإسلام لنصرة الدين، وإنقياد البلاد من يد الكافرين، ولسان الحال ينشده " لقد أسمعت لو ناديت حياً ". لكل شيء إذا ما تم نقصان ... فلا يغر بطيب العيش إنسان هي الأمور كما شهدتاها دول ... من سرة زمن ساءته أزمان وهذه الدار لا تبقى إلى أحد ... ولا يدوم على حالٍ لها شان يمزق الدهر حتما كل سابغة ... إذا نبت مشرفيات وخرصان وينتضى كل سيف للفناء ولو ... كان أبن ذي يزن والغمدان غمدان أين الملوك ذوو التيجان من يمن ... وأين منهم أكاليل وتيجان وأين ما شداه شداد في إرم ... وأين ما ساسه في الفرس ساسان وأين ما حازه قارون من ذهبٍ ... وأين عاد وشداد وقحطان أتى على الكل أمر لا مرد له ... حتى قضوا فكان القوم ما كانوا وصار ما كان من ملك ومن ملك ... كما يحكى عن خيال الطيف وسنان دار الزمان على داراً وقاتله ... وأم كسرى فما آواه إيوان

كأنما الصعب لم يسهل له سبب ... يوما ولا ملك الدنيا سليمان فجائع الدهر أنواع منوعة وللزمان مسران وأحزان وللحوادث سلوان يهونها ... وما لمّا حل بالإسلام سلوان دهى الجزيرة أمر لا عزاء له ... هوى له أحد وانهد ثهلان أصابها العين في الإسلام فارتزئت ... حتى خلت منه أقطار وبلدان فاسأل بلنسية ما شأن مرسيةٍ ... وأين شاطبة أم أين جيان وأين قرطبة دار العلوم فكم ... كم عالم قد سما فيه له شأن وأين حمص وما تحويه من نزهٍ ... ونهرها العذب فياض وملآن قواعد كن أركان البلاد فما ... عسى البقاء لم تبق أركان تبكي الحيفة البيضاء من أسفٍ ... كما بكى لفراق الإلف هيمان على ديار من الإسلام خاليةٍ ... قد أسلمت ولها بالكفر عمران حيث المساجد قد صارت كنائس ما ... فيهن إلاّ نواقيس وصلبان حتى المحاريب تبكي وهي جامدة ... حتى المنابر ترثى وهي عيدان يا غفلان وله في الدهر موعظة ... إنَّ كنت في سنة فالدهر يقظان وماشياً مرحا يلهيه موطنه ... أبعد حمص تغر المرء أوطان

تلك المصيبة أنست ما تقدمها ... وما لها مع طول الهر نسيانُ يا أيّها الملك البيضاء رايته ... أدرك بسيفك أهل الكفر لا كانوا يا راكبين عتاق الخيل ضامرة ... كأنها في مجال السبق عقبانُ وحاملين سيوف الهند مرهفةً ... كأنها في ظلام النقع نيرانُ وراتعين وراء البحر في دعةٍ ... لهم بأوطانهم عزٌ وسلطانُ أعندكم نبأ من أهل أندلس ... فقد سرى بحديث القوم ركبانُ كم يستغيث بنو المستضعفين وهم ... أسرى وقتلى فما يعتز إنسانُ ماذا التقاطع في الإسلام بينكم ... وانتم يا عباد الله إخوانُ ألا نفوس أبيات لها همم ... أما على الخير أنصارٌ وأعوانُ يا من لذة قوم بعد عزهم ... أحال حالهم كفر وطغيانُ بالأمس كانوا ملوكاً في منازلهم ... واليوم هم في بلاد الكفر عبدانُ فلو ترهم حيارى لا دليل لهم ... عليهم من ثياب الذل ألوانُ ولو رأيت بكاهم عند بيعهم ... لهالك الأمر واستهوتك أحزانُ يا رُبَّ أم وطفلٍ حيل بينهما ... كما تفرق أرواح وأبدانُ

وطفلةٍ ما رأتها الشمس إذ برزت ... كأنها هي ياقوت ومرجانُ يقودها العلج للمكروه مكرهة ... والعين باكية والقلب حيرانُ لمثل هذا يذوب القلب من كمد ... إن كان في القلب إسلام وإيمانُ انتهى وكان السيخ الإمام العلامة الفقيه الوزير الكاتب أبو يحيى بن عاصم صاحب الشرح على تحفة أبيه، رحم الله الجميع، عند ما رأى اختلال أمر الجزيرة أعادها الله وأخذ النصارى دمرهم الله لمعظمها، ولم يبق إذ ذاك بيد المسلمين إلاّ غرناطة، وما يقرب منها، مع وقوع فتن بين ملوك بني نصر حينئذ ثم أفضى الملك إلى بعضهم، بعد تمحيص وأمور يطول بيانها، ألف كتابا سماه: " جنة الرضى، في التسليم لمّا قدر الله وقضى " وهو كتاب جدا غريب، رأيت بعضه بتلمسان، ونقلت منه ما نصه: " من استقرأ التواريخ المنصوصة، وأخبار الملوك المقصوصة، علم أنَّ النصارى دمرهم الله لم يدركوا في المسلمين ثارا، ولم يرحضوا عن أنفسهم عارا، ولم يخربوا من الجزيرة منازلا وديارا، ولم يستولوا عليها بلادا جامعة وأمصارا، إلاّ بعد تمكينهم لأسباب الخلاف، واجتهدوا في وقوع الافتراق، بين المسلمين والاختلاف؛ وتضربهم بالمكر والخديعة بين ملوك

الجزيرة؛ وتحريشهم بالكيد والخلابة بين حماتها في الفتن المبيرة؛ ومهما كانت الكلمة مؤتلفة، والأهواء لا مفترقة، والعلماء بمعاناة اتفاق القلوب إلى الله مزدلفة؛ فالحرب إذ ذاك سجال، ولله إقامة الجهاد في سبيله رجال، وللممانعة في غرض المافعة ميدان رحب ومجال وروية وارتحال. ثم قال: وتطاولت الأيام ما بين مهانة ومقاطعة؛ ولا أمل للطاغية إلاّ في التمرس بالإسلام والمسلمين، وإعمال الحيلة على المؤمنين، وإضمار المكيدة للموحدين، واستبطان الخديعة للمجاهدين؛ وهو يظهر أنّه ساع للوطن في العاقبة الحسنى، وأنّه المصلحة لخاصتهم وجمهورهم؛ وهو يسر حسواً في ارتغائه، ويعمل الحيلة في التماس هلك الوطن وابتغائه. فتباً لعقول تقبل مثل هذا المحال، وتصدق هذا الكذب بوجه أو حال؛ وليت المغرور الذي يقبل هذا لو فكر في نفسه، وعرض هذا المسموع على مدركات حسه، وراجع أوليات عقله وتجريبات حدسه، وقاس عدوه الذي لا ترجى مودته على أبناء جنسه؛ فأنا أناشده الله هل بات قط بمصالح النصارى وسلطانهم مهتما، وأصبح من خطب طرقهم مغتما؛ ونظر المفكر في العاقبة الحسنة، أو قصد لهم قصد

المدبر في المعيشة المستحسنة؛ أو خطر على قلبيه أن يحفظ في سبيل القربة أربابهم وصلبانهم، أو عمر ضميره من تمكين عزهم بما ترضاه أحبارهم ورهبانهم؛ فإن لم يكن ممن يدين بدينهم الخبيث ولم يشرب قلبه حب التثليث؛ ويكون صادق اللهجة منصفا عند قيام الحجة؛ فسيعترف أنَّ ذلك لم يخطر له قط على خاطر ولا مر له ببال، وأنَّ عكس ذلك هو الذي كان به ذا اغتباط وبفعلة ذا اهتبال، وإنَّ نسب لذلك المعنى فهو عليه أثقل من الجبال، وأشد على قلبه من وقع النبال؛ هذا وعقده التوحيد، وصلاته التحميد؛ وملته الغراء وشريعته البيضاء ودينه الحنيف القويم، ونبيه الرءوف الرحيم، وكتابه القرآن الحكيم، ومطلوبه بالهداية الصراط المستقيم؛ فكيف نعتقد هذه المزية الكبرى، والمنقبة الشهرى؛ لمن عقده التثليث، ودينه المليث؛ ومعبوده الصليب، وغافر ذنبه القسيس؛ وربه عيسى المسيح ونظره ليس البين ولا الصحيح، وإن ذلك الرب قد ضرج بالدماء، وسقى الخل عوض الماء؛ وأن اليهود قد قتلته مصلوبا، وأدركته مطلوبا وقهرته

مغلوباً؛ وأنّه جزع من الموت وخاف إلى سوى ذلك مما يناسب هذه الأقاويل السخاف فكيف يرجى من هؤلاء الكفرة من الخير مثقال الذرة أو يطمع منهم في جلب المنفعة أو دفع المضرة اللهم أحفظ علينا العقل والدين واسلك بنا سبيل المهتدين " انتهى. ومنه أيضاً ما نصه: " كانت خزانة هذه الدار النصرية مشتملة على كل نفيسة من الياقوت ويتيمة من الجوهر وفريدة من الزمرد وثمينة من الفيروز وفاخر من الآلة ونادر من الأمتعة فمن عقود فذة وسلوك جمة وأقراط تفضل على قرطى مارية نفاسة فائقة وحسنا رائقا ومن سيوف شواذ في الإبداع غرائب في الإعجاب منسوبات الصفائح في الطبع خالصة الحلى من التبر ومن دروع مقدرة السرد متلاحمة النسج واقية للبأس في يوم الحرب مشهورة النسبة إلى داود نبي الله ومن جواشن سباغة اللباسة وذهبية الحلي

هندية الضرب ديباجية الثوب ومن بيضات عسجدية الطوق جوهرية التنضيد زبرجدية التقسيم ياقوتية المركز ومن مناطق لجينية الصوغ عريضة الشكل مزججة الصفح ومن درق لمطية مصمتة المسام لينة المجسة معروفة المنعة صافية الأديم ومن قسى ناصعة الصبغة هلالية الخلقة منعطفة الجوانب زارية بالحواجب إلى آلات فاخرة من أتوار نحاسية ومناور بلورية وطيافير دمشقية وسبحات زجاجية وصحاف صينية وأكواب عراقية وأقداح طباشيرية وسوى

ذلك مما لا يحيط به الوصف، ولا يستوفيه العد؛ وكل ذلك ألهبه شواظ الفتنة، والتقمه تيار الخلاف والفرقة، فرزئت الدار منه بما يتعذر إتيان الدهور بمثله، وتقتصر ديار الملوك المؤثلة عن بعضه فضلا عن كله ". انتهى. وسنذكر من كلامه رحمه الله بعد هذا، زيادة على ما جلبناه الآن، والله المستعان. وكانت غرناطة منتهى الآمال، ووسطى قلادة الأمصار، ولم تزل محاسنها مجلوة على منصة الدهور والأعصار. وقد استولى وصفها لسان الدين الوزير أبو عبد الله بن الخطيب في كتاب الإحاطة، ويرحم الله القائل: غرناطة ما لها نظير ... ما مصر ما الشام ما العراق؟ ما هي إلاّ العروس تجلى ... والأرض من جملة الصداق قال الفقيه الأديب أبو عبد الله بن محمّد بن أحمد بن الحداد الشهير بالوادي آشى، نزيل تلمسان: كان على ظهر النسخة الرائقة الجمال، والفائقة الكمال، من الإحاطة، في تاريخ غرانطة، المحبسة على المدرسة اليوسفيه، من الحضرة العليه، بخط قاضي الجماعة، ومنفذ الأحكام الشرعية المطاعة، صدر البلغاء، وعلم العلماء، ووحيد الكبراء، وأصيل الحسباء، الوزير المعظم أبي يحيى بن عاصم رحمه الله، ما نصه:

" الحمد لله، الاستدلال بالأثر على المؤثر مما سلمه الإعلام، وشهدت به العقول الراجحة والأحلام، وهو الحجة المعتمدة حين تتفضل الألباب، وتتقصر الأفهام، وبه الاستمساك إنَّ طرقت الشكوك، أو عرضت الأوهام. وحسبك بما يسلم في هذا المقام المتعالى من الأدلة، وما يعتمد في هذا المجال المتضايق من البراهين المستقلة؛ فتحقيق أنَّ يتلقى هذا النوع من الاستدلال فيما دون الفن المشار إليه بالقبول، ويستقبل المهتدي لاستنباطه لمّا فيه من التبادر إلى الأفهام والتسابق للعقول؛ وإذا ثبت أنَّ المستدل بهذه الأدلة سالك على سواء سبيل، ومنتمٍ من صحة النظير إلى أكرم قبيل، فلا خفاء إنَّ كتاب " الإحاطة " للشيخ الرئيس ذي الوزارتين أبي عبد الله بن الخطيب رحمه الله، من أثر هذه الدولة النصرية أدامها الله بكل اعتبار، ومآثرها التي هي عبرة لأولي الألباب، وذكرى لأولي الأبصار. أما الأول فلأن الأنباء التي أظهرت صحتها، وأوضحت حجتها، وشرفت مقصدها، وكرمت مصعدها، وإنّما هي مناقب ملوكها الكرام، ومكارم خلفائها الأعلام، وأخبار من اشتملت عليه دولتهم الشريفة من صدور حملة السيوف والأقلام؛ وأفذاذ حفظة الدين والدنيا، والشرف والعليا، والملك والإسلام؛ أو ما يرجع إلى مفاخر حضرة الملك، وينظم نظم الجمان في ذلك السلك، من حضانة قلعتها، وأصالة منعتها؛

وقديم اختطاطها، وكريم جهادها ورباطها؛ وحسن ترتيبها ووضعها، وما اشتمل عليه من مقاصد الأنس أهل ربعها؛ وما سوى هذه الأقسام الثلاثة فمن قبيل القليل، ومما يرجع إلى شرف الحضرة، ممن انتابها من أهل الفضل الواضح والمجد الأثيل. وأما ثانياً فإنَّ راسم آياتها المتلوه، ومبدع محاسنها المجلوة، وناقل صورتها من الفعل إلى القوه، وإنّما هو حسنة من حسنات هذه الدولة النصرية الكريمة، ونشأة من نشأت جودها الشامل النعمة، الهامل الديمة، فما ظهر عليه من كمالات الأوصاف، على الإنصاف، فأخلاف هذه المكارم النصرية أرضعته، وعنايتها الجميلة أسمته، فوق الكواكب ورفعته؛ وإليها ينسب إحسان إنَّ انتسب، منشؤه الذي عظم فيه قدره، بل افقه الذي اشرق فيه بدره؛ والتشريفات السلطانية هي التي فتقت اللهى باللهى، وأحلت من مراق العز فوق السها؛ وأمكنت الأيدي من الذخائر والأعلاق، وطوقت المنن كالقلائد في الأعناق؛ وقلدت الرياسة والأقلام أعلام؛ فبهرت أنواع المحاسن، وورد معين البلاغة غير المطرق ولا الآسن؛ وبرعت التواليف، في الفنون المتعددة، واشتهرت التصانيف، ومنها هذا التصنيف المشار إليه، لمّا له

من الأذمة المتأكدة. وإذا ظهر هذا الاستدلال، وأوضح البيان ما كتمه الإجمال، فلنفضح الآن بما قصد، ولنلحق من انجم السعادة ما رصد، وذلك أن لمولاي أمير المؤمنين، المجاهد في سبيل رب العالمين، الغالب بالله، المؤيد بنصره أبي عبد الله، محمد بن الخلفاء النصريين أيده الله ونصره، وسنى له الفتح المبين ويسره مآثر لم يسبق إليها، ومكارم لم يجر أحد ممن وسم بالكرم عليها، لجلالة قدرها، وضخامة أمرها، من ذلك هذا للقصد الذي آثر لها كالكتاب المذكور وسواه مما هو أحد وفذلك في معناه؛ عقد جميعها التحبيس على أهل العلم والطلبة بحضرته العلية هنالك، ليشتمل به الامتناع، ويعم به الانتفاع؛ والله ينفع بهذا القصد الكريم، ويتولى المثوبة على هذا العقد الجسيم. وهذه النسخة في أثنى عشر سفراً، متفقة الخط والعمل، أكتتب هذا على ظهر الأول منها بتاريخ رجب الفرد، عام تسعة وعشرين وثمان مائة، عرف الله بركته بمنة، آمين ". انتهى. وقال الوزير أبو يحيى بن عاصم المذكور، قدس الله روحه الطيبة، وسقى مثواه غيث رحمته الصيبة، في كتابه المسمى ب " الروض الأريض، في ترجمة شموس العصر، من ملوك بني نصر "، في اسم الغني بالله محمّد بن يوسف بن إسماعيل أبن فرج بن نصر الخزرجي، بعد كلام ما نصه:

" كان قد جرى عليه التمحيص الذي أزعجه عن وطنه، إلى الدار البيضاء بالمغرب من إيالة بني مرين، فأفاده الحنكة والتجربة هذه اليسيرة التي وقف شيوخها على تحقيقها، وانتهجوا واضح طريقها، وبلغتنا منقولة بألسنة صدقهم، معبراً عنها في عرف التخاطب بالعادة، فلم يكن الوزير الكيس، والرئيس الجهبذ يجريان من الاستقامة على قانون، ولا يطردان من الصواب على أسلوب، إلاّ بالمحافظة على ما رسم من القواعد، والمطابقة لمّا ثبت من العوائد، وكان ذوو نبل من هذه الطبقة، وأولو الحذق من أرباب هذه المهن السياسية، يتعجبون من صحة اختيارها لمّا رسم، وجوده تمييزه لمّا قعد، ويرون المفسدة بالخروج عنها ضربة لازب، وأنَّ الاستمرار على مراسمها آكد واجب؛ فيتحرونها بالالتزام كما تتحرى السنن، ويتوخونها بالإقامة كما تتوخى الفرائض، وسواء تبادر لهم معناها ففهموه، أو خفي عليهم وجه رسمها فجهلوه ". حدثني شيخنا القاضي أبو العباس أحمد بن أبي القاسم الحسني: أنَّ الرئيس أبا عبد الله بن زمرك دخل على الشيخ ذي الوزارتين أبي عبد الله بن الخطيب يستأذنه في جملة مسائل، مما يتوقف عادة على إذن الوزير، وكان معظمها فيما يرجع إلى مصلحة الرئيس أبي عبد الله. قال الشريف: فأمضاها كلها له، ما عدا واحدة منها تضمنت نقص عادة مستمرة، فقال له ذو الوزارتين

أبن الخطيب: لا والله يا رئيس أبا عبد الله، لا آذن لك في هذا، لأنا ما استقمنا في هذه الديار إلاّ بحفظ العوائد. ثم قال صاحب الروض: فلما تأذن الله تعالى للدولة بالاضطراب، واستحكم الوهن بتمكن الأسباب، عدل عن هذه القواعد الراسخة، واستخف بتلك القوانين الثابتة؛ فنشأ من المفاسد ما أعوز رفعه، وتعدد وتره وشفعه، واستحكم ضرره حتى لم يمكن دفعه، وتعذر فيه الدواء الذي يرجى نفعه، وكان قد صحبه من الجد ما سنى آماله، وانجح بأذن الله أقواله وأعماله؛ فكان يجري الأمر على رسم من السياسة واضح، ونطر من الآراء السديدة راجح؛ ثم يحفه من الجد السياج لا يفارقه، إلى تمام الغاية المطلوبة من حصوله، وتمكن مقتضى الإرادة السلطانية من فروعه وأصوله. انتهى كلام أبن عاصم، وإنّما أتيت به لغرابته. وقال أبو عبيد البكري رحمه الله: " الأندلس شامية في طيبها وهوائها، يمانية في اعتدال استوائها، هندية في عطرها وذكائها، أهوازية في عظم جبايتها، صينية في جواهر معادنها، عدنية في منافع سواجلها، فيها آثار عظيمة لليونانيين ".

قال ذو الوزارتين أبو عبد الله بن الخطيب: خص الله بلاد الأندلس من الريع، وغدق السقيا، ولذاذة الأقوات، وفراهة الحيوان، ودرور الفواكه، وكثرة المياه، وتبحر العمران، وجودة اللباس، وشرف الآنية وكثرة السلاح، وصحة الهواء، وابيضاض ألوان الإنسان، ونبل الأذهان، وقبول الصنائع، وشهامة الطباع، ونفوذ الإدراك، وإحكام التمدن والاعتمار، بما حرمه الكثير من الأقطار، مما سواها. ثم قال: وحديث الفتح، وما فتح الله على الإسلام من المنح، وأخبار ما أفاء الله من خير، على موسى من نصير، وكتب من جهاد، لطارق بن زياد، مملول قصاص وأوراق، وحديث أفول وإشراق، وإرعاد وإبراق؛ وعظم امتشاش. وآلة معلقة في دكان قشاش. انتهى. ولا خفاء بما كان لملوك المسلمين بالأندلس والعداوة على النصارى. دمرهم الله من الاستطالة والغلبة، حتى وقع التخاذل والتدابر، فأنعكس الأمر. وقد حكي غير واحد أنَّ دن جناحه بن دن افنش، استنصر على أبيه بالسلطان المجاهد أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني، ولاذ به، ورهن عنده تاجه ذخيرة النصارى، ولقيه بصخرة عباد، من أحواز رنده، فسلم عليه،

ويقال إنَّ أمير المسلمين لمّا فرغ من ذلك، طلب بلسان زناتة الماء، ليغسل يده به من قبلة الفنش، أو مصافحته. أبن الخطيب: " والشيء يذكر بالشيء، فأثبت حكاية اتفقت بسبب ذلك، استدعى بها الدعاء ممن يحسن عنده موقعها، وهي أنَّ اليهودي الحكيم أبن زرزار، على عهد ملك النصارى، حفيد هذا الفنش المذكور، وصل إلينا بغرناطة في بعض جوائجه، وحخل إلى بدار سكناي، مجاوراً لقصر السلطان بحمراء غرناطة، وعندي القاضي اليوم بغرنطة وغيرها من أهل الدولة، وبيده كتاب من سلطان المغرب محمّد بن أبي عبد الرحمن بن السلطان الكبير المولى أبي الحسن، وكان محمّد هذا قد فر إلى صاحب قشتالة، واستدعى من قبله إلى الملك، فسهل له ذلك، وشرط عليه ما شاء، وربما وصله خطابه بما لم يقنعه في إطرائه، فقال لي: مولاي السلطان دن بطرة يسلم عليك، ويقول لك: انظر مخاطبة هذا الشخص، وكان بالأمس كلباً من كلاب بابه، حتى ترى خسارة الكرامة فيه، فأخذت الكتاب من يده، وقرأته وقلت له: ابلغه عني أنَّ هذا الكلام ما جرك إليه إلاّ خلو بابك من الشيوخ، الذين يعرفونك بالكلاب والأسود، وبمن تغسل الأيدي منهم إذا قبلوها، فتعلم من الكلب الذي تغسل اليد منه، ومن لا، وأنَّ جد هذا الولد هو الذي قبل جدك يده،

واستدعى الماء ليغسل يديه منه بمحضر النصارى والمسلمين؛ ونسبة الجد إلى الجد كنسبة الحفيد إلى الحفيد؛ وكونه لجأ إلى بلادك بعار عليه، وأنت معرض إلى اللجإ إليه، فيكافئك بأضعاف ما عاملته به. فقام أبن الحسن المستقصي يبكي ويقبل يدي، ويصفني بولي الله، وكذلك من حضرني. وتوجه إلى المغرب رسولا، فقص على بني مرين خبر ما شاهد مني وسمعه؛ وبالحضرة اليوم ممن تلقى منه ذلك كثير، جعل الله ذلك خالصاً لوجهه ". انتهى. ولمّا تقلص ظل الإسلام بالجزيرة، أعداها الله للإسلام، واسترد الكفار، دمرهم الله، أكثر أمصارها وقراها، على وجه العنوة والصلح والاستسلام، ويستنهضون عزماتهم من كل الأمصار. فمن ذلك ما كتب به الكاتب الرئيس أبو عبد الله بن زمرك رحمه الله لمّا نزل المسلمون بآخر مرج غرناطة، متوجهين لفج خير: " أعلموا أنا نذكر لكم ما لا يغيب عن أديانكم وأحسابكم، إنَّ هذا الجهاد وليمة دعا الله عباده إليها، وحضهم عليها، فالآيات في المصاحف مسطوره، والأحاديث مشهورة، لبيع النفوس فيها من الرحمن، وبذل المهج رغبة في حصول ثواب الملك والديان، ينزل الله فيها الملائكة المسومين. وتفرح الحور العين، وتسح الرحمة من رب العالمين، ويباهي الله ملائكته بالمجاهدين؛ وقد

تضافرت على ذلك النصوص، وكفى شرفا الفوز بمحبة الله في قوله) إنَّ الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص (؛ فينبغي فيه الاستغفار من سالف الذنوب، وتطهير السرائر والقلوب، واجتماع الأيدي والكلمة في مرضات علام الغيوب ". وابلغ منه ما كتب به ذو الوزارتين أبو عبد الله بن الخطيب في الحث على الجهاد، والترغيب فيه، وهو: " أيها الناس، رحمكم الله، إخوانكم المسلمون قد دهم العدو قصمه الله ساحتهم، ورام الكفر قبحه الله استباحهم؛ وزحفت أحزاب الطواغيت عليهم، ومدينة الصليب ذراعيه إليهم؛ وأيديهم بعزة الله أقوى، وانتم المؤمنون أهل البر والتقوى؛ وهو دينكم فانصروه، وجواركم القريب فلا تحفزوه، وسبيل الرشد قد وضح فلتبصروه. والجهاد، فقد تعين الجار الجار، فقد قرر الشرع حقه وبين الله اللهَ في الإسلام، الله اللهً في أمة محمّد عليه السلام؛ الله اللهَ في المساجد المعمورة بذكر الله، الله اللهَ في وطن الجهاد في سبيل الله، قد استغاث بكم الدين فأغيثوه، قد تأكد عهد الله وحاشاكم أنَّ تنكثوه؛ أعينوا إخوانكم بما أمكن من الإعانة، أعنكم الله عند الشدائد، جددوا عوائد الخير، يصل الله لكم ميل العوائد؛ صلوا رحم الكلمة، وآسوا أنفسكم وأموالكم تلك الطوائف المسلمة؛ كتاب الله بين أيديكم، وألسنة الآيات تناديكم، وسنة رسول الله) قائمة فيكم، والله يقول فيه:) يأيها الذين آمنوا هل أذلكم على تجارة تنجيكم (. ومما صح عنه قوله: " من اغبرت قدماه في سبيل

الله حرمها الله على النار ". " لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم ".) ومن جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا (. أدركوا رمق الدين قبل أن يفوت بادروا عليل الإسلام قبل أن يموت احفظوا وجوهكم مع الله يوم يسألكم عن عباده جاهدوا في الله بالألسن والأموال حق جهاده: ماذا يكون جوابكم لنبيكم ... وطريق هذا العذر غير ممهد إن قال لم فرطتم في أمتي ... وتركتوهم للعدو المعتدي تالله أن العقوبة لم تخف ... لكفى من وجه ذاك السيد اللهم اعطف علينا قلوب العباد اللهم بث لنا الحمية في البلاد اللهم دافع

المربني نص محل الحاجة لنا منها: " ولا شك عند عاقل أنكم إن انحلت عروة تأميلكم أو أعرضتم عن ذلك الوطن استولت عليه يد عدوه ". انتهى. فكتب بطرته أبو عبد الله الوادي آشي المذكور ما نصه: " كذلك وقع آخر الأمر. وكان الاستيلاء على غرناطة آخر ما بقي من بلاد اللأندلس للإسلام في محرم عام سبة وتسعين وثمان مائة فرحم الله أبن الخطيب العاقل اللبيب وغفر له برحمته ". انتهى كلام الوادي آشي. على أنه يظهر في كلام بعضهم أن الصلح كان في محرم ودخول الجيش القصبة الحمراء كان في ربيع فلا منافاة والله أعلم. ورأيت بخط الإمام الوانشريشي سيدي عبد الواحد رحمه الله ما نصه: " استولى العدو على جبل الفتح سنة ستّة وستين وثمان مائة وعلى الحمة تاسع المحرم يوم الخميس عام سبعة وثمانين وثمان مائة وفي عام خمسة وتسعين وثمان مائة استولى العدو على جميع بلاد الأندلس ما عدا غرناطة وبشرتها وكان قبله في عام اثنين وتسعين استولى على مالقة في رمضان منه وفي عام سبعة وتسعين استولى على غرناطة ". انتهى.

ولمّا دخل النصارى إلى الحمراء خرج أميرها أبو عبد الله بن محمّد بن أبي الحسن علي النصري واشترط المسلمون على العدو الكافر شروطا أظهر قبولها وبسط لهم جناح العدل حتى بلغت بزعمهم نفوسهم مأمولها وكان من جملتها أن من شاء البقاء عنده أقام في ظل الأمان مكرما ومن أراد الخروج إلى بر العدوة أنزل بأي بلاد شاء منها من غير أن يعطي كراء ولا مغرما وأظهر للمسلمين العناية والاحترام حتى كان النصارى يحسدونهم على ذلك ويقولون لهم: أنتم عند ملوكنا أعز وأكرم منا ووضع عنهم المغارم حيلة منه وكيدا ليغرهم بذلك ويثبطهم على الجواز. فوقع الطمع لكثير من الناس وظنوا أن ذلك البرق ليس بخلب فاشترى كثير من المقيمين الرباع العظيمة ممن أراد الذهاب للعدوة بأرخص الأثمان وأمر لعنه الله بانتقال سلطة غرناطة أبي عبد الله إلى قرية أدرش من قرى البشرة فارتحل أبو عبد الله بعياله وحشمه وأقام بها ينتظر ما يؤمر به ثم ظهر للطاغية أن يجيزه إلى العداوة فأمر بالجواز وأعد له المراكب العظيمة وركب معه كثير من المسلمين ممن أراد الجواز حتى نزلوا بمليلة من ريف المغرب ثم ارتحل السلطان أبو عبد الله إلى مدينة فاس حرمها الله وما زال أعقابه بها إلى الآن من جملة الضعفاء السؤال عبد الملك الطويل العريض فسبحان المعز المذل المانح المانع لا إله إلاّ هو.

وكان خلع أبيه أبي الحسن يوم الأحد ثالث جمادى الأخرى من عام تسعين وثمان مائة، خلعه أخوه، ودخل أبو عبد الله المذكور، أبن أبي الحسن بض البيازين سادس عشر شوال عام واحد وتسعين، وافتك ملك أبيه من يد عمه، وتوفى رحمه الله بفاس عام أربعة وعشرين، وتسع مائة، ودفن بإزاء المصلى، خارج باب الشريعة، وخلف ولين، اسم أحدهما يوسف، والآخر محمّد وعقبه بها الآن بها كما ذكرناه والله وارق الأرض ومن عليها والله خير الوارثين. وكان من قدر الله تعالى أنهم لمّا وصلوا مدينة فاس أصاب الناس بها شدة عظيمة من الجوع والغلاء والطاعون حتى فر كثير منها بسبب ذلك ورجع بعض أهل الأندلس إلى بلادهم فأخبروا بتلك الشدة فتقاعس من أراد الجواز وعزموا على الإقامة والدجن ولم يجز النصارى أحد بعد ذلك إلاّ بالكراء والمغرم وعشر المال فلما رأى الطاغية أن الناس قد تركوا الجواز وعزموا على الاستيطان والمقام في الوطن أخذ في نقض الشروط التي اشترط عليه المسلمون أول مرة ولم يزل ينقضها فصلا فصلا إلى أن نقض جميعها وزالت حرمة المسلمين وأدركهم الهوان والذلة واستطال عليهم النصارى وفرضت عليهم المغارم الثقيلة وقطع عنهم الأذان في الصوامع وأمرهم بالخروج من غرناطة إلى الأرباط والقرى فخرجوا أذلة صاغرين ثم بعد ذلك دعاهم إلى التنصر وأكرههم عليهم وذلك سنة أربع وتسع مائة فدخلوا فيه كرها وصارت الأندلس كلها

دار كفر ولم يبق من يجهر بكلمة التوحيد والأذان وجعلت في المساجد والمآذن النواقيس والصلبان بعد ذكر الله تعالى وتلاوة القرآن فإنا لله وإنا إليه راجعون لا راد لمّا قضاه الله الملك الديان. وقد رأيت لبعضهم رسالة ببعض شرح ذلك ونصها: " وتعرفنا من غير ما طريق وعلى لسان غير فريق أن قطر الأندلس نظر الله إليه عاد بنوره عليه طرق أهله خطب لم يجر في سالف الدهر وذلك أنهم أكرهوا بالقتل إن يقع منهم النطق بما يقتضي في الظاهر الكفر ولم يقبل منهم الأشر وكان الابتداء في ذلك من أهل غرناطة جدد الله رسمها وأعاد إلى بلاد المسلمين أسمها وخصوصا أهل واسطتها لقلة الناس وكونهم من الرعية الدهماء مع عدم العصبية بسبب اختلاف الأجناس علم النصارى دمرهم الله بأن من يقي بها من المسلمين إنما هم إسارا في أيديهم وعيال عليهم وبعد أن انتزعوا منهم الأسلحة والمعاقل وعتوا فيهم بالخروج والجلاء فلم يبق من المسلمين طائل ونقض اللعين طاغية النصارى عهوده ونشر بمحض الغدر بنوده من غير معذرة لفقها ولا كذبة من معرض العذر نمقها إلاّ أعجاز من الكفر وصدورا من الغيض والمكر وخالص لغدر جمعها وفرقها وكان الطاغية إذا ذاك باشبيلية جبرها الله وجعل بها قدره ووقى المسلمين والإسلام شره وبعد أن كان قبل قد انسل إلى غرناطة انسلال

القطا إلى الماء وطلع إليها طلوع الرقيب على خلوات الأحباء وأمر بإخلاء الأرباض وأذن بالسفر في البحر للأبعاض ولم يحضر من الأجفان إلاّ القليل وما كان قصده إلاّ التفريق والتهويل على ما عهد من غدر النصارى وطغيانهم وفعلهم الذميم مع المسلمين وثورانهم والإعلان بمحنتهم والحرص على ارتدادهم وفتنتهم وأقام بعد انصرافه عنها وخروجه منها بأشبيلية مديدة وعقاربه لأشياعه من النصارى بغرناطة تدب وتسري ونفسه الخبيث بالعاب تفري ثم انتقل عن الواسطة للبيازين حيث الحمية والنصرة الإيمانية ومع السراجة والنحية والعقل الرصين والدين المتين فجعل صعبها ذلولا وأعاد للكفر كرها من كان بحضرتها وتمتع أحزاب الشيطان قصمهم الله بنضرتها نسأل الله تعالى أن يجعل تمتعه قليلا ". وزيادة الخبر: " أن الطاغية قشتالة وأرغون قصمه الله صدم غرناطة صدمة وأكره على الكفر من بقي بها من الأمة بعد أن هيض جناحهم وركدت رياحهم وجعل بعد جنده الخاسر على جميع جهات الأندلس ينثال والطاغية يزدهي في الكفر ويختال ودين الإسلام تنثر بالأندلس نجومه وتطمس معالمه ورسومه فلوا رأيتم ما صنع الكفر بالإسلام بالأندلس لكان

كان مسلم يندبه ويبكيه فقد عبث البلاء برسومه وعفى على أقماره ونجمه ولو حضرتم من جبر بالقتل على الإسلام وتوعد بالنكال والمهالك العظام ومن كان يعذب في الله بأنواع العذاب ويدخل به من الشدة في باب ويخرج من باب لأنساكم مصرعه وساءكم مفظعه وسيوف النصارى إذ ذلك على رؤوس الشرذمة القليلة من المسلمين مسلوله وأفواه الذاهلين محلوله وهم يقولون ليس لأحد بالتنصر أن يمطل ولا يلبث حينا ولا يمهل وهم يكابدون تلك الأهوال ويطلبون لطف الله في كل حال ". انتهى. وكان جمعة من علماء الأندلس خرجوا إلى تلمستان منهم القاضي الشهير أبو عبد الله بن الأزرق صاحب الشرح العجيب على مختصر خليل وكتاب السياسة الملخص من مقدمة تاريخ أبن خلدون وفيه زيادات بديعات وكتاب روضة الأعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام وغير ذلك وأرتحل من تلمستان إلى المشرق وسنلم بذكر. ومنهم بنو داود المذكورون في فهرسة الشيخ أبن غازي وهؤلاء خرجوا من الأندلس قبل أخذ غرناطة ولكن لمّا رأوا استطالة العدو عليها وأنّه آخذها لا محالة قوضوا رحالهم عنها فنزلوا بتلمستان المحروسة وأخذة الحضرة الغرناطية بعد ارتحالهم بقريب رحمهم الله. ومنهم الفقيه الأديب حائز قصب السبق في كثرة النسخ والكتابة أبو عبد الله محمّد بن الحداد الشهير بالوادي آشي وسنذكره إن شاء الله رحم

الله الجميع. وممن خرج بفاس من العلماء أبو لعباس البقي ثم رجع إلى غرناطة وقضيته معروفة. ولا بأس أن نورد كتاب السلطان أبي عبد الله محمّد بن الأحمر المخلوع المذكور الذي بعث به لصاحب فاس في ذلك العهد تمهيدا لعذره وتوطئة لمقصده وتطارحا على تلك الأبواب وتملقا وتمسكا بذلك الجناب وتعلقا وهو في الغاية الفصاحة والبلاغة من إنشاء الفقيه الأديب الشاعر الناظم الناثر الكتب المجيد البارع البليغ أبي عبد الله محمّد بن عبد الله العربي العقيلي رحمه الله وسماه بالروض العاطر الأنفاس في التوسل إلى المولى الإمام سلطان فاس ونصه بعد الافتتاح: مولى الملوك ملوك العرب والعجم ... رعيا لمّا مثله يرعى من الذم بك استجار ونعم الجار أنت لمن ... حار الزمان عليه جور منتقم حتى غدا ملكه بالرغم مستلبا ... وأفظع الخطب ما يأتي على الرغم حكم من الله حتملا مرد لم ... وهل مرد لحكم منه منحتم

وهي الليالي وقاك الله صولتها ... تصول حتى على الآساد في الأجم كنا ملوكا لنا في أرضنا دول ... نمنا بها تحت أفنان من النغم فأيقظتنا سهام للردى صيب ... يرمى بأفجع حتف من بهن رمي فلا تنم تحت ظل الملك نومتنا ... وأي ملك بظل الملك لم ينم يبكي عليه الذي قد كان يعرفه ... بأدمع مزجت أمواهها بدم كذلك الدهر لم يبرح كما زعموا ... يشم بو الصغار الأنف ذا الشمم وصل أواصر قد كانت اشتبكت ... فالملك بين ملوك الأرض كالرحم وأبسط لنا الخلق المرجو باسطه ... واعطف ولا تنحرف وأعذر ولا تلم لا تأخذنا بأقوال الوشاة ولم ... نذنب ولو كثرت أقوال ذي الوخم فما أطقنا دفاعا للقضاء وما ... أرادت أنفسنا ما حل من نقم ولا ركوبا بإزعاج لسابحة ... في زاخر بأكف الموج ملتطم والمرء ما لم يعنه الله أضيع من ... طفل تشكي بفقد الأم في اليتم وكل ما كان غير الله يحرسه ... فإن محروسه لحم على وضم

كن كالسمؤل إذ سار الهمام له ... في جحفل كسواد الليل مرتكم فلم يبح أدرع الكندي وهو يرى ... أن ابنه البر قد أشفى على الرجم أو كالمعلى مع الضليل الأروع إذ ... أجاره من أعاريب ومن عجم وصار يشكره شكرا يكافئ ما ... أسدى إليه من الآلام والنعم ولا تعاتب على أشياء قد قدرت ... وخط مسطورها في اللوح بالقلم وعد عما مضى إذ لا ارتجاع له ... وعد أحرارنا في جملة الخدم إيه حنانيك يا بن الأكرمين على ... ضيف ألم بفاس غير محتشم فأنت أنت ولولا أنت ما نهضت ... بنا إليها خطا الوخادة الرسم رحماك يا رحما ينمي إلى رحما ... في النفس والأهل والأتباع والحشم فكم مواقف صدق في الجهاد لنا ... والخيل عالك الأشداق للجم والسيف يخضب بالحمر من علق ... ما ابيض من سبل وأسود من لمم ولا ترى صدر عضب غير منقصف ... ولا ترى متن لدن غير منحطم

حتى هينا بدهيا لا اقتدار بها ... سوى على الصون للأطفال والحرم فقال من لم يشاهدها فربتما ... يخال جامحها يقتاد بالخطم هيهات لو زبنته الحرب كان بها ... أعيا يدا من يد جالت على زلم تالله ما أضمرت غشا ضمارنا ... ولا طوت صحة منها على سقم لكن طلبنا من الأمر الذي طلبت ... ولاتنا قبلنا في الأعصر الدهم فحاننا عنده الجد الخئون ومن ... تقعد به نكبات الدهر لم يقم فاسود ما اخضر من عيش دهته عدا ... بالأسمر اللدن أو بالأبيض الخدم وشتت البين شملا كان منتظما ... والبين أقطع للموصول من جلم فرب مبنى شديد قد أناخ به ... ركب البلا فقرته أدمع الديم قمنا لديه أصيلانا نسائله ... أيا جوابا وما بالربع من أرم وما ظننا بإن نبق إلى زمن ... نرى به غرر الأحباب كالحمم لكن رضا بالقضا الجاري وإن طويت ... منا الضلوع على برح من الألم

لبيك يا من دعانا نحو حضرته ... دعاء إبراهيم الحجاج للحرم وأعط الأمن الذي رصت قواعده ... على أساس وفاء غير منهدم خليفة الله وافاك العبيد فكن ... في كل فضل وطول عند ظنهم وبين أسلافنا ما قد علمت به ... من اعتقاد بحكم الإرث مقتسم وأنت منهم كأصل مطلع غصنا ... أو كالشراك الذي قد قُدَّ من أدم وقد خطوت خطاهم في مآثرهم ... فلم يذموا إذن فيها ولم تذم وصيت مولى الورى الشيخ الإمام غدا ... في الناس أشهر من نار على علم سلالة الأمراء الجلة الكبارا ... العليلة الظهراء القادة البهم بنو مرين ليوث في عرين أبوا ... رؤيا قرين لهم في البأس والكرم النازلين من البيضاء وسط حمى ... أحمى من الأبلق السامي ومن إرم والجائسين بجهم الخيل كل ذرى ... والدعسين بسمر الخط كل كمي يريك فارسهم إن هز عامله ... في مأزق بلظى الهيجاء مضطرم

ليثا على أجدل عار من أجنحة ... يسطو بأرقم لداغ بغير فم في اللام يدغم من عساله ألفا ... ولم نجد ألفا أصلا بمدغم أهل الحفيظة يوم الروع يحفظهم ... من عصمة الله ما يربى على العصم بأس تطير شرار منه محرقة ... لكل مدرع بالحزم محتزم هم بطائفة التثليث قد فتكوا ... كمثل ما يفتك السرحان بالغنم وإن يلثمهم يوم الوغى رهج ... أنسوك ما ذكروه عن ذوى اللثم تضئ آراؤهم في كل معضلة ... إضاءة السراج في داج من الظلم هذا ولو من حيا ذاب محتشم ... لذاب منهم حياء كل محتشم طابت مدائحهم إذ طابت أنفسهم ... فاشتاقت النسمات أسما من النسم لله درهم والسحب باخلة ... بدرهن على الأنعام والنعم بحيث الأفق من لون حمرته ... كالشيب يخضب بالحناء والكتم

هناك تنهل أيديهم بصوب حيا ... يحيى بالاجداث ما فيها من الرمم وإن بيتي زيادة طالما ذكروا ... إذا ألمت أحاديث بذكرهم أحلام عاد وأجساد مطهرة ... من العقمة والآفات والأثم يرون حقا عليهم حفظ جارهم ... فلم يضر نازل فيهم ولم يضم فروعه بالدواهي لا يراع ولا ... يغنم منها بما يعرو من الغنم هم البحار سماحا غير أن بها ... ما قد أناف على الأطواد من همم وليس يسلم من حتفه محاربها ... حتى يكون إليهم ملقى السلم كم فيهم من أمير أوحد ندس ... يقرطس الغرض المقصود بالفهم ولا كسبط أبى حسون من حسنت ... أمداحه حسن ما فيه من الشيم هذا كم أبن أبي زكري الهمام فقل ... في اصله المنتقى من مجده العمم

خليفة الله حقا في خليقته ... كنائب ناب في حكم عن الحكم مهما تنر قسمات منه نيرة ... تنل بنان له ما جل من نعم فوجهه بدجى وكفه بجدا ... أبهق من الزهر أو أندى من الديم وفضله وله الفضل المبين جرى ... كجري الأمثال في الأقطار والأمم وجوده المتوالى للبرية ما ... وجوده بينها طرا بمنهدم إذا ابتغت نعما منه العفاة له ... لم سمعوا كلمة منه سوى نعم وإن يعبس زمان في وجوههم ... لم يبصروا غير وجه منه مبتسم وجه تبين سمات المكرمات به ... كما تبين سمات الصدق في الكلم وراحة لم تزل في كل آونة ... في نيلها راحة الشاكي من العدم لله ما التزمته من نوافله ... أيام لا فرض مفروض بملتزم أنسى الخلائف في حلم وفي شرف ... وفي سخاء وفي علم وفي فهم فجاز معتمدا منهم ومعتضدا ... وامتاز عن قائم منهم ومعتصم وناصر الدين في الإقبال فاق وفي ... محبة العلم أزرى بابنه الحكم أفعال أعدائه معتلة أبدا ... متى يرم جزمها بالحذف تنجزم

فويل أهل الفلا من حية ذكر ... للمتلئب اللهام المجر ملتقم رامو عداوة من إن شاء غادرهم ... مثل الأحاديث عن عاد وعن إرم فسوف يأكل من جيشه لجب ... بكل قرم إلى لحمانهم قرم وإن الأعراب إذ ساروا لغابته ... لسائرون إلى لقم على لقم وهم كما قاله ماض: أرى قدمي ... بسعيه نحو حتفي قد أراق دمي فقل إذن للمناوي الناوي الآن الأذى ... ياغر غرك ما أبصرت في الحلم له صوارم لو ناجتك السنها ... لبشرتك بعمر منك منصرم وإن روحك عن قرب سيقبضه ... قبض المسلم ما قد حاز من سلم فهو الذي ما له ند يشابهه ... من كل متصف بالدهي متسم يدبر الأمر تدبيرا يخلصه ... مما عسى أن يرى فيه من الوهم ويبصر الغيب لحظ الذهن منه إذا ... تعمى أدراجه ألحاظ كل عم

وينعم النظر المفضى بناظره ... لصوب وجه صواب واضح اللقم ذو منطق لم تزل تجلوا نتائجه ... عن مبطل بخصم المبطل الخصم ومسمع ليس يصغي للوشاة فلم ... ينفق لديه الذي عنهم إليه نمي فعقله لا توازيه العقول وهل ... يوازن الطود ما قد طال من أكم إيه جميع الورى من بدو أو حضر ... نداء مرتيط بالنصح مرتسم شدوا وجدوا ولا تعنوا ولا تهنوا ... قد لفها الليل بالواقة الحطم هذا الأمير المريني السعيد له ... سعد يؤيده في كل مصطدم قد أقسمت أنه المنصور ألسنة ... من نخبة الاوليا مبرورة القسم فشيعوه ووالوه تروا عجبا ... وتظفروا معه بالأجر والغنم والحمد لله إذ أبقى خلافته ... كهفا لنا من يخيم فيه لم يرم حرز حريز وعز قائم وندى ... غمر دراك بلا من ولا سأم

دامت ودام لها سعد يساعدها ... في كل مبتدأ منه ومختتم فالله عز أسمه قد زانها بحلى ... من غر امداحه كالدر في النظم الواهب الألف بعد الألف من ذهب ... كالجمر يلمع في مستوقد الضرم والفاعل لم يهمم به أحد ... والقائل القول فيه حكمة الحكم ذاكم هو الشيخ فاعجب أنّه هرم ... جودا وحاشاه أن يعزى إلى هرم وحسبنا أن أيدينا به أعتصمت ... من حبله بوثيق غير منفصم فما محالفه يوما بمضطهد ... ولا موالفه يوما بمهتضم ولا موافيه في جهد بمطرح ... ولا مصافيه في ود بمتهم ولا محيا محيه بمنكسف ... ولا راجاء مرجيه بمنخرم وما تكرمه سرا بمنكشف ... ولا تنكره جهرا بمكتتم وليس لامح مرآه بمكتئب ... وليس راضع جدواه بمنفطم ولا مقبل يمناه الكريمة في ... محل ممتهن بل دست محترم وما وسيلتنا العظمى إليه سوى ... ما ليس ينكر ما فيها من العظم وإنّما هي وما أدراك ما هي من ... وسيلة ردها أدهى من الرضم

نبينا المصطفى الهادي بخير هدى ... محمّد خير خلق الله كلهم داعي الورى من أولى خيم وأهل قرى ... إلى طريق الرشاد لأحب أمم عليه منا صلاة ما ذكرت ... أمن تذكر الجيران بذي سلم وما تشفع فيها بالشفيع له ... دخيل حرمته العلياء في الحرم " ربنا ظلمنا أنفسنا وإنَّ لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ". " أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا أنت خير الراحمين ". " ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ". " ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأنَّ الكافرين لا مولى لهم ". " نعم المولى ونعم النصير ". أما بعد حمد الله الذي لا يحمد على السراء والضراء سواه؛ والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمّد، الذي طلع طلوع الفجر بل البدر فلاح، يدعوا إلى سبيل كل فلاح، أولى قلوب غافلة، ونفوس سواه؛ والرضا عن أصحابه، وعترته الأكرمين وأحزابه، الذين تلقوا بالقبول ما أورده عليهم من أوامر ونواه، وعزروه ونصروه في حالي قربه ونواه. فيا مولانا، الذي أولانا من النعم ما أولانا؛ لا حط الله تعالى لكم من العزة رواقا، ولا أذوى لدوحة دولتكزم أغضانا ولا أرواقا؛ ولا زالت مخضرة العود، متبسمة عن زهرات البشائر متحفة بثمرات السعود، ممطورة

بسحاب البركات المتداركات دون بروق ولا رعود: هذا مقام العائذ بمقامكم، المتعلق بأسباب ذمامكم لعواطف قلوبكم، وعوارق إنعامكم، المقبل الأرض تحت أقدامكم، المتلجلج اللسان عند محاولة مفاتحة كلامكم؛ وماذا الذي يقول من وجهة خجل، وفؤاده وجل، وقضيته المقضية عن التنصل والاعتذار تجل، بيد أني أقول لكم لربى، واجترائي عليه أكثر وإجرامي إليه أكبر: اللهم لا برئ فأعتذر، ولا قوي فأنتصر، لكني مستقيل مستنيل مستعتب مستغفر؛ " وما أبرئ نفسي، إنَّ النفس أمارة بالسوء ". هذا على طريق التنزل والاتصاف، بما تقتضيه الحال ممن يتحيز إلى الإنصاف؛ وأما على وجهة التحقيق، فأقول ما قالته الأم ابنة الصديق: " والله إني لأعلم أني بما يقوله الناس، والله يعلم إني منه بريئة، ولأقولن ما لم يكن، ولئن أنكرت ما تقولون لا تصدقونني، فأقول ما قاله أبو يوسف: صبر جميل، والله المستعان على ما تصفون ". على إني لا أنكر عيوبي، فأنا معدن العيوب، ولا أجحد ذنوبي، فأنا

جبل الذنوب، إلى الله أشكو عجري وبجري، وسقطاتي وغلطاتي. نعم، كل شيء ولا ما يقوله المتقول، المشنع المهول، الناطق بفم الشيطان المسول. ومن أمثالهم: " سبني واصدق ". ولا تفتر ولا تخلق؛ فمثلى كان يفعل أمثالها، ويحمل من الأوزار المضاعفة أحمالها، ويهلك نفسه ويحبط أعمالها؛ عياذاً بالله من خسران الدين، وإيثار الجاحدين والمعتدين، قد ضللت إذن وما أنا من المهتدين. وأيم الله لو علمت شعرة في فودي تميل تميل إلى تلك الجهة لقلعتها، بل لقطفت ما تحت عمامتي من هامتي وقطعتها؛ غير أنَّ الرعاء في كل وقت وأوان، للملك أعدائه وعليه أحزاب وأعوان، كان أحمق وأجهل من أبن ثروان، أو أعقل من أشج بني مروان؛ ورب متهم برئ، ومسربل بسربال وهو منه عري؛ وفي الأحاديث صحيح وسقم، ومن التراكيب المنطقية منتج وعقيم، ولكن ثم ميزان عقل، تعتبر به أوزان النقل؛ وعلى الراجح الاعتماد، ثم إشاعة الإحماد، المتصل المتماد؛ وللمرجوع الأطراح، ثم الذم الصراح، بعد النفض من الراح؛ وأكثر ما تسمعه الكذب، وطبع جمهور الخلق إلا من

عصمة الله إليه منجذب؛ ولقد قذفنا من الأباطيل بأحجار، ورمينا بما لا يرمى به الكفار، فضلا عن الفجار؛ وجرى من الأمر المنقول عن لسان زيد وعمرو، مالكم منه حفظ الجبار؛ وإذا عظم الإنكاء، فعلى تكأة التجلد الاتكاء؛ أكثر المكثرون، وجهد في تعثيرنا المتعثرون؛ ورومنا عن قوس واحده، ونظمونا في سلك الملاحده؛ أكفر أيضاً كفرا! غفراً اللهم غفرا، أعد نظراً يا عبد قيس، فليس الأمر على ما خيل لك ليس، وهل زدنا على طلبنا حقنا، ممن رام محقه ومحقنا؟ فطاردنا في سبيله عداة كانوا لنا غائظين؛ فأنفتق علينا فتق، لم يمكنا له رتق: وما كنا للغيب حافظين. وبعد، فاسأل أهل الحل والعقد، والتميز والنقد؛ فعند جهينتهم تلق الخبر يقينا، وقد رضينا بحكمهم يوثمنا قيوبقنا، أو يبرئنا فيقينا. إيه يا من أشرب إلى ملامنا، وقدح حتى في إسلامنا؛ رويداً رويداً، فقد وجدت قوة وأيداً؛ ويحك، لنما طال لسانك علينا، وامتد بالسوء إلينا، لأن الزمن لنا مصغر، ولك مكبر، والأمر عليك مقبل، وعنا مدبر، كما قاله كاتب الحجاج المدبر.

وعلى الجملة، فهبنا صرنا إلى التسليم مقالك جدلا، وذهبنا فأقررنا بالخطأ في كل وردٍ وصدر، فالله در القائل: إنَّ كنت أخطأت فما أخطأ القدر وكأنا بمعتسف إذا وصل إلى هنا، وعدم إنصافه يعلمه الهنا؛ قد أزور متجانفا، ثم افتر متافنا، وجعل يتمثل بقولهم: " إذا عيروا قالوا مقادير قدرت " وبقولهم: " المرء يعجز لا محالة "؛ فيعارض الحق بالباطل، والحالي بالعاطل، وينزع بقول القائل: " رُبَّ مسمع هائل، وليس تحته من طائل ". وقد فرغنا أوّل أمس من جوابه، وتركنا الضغن يلصق حرارة

الجوى به؛ وسنلم الآن بما يوسعه تسكينا، ويقطعه تبكيتا. فنقول له: ناشدك الله تعالى، هل اتفق لك قط وعرض، خروج أمر ما على القصد منك فيه والغرض؛ مع اجتهادك أثناءه في إصدارك وإيرادك، في وقعه على وفق اقتراحك ومرادك؟ أو جميع ما تزاوله بإرادتك، لا يقع إلا مطابقا لإرادتك؟ أو كل ما تقصده وتنويه، تحرزه كما تشاء وتحويه؟ فلابد أن يقر اضطراراً. بان مطلوبه يشذ عنه مراراً، بل كثيرا ما يفلت صيده من أشراكه، ويطلبه فيعجز عن إدراكه؛ فنقول: ومسألتنا من هذا القبيل: أيها النبيه النبيل؛ ثم نسرد له من الأحاديث النبوية ماشينا، مما يسايرنا في غرضنا منه ويماشينا، كقوله) : " كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس ". وقوله أيضاً: " لو اجتمع أهل السماوات وأهل الأرض على أن ينفعوك بشيء، لم يقض الله لك، ولم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يقض الله عليك، لم يقدروا عليه ". أو كما قال) . فأخلق به أن يلوذ بأكناف الإحجام، يزم على نفثة فيه كأنما ألجم بألجام؛ حينئذ نقول له، والحق قد أبان وجهه وجلاه، وقهره بحجته وعلاه: ليس لك من الأمر شيء قل إن الأمر كله لله. وفي محاجة آدم موسى ما يقطع لسان الخصم، ويرحض عن أثوب أعراضنا ما عسى أنَّ يعلق بها من درن الوصم؛ وكيفما كانت الحال، وإن أساء الرأي والانتحال، ووقعنا في أوجال وأوحال؛ فثل عرشنا، وطويت فرشنا، ونكس لواؤنا، وملك مثوانا، فنحن من سوانا؛ وفي الشر خيار،

ويد اللطائف تكسر من صولة الأغيار؛ فحتى الآن لم نفقد من اللطيف تعالى لطفاً، ولا عمدنا أدوات أدعية تعطف بلا مهلة على جملتنا المقطوعة جمل النعم الموصولة عطفا؛ وإلا فتلك بغداد دار السلام، ومتبوأ الإسلام، المحفوف بفرسان السيوف والأقلام؛ مثابة الخلافة العباسية، ومقر العلماء والفضلاء أولى السير الأويسية، والعقول الإياسية؛ وقد نوزلت بالجيوش ونزلت، وزوولت بالخزوف وزلزلت، وتحيف جوانبها وداخلها كفار التتار عنوة بالسيف، ولا تسل إذ ذاك عن كيف؛ أيام تجلت عروس المنيه، كاشفة عن ساقها مبدية، وجرت الدماء في الشوارع والطرق كالأنهار والأودية، وقيد الأئمة والقضاة تحت ظلال السيوف منتصاة عمائمهم في رقابهم والأردية؛ وللنجيع سيول، تخوضها الخيول؛ فتخضبها إلى أرساغها، وتهم ظماؤها، فتنكل عن تجرعها ومساغها؛ فطاح عاصمها ومستعصمها، وراح ولم يغد ظالمها ومتظلمها؛ وخربت مساجدها وديارها، وأصطلم بالحسام أشرارها وخيارها؛ فلم يبق من جمهور أهلها عين تطرف، حسما عرفت أو حسما تعرف؛ فلا تكن متشكشكا متوقفا؛ فحديث تلك الواقعة الشنعاء أشهر عند

المؤرخين من قفا؛ فأين تلك الجحافل، والآراء المدارة في المحافل؛ حين أراد الله تعالى بإدالة الكفر، ولم تجد ولا قلامة ظفر؛ إذن فمن سلمت له نفسه التي هي رأس ماله، وعياله وأطفاله، واللذان هما من أعظم آماله؛ وكل أو جل أو أقل رياشه، وأسباب معاشه، الكفيلة بإنتهاضه، وانتعاشه؛ ثم وجد مع ذلك سبيلا إلى الخلاص، في حال مياسرة ومساهلة، دون تصب وأعتياض، بعد ما ظن كل الظن أن لا محيد ولا مناص؛ فما أحقه حينئذ وأولاه، أن يحمد خالقه ورازقه ومولاه؛ على ما أسداه إليه من رفد وخيره، ومعافاته مما أبتلي به كثير من غيره؛ ويرضى بكل إيراد وإصدار، وتتصرف فيهما الأحكام الإلهية والأقدار، فالدهر غدار، والدنيا دار مشحونه بالأكدار؛ والقضاء لا يرد، ولا يصد؛ ولا يغلب، ولا يطلب؛ والدائرات تدور، ولا بد من نقص وكمال للبدور؛ والعبد مطيع لا مطاع، وليس يطاع إلا بالمستطاع، والخالق القدير جلت قدرته في خليقته علم غيب، للأذهان عن مداه انقطاع؛ ومالي والتكلف لمّا لا احتاج إليه من هذا القول، بين يدي ذي الجلالة والمجادة والفضل والطول: فله من العقل الأرجح من الخلق والأسجح، ما لا تلتاط معه تمتي بصفره، ولا تنفق عنده وشاية الواشي، لا عد من نفره، ولا فاز قدحه بظفره؛ والموالي يعلم الدنيا تلعب باللاعب، وتجر براحتها إلى المتاعب؛ وقديماً للأكياس من الناس خدعت، وانحرفت عن وصالهم ما كانوا وقطعت،

وفعلت بهم ما فعلت، بيسار الكواعب التي جببت وجدعت، ولئن رهصت وهصرت فقد نبهت وبصرت، ولئن قرعت ومعضت، لقد أرشدت ووعظت؛ ويا ويلنا من تنكرها لنا بمرة، ورمينا لنا في غمرة أي غمرة؛ أيام قبلت لنا ظهر المجن، وغيم أفقها المصحى وأدجن، فسرعان ما عاينا حبالها منها ما لم نحسب كما تقوم الساعة بغتة؛ فمن استعاذ من شيء، فليستعذ مما صرنا إليه، من الحور بعد الكور، والانحطاط من النجد إلى الغور: فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف فأف لدينا لا يدوم نعيمها ... تقلب تاراتٍ بنا وتصرف وأبيها لقد أرهقتنا إرهاقاً، وجرعتنا ن صاب الأوصاب كأساً دهقا؛ ولم نفزع إلى غير بابكم المنيع الجناب، والمنفتح حين سدت الأبواب، ولم نلبس غير لباس نعماكم حين خلعنا ما ألبسنا الملك من الأثواب؛ وإلى أمه يلجأ الطفل لجأ اللهفان، وعند الشدائد تمتاز السيوف من الأجفان. ووجه الله تعالى

يبقى، وكل من عليها فإنَّ، وإلى هنا ينتهي القائل ثم يقول: حسبي هذا وكفان، ولا ريب من اشتمال العلم الكريم، على ما تعارفته الملوك بينها في الحديث والقديم، من الأخذ باليد عند زلة القدم، وقرع الأسنان وعض البنان من الندم، دينا به تدنيت حتى مع اختلاف الأديان، وعادة أطرد فيهم على تعاقب الأزمان والأحيان. ولقد عرض علينا صاحب قشتالة مواضع معتبرة، خير فيها وأعطى من أمانه، المؤكد فيه بأيمانه، ما يقنع النفوس ويكفيها. فلم نر ونحن من سلالة الأحمر، مجاورة الصفرة، ولاسوغ لنا الإيمان الإقامة بين ظهراني الكفر؛ ما وجدنا على ذلك مندوحة ولو شاسعة، وأمنا المطالب المشاغب حمة شرٍ لنا لا سعة؛ وأدكرنا أي إدكار، قول الله تعالى المنكر لذلك غاية الإنكار: " ألم تكن أرض الله واسعة "؛ وقول الرسول عليه الصلاة والسلام، المبالغ في ذلك بأبلغ الكلام: " أنا برئ من مؤمن مع كافر لا تتراءى نارهما "؛ وقول الشاعر الحاث على حث المطية، المتثاقلة عن السير في طريق منحاتها البطيه: وما أنا والتلدد نحو نجد ... وقد غضت تهامة بالرجال

ووصلت أيضاً إلينا، من الشرق كتب كريمة المقاصد لدينا؛ تستدعي الانحياز إلى تلك الجنبات، وتتضمن ما لا مزيد عليه من الرغبات؛ فلم نختر إلاّ دارنا، التي كانت دار آبائنا من قبلنا، ولم نرتض الانضواء إلاّ لمن بحبله وصل حبلنا، وبريش نبله ريش نبلنا؛ إدلالاً على محل إخاء متوارث عن كلالة، وامتثالاً لوصاة أجداد لأنظارهم وأقدارهم أصالة وجلاله؛ إذ قد روينا عمن سلف من أسلافنا، في الإيصاء لمن يخلف بعدهم من أخلافنا؛ ألا يبتغوا إذا دهمهم داهم بالحضرة المرينية بدلا، ولا يجدوا الفجاج، وركبنا إلى بحر الفرات ظهر بحر الأجاج؛ فلا غرو أن نرد منه على ما يقر العين، ويشفي النفس الشاكية من ألم البين، ومن توصل هذا التوصل، وتوسل بمثل ذلك التوسل؛ تطارحاً على سدة أمير المؤمنين المحارب للمحاربين، والمؤمن للمستأمنين؛ غير حليق الحقيق، بأن يسوغ أصفى مشاربه، ويبلغ أوفى مآربه؛ على توالي الأيام والشهور والسنين، ويخلص من الثبور إلى الحبور، ويخرج من الظلمات إلى النور خروج الجنين؛ ولعل شاع سعادته يفيض علينا، ونفحة قبول إقباله تسرى إلينا؛ فتخامرنا أريحية تحمنا على أن نبادر، لإنشاد قول الشريف الرضي في الخليفة القادر: عطفا أمير المؤمنين فأننا ... في دوحة العلياء لا نتفرق ما بيننا يوم الفخار تفاوت ... أبداً كلانا في المعالي معرق

إلاّ الخلافة ميزتك فأنني ... أنا عاطل منها وأنت مطوق لا، بل الأحرى بنا والأحجى، والإنجاح لسعينا والارجى؛ أنَّ نعدل عن هذا المنهاج، ويقوم وافدنا بين يدي علاه مقام الخاضع المتواضع الضعيف المحتاج، وينشد ما قال في الشيرازي أبن الحجاج: الناس يفدونك اضطراراً ... منهم وأفديتك باختياري وبعضهم في جوار بعض ... وأنت حتى أموت جاري فعش لخبزي وعش لمائي ... وعش لداري وأهل داري ونستوهب من المنان الوهاب تعالى وجلت أسماؤه، وتعاظمت نعماؤه؛ رحمة تجعل في يد الهداية أعنتنا، وعصمة تكون في مواقف المخاوف جنتنا؛ وقبولا يعطف علينا نوافر القلوب، وصنعاً يسني لنا كل مرغوب ومطلوب، ونسأله، وطالما بلغ السائل سؤلاً ومأمولا، متابا صادقا على موضوع الندم ممولا، ثم عزاء حسناً وصبراً جميلا، عن أرض أورثها من شاء من عباده لهم ومديلا، وسادلا عليهم من ستور الإملاء الطويلة سدولا، " سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ". فلينظر الطائر الوسواس المرفرف مطيراً، كان ذلك في الكتاب مسطوراً، ولم نستطع عن مورده صدوراً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.

ألا، وإنَّ لله سبحانه في مقامكم العلى الذي أيده وأعانه، سراً من النصر، يترجم عنه لسان من النصل، وترجع فروع البشائر الصادقة، بالفتوحات المتلاحقة، من قاعدته المتأصلة إلى أصل، فبمثله يجب اللياذ والعياذ؛ ولشبهه يحق الالتجاء والارتجاء. ولأمر ما آثرنا واخترناه، بعد أنَّ استرشدنا الله تعالى واستخرناه، ومنه جل جلاله نرغب أنَّ يخير لنا ولجميع المسلمين، ويؤوينا من حمايته ووقايته إلى معقل، وجانب رفيع، آمين، آمين، آمين. نرجو أنَّ يكون ربنا، الذي هو في جميع الأمور حسبنا؛ قد خار لنا حيث أرشدنا وهدانا، وساقنا توفيقه وحدانا؛ إلى الاستجارة بملك حفي، كريم وفي؛ أعز جارا من أبي داود، وأحمى أنفا من الحارث بن عباد. يشهد بذلك الداني والقاصي والحاضر والبائد، إنَّ أغاث ملهوفا فما الأسود أبن قنان يذكر، وإنَّ أتعش حشاشة هالك فما كعب بن مامة على فعله وحده يشكر

جليسه كجليس القعقاع بن شور، ومذكراه كمذكر سفيان المنتسب من الرباب إلى ثور، إلى التحلى بأمهات الفضائل، التي أضدادها أمهات الرذائل؛ وهي الثلاث: الحكمة والعدل والعفة، التي تشملها الثلاث: الأقوال، والأفعال، والشمائل؛ وينشأ منها ما شئت من عزم وحزم، وعلم وحلم، وتيقظ وتحفظ، واتقاء وارتقاء، وصول وطول، وسماح ونائل؛ فبور حلاه المشرق، يفتخر المغرب على المشرق؛ وبمحتده السامي خطره في الأخطار، وبيته الذي ذكره في النباهة والنجابة قد طار، يباهي جميع ملوك الجهات والأقطار، وكيف لا وهو الرفيع المنتهى والنجار، الراضع من الطهارة صفو ألبان، الناشئ من السراوة وسط أحجار، في ضثضئ المجد، وبحبوح الكرم، وسراوة أسرة المملكة التي أكنافها حرم، وذؤابة الشرف التي مجاذبها لم ترم؛ من معشر أي معشر، بخلو إن وهبوا ما دون أعمارهم، وجنوا إن لم يحملوا سوى ذمارهم، وبنو مرين، وما أدراك ما بنو مرين:

سم العداة وآفة الجزر النازلون بكل معترك ... والطيبون معاقد الأزر لهم من الهفوات أنتفاء، وعندهم من السير النبوية أكتفاء؛ وانتسبوا إلى برين قيس، فخرجوا في البر عن القيس؛ ما لهم القديم المعروف، وقد نفد في سبيل المعروف، وحديثهم الذي ناقلته رجال الزحوف، من طرق القنا والسيوف، على الحسن من المقاصد موقوف؛ تحمد من صغيرهم وكبيرهم، ذابلهم ولدنهم، فلله آباء أنجبوهم، وأمهات ولدنهم: شم الأنوف من الطراز الأول إليهم في الشدائد الاستناد، وعليهم في الأزمات المعول، ولهم في الوفاء والصفاء والاحتفاء، والعناية والحماية والرعاية، الخطو الواسع، والباع الأطول، كأنما عناهم بقوله جرول: أولئك قوم إنَّ بنوا أحسنوا البنى ... وإنَّ عاهدوا وفوا وإنَّ عقدوا شدوا

وإنَّ كانت النعماء فيهم جزوابها ... وإنَّ أنعموا لا كدروها ولا كدوا وتعذلني أبناء سعد عليهم ... وما قلت إلاّ بالتي علمت سعد وبقوله الوثيق مبناه، البليغ معناه: قوم إذا عقودا عقداً لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا يزيحون عن النزيل كل نازح قاصم، وليس له منهم عائب ولا واصم، فهم أحق بما قاله في منقر قيس بن عاصم: لا يفطنون لعيب جارهم ... وهم لحفظ جواره فطن حلاهم هذه الغريزة التي ليست باستكراه ولا جعل، أمير المؤمنين، دام نصره، قسيمهم فيها حذو النعل بالنعل، ثم هو عليهم وعلى من سواهم بالأوصاف الملوكية مستعل؛ ارفض مونهم منه عن غيث ملث يمحوا أثار اللزبه، وانشق غيلهم منه عن ليث ضار منقبض على براثنه للوثبة، فقل

لسكان الفلا: لا تغرنكم أعدادكم وأمدادكم، فلا يبالي السرحان المواشي، سواء مشى إليها النقلاى أو الجفلى؛ بل يصدمهم صدمة تحطم منهم كل عرنين، ثم يبتلع بعد أشلائهم المعفره ابتلاء التنين: فهو هو كما عرفوه، وعهدوه وألفوه؛ أخو المنايا، وأبن جلا وطلاع الثنايا، مجتمع أشده؛ قد أحتنكت سنه وبان رشده جاد مجد محتزم بحزام من الحزم، مشمر عن ساهد الجد: لا يشرب الماء إلاّ من قليب دمٍ ... ولا يبيت له جار على وجل أسدى القلب أدمى الرواء، لابس جلد النمر لذوي العناد والنواء: وليس بشاوي عليه دمامة ... إذا ما سعى يسعى بقوس واسهم ولكنه يسعى عليه مفاضة ... دلاص كأعيان الجراد المنظم

فالنجاء النجاء سامعين له طائعين، والوحاء الوحاء، لا حقين به خاضعين قبل أنَّ تساقوا إليه مقرنين في الأصفاد، ويعيا الفداء بنفائس النفوس والأموال على الفاد؛ حينئذ يعض ذو الجهل والفدامه، على يديه حسرة وندامة، إذا رأى أبطال الجنود، تحت خوافق الرايات والبنود، قد لفحتم نار ليست يذات خمود، وأخذتم صاعقة الذين من قبلهم: عاد وثمود، زعقات سبطات تؤز الكتائب أزاً، وهمزاً محققاً للخيل بعد المد المشبع للأعنة همزاً، وسلاُ للهندية سلا وهزا للخطية هزا، حتى يقول النسر: هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً. ثق الخليفة بذلك في كل من رام أذى رعيتك أو أذاك، فتلك عادة الله سبحانه وتعالى في ذوي الشقاق والنفاق، الذين يشقون عصا المسلمين، ويقطعون طريق الوفاق؛ وينصبون حبائل البغي والفساد في جميع النواحي والآفاق؛ فلن يجعلهم الله عز وجل من الآمنين، أنى وكيف وقد أفسدوا وخانوا؟ وهو سبحانه لا يصلح عمل المفسدين، ولا يهدي كيد الخائنين. وها نحن قد وجهنا إلى كعبه مجدكم وجوه صلوات التقديس والتعظيم، بعد ما زينا معاطفها بأستعطافكم بدر ثناء أبهى من در العقد النظيم؛ منتظمين

في سلك أوليائكم؛ متشرفين بخدمة عليائكم؛ ولا فقد عزة ولا عدمها، من قصد مثابتكم العزيزة وخدمها؛ وإنَّ المترامي على سنائكم، لجدير بحرمتكم واعتنائكم؛ وكل ملهوف تبوأ من كنفكم حصنا حصينا، عاش بقية عمره محروسا من الضيم مصونا؛ وقد قيل في بعض الكلام: من قعدت به نكاية الأيام، أقامته إغاثة الكرام؛ ومولانا أيده الله تعالى ولي ما يزفه إلينا من مكرمة بكر، ويصنعه لنا من صنيع حافل يخلد في صحائف حسن الذكر، ويروى معنعن حديث حمده وشكره طرس عن قلم عن بنان عن لسان عن فكر؛ وغيره من نيام عن ذلك فيوقظ، ويسترسل مع الغفلة حتى يذكر ويوعظ؛ وما عهد منذ وجد إلا سريعا إلى داعي الندى والتكرم، بريئاً من الضجر بالمطالبة والتبرم؛ حافظ للجار الذي أوصى النبي) بحفظه، مستغفرا وسعه في رعيه المستمر ولحظه، آخذاً من حسن الثناء في جميع الأوقات والآناء بحظه: فهو من دوحة السنا فرع عز ... ليس يحتاج مجتنيه لهز كفه في الإمحال أغزر وبل ... وذراه في الخوف أمنع حرز حلمه يسفر أسمه لك عنه ... فتفهم يا مدعي الفهم لغزى لا تسله شيئاً ولا تستنله ... نظرة منه فيك تغنى وتجزى فنداه هو الفرات الذي قد ... عام فيه الأنام عوم الإوز وحماه هو المنيع الذي تر ... جع عنه الخطوب مرجع عجز

فدعوا ذهنه يزاول قولي ... فهو أدرك بما تضمن رمزي دام يحيى بكل صنع ومن ... ويعافي من كل بؤس ورجز وكأنا به قد عمل على شاكلة جلاله من ظلاله وتمهيد خلاله وتلقى ورودنا بحسن تهلله واستهلاله وتأنيسنا بجميل قبوله وإقباله وإيرادنا على حوض كوثره المترع بزلاله. والله سبحانه يسعد مقامه العلي ويسعدنا به حله وارتحاله ومآله وحاله ويؤيد جنده المظفر ويؤدنا بتأيدنا على نزال عدوه واستنزاله وهز الذوابل لإطفاء ذباله وهو سبحانه وتعالى المسئول أن يريه قرة العين في نفسه وأهله وخدامه وأمواله وأنظاره وأعماله وكافة شئونه وأحواله. وأحق ما نصل بالسلام وأولى على المقام الجليل مقام الخيفة المولى أزكى الصلاة والسلام على خاتمة أنبياء اله وأرسله سيدنا ومولانا محمّد) وعلى جميع أصحابه وآله صلاة وسلاما دائمين أبدا موصلين بدوام الأبد واتصاله ضامنين لمجدها ومرددهما صلاح فاسد أعماله وبلوغ غاية آماله وذلك بمشيئة الله تعالى وإذنه وفضله وإفضاله. انتهى الكتاب وأوردته بطوله لمّا فيه من ذكرى واعتبار بما فعلته الدنيا مع الملوك الأعاظم الكبار ولأنَّ الكلام جر إليه والله تعالى الكفيل بخلاص من توكل عليه.

وصاحب هذا الإنشاء وصفة الإمام أبن داود بقوله: " الفقيه الخطيب الفاضل خاتمة الأدباء بالأندلس أبو عبد الله محمّد بن الفقيه الصالح أبي محمّد عبد الله العقيلي المعروف بالعربي. ومن بديع نظمه هذه الأبيات: جز بالبستانين والرياض فما ... أبهج مرئيها وأجلاه واعجب بها للبنات ولتلك في ... أسفلها ناظر وأعلاها وقدس الله عند ذلك وقل ... سبحان لا اله إلاّ هو ورأيت بخط أبن داود المذكور أنه وقع بينه أعني أبن داود وبين الفقيه المدرس أبي عبد الله محمّد بن أبي الفضل بن إبراهيم البسطي نزاع في مسألة نحوية قال: وطال فيها الكلام بن ما تقيد عني في غير هذا فقال: الفقيه الخطيب الأديب العلامة أبو عبد الله محمّد بن عبد الله العربي يروي بالقضية ويشير إلى قصة نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام: ندد البسطي في مسألة ... لابن داود وقد أحكمها وقديما وقعت معضلة ... وابنداود الذي فهمها انتهى. ومن نظم الشيخ الفقيه الأستاذ المقرئ الخطيب الفذ الأوحد سيدي

أبي العباس أحمد الدقون رحمه الله قصيدة في ندب الجزيرة تذكر النفوس بشجوها فترسل العيون دموعها الغزيرة افتتحها نصه: الحمد لله على كل حال والصلاة والسلام على سيدنا محمّد وعلى آله خير آل أما بعد فيقول خديم أهل الله تعالى عبيد الله أحمد بن محمّد الأندلسي الشهير بالدقون لطف الله به بمنه وكرمه: إنه لمّا غابت شمس الجزيرة الخضراء بأخذ الحمراء قرعت باب الندبة لمّا تقدم من الصحبه فقلت أبيات صدرت من قلب كئيب مبكية كل لبيب أريب وسميتها بالموعضة الغراء بأخذ الحمراء مبيحا لمن رغب فيها ولم يرغب عنها أو استحسن شيئا منها أن يحدث بها عني وذلك بعد إتقان لفظها وحفظها وفهم وعظها ولحظها وإن كنت لا أحسن أن أقول وربما أعزى بها إلى الفضول لكني لا أعدم المثيل وفي مثل هذا قيل: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلا أن تعد معايبه والله حسبي وعدتي وهو مقيل عثرتي. وهذا مطلع صباحها ومنبع افتتاحها: أمنت من عكس آمال وأحوال ... وعشت ما بين أعمام وأخوال ولا ابتليت بما في القلب من نكد ... فالجسم مشتغل من غير أشغال وكيف لا وبقاع الدين خالية ... من أرض أندلس من أجل أهوال

عمت فغمت قلوب المسلمين فيا ... للمسلمين من أعداء وأنكال جاشت بها من جيوش الكفر ما درست ... بهم معالم أخيار وأقيال أهل الشجاعة أهل العلم أهل تقى ... أهل النفاسة في قول وأفعال عنهم وفيهم أحاديث النبي بدت ... وهم معاقل قول الله للتالي رهبان ليل وفرسان نهار فمن ... يلمم بساحاتهم يظفر بآمال لا عيب فيهم سوى أن المضاف لهم ... يسلو عن أهل وأوطان وأموال فهل ترى بعد هذا النفس سائلة ... وكيف تسأل عن وصف وعن حال تالله لا زال ما في القلب من أسف ... ولو أكن حليفة المنزل الخالي أو يفتح الله في نصر يمن به ... فالله باق يقي من كل محتال قد رام إطفاء نور الله مجتهدا ... وباذلا كل ما قد حاز من مال سطى بجيش كموج البحر في عدد ... نعم وفي عدد من رهط أبطال مؤيدا باجمالع المصر يتبعه ... شر الخلائق مسرور بإقبال يسبي المسامع بالأنفاض مشبهة ... وقع الصواعق في هد وزلزال يبني ليهدم ما للإسلام شيده ... والوصف يعجز من يدعي بقلقال فهو المقاتل في الأبراج منتقل ... إلف النحوس وتغير وترحال فاستوطن المرج لا ينوي الرحيل ولا ... يخشى المغيث بسهل أو بأجبال والمسلمون من الأضغان قد ملئت ... قلوبهم وأبوا تسديد أخلال

والحق مختلف والحمق مؤتلف ... والكل منصرف عن نصر أبطال وهم لديه كطير وهو ينتفه ... والطير يرجو البقا مع كيد قتال إذا تجرد من ريش يطير به ... أضحى يدافع عن روح بأوصال سدوا مسالك أرزاق ومنفعة ... كدودة القز في نسج لسربال ثم استغاثوا: ألا فرسان عادية ... قال الصدى: لست ذا رمح ونبال والصيف ضيعت ما أملت من لبن ... ففارق الجبح من تدخين نحال وارحل بنحلك نحو الغرب في كرم ... من قبل وضعك في قيد وأغلال فاستمكن الرعب في الأكباد واتفقت ... بعد اختلاف على تأمين أرذال واتل غرناطة الغراء قد عدمت ... حب الحصيد ونصر الله والآل كأنها الشمس في أفق العلى كسفت ... فهل على طلل ترمى بأبطال؟ وهل تعود ليال قد سلفن بها ... ونحن لا نشكي تنكيد ضلال؟ وهل يعود لها الدين الذي أنست ... به وقد أيست من فتح أبدال؟ فأصبحوا لا ترى إلاّ مساكنهم ... كمثل عاد وما عاد بأشكال قد فرقوا كسبا في كل منزلة ... وقد سبا من أيد أو عال

فلا المساجد بالتوحيد عامرة ... إذ عمروها بناقوس وتمثال ولا المنابر للواعظ بارزة ... للأمر والنهي أو تذكير آجال ولا المكاتب بالصبيان آنسة ... تتلو القرآن بأسحار وأوصال آه على الدين والدنيا وما نفعت ... آه إذا صدرت من قلب بطال أنا إلى الله والرجعي له وبه ... تلق القلب في تصحيح إعلال وكان ما كان والألطاف شاملة ... لاحت بنقة نسوان وأطفال فلنكرم الآن من ينزل بمنزلنا ... فالدهر ذو دول فاسمع لأمثال وإذ ولا قدرة تدني المنى فلهم ... حق الجوار ولا توصف بإهمال نلقاهم ولنا بشر ومعذرة ... ورحمة يا حماة العم والخال ولا نذد عن ورود الحوض وارده ... ولا ندع قول ذي نصح وإجمال إخوانكم رفعوا أيدي الضراعة مع ... كسر القلوب فلا يلقوا بإخمال وقل لوال تلطف في مغامرمهم ... يلطف بك الله إذ تدعى لأحمال هذا النذير جهرا جاء ينذرنا ... والأذن في صمم عن قيل أو قال ونحن في غفلة عما يراد بنا ... نمشي على مهلة من طول إمهال يأهل فاس أما في الغير موعضة ... إن السعيد لموعوظ بأمثال قل تعالوا إلى نصح وتذكرة ... فالأمر جد فلا تصحب لمكسال كيف الحياة إذا الحيَّات قد نفحت ... على السواحل أو همت بإرسال ولا سبيل إلى الترياق غير تقي ... والحزم في سعة من قبل إعجال والأخذ في جمع القلوب على ... بذل النصيحة أو إبراء ادخال

والزهد في الدنيا وزخرفها ... والأمر بالعرف مع تحسين مقوال ولا ترم أمان الروم منزلة ... خوفا على الدين أو بعدا من أنذال فمن يبت في أمان الكب منتصبا ... لسخط مولى ولا عذر بأثقال واربأ بنفسك عن أرض تهان بها ... فحيثما كنت لا تخشى من أقلال فالموت عندي خير من حياة فتى ... قد اكتسى بعد عز ثوب إذلال والهجرة الآن قد عادت كما سبقت ... فافهم تفاصيل أقوال وإجمال واحتل بذهنك ولتسمع نصائح من ... قد طب من حب لم يوصف بمحتال في صدر سبع على التسعين زائدة ... شمس الجزيرة غابت بعد إكمال وبلغ الكلب ما قد شاء من أرب ... إذ لم يجد ذائدا عن ديننا العالي ليقضي الله أمرا كان قدره ... والأمر لله في قول وأفعال وقد عظمت ولو أسمعت لانتشرت ... سحاب الدمع لم تقلع عن انزال فاليشتغل كل مسكين بمهجته ... والله يحفظنا من كل مهوال ثم الصلاة على المختار سيدنا ... محمّد والرضا عن آل أو تالي ومما كتبه بعض أهل الجزيرة بعد استيلاء الكفر على جميعها للسلطان أبي يزيد خان العثماني رحمه الله ما نصه بعد سطر الافتتاح: الحضرة العلمية وصل الله سعادتها وأعلى كلمتها ومهد أقطارها وأعز أنصارها وأذل عداتها حضرة مولانا وعمدة ديننا ودنيانا السلطان الملك الناصر ناصر الدين والدنيا سلطان الإسلام والمسلمين قامع أعداء الله

الكافرين كهف الإسلام وناصر دين نبينا محمّد صلى الله عليه وسلم محي العدل ومنصف المظلوم ممن ظلم ملك العرب والعجم والترك والديلم ظل الله في أرضه القائم بسنته وفرضه ملك البرين وسلطان البحرين حامي الذمار وقامع الكفار مولانا وعمدتنا وكهفنا وغياثنا مولانا أبو يزيد لا زال ملكه موفور الأنصار مخلد المآثر والآثار مشهور المعالي والفخار مستأثرا من الحسنات بما يضاعف الله الأجر الجزيل في الدار الآخرة والثناء الجميل والنصر في هذه الدار ولا برحة عزماته العلية مختصة بفضائل الجهاد مجردة من أعداء الدين من بأسها ما يروي صدور السمر والصفاح وألسنة السلاح باذلة نفائس الذخائر في المواط التي تألف فيها الأخيار مفارقة الأرواح للأجساد سالكة سبيل السابقين الفائزين برضا الله وطاعته يوم يقوم الأشهاد: سلام كريم دائم متجدد ... أخص به مولي خير خليفة سلام على مولاي ذي المجد والعلا ... ومن ألبس الكفار ثوب المذلة سلام على من وسع الله ملكه ... وأيده بالنصر في كل وجهة سلام على مولاي من دار ملكه ... قسنطينة أكرم بها من مدينة سلام على من زين الله ملك ... بنجد وأترك من أهل الرعاية سلام عليكم شرف الله قدركم ... وزادكم ملكا على كل ملة

سلام على القاضي ومن كان مثله ... من العلماء الأكرمين الأجلة سلام على أهل الديانة والتقى ... ومن كان ذا رأي من أهل المشورة سلام عليكم من عبيد تخالفوا ... بأندلس في أرض غربة أحاط بهم بحر مثال الروم زاخر ... وبحر عميق ذو ظلام ولجة سلام عليك من عبيد أصابهم ... مصاب عظيم يا لها من مصيبة سلام عليكم من شيوخ تمزقت ... شيوبهم بالنتف من بعد عرة سلام عليكم من وجوه تكشفت ... على جملة الأعلاج من بعد سترة سلام عليكم من بنات عواتق ... يسقهم اللباط قهرا لخلوة سلام عليكم من عجائز أكرهت ... على أكل خنزير ولحم لجيفة نقبل نحن الكل أرض بساطكم ... وندعو لكم بالخير كل ساعة أدام الإله ملككم وحياتكم ... وعافاكم من كل سوء ومحنة وأيديكم بالنصر والظفر بالعدا ... وأكنكم دار الرضا والكرمة شكونا لكم يا مولاي ما قد أصابنا ... من الضر والبلوى وعظم الرزية غدرنا ونصرنا وبدل ديننا ... ظلما وعوملنا بكل قبيحة وكلنا على دين النبي محمّد ... نقاتل عمال الصليب بنية ونلقي أمورا في الجهاد عظيمة ... بقتل وأسر ثم جوع وقلة فجاءت علينا الروم من كل جانب ... بسيل عظيم جملة بعد جملة

ومالوا علينا كالجراد بجمعهم ... بجد وعزم من خيول وعدة فكنا بطول الدهر نلقي جموعها ... فنقتل فيها فرقة بعد فرقة وفرسانهم تزداد في كل ساعة ... وفرساننا في نقص وقلة فلما ضعفنا خيموا في بلادنا ... ومالوا علينا بلدة بعد بلدة وجاءوا بأنفاط عظيم كثيرة ... تهدم أسوار البلاد المنيعة وشدوا عليها بالحسار بقوة ... شهورا وأياما بجد وعزمة فلما تفانت خيلنا ورجالنا ... ولم نر من إخواننا من إغاثة وقلت لنا الأقوات وأشتدت حالنا ... أطعناهم بالكره خوف الفضيحة وخوفا على أبنائنا وبناتنا ... من أن يؤسروا أو يقتلوا شر قتلة على أن نكون مثل من كان قبلنا ... من الدجن من أهل البلاد القديمة ونبقى في آذاننا وصلاتنا ... ولا نتركن شيئا من أمر الشريعة ومن شاء منا البحر جاز مؤمنا ... بما شاء من مال أرض عدوة إلى غير ذلك من شروط كثيرة ... تزيد على الخمسين شرطا بخمسة فقال لنا سلطانهم وكبيرهم ... لكم ما شرطتم كملا بالزيادة وأبدى لنا كتيا بعهد وموثق ... وقال لنا هذا أماني وذمتي فكونوا على أموالكم ودياركم ... كما كنتم من قبل دون أذية فلما دخلنا تحت عقد ذمامهم ... بدا غدرهم فينا بنقض العزيمة وخان عهودا كان قد غرنا بها ... ونصرنا بعنف وسطوة

واحرق ما كانت لنا من مصاحفٍ ... وخلطها بالزبل أو بالنجاسةِ وكل كتاب كان في أمر ديننا ... ففي النار ألقوه بهزءٍ وحقرة ولم يتركوا فيها كتاباً لمسلم ... ولا مصحفاً يخلي به للقراءة ومن صام أو صلى ويعلم حاله ... ففي النار يلقوه على كل حالة ومن لو يجيء منا لموضع كفرهم ... يعاقبه اللباط شر العقوبة ويلطم خديه ويأخذ ماله ... ويجعله في السجن في سوء حالة وفي رمضان يفسدون صيامنا ... بأكل وشرب مرة بعد مرة وقدر أمرنا أن نسب نبينا ... ولا نذكره في رخاء وشدة وقد سمعوا قوما يغنون باسمه ... فأدركهم منهم ألم المضرة وعاقبهم حكامهم وولاتهم ... بضرب وتغريم وسجن وذلة ومن جاءه الموت ولم يحضر الذي ... يذكرهم لم يدفنوه بحيلة ويترك في زبل طريحاً مجدلا ... كمثل حمار ميت أو بهيمة إلى غير هذا من أمور كثيرة ... قباح وأفعال غزار ردية وقد بدلت أسماؤنا وتحولت ... بغير رضاً منا وغير إرادة فآهاً على تبديل دين محمد ... بدين كلاب الروم شر البرية وآهاً على أبنائنا وبناتنا ... يروحون للبلاط في كل غدوة يعلمون كفراً وزوراً وفرية ... ولا يقدروا أن يمنعهم بحيلة وآهاً على تلك المساجد سورت ... مزابل للكفر بعد الطهارة وآهاً على تلك الصوامع علقت ... نواقيسهم فيها نظير الشهادة وآهاً على تلك البلاد وحسنها ... لقد أظلمت بالكفر اعظم ظلمة

وصار لعباد الصليب معاقلا ... وقد أمنوا فيها وقوع الإغارة وصرنا عبيداً لا أسارى فنفتدى ... ولا مسلمين نطقهم بالشهادة فلو أبصرت عيناك ما صار حالنا ... إليه لجادت بالدموع الغزيرة فيا ويلنا ويا بؤس ما قد أصابنا ... من الضر والبلوى وثوب المذلة سألناك يا مولاي بالله ربنا ... وبالمصطفى المختار خير البرية وبالسادة الأخيار آل محمد ... وأصحابه أكرم بهم من صحابة وبالسيد العباس عم نبينا ... وسيبته البيضاء أفضل شيبة وبالصالحين العارفين ربهم ... وكل ولي فاضل ذي كرامة عسى تنظروا فينا وفيما أصابنا ... لعل إله العرش يأتي برحمة فقولك مسموع وأمرك نافذ ... وما قلت من شيء يكون بسرعة ودين النصارى أصله تحت حكمكم ... ومن ثم يأتيهم إلى كل كورة فبالله يا مولاي منوا بفضلكم ... علينا برأي أو كلام بحجة فانتم أولو الأفضال والمجد والعلا ... وغوث عباد الله في كل آفة فسل بهم أعني المقيم برومةٍ ... بماذا أجازوا الغدر بعد الأمانة؟ وما لهم مالوا علينا بغدرهم ... بغير أذى منا وغير جريمة وجنسهم المغلوب في حفظ ديننا ... وأمن ملوك ذي وفاء أجلة ولم يخرجوا من دينهم وديارهم ... ولا نالهم غدر ولا هتك حرمة ومن يعظ عهداً ثم يغدر بعهده ... فذاك حرام الفعل في كل ملة ولا سيما عند الملوك فإنه ... قبيح شنيع لا يجوز بوجهة

وقد بلغ المكتوب منكم إليهم ... فلم يعلموا منه جميعاً بكلمة وما زادهم إلاّ اعتداء وجرأة ... علينا وإقداما بكل مساءة وقد بلغت أرسال مصر إليهم ... وما نالهم غدر ولاهتك حرمة وقالوا لتلك الرسل عنا بأننا ... رضينا بدين الكفر من غير قهرة وساقوا عقود الزور ممن أطاعهم ... علينا لهذا القول أكبر فرية ولكن خوف القتل والحرق ردنا ... نقول كما قالوه من غير نية ودين رسول الله ما زال عندنا ... وتوحيدنا لله في كل لحظة ووالله ما نرضى بتبديل ديننا ... ولا بالذي قالوا من أمر الثلاثة وإن زعموا أنا رضينا بدينهم ... بغير أذى منهم لنا ومساءة فسل وحرا عن أهلنا كيف أصبحوا ... أسارى وقتلى تحت ذل ومهنة وسل بلفيقا عن قضية أمرها ... لقد مزقوا بالسيف من بعد حسرة ومنيافة بالسيف مزق أهلها ... كذا فعلوا أيضاً بأهل الشرة وأندرش بالنار أحرق أهلها ... بجامعهم صاروا جميعاً كفحمة فما نحن يا مولاي نشكو إليك ... فهذا الذي نلناه من شر فرقة عسى ديننا يبقى لنا وصلاتنا ... كما عاهدونا قبل نقض العزيمة وإلا فيجلونا جميعاً من أرضهم ... بأموالنا للغرب دار الأحبة فإجلاؤنا خير لنا من مقامنا ... على الكفر في عز على غير ملة فهذا الذي نرجوه من عز جاهكم ... ومن عندكم تقضى لنا كل حاجة

ومن عندكم نرجو زوال كروبنا ... وما نلنا من سوء حال وذلة فأنتم بحمد الله خير ملوكنا ... وعزتكم تعلو على كل عزة فنسأل مولانا دوام حياتكم ... بملك وعز في سرور ونعمة وتهدين أوطان ونصر على العدا ... وكثرة أجناد ومال وثروة وثم سلام الله تتلوه رحمة ... عليكم مدى الأيام في كل ساعة انتهت الرسالة بحمد اله، وكتبتها وإن كانت ألفاظها غير بليغة، تكميلا للفائدة، والله الهادي إلى سواء السبيل. وكان أهل الأندلس في عنفوان أمرهم في غاية البلاغة. حتى قال الرئيس أبن الجياب يفتخر بذلك: أبى الله أن تكون اليد العليا ... لأندلس من غير شرط ولا ثنيا وإن هي عضتها نيوب نوائب ... فصيرت الشهد المشور بها شربا فما عدمت أهل البلاغة والحجا ... يقيمون فيها السم للدين والدنيا إذا خطبوا قاموا بكل بليغة ... تجلي القلوب الغلف والأعين العميا وإن شعروا جاءوا بكل غريبة ... تخال النجوم النيرات لها حليا فنسأل في الدنيا من الله سترة ... علينا وفي الأخرى إذا حانت اللقيا ولعمري لقد صدق قائل هذه الأبيات، فإن البلاغة لم تزل شمسها بالأندلس باهرة الإياة، ظاهرة الآيات إلى أن استولى عليها العدو وعطل

من أهل الإسلام الرواح إليها والغدو، وفي أهل بقية لسان ويراعة، وتصرف في فنون الإجادة وبراعة، وقد قصصنا عليك آنفاً الرسالة التي كتبها الملك المخلوع لصاحب المغرب فيما سردناه، واطلعت منها على ما يؤيد ما قلناه من الغرض الذي انتحيناه وأردناه: وقد كان ذلك الكتاب وطبقته تلقفوا كرة البلاغة من يد طبقة أخرى حازت معلى القداح، ويبرجت لها من الفصاحة كل خود رداح، كالفقيه الكاتب أبي عبد الله الشران، المبرز في أدواته على الأنداد والأقران، وكالأديب الشهير الفقيه عمر، الذي لم تزل أخباره إلى الآن سمر، وكفارس تلك الحلبة، الكاتب القاضي الرئيس، الوزير الفقيه، أبي يحيى بن عاصم، الذي حليت بعلومه اللبات والمعاصم، وغيرهم من الجهابذة النقاد، والأعلام الذين تخضع لهم المحاسن وتنقاد، إن جدوا وصلوا مقطوع الأسباب، وإن هزلوا، على عادة الأفاضل من مثل هذا الباب، ملكوا النفوس وسحروا الألباب؛ وقد سبق من كلام أبن عاصم ما يصحح ما ادعيناه ولنورد زيادة إذا أبصرنا المنصف المستفيد تقر عيناه، فنقول: أما الفقيه عمر فهو أشهر من نار على علم، وأزجاله ومنظوماته ومقاماته عند العامة محفوظة، وعند الخاصة مرفوضة، إلاّ القليل الذي يسمح في مثله لصاحب القلم، كمقامته التي سماها بتسريح المصال، إلى مقاتل الفصال، ونصها:

يا عماد السالكين، ومحط رحال المستفيدين والمتبركين وثمال الضعفاء والمساكين والمتروكين، في طريقتك يتنافس المتنافس، وعلى أعطافك تزهى العبارات وتروق الدلافس؛ وبكتابك تحيا جوامد الأفهام، وبمذبتك تشرد ذباب الأوهام؛ وفي زنبيلك يدس التالد والطارف، وبعصاك يهش على بدائع المعارف، الله في سالك، ضاقت عليه المسالك؛ وشاد رمي بالبعاد، أدركته متاعب الحرفة، وأقيم من صف أهل الضفة؛ فلا يجد نشاطاً على ما يتعاطى، ولا يلقى اغتباطاً، وإن حل زاوية أو نزل رباطاً؛ أقصى عن أهل القرب والتخصيص، وابتلى بمثل حالة برصيص؛ فأحيل عليك، وتوقفت إقامته على توبة بين يديك؛ فكاتبك استدعاء، واستوهب منك هداية ودعاء؛ ليسير ما سويت، ويتحمل عنك أشتات ما رويت؛ فيلقى الأكفاء الظرفاء عزيزاً، ويباهى بك كل من خاطبك مستجيراً، فاصرف إلى محيا الرضا، وأعد من إيناسك العهد الذي مضى، ولا تلقى معرضاً ولا معرضاً، واصغ إلى سمعك كما قدر الله وقضى: تعال نجددها طريقة ساسان ... وعض عليها ما توالى الجديدان

ونصرف إليها من مثار عزائم ... ونحلف عليها من مؤكد أيمان ونعقد على حكم الوفاء هواءنا ... لنأمن من أقوال زور وبهتان ونقسم على ألا نصدق واشياً ... يروح ويغدو بين إثمٍ وعدوان يطرق حوالينا ليفسد بيننا ... بمنطق إنسان وخدعة شيطان على أننا من عالم كلما بدا ... تعوذ منه عالم الإنس والجان وحاشاك أن تلفي عن الصلح معرضا ... إلى الصلح آلت حرب عبس وذبيان وإني أهمتني شئون كثيرة ... وصلحك أولى ما أقدم من شاني فأنت إمامي إن كلفت بمذهبٍ ... وأنت دليلي إن صدعت ببرهان سأرعاك في أهل العباءات كلما ... رأيتك في أهل الطيالس ترعاني ويا لابسي تلك العباءات أنها ... لباس إمام في الطريقة دهقان تفرقت الألوان منها إشارة ... بأنك تأتي من حلاك بألوان ويا بابي الفصال شيخ طريقة ... خلوب لألباب لعوب بأذهان إذا جاء في الثوب المحبر خلته ... زنيبرة قد مدينة منها جناحان فما تأمن الأبدان آفة لسعتها ... وإن أقبلت في سابغاتٍ وأبدان

سأدعوك في حالات كيدي وكديتي ... بشيخي ساسان وعمي هامان وإن كان في الأنساب منا تباين ... فما تنكر الآداب أنا نسيبان ألا فادع لي في جنح ليلك دعوة ... لتنجح آمالي ويرجح ميزاني لك الطائر الميمون في كل وجهة ... سريت إليها غير نكس ولا واني فكم من فقير بائس قد عرفته ... فرقت عليه نعمة ذات أفنان وكم من رفيع الجاه أوليت أنسه ... فعاش قرير العين مرتفع الشان فلو كنت للفتح بن خاقان صاحبا ... لمّا خانه المقدار في ليلة الخان ولو لكنت لصابي صديقاً ملاطفاً ... لمّا قبلت فيه مقالة بهتان ولو كنت من عبد الحميد مقربا ... لم هزم السفاح أشياع مروان ولو كنت قد أرسلتها دعوة على ... أبن مسلم ما حاز أرض خرسان ولو كنت في يوم الغبيط مراسلا ... لبسطام لم تهزم به آل شيبان

ولو كنت في حرب الأمين لطاهر ... لمّا هان في يوم القاء أبن ماهان ولو كنت في مغزى أبي يوسف لمّا ... رماه بغدر عبده في تلمسان ولو أنَّ كسرى يزدجرد عرفته ... لمّا طاح مقتولا على يد طحان ولو أنَّ لذريقاً وطئت بساطه ... لمّا أثرت فيه مكيدة أليان وفيما مضى في فاس أوضح شاهد ... غني لدينا عن بيان وتبيان ولمّا اغتنى منك السعيد بكاتب ... رأى ما ابتغى من عز ملك وسلطان فلا تنسى من أهل ودك إنني ... أخاف الليالي أن تطوف فتنساني ولا خير أن تجعل كفاء قصيدتي ... كفاء أبن دراج على مدح خيران فجد بدنانير ولا تكن التي ... ألم بها الكندي في شعب بوان

فجودك فينا الغيث في رمل عالجٍ ... وفضلك فينا الخير في دار عثمان وما زلت من قبل السؤال مقابلا ... مرادي بإحساب وقصدي بإحسان ولا تنس أياما تقضت كريمة ... بزاوية المحروق أو دار همدان وتأليفنا فيها لقبض أتاوة ... وإرغام مسنون وقسمة حلوان وقد جلس الطرقون بالبعد مطرقا ... يقول نصيبي أو أبوح بكتمان عريف يلحاني إذا ما أتيته ... ولم أنصرف عنكم بواجب الحان وقد جمعت تلك الطريقة عندنا ... أئمة حساب وأعلام كهان إذا استنزلوا الأرواح عند الحلول تأرجحت ... مجامرهم عن زعفران واوبان وإن فتحوا الدارات في رد آبق ... ثنت عزمه أوهام خوف وخذلان

فيحسب الله عز وجل الأرض حيث ارتمت به ... ركائبه سرعان رجل وركبان وقد عاشرنا أسرة كيموية ... أقامت لدينا في مكان وإمكان فلله من أعيان قوم تألفوا ... على عقد سحر أو على قلب أعيان ونحن على ما يغفر الله إنّما ... نروح ونغدو من رباط إلى حان مع الصبح نضيفها عباءة صفة ... والليل ندليها زنانير رهبان أتذكر في سفح العقاب مبيتكم ... ثمانين شخصاً من إناث وذكران لديكم من الألوان ما لم يجيء به ... طهور أبن ذنون ولا عرس بوران ثم ذكر خمسة أبيات أقذع فيها، فلذا تركتها، ثم قال: فاقسم بالأيمان لولا تعففي ... عن السوء لا نحلت عقيدة إيماني فعد للذي كنا عليه فإنَّ لي ... على الغير إن صاحبته حقد غيران فمن يوم إذ صيرت ودي جانباً ... وأعرضت عني ما تناطح عنزان ولا روت الكتاب بعد نفران ... محاورة من ثعلبان لسرحان

وما هو قصدي منك إلا إجازة ... تخولني التفضيل ما بين خلاني وإنك إن سخرت لي وأجزتني ... لنعم ولياً صان ودي وجازاني ولم لا ترويني وأنت أجل من ... سقاني من قبل الرحيق فرواني ولا تنس للدباغ نظما عرفته ... فإنكما في ذلك النظم سيان ومزدوجات ينسبون نظامها ... إلى أبن شجاع في مديح أبن بطان وألمم بشيء من خرافات عنتر ... وألمع ببعض من حكايات سوسان وإن كنت طالعت اليتيمة وانسى ... بلامية في الفحش من نظم واساني أجزني بكشف الدك أرضى وسيلة ... وخير جليس في بساط ودكان وناولني المصباح فهو لغربتي ... ميسر أغراضي ورائد سلواني وألحق به شمس المعارف إنني ... أسائل عن إسناده كل إنسان وقد كنت قبل اليوم عرفتني به ... ولكنني أنسيته بعد عرفان

ولا بد يا أستاذ من أن تجيزني ... ببدء أبن سبعين وفصل أبن رضوان وكتب أبن أخلي كيف كنت فإنها ... لوزن رقيق القول أكرم ميزان ولا تنس ديوان الصبابة والصفا ... لإخوان صدق في الصفا خير إخوان وزهر رياض في صنوف أضاحك ... وجبذ كساء في مكايد نسوان كذاك فناولني كتاب حباحب ... وزدني تعريفاً بها وببرجان ولي أمل في أن أروي رسالة ... مضمنة أخبار حي بن يقظان وحبس على الكاس والكوز والعصا ... فإنك مثر من عصي وكيزان وصير لي الدلفاس أرفع لبسة ... فقد جل قدري عن حرير وكتان وقد رق طبعي وأعتراني خشية ... يكاد بها روحي يفارق جثماني وخل مفاتيح الطريقة في يدي ... وسوغ لهم مزيدى ونقصاني فإني لم أخدمك إلاّ بنية ... وإني لم أتبعك إلاّ بإحسان فكن لي بالأسرار افصح معلن ... فإني قد أخلصت سري وإعلاني انتهت المقامة. وأثبتها لأنها أخف ما رأيت من هزليات الفقيه عمر المالقي، رحمه الله وسامحه، ومثل هذا الهزل قد وقع لكثير من الأئمة على سبيل

الإحماض، ولم يعنوا غالباً إلاّ إظهار البلاغة والاقتدار، كما فعل الحريري وغير واحد، والأعمال بالنيات. ومن نظم الفقيه عمر المذكور قوله عفا الله عنه: إلى الله ربي أشتكي حالتي ... عسى فرج يأتي بأفضل حالي وما أسفي إلاّ لمالي أبيعه ... وخائن مالي يشتري بمالي ومن أبدع ما صدر عنه رحمه الله مقامة في أمر الوباء، رأيت أن أثبتها لغرابة منزعها، وإن كان بعض فصولها لا يجري على المشهور من مذاهب العلماء، ونصها: إلى حمراء الملك وقلعته، ومقر العز ومنعته، ومطلع كل قمر نصري يخجل الأقمار بطلعته، أبقاها الله على تعاقب الزمان، منزل أمان ودار إيمان، وأمتعها بحياة الملك الخزرجي الإيمان، من موجبة إجلالها كما يجب، المعترفة بفضلها وشرفها وأنوار الشمس لا تحتجب، والواقفة عند إشارتها وطاعتها، فإن تأمر أمتثل وإن تدع أستجب، مالقة، المستمسكة بذمتها الوثيقة، المتشوفة إلى أخبارها تشوف المحبة الشفيقة، إلى ريحانة قلبها في الحقيقة، وإلى هذا يا سيدتي ويا عدتي، ويا ذخيرتي ويا عمدتي، أمتعنا الله وإياك بحياة من استنفذها من الورطات، وردنا إلى الصواب مما كان منا من الغلطات، مولانا الغالب بالله وحده، الموعود بعزيز النصر وقريب الفتح والله ميسر وعده. سلام عليك يتعطر بذكر مولانا أمير المسلمين فوحه، وينشق

كالمسك الفتيت روحه، ورحمة الله وبركاته. أما بعد فإني أحمد الله الذي إذا استكفى بعزته كفى، وإذا استشفى بكلمته شفى، وإذا سئل بواسع رحمته عفا؛ واصلي على رسوله محمد الكريم المصطفى، وعلى آله وأصحابه، أكرم من نصح له وأخلص ووفى. كتبته إليك يا سيدي عن نفس قلقة، ساهرة أرقه، حاذرة مشفقة، ملهبة بل محترقة؛ وإني اقسم عليك بالرب الذي كرمك بالعز وشرفك، وعرفك من لطائف الفرج بعد الشدة ما عرفك، أن تسعدني على تسكين لوعتي، وتأمين روعتي وتراجع رقادي بعد سهادي، وقضاء حاجة جلت في فؤادي، وتفهمي مراد إشارتي وإشارة مرادي. ومبنى هذه الرسالة إليك على قولهم: " الشفيق مولع بسوء الظن "، ومن منن الله على عبده الوقاية من المتالف جل الله العظيم المن؛ وعلى قول المتنبي: ربما ضر عاشق معشوقا ... ومن البر ما يكون عقوقا والمثل الأول لي والآخر لك، والله ييسر في حفظ مولانا أملي وأملك. وإني أتعجب من مساعتتك على إقامة مولانا بمنزل، هذا المرض به فاش، وهذا الهواء الفسد بين دياره جاء وماش، وسمعت أنَّ حديث السفر لمالقة اثقل عليك من حديث رقيب وعاذل وواش؛ وأنَّ الآراء في ذلك اختلف، ولم يرجع فيها إلى سنن تقدمت وعوائد سلفت؛ والأوائل من المؤمنين رحمهم الله ما تركوا شيئاً سدى، بل نصبوا كل طريق إلى النجاة علم هدى، وسمعت

يا سيدي أنَّ القضية عول على المقام والاستسلام، وخلوف فيها رأي الخليفة الرشيد لمّا تحول في مثلها عن سكنى دار السلام، بمحضر أركان الدين وأعلام الإسلام؛ وقد سمعت في الأجوبة الظريفة، ما صدر من قوله: أخشى أن أكون أول خليفة؛ وقد كنت يا سيدي أرتجي أن يكون لهذا المرض ارتفاع، أو يحصل بدخول فصل البرد انتفاع؛ فتركت الكتب منتظرة لذلك إلى أن تزايدت الحال وأنت على حالك، لا يمر الترحال بخاطرك ولا ببالك، وأنا أقول: أما واجب التسليم، لتقدير العزيز العليم؛ فمتأكد شرعاً، لا يضيق به المؤن ذرعاً؛ لكن ما يفعل المستسلم بالروح والجسد، إذا قيل له اهرب من الأسد؛ وقد أبصره مقبلا إليه، أو منقضا عليه؛ أنَّ يأخذ في تحفظه واحتراسه، أم يصبر لافتراسه؟ ومن قيل له في ظلم الليل: ارتفع عن هذا المكان تنج من السيل؛ أنَّ ينام في مكانه، أم يبادر إلى السلامة بجهد إمكانه؟ ومن نوى: هذه الخيل قد طلعت مغيرة، والرعاة في الجبال مستجيرة؛ فارفع غنمك قبل الاكتساح، فالوقت في انفساح؛ أيتركها تسرح، ولا يبرح؛ أم يرفعها لتسلم، مما تدرب وتعلم؟ وكذلك إذا قامت الرماة صفوفا وأصابت سهامهم من الخلق ألوفا؛ أيرجح الحق يباعداً أم وقوفاً؟ وكذلك أيضاً المنازل، التي تدوم بها الزلازل فأرضها في كل يوم تميد، ودهش القلوب بها حاضر عتيد أو الخسوف بها في يوم ينقض وفي يوم يزيد لا تسمع فيها إلا سقوط جدار، على ركن دار؛ وانفكاك الأركان، على السكان؛ وإخراج ميت، من تحت بيت؛ وسقوط سارية، على جارية؛ أيعزم على السكنى والاستيطان تحت هذه الحيطان؛ أم يؤخذ في الاحتيال،

بالخروج بالأطفال والعيال؟ يا سيدتي الحمراء، سألتك فاخبريني، وإن تحير فهمي فاعذريني ووصل إلي الكتاب الشريف، من جنان العريف؛ يذكر أن السلامة كانت به مستصحبة لمولانا ولناسه، وأن العافية كانت بهم منتشقة أنفاس رنده وآسه، ما عرضت به إلى طبيب حاجة ولا استدعى فيه المعاور للنظر في زجاجة؛ ولا لقول ولا عمل، ولا بلغ في الجساوة والقساوة أقل أمل؛ ولم ينتقص من الساكنين بهذا البستان، من عبيد مولانا السلطان، غير فتى من الخصيان، لا يساوي عشرة دراهم في سوق الفتيان، والجميع بحمد الله استمرت عافيتهم على استقامة، بطول أيام الإقامة؛ وعرفني أيضا جنان العريف في وافد كتابه، ووارد خطابه، أن رغبته كانت في انتقال مولانا نصره الله من صحيح هوائه، وسلسبيل مائه؛ ونفحة جنابه، وتلاعب النسيم العاطر بين قبابه. إلى مالقة حيث الجو الصقيل، والروض الذي يطيب به المقيل، والراحة التي تمتزج بالأرواح كما قيل؛ حيث العرف الأرج، والوادي المعرج والساحل الذي ينشرح به الصدر الحرج، حيث البنفسج يدير كئوس البهار، والياسمين نجوم طالعة بالنهار؛ حيث يتمازج طيب الزهر، بعرف الأترج ونفحات السحر حيث يشبه أنين السواني، حنين المتعشقات من الغواني، إذا حمد الصباح، وانفلق الإصباح؛ وعمرت صغار القوارب، ونادت بحرية الشباك:

إلى المضارب، وسالت أنوار المشارق على جوانب المغارب، ونادى محرك الجيش: ظهور الخيل، وصباح الخير، واستقبلوا الوادي الكبير لمصيد الأرانب والحوت والطير؛ شكر الله جنان العريف على ما قصد ونوى، وعلى ما اظهر من اتباع حق ومخالفة هوى، اعتماداً من أخبار الدول القديمة على ما حفظ وروى. وقال لي يا سيدتي انك وقفت مع الحديث المنصوص، الوارد في مثل هذا المرض على الخصوص؛ وفيه النهى عن الخروج من منازل هذا المرض على الخصوص؛ وفيه النهى عن الخروج من منازل هذا المرض ومواضعه، ومن القدوم على معتركاته ومصارعه؛ والحديث الصحيح، والرشد فيه قول صريح؛ ولكن للعلماء فيه أقوال طويلة التفصيل، وقد لخصها وبينها الإمام أبن رشد في كتابه الجامع من البيان والتحصيل؛ والاتفاق من الجميع أن النهى في هذا الحديث ليس بنهى تحريم، وإنّما هو على سبيل إرشاد وأدب وتعليم؛ فلا إثم ولا حرج، على من أقام ولا على من خرج. وقال عمرو بن العاص: الأفضل الخروج لأهل الفطنة، اتقاء من يؤدى إلى فتنه؛ وكفى بعمرو بن العاص حجة لمن أراد انتصارا، والكلام كثير، ولكني اختصرته اختصارا؛ وإن نظراً قدمه كثير من الصحابة ورجحه، لخليق بأن يقال فيه ما أسعده وما أنجحه! يا ليت تفقهي كله يكون من هذا القبيل، وجاريا على هذا السبيل، مستنداً إلى قول صحابي جليل، ومستدلاً بأرشد علم ودليل، ولو كان على خلاف المشهور من قول

خليل. وهنا يقال: ما في هذه القلة غير هذا الإغريل. يا سيدتي الحمراء؛ أراك في هذه القضية تفقهت فيما بينه عالم وذو علم، ومنعت مما ليس فيه حرج ولا إثم؛ ولو كنت حاضرة لكان لي معك حديث طويل، واحتجاج ينصره نص وتأويل. وسمعت أنك اشفقت من عظيم النفقة، وليس هذا موضع الشفقة؛ فالأمر ليس بغال، ولو يشترى بكل ذخيرة وكل مال؛ والأولى بالملامة، من يفضل شيئاً على السلامة. القمح يأكله السوس، والذهب تغنى عنه النفوس، فكيف يستعظمان فيما تؤمن به النفوس. وبلغني أنك قلت: مالقة ليس بها زرع، وبقليل المقام يضيق لها صدر وذرع وفلاحتها وحرثها ليس لهما أصل ولا فرع؛ وعز علي هذا الكلام وكنني سلمت والسلام؛ فإن سعري عن سعر غرناطة منحط، وفي لمحة بصر يضيق مني بالطعام في كثير من الأيام ساحل وشط، ولا يعلم أنه دامت لي شدة قط. لي في الاعتصام بالتوكل على الله ما يزيد على سبع مائة العام، ما اشغلت فيها فكراً ولا قلباً بادخار قوت ولا باحتكام طعام؛ أثق في اليوم والغد، بالرزق الرغد؛ تأتى به الرياح على الأعناق، ويفيض سيله على جوانب الدواوين وأكناف الأسواق، وتجلبه الأحباب والأعداء بإذن اللطيف الخبير الوهاب الرزاق.

قالت النملة: افتخاري، بادخاري؛ قالت العصفورة: توسلي، بتوكلي؛ قالت النملة: أعتمد على الحب؛ قالت العصفورة: أتوكل على الرب. فلما جن الليل، اقبل السيل؛ فخرجت النملة بالعوم، وبقيت الحبوب بين الدوم؛ فنزلت العصفورة وسجدت، والتقطت من مدخر النملة كل ما وجدت؛ وقالت: خسر المحتكر، وربح طالب الرزق المبتكر، الكريم لا يفتخر بما يدخر. وصح عندي أنَّ الوزير أعزه الله ليس عنده في هذا كله كلام ولا قول وأنَّ الأمر عنده مفروض إلى الرب الذي له القوة والحول. وسمعت يا سيدتي أنَّ هذا السقم، أعظم تأثيره إنّما هو في قطع الأكباد، من صغار الأولاد؛ الذين من فوق السبع ودون العشر، وهم في هذه السنين رياحين القلوب العاطرة النشر؛ وهذا إلى كتبي لك اعظم داع، فإنَّ الأولاد سوائم والوالد راع؛ والراعي لا يترك غنمه في الطريق سبع ضار، ولا قريباً من حريق نار؛ ومحن نشاهد الطير ينقل أفراخه من وكر إلى وكر، ويسترها بملتف الشجر إذا خاف عليها عادية جارح أو صاحب مكر؛ فكيف لا نقتدي في تأمين روعتنا بمن تقدم من الأكابر، ونقف في حامل السيل بأولادنا الأصاغر؛ فما عندك في هذا كله من القول ومن الجواب؟ وما يظهر لك من وجه الرأي والصواب؟ اكتبي بذلك كتاباً اعتمد عليه، وأستند إليه؛ وقبلي عني يد مولانا تقبيلا، ويا ليتني وجدت إلى ذلك سبيلا؛ وأخبريه أني في خدمته على نيتي الأولى، عاكفة على شكر منته الطولى؛ أدام الله حياطة البلاد والنفوس بحفظه وحياطته؛ وأسمعني البشارة

بقدومه ع محدث مالقة من حمراء غرناطة؛ ويحفظه في النفس والأولاد والملك والبلاد، بمنه وفضله. وكتب بتاريخ ربيع الآخر عام أربعة وأربعين وثمان مائة. انتهت المقامة. وكلام المذكور كثير، ومحله من عذوبة المنطق أثير؛ أعلى طبقة من نثره طريقة معريه، حسبما يظهر ذلك بالتأمل لنفوس بالإنصاف حرية؛ وله عدة تآليف أكثرها هزلية، ولذلك لم اجلب شيئاً منها سوى ما تقدم، مما يقتضي ما أصلناه من المزية، والفضيلة للبلاد الأندلسية. ومن أحسن مقطوعاته التي تطرح بها على باب الكريم، وتطفل بها تطفل من لا يبرح عن باب سيده ولا يريم؛ ويرجى له بها كل جميل، والله لا يخيب ما أمله من تأميل قوله رحمه الله: عقيدة دين الحق أن محمدا ... له الفضل إطلاقاً على كل مخلوق وإن سبقت رسل بكتب وبعثة ... فما هو في مجد وفضل بمسبوق فهذا إذا ما عشت أولى عقيدتي ... وهذا إذا ما مت آخر منطوق وقوله: جئتك يا رب ولا عذر لي ... وهل لعبد السوء من معذرة؟ أرجوك فيما أنت أهل له ... فأنت أهل العفو والمغفرة وقوله في مرضه: يا سامعين الكلام مختلطا ... نظماً ونثراً قلائداً ودرر صلوا على المصطفى وسيلتنا ... محمد وارحموا الفقيه عمر

وأما الكاتب الرئيس أبو عبد الله الشران، فهو الشيخ الفقيه الرئيس الصدر، العلامة العماد، الذخر الأرفع، العلم الأوحد، الأمجد الأسرى، الذي لا يجارى في الإنشاد والاختراع كلاماً جزلاً، وقولاً فصلاً، رئيس الكتبة بالحضرة العلية، أبو عبد الله أبن الشيخ الفاضل الماجد الأعز الأرفع الأوجه أبي إسحاق، كان حيا سنة سبع وثلاثين وثمان مائة. هذا كلام بعض الأندلسيين فيه. وقال القلصادي في حقه: هو الفقيه الوجيه اللبيب اليقظ الأدرى، الأديب الأحظى، الرئيس النبيل الأرقى؛ وحيد عصره وأوانه، وفريد دهره وأقرانه، أبو عبد الله محمد الشران الغرناطي، تغمده الله برحمته. وذكر هذا الشيخ القلصادي في طالعة شرحه لأرجوزة أبي عبد الله الشران المذكور، التي أولها: بحمد خير الوارثين أبتدى ... وبالسراج النبوي أهتدى وهي أرجوزة عذبة النظم، سهلة المأخذ مختصرة في علم الفرائض. ومن بديع نظم الكاتب أبي عبد الله الشران رحمه الله تعالى قوله: فلا تمنع العين انهمالاً فأنه ... غرام شجٍ إسناده غير مهمل أحاديث ترويها الجفون عن الحشا ... ويثبت منها مرسل بمسلسل وقوله يخاطب الفقيه الصالح سيدي أحمد بن حرشون، وقد أهدى له قرص زعفران: أهلا بقرص زعفران أطلعت ... من حسنها للقلب باعث أنسه حيا الخوص به وغير عجيبة ... للبدر أن حيا بقرص شمسه يا نيرا للمجد أهدي نيرا ... كل امرئ إهداؤه من جنسه

لمّا اختفت شمسك عن ناظري ... أرست منه مطر الدمع وأقبلت ظلمة الليل النوى ... فما ترى في رخصة الجمع ز حكى الحافظ أبو عبد الله التنسي رحمه الله أنه لمّا صرف الفقيه أبو الفضل أبن جماعة عن رياسة الكتابة بغرناطة إلى قضاء الجماعة وولى مكانه صاحب الترجمة أبو عبد الله الشران لقي بعض رؤساء الدول جماعة يوما فقال له: يا سيدي إنَّ السر الذي عهدناه الحضر غاب عنها بغيبتك. فقال له: وكيف لا وقد تركتم الفضل المجموع وأخذتم الشر المكرر. قم إنَّ أبن جماعة كان عنده إعذار فدعا أعيان البلد إليه ولم يدع الشران فكتب إليه الشران: ماذا أعد المجد من أعذاره ... في ترك دعوتنا إلى إعذاره إن كان الرسم دون محضرنا اكتفى ... لا بد أن يبقى على إعذاره ثم قال الشيخ التنسي: والشران هذا ممن له باع مديد في الشعر وتصرف حسن. انتهى. ومن بديع نظم الشران المذكور قوله رحمه الله: دوام الحال من قضايا المحال ... واللطف موجود على كل حال والنصر بالصبر محلى الظبي ... والجد بالجد مريش النبال وعادة الأيام معهودة ... حرب وسلم والليالي سجال وما على الدهر انتقاد على ... حال فإن لحال ذات انتقال

من لليالي بائتلاف وكم ... من اعتبر باختلاف الليال أخذ عطاء محنة محنة ... تفرق جمع جلال جمال حال انتظام وانتثار معا ... كأنما هذي الليالي لآل وهل سنى الصبح وجنح الدجى ... لخقة الأضداد إلاّ مثال والظلم الحلك على نورها ... تدل والعسر بيسر يدال والسيف قد يصدأ في غمده ... ثم يجلى صفيحته الصقال والمس بعد الغيم تجلى كما ... للغيث من بعد القنوط انهمال والفرج الموهوب ترجي به ... لطائف لم تجر يوما ببال فصابر الدهر بحاليه من ... حلو ومر واعتدا واعتدال فما للصبر على حالة ... وإنما الصبر حلى الرجال ولا يضيق صدرك من أزمة ... ضاقت فصنع الله رحب المجال إلى هنا توجد هذه القصيدة بأيدي الناس ورأيت بخط بعض الأخيار بعد هذا البيت زيادة كثيرة على ذلك منسوبة لصاحب القصيدة وهي لا تبعد من نفسه على إنَّ فيها إطاء. وها أنا أيضا أثبتها بجملتها لغرابتها وجزالتها ولاشتمالها على مديح المصطفى المجتبى) ونصها بعد قوله: " رحب المجال ": وانظر بلطف العقل كم كربة ... فرجها لطف كحل العقال وكل إليه كل حاج فما ... لذي حجا إلاّ عليه اتكال

وكل بدء فله غاية ... وغاية الخطب الخطب الشديد انحلال وكل عود فله آية ... وأية العقل اعتبار المآل وفي مآل الصبر عقبى الرضا ... من فرج يدني وأجر ينال عجبت للعبد الضعيف القوي ... يغر بالرب الشديد المحال يهوي على الآمال مسترسلا ... طوع الهوى حيث أمالته مال تخدعها النفس بتخييلها ... وهل خيال النفس إلاّ خبال يخال أن الأمر جار على ... تدبيره هيهات مما يخال الخلق والأمر لمن لم يزل ... في ملكه الملك وما إن يزال والفعل والترك دليل على ... مراده والكل طوع انفعال يعطي فلا منع ويقضي فلا ... دفع ويمضي حكمه لا يبال يدبر الأمر فعن أمره ... تقدير ما في الكون سفل وعال يضل يهدي حكمة أنفذت ... فضلا وعدلا في هدى أو ضلال وحكمة البارئ في حكمه ... ما لمجال العقل فيها مجال والرب لا يسأل عن فعله ... قد قضى الأمر ففيم السؤال فيا أخا الفكر اشتغالا بما ... في غيره للفكر حق اشتغال سلم ففي التسليم من كل ما ... ينفذ تسليم وتنعيم بال وارض بما فاتك أو نلته ... فعكسه ما لك فيه مجال وفوض الأمر إلى الحق لا ... تركن من الدنيا لحال محال فذو الحجا فيما اتقى وارتجى ... بالعدل حال ومن العذل خال يرضى بقسم الرب كل الرضا ... في كل حال ما عن العهد حال

يرى خلال الشكر والصبر في ... ما سر أو ساء أبر الخلال فهو على الحالين قد نال من ... مناه في الدارين اقصى منال ما أقصر الدنيا على مرها ... كال الظل ما أقصر مدّ الظلال فافطن لها حزما ففي ظلها ... ما قال حازم حيث قال ما يقظات العيش إلاّ كرى ... ولا مرائي العين إلاّ خيال يا ليت شعري والمنى غبرة ... والشعر قول ينافي الفعل هل يستحيل العهد من صبوته ... فقد مضى عهد الصبا واستحال والشيب هل يقظني صبحه ... فالنوم في ليل من اللهو طال وكسرتي من عسرتي هل تقى ... وعثرتي من عبرتي هل تقال هذا زماني في تول وفي ... عزمي توان والهوى في توال حال من احتل ... بدار البلا ولم يحدث نفسه بارتحال يا رب ما المخلص من زلتي ... لا عمل لا حجة لا احتيال يا رب ما يلقاك مثلي به ... عن طاعة لم ألقها بامتثال يا رب لا أحمل حر الصبا ... فكيف بالنار لضعفي احتمال أو كيف عذري وقد أعذرت لي ... بأخذ حذري من دواعي النكال رحمتك اللهم فهي التي ... لها على العاصين مثلي انثيال ولا تعاملنا بأعمالنا ... لكن رجا آمالنا صل ووال

وبامتداح المصطفى هب لنا ... مآثم الفعل لبر المقال فما سوى حبي للمصطفى ... وسيلة لي بعرها اتصال ذلك تجري وعلى فضله ... طمعت في الفضل بلا رأس مال فإن يفز قدحي بمدحي له ... فقد يجل النور قدر الذبال ورائد الغر الغوالي على ... موثقة مما نوى من نوال أعظم بأمداح نبي الهدى ... حبل اعتلاق أو شفاء اعتلال خير الورى من باد أو حاضر ... أكرمهم من خاف أو ذي انتعال فاديهم من فتكات الردى ... هاديهم في هلكات الضلال حاميهم بالعض ذا لا حمى ... كاليهم في الخطب إذ ليس كال منيلهم إذ لا جدى يرتجى ... مقيلهم إذ لا عثار يقال قريعهم في بقات العلا ... شفيعهم في عرضات السؤال مؤويهم من حوضه من صدى ... مؤويهم من جاهه في ظلال أطول من سال بسيب الندى ... أصول من في الحق بالسيف صال من خصه الله بخصل المدى ... في كل ما عم الهدى من خصال من باهر الحسن وفضل التقى ... وحكمة النطق ومجد الفعال حال من العلم بأسنى حلى ... واف من الحلم بأزكى خلال نور مبين صادق فارق ... مبشر هاد ختام كمال أبيض يستسقي الحيا بأسمه ... كهف الأيامي لليتامى ثمال

الرحمة المهداة ضمن احتفا ... والتعمة المسداة خلف احتفال كم آية جلى لنا أو تلا ... وغاية جلى بها دون تال ذو العرش أسمى قدره فاسمه ... في العرش مقرون مع اسم الجلال وذكره رفع في ذكره ... حمدا ليتلو مدحه كل تال أعطاه دون الرسل خمسا كفت ... يد امتنان العطايا الجزال لم يبعث الرسل اشتمالا وفي ... بعثته للثقلين اشتمال وقسمة الأنفال حلا وما ... من قبل كانت لنبي حلال والأرض طهرا ومصلى لأنَّ ... كان له كون بها واحتلال والنصر بالرعب لشهر مدى ... ينازل الأعداء قبل النزال والنعمة الكبرى التي نالها ... شفاعة الأخرى ونعم المنال وليلة المعراج أسرى فما ... اسرى واسنى شرفا في الليال جال وجبريل أنيس له ... من السماوات العلى حيث جال حتى انتهى من سدرة المنتهى ... إلى مقام لم ينله مقال قال له الروح مقامي هنا ... وأنت فاصعد لمقام الوصال فقال: يا أنسى أفردتني ... حيث دهتني مدهشات الجلال فقال: كلا إنّما الأنس ما ... أنت موال ولك الله والْ طأ حضرة القدس اتصالا فما ... أبيح منها لسوك اتصال فزجه في النور زجا رأى ... وراءه للحق نور الجمال شاهد ما شاهد مما ارتقى ... عن مبلغ العقل ووهم الخيال فقال قوم بفؤاد رأى ... وعالم بالعين والقلب قال

وليس ذا وهو محال على ... حال مقام الحب مما يحال حيث تدلى قاب قوسين أو أدنى نجيباً في ظلال الدلال وبعد ما في النجم يتلى علا ... ثم أتى والنجم في الأفق عال وباحتمال الجسم والروح في ... مسراه صح القول دون احتمال وبانشقاق الصدر فقس ... له انشقاق البدر عند اكتمال لنسبة بينهما في الهدى والحسن والقرب وبعد المنال فنور هذا كم جلا من دجى ... ونور هذا كم هدى من ضلال كلا بل الأنوار حيث انجلت ... حسا ومعنى منه كلا تنال لا نشقاق البدر من نوره ... أبدى انشقاقاً وهو تغيير حال شق هلالين على صفحتى ... ظلمائه في كل شق هلال والشطر منه لاستلام الثرى ... بين يديه بالسلام استمال بل اخجل البدر لنقصانه ... فانحط منشقا لبدر انكمال هم سألوها آية أعرضوا ... عنها وقد جاءت وفاق السؤال قالوا وقد جالوا بسحر أتي ... فقالت هذا السحر سحر حلال بل عجبوا من نكتة الكون أنَّ ... أعطاه رب الكون ما منه سال وهجرة بل وصلة للرضا ... وربما نيل بهجر وصال ضفا لحجب الستر دون العدا ... في الدار والغار عليه انسدال إذ غار بالحكمة نور الهدى ... في الغار من غارة حزب الضلال وما اختفي من خيفة بل لأن ... تظهر أسرار معاني المعال

حيث ثنى بعد عنان الردى ... سراقة عما سرى واستقال هيل كثيب الطرف خسفاً به ... عن كثب والصنع للطرف هال أهوى كما أهوت بميلاده ... من قصر كسرى الشرفات العوال نسبة حال كان من سرها ... أنَّ بسواريه غدا وهو حال هناك هامت بالحمام العدا ... فحام حوليه حمام فحال فاطرد الكسر على جمعهم واطرد الفتح له صدق فال والعنكبوت اعتمدوا حجة ... خالوا بها الغيل من الليث خال فأعجب لهم بالوهن استوثقوا ... ظنا وللبرهان هم في جدال ما أصدق الصديق في قوله ... عدل لنا في حجج الصدق قال أشفق لا حرصاً على نفسه ... بل غار من علق نفيس يذال يا أيها الصديق بشراك لا ... تحزن وشم للنصر أمضى النصال فحكمة العصمة إحرازها ... ما بين أظفار الظبي والعوال لله ما أشرفها عزة ... ليس لغير الله منها ابتهال نبوة لاحت براهينها ... قطيعة ترغم أنف الجدال

وهل جدال في عُلى أوجبت ... وآدم في طينه ذو انجدال وإذ نجى في فلكه ... كان على أنوار هذا اشتمال كذا خليل الله في ناره ... من نوره أهدى هدى الخلال إذ قال جبريل له سل تنل ... فقال علم الحال حسب السؤال ونال إسماعيل منه الفدا ... بالذبح أو إسحاق إنَّ صح نال وهود استجلى لديه الهدى ... ويوسف منها تحلى الجمال وخلعة الإشراق منها أكتسى ... بالطور موسى عند خلع النعال والروح روح الله لاقى بها ... بشرى تلقتها صدور الرجال فيا له نور انتقاء بدا ... في غرر الآباء منه انتقال والشمس والبدر معاً والضحى والشهب منه أشرفت والهلال ونوره أجلى، وبرهانه ... أعلى، وكم من دونها من معال تفجرت أنمله الندى ... معنى وبالحس جرت بالزلال وأنطق الطير بتصديقه ... وأفصح الذئب به والغزال وسبحت في راحتيه الحصى ... وانهزم الجمع لحثو الرمال والجذع إذ عوض من وصله ... بفصله حن حنين الفصال وهل إلى آياته منتهى ... وعن غاياته النجم آل فما بليغ بالغاً وصفه ... يقصر عن ذاك المقام المقال وبعد معبد نون أو منتهى ... براءةٍ ماذا عسى أنَّ يقال

يا سيد الكونين فضلا به ... قد ساد في الأولى ويوم المآل يا سابق الرسل اصطفاء ويا ... خاتمهم جمعا لمعنى الكمال يا ملجأ الخلق ومنجاهم ... إذا بهم ضاق انفساح المجال يا من به نال المحب الرضا ... ويا شفيعا في الذنوب الثقال رحماك فينا يا بني الهدى ... فلم تزل رحماك ذات انهمال رحماك في أوطاننا راعها ... من لحظك الأحمى بعين ابتهال رحماك في سلطاننا واله ... من نصرك الأمضى بأرضى نوال رحماك في غربتنا كن لها ... أنسا فإنَّ العهد بالأنس طال رحماك في كربتنا حلها ... منك بسر فهي رهن اعتقال رحماك في عيلتنا أغنها ... أنا على رفدك طرا عيال رحماك في قلتنا زكها ... زكاة تكثير لجاه ومال صالت علينا بالوفور العدا ... وهل على راجيك غوثا يصال صالت بعد واعتداد معاً ... وما على ذاك الحمى يستطال خالت بأنا لا غياث لنا ... حاشى غياث الخالق مما يخال وبالغنى اختالت وما إنَّ لنا ... في غير أفياء غناك اختيال فأنت للخلق ملاذ الورى ... والوزر الأحمى لدى ذي الجلال صلى عليك الله نور الهدى ... أزكى صلاة قرنت باتصال انتهت القصيدة. ومن ذلك قوله رحمه الله: لك يا فقيه وضعت خدى في الثرى ... طمعا بوصلك منك غير مؤجل فأجاب ذلك لا يجوز لأنه ... عندي رباً من باب ضع وتعجل

وقوله: لي سيد زار وما زرته ... فمني النقص ومنه التمام إنَّ يحتمل سهوى ففقه مضى ... لأنني المأموم وهو الإمام وطالما زار الغمام الثرى ... ولم يزر قط الثرى للغمام وقوله رحمه الله، وهو غاية في بابه: بعثت بها ذكرى على ثقة إلى ... مؤمل وعد من لقائك مرقوب فما زلت فذا في رءوس ذوي العلى ... وما وعد رأس مثل موعد عرقوب وقوله: عاب مني العداة شعراً وثغراً ... رميا في الصبا بشيب وشين قلت: لا عيب في ما دام فضل ... في النهى واللسان والشفتين وقوله: قلت لمّا جبرت بالعاج ثغراً ... ولقد رمت بالمحال احتجاجاً صاح لا بأس أنَّ يعوج شبابي ... تلافي أما ترى الثغر عاجا وقوله: أتراني أحوط الثغر ربطاً فأضحكت ... وتاهت بثغر بالجفون يحاط فقلت لخوف الحل منه ربطته ... أينكر في الثغر المخوف رباط وقوله: إلهي لك الشكوى وحسبي رحمة ... نداؤك في شكوى الخطوب إلهي

وحقك ما للهو أبدعت خلقي ... وها أنا في غي البطالة لاهي بنفسي وشيطاني ودنياي والهوى ... فتنت ولكن أنت حسبي لاهي ولنختم ما أردنا جلبه من نظمه الذي هو بحر لا ساحل له بقوله: يا رب قلت وقولك الحق الذي ... أحكمت: انك تستجيب لمن دعا فاختم لعبدك بالرضا وأحكم له ... بالستر في الدنيا وفي الآخرة معا وأما الرئيس أبو يحيى بن عاصم فهو الإمام العلامة، الوزير الرئيس، والكاتب البليغ الجليل الخطيب الجامع الكامل، الشاعر المفلق الناثر، الحجة، والخاتمة رؤساء الأندلس بالاستحقاق، القاضي محمّد بن محمّد بن محمّد بن محمّد بن محمّد بن عاصم القيسي الأندلسي الغرناطي، قاضي الجماعة بها، كان رحمه الله تعالى من اكابر فقهائها وعلمائها، أخذ عن الإمام المحقق أبي الحسن بن سمعة، والإمام القاضي أبي القاسم بن سراج، الشيخ الراوية أبي عبد الله المنتوري، والإمام أبي عبد الله البياني وغيره من وذكر في شرحة تحفة والده أنّه ولى القضاء عام ثمان وثمانين وثمان مائة، وله عدة تآليف منها شرحه العجيب على تحفة والده في الأحكام، وهو كتاب نافع، فيه فقه متين، ونقل صحيح، وكانت بينه وبين عصريه الإمام مفتي غرناطة أبي عبد الله السرقسطي، مراجعات ومنازعات في مسائل فقهية. ومن تآليفه رحمه الله: كتاب جنة الرضى، في التسليم لمّا قدر الله وقضى؛ وكتاب الروض الأريض، كأنه ذيل به إحاطة أبن الخطيب،

وله غير ذلك، وسنذكر شيئاً من كلامه بعد هذا إن شاء الله تعالى. ومن أغرب ما صدر عنه، رضي الله عنه، قصيدة، تنفك منها قصيدتان أخريان بديعتان، إحداهما من المكتوب الأحمر، والأخرى من المكتوب بالأخضر، وكل واحدة من هاتين البنتين تلد موشحة، كما ستراه، وقد ألفيتها بخط بعض أعلام سبته، وهو الفقيه أبو عبد الله محمّد بن علي بن محمّد بن فرج، وجده محمّد بن فرج هو الذي نأتي بجملة من نظمه في النعل النبوية، عند ما نتعرض لذلك إن شاء الله تعالى، في محل هو انسب من هذا الموضع، وقد سقط من هذه القصيدة نحو ثلاثة أبيات، فعوضتها بغير ذلك السنن، على أنَّ بعض كلماتها لم تسقط إلى الطرف. ونص ما كتبه السبتي المذكور من نظم السيد الأستاذ العلم الصدر المفتي القاضي رئيس الكتاب، ومعدن السماحة، ومنبع الآداب يسدي أبي يحيى أبن عاصم رحمه الله ورضى عنه، يمدح السلطان العادل المقدس المنعم المرحوم المجاهد، أبا الحجاج يوسف بن نصر، قدس الله روحه، ونضر ضريحه، قال: ونقلتها من خط ناظمها رحمه الله. انتهى. وهذه هي القصيدة: أما الهوى " ما كنت " مذ بان عهده ... أهيم بلقيا من تناثر وده رعى الله " لو أنصف " الصب في الهوى ... لمّا فاض منه الدمع مذ بان صده

ولو جاد من " بعد المطال " بروزة ... لمّا شب اشواقي وقلبي زنده كما خان صبري يوم أصبح و " أصلى ... لظى " زاد ماء من جفوني وقده لذلك أسال الدمع كالدر مدمعي ... من " الوجد " فاستولى على الجفن سهده حكى لؤلؤاً من سلكه متناثرا ... و " إلاّ ليم " قد تتابع مده ذخرت الثمين القدر منه بمقلتي ... وما زلت من خوف " الكنال " أعده ولا عجب مذ أعوز القرب أنَّ غدا ... و " كالقمر الزاهي " سناه وبعده أيلحق باللقيا أو الوصل من يغو ... ر " في نوره " بدر السماء وجنده وصير جسمي للصبابة والتلا ... قي يتم قلبي إذ تمكن وجده أقطع أنفاسي " عليه كآبة " ... والله من بدر لغيري سعده فمن شعره " الليل البهيم " ومن سنى ... مقبله للحسن نور يمده بحكم " الدلال " الجور حكم جوره ... ومن شأنه ألا قرين يرده له معطف " مستحسن القد " ناعم ... به علقت في الحب بالرغم أسده رمى في فؤادي جمراً " ذكى " لهيبه ... به ظبي أنس قد تلهب خده فيعبق من نار الحيا عاطر " الشذا ... كأني " بذاك الخال قد نم نده ويبدو بآفاق الجمال هلاله ... له " الليل فراعوا " الكواكب عقده كأنَّ الظبي في مرتع الطرف لظه ... كأنَّ " القنا في " اللين والفعل قده يروق العيون العطف منه فشبهت ... به قضب ألبان " اعتدال " وملده ويا نعم ورد الخد لو جاز قطفه ... وطيب رحيق الثغر لو حل ورده

يجول به ريق " شهي " يحيلني ... إليه لظى في القلب قد شب وقده ويحمي المحيا و " اللمى " بلواحظ ... عن الدنف المغرى به فتصده فلله من ريم ضلوعي كناسه ... وروض يسقيه من الدمع عهده ويمنع منه المستهام فما له ... و " في لثمه " لو جاد باللثم قصده وبالحسن منه يستبيح حمى النهى ... و " كان المنى واليمن يحويه برده ويلوي بديني في الهوى وهو موسر ... له در ثغر " لو ينال " وعقده أفي العدل أنَّ يحكم بتحريم ريقه ... لأن " كان للشهد المعلل ورده تخيلته لو نيل بالنهب في الكرى ... " وما ذقته يشفي من السقم شهده فأجنى كما شاء الوصال " رضابه " ... ويجني على قلبي هواء وصده ويشفي بذلك المبسم " العذب " ريقه ... فؤادي إذ يشفي بلثمي خذه وحلو " الجنى " مر الجفا باهر الس ... نى له نهب هذا القلب قسرا ورده بدا " في المثال " كالغزال محاسناً ... وتخشاه أبطال العرين وأسده وللحب يدعو لحظه الأوطف الورى ... ألا هكذا قلب المشوق أقده تملك رقى طرفه " مع سقمه " ... وبالشرع في حكم الغرام يرده وأظهر مكنون الهوى منذ جار في أل ... معنى الذي قد طال في الحب جهده وقد كان تحت الكتم عذرى ووجده ... فأسهر منه ما اختفى قبل صده ويحسبه في الحكم بالجور كالورى ... وهل بالسليم القلب يحسب ضده إذا بالظنون الكاذبات يناله ... ينام فكم عم الليالي سهده

يلوح سناه للمشوق وقربه ... عليه حرام إذ يحلل بعده وفي مجتلاه الباهر الحسن والروا ... حياتي، وشبه القتل للنفس فقده وأنعش القلب بالإنصاف " مهما بدا " وإنَّ ... أرى منه ظلماً عاود القلب وجده ويبديه نور الحسن وهناً " لمقلتي " ... ويخفيه فرع فاحم الوصف جعده يميل على المشتاق بالهجر حكمة ... فمنه استعار الميل عني قده فيا هاجري والصد قاتل ... وروض " نعيمي " في رضاك وخلده أما والفتون البابلي وسحره ... ليقنعني هزل " الوصال " وجده ويا مقولي مالي سواك مؤزر ... فخل الهوى وامدح لمن حق حمده فصغ لؤلؤء من مدحي أبن ملوكنا ... " إمام الورى " الباهي على الخلق رفده من أورثه الملك المؤصل نصره ... وأكسبه المجد المؤثل سعده لباب العلى " قطب المعالي " وتاجها ... وبدر أهدى الوضاح في الدهر سعده به قد غدا ثغر " الهدى " وهو باسم ... منير سناه مشرق الأفق سعده وأضحى الكمال طوده فإنَّ أعتدى ... على البدر نقص فالجبين يمده ومهما عفا عاد الحجا وهو قائل ... كذلك الحلم والصفح الذي أستعده وبالشم يزرى عقله " الأرجح " الذي ... لنحو المعالي والمجادة قصده فمعنى الحلى تهديه للقلب ذاته ... و " سر العلى " يبديه للعين مجده ومن كفه غيث الندى وغمامه ... ومعنى السماح المستماح ورغده إذا انهل منه الواكف الثر للورى ... فصفو الندى والجود قد لذلك ورده

تخال هتون البذل منهن زائلا ... يكفيه برق الجلال ورعده وكل نوال هامل من بنانه ... فأقصى صفات الجود قد جاز جوده وفيض نداه يشرح الحال إنه ... يمد الحيا في السمح إذ يستمده وفي غيثه الثجاج للمعتفي الغني ... إذا بالأيادي منه يبدأ رفده وللفضل والإحسان والبأس سبقه ... وللملك والإسلام والعلم عضده وأفعله عند استباق المدا شأت ... وفعل ظباه بالكماة وجرده له مشرفي دائم القطع للطلا ... فكل كمي للعدا فيه فقد وبين سكون في الندى من الحجا ... وبين مضا بالقتال يعده وزينه من قصده الجمع للعلا ... كما زين السيف الصقيل فرنده وحزم وعزم بين بكر وثيب ... به المرهف الماضي يفلل حده فيوم الندى الإسلام يسعد دهره ... ويوم الوغى الإشراك يتعس جده ومن بأسمه أضحى الحما متمنعاً ... وللفخر منه صارم يستعده وتمسي عداه كالحميم شرابهم ... وما شيدوا في دهره فيهده ويغدو الموالي في سرور وغبطة ... من البشر أبكار وعون توده قد اعتاد ترك الكافرين وشأنهم ... لهيب وشأن هامل الدمع ورده فأبطالهم رهن الفناء ومالهم ... إلى البذل عقباه وبالسيف رده ولم يبق إلاّ من حمى الحسن للعطا ... وشفع في أحيائه منه خده ولأصبح في العلياء كالبحر كفه ... كما قد غدا مثل الجواهر رفده فصوب الحيا في جوده برقه الظبي ... يربك هشيم الكفر مما يقده

نداه المعين الثر قد نعم الهدى ... ويشفي به حزب الضلال وجنده وأحكم رفع الملك إذا نصب العدا ... على حال ذل نال من ضل جهده أيا سامي القدر الذي جل ذكره ... ويا محرز المجد الذي عز نده صفاتك في العيا عزيز منالها ... لها كل طبع أحرز الفضل فرده فما شئته من عزة الجار والحمى ... وقد رسما فوق السملين مجده وابعدت في وصف العلى عن مسابق ... لها وتداني من نوالك رغده وجودك فيه ذو الرجا مغرم فإن ... حمى جوده ذم المهلب أزده وكم من فنون يستمد بها الضحى ... إذا ما تناءى لمنال ممده وكم بات يتلو سورة الفتح عزمه ... ويحكم مثل الأمر والنهى وجده وأصبح باستحقاقه الحمد من أولى الذي ... عدالة في الأحكام قد بان رشده بعدل وإحسان قد آخت كليهما ... حلاه كما آخى المهند غمده وبأس وبطش يحميان حمى الهدى ... فحتى لقد تلفى مع السرح أشده وحلم وجودها تن ومكارم ... علاهن كل الوصف عنها وجهده وكيف ينال المدح أوصاف ماجد ... يود العلا حينا وحينا توده يعم بعفو خص بالذنب مطقه ... وتهدي إلى الرشد المبين ألده وللسيف نصر يا بن نصر على العدا ... فساعة إذ يجلى جلي الكفر حده وللملك عز أكسب الذل من بغي ... فحاقت به من مؤلم القهر نكده ففي ذمة العلياء تلك الحلا العلى ... ولمّا بدت للدين أنجز وعده أنرت بها من فاحم الظلم ما دجا ... فلجت سعودهن للملك عضده فزالت دجون الجور عن مطلع الهدى ... فنور سناه في اقتبال وسعده هو الملك لم تغطه إلا نزاره ... بما ليس في إمكانها ومعده

وفي منتهاك الأشرف الصل للورى ... دليل يحوز الشفع في المجد فرده ويمناك يوم الجود ترب الحيا أغدت ... ألا فهي أقسام السمح وحده لك المرهف السفاح بالفتح مثنى ... مع العلم الموعود بالنصر جنده وجمعت شتى الجود في وتر راحة ... فغيث الندى منها قد انهل عهده فكم كامل الأوصاف والذات ماجد ... إلى ذلك الهامي العميم مرده علي يمين قلتها غير حانث ... لجودك تنظم النوال ونضده فقد عز في الدنيا له المثل في العلى ... فما يوسف إلاّ الحيا طاب ورده وأبن المسامي والمضاهي مجادة ... لناصر دين الله والمجد مجده سففي الفخر أضحى الفضل والمجد طبعه ... وفي الدهر أمسى ليس يوجد نده ومحتده السامي الكريم نجاره ... يماثله في رفعة القدر بنده فشتى الخلال العز جمعهن عنده ... بما حاز من علم ودين يمده ودونك الأعطاف تلعب بالنهى ... فتسبى الحجا طورا وطورا ترده هدية عبد مخلص لك قلبه ... وفي تلكم الذات الكريمة وده فالفاظها تحكي جمان دموعه ... وقرطاسها يحكيه في اللون خده قال جامع هذا التصنيف: أشار الرئيس أبو يحيى بهذا الشطر الأخير إلى الكاغد الأصفر الذي كانت فيه هذه القصيدة مكتتبة، ثم قال: وأنقاسها من كل لون غريبها ... وترتيبها من ذاته يستهده فأكحلها من مقلتي أستميحه ... وأحمرها من أدمعي أستمده

وأخضرها من طيب عيشي الذي مضى ... لديك وأرجو بالرضا تسترده وأعجب شيء أنها بكر فكرتي ... وما بلغت معشار شهر نعده وقد ولدت بنتين ثنتين مثلها ... يروقك من معناها ما توده وكلتاهما قد جردت من نظامها ... موشحة كالسيف راق فرنده فخذها ففيها للتواظر مسرح ... ومن مدحك الحسن الذي تستمده بقيت كما تهواه ما هبت الصبا ... فمالت بها بان العذيب ورنده انتهت القصيدة الفريدة، وهأنا أذكر البنتين اللتين ولدت، ثم أذكر ما ولدت كل واحدة منهما بحول الله وقوته. فاما القصيدة الخارجة من المكتوب بالأخضر فهذا نصها، وتوشيحها ينتظم من المكتوب فيها بالأخضر وهي هذه: تناثر الدمع من جفوني ... كالدر من سلكه الثمين مذ أعوز الوصل والتلاقي ... من بدر حسن بلا قرين علقت في الحب ظبي أنس ... جماله مرتع العيون وحل في القلب عن كناس ... فماله يستبيح ديني يحكم بالنهب في فؤادي ... إذ ناله نهبه العرين أهكذا الشرع في المعنى ... العذري والحكم بالظنون يحلل القتل منه ظلما ... بالهجر والصد والفتون مالي سوى مدحي أبن نصر ... بدر الهدى المشرق الجبين ذا الحلم والصفح والمعالي ... غيث الندى الواكف الهتون

قد جاز في السمح والأيادي ... سبق المدى دائم السكون وقصده الجمع بين بكر ... للفخر في دهره وعون وشأنه البذل للعطايا ... كالبحر في جوده المعين نال من المجد كل طبع ... وصف العلا فيه ذو فنون وسور الحمد من حلاه ... لقد تلاهن كل حين تهدى إلى الرشد إذ تجلى ... تلك الحلى فاحم الدجون كأنها الشفع فهي مثنى ... في وتر الأوصاف واليمين قل له المثل والمضاهي ... في الدهر في رفعة ودين انتهت البنت الخضراء، وهذا نص بنتها الموشحة، المستخرجة من الأخضر: تناثر الدمع، كالدر ... مذ أعوز الوصل من بدر علق في الحب ... جماله وحل في القلب ... فماله يحكم بالنهب ... إذ ناله أهكذا الشرع العذري ... يحلل القتل بالهجر ما لي سوى ودحي ... بدر الهوى ذا الحلم والصفح ... غيث الندى قد جاز في السمح ... سبق المدى وقصده الجمع للفخر ... وشأنه البذل كالبحر نال من المجد ... وصف العلا وسور الحمد ... لقد تلا تهدى إلى الرشد ... تلك الحاى كأنها الشفع في الوتر ... قل لها المثل في الدهر

انتهت. ويمكن أن تستخرج باختصار هكذا: تناثر الدمع، مذ أعوز الوصل علقت في الحب، وحل بالقلب، يحكم بالنهب أهكذا الشرع، يحلل القتل؟ مالي سوى مدحي، ذا الحلم والصفح، قد حاز في السمح وقصده الجمع، وشأنه البذل له من المجد، وسور الحمد، تهدي إلى الرشد كأنها الشفع، قل لها المثل انتهت. وأما البنت الحمراء فهي الخارجة من المكتوب بالأحمر، وتوشيحها ينتظم من المكتوب فيها بالأحمر، وهذا نصها: ما كنت لو أنصف بعد المطال ... أصلى لظى الوجد الأليم النكال كالقمر الزاهي في نوره ... عليه كالليل البهيم الدلال مستحس القد ذكى الشذا ... كالليل فرعا والقنا في اعتدال مورد الخد شهي اللمى ... في لثمه كل المنى لو ينال كأن للشهد وما ذقته ... رضابه العذب الجني في المثال ولحظه الأوطف مع سقمه ... أسهر منه كالسليم الليل وحسنه الباهر مهما بدا ... لمقلتي منه نعيم الوصال خل الهوى والمدح إمام الورى ... قطب المعالي والهوى والكمال

طود الحجا الأرجح سر العلى ... معنى اليماح والندى والجلال نواله يشرح للمعتفى ... فعل ظباه لبا لعدا في القتال لسيفه المرهف يوم الوغى ... أضحى الحمام كالحميم الموال مرفع القدر عزيز الحمى ... وقد تدانى جوده للمنال ممثل الأمر والأحكام قد ... حمى الهوى وجوده أن ينال وخص بالنصر على من بغى ... لمّا بدت سعوده في اقتبال الملك الأشرف ترب الحيا ... غيث الندى الهامي العميم النوال يوسف الناصر دين الهدى ... ذو الفضل والمجد الكريم الخلال انتهت البنت الحمراء. وهذا نص موشحتها، وهي بنتها، الخارجة منها من المكتوب بالأحمر: ما كنت لو أنصف ... أصلى لظى الوجد الأليم كالقمر الزاهي ... عليه كالليل البهيم مستحسن القد ... كالليل فرعاً والقنا مورد الخد ... في لثمه كل المنى كأن للشهد ... رضابه العذب الجني ولحظه الأوطف ... اسهر منه كالسليم وحسنه الباهر ... لمقلتي منه نعيم

خل الهوى والمداح ... قطب المعالي والهوى طود الحجا الأرجح ... معنى السماح والندى نواله يشرح ... فعل ظباه بالعدى لسيفه المرهف ... أضحى الحمام كالحميم فيترك الكافر ... وقد غدا مثل الهشيم مرفع القدر ... وقد تدانى جوده ممثل الأمر ... حمى الهوى وجوده وخص بالنصر ... لمّا بدت سعوده الملك الشرف ... غيث الندى الهامي العميم يوسف الناصر ... ذو الفضل والمجد الكريم ويمكن اختصارها أيضاً هكذا: ما كنت لو انصف، كالقمر الزاهر مستحسن القد، مورد الخد، كأن للشهد ولحظه الأوطف، وحسنه الباهر خل الهوى وامدح، طود الحجا الأرجح، نواله يشرح لسيفه المرهف، فيترك الكافر مرفع القدر، ممثل الأمر، وخص بالنصر الملك الأشرف، يوسف الناصر

قلت: وإنّما لم أجزم بهذه المختصرة لأجل أن الناظم صرح بأن كل واحدة من البنتين الحمراء والخضراء لم تلد إلاّ موشحة واحدة من البنتين، ولو ولدت موشحين لصرح بذلك، ولا شك أنَّ الموشحة غير المختصرة أتم معنى، وأكمل مساقا، فالأصوب الاقتصار عليها، وإن كان يمكن استخراج أكثر منها لمن تأمل حق التأمل، والله تعالى أعلم. وعلى كل حال فقد أبدع هذا الرئيس في هذه القصيدة، وإن كان فيها بعض تكلف، وقصده ابداع من قصد صاحب عنوان الشرف الشامي، لأن هذا اخرج من الخارج شيئين على ما لا يخفى، غير أنَّ صاحب عنوان الشرف أطال، واستخرج أربعة علوم متباينة، من أول وهلة، وكلاهما قد أبدع رحمهما الله؛ ولم أتحقق: هل وقف أبن عاصم على كتاب عنوان الشرف، فاهتدى بأضوائه أم لا؟ والله تعالى أعلم. ومن كتاب جنة الرضى له رحمه الله ما نصه: " الحمد لله الذي عوض من الخلاف وفاقاً من الافتراق اجتماعا واتفاقا، وهيأ لأسواق الائتلاف برفع الخلاف نفاقا، ويسر لوطن الجهاد من توثير المهاد أرفاقا، وزين بأنجم المسعود من النصر الموعود آفاقاً، وعقد على جمع الكلمة من الأمة المسلمة إجتماعا وإصفاقاً. نجمده سبحانه وهو المحمود بجميع اللغات،

ونشكره على ما سنى من آمال على وفق الأمنية مبلغات، ونثني عليه بما أسدى من عوارف مخولات، ومواهب مسوغات؛ حمدا نستنكثر من درره النفيسة إنفاقا، وأمانته العظيمة فلا نابى من حمدها إشفاقا؛ ونشهد أنه الله لا إله إلاّ هو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد؛ شهادة نرفع لواءها المرنح العذبات خفاقا، فلا لاقي بعد هذه الشهادة لمقاصد السعادة إخفاقا؛ ونشهد أنَّ سيدنا ومولانا محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، ونبيه المصطفى وخليله؛ نبي الرحمة، ونور الظلمة، وشفيع الأمة، والمبعوث بالكتاب والحكمة، والمجموع له بين مزية السبق ومزية التتمة؛ شهادة تستحفظ بقاع الأرض أرفاقا، فلا تخشى معها القلوب، وقد حصل منها الغرض المطلوب، شكاً ولا نفاقا؛ ونصلي على النبي الكريم، المبعوث بالحق العظيم؛ صلاة نحل بها من عقلة الذكر وثاقا، ونؤكد بها القبول إذا عارض العمل المقبول ميثاقا؛ ونرضى عن آل محمد وصحبه، وعشيرته وحزبه، المختصين بالقربة، الفائزين بالرضا من ربه؛ أكرم الناس أعراقا، وأعظمهم من خشية الله إطراقا، وأبهرهم في مقامات الهداية إشراقا؛ ونستوهب منه التأييد والنصر، والفتح الذي تفوت عجائبه الحصر، والمنح الذي لا تعرف صلاته القصر؛ لهذه الخلافة الغالية، التي أطبقت على الإغضاء أحداقا، وأظهرت من احلم لمّا كان من مكنون العلم مصداقا؛ ونبتهل إلى الله في دوام أيامها، وإعلامها، وإمضاء ذابلها المرهوب وحسامها؛ حتى يتنفس الإسلام خناقها، وتسير بها الرفاق، وقد تهادتها الآفاق، وخداً وإعنلقا، وتخضع لها الجبابرة، والملوك القياصرة، رقابا وأعناقا؛ ونمد إليه

يد الافتقار، ونبسط كف الضراعة والاضطرار في كف الفتن عن هذا الوطن وكف الكفار عن هذه الديار وتيسير الفرج القريب لهذا القطر الغريب وتسهيل الصعب العسير لهذا الصعق النائي عن الولي والنصير فيجمع بين القلوب النافرة والنفوس المتنافرة افتراقا ويجعل دم العداة بسيوف الحماة الكماة مراقا ويتحف بأنبائه المعجبة وأخباره المغربة المطربة شاما وعراقا. أما بعد فإن الله على كل شيء قدير وإنه بعباده لخبير بصير وهو لمن أهل نيته وأخلص طويته نعم المولى ونعم النصير بيده الرفع والخفض والبسط والقبض والرشد والغي والنشر والطي والمنح والمنع والضر والنفع والبطء والعجل والرزق والأجل والمسرة والمساءة والإحسان والإساءة والإدراك والفوت والحياة والموت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون فهو الفاعل في الحقيقة وتعالى الله عما يقول الآفكون وهو الكفيل بأن يظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون وإن في أحوال الوقت الداهية لذكرى لمن كان عنده قلباو ألقى السمع وهو شهيد وعبرة لمن تفهم قوله تعالى: إنَّ الله يفعل ما يشاء وإنَّ الله يحكم ما يريد فبينما الدسوت عامر والولاة آمرة والفئة مجموعة والدعوة مسموعة والإمرة مطاعة والأجوبة سمعا وطاعة إذا بالنعمة قد كفرت والذمة قد خفرت ". ثم قال رحمه الله: " والسعيد من اتعظ بغيره ولا يزيد المؤمن عمره إلاّ خيرا جعلنا الله ممن قضى بخيره وبينما الفرقة حاصلة والقطيعة فاصلة والمضرة واصلة والحبل

في انبتات والوطن في شتات والخلاف يمنع رعى متات والقلوب شتى من قوم أشتات والطاغية يمتطي لقصم الوطن وقضمه ويلحظه لحظ الخائف على هضمه والأخذ بكضمه ويتوقع الحسرة إن يأذن الله بجمع شمله ونظمه على رغم الشيطان ورغمه إذا بالقلوب قد ائتلفت والمتنافرة قد اجتمعت بعدما اختلفت والأفئدة بالألفة قد اقتربت إلى الله وازدلفت والمتضرعة إلى الله قد ابتهلت في إصلاح الحالة التي سلفت فألقت الحرب أوزارها وأدنت الفرقة النافرة مزارها وجلت الألفة الدينية أنوارها وأوضحت العصمة الشرعية آثارها ورفعة الوحشية الناشبة أضافرها وأعذارها وأرضت الخلافة الفلانية أنصارها وغضة الفئة المتضرعة أبصارها وأصلح الله أسرارها فتجمعت الأوطان بالطاعة والتزمت نصيحة الدين بأقصى الأستطاعة وتسابقت إلى لزوم السنة والجماعة وألقت إلى الإمامة الفلانية يد التسليم والضراعة فتقبلت فيئاتهم وأحمدت جيئاتهم وأسعدت آمالهم وارتضيت أعمالهم وكملت مطالبهم وتممت مآربهم قضيت حاجاتهم واستمعت مناجاتهم وألسنتهم بالدعاء قد انطلقت ووجهتهم إلى الخلوص قد صدقت وقلوبهم على جمع الكلمة قد اتفقت وأكفهم بهذه الإمامة الفلانية قد اعتلقت وكانت الإدالة في الوقت على عدو الدين قد ظهرت وبرقت ".

إلى أن قال رحمه الله تعالى: " وكفت بقدرة ربه القدرة القاهرة والعزة الباهرة من عدوان الطاغية غوائل بإعزاز دين الله الموعود بظهوره على الدين كله فواتح وأوائل. ومعلوم بالضرورة أن الله لطيف بعباده حسبما شهد بذلك برهان الوجود وإنَّ تعدوا نعمة الله لا تحصوها دليل على سوغ الكرم والجود وإنَّ من أعظم نعمه التي يعجز عن أداء شكرها وإن طالت آماد الأعمار ويتناغى في الثناء عليه في أمرها فلا يبلغون من ذلك معشار المعاشر وتتجارى الألسنة والأقلام في تقرير وصفها فلا تصل من ذلك إلى حدّثني يقنع ولا إلى مقدار وفي مثلها قال الله تعالى:) واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار (. وما ذلك إلاّ منة قدرها عظيم وخطرها جسيم وصراط العدل بها مستقيم وبها أمتن الله في قوله:) وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله (إلى:) حكيم (. فهل يستطاع شكر النعمة التي لا يكون إنفاق الأرض جميعها أهل قيمة أو يختلف اثنان بوجه أو حال في كون هذه النعمة عظيمة أو يتمارى أحد في كون جمع الكلمة في هذا الوطن الغريب منة ومنحة كريمة! ومن استقرأ التواريخ المنصوصة وأخبار الملوك المقصوصة علم أن النصارى دمرهم الله لم يدركوا في المسلمين ثارا ولم يرفعوا في أنفاسهم عارا ".

قال الجامع الموضوع وفقه الله: قد قدمت هذا من كلام الرئيس أبن عاصم وهو قوله: " ومن استقرأ التواريخ المنصوصة فراجعه فيما سبق إلى قوله هناك: " وروية وارتجال ". ثم قال هنا بإثره ما نصه: " إلى أن استقلت هذه الدولة الفلانية على قواعدها واستقرت بأحلامها الراجحة وأعلامها الشامخة واستمرت على قوانين من السياسة كانت ضابطة نشر المملكة عن الأفتراق واستظهرت أبناؤها الغر من الوفاء بشم اعتلقت بها أتم الاعتلاق فحفظ الله الدولة الفلانية إلاّ في الندرة ووقاها من ذلك الأمر الصعب بوقاية من الاكتساب ووقاية من القدر وتطاولت الأيام ما بين مهادنة ومقاطعة ". وقال جامع الموضوع وفقه الله: راجع تمام هذا الكلام فيما قدمنها إلى قوله هنالك: " اللهم احفظ علينا العقل والدين واسلك بنا سبيل المهتدين ". وقال هنا بإثره ما نصه: " وإنّما النعمة التي لا يقدر قدرها ولا يوفى شكرها هي التي تكلفت بتبينها تكييفات الأقدار وانجلت عن بيانها تدبيرات الفاعل المختار فجمع الله بها القلوب وهيأ الغرض المطلوب وتتابعت بيعات البلاد وتوافقت أهواء العباد وانتظم الملك جسما واحدا له روحا طاهرة واستقل الإسلام رسما ثابتا حكمه نص وعدله ظاهر وهدى الله المسلمين مع جمع الكلمة إلى القصد الشرعي ووفقهم إلى القيام بحكمه المحتوم وحقه المرعى فاتخاذ السلطان في مثل

هذه الأوطان واجب قياسا وسماعة وتعذر الخلافة في مثل هذه المسافة غير جائز إجماعا. أيها الملأ المشتمل على الشرفاء الذين بتقديمهم يستنجز من البركة موعودها والعلماء الذين هم حفظة الشريعة الحنفية أن تتعدى حدودها والأشياخ الذين بجهادهم أستقر واجبها واستقام واجبها واستند عمودها والقواد الذين بحمايتها تقام أحكامها وتحاط أعلامها وتوفى عهودها والفرسان الذين هم حماتها وأنجادها وأنصارها وجندها والخاصة الذين بهم يرجح عملها وينجح أملها ويتم مقصودها. تعلمون حقا إنَّ هذا الوطن الفلاني كان قد تعين للهلاك بسبب هذا الخلاف وتوقدت القلوب المشفقة حدوث الفاقرة بسبب هذا الأختلاف وإنَّ الشارع صلوات الله سلامه عليه يمنع من كل ما يؤدي إلى الفرقة بأتم الوجوه ويؤكد الترغيب والترهيب بكل ما يخافه المؤمن ويرجوه وأن الفقه المذهبي إذا حصلت البيعة في الأعناق وتحلت بها تحلي الحمام بالأطواق معروف ومعلوم وإنَّ اشتداده في سد باب الافتراق على العموم والإطلاق لازم محتوم والأقدار الإلهية قد هيأت قصد الألفة بلا كلفة ويسرت سبب الاتفاق بحكم الوفاق فأقبلوها نعمة مسداه وتحفة مهداه وشدوا عليها أيدي الضنة واعلموا ما فيها لله عليكم من منة وتعاقدوا على ألا تبقوا من الخلاف أثرا واتفقوا على القصد الذي يخلصكم عند الله سمعا ونظرا وفي هذا التيسر الذي ساعدت به الألطاف الخفية وساعفت به من قبل الرب الصنائع الحفية ما يتأكد

به الأعتبار ويرشد إلى أنّه أراد الله نفوذه وربك يخلق ما يشاء ويختار ومما يستكمل هذا القصد الذي أشرنا إليه ويستوفيه قول تاج الدين رحمه الله عليه: ما ترك من الجهل شيئا من أراد أن يظهر في الوجود غير ما أراد الله أن يظهر فيه. وفرض على كل إنسان في نفسه ما طلبه به الشارع وعذبت فيه بالتفويض لحكم الله المشارع. فالواجب علينا أن نجتمع ونأتلف ونتفق ولا نختلف ونعتمد صريح الفقه أخذا وتركا ونتبع صحيح النقل الذي لا يدع ريبا ولا شكا ونسأل من الله الهداية إلى سبيل السلف الذين سبقوا ونعزم العزم على أمر الله في قوله:) واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا (. وإنَّ أولى الناس في ذلك بإرهاف العزيمة وتوخي السبل المستقيمة والقيام بمضمون هذا الرسم المستقل والوفاء بتكميل قصد الكاتب فيه والممل لخواص الدولة الفلانية الذين لحقهم التمحيص والاختبار وتخولتهم بأبلغ الموعظة الأقضية والأقتدار وهم الذين ربحت منهم في هذه السوق والتجارة والمقصودون بالخطاب من باب إياك أعني واسمعي يا جارة وهم الممنون عليهم باسترجاع المغصوب المستحق والواقفون من انكسار القلوب والتنصل من الذنوب موقف الأولى به والأحق والمعنيون بقوله:) ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق (. ويختص منهم عماد الدولة وعميد الجملة بالحظ الأوفر مما يتضمنه هذا التأنيب ويستمنح من الله عقب التذكرة بهذه الموعظة:) وما يتذكر إلاّ من ينيب (.

فإنا إذا نظرنا إلى ما كان قد طرق من الابتلاء وشاهدنا ما كان معرضا للوقع من البلاء وراجعنا البصيرة في النعم التي كنا عنها مسلوبين والتربة التي كنا عليها مغلوبين والأبواب التي كنا عنها محجوبين والشرذمة التي كتابها مربوبين والأنفال التي كنا في عدد من يحيى رسومها محسوبين وقد سلط الله علينا كثيرا من الظلمة الذين أعناهم فعند ذلك لعناهم وأهاننا الذين كنا أكرمناهم جزاء لمّا احترمناهم فنسونا أحوج ما كنا إلى أن يذكرونا وخذلونا أفقر ما كنا إلى أن ينصرونا وأسلمونا أشد ما كنا فاقة إلى أن ينجدونا وتركونا أعظم ما كنا حاجة إلى أن يساعدونا وخانونا أظهر ما كنا اضطرارا إلى وفائهم وظاهروا علينا أتم ما كنا افتقارا إلى غناهم فلا شك إنَّ المؤاخذة كانت بسبب تلك الذنوب وأن الجناية هي التي أوجبت ما طرقنا من الخطوب فأزف العذب وعاد من أعدى الأعادي الأحباب وتبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا وتقطعت بهم الأسباب وكادت العقوبة العظيمة إنَّ تلحق والأخذة الربانية أن تمحق لولا أن الله تداركنا بالعفوا وتجاوز عن الهفوا وأنالكم من الإدالة ما كنتم تؤملون واستخلفكم في الأرض لينظر كيف تعملون. فلنجعل ما وعظنا الله به من تلك الأزمات نصب العين ولنتخذ حمده على ما مننا من الإنالة هجير الألسن ولنعلم أن ذلك التمحيص إنّما كان تنبيها من الله على ما عطلنا من حدوده وإيقاظا من الغفلة عن القيام بحقوقه والوفاء بعهوده ولنتحقق أن ما من الله به من جبر الأحوال وخلف

الأموال؛ واستقبال العز غضا جديدا، وصرف الهوان كان عذابا شديداً؛ إنّما هو إبلاغ في الحجة علينا، وأعذار بالموعظة إلينا؛ وربما عاهدنا الله لئن آتانا من فضله لنقصدن ولنكونن من الصالحين، أو لننزعن عما ارتكبنا من جرائر العاصين وجرائم الطالحين؛ فالوفاء حتما إن أردنا أنَّ نكون من المفلحين. وقلما أزف العذاب فرفع إلاّ عمن كان من الصالحين،) فلولا كانت قرية آمنت (إلى قوله:) إلى حين (؛ فلنقدر قدر هذا التدارك، الذي أخذ بأيدينا من مهاوي الانتقام، ولنتأمل موقع البلاء الذي أحلنا من تجديد النعمة بأسنى مقام؛ ولنحذر نسيان ما ذكرنا به، فلم نذكر تلك الشدائد بل نسيناها، ولا نفرح بما أوتينا فرح المغرور الذي لا يتراجع ولا يتناهى؛ فإنَّ في ذلك أمل الشيطان وسؤله، ولعن الله ومقته، قال الله تعالى:) فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء (إلى قوله:) بغته (. اللهم هل بلغت، وبالغت في النصح وأبلغت، اللهم فأشهد. و " يا قوم إنَّ كان عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت "، وإليه أبرأ من حولي وتقصيري عما فيه قصرت، وعما عنه نكلت. ثم قال رحمه الله: " وإنَّ مولانا السلطان الملك الفاضل التالي الذاكر، العفيف الطاهر، المسترجع الصابر، المجاهد المصابر، المرابط المشاغر؛ أمير المسلين أبن نصر الخزرجي نسبأ السعدي منشأ النصري جدا وأبا، أيده الله على أعداء الدين، وجعله

من الأئمة المهتدين؛ ممن إذا جنى عليه غفر، لعلمنا به أنّه حليم والله آخذ بيده كلما عثر؛ فأرشدنا بذلك إلى أنّه كريم، وممن تطرقه الخطوب، وهو بالألطاف مصحوب، وتحدق إليه النوائب وهو من نظرها الشخزر محجوب، وممن جمع له الناس على أنَّ يخشاهم فزاده إيماناً، وقال: حسبي الله ونعم الوكيل، فانقلب بفضل من الله ونعمة، وممن صبر واسترجع في نقص الأموال والأنفس والثمرات، فبشر بصلوات من ربه ورحمة، فتمالأت على أذنيه أصناف من الناس في مرات متعددة، وإناء من الدهر متجدده، فأتعس الله جدودهم، وأضرع إليه خدودهم، وأرغم بحوله وقوته أنوفهم، ورد عنه بسيف من الأقدار رماحهم وسيوفهم، وأدنى لهم بأسباب مختلفة الأنواع حتوفهم: فمن آمن أخذ من مأمنه الذي كان يستند إليه ومن خائف قد أدهشه الروع فهو يحسب كل صحية عليه؛ فكأن ألسنة الأقدار تنهاهم عن منازعة الإرادة، وكأن واعظ الاعتبار يحذرهم من شقاقهم الكفيل له بالسعادة؛ وكأنَّ شاهد الحال يقول هذه إرادة الله قضاها، وسنته السابقة أنفذها وأمضاها، فمن المنازع فيما حكم الله به وقضى، ومن الساخط في المحل الذي يطلب فيه من الله الرضا؟ ولو كان استيلاؤه على الملك يقوة عصبيته، وإهلاك مناوئته عن البيعة غضبه؛ لارتاب في ذلك الناظر ووحد السبيل إلى الاحتياج المناظر، ولكنه طالما عورض في الملك فكبا معارضه لفيه، وأتيحت له النصرة محل لم يحسبها فيه؛ وشد ما احتال على نصرته غير واحد، فانعكست عليه حيلته؛ وتوسل إلى مكروهه، فطاحت في قليب الانقلاب عليه وسيلته؛ وبغى عليه غير ما مرة فنصره الله على من بغي عليه،

وابتغى بالسوء فرده الله على من سعى به إليه؛ ولعل ذلك لغيب عن العيان مكتوم، وحكم من الحكيم العليم محتوم؛ أو لأثر من الاختصاص قد علمه الله وليس لنا بمعلوم، أو لأمر قد تقاصرت عنه مدارك العقول، وكلت دونه رواجح الحلوم؛ ولهذه المعاني المقررة، والمقاصد المحرره، والمذاهب المفسر، والفوائد المسطرة، وغرائب أحاديثها المشتهرة، خص الملأ المقصود فيه بالتذكرة، والمعتمد منه بالإيقاظ والتبصرة؛ من أعضاد الدولة، وسيوف الصوله، وأولياء الخلوص الزكي الشيمة، وموالي النعمة الفلاية، وهم الذين خولتهم موعظته الحسنه، وأعجبتهم أغراضه المتعدده، ومقاصده المستحسنة؛ وعلموا أنه الحق، فسألوا من الله التوفيق إليه؛ والإرشاد إلى الاتصاف به والعمل عليه، والهداية إلى التماس رضا الله لديه، ووقفوا على ما هو لهم في هذا الكتاب منصوص، وأنَّ سلطانهم بمزية الدفاع عنه مخصوص، وأنّه قد تطابقت على إيثاره نصوص، واستوى في تسلم الطاعة له عموم وخصوص؛ فجددوا له البيعة الوثيقة، على ما أوجب في ذلك الحكم المشروع، وأعطوه على ذلك العهد الأكيد حسبما اتفقت عليه أصول وفروع؛ وعقدوا له مضمونها عقدا صحيحاً، وعهدوا على ما تقتضيه السنة صريحا؛ وشهدوا له فيه على أنفسهم انهم بالوفاء بها قائمون، ولشروطها المرعية حافظون؛ وعلى أحكامها الشرعية محافظون؛ وعلى ما بويع عليه رسول الله) من السمع والطاعة، ولزوم السنة والجماعة، وغمحاض النصيحة جهد الاستطاعة؛ فأيديهم في السلم والحرب صروفة في مرضاته، ونيتهم صادقه في مسنونات الوفاء ومفترضاته؛ ولقد شاهدوا الفرقة وما جنته، والفتنة وما فتنته، والألفة وما سنته، والهدنة

وما قربت من إصلاح وأدنته فليغتبطوا بها عهدا كريما وعقدا قد تضمن فضلا عظيما بل عميما واستلزمن إنعاما جسيما وليوفوا بها الوفاء الذي يوليهم بها نعيما مقيما ويدفع عنهم عذابا أليما فإنه عز وجل يقول: " فمن نكث " إلى قوله: " عظيما ". وقد بسطوا أكفهم إلى الله ضارعين وفي رحمته طامعين ولعظمته خاضعين ومن هيبته خاشعين ولخليفته طائعين وفي الخيرات مسارعين يدعونه رغبا ورهبا مستنزلين لرحمته بالإخلاص والإنابة واقفين على قدم الرجاء بباب الذي أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة ويسألونه خير ما قدره وقضاه والسلوك على ما فيه رضاه. اللهم بابك قصدنا وقبولك أردنا وعلى فضلك اعتمدنا وإلى عزتك استندنا وفي مرضاتك اجتهدنا وبهدايتك استرشدنا فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين وأصلح شأننا كله اللهم إنا بك مستنصرون وبعزتك مستظهرون ولغناك مفتقرون ومن تقصيرنا مستعيذون ومن ذنوبنا مستغفرون ولشامل عفوك منتظرون وفي خف ألطافك مستبصرون ولعظيم انتقامك مستحضرون ولعميم صفحك مستشعرون فآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللم انصر من بايعناه سلطانا ومهد به بلادا وأوطانا وأرغم بتوخيه للحق طاغية وشيطانا وآتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا. اللهم اعمر بالمسرة ناديه وكاف عنا أياديه واكبت اللهم أعاديه وكن لنا وليا نصيرا فأنت نعم المولى ونعم النصير. وصل اللهم على سيدنا ومولانا محمّد النبي الأمي القرشي الهاشمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا فأنت اللطيف وأنت الخبير ".

انتهى ما أردت نقله من جنة الرضا للرئيس أبي يحيى بن عاصم رحمة الله عليه. ورأيت بخط الوادي آشي ناقلا من كتابه المسمى بالروض الأريض ما نصه: أبن فتوح إبراهيم بن أحمد بن قتوح العقيلي يكنى أبا إسحاق العالم المتفنن صحبنا محقق نظائر وأستاذ فوائد تدريسه لجين ونضار كلا بل جواهر ويواقيت ومناسك هذى لها من السعادة مواقيت فحسب الطالب الموثق بفهمه المصروف للتحصيل مطالع مواقع سهمه أن يلازم حلقة تعليمية وإنَّ يشد يد الضنة بما يلقي من محصول تفهيمه فإكسير الإفادة إنما حصلة الوافدون من جابر صنعته وكيمياء السعادة إنما يلقاها الظافرون في نضرة روضة المخضل ونبعته وقرض الشعر مما يمكن دخوله تحت فرعه ويندرج تحت قدرة تصرفه بجنسه نوعه إلاّ أنّه لمّا يصدر منه عن قريحة كاتم وسالك من البخل به على طرف النقيض مما سلكه حاتم. فمما علق بحفظي منه خطوبة أرجوزة صنفها في النجوم: سبحان رافع السماء سقفا ... ناصبها دلالة لا تخفى مبدعها فلا ترى فروجا ... مودعها الأفلاك والبروجا انتهى. وإنما ذكرته لتعلم اصلاحه في كتاب الروض الأريض. وقد نقلت كلاما آخر منه فما سبق فراجعه ولو تتبعت ما حصل لدي من نظمه ونثره لطال الكتاب جدا.

وقد وقفت بتلمسان المحروسة على ظهير منشور سلطاني أصدر للرئيس أبن يحيى بن عاصم المذكور بتقديمه للنظر في أمور القضاء وغيره ونصه: هذا الظهير كريم إليه أنهيت الظهائر شرفا عليا وبه تقررت المآثر برهانا جليا وراقت المفاخر قلائج وحليا وتميزت الأكابر الذين افتخرت بهم الأقلام والمحابر اختصاصا مولويا. فهو وإن تكاثرت المرسومات وتعددت وتوالت المنشورات وتجددت أكبر مرسوم تمم في الاعتقاد نظرا خطيرا وأحكم في التفويض أمرا كبيرا وأبرم في الأستخلاص عزما أبيا اعتمد بمسطورة العزيز واختص بمنشوره الذي تلقاه المين بالتعزيز من لم يزل بالتعظيم حقيقا وبالأكابر خليقا وبالإجلال حريا فهو شهير لم يزل في الشهرة سابقا هاد لم يزل بالهدى ناطقا بليغ لم يزل بالبلاغة دريا عظيم لم يزل بالنفوس معظما علم لم يزل في الأعلام مقدما. كريم لم يزل في الكرام سنيا اشتملت منه محافل الملك على العقد الثمين وحلت به المشهورة في الكنف المحوط والحرم الأمين فكان في مشكاة الأمور هاديا وفي ميدان المآثر جريا فإلى مقاماته تبلغ مقامات الإخلاص وإلى مرتبته تنتهي مراتب الاختصاص فيمن حاز فضلا وزين فعلا وشرف نديا واستكمل همما واستعمل قلما مشرفيا فلله ما أعلى قدر هذا الشرف الجامع بين المتلد والمطرف السابق في الفضل أمدا قصيا الحال من

الاصطفاء مظهرا، الفارع من العلا منبرا، الصاعد من العز كرسيا؛ حاز الفضل إرثاً وتعصيبا، واستوفى الكمال حظا ونصيبا؛ ثناء أرجه كالروض لو لم يكن الروض ذابلا، وهدياً نوره كالبدر لو لم يكن البدر آفلا، ومجداً علوه كالسها لو لم يكن السها خفيا؛ فما أشرف الملك الذي اصفاه، وكمل له حق التقريب ووفاه، وأحله قرارة التمكين، ومن باختصاصه بالمكان المكين، فسبق في ميدان التفويض وسما، ورأى من الأنظار الحميدة ما رأى، صادعاً بالحق إماماً علما، ومنها: ضحاً من الدين نهجاً أمما، هدياً من الواجب صرطاً سويا؛ بانياً للمجد صرحاً مشيدا، مشهداً للعدل قولً مؤيدا، مبرماً للخير سبباً قويا؛ فالله تعالى يصل لمقام هذا الملك الذي أطلع في سمائه بدراً دونه البدر وصدراً تلوذ به الصدور سعداً لا تماطله الأيام في تقاضيه، ومصراً يمضي به نصل الجهاد فلا يزال ماضيه، على الفتح مبنياً؛ ويولي له عزاً يذود عن حزم الدين، ويمنحه تأييداً يصبح في أعناق الكفر حديث سيفه قطعياً؛ أمر به مرسوماً عزيزاً لا تبلغ المرسومات إلى مداه، ولا تبدى بآثار الاختصاص مثل ما أبداه، عبد الله أمير المسلمين محمد الغالب بالله، أبن الأمير المقدس فلان أيد الله تعالى مقامه ونصر أعلامه، ويسر مرامه؛ لإمام الأئمة وعلم الأعلام وعماد دوي العقول والأحلام، وبركة حملة السيوف والأقلام، وقدوة رجال الدين وعلماء الإسلام؛ الشيخ الفقيه أبي يحيى أبن كبير العلماء شهير العظماء؛ حجة الأكابر والأعيان مصباح البلاغة والبيان؛ قاضي القضاة وإمامهم اوحد الجلة وطود شمامهم الشيخ الفقيه أبي بكر بن عاصم، أبقاه الله تعالى ومناطق الشكر له فصيحة اللسان، ومواهب الملك به معهودة الإحسان،

وقلائد الأيادي منه مقلدة بجيد كل إنسان قد تقرر والمفاخر لا تنسب إلاّ لبنتها، والفضائل لا تعتبر إلاّ بمن يشيد أركانها ويبنيها؛ والكمال لا يصفى شربه، إلاّ لمن يؤمن سربه؛ وإن هذا العلم الكبير، الذي لا يفي بوصفه التعبير؛ علم بآثاره يقتدى، وبأنظاره يهتدى؛ وبإشارته يستشهد، وبإرادته يسترشد؛ إذ لا أمد علو إلاّ وقد تخطاه، ولا مركب فضل إلاّ وقد تمطاه؛ ولا شارقة هدى إلاّ وقد جلاها، ولا لبة فخر إلا وقد حلاها؛ ولا نعمة إلاّ وقد اسداها، ولا سومة إلاّ وقد أبداها؛ لمّا له في دار الملك من الخصوصية العظمى، والمكانة التي تسوغ النعمى؛ والرتب التي تسمو العيون إلى مرتقاها، وتستقبلها النفوس، بالتعظيم وتتلقاها؛ حيث سر الملك مكتوم، وقرطاسه مختوم، وأمره محتوم؛ والأقلام قد روضت الطروس وهي ذاوية، وقسمت الأرزاق وهي طاوية؛ شقت ألسنتها فنطقت، وقطعت أرجلها فسبقت؛ ويبست فاثمرت إنعامها، ونكست فأظهرت قوامها؛ وخطت فأعطت، وكتبت فوهبت، ومشقت فدفقت، وأبرمت؛ فكم يسرت الجبر، وعقرت الهزبر؛ وشنقت المسامع وكفيت المطامع؛ وأقلت فيما ارتفع من الواضع، وأحلت لمّا امتنع من المواضع؛ فهي تنجز النعم، وتحجز النقم؛ وتبث المذاهب وتحث المواهب؛ وتروض المراد وتنهض المواد؛ وتحرس الأكناف، وتغرس الأشراف؛ ومضيغة لنداء هذا العماد الأعلى، طامحة لمكانه الذي سما واستعلى؛ فيما يملي عليها من البيان الذي يقر له بالتفضل، الملك الضليل؛ ويشهد له بالإحسان، من البيان، الذي يقر له بالتفضيل، الملك الضليل؛ ويشهد له بالإحسان

لسان حسان؛ ويحكم له ببرى القوس حبيب بن أوس ويهيم بما من الأساليب عنده شاعر كندة؛ ويستمطر سحبه الثرة، فيصيح المعره؛ إلى منثور تزيل الفقر فقره، وتدر الرزق درره؛ لو أنهى إلى قس إياد لشكر في الصنيعة أياديه، واستمطر سحبه وغواديه، أو بلغ إلى سحبان اسحره، وما فارقه عشيته ولا سحره؛ ولو رآه الصابي لأبدى إليه من صبره ما أبدى؛ أو سمعه أبن عباد، لكان له عبداً؛ أو بلغ بديع الزمان لهجر بائعه، واستنزر بضاعئه؛ أو أتحف به البستي لاتخذه بستاناً، أو عرض على عبد الحميد لأحمد من صوبه هتانا؛ فأعظم به من عالٍ لا ترقى ثنيته، ولا تحاز مزيته؛ ولا يرجم أفقه، ولا يكتم حقه؛ ولا ينام له عن اكتساب الحمد ناظر، ولا ينقاس به في الفضل مناظر؛ وهل تقاس الأجادل بالبغاث، أو الحقائق بالأضغاث؛ ألا وإنَّ بيته هو البيت الذي طلع في أفقه كل كوكب وقاد ممن رسخ به للعلوم اتقاء واتقاد، وتراءى به للمدارك وانتقاد؛ فأعظم بهم أعلاما وصدورا، وأهلة وبدورا؛ خلدت ذكرهم الدواوين المسطرة، وسرت في محامدهم الأنفس المعطرة، إلى أن مشا في سمائهم هذا الأوحد، الذي شهرة فضله لا تجحد؛ فكان قمرهم الأزهر، ونيرهم الأظهر؛ ووسيطة عقدهم الأنفس، ونتيجة مجدهم الأقعس؛ فأبعد في المناقب آماده، ورفع الفخر وأقام عماده؛ وبنى على الأساس المشيدة، وجرى لإدراك تلك الغايات البعيدة؛ فسبق وجلى وشنف بذكره المسامع وحلى؛ ورفع

المشكل ببيانه، وحرر الملتبس ببرهانه؛ إلى أن أحله قضاء الجماعة درة أفقه الأصعد، وبوأه عزيز ذلك المقعد؛ فشرف الخطة، والمجلس السلطاني أعلاه الله تعالى يختصه بنفسه، ويفرغ عليه من حلل الأصطفاء ولبسه؛ ويستمطر فوائده، ويجري بأنظاره حقوق الملك وعوائده؛ فكان بين يديه حكما مقسطا، ومقسما لحظوظ الأنعام مقسطا، إلى أن خصه بالكتابة المولوية، ورأى له في ذلك حق الأولوية؛ إذ كان والده المقدس نعم الله ثراه، ومنحه السعادة في أخراه؛ مشرف ذلك الديوان، ومعلي ذلك الإيوان؛ يحبر رقاع الملك فتروق، وتلوح كالشمس عند الشروق؛ فحل ابنه هذا الكبير شرفا، الشهير سلفا؛ مرتبته التي سمت وافترت به عن السعد وابتسمت؛ فسحبت به للشرف مطارف، وأحرزت به من الفخر التالد والطارف؛ فهو اليوم في وجهها غرة، وفي عينها قرة؛ والله هو في ملاحظة الحقائق ورعيها، وسمع الحجج ووعيها؛ فلقد فضل بذلك أهل الاختصاص وسبقهم في تبيين ما يشكل منه وما يعتاص؛ إذ المشكلة معه جلية الأغراض، والآراء لديه آمنة من مآخذ الاعتراض؛ فكم رتبة عمرها بذويها، فأكسبها تشريفاً وتنويها؛ وعلى ذلك فأعلام قضاة الوطن، ومن عبر منهم وقطن؛ مع أقدارهم السامية، ومعاليهم التي هي للزهر مسامية؛ إنما رقتهم وساطته التي أحسنت، وزينت بهم المجالس وحسنت؛ فبه أمضوا

أحكامهم، وأعملوا في الأباطيل احتكامهم؛ وكتبوا الرسوم وكبتوا الخصوم؛ وحلو دست القضاء، وسلوا سيف المضاء؛ وفي زمانه تحرجوا وفي بستانه تأرجوا؛ ومن خلقه اكتسبوا، وإلى طرقه انتسبوا؛ وعلى موارده حاموا وحول فرائده قاموا؛ وبتعريفه عرفوا، وبتشريفه شرفوا؛ وبصفاته كلفوا وبعرفانه وقفوا؛ فأمنوا مع انكساب سحبه إفادته من الجدب وقاموا بذلك الغرض بسبب ذلك الندب؛ وهل العلماء وإن عمت فوائدهم، وانتظمت بجياد الأذهان فرائدهم؛ إلاّ من أنواره مستمدون وإلى الاستفادة من أنظاره ممتدون، وببركاته معتدون، وبأسبابه مشتدون؛ فبه اجتنبت من أفنان المنابر ثمراتهم، وتأرجحت في روضات المعارف زهراتهم؛ وبه عمروا الحق وائتلق من أنوارهم ما ائتلق؛ إذ كل من اصطناعه محسوب، وإلى بركته منسوب؛ فهو بدرهم الأهدى وغيثهم الأجدى؛ وعقدهم المقتنى، وروضهم المجتنى؛ وبدر منازلهم، وصدر محافلهم؛ وعلى ما أعلى المقام المولوى من مكانه، وقضى به من استمكانه؛ واعتمد من إبرامه وأبرم من اعتماده ومهد من إكرامه وأكرم من مهاده؛ واختص من علاه، وأعلى من اختصه، واستخلص من حلاه، وحلى من استخلاصه؛ ووفى من تكرمه، وكرم من وفائه، وأصفى من مجده، ومجد من اصطفائه؛ وقدم من براعته، وحكم من يراعته؛ وشقق من كتابته، وأنطق من خطابته، وسجل من أنظاره وعدل من اختياره؛ فذكا ذكره،

وسطا سطره؛ وأمعن معناه، وأغنى مغناه. أشار أيده الله تعالى باستئناف خصوصيته وتجديدها، وإثبات مقامته وتحديدها؛ لتعرف تلك الحدود فلا تتخطى وتكبر تلك المراتب فلا تستعطي؛ فاصدر له - شكر الله تعالى إصداره، وعمر بالنصر داره - هذا المنشور الذي تأرج بمحامده نشره وتضمن من مناقبه البديع فراق طيه ونشره؛ وغدا وفرائد المآثر لديه مكنونه، وأصبح للمفاخر مالكا لمّا أتى به مدنونه؛ وخصه فيه بالنظر المطلق الشرط، الملازم للتفريض ملازمة الشرط للمشروط؛ المستكمل الفروع والأصول، المستوفي الأجناس والفصول؛ في الأمور التي تختص بأعلام القضاة الأكابر، وكتاب القضاة ذوي الأقلام والمحابرو شيوخ العلم وخطباء المنابر، وسائر أرباب الأقلام القاطن منهم والغابر؛ بالحضرة العلية وجميع البلاد النصرية؛ تولى الله جميع ذلك بمعهود ستره، ووصل له ما تعود من شفع اللطف ووتره؛ يحوط مراتبهم التي قطفت من روضتها ثمرات الحكم وجنيت، ويراعى أمرهم التي أقيمت على القواعد وبنيت وحقوقهم التي حفظت لهم في المجالس السلطانية ورعيت؛ ويحل كل واحد مهم في منزلته التي تليق، ومرتبته التي هو بها خليق؛ على مقتضى ما يعلم من أدواتهم، ويخبر من تباين ذواتهم؛ ويرشح كل واحد إلى ما استحقه، ويؤتى كل ذي حق حقه، اعتماداً على أغراضه التي عدلت، وصدحت على أفنانها من الأفواه طيور شكر وهدلت؛ واستناداً في ذلك إلى آرائه، وتفويضاً له في هذا الشأن بين خلصاء الملك وظهرائه؛ ولمقتضى ما كان عليه أعلام الرياسة الذين سبقوا، وانتهضوا بهممهم واستبقوا؛ كالشيخ

الرئيس الصالح ابي الحسن بن الجياب، والشيخ ذي الوزارتين ابي عب بن الخطيب، رحمهما ات فليقم - أبقاه الله تعالى - بهذه الأعمال التي سمت واعتزت ومالت بها أعطاف العدل واهتزت؛ وسار بها الخبر حيث سرى، وصار بها الحق مشدود العرى؛ وعلى جميع القضاة الأصفياء، والعلماء الأرضياء، والخطباء الأولياء، والمقرئين الأذكياء، وحملة القلام الأحطياء؛ أن يعتمدوا على هذا الولي العماد في كل ما يرجع إلى عوائدهم، ويختص في دار الملك من مرتباتهم وفوائدهم؛ وما يتعلق بولاياتهم وأنياتهم، ويليق بمقاصدهم ونياتهم؛ فهو الذي يسوغهم المشارب ويبلغهم المآرب؛ ويستقبل العلى بالعلى، والعطل بالحلي والمشكل بالجلي والمفرق بالتاج، والمقدمة بالإنتاج؛ وعلى ذلك فهذا المنشور الكريم قد اقرهم على ولايتهم وأبقاهم، ولقاهم من حفظ المراتب ما رقاهم؛ فليجروا على ما هم بسبيله، وليهتدوا برشد هذا الاعتناء ودليله. وكتب في صفر عام سبعة وخمسين وثمان مائة ". انتهى. وإنّما كتبته برمته لتعلم به مصداق ما قد مناه من تمكن أبن عاصم المذكور من مراتب الاصطفاء والاحتفاء. ولنختم ترجمته، رحمه الله بتخميس عجيب من نظمه: سبحان من أظهر الأنوار واحتجابا ... وكل حمد وتمجيد له وجبا

إذا ابتغى العقل في إدراكه سببا ... جاء الحجاب فألقى دونه الحجبا حتى إذا ما تلاشى عندها ظهرا سبحان من كان والأكوان لم تكن ... في غير أين ولا وقت ولا زمن حتى أتى الجود بالإحياء والمنن ... وكان ما قد رسمناه بما ومن وأظهر الشمس ذات النور والقمر سبحان من حجب الأبصار فاحتجبت ... وكم أراد مريد نيلها فأبت ومن حدثته أمانيه فقد كذبت ... حقيقة ذاتها عن ذاتها وجبت لا يدرك العقل من أخبارها خبرا سبحا من شأنه في شأن عجب ... يخفى فيظهر أو يبدو فيحتجب يا أيها العاكفون السادة النجب ... هل فيكم من سعى سعيا كما يجب ففاز بالغرض المطلوب أو ظفر سبحان من لم يزل بالعلم منفردا ... ومن تعالى عن الاشباه فاتحدا سبحانه وتعالى واحدا صمدا ... تبارك الله لم يولد ولم يلد تنزه الله عما يلحقون البشرا سبحان من أخرج الموجود من عدم ... رسما برى كونه في غير مرتسم فلا محل سوى كنه من الكلم ... ولم يزل هو في ديمومة القدم مؤثرا يخلق التأثير والأثر سبحان من خلق الأشياء أجمعها ... فمن رآها رأى أفعاله معها

وكان أتقها صنعا وأبدعها ... نفس إلى العالم العلوي رعها وخصها من معاليه بما بهرا سبحان من عم بالإنعام ما خلقا ... وشفع العدل بالإحسان فاتفقا وزاد بالذكر في قلب التقي تقى ... فاستكمل الدين والإيمان والخلقا وكان مدركه الصديق أو عمرا سبحان من سبحته كل سابحة ... وكل عائمة في الماء سائحة وكل غادية تغدو ورائحة ... وسبحته خفايا كل جانحة لم تعرف السر حتى جاورت صورا سبحان من حمدته ألسن البشر ... في السر والجهر والآصال والبكر وفي الدجى تشدو ونصف الليل والسحر ... بالشكر والذكر والآيات والسور توليه حمدا وتتلو بعده سورا سبحان من نزهته ألسن عزفت ... عن كل ما يوهم التشبيه إذ وصفت صفا لها مورد التحقيق حين صفت ... فلم تفارقها حتى أثبتت ونفت ولم يدع شبهة تؤذي ولا ضررا سبحان من شكره في الدين مفترض ... وليس جسم ولا عرض ينهي ويأمر ما في ذا وذا غرض ... فاذكر لنعماه ذكرا ليس ينقرض فمن تحدث بالنعمى فقد شكرا سبحان من خضع السبع الطباق له ... وأعظمته قلوب حشوها وله تريد إنَّ تعلم الأبقي وتعقله ... طوبى لمن أمل الأبقى وأم له واستكثر الزاد لمّا آنس السفر

سبحان من زين الأفلاك بالشهب ... وبين الدين بالآيات والكتب ولم يدعنا لدى لهو وفي لعب ... لكن نهانا وآتانا على الرتب حتى انتهينا وأذعنا لمّا أمرا سبحان من جعل الأشياء تختلف ... فتارة تتناءى ثم تأتلف هذا الظلام بنور الصبح ينصرف ... كما الضلال لنور العلم يقف فسله نورا ينير السمع والبصرا سبحان من خلق الأخلاق والخلقا ... والشمس والبدر والظلماء والغسقا يروقك الكل مجموعا ومفتراقا ... وانظر لنفسك واسلك نحوه طرقا فأسعد الناس من في نفسه نظرا سبحان منزل الماء المزن في المطر ... يروي النبات ويسقي يانع الثمر كأنما الزهر تهديه إلى الزهر ... إذا رأيت تلاقيها على قدر رأيت صنع قدير أحكم القدرا سبحان من قدر الأوقات والأجلا ... وتابع الوحي واستتلى به الرسلا فمن تعدى حدود الفوق قيل غلا ... ومن تجاوز منحطا فقد سفلا ومن تخطى خطوط المنتهى كفرا سبحان من فجر الأنهار فانفجرت ... وقدر الخير في إجرائها فجرت فزينة الأرض بالأزهار قد ظهرت ... وللبصيرة عين كلما نظرت رأت جمالا وإجمالا ومعتبرا

سبحان من خلق الإنسان من علق ... وأعقب الليلة الليلاء بالغسق يا بهجة الشمس دوني عذت من فلق ... ويا سنا البدر عارض حمرة الشفق حين تعود لنا من ليلتنا سحرا سبحان من علم الإنسان بالقلم ... وسلط الهم والبلوى على الهمم فقاومتها جنود الصبر والكرم ... ثم ابتلى قلب غير العارف الفهم فما أطلق ولا أوفى ولا صبرا سبحان من خلق الإنسان من عجل ... فليس يمشي إلى شيء على مهل ولا يقول سوى هذا وذلك لي ... مقسم الحال بين الحرص والحيل فليس تلقاه إلاّ ضارعا حذرا سبحان من زانه بالعلم والأدب ... وبالفضائل والإيمان والطلب فلا يزال حليف الفكر والتعب ... رام الكمال فلم يبلغ ولم يخب ولم يرد بعد في ري ولا صدرا سبحان من شأنه بالكبر والأشر ... يمسي ويصبح في غي وفي بطر مردد العزم بين الجبن والخور ... لا يستفيق من الشكوى إلى البشر ولا يزحزح عن ظلم إذا قدرا سبحان محرقه في وقدة الحسد ... فلا يزال أخا غيظ وفي نكد كالبحر يرمي إلى العينين بالزبد ... إذا رأى أثر النعمى على أحد يود لو كان أعمى لا يرى ضجرا

سبحان من أمر الأرواح فأتمرت ... ثم استديمت فلم تنهض بما أمرت وكل نفس إذا سامحتها فجرت ... فلا تصلها إذا خانتها أو غدرت واقطع علائق من قد خان أو غدرا سبحان من بسط التعليم ثم طوى ... فأعق القلب وجدا دائما وهوى وذاب في ملتظى أشواقه وذوى ... وكان أزمع واستوفى المنى ونوى حجا فلما انى ميقاته حصرا سبحان من في بساط العدل أجلسنا ... وباغتفار عظيم الذنب آنسنا وزان بالعلم والإيمان أنفسنا ... فكان أعظمنا قدرا وأنفسنا من انتهى أو نهى أو خاف فازدجرا سبحان من خص بالإيمان أنفسنا ... وخافه من عذاب النار أنفسنا لولاه لم نعرف المعروف والحسنا ... ولا استفدنا لسانا ناطقا لسنا ولا درينا: أباح الشرع أو حظرا سبحان من جعل الإيمان بالقدر ... والحشر والنشر منجاة من الضرر فلا خلود مع الإيمان في سقر ... ولا وصول إلى أمن دون حذر حتى تكون لأمر الله مؤتمرا سبحان من إن يشأ أعطاك أو منعك ... ومن إذا شاء أمرا حادثا وقعا وتارة يخفض الأمر الذي رفعا ... يوما يفرق للإنسان ما حمعا ولا يبالي بمن أثرى ومن خسرا سبحان من هو يوم الفصل يجمعنا ... وللنعيم بفضل منه يرفعنا

من بعد رؤية أهوال تروعنا ... يرى لها والها هيمان أورعنا حيران عريان يبدي كل ما سترا سبحان من شاء في الدنيا سعادتنا ... بطاعة أحسنت منا إرادتنا ويبتلينا ويستحلي عبادتنا ... حتى إذا شاء في الأخر إعادتنا أعادنا مثل ما كنا كما ذكرا سبحان من يحشر الإنسان مكتئبا ... خوف الجراء ويجزيه بما كسبا ويحكم الحكم يمضيه كما وجبا ... فالقاسطون إلى نيرانه عصبا والمقسطون إلى جناته زمرا سبحان من فضل الإسلام في الأمم ... بالطيبات الطاهر المبعوث في الحر محمّد خير من يمشي على قدم ... إذا عددت بيوت المجد والكرم فمنه حتى إلى عدنان أو مضرا سبحان من ختم الأديان في الأزل ... بالملة السمحة البيضاء في الملل أتى بها خير مأمور وممتثل ... محمّد خاتم السادات والرسل وخير من حج بيت الله واعتمرا إذا وصفنا فبالتقصير نعترف ... فكل لفظ بليغ دونه يقف هو النبي الذي في ذكره شرف ... فإن طلبت رضاه الذي تصف فكن على وصفه في الذكر مقتصرا صلى الإله عليه ما بدا قمر ... وما سرى في الديجاء أنجم زهر وما تباينت الأشكال والصور ... وما تدورست الآيات والسور وما قضى مؤمن من حاجة وطرا

أوليته

وبالجملة فابن عاصم أبو يحيى كان يسميه أهل زمانه أبن الخطيب الثاني، حسبما قاله الوادي آشي وغيره. ولا بد إنَّ نلم بنبذة من أخبار أبن الخطيب السلماني الوزير: إذ هو لسان الدين، وفخر الإسلام بالأندلس في عصره، فنقول: هو محمّد بن عبد الله أبن سعيد بن عبد الله بن سعيد ين علي بن أحمد السلماني، قرطبي الأصل، ثم لوشيه، يكنى أبا عبد الله، ويلقب من الألقاب المشرفة بلسان الدين، الوزير الشهير، الطائر الصيت، المثل المضروب في الكتابه والشعر والمعرفة بالعلوم على اختلاف أنواعها، رحمه الله. أوليته قال أبن الأحمر في نثير فرائد الجمان في حقه ما نصه: " ذو الوزارتين الفقيه الكاتب، أبو عبد الله محمّد، أبن الرئيس الفقيه الكاتب المفتي ببلدة لوشة، عبد الله، أبن الفقيه الكاتب سعيد أبن الفقيه الصالح ولي الله الخطيب سعيد السلماني اللوشي بابن الخطيب ". انتهى. وقال غيره: إنَّ بيتهم يعرف في القديم ببني الوزير، ثم في الحديث

ببني الخطيب. وسعيد جده الأعلى أوّل من تلقب بالخطيب، وكان من أهل العلم والدين والخير، وكذلك سعيد جده الأقرب كان على خلال حميدة، من خط، وتلاوة، وفقه، وحساب، وأدب، خيرا، صدراً، وتوفي عام ثلاثة وثمانين وست مائة، وأبوه عبد الله كان من أهل العلم بالأدب والطب، وقرأ على أبي الحسن البلوطي، وأبي جعفر الوزير، وغيرهما، وأجازه طائفة من أهل المشرق، وتوفي بطريف عام واحد وأربعين وسبع مائة شهيدا يوم الاثنين السابع من جمادى الأولى من العام مفقودا ثابت الجأش، شكره الله فعله. قال ابنه لسان الدين صاحب الترجمة: أنشدت والدي أبياتاً من شعري فسر وتهلل، وارتجل رحمه الله تعالى: الطب والشعر والكتابة ... سماتنا في بني النجابه هي ثلاث مبلغات ... مرتبات بعضها الحجابه انتهى. نشأته: ونشأ لسان الدين على حالة حسنة سالكاً سنن أسلافه، فقرأ القرآن على المكتب، الأستاذ الصالح أبي عبد الله عبد الولي العواد، تكتبا، ثم حفظا، ثم تجويدا؛ ثم قرأ القرآن أيضاً على أستاذ الجماعة أبي الحسن القيجاطي، وقرأ عليه العربية، وهو أوّل من انتفع به، وقرأ على الخطيب أبي القاسم بن جزي؛

ولازم قراءة العربية والفقه والتفسير على الشيخ أبي عبد الله بن الفخار البيري، شيخ النحوين لعهده؛ وقرأ على قاضي الجماعة أبي عبد الله بن بكر؛ وتأدب بالرئيس أبي الحسن بن الجياب؛ وروى عن كثير من الأعيان، كالمحدث شمس الدين بن جابر، وأخيه أبي جعفر، والقاضي أبي البركات بن الحاج؛ والشيخ أبي محمّد بن سلمون، وأخيه أبي القاسم بن سلمون، وأبي عمرو بن الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، وله روايه عالمية، والأستاذ اللغوي أبي عبد الله بن بيبش؛ والمحدث الكاتب أبي الحسن التمساني المسن، والقائد الكاتب أبي بكر بن ذي الوزارتين أبي عبد الله بن الحكيم، والقاضي المحدث أبي بكر أبن شيرين، والشيخ أبي عبد الله أبن الفقيه القاضي أبي عبد الله بن عبد الملك، والخطيب أبي جعفر الطنجالي، والقاضي أبي بكر بن منظور، والرواية أبي عبد الله بن حزب الله، وعن اشهر أسلافنا المتأخرين القاضي أبي عبد الله بن محمّد المقري القرشي، التلمساني المولد والمنشأ والمقبر، قاضي الجماعة بفاس، وعن الشريف أبي علي الحسن بن يوسف، وعن الخطيب الرئيس الراوية أبي عبد الله أبن مرزوق، وعن المحدث الفاضل الحسيب أبي العبياس بن يربوع السبتي، والرئيس الكاتب أبي محمّد بن عبد المهيمن الحضرمي السبتي، والشيخ المقري أبي محمّد بن أيوب المالقي، آخر الرواة عن أبي الاحوص، وعن أبي عثمان أبن ليون من أهل المرية، وعن القاضي أبي الحجاج المنتشافري، من أهل رندة، إلى غيرهم ممن يطول ذكره من أهل الأندلس، والعدوة الغربية،

تآليفه

والمشرق وأفريقية بالإجازة؛ وأخذ الطب والتعالم وصناعة التعديل عن الإمام أبي زكريا يحيى بن هذيل، ولازمه. تآليفه قال أبن الأحمر رحمه الله: " لأبن الخطيب الأوضاع المصنفات، التي آذان إحسانها هي المقطرات المشنفات، ومنها في التصوف الذي أكثر أهل الحقائق إليه نظر التشوف: روضة التعريف بالحب الشريف ". انتهى. ثم سرد غيرهما من كتبه، ومنها: الإحاطة، في تاريخ غرناطة، في خمسة عشر سفراً؛ واللمحة البدرية في الدولة النصرية؛ والحلل المرقومة؛ ومثلى الطريقة، في ذم الوثيقة؛ والوثيقة؛ والسحر والشعر؛ وريحانة الكتب، ونجعة المنتاب، في أسفار؛ والصيب والجهام، والماضي والكهام، في جموع شعره؛ ومعيار الاختيار؛ ومفاضلة مالقة وسلا؛ ورسالة الطاعون؛ ورسالة الطاعون؛ والمسائل الطبية، في سفر؛ والرجز في عمل الترياق؛ واليوسفي في الطب، في سفرين؛ والتاج المحلى في مساجلة القدح المعلى؛ والكتيبة الكامنة، في أدباء المائة الثامنة، ونفاضة الجراب، في أربعة أسفار، وهي من أحسن تآليفه، ولم أزل أكثر البحث في هذا التاريخ عنها، فلم أقف منها على عيه ولا أثر، إلاّ عدة أوراق متفرقة، وقد كنت قبل هذا التاريخ رأيت بعضها. والبيزرة، في سفر، والبيطرة، في سفر جامع لمّا يرجع إليه من محاسن الخيل وغيره ورسالة تكون الجنين؛ والوصول لحفظ الصحة في الفصول؛ ورجز الطب، ورجز الأغذية، ورجز السياسة؛

وكتاب الوزارة ومقامة السياسة والغيرة على أهل الحيرة وحمل الجمهور على السنن المشهور والزبدة الممخوضة والرد على اله الإباحة وسد الذريعة في تفضيل الشريعة وخطرة الطيف ورحلة الشتاء والصيف وطرفة العصر في دولة بني نصر في ثلاثة أسفار وتقرير الشبه وتحرير الشبه واستنزال اللطف الموجود في سر الوجود وبستان الدول وهو غريب في معناه في فنون السياسة في ثلاثين جزءا ولم يكمل وأبيات الأبيات فيما اختاره رحمه الله من مطالع ما له من الشعر ورقم الحلل في نظم الدول في غاية من الحلاوة والعذوبة والجزالة وفتات الخوان ولقط الصوان في سفر يتضمن المقطوعات وعائد الصلة في سفرين وصل به صلة الأستاذ أبي جعفر بن الزبير وتلخيص الذهب في اختيار عيون الكتب الأدبيات وجيش التوشيح ورجز في أصول الفقه شرح ولي الدين بن خلدون صاحب التاريخ المشهور والإكليل الزاهر وكناسة الدكان بعد انتقال السكان وعمل من طب لمن حب والدرر الفاخرة واللجج الزاخرة جمع فيه نظم بن صفوان والباخر الطيبية في المفاخر الخطيبية وخلع الرسن في أمر القاضي أبن الحسن وأعمال الأعلام فيمن بويع من ملوك الإسلام قبل الاحتلام. وألف أيضاً في الموسيقى ومصنفاته زادت على الخمسين وقد ذكرنا نحو الخمسين.

حاله

حاله قال أبن الأحمر: " هو شاعر الدنيا وعلم المفرد والثنيا وكتاب الأرض إلى يوم العرض لا يدافع مدحه في الكتاب ولا يجنح فيه إلى العتب آخر من تقدم في الماضي وسيف مقولة ليس بالكهام إذ هو الماضي وإلاّ فانظر كلام الكتاب الأول من العصبة كيف كان فيهم بالإفادة صاحب القصبة للبراعة باليراعة وبه اسكت صائلهم وما حمدت بكرهم وأصائلهم المشوبة بالحلاوة الممكنة من مفاصل الطلاوة وهو نفيس العدوتين ورئيس الدولتين بالاطلاع على العلوم العقلية والإمتاع بالفهوم النقلية لكن صل لسانه في الهجاء لسع ونجاد نظاقة في ذلك اتسع حتى صدمني وعلى القول فيه أقدمني بسبب هجوه في أبن عمي ملك الصعق الأندلسي سلطان ذلك الوطن في النفر الجنسي المعظم في الملوك بالقول الجني والإنسي ثم صفحت عنه صفحة القادر الوارد من مياه الظفر غير الصادر لأنَّ مثلي لا يليق به إظهار العورات ولا يجمل به تتتبع العثرات اتباعا للشرع في تحريم الغيبة وضربا عن الكريهة وإثباتا لحظوظ النقيبة الرغيبة فما ضره لو اشتغل بذنوبه وتأسف على ما شرب من ماء الهجو بذنوبه. وقد قال بعض الناس: من تعرض للأعراض أرسى عرضه هدفا لسهام الأغراض ". انتهى كلام أبن الأحمر. وقال غيره: تقلد الكتابة أيام السلطان أبي الحجاج في أخريات دولته بعد

شيخه أبن الجياب. قال أبن الصباغ العقيلي: " كان أبو الحسن بن الجياب رئيس كتاب الأندلس وهم رؤساء غيرهم واختص به الوزارتين أبو عبد الله بن الخطيب اختصاصا تاما وأورثته رتبته من بعده وعهد بها إليه مشيرا بذلك على من استشاره من أعلام الحجاب عند حضوره عمره. وتدرب بذكائه حتى استحق أزمته فأنسى بحسن سياسته شيخه المذكور ونال التي لا فوقها من الحظوة وبعد الصيت وسعادة البخت. اتفق له يوما بعد ما عزم النصراني على ورود البلاد وضاقت به الصدور فأنشد أبن الجياب بديها بمحضر الكتاب: هذا العدو قد طغى ... وقد تعدى وبغى وقال لابن الخطيب: أجز أبا عبد الله فأنشده بديها: وأظهر السلم وقد ... أسر حسوا في أرتغا فبلغ الرحمن سي ... في النصر فيه ما ابتغى ورده رد ثمود ... والفصيل قد رغا حتى يرى وليمة ... لكل مرهوب الثغا

فقال أبن الجياب: هكذا وإلاّ فلا وعجب الحاضرون من هذه البديهة ". انتهى كلام أبن الصباغ. ولمّا توفي أبو الحجاج ازدادت منزلة أبن الخطيب عند ابنه أبي عبد الله إلى أن كانت عليه الدائرة فقبض على أبن الخطيب وعلى أملاكه ثم تخلص منها نكبة مصحفية بشفاعة السلطان المستعين بالله أبي سالم إبراهيم أبن السلطان الشهير الكبير أبي الحسن المريني صاحب المغربو كان تحريك عزائم السلطان ابى سالم للشفاعة فيه بسعاية الغالبع دولته الحاجب الرئس الخطيب الراحل أبي عبد الله بن مرزوق. ولمّا تخلص لبن الخطيب من هذه الأنشوطة لحق بسلطانه أبي عبد الله كما نذكره قريبا وورد صحبته المغرب واستقر أبو عبد الله بن الخطيب بسلا تحت الجراية التامة متكلفا خدمة ضريح الملوك من بني مرين ليمت باب إلى صاحب الملك من بينهم كما يقضي له ما بقي من مآربه بالأندلس بشفاعة غير مردودة وفي أثناء هذه المدة كان يتطوف ببلاد المغرب مثل مراكش وأنظارها. ثم لمّا رجع مخدومة لغرناطة عاد هو في صحبة أولاده فألقى مقاليد رياسته وأزمة سياسته ورقاه إلى الذروة

التي لا فوقها ثم سم الخدمة وتسخط النعمة وأضمر الفرار عندما سمع بأن الملك استوثق للسلطان أبي فارس بن أبي الحسن المريني وأنّه ملك تلمستان فأظهر الذهاب إلى تفقد أحوال بعض الثغور فكان آخر عهد الأندلس به وخرج بتلمستان واهتزت دولة السلطان أبي فارس لقدومه ثم كان من أمه ما سنذكره. ولنورد بعض تفضيل لمّا سبق الإلمام به وما لم يسبق فنقول: قال في كتابه المسمى باللمحة البدرية في الدولة النصرية عند ذكره خلع السلطان أبي عبد الله وقيام الأمير إسماعيل عليه وذلك في شهر رمضان المعظم من عام ستين وسبع مائة ما نصه: " وكان السلطان أبو عبد الله عند تنصير الأمر إليه قد ألزم أخاه إسماعيل قصرا من قصور أبيه بجوار داره مرفها عليه متممة وظائفه له وأسكن معه أمه وأخواته منها وقد أستأثر يوم وفاة والده بمال جم من خزائنه الكائنة في بيتها فوجدت السبيل إلى السعي لولدها فجعل تواصل زيارة ابنتها التي عقد لها الوالد مع أبن عمه الرئيس أبي الوليد أبن الرئيس أبي عبد الله المبايع له بأندروش أبن الرئيس أبي السعيد جدهم الذي تجمعهم جرثومته وشمر المهر المذكور عن ساعد عزمه وجده وهو على ما هو من الإقدام ومداخلة ذؤبان الرجال واستعان بمن آسفه الدولة وهفت به الأطماع فتألف منها زهاء مائة قصدوا جهة

من جهات القلعة متسنمين شفا صعب المرتقي واتخذوا آلة تدرك ذروته لصعود بنية كانت عن التمام وكسبوا حرسيا بأعلاه بما اقتضى صماته فاستووا به ونزلوا إلى القلعة سحر الليلة الثامنة والعشرين من شهر رمضان عام ستين وسبع مائة فاستظهروا بالمشاعل والصراخ وعالجوا دار الحاجب رضوان ففضوا أغلاقها ودخلوا فقتلوه بين أهله وولده وانتهبوا ما اشتملت عله داره وأسرعت طائفة مع الرئيس فاستخرجت الأمير المستقل إسماعيل وأركبته وقرعت الطبول ونودي بدعوته وقد كان أخوه السلطان متحولا بولده إلى سكنى الجنة المنسوبة إلى العريف لصق داره وهي المثل المضروب في الظل الممدودة والماء المسكوب والنسيم البليل يفصل بينها وبين معقل الملك السور المنيع والخندق المصنوع فما راعه إلاّ النداء والعجيج وأصوات الطبول وهب إلى الدخول إلى القلعة. فألفها قد أخذت دونه شعائها كلها ونقابها وقذفته الحراب ورشقته السهام فرجع أدراجه وسدده الله في مخل الحيرة ودس له عرق الفحول من قومه فامتطى صهوة فرس كان مرتبطا عنده وصار لوجهه فأعيا المتبع وصبح مدينة وادي آش ولم يشعر حافظ قصبتها إلاّ به وقد تولج عليها فالتف بها أهلها وأعطوه صفتهم بالذب عنه فكان أملك بها وتجهزت الحشود إلى منازلته وقد جدد

أخوه المتغلب على ملكه عقد السلم مع طاغية قشتالة باحتياجه إلى سلم المسلمين لجراء فتنة بينه وبين البرجلونيين من أمته واغتبط به أهل المدينة فذبوا عنه ورضوا بهلاك عمتهم دونه واستمرت الحال إلى يوم عيد النحر من عام التاريخ ووصله رسول صاحب المغرب مستنزلا منها ومستدعيا إلى حضرته لمّا عز عن إمساكها. وراسل ملك الروم فلم يجد عند من معول فانصرف ثانية يوم عيد النحر المذكور وتبعه الجمع الوافر من أهل المدينة خيلا ورجالا إلى مربلة من ساحل إجازته. وكان وصوله إلى مدينة فاس مصحبا من البر والكرامة بما لا مزيد عله في السادس من شهر محرم فاتح عام واحد وستين وسبع مائة وركب السلطان للقائه ونزل إليه عند ما سلم عليه وبالغ في الحفاية به. وكانت قد لحق به مفلتا من شرك النكبة التي استأصلت المال وأوهمت سوء الحال بشفاعة السلطان أبي سالم قدس الله روحه فقمت بين يديه في المحفل المشهود يومئذ وأنشدته: سلا هل لديها من مخبرة ذكر ... وهل أعشب الوادي ونم به الزهر وهل باكر الوسمي دارا على اللوى ... عفت آيها إلاّ التوهم والذكر بلادي التي عاطيت مشمولة الهوى ... بأكنافها والعيش فينان مخضر وجوى الذي ربي جناحي وكره ... فها أنا ذا مالي جناح ولا وكر

نبت بي لاعن جفوة وملالة ... ولا نسخ الوصل الهني بها هجر ولكني الدنيا قليل متاعها ... ولذاتها دأبا تزور وتزور فمن لي بقرب العهد منها ودونها ... مدى طال حتى يومه عندنا شهر ولله علينا من رآنا وللأسى ضرام له في كل جارحة جمر وقد بددت در الدموع يد النوى ... وللشوق أَشجان يضيق لها الصدر بكينا على نهر الشروب عشية ... فعاد أجاجا بعدنا ذلك النهر أقول لأظعاني وقد غالها السرى ... وآنسها الحادي وأوحشها الزجر رويدك بعد العسر يسر أنَّ أبشري ... بأنجاز وعد الله قد ذهب العسر ولله فينا سر غيب ربما ... أتى النفع من حال أريد بها الضر وإنَّ تخن الأيام لم تخن النهى ... وإنَّ يخذل الأقوام لم يخذل الصبر وإنَّ عركت مني الحظوب مجربا ... نقابا تساوى عنده الحلو والمر فقد عجمت عوداً صليبا على الردى ... وعزما كما تمضي المهندة البتر إذا أنت بالبيضاء قررت منزلي ... فلا اللحم حل ما حييت ولا الظهر زجرنا بإبراهيم برء همومنا ... فلما رأينا وجهه صدق الزجر بمنتخب من آل يعقوب كلما ... دجا الخطب لم يكذب لعزمته فجر تناقلت الركبان طيب حديثه ... فلما رأته صدق الخبر الخبرَ ندى لو حواه البحر لذ مذاقه ... ولم مده أبداً جزر

وبأس غدا يرتاع من خوفه الردى ... وترفل في أثوابه الفتكه البكر أطاعته حتى العصم في قنن الربا ... وهشت إلى تأميله الأنجم الزهر قصدناك يا خير الملوك على النوى ... لتنصفنا مما جنى عبدك الدهر كففنا بك الأيام عن غوائلها ... وقد رابنا منها التعسف والكبر وعذنا بذاك المجد فانصرم الردى ... ولذنا بذاك العز فانهزم الذعر ولمّا أتينا البحر يرهب موجه ... ذكرنا نداك الغمر فاحتقر البحر خلافتك العظمى ومن لم يدن بها ... فإيمانه لغو وعرفانه نكر ووصفك يهدي المدح قصد صوابه ... إذا ضل في أوصاف من دونك الشعر دعتك قلوب المؤمنين واخلصت ... وقد طاب منها السر لله والهجر ومدت إلى الله الأكف ضراعة ... فقال لهن الله قد قضى الأمر وألبسها النعمى ببيعتك التي ... لها الطائر الميمون والمحتد الحر فأصبح ثغر الثغر بيسم ضاحكا ... وقد كان مما نابه ليس يفتر وأمنت بالسلم البلاد وأهلها ... فلا ظبة تعرى ولا روعة تعرو وقد كان مولانا أبوك مصرحا ... بأنك في أبنائه الولد البر وكنت خليقاً بالإمارة بعده ... على الفور لكن كل شيء له قدر وأوحشت من دار الخلافة هالة ... أقامت زمانا لا يلوح بها البدر فرد عليك الله حقك إذ قضى ... بأن تشمل النعمى وينسدل الستر وقاد إليك الملك رفقا بخلقه ... وقد عدموا ركن الإمامة واضطروا

وزادك بالتمحيص عزا ورفعةً ... وأجرا ولولا السبك ما عرف التبر وأنت الذي تدعى إذا دهم الردى ... وأنت الذي ترجى إذا أخلف القطر وأنت إذا جار الزمان محكم ... لك النقض والإبرام والنهى والأمر وهذا أبن نصر قد أتى وجناحه ... مهيض ومن علياك يلتمس الجبر غريب يرجى منك ما أنت أهله ... فإنَّ كنت تبغي الفخر قد جاءك الفخر ففز يا أمير المسلمين ببيعة ... موثقة قد حل عروقها الغدر ومثلك من يرعى الدخيل ومن دعا ... بيا لمرين جاءه العز والنصر وخذ يا إمام الحق بالحق ثأره ... ففي ضمن ما تأتى به العز والأجر وأنت لها يا ناصر الحق فلتقم ... بحق فما زيد يرجى ولا عمرو فإنَّ قيل مال مالك الدهر وافر ... وإنَّ قيل جيش عندك العسكر المجر يكف باب العادي ويحيا الهدى ويبني بك الإسلام ما هدم الكفر أعده إلى أوطانه عنك راضياً ... وطوقه نعماك التي مالها حصر وعاجل قلوب الناس فيه بجبرها ... فقد صدهم عنه التغلب والقهر وهم يرقبون الفعل منك وصفقة ... تحاولها يمناك ما بعدها خسر مرامك سهل لا تؤودك كلفة ... سوى ما إنَّ له في العلا خطر وما العمر إلاّ زينة مستعارة ... ترد ولكن الثناء هو العمر ومن باع ما يفني باق مخلد ... فقد انجح المسعى وقد ربح التجر

ومن دون ما تبغيه يا ملك الهدى ... جياد المذكى والمحجلة الغر وراد وشقر واضحات شياتها ... فأجسامها تبر وأرجلها در وشهب إذا ما ضمرت يوم غارةٍ ... مطهمة غارت بها الأنجم الزهر وأسد رجال من مرين مخيفة ... عمائمها بيض وآسالها سمر عليها من الماذى كل مفاضة ... تدافع في أعطافها اللجج الخضر هم القوم إنَّ هبوا لكشف ملمة ... فلا الملتقى صب ولا المرتقى وعر إذا سئلوا أعطوا وإنَّ نوزعوا سطوا ... وإنَّ واعدوا وفوا وإنَّ عاهدوا بروا وإنَّ مدحوا أهتزوا ارتياحا كأنهم ... نشاوى تمشت في معاطفهم خمر وإنَّ سمعوا العوراء فروا بأنفس ... حرام على هماتها في الوغى الفر وتبسم ما بين الوشيج ثغورهم ... وما بين قضب الدوح يبتسم الزهر أمولاي غاضت فكرتي وتبدلت ... طباعي فلا طبع يعين ولا فكر ولولا حنان منك داركتني به ... وأحييتني لم تبق عين ولا أثر فأوجدت مني فائتاً أي فائت ... وأنشرت ميتا ضم أشلاءه قبر بدأت بفضل لم أكن لعظيمة ... بأهل فجل اللطف وانفرج الصدر وطوقتني النعمى المضاعفة التي ... يقل عليها مني الحمد والشكر وأنت بتتميم الصنائع كافل ... إلى أنَّ يعود الجاه والعز والوفر جزاك الذي أسنى مقامك عصمة يفك بها عانٍ وينعش مضطر إذا نحن أثنينا عليك بمدحة ... فهيهات يحصى الرمل أو يحصر القطر ولكننا نأتى بما نستطيعه ومن بذل المجهود حق له العذر

فلا تسأل عن امتعاض وانتقاض، وسداد أنحاء في التأثر لنا وأغراض، والله غالب على أمره. وفي صبيحة يوم السبت السابع عشر من شهر شوال عام اثنين وستين وسبع مائة كان انصرافه إلى الأندلس، وقد ألح صاحب قشتالة في طلبه، وترجح الرأي على قصده، فقعد السلطان بقبة العرض من جنة المصارة، وبرز الناس وقد أسمعهم البيرح، واستحضرت البنود، والطبول والآلة، وألبس خلعة الملك، وقيدت له مراكبه فاستقل، وقد التف عليه كل من جلا عن الأندلس من لدن الكائنة في جملة كثيفة، ورئي من رقة الناس وإجهاشهم وعلو أصواتهم بالدعاء ما قدم به العهد، إذ كان مظنة ذلك سكوناً وعطافاً وقربا، قد ظله الله بوارق الرحمة، وعطف عليه وشاج المحبة، إلى كونه مظلوم العقد، منزع الحق، فتبعته الخواطر وحميت عليه الأنفس، وانصرف لوجهته؛ وهو الآن برندة مستقل بها وبجهاتها، ومقتنع برسم سلطانها وقد قام له برسم الوزارة الشيخ القائد أبو الحسن علي بن يوسف بن كماشة الحضرمي، وبكتابه الفقيه أبو عبد الله بن زمرك، وقد استفاض عنه الحزم والتدرب والتيقظ للأمور والمعرفة بوجوه المصالح ما لا ينكر، كان الله له ولنا بفضله. انتهى كلام أبن الخطيب في اللمحة البدرية.

وقد عرفت أنّه في ذلك التاريخ لم يكن دخل السلطان غرناطة، ولم يلحق به أبن الخطيب حتى دخلها. وقد ذكر ولي الدين بن خلدون هذه الواقعة في تاريخه الكبير وأحسن سردها فقال في ترجمة أيام السلطان أبي سالم ما نصه: الخبر عن خلع أبن الأحمر صاحب غرناطة ومقتل رضوان ومقدمه على السلطان لمّا هلك السلطان أبو الحجاج سنة خمس وخمسين وسبع مائة ونصب ابنه محمّد للأمر واستبد عليه رضوان مولى أبيه وكان قد رشح ابنه الأصغر إسماعيل بما ألقى عليه وعلى أمه من محبته فلما عدلوا بالأمر عنه حجبوه ببعض قصورهم وكان له صهرا من أبن عمه إسماعيل بن الرئيس أبي سعيد فكان يدعوه سرا إلى القيام بأمره حتى أمكنته فرصة في الدولة بخروج السلطان إلى بعض متنزهاته برياضه فصعد سور الحمراء ليلة سبع وعشرين لرمضان من سنة ستين في بعض أوشاب جمعهم من الطغام وعمد إلى دار الحاجب رضوان فاقتحم عليه الدار وقتله بين حرمه وبناته وقربوا إلى إسماعيل فرسه فركب فأدخلوه القصر وأعلنوا بيعته وقرعوا طبولهم بسور الحمراء وفر السلطان من مكانه بمتنزهه فلحق بوادي آش وغدا الخاصة والعامة على إسماعيل فبايعوه واستند على هذا الرئيس أبن عمه فخلعه لأشهر من بيعته واستقل

بسلطان الأندلس. ولمّا لحق السلطان أبو عبد الله محمّد بوادي آش بعد مقتل حاجبه رضوان واتصل الخبر بسلطان المولى أبي سالم امتعض لمهلك رضوان وخلع السلطان رعيا لمّا سلف له في جوارهم وأزعج لحينه أبا القاسم الشريف من أهل مجلسه لاستقدامه فوصل إلى الأندلس وعقد مع أهل الدولة على إجازة المخلوع من وادي أش إلى المغرب وأطلق من اعتقلهم الوزير الكاتب أبا عبد الله أبن الخطيب كانوا اعتقلوه لأول أمرهم لمّا كان رديفا للحاجب رضوان وركنا لدولة المخلوع فأوصى المولى أبو سالم إليهم بإطلاقه فأطلقوه ولحق مع الرسول أبي القاسم الشريف بسلطانه المخلوع بوادي آش للإجازة إلى المغرب وأجاز لذي القعدة من سنته وقدم على السلطان بفاس وأجل قدومه وركب للقائه ودخل به إلى مجلس ملكه وقد احتفل ترتيبه وغص بالمشيخة والعلية ووقف وزيره أبن الخطيب فأنشد السلطان قصيدته الرائية يستصرخه لسلطانه ويستحثه لمظاهرته على أمره واستعطف واسترحم بما أبكى الناس شفقة له ورحمة. ثم سرد ولي الدين بن خلدون القصيدة التي قدمنا ذكرها إلى آخرها قال: ثم انفض المجلس وانصرف أبن الأحمر إلى نزله وقد فرشت له القصور وقربت الجياد بالمراكب الذهبية وبعث إليه بالكسى الفاخرة ورتبت الجرايات له ولمواليه من المعلوجي وبطانته من الصنائع وحفظ عليه رسم سلطانه في الراكب والراجل ولم يفقد من ألقاب ملكه إلاّ الآلة

أدبا مع السلطان واستقر في جملته إلى أن كان من لحاقه بالأندلس وارتجاع ملكه سنة ثلاث وستين ما نحن نذكره. انتهى كلام أبن خلدون وفيه بعض مخالفة يسيرة لكلام أبن الخطيب في اللمحة البدرية. ولا بد أن نسرد كلام أبن خلدون في شأن أبن الخطيب إذ ذكره في ترجمة السلطان أبي الفارس أبن السلطان أبي الحسن المريني بما نصه: الخبر عن قدوم الوزير أبن الخطيب على السلطان بتلمستان نازعا إليه عن سلطانه أبن الأحمر صاحب الأندلس أصل هذا الرجل من لوشة على مرحلة من غرناطة في الشمال من البسيط الذي فيه ساحاتها المسمى بالمرج على وادي شنجيل ويقال شنبيل المخترق في ذلك البسيط من الجنوب إلى الشمال كان بها له سلف معدود في وزرائها وانتقل أبوه عبد الله إلى غرناطة واستخدم لملوك بني الأحمر واستعمل على مخازن الطعام ونشأ ابنه محمّد بغرناطة وقرأ وتأدب على مشيختها واختص بصحبة الحكيم المشهور يحيى بن هذيل وأخذ عنه العلوم الفلسفية وبرز في الطب وانتحل الأدب وأخذ عن أشياخها وامتلأ حوض السلطان من نظمه

ونثره مع انتقاء الجيد منه ونبغ في الشعر والترسيل بحيث لا يجاري فيهما وامتدح السلطان أبا الحجاج من ملوك بني الأحمر لعصره وملأ الدنيا بمدائحه وانتشرت في الآفاق فرقاه السلطان إلى خدمته وأثبته في ديوان الكتاب ببابه مرؤوسا بأبي الحسن بن الجياد شيخ العدوتين في النظم والنثر وسائر العلوم الأدبية وكاتب السلطان بغرناطة من لدن أيام محمّد المخلوع من سلفه عندما قتل وزيره محمّد بن الحكيم المستبد عليه كما مر في أخبارهم. فاستبد أبن الجياد برياسة الكتاب من يومئذ إلى أن هلك في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبع مائة فولى السلطان أبو الحجاج يومئذ محمّد أبن الخطيب رياس الكتاب ببابه مثناة بالوزارة ولقبه بها فاستقل بذلك وصدرت عنه غرائب من الترسيل في مكاتبات جيرانهم من ملوك العدوة ثم دخله السلطان في تولية العمال على يده بالمشارطات فجمع له بها أموالا وبلغ به في المغالطة إلى حيث لم يبلغ بأحد ممن قبله وسفر عنه إلى السلطان أبي عنان ملك بني مرين بالعداوة معزيا بأبيه السلطان أبي الحسن فجلى في أغراض سفارته. ثم هلك السلطان أبو الحجاج سنة خمس وخمسين عدا عليه بعض الزعانف يوم الفطر بالمسجد في سجوده للصلاة وطعنه فأشواه وفاظ لوقته وتعاورت سيوف الموالي المعلوجي هذا القاتل فمزقوه أشلاء

وبويع ابنه محمّد بالأمر لوقته وقام بأمره مولاهم رضوان الراسخ القدم في قيادة عساكرهم وكفالة الأصاغر من ملوكهم واستبد بالدولة وأفرد أبن الخطيب بوزارته. كما كان لأبيه واتخذ لكتابته غيره وجعل أبن الخطيب رديفا له في أمره ومشاركا في استبداده معه فجرت الدولة على أحسن حال وأقوم طريقة ثم بعثوا الوزير أبن الخطيب سفيرا إلى السلطان أبي عنان مستمدين له على عدوهم الطاغية على عادتهم مع سلفه فلما قدم على السلطان ومثل بين يديه تقدم الوفد الذين معه من وزراء الأندلس وفقهائها واستأذنه في إنشاد شعره قدمه بين يدي نجواه فأذن له وأنشد وهو قائم: خليفة الله ساعد القدر ... علاك ما لاح في الدجى قمر ودافعت عنك كف قدرته ... ما ليس يستطيع دفعه البشر وجهك في النائبات بدر ذجي ... لنا وفي المحل كفك المطر والناس طرا بأرض أندلس ... لولاك ما أوطنوا ولا عمروا وجملة الأمر أنّه وطن ... في غير علياك ما له وطر ومن به مذ وصلت حبلهم ... ما جحدوا نعمة ولا كفروا وقد أهمتهم بأنفسهم ... فوجهوني إليك وانتظروا فاهتز السلطان لهذه الأبيات وأذن له في الجلوس وقال له قبل أن يجلس

ما ترجع إليهم إلاّ بجميع طلباتهم ثم أثقل كاهلهم بالإحسان وردهم بجميع ما طلبوه. وقال شيخنا القاضي أبو القاسم الشريف وكان معه في ذلك الوفد: لم نسمع بسفير قضى سفارته قبل أن يسلم على السلطان إلاّ هذا. ومكثت دولتهم هذه بالأندلس خمس سنين ثم ثار بهم محمّد الرئيس أبن عم السلطان شركه في جده الرئيس أبي سعيد وتحين خروج السلطان إلى متنزهه خارج الحمراء وتسوروا دار الملك المعروفة بالحمراء وكبس رضوان في بيته فقتله ونصب للملك إسماعيل أبي الحجاج بما كان صهره على شقيقته وكان معتقلا بالحمراء فأخرجه وبايع له وقام بأمره مستبدا عليه وأحس السلطان محمّد بقرع الطبول وهو بالبستان فركب ناجيا إلى وادي آش وضبطها بالخبر إلى السلطان أبي سالم إثر ما استولى على ملك آبائه بالمغرب وقد كان مثواه أيام أخيه أبي عنان عندهم بالأندلس واعتقل الرئيس القائم بالدولة هذا الوزير أبن الخطيب وضيق عليه في محسبه وكانت بينه وبين الخطيب أبن مرزوق مودة استحكمت أيام مقامعه بالأندلس وكان غالبا على هوى السلطان أبي سالم فزين له استدعاء هذا السلطان المخلوع من وادي آش يعده زبونا على أهل الأندلس ويكف به عادية القرابة المرشحين هناك متى طمحوا إلى ملك المغرب فقبل ذلك منه وخاطب أهل الأندلس في تسهيل طريقه من وادي آش إليه وبعث من أهل مجلسه الشريف أبا القاسم التلمساني وحمله مع ذلك الشفاعة في أبن الخطيب وحل معتقله فأطلق وصحب الشريف أبا القاسم إلى وادي آش وسار في ركاب سلطانه وقدموا على

السلطان أبي سالم فهتز لقدوم أبي الأحمر وركب في الموكب لتلقيه وأجلسه إزاء كرسيه وأنشد أبن الخطيب قصيدته كما مر يستصرخ السلطان لنصره فوعده وكان يوما مشهودا وقد مر ذكره ثم أكرم مثواه وأرغد نزله ووفر أرزاق القادمين في ركابه وأرغد عيش أبن الخطيب في الجراية والإقطاع. ثم استأنس واستأذن السلطان في التجوال بجبهات مراكش والوقوف على آثر الملك بها فأذن له وكتب إلى العمال بإتحافه فتباروا في ذلك وحصل منه على حظ وعندما مر بسلا إثر قفوله من سفره دخل مقبرة الملوك بشالة ووقف على قبر السلطان أبي الحسن وأنشد قصيدته على روي الراء الموصولة يرثيه ويستجير به في استرجاع ضياعه بغرناطة مطلعها: إن بان منزله وشطت داره ... قامتمقام عيانه أخباره قسم زمانك عبرة أو عبرة ... هذا ثراه وهذه آثاره فكتب السلطان أبو سالم في ذلك إلى أهل الأندلس بالشفاعة فشفعوه واستقر هو بسلا منتبذا عن سلطانه طول مقامه بالعدوة. ثم عاد السلطان محمّد المخلوع إلى ملكه بالأندلس سنة ثلاثة وستين وبعث عن مخلفه بفاس من الأهل والوالد والقائم بالدولة يومئذ عمر بن عبد الله بن علي فاستقدم أبن الخطيب من سلا وبعثهم لنظره فسر السلطان لقدومه ورده إلى منزلته كما كان مع رضوان كفله وكان عثمان بن يحيى بن عمر شيخ الغزاة وأبن أشياخهم قد لحق بالطاغية في ركب أبيه عندما أحس بالشر من الرئيس

صاحب غرناطة وأجاز يحيى من هنالك إلى العداوة وأقام عثمان بدار الحرب فصحب السلطان في مثوى اغترابه هنالك وتقلب في مذاهب خدمته وانحرفوا عن الطاغية بعد ما يئسوا من الفتح على يده فتحولوا عنه إلى ثغور بلادهم وخاطبوا الوزير عمر بن هب في أن يمكنهم من بعض الثغور الغريبة التي لطاغيتهم بالأندلس يرتقبون منها الفتح وخاطبني السلطان المخلوع في ذلك وكانت بيني وبين عمر بن عبد الله أذمة مرعية وخاصة متأكدة فوفيت للسلطان بذلك من عمر بن عبد الله وحملته على أن يرد عليه مدينة زندة إذ هي من تراث سلفه فقبل إشارتي في ذلك وتسوغها السلطان المخلوع ونزل بها وعثمان بن يحيى في جملته وهو المقدم في بطانته ثم غزوا منها مالقة فكانت ركابا للفتح وملكها السلطان واستولى بعدها على دار ملكه بغرناطة وعيمان بن يحيى متقدم القوم في الدولة عريق في المخالصة وله على السلطان دالة واستبداد على هواه. فلما وصل أبن الخطيب بأهل السلطان وولده وأعاده إلى مكنه في الدولة من علو يده وقبول اشارته أدركته الغيرة من عثمان ونكر على السلطان الأستكفاء به وأراه التخوف من هؤلاء الأعياض فحذره السلطان وأخذ في التدبير عليه حتى نكبه وأباه وإخوته في رمضان سنة أربع وستين وأودعهم المطبق ثم غربهم بعد ذلك وخلا لابن الخطيب

الجو وغلب على هوى السلطان ودفع إليه تدبير الدولة وخلط بنيه بندمائه ولعل خلوته وانفراد أبن الخطيب بالحل والعقد وانصرفت إليه الوجوه وعلقت به الآمال وغشى بابه الخاصة والكافة وغصت به بطانة السلطان وطشيته فتفننوا في السعايات فيه وقد صم السلطان عن قبولهم ونمى الخبر بذلك إلى أبن الخطيب فشمر عن ساعده في التفويض واستخدم للسلطان عبد العزيز أبن السلطان أبي الحسن ملك الغدوة يومئذ في القبض على أبن عمه عبد الرحمن أبن أبي يفلوس أبن السلطان أبي علي كانوا قد نصبوه شيخا على الأندلس لمّا أجاز من العدوة بعد ما جاس خلالها لطلب الملك وأضرم بها نار الفتنة في كل ناحية وأحسن دفاعه الوزير عمر بن عبد الله القائم يومئذ بدولة بني مرين فاضطر إلى الإجازة إلى الأندلس فأجاز هو ووزيره مسعود بن ماساي ونزلوا على السلطان المخلوع عام سبعة وستين فأكرم نزلهم وتوفى على بن بدر الدين شيخ الغزاة فقدم عبد الرحمن مكانه. وكان السلطان عبد العزيز قد استبد بملكه بعد مقتل الوزير عمر بن عبد الله غص بما فعله السلطان المخلوع من ذلك وتوقع انتقاض أمره منهم ووقف على مخاطبات من عبد الرحمن يسر بها في بني مرين فجزع لذلك وداخله أبن الخطيب في اعتقاله أبن يفلوسن وابن ماساي وإراحة نفسه من شغبهم على أن يكون له المكان من دولته متى نزع إليه فأجابه إلى ذلك وكتب له العهد بخطه على يد سفيره إلى الأندلس وكاتبه أبن يحيى بن أبي مدين وأغرى أبن الخطيب سلطانه بالقبض على أبن يفلوسن بن ماساي فقبض عليهم واعتقلهم وفي خلال ذلك استحكمت نفرة أبن الخطيب لمّا بلغه من البطانة

من القدح فيه والسعاية وربما تخيل السلطان مال إلى قبوله وأنهم قد أحفظوه عليه فأجمع التحول عن الأندلس إلى المغرب واستأذن السلطان في تفقد الثغور الغربية وسار إليها في لمة من فرسانه ومعه أبنه علي الذي كان خاصة للسلطان وذهب لطيته فلما حاذى جبل الفتح فرضة المجازة إلى العدوة مال إليه وسرح اذنه بين يديه فخرج قائد الجبل لتلقيه. وقد كان السلطان عبد العزيز أوعز إليه بذلك وجهز له الأسطول من حينه فأجاز إلى سبتة وتلقاه ولاتها بأنواع التكرمة وامتثال المراسم ثم سار لقصد السلطان فقدم عله سنة ثلاث وسبعين بمقامه تلمستان فهتزت له الدولة وأركب السلطان خاصته لتلقيه وأحله لمجلسه بمحل الأمن والغبطة ومن دولته بمكان التنويه والعز وأخرج لوقته كتابه أبا يحيى بن أبي مدين سفيرا إلى صاحب الأندلس في أهله وولده فجاء بهم على أكمل حالت الأمن والتكرمة ثم أكثر المنافسون له في شأنه وأعزوا سلطانه بتتبع عثراته وإبداء ما كان كامنا في نفسه من سقطاته وإحصاء معايبه وشاع على ألسنة أعدائه كلمات منسوبة إلى الزندقة أحصوها عليه ونسبوها إليه ورفعت إلى قاضي الحضرة أبي الحسن بن الحسن فإسترعاها وسجل عليه بالزندقة وراجع صاحب الأندلس رأيه فيه وبعث القاضي أبن الحسن إلى السلطان عبد العزيز في الانتقام منه بتلك السجلات وإمضاء حكم الله فيه فصم على ذلك وأنف لذمته أن تخفر ولجواره أن يرد وقال لهم: هلا انتقمتم منه عندكم وانتم عالمون بما كان عليه وأما أنا فلا يخلص إليه بذلك أحد ما كان في جواري ثم وفر

الجراية والإقطاع له ولبنيه، ولمن جاء من أهل الأندلس في جملته. فلما هلك السلطان عبد العزيز سنة أربع وسبعين، ورجع بنو مرين إلى المغرب، وتركوا تلمسان، سار هو في ركاب الوزير أبي بكر بن غازي، القائم، فنزل بفاس، واستكثر من شراء الضياع، وتأنق في بناء المساكن، واغتراس الجنات، وحفظ عليه القائم بالدولة الرسوم التي رسمها له السلطان المتوفى، واتصلت حاله على ذلك، إلى أنَّ ما نذكره. انتهى كلام أبن خلدون وأكثره بلفظه. قلت: وقد وقفت على كتاب القاضي أبي الحسن المذكور يخاطب به أبن الخطيب يعظه، ويشير إلى ما نشغل من البنيان، وفيه ما بين كلام أبن خلدون السابق وزيادة، وما يدل على ما ذكره أبن خلدون من أنّه سجل عليه بأمور منكرة، وعند الله تجتمع الخصوم، وقد أسقطت بعضه اختصاراً، ونص ما تعلق به الغرض قوله يخاطب الوزير أبن الخطيب: فشرعتم في الشراء، وتشديد البناء؛ وتركتم الاستعداد لهدام اللذات، هيهات هيهات؛ تبنون ما لا تسكنون مالا تأكلون، وتؤملون مالا تدركون؛ أينما تكونوا يدركم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة، فأين المهرب مما هو كائن! ونحن إنّما نتقلب في قدرة الطالب، شرقتم أو غربتم، والأيام تتقاضى الدين، وتنادي بالنفس الفرارة إلى أين إلى أين! نترك الكلام مع الناقد فيما ارتكبه من تزكية نفسه، وعد ما جلبه من مناقبه، ما عدا ما هدد به من حديد لسانه، خشية اندراجه في نمط من قال فيه رسول الله) :

" إنَّ من شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه ". ولا غيبة فيمن ألقى جلباب الحياء عن وجهه؛ ونرحمه على ما أبداه وأهداه من العيوب التي نسبها لأخيه، واستراح على قوله بها فيه، ونذكره على طريقة نصيحة الدين، بالحديث الثابت في الصحيح عن رسول الله) ، وهو قوله: " أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع! فقال: إنَّ المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته قبل أنَّ يقضى مت عليه أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار ". ويعلم الله أنَّ معنى هذا الحديث الثابت عن النذير الصادق، هو الذي حملني على نصحكم ومراجعتكم في كثير من الأمور، منها الإشارة عليكم بإذهاب عين ما كتبتم به في التاريخ وأمثاله، فإنكم نفعتم بما وقعتم فيه من الغيبة المحرمة أحياء وأمواتاً، لغير شيء حصل بيدكم، وضررتم نفسكم بما رتبتم من المطالبات بنص الكاتب والسنة قبلكم، والرضا بهذه الصفقة الخاسرة أمر بعيد من الدين والعقل. وقد قلت لكم غير ما مرة عن أطراسكم المسودة، بما دعوتم إليه من البدعة، والتلاعب بالشريعة: إنَّ حقها التخريق والتحريق، وإنَّ أطراها لكم فقد خدع نفسه وخدعكم، والله الشهيد بأني نصحتكم وما غششتكم، وليس هذا القول وإنَّ كان ثقيلا عليكم، بمخالف لمّا ذنبتم به من تقدم المواجهة بالملاطفة، والمعاملة بالمكارمة، فليست المداراة بقادحة في الدين، بل هي محمودة

وفي بعض الأحوال، مستحسنة على ما بينه من العلماء، إذ هي مقاربة في الكلام، أو مجاملة بأسباب الدنيا، لصلاحها أو صلاح الدين، وإنّما المذموم المداهنة، وهي بذل الدين لمجرد الدنيا به لتحصيلها؛ ومن خالط للضرورة مثلكم وزايله بأخلاقه، ونصحه مخاطبة ومكاتبة، واستدل له بكتاب الله وسنة رسول الله) على صحة مقالته، فقد سلم والحمد لله من مداهنته، وقام لله بما يجب عليه في حقكم من التحذير والإنكار، مع الإشفاق والوجل. وأكثرهم في كتابهم من المن بما ذكرتم أنكم صنعتم، وعلى تقدير الموافقة لكم، ليتكم فعلتم فسلمنا من المعرة وسلمتم، وجل القائل سبحانه:) قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم (. وقلما شاركتم أنتم في شيء إلاّ بأعراض حاصلة في يدكم، أو لأغراض دنيوية خاصة بكم، فالملام إذاً في الحقيقة إنّما هو متوجه إليكم. وأما ما أظهرتم بمقتضى حركاتكم، من التندم على فراق محلكم، والتعلل بأخبار قطركم وأهلكم، فتناقص منكم، وإنَّ كنتم فيه بغدركم: أتبكي على لبنى وأنت تركتها ... فكنت كآتٍ حتفه وهو طائع وما كأنَّ ما منتك نفسك خاليا ... تلاقي ولا كل الهوى أنت تابع فلا تبكين في إثر شيء ندامة ... إذا نزعته من يديك النوازع

وعلى أنَّ تأسفكم لمّا وقعتم فيه من الغدر لسلطانكم، والخروج لا لضرورة غالبة عن أوطانكم، من الواجب بكل اعتبار عليكم، سيما وقد مددتم إلى التمتع لغيرها عينيكم. ولو لم يكن لهذه الجزيرة الفريدة من الفضيلة إلاّ ما خصت به من بركة الرباط، ورحمة الجهاد، لكفاها فخراً على ما يجاورها من سائر البلاد، قال رسول الله) : " رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم سواه ". وقال عليه السلام: " الروحة يروحها العبد في سبيل الله والغدوة خير من الدنيا وما فيها ". وعلى كل تقدير فإذا لم يكن يا أخي فراركم من الأندلس إلى الله وحده بالتوبة المكملة والاستغفار، مع الانقطاع في أحد المواطن المكرمة المعظمة بالإجماع، وهي طيبة أو مكة أو بيت المقدس، فقد خسرتم صفقة رحلتكم، وتبين أنَّ لغير وجه الله العظيم كانت نية هجرتكم؛ اللهم إلاّ إنَّ كنتم قد لاحظتم مسألة الرجل الذي قتل مائة نفس، وسأل أعلم أهل الأرض، فأشار عليه بعد إزماع التوبة بمفارقة المواطن التي ارتكب فيها الذنوب، وأكتسب بها العيوب؛ فأمر آخر، مع أنَّ كلام العلماء في هذا الحديث معروف؛ ويقال لكم من الجواب الخاص بكم: فعليكم إذاً بترك القيل والقال، وكسر حربة الجدال والقتال، وقصر ما بقي من مدة العمر على الانشغال بصالح الأعمال. ووقعت في مكتوبكم كلمات اوردها النقد في قالب الاستهزاء والازدراء، والجهالة بمقادير الأشياء، منها: ريح صرصر، وهو لغة القرآن، وقاع قرقر: وهو لفظ سيد العرب والعجم محمّد) ، ثبت في الصحيح في باب التغليظ فيمن لا يؤدي زكاة ماله، " قيل: يا رسول الله، والبقر والغنم؟ قال: ولا صاحب بقر ولا غنم

لا يؤدي منها حقها، إلاّ إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئاً، تنطحه بقونها، وتطؤه بأظلافها ". الحديث الشهير. قال صاحب المعلم: بطح لها البقاع قرقر، أي ألقى على وجهه، والقاع: المستوى من الأرض، والقرقر: كذلك؛ هذا ما حض من الجواب. وبقي في مكتوبكم حشو كثير من كلام الإقذاع، وفحش بعيد من الحشمة والحياء، رأيت أنَّ من الصواب الإضراب عن ذكره، وصون اليد عن الاستعمال فيه، والظاهر أنّه إنّما صدر عنكم وانتم بحال مرض، فلا حرج فيه عليكم إن شاء الله، أجلكم، ومكن أمنكم، وسكن وجلكم، ومنه جل اسمه نسأل لي ولكم حسن الخاتمة، والفوز بالسعادة الدائمة، والسلام الأتم يعتمدكم، والرحمات والبركات من كتابه علي بن عبد الله بن الحسن، وفقه الله. وذلك بتاريخ أخريات جمادى الأولى من عام ثلاثة وسبعين وسبع مائة. وقيد رحمه الله في مدرج طي هذا الكتاب ما نصه: يا أخي، أصلحنى الله وإياكم، وبقي من الحديث شيء، الصواب الخروج عنه لكم، إذ هذا أوانه، وتأخير البيان عن وقت الحاجة فيه ما فيه، وليكن البناء بعد أنَّ كان على أصل صحيح بحول الله، وحاصله: أنكم عددتم ما شاركتم فيه بحسب الأوقات، وقطعتم بنسبة الأمور كلها لنفسكم، وأنها إنّما صدرت عن أمركم وبأذنكم، من غير مشاركة في شيء منها لكم، ثم مننتم بها المن القبيح، المبطل لعمل بركم، على تقدير

التسليم في فعله لكم، ورميتم غيركم بالتقصير في حاله كله، طريقة من يبصر القذى في عين أخيه ويدع الجذع في عينه، وأقصى ما تسنى للمحب أيام كونكم بالأندلس، تقلد كلفة قضاء الجماعة، وما كان إلاّ أنَّ وليتها بقضاء الله وقدره، فقد تبين لكل ذي عقل سليم أنّه لا موجد إلاّ الله، وإذا كان كذلك كان الخير والشر والطاعة والمعصية حاصلاً بإيجاده سبحانه وتخليقه وتكوينه، من غير عاضد له على تحصيل مراده ولا معين، ولكنه، جلت قدرته، وعد فاعل الخير بالثواب فضلا منه، وأوعد فاعل الشر بالعقاب عدلا منه، وكأني بكم تضحكون من تقرير هذه المقدمة، وما أحوجكم إلى تأملها بعين اليقين، فكابدت أيام تلك الولاية النكدة من الكناية، باستحقاركم للقضايا الشرعية، وتهاونكم بالأمور الدينية، ما يعظم الله به الأجر، وذلك في جملة مسائل، منها مسألة أبن الزبير المقتول على الزندقة بعد تقضي موجباته، على كره منكم؛ ومنها مسألة أبن أبي العيش المثقف في السجن على آرائه المضلة، التي كان منها دخوله على زوجه إثر تطليقه إياها بالثلاث، وزعمه أنَّ رسول الله) أمره بالمشافهة بالاستمتاع بها، فحملتم أحد ناسكم تناول إخراجه من الثقاف، ومن غير مبالاة بأحد؛ ومنها أنَّ أحد الفتيان المتعلقين بكم توجهت عليه مطالبة بدم القتيل، وسيق المدعي عليه للذبح بغير سكين، فما وسعتني بمقتضي الدين إلاّ حبسه على ما أحكمته السنة، فأنتقم لذلك، وسجنتم الطالب ولي الدم، وسرحتم الفتى المطلوب على الفور، إلى غير ذلك مما لا يسع الوقت شرحه، ولا يجمل بي ولا بكم

ذكره. والمسألة الأخرى أنتم توليتم كبرها، حتى جرى فيها القدر بما جرى من الانفصال، والحمد لله على كل حال. وأما الرمى بكذى وكذا مما لا علم لنا به بسببه، ولا عذر لكم من الحق في التكلم به، فشئ قلما يقع من البهتان، ممن كان يرجوا لقاء ربه، وكلامهم في المدح والهجو هو عندي من قبيل اللغو الذي نمر به كراما، والحمد لله فكثروا أو أقلوا من أي نوع شئتم، وانتم وما ترضونه لنفسكم، وما فهت لكم بما فهت من الكلام، إلاّ على جهة الإعلام، لا على جهة الانفعال، لمّا صدر أو يصدر عنكم من الأقوال، فمذهبي غير مذهبكم، وعندي ما ليس عندكم. وكذلك رأيتم تكثرون في مخاطبتكم من لفظ الرقية في معرض الإنكار لوجود نفعها، والرمى بالمنقصة والحمق لمستعملها، ولو كنتم قد نظرتم في شيء من كتب السنة، وسير الأمة المسلمة، نظر مصدق، لمّا وسعكم إنكار ما أنكرتم، وكتبه بخط يدكم، فهو قادح كبير في عقيدة دينكم، فقد ثبت بالإجماع في سورة الفلق أنّه خاطب للنبي) ، وإنَّ المراد بها هو وآحاد أمته؛ وفي أمهات الإسلام الخمس أنَّ رسول الله) كان إذا اشتكى رقاه جبريل، فقال: بسم الله يبريك، ومن كل داء يشفيك، ومن شر حاسد إذا حسد، ومن شر كل ذي عين. وفي الصحيح أيضاً إنَّ أناساً من أصحاب رسول الله) كانوا في سفر، فروا بحي من أحياء العرب، فاستضافوهم فلم يضيفوهم، فقالوا: هل فيكم راق؟ فإنَّ سيد الحي لديغ أو مصاب: فقال رجل من القوم: نعم، فأتاه بفاتحة الكتاب، فبرئ الرجل، فأعطى قطيعا من

غنم، الحديث شهير. قال أهل العلم: فيه دليل على جواز اخذ الأجرة على الرقية والطب وتعليم القرآن، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وأبي ثور وجماعة من السلف، وفيه جواز المقارضة، وإنَّ كان ضد ذلك أحسن، وفي هذا القدر كفاية. وما رقيت قط أحداً على الوجه الذي ذكرتم، ولا إسترقيت، والحمد لله، وما حملني على تبين ما تبينته الآن لكم في المسألة، إلاّ إرادة الخير التام لجهتكم، والطمع في إصلاح باطنكم وظاهركم، فأبى أخاف عليكم من الإفصاح بالطعن في الشريعة، ورمى علمائها بالمنقصة، على عادتكم وعادة المستخف أبن هذيل سيخكم، منكر علم الجزيئات، القائل بعدم قدرة الرب على جمع الممكنات؛ وانتم قد انتقلتم إلى جوار أناس أعلام، قلما تجوز عليهم، حفظهم الله، المغالطات، فتأسركم شهادة العدول التي لا مدافع لكم فيها، وتقع الفضيحة، والدين النصيحة، أعاذنا الله من درك الشقاء، وشماتة الأعداء، وجهد البلاء. وكذلك أحذركم من الوقوع بما لا ينبغي في الجانب الرفيع، جناب سيد المرسلين، وقائد الغر المحجلين، صلوات الله وسلامه عليه، فانه نقل عنكم في هذا الباب أشياء منكرة، يكبر في نفوس التكلم بها، انتم تعاملونها، وهي التي زرعت في القلوب ما زرعت من بغضكم، وإيثار بعدم، مع استشعار الشفقة والوجل من وجه آخر عليكم ولولا أنكم سافرتم قبل تقلص ظل السلطنة عنكم، لكانت الأمة المسلمة، امتعاضاً لدينها ودنياها، قد برزت الجهات، لطلب الحق منكم، فليس يعلم أنّه صدر عن مثلكم من خدام الدول ما صدر عنكم، من البعث في الأبشار والأموال، وهتك الأعراض، وإفشاء الأسرار، وكشف الأستار، واستعمال المكر والحيل والغدر في غلب الأحوال، للشريف والمشروف، والخديم والمخدوم، ولو لم يكن في الوجود من الدلال على صحة ما رضيتم به لنفسكم، من

الاتسام بسوء العهد، وتجاوز المحض وكفران النعم والركون إلى ما تحصل من الحطام الزائل إلاّ عملكم مع سلطانكم ومولاكم وأبن مولاكم أيده الله بنصره وما ثبت من مقالاتكم السيئة فيه وفي الكثير من أهل قطره لكفاكم وصمة لا يغسل دنسها البحر ولا ينسى عارها الدهر فإنكم تركتموه أوّلاً بالمغرب عند تلون الزمان وذهبتم للكدية والأخذ بمقتضى المقامة الساسانية إلى أن استدعاه الملك وتخلص له بعد الجهد الأندلس فسقطتم عليه سقوط الذباب على الحلواء وضربتم وجوه رجاله بعضا ببعض حتى خلا لكم الجو وتمكن الأمر والنهي فهمزتم ولزمتم وجمعتم من المال ما جمعتم ثم وريتم بتفقد ثغر الجزيرة الخضراء مكرا منكم فلما بلغتم أرض الجبل انحرفتم عن الجادة وهربتم بأثقالكم الهروب الذي أنكه عليكم كل من بلغه حديثكم أو يبلغه إلى آخر الدهر في العدوتين من مؤمن وكافر وبر وفاجر فكيف يستقيم لكم بعد المعرفة بتصرفاتكم حازم أو يثق بكم في قول أو فعل صالح أو طالح. ولو كان قد بقي لكم من العقل ما تتفكرون به في الكيفية التي ختمتم بها عملكم بالأندلس من الزيادة في المغرم وغير ذلك مما لكم وزره ووزر من عمل بعدكم إلى يوم القيامة حسبما ثبت في الصحيح لحملكم على مواصلة الحزن وملازمة الأسف والندم على ما أوقعتم فيه نفسكم الأمارة من التورط والتنشب وأشطان الآمال ودسائس الشيطان ونعوذ بالله من شرور الأنفس وسيئات الأعمال. وأما قولكم عن فلان: أنّه كان حشرة في قشور اللوز وإن فلان كان

برغوثا في تراب الخيول فكلام سفساف يقال لكم من الجواب عليه: وأنتم يا هذا أين كنتم من خمسين سنة مثلا؟ خلق الله الخلق لا استظهارا بهم ولا استكثارا وأنشأهم كما قدر أحوالا وأطوارا واستخلفهم في الأرض بعد أمة أمما وبعد عصر أعصار وكلفهم شرائعه وأحكامه ولم يتركهم هملا وأمرهم ونهاهم ليبلوهم أيهم أحسن عملا إنَّ أكرمكم عند الله أنقاكم وبكل اعتبار فلا نعلم في نمط الطلبة تدريجا كان أسمح في تدريجكم ونبدأ من كذا فإنه كان كذا وكذا وأكثر أهل زمانه تخملا وتقللا في نفسه بالنسبة إلى منصبه كان الشيخ أبو الحسن بن الجياب ولكنه حين علم رحمه الله من نشأتكم وحالتكم ما علم نبذ مصاهرتكم وصرف عليكم صداقكم وكذلك فعلت بنت جزي زوج الرهيصي معكم حسبما هو مشهور في بلدكم وذكرتم أنكم مازلتم من أهل الغنى حيث نفرتم بذكر العرض وهو بفتح العين والراء: حطام الدنيا على ما حكى أبو عبيد قال أبو زيد: هو بسكون الراء: المال الذي لا ذهب فيه ولا فضة وأي مال خالص يعلم لكم أو لأبيكم بعد الخروج من الثقاف على ما كان قد تبقى عنده مثال مجبى قرية مترايل ثم من العدد الذي برز قبلكم أيام كانت أشغال الطعام بيدكم على ما شهد به الجمهور من أصحابكم وأما الفلاحة التي أشرتم إليها فلا حق لكم فيها إذ هي في الحقيقة لبيت مال المسلمين مع ما بيدكم على ما تقر في الفقهيات والمعدوم شرعا كالمعدوم حسا ولو قبل من أهل المعرفة بكم بعض مالديهم من سقطاتكم والقالي والقيل ولم يصر إلى دفع معرتها عنكم وجه التأويل لكانت مسألتكم ثانية لمسألة أبي الخير بل أبي الشر الحادثم أيام خلافة الحكم المسطورة في نوازل

أبي الأصبغ بن سهل فاعلموا ذلك ولا تهملوا إشارتي عليك قديما وحديثا بلزوم الصلوات وحضور الجماعات وفعل الخيرات والعمل على التخلص من التبعات إنَّ وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور. وقلتم في كتابكم: أين الخطط المتوارثة عن الآباء والأجداد؟ وقد أذهب الله عنا ببركة الملة المحمدية غيبة الجاهلية في التفاخر بالآباء ولكنني أقول لكم على جهة المقابلة لكلامكم: إنْ كانت الإشارة إلى المجيب بهذا فمن المعلوم المتحق عند أفضل الناس أنه من حيث الأصالة أحد أماثل قطره. قال القاضي أبو عبد الله بن عسكر: وقد ذكر في كتابه من سلفى فلان بن فلان ما نصه: وبيته بيت قضاء وعلم وجلالة لم يزالوا يرثون ذلك كابرا عن كابر استقضى جده المنصور أبن أبي عامر. وقال غيره وغيره وبيدي من عهود الخلفاء وصكوك الأمراء المكتتبة بخطوط أيديهم من لدن فتح جزيرة الأندلس إلى هذا العهد القريب ما تقوم به الحجة القاطعة للسان الحاسد والجاحد والمنة لله وحده. وإن كانت الإشارة إلى غير من الأصحاب في الوقت حفظهم الله فكل واحد منهم إذا نظر إليه بعين الحق وجد أقرب منكم نسبا للخطط المعتبرة وأولى بميراثها بالفوض والتعصيب أو مساويا على فرض المسامحة لكم قال رسول الله) : المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره حرام دمه وماله وعرضه. ونرجع إلى طريقة أخرى فنقول: من كان يا فلان من قومكم في عمود نسبكم فقيها مشهورا أو كاتبا قبلكم معروفا أو شاعرا مطبوعا أو رجلاً نبيها مذكورا ولو كان يا لوشي وكان لكان من الواجب الرجوع إلى التناصف

والتواصل والتواضع وترك التحاسد والتباغض والتقاطع إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم وأبدانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. وكذلك العجب كل العجب من تسمياتكم الخربات التي شرعتم في بنائها بدار السلامة وهيهات هيهات المعروف من الدنيا أنها دار بلاء وجلاء وعناء وفناء ولو لم يكن من الموعظة الواقعة بتلك الدار في الوقت إلاّ موت سعيدكم عند دخولها لأغناكم عن العلم اليقيني بمآلها وأظهر تم سرورا كثيرا بما قلتم إنكم نلتم حيث أنتم من الشهوات التي ذكرتم أن منها الإكثار من الأكل والخرق والقعود بإزاء جارية الماء على نطع الجلد والإمساك أولى بالجواب على هذا الفضل فلا خفاء بما فيه من الخسة والخباثة والخبث وبالجملة فسرور العاقل إنما ينبغي أن يكون بما يجمل تقديمه من زاد التقوى للدار الباقية فما العيش كما قال رسول الله) إلاّ عيش الآخرة فقدموا إن قبلتم وصاة الحبيب أو البغيض بعضا عسى أن يكون لكم ولا تخالفوا كيلا يكون عليكم هذا الذي قلته لكم وإن كان لدي من يقف عليه من نمط الكثير فهو في اعتبار المكان وما مر من الزمان في حيز اليسير وهو في نفسه قول حق وصدق ومستند أكثره كتاب الله وسنة محمّد رسول الله) وعلى سائر أنبيائه فاحمدوا الله العلي العظيم على تذكيركم به إذ هو مجري النصيحة الصريحة يسرني الله وإيام لليسرى وجعلنا ممن دكر فانتفع بالذكرى والسلام. انتهى كلام القاضي أبي الحسن النباهي رحمه الله. قلت: ولعل هذا الكلام وأشباهه هو الحامل لابن الخطيب على هجو القاضي

ابن الحسن المذكور في الكتيبة الكامنة حيث ذكره ولقبه بجعسوس ووصفه بما لا يليق ذكره ثم ألف في ذلك تأليف مختلفة مستقلا سماه بخلع الرسن في وصف القاضي أبن الحسن حسبما ألفيت ذلك بخط شيخنا القاضي سيدي عند الواحد الوانشريسي رحمه الله ولا يخلو كلام كل واحد منهما من تحامل على صاحبه والله يسمح لنا ولهما بجاه النبي) . وقال ولي الدين بن خلدون في تاريخه في موضع أخر ما نصه: كان محمّد بن الأحمر المخلوع قد رجع من رندة إلى ملكه بغرناطة في جمادي من سنة ثلاث وستين وقتل له الطاغية عدوه الرئيس المنتزى على ملكهم حين هرب من غرناطة إليه وفاء بهد المخلوع واستوى على كرسيه واستقل بملكه ولحق به كاتبه وكاتب أبيه محمّد بن الخطيب فاستخلصه وعقد له على وزارته وفوض إليه القيام بملكه فستولى عليه وملك هواه وكانت عينه ممتدة إلى المغرب وسكناه إلى إن نزلت به آفة في رياسته فكان لذلك قدم السوابق والوسائل عند ملوكه وكان لأبناء السلطان أبي الحسن كلهم غيرة من ولد عمهم السلطان أبي علي ويخشونه على أمرهم ولمّا لحق الأمير عبد الله الرحمن بن أبي يفلوس بالأندلس اصطفاه أبن الخطيب واتخلصه لنجواه ورفع في الدولة وتبته وأعلى منزلته وحمل السلطان على أن عقد له على الغزاة المجاهدين من زنانة مكان بني عمه من الأعياض فكانت له آثار في الأضطلاع بها ولمّا استبد السلطان عبد العزيز بأمره واستقل بملكه وكان أبن الخطيب ساعيا في مرضاته عند سلطانه فدس إليه باعتقال عبد الرحمن

أبن أبي يفلوس ووزيره المطارد به مسعود بن ماسايو أدار أبن الخطيب في ذلك مكره وحمل السلطان عليهما إلى أن سطا بهما أبن الأحمر واعتقلهما سائر أيام السلطان عبد العزيز وتغير الجو بين أبن الأحمر ووزيره أبن الخطيب وأظلم وتنكر له فنزع عنه إلى عبد العزيز سلطان المغرب سنة ثنتين وسبعين لمّا قدم من الوسائل ومهد من السوابق فقبله السلطان وأحله في مجلسه محل الاصطفاء والقرب وخاطب أبن الأحمر في أهله وولده فبعثهم إليه واستقر في جملة السلطان. ثم تأكدت العداوة بينه وبين أبن الأحمر فرغب السلطان عبد العزيز في مل الأندلس وحمله عليه وتواعدوا في ذلك عند رجوعه من تلمستان إلى المغرب ونمى ذلك إلى أبن الأحمر فبعث إلى السلطان عبد العزيز بهدية لم يسمع بمثلها انتقى فيها من متاع الأندلس وماعونها وبالها الفارهة ومعلوجة السبى وجواريه وأوفد بها رسله يطلب إسلام وزيره أبن الخطيب إليه فأبى السلطان من ذلك ونكره. ولمّا هلك واستبد الوزير أبن غازي بالأمر تحيز إليه أبن الخطيب ودخله وخاطبه أبن الأحمر فيه بمثل ما خاطب السلطان عبد العزيز فلج واستنكف عن ذلك وأقبح الرد وانصرف رسوله إليه ود رهب سطوته فأنطلق أبن الأحمر لحينه عبد الرحمن بن أبي يفلوس وأركبه الاسطول وقذف به إلى ساحل بطوية ومع الوزير مسعود بن ماساي ونهض يعني أبن الأحمر إلى جبل الفتح فنازله بعساكره ونزل عبد الرحم ببطوية.

ثم ذكر أبن خلدون كلاما كثيرا تركته لطوله وملخصه: أن الوزير أبا بكر أبن غازي الذي كان معه أبن الخطيب ولي أبن عمه محمّد بن عثمان مدينة سبتة خوفا عليها من أبن الأحمر ونهض هو أعني الوزير إلى منازلة عبد الرحمن بن أبي يفلوس ببطوية إذ كانوا قج بايعوه فامتنع عليه وقاتله أياما ثم رجع إلى تازا ثم إلى فاس واستولى عبد الرحمن على تازا وبينما الوزير أو بكر بفاس يدبر الرأي إذ وصله الخبر بأن أبن عمه محمّد بن عثمان بايع السلطان أحمد بن أبي سالم وهو المعروف بذي الدولتين وهذه هي دولته الأولى وذلك إنَّ أبن عم الوزير وهو محمّد بن عثمان لمّا تولى سبتة كان أبن الأحمر قد طاول حصار جبل الفتح وأخذ بمخنقة وتكررت المراسلة بينه وبين محمد بن عثمان والعتاب فاستعتب له وقبح ما جاء به أبن عمه الوزير أبو بكر بن غازي من الاستغلاظ له في شأن أبن الخطيب وغيره فوجد أبن الأحمر بذلك السبيل إلى غرضه وداخله في البيعة لابن السلطان أبي سالم من الأبناء الذين كانوا بطنجة تحت الرقبة وإنَّ يقيمه للمسلمين سلطانا ولا يتركهم فوضى وهملا تحت ولاية الصبي الذي لم يبلغ ولا تصح ولايته شرعا وهو السعيد بن أبي فارس الذي بايعه الوزير أبي بكر بن غازي بتلمستان حين مات أبوه واستبد عليه واختص أبن الأحمر أحمد أبن أبي سالم من بين أولئك الأبناء لمّا سبق بينه وبين أبيه أبي سالم من المولاة. وكان أبن الأحمر اشترط على محمّد بن عثمان وحزبه شروطا منها أن ينزلوا له من جبل الفتح الذي هو محاصر له وأن يبعثوا له جميع أبناء الملوك من بني مرين ليكونوا تحت حوطته وأن يبعثوا إليه بالوزير أبن الخطيب متى قدروا

عليه فانعقد أمرهم على ذلك وتقبل محمّد بن عثمان شروطه وركب من سبتة إلى طنجة واستدعى أبي العباس أحمد من مكان اعتقاله فبايعه وحمل الناس على طاعته واستقدم أهل سبتة للبيعة وكتابتها فقدموا وبايعوا وخاطب أهل جبل الفتح فبايعوا وأفرج أبن الأحمر عنهم. وبعث إليه محمّد بن عثمان عن سلطانه بالنزول له عن جبل الفتح وخاطب أهله بالرجوع إلى طاعته فارتحل أبن الأحمر من مالقة إليه ودخله ومحا دعوة بني مرين مما وراء البحر وأهدى للسلطان أبي العباس وأمده بعسكره من غزاة الأندلس وكمل إليه مالا للإعانة على أمره. ولمّا وصل الخبر بهذا إلى الوزير أبي بكر بن غازي قامت عليه القيامة وكأنَّ أبن عمه محمّد بن عثمان كتب إليه يموه بأن هذا عن أمره فتبرأ من ذلك ولاطف أبن عمه أن ينقض ذلك الأمر فاعتل له بانعقاد البيعة لأبي العباس. وبينما الوزير أبو بكر ينتظر إجابة أبن عمه إلى ما رامه منه بلغه الخبر بأنه أشخص الأبناء المعتقلين كلهم بالأندلس وحصلوا تحت كفالة ابن الأحمر فوجم وأعرض عن أبن عمه ونهض إلى تازا لمحاصرة عبد الرحمن بن أبي يفلوس فاهتبل في غيبة أبن عمه محمّد بن عثمان ملك المغرب ووصله مدد السلطان أبن الأحمر من رجال الأندلس الناشبة نحو ستمائة وعسكر آخر من الغزاة. وبعث أبن الاحمر رسله إلى الأمير عبد الرحمن باتصال اليد مع أبن عمه السلطان أحمد ومظاهرته واجتماعهما على مل فاس وعقد بينهما الاتفاق على أن يختص عبد الرحمن بملك سلفه فتراضيا. وزحف محمّد بن عثمان وسلطه إلى فاس وبلغ الخبر إلى الوزير أبي بكر بمكانه من

تازا فانفض معسكره ورجع إلى فاس ونزل بكدية العرائس وانتهى السلطان أبو العباس أحمد إلى زرهون فصمد إليه الوزير بعسكره فاحتل مصافه ورجع إلى عقبة مفلولا وانتهب عسكره ودخل البلدة الجديدة البيضاء وجأجأ بالعرب أولاد الحسين فعسكروا بالزيتون ظاهر فاس فنهض إليهم الأمير عبد الرحمن من تازا بمن كان معه من العرب الأجلاف وشردهم إلى الصحراء وشارف السلطان أبو العباس أحمد بمجموعة من العرب وزناتها وبعثوا إلى ولي دولتهم ونزمار بن عريف بمكانه من قصره الذي اختطه بملوية فجاءهم وأطلعوه على كامن أسرارهم فأشار عليهم بالاجتماع والاتفاق فاجتمعوا بوادي النجا وتخالفوا ثم ارتحلوا إلى كدية العرائس في ذي القعدة من سنة خمس وسبعين وبرز إليهم الوزير بعساكر فانخزمت جموعه وأحيط به وخلص إلى البلد الجديد بعد غص الريق. واضطرب معسكر السلطان أبي العباس بكدية العرائس ونزل الأمير عبد الرحمن بإزائها وضربوا على البلد الجديد سياجا بالبناء للحصار وأنزلوا بها أنواع القتال والإرهاب ووصلوهم بمدد السلطان أبن الأحمر فأحكموا الحصار وتحكموا في ضياع أبن الخطيب بفاس فهدموها وعاثوا فيها. ولمّا كان فاتح سنة ست وسبعين داخل محمّد بن عثمان عمه الوزير أبا بكر في النزول عن البلد الجديد والبيعة للسلطان لكون الحصار قد اشتد به ويئس وأعجزه المال فأجاب وأشترط عليهم الأمير

محنة أبي الخطيب ووفاته:

عبد الرحمن التجافي له عن أعمال مراكش بدل سجلماسة فعقدوا له على كره وطووا على المكر وخرج الوزير أبو بكر إلى السلطان أبي العباس وبايعه وأقضى عهده بالأمانة وتخلية سبيله من الوزارة ودخل السلطان أبو العباس إلى البلد الجديد سابع المحرم وارتحل الأمير عبد الرحمن يومئذ إلى مراكش واستولى عليها. محنة أبي الخطيب ووفاته: ثم ذكر أبن خلدون الخبر عن مقتل أبن الخطيب فقال: ولمّا استولى السلطان أبو العباس على البلد الجديد دار ملكه فاتح سنة ست وسبعين استقل بسلطانه والوزير محمّد بن عثمان مستبد عليه وسليمان بن داود بن أعراب كبير بني عسكر رديف له وقد كان الشرط وقع بينه وبين السلطان أبن الأحمر عندما بويع بطنجة على نكبة أبن الخطيب وإسلامه إليه لمّا نمى إليه عنه أنه كان يغري السلطان عبد العزيز المريني بملك الأندلس فلما زحف السلطان أبو العباس من طنجة ولقيه أبو بكر بن غازي بساحة البلد الجديد فهزمه السلطان ولازمه بالحصار أوى معه أبن الخطيب إلى البلد الجديد خوفا على نفسه. فلما استولى السلطان على البلد أقام أياما ثم أغراه سليمان بن داود بالقبض عليه فقبضوا عليه وأودعوه السجن وطيروا بالخبر إلى السلطان أبن الأحمر وكان سليمان بن داود شديد العداوة لابن الخطيب لمّا كان سليمان قد بايعه السلطان أبن الأحمر على مشيخة

الغزاة بالأندلس، متى أعاد الله إلى ملكه، فلما استقر له سلطانه، جاز له سليمان سفيراً عن الوزير عمر بن عبد الله، ومقتضيا عهده من السلطان، فصده أبن الخطيب عن ذلك، محتجاً بأن تلك الرياسة إنّما هي لأعياض الملك من بني عبد الحق، لأنهم يعسوب زناتة، فرجع سلمان، وأثار حقد ذلك لأبن الخطيب، ثم جاوز الأندلس لمحل إمارته من جبل الفتح، فكانت تقع بينه وبين أبن الخطيب مكتبات، يشير كل واحد منهما لصاحبه، بما يحفظه، مما كمن في صدورهما. وحين بلغ خبر القبض على أبن الخطيب إلى السلطان أبن الأحمر بعث كاتبه ووزيره بعد أبن الخطيب، وهو أبو عبد الله أبن زمرك، فقدم على السلطان أبي العباس، وأحضر أبن الخطيب بالمشور في مجلس الخاصة، وعرض عليه بعض كلمات وقعت له في كتابه المحبة، فعظم النكير فيها، فوبخ ونكل، وامتحن بالعذاب بمشهد ذلك الملأ، ثم نقل إلى محبسه، واشتوروا في قتله بمقتضى تلك المقالات المسجلة عليه، وأفتى بعض الفقهاء فيه، ودس سليمان بن داود لبعض الأوغاد من حاشيته بمقتله، فطرقوا السجن ليلا، ومعهم زعانفة جاءوا في لفيف الخدم، مع سراء السلطان أبن الأحمر، وقتلوه خنقا في محبسه، واخرج شلوه من الغد، فدفن في مقبرة باب المحروق، ثم أصبح من الغد على سافة قبره طريحا، وقد جمعت له أعواد، وأضرمت

عليه نار، فاحرق شعره، واسود بشره، فأعيد إلى حفرته، وكان في ذلك انتهاء محنته. وعجب الناس من هذه الشنعاء التي جاء بها سليمان، واعتدوها من هناته، وعظم النكير فيها عليه وعلى قومه وأهل دولته، والله الفعال لمّا يريد. وكان، عفا الله عنه، أيام امتحانه بالسجن يتوقع مصيبة الموت، فتجهش هواتفه بالشعر، يبكي نفسه، ومما قال في ذلك: بعدنا وإنَّ جاورتنا البيوت ... وجئنا بوعظ ونحن صموت وأنفاسنا سكنت دفعة ... كهجر الصلاة تلاه القنوت وكنا عظاماً فصرنا عظاماً ... وكنا نقوت فيها نحن قوت وكنا شموس سماء العلا ... غربن فناحت علينا السموت فكم خذلت ذا الحسام الظبا ... وذو البخت كم جدلته البخوت وكم سيق للقبر في خرقة ... فتىً ملئت من كساه التخوت فقل للعدا ذهب أبن الخطيب ... وفات ومن ذا الذي لا يفوت ومن كان يفرح منهم له ... فقل: يفرح اليوم من لا يموت انتهى كلام أبن خلدون في ديوان العبر. ورأيت تخميسا لبعض بني الصباغ على هذه القطعة، لكنه زاد فيها بعض أبيات على ما ذكره أبن خلدون، وها أنا أثبته تتميما للفائدة، وهو: أيا جاهلا غره ما يفوت ... وألهاه حال قليل الثبوت تأمل لمن بعد أنسٍ يصوت ... بعدنا وإنَّ جاورنا البيوت وجئنا بوعظ ونحن صموت

لقد نلت من دهرنا رفعة ... تقضت كبرق مضى سرعة فهيهات ترجوا لها رجعة ... وأصواتنا سكنت دفعة كهجر الصلاة تلاه تفوت بدا لي من العز وجه شباب ... يؤمل سيبي وبأسي يهاب فسرعان مزق ذاك الإهاب ... ومدت وقد أنكرتنا الثياب علينا نسائجها العنكبوت فآها لعز تقضي مناما ... منحنا به الجاه دوما كراما وكنا نسوس أموراً عظاما ... وكنا عظاماً فصرنا عظاماً وكنا تقوت فها نحن قوت وكنا لذا الملك حلي الطلا ... فآها عليه زماناً خلا نعوض من جدة بالبلى ... وكنا شموس سماء العلا غربن فناحت علينا السموت تعودت بالرغم صرف الليالي ... وحملت نفسي فوق احتمالي وأيقنت أنَّ سوف يأتي ارتحالي ... ومن كان منتظراً للزوال فكيف يؤمل منه الثبوت

هو الموت يا ما له من نبا ... يجوز الحجاب إلى من أبى ويألف أخذ سنى الحبا ... فكم أسلمت ذا الحسام الظبا وذا البخت كم جدلته البخوت هو الموت أفضح من عجمةٍ ... وأيقظ بالوعظ من نومةٍ وسلى عن الحزن ذا حرقةٍ ... فكم سيق للقبر في خرقةٍ فتى ملئت من كساه التخوت تقضى زماني بعيش خصيب ... وعندي لذنبي انكسار المنيب وها الموت قد صبت مني نصيبي ... فقل للعدا ذهب أبن الخطيب وفات ومن ذا الذي لا يفوت مضى أبن الخطيب كمن قبله ... ومن بعده يقتفي سبله وهذا الردى ناثر شمله ... فمن كان يفرح منهم له فقل يفرح اليوم من لا يموت

شعره

هو الموت عم فما للعدا ... يسرون بي حين دقت الردى ومن فاته اليوم يأتي غداً ... سيبلي الجديد إذا ما المدى تتابع آحاده والسبوت أخي توخ طريق النجاة ... وقدم لنفسك قبل الممات وشمر بجد لمّا هو آتي ... ولا تغترر بسراب الحياة فإنك عما قريب تموت انتهى. وقد تذكرت بقوله: سيبلي الجديد إذا ما المدا ... تتابع آحاده والسبوت قول الآخر: نطوى سبوات وآحادا وننشرها ... ونحن في الطي بين السبت والأحد فعد ما شئت من سبت ومن أحدٍ ... لا بد أنَّ يدخل المطوي في العدد شعره قال بعض الأعلام: شعر أبن الخطيب ما بعده مطمع لطامع، ولا معرج على شاعر بعده الآذان والمسامع؛ فمن ذلك قوله سامحه الله: عسى خطرة بالركب يا حادي العيس ... على الهضبة الشماء من قصر باديس

لنظفر من ذاك الزلال بعلة ... وننعم في تلك الظلال بتععريس حبست بها ركبي فواقاً وإنّما ... عقدت على قلبي لها عقد تحبيس لقد رسخت آي الجوافي جوانحي ... كما رسخ الإنجيل في قلب قسيس بميدان جفني للسهاد كتيبة ... تغير على السراح الكرى في كراديس وما بي إلاّ نفحة حاجرية ... سرت والدجى ما بين وهن وتغليس إلاّ نفس يا ريح من جانب الحمى ... تنفس من نار الجوى بعض تنفيس ويا قلب لا تلق السلاح فربما ... تعذر في الدهر أطراد المقاييس وقد تعتب الأيام بعد عتابها ... وقد يعقب الله النعيم من البوس ولا تخشى لج الدمع يا خطرة الكرى ... إلى الجفن بل قيس على صرح بلقيس تقول سليمى: ما لجسمك شاحباً ... مقالة تأنيب يشاب بتأنيس وقد كنت تعطو كلما هبت الصبا ... بريان في ماء الشبيبة مغموس ومن رابح الأيام يا بنت عامر ... يجوب الفلا راحت يداه بتفليس

فلا تحسبي والصدق خير سجية ... ظهور النوى إلاّ بطون النواميس وقفراء أما ركابها فمضلل ... ومربعها من آنس غير مأنوس سنحنا بها من هضبة لقرارة ... ضلالا وملنا من كناس إلى خيس إذا ما نهضنا عن مقيل غزالة ... نزلنا فعرسنا بساحة عريس أدرنا بها كأسا دهاقاً من سرى ... أملنا بها عند الصباح من الروس وحانه خمار هدانا لقصدها ... شميم الحميا واصطكاك النواقيس تطلع ربانيها من جداره ... يهيم في جنح الظلام بتقديس بكرنا وقلنا إذ نزلنا بساحة ... عن الصافنات الجرد والضمر العيس أيا عابد الناسوت أنا عصابة ... اتينا لتثليث بلى ولتسديس وما قصدنا إلاّ المقام بحانة ... وكم ألبس الحق المبين بتلبيس فأنزلنا قوراء في جنباتها ... محاربب شتى الاختلاف النواميس بدرنا بها طين الختام بسجدة ... أردنا بها تجديد حسرة إبليس ودار العذاري بالمدام كأنها ... قطاً تتهادى في رياش الطواويس وصارفنا فيها نضار بمثله ... كأنا ملأنا الكأس ليلا من الكيس

وقمنا نشاوي عندما متع الضحى ... كما نهضت غلب الأسود ن الخيس فقال: لبئس المسلمون ضيوفنا ... أما وأبيك الحبر ما نحن بالبيس وهل في بني مثواك إلاّ مبرز ... بحلة شورى أو بحلقة تدريس إذا هز عسال اليراعة فاتكاً ... أسال بجميع الحبر فوق القراطيس يقلب تحت النقع مقلة ضاحك ... إذا التفت الأبطال عن مقل شوس سبينا عقار الروم في عقر خاننا ... بحيلة تمويه وخدعة تدليس لئن أنكرت شكلي ففضلى واضح ... وهل جائز في العقل إنكار محسوس! رسبت بأقصى الغرب ذخر مضنة ... وكم درة علياء في قاع قاموس وأغربت سوسى بالعذيب وبارق ... على وطن داني الجوار من السوس ومن ذلك قوله رحمه الله في الميلاد النبوي على صاحبه الصلاة والسلام يمدح مخدومه أبا عبد الله المخلوع: ما على القلب يدعكم من جناح ... أنَّ يرى طائراً بغير جناح

وعلى الشوق أنَّ يشب إذا هب ... بأنفاسكم نسيم الصباح جيرة الحي والحديث شجون ... والليالي تلين بعد الجماح أترون السلو خامر قلبي ... بعدكم؟ لا، وفالق الإصباح ولو إني أعطي اقتراحي على الأيام ... ما كان بعدكم باقتراحي ضايقتني فيكم صروف الليالي ... واستدارت على دور الوشاح وشقنى كأس الفراق دهاقاً ... في اغتباق مواصل واصطباح واستباحت من جدتي وفتائي ... حرما لم أخله بالمستباح ومنها: يا ترى والنفوس أسرى أماني ... مالها من وثاقها سراح هل يباح الورود ذياد ... أو يباح اللقاء بعد انتراح وإذا أعوذ الجسوم التلاقي ... ناب عنه تعارف الأرواح وهي طويلة، ولم يحضرني منها في هذا التاريخ سوى ما كتبته. قلت: وأظن أنَّ الفقيه الكاتب أبا زكريا يحيى بن خدلون كاتب الإنشاء يتلمسان المحروسة أيام السلطان ابى حمو موسى بن يوسف الزياني رحمه الله نسج على منوال هذه القصيدة في قصيدته بديعة له، ورفعها إلى السلطان أبي حمو في مولد سنة

ثمان وسبعين وسبع مائة. وهذا أبن خلدون أخو ولي الدين صاحب التاريخ المشهور، ونص القصيدة: ما على الصب في الهوى من جناح ... أنَّ يرى حلف عبرة وافتضاح وإذا ما المحب عيل اصطبارا ... كيف يصغي إلى نصيحة لاحي يا رعي الله بالمحصب ربعا ... آذنت عهده النوى بانتزاح كم أدرنا كأس الهوى فيه مزجا ... رُبَّ جدٍ من الجوى في المزاح هل إلى رسمه المحيل سبيل ... يا حدادة المطى تلك الطلاح نسأل الدار بالخليط ونسقى ... ذلك الربع بالدموع السفاح أي شجو عانيت بعد نواها ... من أسى لازم وصبر مزاح أهل ودى إنَّ رابكم برح وجدوى ... من صبا بارح وبرق لياح فأسألوا البرق عن خفوق فؤادي ... والصبا عن سقام جسمي المتاح يا أهيل الحمى نداء مشوق ... ما له عن هوى الدمى من براح طالما استعذب المدامع ورداً ... في هواكم عن كل عذب قراح عاده بالطلول للشوق عيد ... من حمام بدوحهن صداح من لقلب من الجوى في ضرام ... ولجفن من البكا في جراح ولصب يهيجه الذكر شوقاً ... فهو سكراً يرتاح من غير راح وليال قضيت للهو فيها ... وطرا والشباب ضافي الجناح

راكبا في الهوى ذلول تصاب ... ساحباً في الغرام ذيل مراح ونجوم المنى تنير إلى أن ... روع الشيب سربها بالصباح أي مري حمدت لم ادخل منه ... بسوى حسرةٍ وطول افتضاح واخسارى يوم القيامة إن لم ... يغفر الله زلتي واجتراحي لم اقدم وسيلةً فيه إلاّ ... حب خير الورى الشفيع الماحي سيد العامين دنيا وأخرى ... اشرف الخلق في العلا والسماح سيد الكون من سماء وأرض ... سره بين غاية وافتتاح زهرة الغيب مظهر الوحي معنى الن ... ور كنه المشكات والمصباح آية المكرمات قطب المعالي ... مصطفى الله من قريش البطاح أوّل الأنبياء تخصيص زلفى ... آخر المرسلين بعث نجاح صفوة الخلق أرفع الرسل قدراً ... وسراج الهدى وشمس الفلاح من لميلاده بمكة ضاءت ... من قرى قيصر جميع الضواحي وخبت نار فارس وتداعت ... من مشيد الإيوان كل النواحي من رقى في السماء سبعاً طباقاً ... ورأى آي ربه في اتضاح ودنا منه قاب قوسين قرباً ... ظافراً في العلى بكل اقتراح من هدى الخلق بين حمر وسودٍ ... وجلا ليل غيهم بالصباح من يجير غدا يوم يجزى ... كل عاص وطائع باجتراح

من إلى حوضه وظل لواه ... يلجأ الناس بين ظامٍ وضاحي أحمد المجتبى حبيباً وإني ... فوق عز الحبيب مرمى طماح في أناجيله المسيح تلاه ... باسمه والكليم في الألواح ولكم حجةٍ وبرهان صدقٍ ... في سماعٍ أتى بها والتماح إنَّ في النجم والنبات لآياً ... بهرت والجماد والأرواح معجزات فتن المدارك وصفاً ... وحساباً كالزهر أو كالصباح يا رواة القريض ولا شعر عجزاً ... ما عسى تدركون بالأمداح إنما حسبنا الصلاة عليه ... وهي للفوز آية استفتاح يا الهي بحق أحمد عفواً ... عن ذنوبٍ جنيتهن قباح وأدم دولة الخليفة موسى ... ذي المعالي المبينة الأوضاح مفخر الملك مستقر المزايا ... مظهر اللطف ذو التقى والصلاح ناصر الحق خاذل الجور عدلا ... ملجأ الخائفين بحر السماح يتلقى لاندى بوجه حييٍ ... ويلاقي العدا ببأس صفاح وله المكرمات إرثاً ولبساً ... حاز حمدا بها معلى القداح من علا باذخٍ وفخرٍ صميم ... وكمال بحتٍ ومجدٍ صراح وأحاديث في المعالي حسانٍ ... رويت عنه في العلى الصحاح عاقد صفقة العلا كل حين ... فائز فيه سعيه بالرباح

للنى والهدى يروح ويغدو ... أي مغدي إلى العلا ومراح ملك تشرق الأسرة منه ... في سماء السرير نور صباح وإذا ما علا بعالي العوالي ... صهوة الجود فهو ليث الكفاح لبس الدهر منه حلة حسن ... وثنى للسرور عطف مراح وعلا عاتق الخلافة منه ... طراز فخر سبي النهى بالتماح ورث الملك شامخاً عن سراةٍ ... شيدوا ركنه بأيدي الصفاح من بني القاسم الذي تحلوا ... بالمعالي واستأثروا بالفلاح فرعوا هضبة الخلافة مجداً ... رفعوا سقفه على الأرماح نشروا راية المفاخر حمداً ... خافق النور بالرابا والبطاح يا إماما بذلك الملك جلالاً ... وجمالاً فديت بالأرواح أنت شمس الكمال دمت علياً ... في اغتباق من المنى واصطباح وبنوك الأعلون أنجم سعدٍ ... زاهرات بنورك الوضاح وأبو تشافين بدر منير ... زانه الله بالخلال الصباح أكمل العالمين خلقاً وخُلقاً ... اشرف الناس في الندى والكفاح وبكم زينت سماء المعالي ... واهتدى الناس في الدجى والصباح قلت: قوله: أكمل العامين خلقاً وخلقاً ... اشرف الناس في الندى والكفاح لا يخلو من قلة تحفظ، ومثل هذا في الحقيقة إنما يطلق على رسول) ، وإن كان المتكلم أراد أهل عصره.

وكان السلطان أبو حمود موسى بن يوسف الممدوح في هذه القصيدة يحتفل لليلة مولد رسول الله) غاية الاحتفال، كما كان ملوك المغرب والأندلس في ذلك العصر وما قبله يعتنون بذلك، ولا يقع منهم فيه إغفال؛ وقد تقدم أنَّ العزفي صاحب سبته هو الذي سن ذلك في بلاد المغرب، وأتى بزلفى تدينه إلى الله وتقرب؛ واقتفى الناس سننه، وتقلدوا مننه؛ تعظيماً للجناب الذي وجب له السمو والعلو، على أنَّ بعضهم قد خرج في ذلك إلى حدّثني الإسراف والغلو؛ وكل يعمل على شاكلته. ومن جملة احتفال السلطان أبي حمو المذكور ما قاله صاحب راح الأرواح: " أنّه كان يقيم ليلة الميلاد النبوي، على صاحبه الصلاة والسلام، بمشورة من تلمسان المحروسة، مدعاةً حفيلة، يحشر فيها الناس خاصة وعامة، فما شئت من نمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة؛ وبسط موشاة، ووسائد بالذهب مغشاة؛ وشمع كالأسطوانات، وموائد كالهالات؛ ومباخر صفر منصوبة كالقباب، يخالها المبصر من تبر مذاب؛ ويفاض على الجميع أنواع الأطعمة، كأنها أزهار الربيع المنمنمة؛ تشتهيها الأنفس وتستلذها النواظر، ويخالط حسن رياها الأرواح ويخامر؛ رتب الناس فيها على مراتبهم ترتيب احتفال، وقد علت الجميع أبهة الوقار والإجلال؛ وبقرب ذلك يحتفل المسمعون بأمداح المصطفى عليه الصلاة والسلام، ومكفرات ترغب في الإقلاع عن الآثام؛ يخرجون فيها من فن إلى فن، ومن إلى فن، ومن أسلوب إلى أسلوب؛ ويأتون من ذلك بما تطرب له

النفوس وترتاح إلى سماعه القلوب؛ وبالقرب من السلطان، رضوان الله عليه، خزانة النمجانة وقد زخرفت كأنها حلة يمانية لها أبواب مرتجة على عدد ساعات الليل الزمانية؛ فمهما مضت ساعة وقع النقر بقدر حسابها، وفتح عند ذلك باب من أبوابها؛ وبرزت منه جارية صورت في أحسن صورة، في يدها اليمنى رقعة مشتملة على نظم فيه تلك الساعة باسمها مسطورة؛ فتضعها بين يدي السلطان بلطافة، ويسارها ع فمها كالؤدية بالمبايعة حق الخلافة؛ هكذا حالهم الى انبلاج عمود الصباح، ونداء المنادي حي على الفلاح ". انتهى كلام صاحب راح الأرواح. وقال في نظم الدرر والعقيان في هذا المعنى ما نصه: " وكان يعني السلطان أبا حمو يقوم بحق ليلة مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويحتفل لها بما هو فوق سائر المواسم، يقيم مدعاة، يحشر لها الأشراف والسوقة، فما شئت من نمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة، وشمع كالأسطوانات، وأعيان الحضرة على مراتبهم تطوف عليهم ولدان قد لبسوا أقبية الخز الملون، وبأيديهم مباخر ومرشات، ينال كل منهم بحظه، وخزانة المنجانة ذات تماثيل لجين محكمة الصنعة، بأعلاها أيكة تحمل طائرا فرخاه تحت جناحيه ويختله فيهما أرقم خارج من كوة بجذر الأيكة صعدا، وبصدرها أبواب مرتجة

بعدد ساعات الله الزمانية، يصاقب طرفيها بابان كبيران وفوق جميعها دوين رأس الخزانة قمر أكمل يسير على خط الاستواء سير نظيره من الفلك، ويسامت أول كل ساعة بابها المرتج، فينقص من البابين الكبيرين عقابان بفي كل واحد منهما صنجة صفر يلقيها إلى طست من الصفر مجوف بوسطه ثقب يفضى بها إلى داخل الخزانة فيرن وينهش الأرقم أحد الفرخين فيصفر له أبواه فهنا يفتح باب الساعة الذهبية وتبرز منه جارية محتزمة كأظرف ما أنت راء، بيمينها إضبارة فيها اسم ساعتها منظومة ويسراها موضوعة على فيها، كالمبايعة بالخلافة، والمسمع قائم ينشد أمداح سيد المرسلين وخاتم النبيين سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم ثم يؤتى آخر الليل بموائد كالهالات دورا والرياض نورا؛ قد اشتملت من أنواع محاسن الطعام على ألوان تشتهيها الأنفس وتستحسنها الأعين، وتلذ بسماعها الأذان، ويشره مبصرها للقرب منها والتناول وإن كان ليس بغرثان؛ والسلطان لم يفاق مجلسه الذي ابتدأ جلوسه فيه وكل ذلك بمرأى منه ومسمع حتى يصلي هنالك صلاة الصبح. على هذا الأسلوب تمضي ليلة مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم في جميع أيام دولته أعلى الله مقامه في عليين وشكر له في ذلك صنعه الجميل آمين. وما من ليلة مولد مرت في أيامه إلاّ ونظم فيها قصيدا في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم أوّل ما يبتدئ المسمع في ذلك المحفل العظيم بإنشاده، ثم يتلوه إنشاد من رفع إلى مقامه العلي في تلك الليلة نظما ". انتهى كلام صاحب نظم الدرر والعقيان، وهو أتم مساقا من كلامه في راح الأرواح.

أقول: ولا بد أن نذكر جملة من الطع التي أنشأها الكاتب أبو زكريا يحيى بن خلدون كاتب السلطان أبو حمو المذكور على لسان جارية المنجانة مخاطبة بما مر من الليل وكانت تأتي بها في يدها اليمنى كما ذكرناه فمن ذلك قوله رحمه الله في مضي ساعتين من الليل: أخليفة الرحمن والملك الذي ... تعنو لعز علاه أملاك البشر لله مجلسك الذي يحكى علا ... بك مالكي أفق السماء لمن نظر أو ما ترى فيه النجوم زواهرا ... وجه الخليفة بينهن هو القمر والليل منه ساعتان قد أنقضت ... تثني عليك ثنا الرياض على المطر لازال هذا الملك منصورا بكم ... وبلغت مما ترتجي أسنى الوطر وقوله رحمه الله في انقضاء ثلاثة ساعات من الليل: أمولاي يا بن الملوك الألي ... لهم في المعالي سنى الرتب تولت ثلاث من الليل أب ... قت لك الفخر في عجمها والعرب فدم حجة الله في أرضه ... تنال الذي شئته من أرب وقوله رحمه الله في مضي ست ساعات: يا ماجد وهو فرد ... تخاله في عساكر ست من الليل ولت ... ما إن لها من نظائر دامت لياليك حتى ... إلى المعاد نواضر وقوله رحمه الله في مضي ثمان ساعات: يا أكرم الخلق ذاتا ... وأشرف الناس أسره مرت ثمان وأبقت ... في القلب منى وحسره

فيهن كان شبابي ... أخا نعيم ونضره ولي بها الدهر عني ... ترى لها بعد كره فالله يبقيك مولى ... يطيل في السعد عمره وقوله رحمه الله في مضي عشر ساعات: يا مكان الخير والخيل التي حكمت ... له بعز على الأيام مقتبل هذا الصباح وقد لاحت بشائره ... والليل ودعنا توديع مرتحل لله من الساعات باهرة ... مضين لاعن قلى منا ولا ملل كذا تمر ليالي العمر راحلة ... عنا ونحن مع الآمال في شغل نمسي ونصبح في لهو نسر به ... جهلا وذلك يدنينا من الأجل والعمر نمضي ولا ندري فوا أسفا ... عليه إذ مر في الآثام والزلل يا ليت شعري غدا كيف الخلاص به ... ولم نقدم له شيئا من العمل يا رب عفوك عما قد جنت يدي ... فليس لي بجزاء الذنب من قبل يا رب وانصر أمير المسلمين أبا ... حمو الرضا وأنله غاية الأمل وأبق في العز والتمكين مدته ... وأعل دولته الغرا على الدول ومن الموشحات التي خوطب بها السلطان أبو حمو رحمه الله في مولد سنة سبع وستين وسبع مائة قول طبيب دولته أبي عبد الله محمّد بن أبي جمعة الشهير بالتلاليسي رحمه الله تعالى: لي مدمع هتان ... ينهل مثل الدرر قد صير الأجفان ... ما إن لها من أثر

حق له يجري ... دما على طول الدوام مذ جد في السير ... ناس إلى خير الأنام وعاقني وزري ... يا صاح عن ذلك المقام وسارت الأظعان ... يحدي بها في السحر فاستبشر الركبان ... بقرب نيل الوطر يا سعده من زار ... قبر النبي المصطفى محمّد المختار ... قطب المعالي والوفا في مدحه قد حار ... الخلق طرا وكفى في محكم القرآن ... وشرحه والسير فضله الرحمن ... على جميع البشر يا حادي الركب ... بالله إن جئت البقيع تحية الصب ... بلغ إلى الهادي الشفيع غرب بالمغرب ... عن ذلك المغني الرفيع وليس لي إمكان ... ينهضني للسفر إلاّ من السلطان ... الملك المظفر من لم يزل يسمو ... إلى المعالي كل حين ذاك أبو حمو ... المولى أمير المسلمين طاعته غنم ... نلنا بها دنيا ودين أظهر في البلدان ... من عدله المشتهر وعم بالإحسان ... للبدو ثم الحضر

قابله إسعاد ... تكل عنه الألسنة قبيل عبد الواد ... به غدت في سلطنة أيامه أعياد ... يا ليتها ألف سنة ملك بني زيان ... بالمشرفي الذكر أحياه إذا قد كان ... ليس له من خبر تاهت تلمستان ... بملكه على البلاد صار لها شان ... وسعدها حلف ازدياد قد ضل إنسان ... قال بها يشكو السهاد ليل الهوى يقظان ... والحب ترب السهر والصبر لي خوان ... والنوم من عيني بري وكان هذا السلطان أبو حمو رحمه الله يقرض الشعر ويحب أهله وله رحمه الله تأليف حسن في السياسة لخص فيه سلوان المطامع لابن ظفر وزاد عليه فوائد وأورد فيه جملة من نظمه وأمورا جرت له مع معاصريه من ملوك بني مرين وغيرهم وصنفه برسم ولي عهده أبي تاشفين وسماه نظم السلوك في سياسة الملوك. وكان الفقيه ذو الوزارتين أبو عبد الله بن الخطيب المذكور آنفا كثيرا ما يوجه إليه بالأمداح ومن أحسن ما وجه له قصيدة سينية فائقة وذلك عندما أحس بتغير سلطانه عليه فجعلها مقدمة بين يدي نجواه لتمهد له مثواه

وتحصل له المستقرة إذا ألجأه إلى الأمر إلى المفر فلم تساعده الأيام كما هو شأنها في أكثر الأعلام وهي هذه: أطلعن في سدف الفروع شموسها ... ضحك الظلام لها وكان عبوسا وعطف قضبا للقدود نواعما ... بوئن أدواح النعيم غروسا وعدلن عن جهر السلام مخافة ال ... واشي فجئن بلفظه مهوسا وسفرن من دهش الوداع وقومهن ... إلى الترحل قد أناخوا العيسا وخلسن من خلل الحجال إشارة ... فتركن كل حجالها مخلوسا لم أنسها من وحشة والحي قد ... زجر الحمول وآثر التغليسا لا الملتقي من بعدها كثب ولا ... عوج الركاب تسأم التخييسا فوقفت وقفة هائم برحاؤها ... وقفت عليه وحبست تحبيسا ودعوت عيني عاتبا وعيونها ... بعصا النوى قد بجست تبجيسا نافست يا عيني در دموعهم ... فعرضت درا للدموع نفيسا ما للحمى بعد الأحبة موحشا ... ولكم تراءى آهلا مأنوسا ولسر به حول الخميلة نافرا ... عمن يحس به وكان أنيسا ولظله المورود غمر قليبه ... لا يقتضي وردا ولا تعريسا حييته فأجابني رجع الصدى ... لا فرق بينهما إذا ما قيسا ما إن يزيد على الإعادة صوته ... حرفا فيشفى بالمزيد نسيسا

نضب المعين وقلص الظل الذي ... ظلنا وقوفا عنده وجلوسا نتواعد الرجعى ونغتنم اللقا ... وندير من شكوى الغرام كؤوسا فإذا سألت فلا تسأل مخبرا ... وإذا سمعت فلا تحس حسيسا عهدي به والدهر يتحف بالمنى ... وقد اقتضت نعماه أن لا بوسا والعيش غض الريع والدنيا قد اج ... تليت بمغناه على عروسا أترى يعيد الدهر عهدا للصبا ... درست مغاني الأنس فيه دروسا أوطان أوطار تعوض أفاقها ... من رونق البشر البهي عبوسا هيهات لا غني لعل ولا عسى ... في مثلها إلاّ لآية عيسى والده في دست القضاء مدرس ... فإذا قضى يستأنف التدريسا تفتن في جمل الورى أبحاثه ... لا سيما في باب نعم وبيسا وسجية الإنسان ليس بناصل ... من صبغها حتى يرى مرموسا يغتر مهما ساعدت آماله ... فإذا عراه الخطب كان يئوسا فلو إنَّ نفسا مكنت من رشدها ... يوما وقدسها الهدى تقديسا لم تستفز رسوخها النعمى ولا ... هلعت إذا كشرت إليها البوسا قل للزمان إليك عن متذمم ... بضمار عز لم يكن ليخيسا

فإذا استحر جلاده فأنا الذي اس ... تغشيت من سرد اليقين لبوسا وإذا طغا فرعونه فأنا الذي ... من ضره أذاه عذت بموسى أنا ذا أبو مثواه من يحمي الحمى ... ليثا ويعلم بالزئير الخيسا بحمى أبى حمو حططت ركابي ... لمّا اختبرت الليث والعريسا أسد الهيجاء إذا خطا قدما سطا ... فيخلف الأسد الهزبر فريسا بدر الهدى يأبى الظلال ضياؤه ... أبدا فيجلو الظلمة الحنديسا جبل القار رسا وأشرف وأعتلى ... وسما فطأطأ الجبال رءوسا غيث النوال إذا الغمام حلوبة ... مثلث بأيدي الحالبين بسوسا تلقاه يوم الأنس روضا ناعما ... وتراه بأسا في الهيجاء بئيسا كم غمرة جلى وكم خطب كفى ... إن أوطأ الجرد العتاق وطيسا كم حكمة أبدى وكم قصد هوى ... للسالكين أبان منه دريسا أعلى بني زيان والفذ الذي ... لبس الكمال فزين الملبوسا جمع الندى والباس والشيم العلا ... والسودد المتواتر القدموسا والحلم ليس يباين الخلق الرضا ... والعم ليس يعارض الناموسا

والسعد يغني حكمه عن نصبة ... تستخبر التربيع والتسديسا كم راض صعبا لا يراض معاصيا ... كم خاض حربا لا يخاض ضروسا بلغ التي لا فوقها متمهلا ... وعلا السها واستسفل البرجيسا يا خير من خفقت علي سحابة ... للنصر تمطر أجش بجيسا وأجل من حملته صهوة سابح ... إن كرم الله وجهه ضعضع كره الكردوسا قسما بمن رفع السماء بغير ما ... عمد ورفع فوقها إدريسا ودحا البسيطة فوق لج مزبد ... ما إن يزال على القرار حبيسا حتى يهيب بأهله الوعد الذي ... حشر الرئيس إليه والمرءوسا ما أنت إلاّ ذخر دهرك دمت في الص ... وان الحريز ممتعا محروسا لو ساومته الأرض فيك بما حوت ... لرآك مستاما باب الرجل مبخوسا حلف البرور بها ألية صادق ... ويمين من عقد اليمين غموسا من قاس ذاتك بالذوات فإنه ... جهل الوزان وأخطأ التقييسا لا تستوي الأعيان فضل مزية ... وطبيعة فطر الإله وسوسا لعناية التخصيص سر غامض ... من قبل ذرء الخلق خص نفوسا من أنكر الفضل الذي أوتيته ... جحد العيان وأنكر المحسوسا

من دان بالإخلاص فيك فعقده ... لا يقبل التمويه والتلبيسا والمنتمي عيصك لم تكن ... لترى دخيلا في بنيه دسيسا بيت البتول ومنتمى الشرف الذي ... تحمى الملائك دوحه المغروسا أما سياستك التي أحكمتها ... فرميت بالتقصير أسطاليسا فلوان كسرى الفرس أبصر بعضها ... ما كان أن يعد سؤوسا لو سار عدلك في السنين لمّا اشتكت ... بخسا ولم يك بعضهن كبيسا ولو الجواري الخنس انتسبت إلى ... أقوام عزك ما خنسن خنوسا قدت الصعاب فكل صعب سامح ... لك بالقياد وكان قبل شموسا تلقى الليوث وللقتام غمامة ... قدح الصفيح وميضها المقبوسا وكأنها تحت الدروع أراقم ... ينظرون من خلل المغافر شوسا ما لابن ملمة في القديم وحاتم ... ضرب الزمان بجودهم ناقوسا من جاء منهم مثل جودك كلما ... حسبوا المكارم كسوة أو كيسا أنت الذي أفتك السفين وأهله ... إذ أوسعت سبل الخلاص طموسا أنت الذي أمددت ثغر الله بالص ... دقات تبلس كرة إبليسا وأعنت أندلس بكل سبيكة ... موسومة لا تعرف التدليسا

وشحنته بالبر في سبل الرضا ... والبر قارب قاعها القاموسا إن لم تجر بها الخميس فطالما ... جهزت فيها النوال خميسا وملأت أيديهم وقد كادت على ... حكم القضاء تشابه التفليسا صدقت للآمال صنعة جابر ... وكفيتها التشميع والتشميسا والحل والتقطير والتصعيد والت ... خمير والتوصيل والتكليس فسكبت من آمالها مالا ومن ... أوراقها ورقا وكن طروسا بهتوا فلما استخبروا لم ينكروا ... وزنا ولا لونا ولا ملموسا تدبير من قلب السطور سبائكا ... منها ومن طبع الحروف فلوسا ونحوت نحو الفضل تعضد منه بال ... مسموع ما ألفيت منه مقيسا وجبرت بعد الكسر قومك جاهدا ... تغني العديم وتطلق المحبوسا ونشرت راية عزهم من بعدما ... دال الزمان فسامها تنكيسا أحكمت حيلة برئهم بلطافة ... قد أعجزت في الطب جالينوسا وفللت من حدّثني الزمان وإنه ... أوحى وأمضى من غرار الموسى وشحذت حدا كان قبل مثلما ... ونعشت جدا كان قبل تعيسا

لم ترج إلاّ الله جل جلاله ... يقال شدة تكفي وجرح يوسى قدمت صبحا فاستضأت بنوره ... ووجدت عند الشدة التنفيسا ما أنت إلاّ فالح متيقن ... بالنجح تعمر ممرعا ويبيسا ومتاجر جعل الأريكة صهوة ... عربية والمتكا القربوسا ما إن تبايع أو تشاري واثقا ... بالربح إلاّ المالك القدوسا والعزم يفترع النجوم بناؤه ... مهما أقام على التقى تأسيسا ومقام صبرك واتكالك مذكر ... بحديث الشبلي أو طاووسا ومن ارتضاه الله وفق سعيه ... فرأى العظيم من الحظوظ خسيسا ما ازددت بالتحميص إلاّ جدة ... ونضوت من خلع الزمان لبيسا ولطالما طرق الخسوف أهله ... ولطالما اعترض الكسوف شموسا ثم انجلت نسماتها عن مشرق ... للسمد ليس بحاذر تتعيسا خذها إليك على النوى سينية ... ترضي الطباق وتشكر التجنيسا إن طوولت بالدر من حول الطلى ... يوما تشكت حظها الموكوسا لولاك ما أصغت لخطبة خاطب ... ولعنست في بيتها تعيسا قصدت سليمان الزمان وقاربت ... في الخطو تحسب نفسها بلقيسا

لي فيك ود لم أكن من بعدما ... أعطيت صفقة عهده لأخيسا كم لي بصحة عقده من شاهد ... لا يحذر التجريح والتدليسا يقفو الشهادة باليمين وأنّه ... لمؤمن من أن يعد فسيسا لا يستقر قرار أفكاري إلى ... أن أستقر لدي علاك جليسا وأرى تجاهلك مستقيم السير لل ... قصد الذي أعملته معكوسا هي دين أيامي فان سمحت به ... لم يبق من شيء عليه يوسى لا زال صنع الله مجنوبا إلى ... مثواك يهدي البشر والتأنيسا متتابع كتتابع الأيام لا ... يذر التعاقب جمعة وخميسا فلو أنصفتك إيالة الملك التي ... رضت الزمان وكان شريسا قرنت بذكرك والدعاء لك الذي ... تختاره التسبيح والتقديسا القلب أنت لها رئيس حياتها ... لم تعتبر مهما صلحت رئيسا قال الحافظ أبو عبد الله التنسي رحمه الله ورضى عنه: حذا أبن الخطيب في هذه السينية حذو أبي تمام في قصيدته التي أولها: أقشيب ربعهم أراك دريسا ... تقري ضيوفك لوعة ورسيسا وأختلس كثيرا من ألفاظها ومعانيها. انتهى. ووصل أبن الخطيب هذه السينية بنثر بارع يخاطب به السلطان أبا حمو المذكور ونصه:

" هذه القصيدة أبقى الله أيام المثابة المولوية الموسوية ممتعة بالشمل المجموع والثناء المسموع والملك المنصو الجموع نفثه من باح بسر هواه ولبى دعوة الشوق العابث بلبه وقد ظفر بمن يهدي خبر جواه إلى محل هواه ويختلس بعثت حيته إلى مثير أريحيته وهي بالنسبة إلى ما يعتقد من ذلك الكمال الشاذ عن الآمال عنوان من الكتاب وذواق من أوقار ذات أقتاب وإلاّ فمن يقوم بحق تلك المثابة لسانه أو يكافئ إحسانها إحسانه أو يستقل بوصفها يراعه أو تنهض بأيسر وظيفها ذراعه ولا مكابرة بعد الاعتراف والبحر لا ينفذ بالاغتراف لا سيما وذاتكم اليوم والله يبقيها ومن المكاره يقيها وفي معارج القرب من حضرة القدس يرقيها ياقوتة اختارها واعتبرها ثم بلاها بالتحميص في سبيل التخصيص واختبارها وسبيكة خلصها وسجرها فحلصها بسجره من الشوب وأبرزها من لباب الذوب وقصرت عن هذا الأثمان وسر بصدق دعواه البهرمان ليفاضل بين الجهام والصيب ويميز الله الخبيث من الطيب فأراكم أن لا جدوى للعديد ولا للعده وعرفكم بنفسه في حال الشدة ثم فسح لكم بعد ذلك في المدة لتعرفوه إذا دال الرخاء وهبت بعد تلك الزعازع الريح الرخاء وملاكم من التجارب وأوردكم من ألطافه أعذب المشارب ونقلكم بين الزمان وإحلائه ولم يسلبكم إلاّ حقيرا عند أوليائه

وأعادكم المعاد المطهر وألبسكم من أثواب اختصاصه العلم المشهور فأنتم اليوم بعينه العناية بالإفصاح والكناية وقد وقف الدهر بين يديكم موقف الاعتراف بالجناية فإن كان الملك اليوم علما يدرس وقوانين في قوة الحفظ تغرس وبضاعة برصد التجارب تحرس فانتم مالك دار هجرته المحسوبة وأصمعي شعوبه المنسوبة إلى ما حزتم من أشتات الكمال المربية على الآمال فالبيت علوى المنتسب والملك بين المورث والمكتسب والجود يعترف به الوجود والدين يشهد به الركوع والسجود والبأس تعرفه التهائم والنجود والخلق يحسده الخلق المجود والشعر يغترف من عذب نمير ويصدق من قال بدى بأمير وختم بأمير وإن مملوككم حوم من بابكم على العذب البرود فعاقه الدهر عن الورود واستقبل افقه ليحقق الرصد ولكنه أخطأ القصد ومن أخطأ الغرض أعاد ورجا من الزمان الإسعاد فربما خبئ نصيب أو كان مع الخواطي سهم مصيب وكان يؤمل صحبة ركاب الحجاز فانتقلت الحقيقة منه إلى المجاز وقطعت القواطع التي لم ينلها الحساب ومنعت الموانع التي خلص منها إلى الفتنة الانتساب ومن طلب الأيام أن تجري على اقتراحه وجب العمل على اطراحه فإنما هي البحر الزاخر الذي لا يدرك منه الآخر والرياح متغايرة والسفينة الحائرة فتارة يتعذر من المرسى الصرف وتارة تقطع المسافة البعيدة فبل أن يرتد الطرف هذا إن سالمها عطبها واعقى من الوقود حطبها ولقد علم الله عز وجل إنَّ لقاء ذلك المقام الكيرم عند المملوك تمام المطلوب ممن يجبر كسر القلوب فانه مما انعقد على كماله الإجماع وصح في عوالي معاليه السماع وارتفعت في وجوه مقاله الأطماع أخلاقا هذبها الكرم الوضاح

وسجية كلف بها إكمال الفضاح وحرصا على الذكر الجميل وما يتنافس فيه إلاّ من سمت هممه وكومت ذممه وألفت الخلد زممه إذ الوجود سراب وما فوق التراب تراب ولا يبقى إلاّ عمل راق أو ذكر بالجميل يسكر في أوراق حسبما قلت من قصيدة كتبتها على ظهر مكتوب وضوع أشار به من كانت له طاعة فوفت بمقترحه استطاعه: يمضي الزمان فكل فإنَّ ذاهب ... إلاّ جميل الذكر فهو الباقي لم يبق من إيوان كسرى بعد ذا ... كَ الحفل إلاّ الذكر في الأوراق هل كان للسفاح والمنصور وال ... مهدي من ذكر الإطلاق أو للرشيد وللأمين وصونه ... لولاه شباه يراعة الوراق رجع التراب إلى التراب بما اقتضت ... في كل خلق حكمة الخلاق إلاّ الثناء الخالد العطر الشذا ... يهدي حديث مكارم الأخلاق والرغبة من مقامكم الرفيع الجناب أن يمكنها من حسن المثاب فتحظى بحلول ساحته ثم بلئم راحته ثم بالإصغاء ولا مزيد للابتغاء إلى أن ترتفع الوساطة وتغنى عن التركيب البساطة وينسى الأثر بالعين ويحسن الدهر قضاء الدين ونسأل الذي أغرى بها القريحة ولم يجعل الباعث إلاّ المحبة الصريحة أن يبقي تلك المثابة زينا للزمان وذخرا مكنوفا باليمين والأمان مظللا برحمة الرحمن بفضله وكرمه ". انتهى. ومن مقطوعاته أي أبن الخطيب البديعة في مخاطبة هذا السلطان أبي حمو صاحب تلمستان قوله يشكره على ما كان أعان به أهل الأندلس:

لقد زار الجزيرة منك بحر ... يمد فليس تعرف منه جزرا أعدت لها بعهدك عهد موسى ... سميك فهي تتلو منه ذكرا أقمت جدارها وأفدت كنزا ... ولو شئت اتخذت عليه أجرا وقوله: وقالوا الجزيرة قد صوحت ... فقلت غمام الندى تنتظر إذا وكفت كف موسى بها ... غمام يعود الجناب الخضر ومخاطبات الوزير أبن الخطيب للسلطان أبي حمو كثيرة جدا ولنقتصر منها على ما ذكرناه. ومن نظم أبن الخطيب رحمه الله: يا إمام الهدى وأي إمام ... أوضح الحق بعد إخفاء رسمة أنت عبد الحكيم حلمك نرجو ... فالمسمى له نصيب من اسمه وله يخاطب عبد الواحد بن زكريا بن أحمد الليحاني أبا مالك أبن سلطان إفريقيا مودعا: أبا مالك أنت نجل الملوك ... غيوث الندى وليوث النزال ومثلك يرتاح للمكرمات ... وما لك بين الورى من مثال عزيز بأنفسنا أن نرى ... ركابك مؤذنة بارتحال وقد هبرت منك خلقا كريما ... أناف على درجات الكمال وفازت لديك بساعات أنس ... كما زار في الليل طيف الخيال ولولا تعللنا أننا ... نزورك فوق بساط الجلال

ونبلغ فيك الذي نبتغي ... وذاك على الله سهل المنال لمّا فترت أنفس من أسى ... ولا برحت أدمع في انهمال تلقتك حيث احتللت العود ... وكان لك الله في كل حال وتوفي أبو مالك المخاطب بهذا ببلد الجريد سنة خمس وسبع مائة. وأبدع ما وقع لابن الخطيب لاميته التي أولها: الحق يعلو والأباطل تسفل قال أبن حجة في شرح بديعته الذي سماه بتقديم أبي بكر ما نصه: " ومما يشعر بالتهنئة والنصر على الأعداء براعة الاستهلال للعلامة أمام المغرب ذي الوزارتين لسان الدين أبن الخطيب وهي: الحق يعلو والأباطل تسفل ... والله على أحكامه لا يسأل فانه قال: نظمت للسلطان أسعده الله تعالى وأنا بمدينة سلا لمّا انفصل طالبا حقه بالأندلس قصيدة كان صنع الله براعة استهلالها ووجهت بها إليه إلى رندة قبل الفتح ثم لمّا قدمت أنشدتها بين يديه بعد الفتح وفاء بنذري وسميتها: " المنح الغريب في فتح القريب " منها قوله رحمه الله: وإذا استحالت حالة وتبدلت ... فالله عز وجل لا يتبدل واليسر بعد العسر موعود به ... والصبر القريب موكل والمستعد لمّا يؤمل ظافر ... وكفاك شاهدا قيدوا وتوكلوا

أمحمد والحمد منك سجية ... بحليها دون الورى تتجمل أما سعودك فهو دون مناز ... عقد بأحكام القضاء مسجل ولك السجايا الغر واليم التي ... بغريبها يتمثل المتمقل ولك الوقار إذا تزلزلت الربا ... وهفت من الروع الهضاب المثل عوذ كمالك ما استطعت فانه ... قد تنقص الأشياء مما تكمل تاب الزمان إليك مما قد جنى ... والله يأمر بالمتاب ويقبل إنَّ كان ماض من زمانك قد مضى ... بإساءة قد سرك المستقبل هذا بذاك فلشفع الثاني الذي ... أرضاك فيما قد جناه الأول والله قد ولاك أمر عباده ... لمّا ارتضاك ولاية لا تعزل وإذا تغمدك الإله بنصره ... وقضى لك الحسنى فمن ذا يخذل وظعنت عن أوطان ملكك راكبا ... متن العباد فأي صبر يجمل والبحر قد حنيت عليك ضوعه ... والريح تقطع للزفير وترسل ولك الجواري المنشآت قد أغتدت ... تختال في برد الشباب وترفل جوفاء يحملها ومن حملت به ... من يعلم الأنثى وماذا تحمل صبحتهم غرر الجياد كأنما ... سد الثنية عارض متهلل

من كل منجرد أغر مجل ... يرمي الجياد به أغر محجل زجل الجناح إذا أجد لغارة ... وإذا تغنى للصهيل فبلبل جيد كما التفت الظلم فوقه ... أذن ممشقة وطرف أكحل ومنها: وخليج هند راق حسن صفائه ... حتى يكاد يعوم فيه الصقيل غرقت بصفحته المنال وأوشكت ... تبغي النجاة فأوثقتها الأرجل فالصرح منه ممرد والصفح من ... هُ مورد والشط منه مصندل وبكل أزرق إن شكت ألحاظه ... مره العيون فبالعجاجة يكحل متأود أعطافه في نشوة ... مما يعل من الدماء وينهل عجبا له أن النجيع بطرفه ... رمد ولا يخفى عليه مقتل لله موقفك الذي وثباته ... وثباته مثل به يتمثل والنصل خط ومجال صحيفة ... والسمر تنقط والصوارم تشكل والبيض قد كسرت حروف جفونها ... وعوامل الأسل المثقف تعمل وهي طويلة وجميعها فرائد ولم أكثر منها لعلمي أن كلام لسان الدين أبن الخطيب غريب في هذه البلاد ". انتهى كلام أبن حجة رحمه الله. ومن هذه بعد قوله " وطرف أكحل ": فكأنما هو صورة في هيكل ... من لطفه وكأنما هو هيكل

ومنها بعد قوله: " والبيض قد كسرت " البيت قوله: لله قومك عند مشتجر القنا ... إذ ثوب الداعي المهيب وأقبلوا قوم إذا لفج الهجير وجوههم ... حجبوا برايات الجهاد وظللوا ومن مقطوعات أبن الخطيب قوله لمّا أشرف على مراكش: ماذا أحدث عن بحر سبحت به ... من البحار فلا إثم ولا حرج دحاه مبتدع الأشياء مستويا ... ما إن به درك كلا ولا درج حتى ما للمنار الفرد لاح لنا ... صحت بشرى يا مطايا جاءك الفرج قربت من عامر دارا ومنزلة ... والشاهد العدل هذا الطبيب والأرج وقال رحمه الله: كأنا بتامسنا نجوس خلالها ... وممدودها في سيرنا ليس يقصر مراكب في البحر المحيط تخبطت ... ولا جهة تدري والبر يبصر قال أبن الخطيب: ولمّا قضى الله عز وجل بالإدالة ورجعنا إلى أوطاننا من العدوة واشتهر عني ما اشتهر من الانقباض عن الخدمة والتيه على السلطان والدالة والتكبر على أعلى رتب الخدمة وتطارحت على السلطان في استنجاز وعد الرحلة ورغبت في تبرءة الذمة ونفرت عن الأندلس بالجملة خاطبني يعني أبا جعفر بن خاتمة بعد صدر بلغ من حسن الإشارة وبراعة الاستهلال الغاية بقوله:

" وإلى هذا سيدي ومحل تعظيمي وإجلالي، أمتع الله تعالى بطول بقائكم، وضاعف في العز درجات ارتقائكم، فانه من الأمر الذي لم يغب عن رأى العقول، ولا أختلف فيه أرباب العقول؛ أنكم بهذه الجزيرة شمس أفقها، وتاج مفرقها؛ ووساطة سلكها، وطراز ملكها؛ وقلادة نحرها، وفريدة درها، وعقد جيدها المنصوص، وكمال زينها على العموم والمخصوص؛ ثم انتم مدار أفلاكها، وسر سياسة أملاكها؛ وترجمان بيانها، ولسان إحسانها، وطيب مارستانها، والذي عليه إدارتها، وبه قوام إمارتها؛ فلديه يحل المشاكل، وإليه يلتجأ في الأمر المعضل، فلا غر وأنَّ تقيد بكم الأسماع والأبصار، وتحدق نحوكم الأذهان والأفكار؛ ويزجر عنكم السانح والبارح؛ ويستنبأ ما تطرف عنه العين وتخلج الجوارح؛ واستقراء لمرامكم، واستطلاع لطالع أعتزامكم، واستكشاف عن مرامي سهامكم؛ لا سيما مع إقامتكم على جناح خفوق، وظهوركم في ملتمع بروق، واضطراب الظنون فيكم مع الغروب والشروق؛ حتى تستقر بكم الديار، ويلقى التسيار، ولها العذر في ذلك إذ صدعها بفراقكم لم يندمل، وسرورها بلقائكم لم يكتمل؛ فلم يبر بعد جناحها المهيض، ولا جم ماؤها المغيض، ولا تميزت من داجيها لياليها البيض؛ ولا استوى نهارها، ولا تألقت أنوارها؛ ولا اشتملت نعماؤه؛ ونسيت غماؤها؛ بل هي كالناقة، والحديث العهد بالمكاره، تستشعر نفس العافية، وتتمسح منكم باليد الشافيه؛ فبحناكم عليها، وعظيم

حرمتكم على من لديها؛ لا تشوبوا لها عذب المجاج بالأجاج، وتفطموها عما عودت من طيب المزاج؛ فما لدائها وحياة قربكم غير طبكم من علاج؛ وإني ليخطر بخاطري محبة فيكم وعناية بما يعنيكم ما نال جانبكم صانه الله بهذا الوطن من الجفاء، ثم أذكر ما نالكم من حسن العهد وكرم الوفاء؛ وأنَّ الوطن إحدى الحواضن الأظآر، التي يحق لها جميل الاحتفاء، وما يتعلق بكم من حرمة أولياء القرابة وأوداء الصفاء؛ فيغلب على ظني أنكم لحسن العهد أنجح، وبحق نفسكم عن حق أوليائكم أسمح، والتي هي أعظم قيمة من فضائلكم أوهب وأسجح. وهب أنَّ الدر لا يحتاج في الإثبات، إلى شهادة النحور والبات؛ والياقوت غنى المكان، عن مظاهرة القلادة والتيجان، أليس أنّه أعلى للعيان، وابعد عن مكابرة البرهان، تألقها في تاج الملك انوشروان؛ فالشمس وإنَّ كانت أم الأنوار، وجلاء الأبصار، مهما أغمى مكنها من الأفق قيل: أليل هو أم نهار؛ وكما في علمكم ما فارق ذوو الأرحام، وأولو الأحلام؛ موطن استقرارهم، وأماكن قرارهم، إلاّ برغمهم واضطرارهم، واستبدال دار خير من دارهم؛ ومتى توازن الأندلس بالمغرب، أو يعوض عنها إلاّ بمكة أو يثرب؟ ما تحت أديمها أشلاء أولياء وعباد، وما فوقه مرابط جهاد، ومعاقد ألوية في سبيل الله ومضارب أوتاد؛ ثم يبوى ولده مبوأ أجداده، ويجمع له بين طارفه وتلاده، أعيذ أنظاركم المسددة من رأى فائل، وسعى طويل لم يحل منه بطائل، فحسبكم من هـ الإياب السعيد، والعود الحميد " وهي طويلة. قال ابن الخطيب: فأجبته بقولي: لم في الهوى العذري أو لا تلم ... فالعذل لا يدخل أسماعي شأنك تعنيفي وشأني الهوى ... كل الهوى في شأنه ساعي

أهلا بتحفة القادم، وريحانة المنادم، وذكرى الهوى المتقادم؛ لا يصفر الله مسراك، بما أسراك؛ لقد جبت إلى من همومي ليلا، وجست رجلاً وخيلا، ووفيت من صاع الوفاء كيلاً، وظننت بي الأسف على ما فات فأعلمت الالتفات لكيلا؛ فأقسم لو أنَّ أمري اليوم بيدي، أو كانت اللمة السوداء من عددي؛ ما أفلت شراكي المنصوبة لأمثالك، وحول المياه وبين المسالك، ولا علمت ما هنالك؛ لكنك طرقت حمى كسعته الغارة الشعواء، وغيرت ربعة الأنواء؛ فحمد بعد ارتجتجه، وسكت أذين دجاجه، وتلاعبت الرياح الهوج فوق فجاجه، وطال عهده بالزمان الأول، وهل عند رسم دارس من معول؛ وحيا اندبا الى زيارتي ندبك، وبآدابه الحكيمة أدبك: فكان وقد أفاد بك الأماني ... كمن أهدى الشفاء إلى العليل وهي شيمة بوركت من شيمة، وهب الله من لدن المشيمة، ومن مثله في صلة رعى، وفضل سعى، وقول ووغى؟ قسما بالكواكب الزهر ... والزهر عاتمه إنّما الفضل ملة ... ختمت بابن خاتمة كساني حيلة فضلة وقد ذهب زمان التجمل، وحملني شكره وكتدمي واه عن التحمل، ونظرني بالعين الكليلة عن العيب فلا أجاد التأمل، واستطلع طلع بثي، ووالي من مبرك المعجزة حتى، إنّما أشكو بثي: ولو ترك القطا ليلا لناما

وما حال شمل وتده مفروق، وقاعدته فروق، وصلوع بني أبيه مسروق، وقلب قرحه من عضة الدهر دام، وجمرة حسرته ذات احتدام؛ هذا وقد صارت الصغرى، التي كانت الكبرى؛ لمشيب لم يدع أنَّ هجم لمّا نجم، ثم تهلل عارضة وانسجم: لا تجمعي هجرا عليَّ وغربةً ... فالهجر في تلف الغريب سريع نظرت فإذا الجانب ناب، والنفس فريسة ظفر الناب، والمال أكيلة انتهاب، والعمر رهن ذهاب، واليد صفر من كل انتساب، وسوق المعاد مترامية والله سريع الحساب: ولو نعطى الخيار لمّا افترقنا ... ولكن لا خيار مع الزمان وهب العمر جديد، وظل الأمن مديد، ورأى الاغتباط بالوطن سديد، فما الحجة لنفسيي إذا مرت بمطارح جفوتها، وملاعب هفوتها؛ ومثاقف قناتها، ومظاهر عزاها ومناتها ولود وزناد الكون غير صلود! وإذا أمرؤ لدغته أفعى مرة ... تركته حين يجر حبل يفرق ثم إنَّ المرغب قد ذهب، والدهر قد استرجع ما وهب، العارض قد اشتهب؛ وآراء الاكتساب مرجوحة مرفوضة، وأسماؤه على الجوار مخفوضه، والنية مع الله على الزهد فيما بأيدي الناس معقودة، والتوبة بفضل الله عز وجل منقودة، غير معترضة ولا منقودة، والمعاملة سامريه، ودروع الصبر سابرية، والاقتصاد

قد قرت العين بصحبته، والله قد عوض حب الدنيا بمحبته؛ فإذا راجعتها مثلي من بعد الفراق، وقد رقى لدغتها ألف راق؛ وجمعتني بها الحجرة، فما الذي تكون الأجرة؟ جل شأني، وإنَّ رضى الوامق وسخط الشاني؛ وإني إلى الله مهاجر، وللعرض الأدنى هاجر، ولأظعان السرى زاجر، ولنجد إن شاء الله تعالى أو حاجر؛ لكن دعناي للهوى، إلى هذا المولى المنعم هوى؛ خلعت نعلي الوجود وما خلعته، وشوقي أمرني فأطعته، وغالب صبري الله فما استطعته، والحال أغلب، وعسى ألا يخيب المطلب؛ فإن يسر رضاه فأمل كمل، وراحل احتمل، وحادٍ أشجى الناقة والجمل؛ وان ك خلاف ذ فالزمان جم العوائق، والتسلم بمقامي لائق: ما بين غمضة عين وانتباهتها ... يصرف الأمر من حال إلى حال وأما تفضيله هذا الوطن على غيره، ليمن طيره، وعموم خيره؛ وبركة جهاده، وعمران رباه ووهاده، بأشلاء عباده وزهاده؛ حتى لا يفضله إلاّ أحد الحرمين، فحق برئ من المين؛ لكني للحرمين جنحت، وفي جو الوشق إليهما سنحت؛ فقد أفضت إلى طريق قصدي محجته، ونصرني والمنة لله حجته؛ وقصدي سيدي أسنى قصد توخاه الحمد والشكر، معروف عرف به النكر؛ والآمالمن فضل الله بعد تمتار، والله يخلق ما يشاء ويختار؛ ودعاؤه بظهر الغيب مدد، وعدة وعدد، وبره حالي الظعن والإقامة معتمل ومعتمد، ومجال المعرفة بفضله لا يحصره أمد. والسلام. انتهى. وقال في الإحاطة في ترجمة السلطان أبي سالم أبن الحسن المريني، بعد كلام كثير، ما نصه:

" فلقد كان بقية البيت، وآخر القوم دماثة وحياء، وبعداً عن الشر، وركونا للعافية، وأنشدت على قبره الذي ووريت به جثة بالقلة من ظاهر المدينة، قصيدة أديت فيها بعض حقه، وهي: بنى الدنيا بني لمع السراب ... لدوا للموت وابنوا للخراب انتهى المقصود منه. ومن نظم أبن الخطيب في الرغبة إلى الله تعالى: إلهي بالبيت المقدس والمسعى ... وجمع إذا ما الخلق قد نزلوا جمعا وبالموقف المشهود يا رب في منى ... إذا ما أسال الناس من خوفك الدمعا وبالمصطفى والصحب عجل إقالتي ... وانجح دعائي فيك يا خير من يدعى صدعت وأنت المستغاث جنابه ... أقل عثرتي يا مأملي واجبر الصدعا وقال رحمه الله عقب الإياب من الرحلة المراكشية: أفادت وجهتي بنداك مالا ... قضي ديني وأصلح بعض حالي ومتعت الخواطر بانشراح ... وأطرفت النواظر باكتحال وأبت خفيف ظهر والمطايا ... بجاهك تشتكي ثقل الرحال وشأني للمعلم غير شأني ... وحالي بالمكارم جد حال فحب علاك إيماني وعقدي ... وشكر نداك ديني وانتحالي كأنَّ قد صح لله انقطاعي ... بتأميلي جنابك وارتحالي وما يبقى سوى فعل جميل ... وحال الدهر لا تبقي بحال وكل بداية فالي انتهاء ... وكل إقامة فالي ارتحال ومن سام الزمان دوام أمرٍ ... فقد وقف الرجاء على المحال

وقال رحمه الله في الضراعة إلى مولاه: مولاي إنَّ أذنبت، ينكر أنَّ يرى ... منك الكمال ومني النقصان؟ والعفو عن سبب الذنوب مسبب ... لولا الجناية لم يكن غفران وقال سماحه الله مما كتب في حيطان المدرسة التي بناها السلطان أبو الحجاج: ألا هكذا تبنى المدارس للعلم ... وتبقى عهود المجد ثابتة الرسم ويقصد وجه الله بالعمل الرضا ... وتجنى ثمار العز من شجر العزم تفاخر مني حضرة الملك كلما ... تقدم خصم في الفخار إلى الخصم فأجدى إذا ضن الغام من الحيا ... وأهدى إذا جن الظلام من النجم فيا ظاعناً للعلم يطلب رحلة ... كفيت أعتراض البيدا ولجج اليم ببابي حط الرحل لا تنو وجهة ... فقد فزت في حال الإقامة بالغنم فكم من شهاب في سمائي ثاقب ... ومن هالة دارت حلى قمر تم يفيضون من نور مبين إلى هدى ... ومن حكمة تجلو القلوب إلى حكم جزى الله عني يوسفا خير ما جزى ... ملوك بني نصر عن الدين والعلم وقال أبن الخطيب مررت يوماً مع شيخنا أبي البركات ببعض مسالك غرناطة، فأنشد من نظمه: غرناطة ما مثلها حضرة ... الماء وابهجة والخضرة واستجارني رحمه الله، فقلت ". سكانها قد اسكنوا جنة ... فهم يلقون بها نضره وكتب رحمه الله عن سلطانه أبي عبد الله بن نصر يخاطب الضريح المقصود، والمنهل المورد، والمرعى المنتجع، والخوان الذي يكفي الغرثي، ويمرض المرضى،

ويقوت الزمني، ويتعداهم إلى أهل الجدة زعموا والغني، قبر ولي الله سيدي أبي العباس السبتي، نفعنا الله به وجبر جالنا ببركاته النعم، ودفع علينا النقم: يا ولي الإله أنت جواد ... وقصدنا إلى حماك المنيع راعنا الدهر بالخطوب فجئنا نرتجي من علاك الحسن الصنيع فمددنا لك الأكف نرجي ... عودة العز تحت شمل جميع وقد جعلنا وسيلة تربك الزاكي وزلفي إلى العليم السميع كم غريب أسرى إليك فوفي ... برضاً عاجل وخير سريع يا ولي الله الذي جعل جاهه سببا لقضاء الحاجات، ورفع الأزمات، وتصريفه باقيا بعد الملمات، وصدق نقل الحكايات ظهور الآيات؛ نفعني الله بنيتي في بركة تربك، وأظهر على أثر توسل بك إلى ربك؛ مزق شملي؛ وفرق بيني وبين أهلي؛ وتعدى على وصرفت وجوه المكايد إليَّ حتى أخرجت من وطني وبلدي، ومالي وولدي؛ ومحل جهادي، وحقي الذي صار لي طوعا عن آبائي وأجدادي؛ عن بيعة لم يحل عقدها الدين، ولا ثبوت جريمة نشين؛ وأنا قد قرعت باب الله بتأميلك، فالتمس لي قبوله بقبولك؛ وردني إلى وطني على أفضل حال، وأظهر على كرامتك التي تشد إليها ظهور الرحال؛ فقد جعلت وسيلتي إليك رسول الحق؛ إلى جميع الخلق؛ والسلام عليك آيها الولي الكريم، الذي يأمن به الخائف وينتصف الغريم، ورحمه الله.

وقال سامحه الله في التورية الطيبة، بالدواء المسمى بدم الأخوين، في شأن سلطان الأندلس القائم عليهم وأخيه، وشان ذلك الدواء النفع من الجراح: بإسماعيل ثم أخيه قيس ... تأذن هم ليلى بانبلاج دم الأخوين داوي جرح قلبي ... وعالجني وحسبك من علاج وقال مقتبسا في غير ذلك: يا من بأكناف فؤادي ربع ... قد ضاق بي في حبسك النتسع ما فيك لي جدوى ولا أرعوي ... شح مطاع وهوى منبع وقال في التورية بالطلب: إني وإنَّ كنت ذا اعتلال ... رث القرى بين الهزل في عارض التيس لي شفاء ... فكيف في عارض الغزال وقال يخاطب الحاجب الفقيه الخطيب، سيدي أبا عبد الله بن مرزوق، وطغا على بيت المشارقة في العذار: أما والذي تبلى لديه السرائر ... لمّا كنت أرضى الخسف لولا الضرائر غدوت لضيم أبن الربيب فريسة أما ثار من قومي لنصري ثائر إذا التمس كفى لديه جرابني ... كأني جان أوبقته الجرائر وما كان ظني أنَّ أنال جراية ... يحكم من جرائها في جائر متى جاد بالدينار أخضر زائفاً ... ودارته دارت عليها الدوائر وقد اخرج التعنيت كيس مرارتي ... ورقت لبواي النفوس الأخاير

تذكرت يبتاً في العذار لبعضهم ... له مثل بالحسن في الأرض سائر: وما أخضر ذاك الخد نبتا وإنّما ... لكثرة ما شقت عليه المرائر وجاه أبن مرزوق لدي ذخيرة ... وللشدة العظمى تعد الذخائر ولو كان يدري ما دهاني لساءه ... وأنكر ما صارت إليه المصاير وكان أبن الربيب هذا من خدام السلطان أبي سالم، وكانت جارية أبن الخطيب وغيره ممن قدم من أعيان الأندلس على يده، فكان لا يوفي بحقهم، فاشتكى أبن الخطيب به إلى الحاجب أبن مرزوق بهذا النظم المذكور، إلى الله ترجع الأمور. وقال رحمه الله يخاطب أحد الشرفاء الكرام: أعيا اللقاء على إلاّ لمحة ... في جملة لا تقبل التفصيار فجعلت باب عن يمينك نائباً ... أهديه عند زيارتي تقبيلا فإذا وجدتك نلت ما أملته ... أو لم أجدك فقد شفيت غليلا وقال في مخاطبة السلطان أبى سالم رحمه الله في سبيل الشكر، عندما خلصه من الورطة بشفاعته التي قدمنا ذكرها: سمي خليل الله أحييت مهجتي ... وعاجلي منك الصريح على بعد فإنَّ عشت أبلغ فيك نفسي عذرها ... وإنَّ لم أعش فالله يجزيك من بعدي قال: وقلت في التغزل، وما أبعد عني في الوقت، والحمد لله:

أصبح الخد منك جنة عدن ... مجتلى أعين وشم أنوفٍ ظللتها من الجفون سيوف ... جنة الخلد تحت ظل السيوف وجاطب صاحب الأشغال أبا عبد الله أبن القاسم بن أبي مدين يهنئه بنقل الخطة من رسالة: تعود الأماني بعد انصاف ... ويعتدل الشيء بعد انحراف فإن كان دهرك يوماً جنى ... فقد جاء ذا خجل واعترف طلع البشير أبقاك الله، بقبول الخلافة المرينية، والإمامة السنية، خصها الله لتذكر عهدها وبكت، وكاد السرور ينقطع لولا أنها تركت منك الوارث الذي تركت؛ فلولا الغذر الذي تألأكدت ضرورته، والمانع الذي ربما تقررت لديكوم صورته؛ لكنت أوّل مشافة بالهناء، ومصارف لهذا الاعتناء، الوثيق البناء، فنقول والحمد لله والثناء. وهي طويلة. وقال يخاطب السلطان أبا سالم عند انقطاعه بضريح والده بشالة سلا، حيث مدفن ملوك بني مرين: عن باب والدك الرضا لا لأبوح ... يأسو الزمان لأجل ذاك ويجرح ضربت خيامي في حماه فصبيتي ... تجني الحميم به وبهمي تسرح حتى يراعى وجهه في وجهتي ... بعناية تشفي الصدور وتسرح أيسوغ عن مثواه سيري خائبا ... ومنابر الدنيا بذكرك تصدح

أنا في حماه وأنت أبصر بالذي ... يرضيه منك فوزن عقلك أرجح في مقلها سيف الحمية ينتضى ... في مثلها زند الحفيظة يقدح وعسى الذي بدأ الجميل يعيده ... وعسى الذي سد المذاهب يفتح ومما كتب به إلى السلطان أبي سالم من مدينة سلا، بعد عودته من مراكش. مولاي المرجو لإتمام الصنيعة وصلة النعمة وإحراز الفخر أبقاكم الله تضرب بكم الأمثال في البر والرضا، وعلو الهمة ورعي الوسيلة. مقبل موطئ قدمكم، المنقطع إلى تربة المولى والدكم أبن الخطيب، من الضريح المقدس بشالة، وقد حطرحل الرجاء في القبة المقدسة وتيمم بالتربة الزكية وقعد بازاء لحد أبيكم ساعة إيابه من الوجهة المباركة وزيارة الربط المقصودة والترب المعظمة وقد عزم ألا يبرح طوعاً من هذا الجوار الكريم، والدخيل المرعي حتى يصله من مقامكم ما يناسب هذا التطارح على قبر هذا المولى العزيز على أهل الأرض ثم عليكم والتماس شفاعته في أمر سهل عليكم لا يجر إنفاذ مال ولا اقتحام خطر إنما هو إعمال لسان وخط بنان وصرف عزم وإحراز فخر وأجر، وإطالة ذكر، وذلك أن العبد عرفكم يوم وداعكم أنه ينقل عنكم إلى المولى المقدس بلسان المقال، ما يحضر مما يفتح الله فيه ثم ينقل عنه لكم بلسان الحال، ما يتلقى عنه من الجواب. وقال لي صدر دولته وخالصتكم وخالصة المولى والدكم، سيدي الخطيب سني الله أمله، من

سعادة مقامكم وطول عمركم: يا فلان أنت والحمد لله ممن لا ينكر عليه الوفاء بهذين الفرضين، وصدر عنكم من البشر والقبول والإنعام ما صدر جزاكم الله جزاء المحسنين. وقد تقدم تعريف مولاي بما كان من قيام العبد بما نقله إلى التربة الزكية عنكم، حسبما أداه من حضر ذلك المشهد من خدامكم والعبد الآن يعرض عليكم الجواب، وهو إني لمّا فرغت من مخاطبته بمرأى من الملأ الكبير والجم الغفير اكببت على اللحد الكريم، داعياً ومخاطباً وأصغيت بأذني نحو قبره وجعل فؤادي يتلقى ما يوحيه إليه لسان حاله فكأني به يقول لي: قل لمولاك: يا ولدي وقرة عيني المخصوص برضاي وبري الذي ستر حريمي ورد ملكي وصان أهلي وأكرم صنائعي ووصل عملي اسلم عليك واسأل الله أن يرضى عنك ويقبل عليك؛ الدنيا دار غرور والآخرة جير لمن اتقى وما الناس إلا هالك وأبن هالك ولا تجد إلاّ ما قدمت من عمل يقتضي العفو والمغفرة أو ثناء يجلب الدعاء بالرحمة ومثلك من ذكر فتذكر وعرف فما أنكر؛ وهذا أبن الخطيب قد وقف على قبري وتهمم بي وسبق الناس إلى رثائي، وأنشدني ومجدني وبكاني ودعا لي وهنأني بمصير أمري إليك وعفر وجهه في تربي وأماني لمّا انقطعت مني آمال الناس فلو كنت يا ولدي حياً لمّا وسعني أن أعمل معه إلاّ ما يليق بي وأن أستقل فيه الكثير وأحتقر العظيم لكن لمّا عجزت عن جزائه وكلته إليك وأحلته يا حبيب قلبي عليك وقد أخبرني أنه سليب المال مثير العيال ضعيف الجسم قد ظهر في عدم نشاطه اثر السن وأمل أن ينقطع بجواري ويستتر بدخيلي

وخدمتي ويرد عليه حقه بحرمتي ووجهي ووجوه من ضاجعني من سلفي ويعيد الله تحت حرمتك وحرمتي وقد كنت تشوفت إلى استخدامه في الحياة حسبما يعلمه حبيبنا الخالص المحبة وخطيبنا العظيم المزية القديم القربة أبو عبد الله أبن مرزوق فسله يذكرك واستخبره يخبرك فأنا اليوم أريد أن يكون هذا الرجل خديمي بعد الممات إلى أن نلحق جميعاً برضوان الله ورحمته التي وسعت كل شيء وله يا ولدي ولد نجيب يخدم ببابك وينوب عنه في ملازمة بيت كتابك وقد استقر بدارك قراره وتعين بأمرك مرتبه ودثاره فيكون الشيخ خديم الشيخ والشاب خديم الشاب هذه رغبتي منك، وحاجتي إليك. واعلم هذا الحديث لا بد أن يذكر ويتحدث به في الدنيا وبين أيدي الملوك والكبراء فاعمل ما يبقي لك فخره ويتخلد ذكره وقد أقام مجاوراً ضريحي تالياً كتاب الله عليّ منتظراً ما يصله منك ويقرؤه عليّ من السعي في خلاص ماله، والاحتجاج بهذه الوسيلة في جبره وإجراء ما يليق بك من الحرمة والكرامة والمنعة، فالله الله يا إبراهيم اعمل ما يسمع عني وعنك فيه ولسان الحال أبلغ من لسان المقال ". انتهى والعبد يا مولاي مقيم تحت حرمته وحرمة سلفه منتظر منك قضاء حاجته ولتعلموا وتتحققوا إني لو ارتكبت الجرائم ورزأت الأموال وسفكت الدماء وأخذت حسائف الملوك الأعزة ممن وراء النهر من التتر وخلف البحر من الروم ووراء الصحراء من الحبشة وأمكنهم الله مني من غير عهد بعد أن بلغهم تذممي بهذا الدخيل ومقامي بين القبور الكريمة ما وسع أحداً منهم من حيث الحياء والحشمة من الأموات والأحياء وإيجاب الحقوق التي

لا يغفيا الكبار للكبار إلاّ الجود الذي لا يتعقبه البخل والعفو الذي لا تفسده المؤاخدة فضلا عن سلطان الأندلس أسعده الله بموالاتكم فهو فاضل وأبن ملوك فاضل وحوله أكياس ما فيهم من يجهل قدركم وقدر سلفكم لا سيما مولاي والدكم الذي أتوسل به إليكم وإليهم فقد يتبنى مولاي أبا الحجاج ويشمله بكنفه وصارخه بنفسه وأمده بأمواله ثم صير الله ملكه إليكم وأنتم من أنتم ذاتاً وقبيلاً، فقد قرت يا مولاي عين العبد بما رأت في هذا الوطن المراكشي من وقور حشودكم وكثرة جنودكم وترادف أموالكم وعددكم زادكم الله من فضله ولا شك عند عاقل أنكم إن انحلت عروة تأميلكم وأعرضتم عن ذلك الوطن استولت عليه يد عدوه، وقد علم تطارحي بين الملوك الكرام الذين خضعت لهم التيجان وتعلقت بثوب الملك الصالح، والد الملوك الكرام، مولاي والدكم وشهرة حرمة شالة معروفة حاش لله أن يضيعها أهل الأندلس وما ترسل إليهم قط بها إلاّ الآن، وما يجهلون اغتنام هذه الفضيلة الغريبة، وأملي منكم أن يتعين من بين أيديكم خديم بكتاب كريم يتضمن الشفاعة في رد ما أخذ لي ويخبر بمثواي على قبر والدكم ويقرر ما لزمكم بسبب هذا الترامي من الضرورة المهمة والوظيفة الكبيرة عليكم وعلى قبيلكم حيث كانوا وتطلبون منهم عادة المكرمة بحل هذه العقدة ومن المعلوم أني لو طلبت بهذه الوسائل من طيب مالهم ما وسعهم بالنظر العقلي إلاّ حفظ هذا الوجه مع هذا القبيل وهذا الوطن فالحياء والحشمة يأبيان العذر عن هذا في كل ملة ونحلة وإذا تم هذا الغرض ولا شك في إتمامه بالله تقع صدقتكم على القبر الكريم

بي وتعينوني لخدمة هذا المولى وزيارته وتفقده ومدح النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المولد في جواره وبين يديه وهو غرض غريب مناسب لبركم به، إلى أن أحج بيت الله بعناية مقامكم وأعود داعيا مثنيا مستدعيا للشكر والثناء من أهل المشرق والمغرب وأتعوض من ذمتي بالأندلس ذمة بهذا الرباط المبارك يرثها ذريتي وقد ساومت في شيء من ذلك منتظر ثمنه مما يباع بالأندلس بشفاعتكم ولو ظننت أنهم يتوقفون لكم في مثل هذا أو يتوقع فيه وحشة أو جفاء والله ما طلبته لكنكم أسرى وأفضل وانقطاعي أيضاً لوالدكم مما لا يسع مجدكم إلاّ عمل ما يليق بكم فيه وهاأنا أرقب جوابكم بما لي عندكم بما لي عندكم من القبول ويسعني مجدكم في الطلب وخروج الرسول لاقتضاء هذا الغرض والله يطلع من مولاي على ما يليق به. والسلام. وكتبه في الحادي عشر من رجب عام أحد وستين وسبع مائة. وفي مدرج الكتاب بعد نثر هذه القصيدة: مولاي هاأنا في جوار أبيكا ... فابذل من البر المقدر فيكا أسمعه ما يرضيه من تحت الثرى ... والله يسمعك الذي يرضيكا واجعل رضاه إذا نهدت كتيبة ... تهدي إليك النصر أو تهديكا واجبر لجبري قلبة تنل المنى ... وتطالع الفتح المبين وشيكا فهو الذي سن البرور بأمه ... وأبيه فاشرع شرعه لبنيكا وابعث رسولك منذرا ومحذرا ... وبما تؤمل نيله يأتيكا قد هز عزمك كل قطر نازح ... وأخاف مملوكا به ومليكا فإذا سموت إلى مرام شاسع ... فغضونه ثمر المنى تنجيكا ضمنت رجال الله منك مطالبي ... لمّا جعلتك في الثواب شريكا

فلئن كفيت وجوهها في مقصدي ... ورعيتها بركاتها تكفيكا وإذا قضيت حوائجي وأريتني ... أملي فربك ما أردت يريكا واشدد على قولي يدا فهو الذي ... برهانه لا يقبل التشكيكا لكن رأيت جناب شالة مغنما ... يضفي عليّ العز في ناديكا وفروض حقك لا تفوت فوقها ... باق إذا استجزيته يجزيكا ووعدتني وتكرر الوعد الذي ... أبت المكارم أن يكون لأفيكا أضفى عليك الله ستر عناية ... من كل محذور الطرو يقيكا ببقائك الدنيا تحاط وأهلها ... فالله جل جلاله يبقيكا ولمّا وصل هذا السلطان أبا سالم رحمه الله راجعه بما نصه بعد البسملة والصلاة: من عبد الله المستعين بالله إبراهيم أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبن مولانا أمير الملمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي الحسن أبن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العلمين أبي سعيد أبن ملانا أمير المسامين المجاهد في سبيل رب العالمين يوسف بن يعقوب بن عبد الحق أيد الله أمره وأعز نصره إلى الشيخ الفقيه الأجل الأسنى الأعز الأحظى الأوجه الأنوه الصدر الأحفل المنصف البليغ الأعرف الكمل أبي عبد الله أبن الشيخ الأجل الأعز الأسنى الوزير الأرفع الأنجد الأصيل الأكمل المرحوم المبرور أبي محمد بن الخطيب وصل الله عزته ووالى نعمته.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد حمد الله تعالى والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمّد رسوله الكريم المصطفى والرضى عن آله وصحبه أعلام الإسلام وأئمة الرشد والهدى وصلة الدعاء لهذا الأمر العلي العزيز المنصور المستعين بالنصر الأعز والفتح الأسنى. فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم بلوغ الأمل ونجح القول والعمل من منزلنا الأسعد بضفة وادي ملوية يمنه الله وصنع الله جميل ومنه جزيل والحمد لله ولكم عندنا المكانة الواضحة الدلائل والعناية المتكلفة برعى الوسائل ذلكم لمّا تميزتم به من التمسك بالجناب العلي المولوي العلوي حدد الله عليه ملابس غفرانه وسقاه غيوث رحمته وحنانه وبما أهديتم إلينا من التقرب لدينا بخدمة ثراه الطاهر والاشتمال بمطارف حرمته السامية المظاهر وإلى هذا وصل الله حظوتكم ووالي رفعتكم فإنه ورد علينا خطابكم الحسن عندنا قصده المقابل بالإسعاف المستعذب ورده فوقفنا على ما نصه واستوفينا ما شرحه وقصه فآثرنا تلطفكم في التوسل بأكبر الوسائل إلينا ورعينا أكمل الرعية حق ذلكم الجناب العزيز علينا وفي الحين عينا لكمال مطلبكم وتمام مأربكم والتوجه بخطابنا في حقكم والاعتمال بوفقكم خديمينا أبا البقاء بن تاشكورت وأبا زكريا بن فرقاجة أنجدهما الله وتولاهما وأمس تاريخه انفصلا مودعين إلى الغرض المعلوم بعد التأكيد عليهما فيه وشرح العمل الذي يوفيه فكونوا على علم من ذلكم وابسطوا له جملة آمالهم وإنا لنرجو ثواب الله في جبر أحوالكم وبرء اعتلالكم والله سبحانه يصل

مبرتكم ويتولى تكرمتكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. كتب في الرابع والعشرين لرجب عام واحد وستين وسبع مائة. فراجعه أبن الخطيب بما نصه: مولاي خليفة الله بحق وكبير ملوك الأرض عن حجة ومعدن الشفقة والرحمة ببرهان وحكمة أبقاكم الله عالي الدرجة في المنعمين وافر الحظ عند جزاء المحسنين وأراكم ثمرة بر أبيكم في البنين وصنع لكم في عدوكم الصنع الذي لا يقف عند معتاد وأذاق العذاب الآليم من أراد في مثابتكم بإلحاد. عبدكم الذي ملكتم رقه وآويتم غربته وسترتم أهله وولده وأسنيتم رزقه وجبرتم قلبه يقبل موطئ الأخمص الكريم من رجلكم الطاهرة المستوجبة بفضل الله لموقف النصر الفارعة هضبة العز المعمولة الخطو في مجال السعد ومسير الحظ أبن الخطيب من شاله التي توكد بملككم الرضي احترامها وتجدد برعيكم عهدها واستبشر بملككم دفينها وأشرق بحسناتكم نورها وقد ورد على العبد الجواب المولوي البر الرحيم المنعم المحسن بما يليق بالملك الأصيل والقدر الرفيع والهمة السامية والعزة القعساء من رعي الدخيل والنصرة للذمام والاهتزاز لبر الأب الكريم فثاب الرجاء وانبعث الأمل وقوى العضد وزار اللطف فالحمد لله الذي أجرى الخير على يدكم الكريمة وأعانكم على رعي ذمام الصالحين المتوسل إليكم أولا بقبورهم

ومتعبداتهم وتراب أجدادهم ثم بقبر مولاي ومولاكم ومولى الخلق أجمعين الذي تسبب في وجودكم واختصكم بحبه وغمركم بلطفه وحنانه وعلمكم آداب الشريعة وأورثكم ملك الدنيا وهيأتكم دعوته بالاستقامة إلى ملك الآخرة بعد طول المدى وانفساح البقاء وفي علومكم المقدسة ما تضمنت الحكايات عن العرب من النضرة عن طائر داست أفراخه ناقة في جوار رئيس منهم وما انتهى إليه الامتعاض لذلك مما أهينت فيه الأنفس وهلكت الأموال وقصارى من امتعض لذلك أن يكون كبعض خدامكم من عرب تامسان فما الظن بكم وأنتم الكريم أبن الكريم أبن الكريم فيمن لجأ أولا إلى حماكم بالأهل والوالد عن حسنة تبرعتم بها وصدقة حملتكم الحرية على بذلها ثم فيمن حط رحل الاستجارة بضريح أكرم الخلق عليكم دامع العين خافق القلب دامي القرحة يتغطى بردائه ويستجير بعليائه كأني تراميت عليه في الحياة أمام الذعر الذي يذهل العقل ويحجب عن التمييز بقصر داره ومضجع رقاده ما من يوم إلاّ وأجهر بعد التلاوة: يا ليعقوب باب الرجل لمرين نسأل الله إلاّ يقطع عني معروفكم ولا يسلبني عنايتكم ويستعملني ما بقيت في خدمتكم ويتقبل دعائي فيكم ولحين وصول الجواب الكريم نهضت إلى القبر المقدس ووضعته بإزائه وقلت: يا مولاي يا كبير الملوك وخليفة الله وبركة بني مرين صاحب الشهرة والذكر في المشرق والمغرب عبدك المنقطع إليك المترامي بين يدي قبرك المتوسل إلى الله ثم إلى ولدك بك أبن الخطيب وصله من مولاه ولدك ما يليق بمقامه من رعى وجهك والتقرب إلى الله برعيك والاشتهار في مشرق الدنيا ومغربها ببرك وانتم من

أنتم من إذا صنع صنيعة كملها وإذا بدا منة تممها انتم من إذا صنع صنيعة كملها وإذا بدا منة تممها وإذا أسدى يدا أبرزها طاهرة بيضاء غير معيبة ولا ممنونة ولا منتقصة وأنا تحت ذيل حرمتك وظل دخيلك حتى يتم أملي ويخلص قصدي وتحف نعمتك بي ويطمئن إلى مأمنك قلبي. ثم قلت للطالبة: أيّها السادة بيني وبينكم تلاوة كتاب الله منذ أيام ومناسبة النحل وأخوة التألف بهذا الربط المقدس والسكنى بين أظهركم فأمنوا على دعائي بإخلاص من قلوبكم واندفعت في الدعاء والتوسل الذي نرجو أن يتقبله الله ولا يضيعه وخاطب مولاه شاكرا لنعمته مشيدا بصنيعته مسرورا بقبوله وشأنه من التعلق والتطارح شأنه حتى يكمل القصد ويتم الغرض معمور الوقت بخدمة يرفعها ودعاء يردده والله المستعان. وفي يوم الخميس سابع عشر من شعبان من العام المؤرخ ورد كتاب فتح تلمستان فأصدر أبن الخطيب إلى باب السلطان أبي سالم ما نصه: مولاي فتاح الأقطار والأمصار فائدة الزمان والأعصار أثير هبات الله الآمنة من الاعتصار قدوة الأيدي والأبصار ناصر الحق عند قعود الأنصار وهي طويلة انظرها في الريحانة وبعدها قصيدة بديعة مطلعها: أطاع لساني في مديحك إحساني ... وقد لهجت نفسي بفتح تلمستان ومن مخاطباته للحاجب أبن مرزوق: سيدي بل مالكي بل شافعي ومنتشلي من الهفوة ورافعي وعاصمي عند تجويد حروف الصنائع ونافعي الذي بجاهه أجزلت المنازل قراى وفضلت أولاي والمنة لله أخراى وأصبحت وقول الحسن هجيراي:

علقت بحبل من حبال محمّد ... أمنت به من طارق الحدثان تغطيت من دهري بظل جناحه ... فعيني ترى دهري وليس يراني فلو تسأل الأيام ما اسمي ما درت ... وأين مكاني ما عرفن مكاني وصلت مكناسة حرسها الله تعالى تحت غيث حذاني حذو نداك وسحائب لولا الخصال المبرة قلت يداك وكأن الوطن لاغتباطه بجواري وما رآه من انتياب زواري وأوعز إلى بهت يقطع الطريق وأطلق يده على التغريق وأشرق القوافل مع كثرة الماء بالريق فلم يسع إلاّ المقام أياما قعودا في البر وقياما واختيارا لضروب الأنس واعتياما ورأيت بلدة معارفها أعلام وهواؤها برد سلام ومحاسنها تعمل فيها ألسنة وأقلام فحيا الله سيدي فلكم من فضل أفاد وأنس أحاء وقد باد وحفظ منه على الأيام الذخر والعتاد كما ملكه زمام الكمال فاقتاد وأنا أتارح عليه في صلة تفقده وموالاة يده بأن يسهمني في فرض مخاطبتها مهما خاطب معتبرا من هذه الجهات ويصحبني من مناصحته بكئوس مسرة يعمل فيها هاك وهات فالعز بعزه معقود والسعد بوجوده موجود ومنهل السرور بسرور مورود والله عز وجل يبقيه ببقاء الدهر ويجعل حبه وظيفة السر وحمده وظيفة الجهر ويحفظ على الأيام من زمنه زين الدهر ويصل لنا تحت إيالته العام بالعام والشهر بالشهر آمين آمين. انتهى. وقال رحمه الله: حضرت يوما بين يدي السلطان أبي عنان في بعض وافاداتي عليه لغرض الرسالة وجرى ذكر بعض أعدائه فقلت ما اعتقده في اطراء ذلك العدو وما عرفته من فضله وأنكر على بعض الحاضرين ممن لا يحطب إلاّ في حبل السلطان فصرفت وجهي وقلت: أيدكم الله تحقير عدو السلطان بين يديه

ليس من السياسة في شيء بل غير ذلك أحق وأولى، فإن كان السلطان غالبا عدوه كان قد غلب غير حقير وهو الأولى بفخره، وجلالة قدره وإن لبه العدو لم يغلبه حقير فيكون أشد للحسرة وأوكد للفضيحة. فوافق رحمه الله على ذلك واستحسنه وشكر عليه وخجل المعترض. انتهى. ومن نظمه رحمه الله: وكناسة جمعت بها زمر العدا ... فمدي بريدً فيه ألف بريد من واصل للصوم لا لريلضة ... أو مدمن للجوع غير مريد فإذا لكت طريقها متصوفا ... فابن السلوك بها على التجريد ولمّا دخل رحمه الله مدينة آنفي، ومر منها على دار عظيمة تنسب إلى والي جبايتها " عبو " من بني الترجمان قارون قومه، وغني صنفه قال: قد مررنا بدار " عبو " الوالي ... وهي ثكلى تشكو صروف اللالي أقصدت ربها الحوادث لمّا ... رشقته بصائبات نبال كان بالأمس واليا مستطيلا ... وهو اليوم ما له من وال ومن نظمه رحمه الله في الشيخ أبن بطان الصنهاجي: لله درك يا أبن بطان فما ... لشهير جودك في البسيطة جاحد إن كان في الدنيا كريم واحد ... يزن الجميع فأنت ذاك الواحد أجريت فضلك جعفرا يحيا به ... ما كان من مجد فذكرك خالد وهي الليالي لا تزال صروفها ... يشقى بموقعها الكريم الماجد وبمستعين الله يصلح منك ما ... قد كان أفسد الزمان الفاسد

وقال رحمه الله وقد انتابه البرغوث: زحفت إليَّ ركائب البرغوث ... نم الظلام بركبها المحثوث بالحبة السوداء قابل مقدمي ... لله أي قرى أعد خبيث كسحت بهن ذباب سرح تجلدي ... ليلا فحبل الصبر جد رثيث إن صابرت نفسي أذاه تعبت ... أو صحت منه أنفت من تحنيثي جيشان من ليل وبرغوث فهل ... جيش الصباح لصرختي بمغيث ومن نظمه رحمه الله في عثمان بن يحيى بن عمر بن روح: أسمى ذي النورين وجهك في الوغى ... شمس الضحى حلت بليث عرين إن تفخر بمرين أرض العدوة ال ... قصوى فانك أنت فخر مرين وقال يخاطب الوالي محمد بن حسون بن أبي العلاء وصدر بها رسالة: لم يبق لي جود اولاية حاجة ... في الأمن أو في الجاه أو في المال بعد اللقاء أو لو الفضائل بغيتي ... وأريت هذا القصد شرط كمال أجملته وتشوفت لبيانه ... همم فكنت مفسر الإجمال وخصصت بالإلغاء غيرك غيرة ... وجعلت ذكرك شاهد الأعمال أنسيت يا بن العلا قشب الملا ... وتركت أهل الأرض في أسمال تثني عليك رعية آمالها ... في أن تفوز يداك بالآمال

أرعيتها هملا فلم يطرق لها ... بمنيع سورك طارق الإهمال من كنت واليه تولته العلا ... ومن اطرحت فما له من والي وقال رحمه الله عند وقوفه على مراكش واعتباره بما صار إليه أمرها: بلد قد غزاه صرف الليالي ... وأباح المصون منه مبيح فالذي خر من بناه قتيل ... والذي خر منه بعض جريح وكأن الذي يزور طبيب ... قد تأتى له بها التشريح أعجبت منه أربع ورسوم ... كان قدما بها اللسان الفصيح كم معان غابت بتلك المغاني ... وجمال أخفاه ذاك الضريح وملوك تعبدوا الدهر لمّا ... أصبح الدهر وهو عبد صريح دوخوا نازح البسيط حتى ... قال ما شاء ذابل وصفيح حيث شبت لهم من البأس نار ... ثم هبت لهم من النصر ريح أثر يندب المؤثر لمّا ... طال بعد الدو منه النزوح ساكن الدار روحها كيف يبقى ... جسد بعد ما تولى الروح وقال يخاطب عميد مراكش المتميز بالرأي والسياسة والهمة وإفاضة العدل وكف اليد والتجافي عن مال الجباية، عامر لن محمد بن علي بن الهنتاتي: تقمل لي الأظعان والشوق في الحشى ... له الحكم يمضي بين ناه وآمر إذا جبل التوحيد أصبحت فارعا ... فخيم قرير العين في دار عامر

وزر تربة المعلوم إن مزارها ... هو الحج يفضي نحوه كل ضامر ستلقى بمثوى عامر بن محمد ... ثغور الأماني من ثنايا البشائر ولله ما تبلوه من سعد وجهة ... ولله ما تلقاه من يمن طائر وتستعمل الأمثال في الدهر منكما ... بخير مزور أو بأغبط زائر أقول: عامر بن محمد هذا هو قريع هنتاتة وكانت له مع أبي الحسن المرني في الوفاء أحاديث صححت عند أبي عنان وغيره متاته ولم يزل في رياسته مدة أبي عنان ومن بعده من ملوك بني ورين إلى زمن أبي فارس عبد العزيز أبن أبي الحسن فنازله بجنوده، وحاصره بمعتقله حتى استولى عليه وقتله. وقد ساق أمره أبي خلدون واستوفاه، ومنعنى من الإتيان به ما حصل من التطويل في هذه الترجمة، وقد أشار إليه أبن الأحمر في " نثير فرائد الجمان " عند ما ذكر الشريف الشبوكي ونصه: " صاحبنا الفقيه محمد بن يوسف بن أحمد بن محمد بن يوسف يكنى أبا عبد الله ويعرف بالشوكي، رأيته وصحبته، ونسبته حسبما نقلته من خطه على متن كتاب، وأخبرني هو به وسمعته أيضاً بفاس من بعض الناس وهو محمد أبن يوسف بن أحمد بن محمد بن يوسف بن عمران بن عبد الرحيم بن نوح بن شعيب بن علي بن أبي محمد بن حيان بن فضل بن طاهر بن مطهر بن حمود بن زياد إبن محمد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويعرف بالشبوكي. وشبوكة: قرية بينها وبين مدينة فاس ثلاثة أميال؛ واخبرني أنَّ جده عبد الرحيم

حاله أكرمه الله:

أتى من المشرق إلى المغرب، واستوطن بشبوكة وهو شريف ويوسف أبوه كان رحمه الله جميل الوجه جدا شاعرا مجيدا فقيها وبرز عدلا في سماط شهود فاس واستخدمه أمير المؤمنين المتوكل على الله أبو عنان المريني شاهد في دار صناعته وأحمد والد يوسف كان فقيها صوفيا ومحمّد والد أحمد كان فقيها صالحا ويوسف والد محمّد كان فقيها عالما صالحا مكاشفا مجاب الدعوة من أمل الطبقة العليا في الصلاح وأبو على الله كتب الوثيقة بشهود فاس. حاله أكرمه الله: هو فارس القريض وحامل لوائه الطويل العريض وله وجه وسيم وحياء جسيم وسمو همته لم يبلغ إنسان ولم ولم يسمع بمثلها في سالف الأزمان ويؤثر عزة نفسه على هواه ويختار مهيع السمو على ما ساه وأنشدني لنسه يمدح أمير المؤمنين أبا فارس عبد العزيز المريني بعد قتل لوزيره المتغلب على أمره عمر بن عبد الله بن علي الياباني وحرضه على قتال الشيخ أبي ثابت عامر بن محمّد بن علي الهنتاتي صاحب جبل هنتاتة من حوز مراكش حين خرج عليه به بالسلطان المعتمد على الله أبي الفضل محمّد بن أخي السلطان عبد العزيز هذا: أبان في حبه ما قال عاذله ... دمع جرى فوق صفح الخد هامله فبات من وطأة التفريق ذا وجل ... يستنجد الصبر عونا وهو خاذله صب إذا ما بدا بالرقمتين له ... وميض برق الحمى هاجت بلابله يبكي لمنزل أنس بان آهله ... وظاعن عنه عنه قد شطت منازله يا حسن عصر بهم قضيته زمنا ... رقت حواشيه إذ رقت أصالته

كأن صوب دموعي بعد بعدهم ... سيب الملك إذا وافاه سائله عبد العزيز الذي عزت بدولته ... مراتب الحق والتاحت دلائله وأصبح الملك في أمن وفي دعة ... من الذي كان عالته غوائله عادت بعيد لنا نضارته ... فعاد يافعا واشتد كاهله كالروض باكره طل على ظمأ ... وجاده بعد ذلك الطل وابله هو الإمام الذي من أم ساحته ... جادت عليه بجدواها أنامله ومن تخلف جهلا عن إجابته ... سارت إليه على علم صواهله قل للذي عنه أقضيته جرائمه ... وعقلته عن العليا معاقله زر حضرة الملك الميمون طالعه ... تحظ بما أنت في دنياك آمله فطبعه الصفح والمعروف شيمته ... والحلم والصون والتقوى شمائله أبلغ جميع العدا أن سوف يشملهم ... من الظبي كل ماضي الحد فاصله هذا المليك أتاهم في كتائبه ... لنسخ آجالهم تنضي رواجله بكل خرق طويل الباع متئد ... مقصر عمر من تلقى مناصله وجحفل فيه سمر الخط مشرعة ... قد حجبت أنجم الشعري قساطله سيعلم الغمر عقبي ما جناه إذا ... كلت مواضيه وانفضت كلاكله وحاط بالجبل البحر المحيط ولا ... حت فوق أرؤسهم منه جداوله فانهض إليهم أمير المؤمنين فقد ... أعطيت كل المنى فيما تحاوله من ذا ينازل جيشا أنت قائده ... يوم الكريمة أو من ذا يناضله

إلاّ ترى المارق الرعيد حين عتا ... وأضمر المكر صادته حبائله ظن الضنين بأن يسمو ويعلو في ... دنيا سمت وعلت فيها بواطله قادرته الصعاد الزرق منجدلا ... فوق الصعيد تناديه جنادله دنياه تضحك من أحواله عجبا ... به وفي الحي تبكيه أرامله فليهن دين الهدى من بعد مدته ... أن أنت يا ذا المحايا المطلق كافله ينتصب قط في الدنيا لواء علا ... إلاّ ومن آل عبد الحق حامله مولاي مولاي دم ما عشت مصطبا ... علا وفخرا عزا لا تزايله إن سار جيشك فالتأكيد يقدمه النصر عاجله يقفوه آجله انتهى كلام أبن الأحمر. وأقارب هذا الشريف الشبوكي لم يزالوا إلى الآن ولهم مصاهرة مع ولينا الفقيه المحدث الحاج الرحال البركة القدوة الصالح الناصح أبي عبد الله سيدي محمّد بن الولي الصالح سيدي أبي بكر بن محمّد صاحب الدلا أبقى الله علاهم وألهم على ما أولاهم. ولنرجع إلى أبن الخطيب فنقول: وقال رحمه الله وقد شاهد بجبل هنتاتة محمّد وفاة السلطان أبي الحسن المريني حيث أصابه طارق الأجل الذي فصل الخطة وأصمت الدعوة ورفع المنازعة وعاينه مرفها عن الابتذال بالسكنى مفترشا بالحصباء مقصدا بالابتهال والدعاء فلم يبرح يوم زيارة محل وفاته أن قال:

يا حسنها من أربع وديار ... أضحت لباغي الأمن دار قرار وجبال عز لا تذل أنوفها ... إلاّ لعز الواحد القهار ومقر توحيد وأس خلافة ... آثارها تني عن الأخبار ما كنت أحسب أن أنهار الندى ... تجري بها جملة الأنهار ما كنت أحسب أن أنوار الحجا ... تلتاح في قنن وفي أحجار مجت جوانبها البرود وإن تكن ... شبت بها الأعداء جذوة نار هدت بناها سبيل وفائها ... فكأنها صرعى بغير عقار لمّا توعدها على المجد العدا ... رضيت بعيث النار لا بالعار عمرت بجبلة عامر وأعزها ... عبد العزيز بمرهف بتار فرسا رهان أحرزا قصب الندى ... والبأس في طلق وفي مضمار ورثا عن الندب الكبير أبيهما ... محض الوفاء ورفعة المقدار وكذا الفروع تطول وهي شبيهة ... بالأصل في ورق وفي أثمار أزرت وجوه الصيد من هنتاتة ... فب جوها بمطالع الأقمار لله أي قبيلة تركت لها الن ... ظراء دعوى الفخر يوم فخار نصرت أمير المؤمنين وملكه ... قد أسلمته عزائم الأنصار وارت عليا عندما ذهب الردى ... والروع بالأسماع والأبصار تخاذل الجيش اللهام وأصبح الَ ... أبطال بين تقاعد وفرار

كفرت صنائعه فيمن دارها ... مستظهرا منها بعز جوار وأقام بين ظهورها لا يتقى ... وقع الردى وقد ارتمى بشرار فكأنها الأنصار لمّا آنست ... فيما تقادم غربة المختار لمّا غدا لحظا وهم أجفانه ... نابت شفارهم عن الأشفار حتى دعاه الله بين بيوتهم ... فأجاب ممتثلا لأمر الباري لو كان يمنع من قضار الله ما ... خلصت إليه نوافذ الأقدار قد كان يأمل أن يكافئ بعض ما ... أولوه لولا قاطع الأعمار ما كان يقنعه لو امتد المدى ... إلاّ القيام بحقها من دار فيعيد ذلك الماء ذائب فضه ... ويعيد ذاك الترب تبر نضار حتى تفوز على النوى أوطانها ... من ملكه بحلائل الأوطار حتى يلوح على وجوه وجوههم ... أثر العناية ساطع الأنوار ويسوغ الأمل القصي كرامها ... من غير ما ثنيا ولا استعصار ما كان يرضى الشمس أو بدر الدجدى ... عن درهم فيهم ولا دينار أو أن يتوج أو يقلد هامها ... ونحورها بأهلة ودرارى حق على المولى ابنه إيثار ما ... بذلوه من نصر ومن إيثار فلمثلها ذخر الجزاء ومثله ... من لا يضيع صنائع الأحرار وهو الذي يقضي الديون وبره ... يرضيه في علن وفي إسرار

حتى تحج محلة رفعوا بها ... علم الوفاء لاعين النظار فيصير منها البيت بيتا ثانيا ... للطائفين إليه أي بدار تغنى قلوب القوم عن هدى به ... ودموعهم تكفي لرمي جمار حييت من دار تكفل سعيها الَ ... محمود بالزلفى وعقبى الدار وضفت عليك من الإله عناية ... ما كَرّ ليل فيك إثر نهار وقال رحمه الله حين زار بخارج أغمات قبر المعتمد بالله أبي القاسم أبن عباد أمير حمص وقرطبة والجزيرة وما إلى ذلك الصقع الغربي ونصه كلامه الذي رتبه في ذلك أنه قال: وقفت على قبر المعتمد بالله بمدينة أغمات في حركة راحلة أعملتها إلى الجهات المراكشية باعثها لقاء الصالحين ومشاهدة الآثار عام واحد وستين وسبع مائة وهو بمقبرة اغمات في نشر من الأرض قد حفت به سدرة وإلى جنبه قبر اعتماد حظيته مولاة رميك وعليهما هيئة التغرب ومعاناة الخمول من بعد الملك فلا تملك العين دمعها عند رؤيتهما فأنشدت في الحال: قد زرت قبرك عن طوع بأغمات ... رأيت ذلك من أولى المهمات لم لا أزورك يا أندى الملوك يدا ... ويا سراج الليالي المدلهمات وأنت من لو تخطى الدهر مصرعه ... إلى حياتي لجادت فيه أبياتي أناف قبرك في هضب يميزه ... فتنتحيه حفيات التحيات كرمت حيا وميتا واشتهرت علا ... فأنت سلطان أحياء وأموات

مائ مثلك في ماض ومعتقدي ... أن لا يرى الدهر في حال ولا آتي وقال رحمه الله مخاطبا أحمد بن يوسف حفيد الولي الصالح سيدي أبي محمّد صالح النائم في ظل صيته رحمهم الله: يا حفيد الولي يا وارث الفخ ... رْ الذي نال مقال وحال لك يا أحمد بن يوسف جبنا ... كل قفر يعني أكف الرحال ولمّا خرج رحمه الله من آسفي سار إلى منزل ينسب لأبي خدو فيه رجل من بني المنسوب إليه اسمه يعقوب قال في نفاضة الجراب فألطف وأجزل وآنس في الليل وطلبني بتذكرة تثبت عندي معرفته فكتب له: نزلنا على يعقوب نجل أبي خدو ... فعرفنا الفضل الذي ما له حدّثني وقابلنا بالبشر واحتفل القرى ... فلم يبق لحم ننله ولا زبد يحق علينا أن نقوم بحقه ... ويلقاه منا البر والشكر والحمد وقال يخاطب السلطان: أنت للمسلمين خير عماد ... وملاذ وأي حرز حريز لو رأى ما شرعت للخلق فيه ... عمر الفاضل أبن عبد العزيز لجرى ملكك المبارك خيرا ... وقصى بالسيوف والتبريز فاشكر الله ما استطعت بفعل ... وبقول مطول أو وجيز

كل ملك يرى بصحبة أهل الْ ... علم قد باء بالمحل العزيز فإذا ما ظفرت منهم بإكسير ... ملأت البلاد من إبريز والبرايا تبيد والملك يفنى ... أين كسرى الملوك مع أبرويز وقال: أنشدت أبني عبد الله وقد وصل لزيارتي من الباب السلطاني حيث جرايته ووظيفته وانجر حديثما فقد بغرناطة في شجون الكلام: يا بني عبد الإله احتسابا ... عن أثاث ومنزل وعقار كيف يأسي على خسارة جزة ... من يرى الكل في سبيل الخسار هدف لا تنى سهام الليالي ... عن سباق تجاهه وبدار واحد طائش وثان مصيب ... ليس ينجى منها اشتمال حذار غير ذي الدار صرف الهم فيها ... فمناخ الرحيل ليس بدار وقال: أنشدته وأمرته بحفظه والتأدب به واللهج نحكمته: إذا ذهبت بيمينك لا تضيع ... زمانك في البكاء على المصيبه ويسراك اتنم فالقوس ترمي ... وما تدري أرشقتها قريبه وما بغريبة نوب الليالي ... ولكن النجاة هي الغريبه وقال رحمه الله: يأهل هذا القطر ساعده القطر ... بليت فدلوني لمن يرفع الأمر تشاغلت بالدنيا ونمت مفرطا ... وفي شغلي أو نومتي سرق العمر وقال رحمه الله: مالي أذهب نفسي في مطالبها ... والنفس تأنف تأنف تهذيبي وتهذي بي

إذا استعنت على دهري بتجربة ... تأبى المقادير تجريبي ويجري بي وقال رحمه الله موريا حين أكل مشرف الدار القابض أي أخذ ماله: مشرف دار الملك ما باله ... منتفخ الجوف شكا نافضا فقيل لي ليس به علة ... لكنه قد أكل القابضا وقال رحمه الله: يا نفس لا تصغي إلى سلوى ... كم أخلف الموعود عرقوب وأنت يا قلبي وصاك إب ... راهيم بالحزن ويعقوب قال: وقلت في رأس الغادر بالدولة حين عرض علي: في غير حفظ الله من هامة ... هام بها الشيطان في كل واد ما تركت حمدا ولا رحمة ... في فم إنسان ولا فؤاد وقال رحمه الله: يا كواكب الحسن يا معناه يا قمره ... يا روضه المتناهي الريع يا ثمره أمرتني بسلو عنك ممتنع ... مأمور حسنك لمّا يقض ما أمره وقال رحمه الله في السعيد أبي بكر أبن السلطان أبي عنان: أميرا كأن قمير الدجا ... أفاض الضياء على صفحتيه تملأ قلبي من حبه ... غداة نظرت بعيني إليه فلا بسط الدهر كف الردى ... لذاك الشخيص وذاك الوجيه

وقال عندما انصرف عنه ابنه إلى مدينة فاس، لإقامة رسمه من الخدمة قال: وأشجاني انصرافه لوقوع قرحه على قرح، والمستعان الله: بان اليوم الخميس قرة عيني ... حسبي الله أي موقف بين لو جنى موقف النوى حين حي ... حان يوم الوداع والله حيني ضايقني صروف هذي الليالي ... وأطالت همي وأولت بديني وطن نازح وشمل شتيت ... كيف يبقى معذب بين ذين؟ يا الهي أدرك بلطفك ضعفي ... إن ما أشتكيه ليس بهين قال: وخاطبت أسيادة الخطيبية مع طيفور طعام: تعلم طيفوري خلال السميه ... وإن كان منسوبا إلى غير بسطام وجاء فقير الوقت لابس خرقة ... فليس براض غير صحبة صوام فديتك لا تردده عنك مخيبا ... ودرسه يا مولاي قصة بلعام قال: وكتبت إلى أسياد الخطيبية ووصل ولدها إلى سلا ومنعني عن لقائه عذر من مرض وكان نزوله بزاوية النساك: صدني عن لقاء نجلك عذر ... يمنع الجسم عن تمام العباده واختصرت القرى لأن حط رحلا ... في محل الغنى ودار الزهاده

ولو إني احتفلت لم يعن الدهر ... ولا نلت بعض بعض أراده وعلى كل حالة قصوري ... عادت إذ قبولك العذر عاده لا عدمت الرضا من الله والحسنى ... كما نص وحيه والزيادة وقال يخاطبه من ضريح السلطان أبي الحسن بشالة لا استنهاض عزيمته في قضاء غرضه: برئت لله من حولي ومن حيلي ... إن نام عني ولي فهو خير ولي أصبحت مالي من عطف أؤمله ... من غيره في مهمات ولا بدل ما كنت أحسب أن أرمي بقاصية ... للهجر أقطع فيها جانب الأمل من بعد ما خلصت نحوي الشفاعة ما ... بين الفلا والدجى والبيض والأسل إن كنت لست بأهل للذي طمحت ... إليه نفسي وأهوى نحوه أملي فكيف يلغى ولا ترعى وسيلته ... دخيل قبر أمير المسلمين علي من بعد ما اشتهرت حالي به وسرت ... بها الركائب في سهل وفي حبل والرسل تترى ولا تخفى نتائجها ... عند التأمل من قول ولا عمل ولا لليلي من صبح أطلعه ... كأن همي قد مدّ الدجنة لي لو أنني يا بن مرزوق عقدت يدي ... وكان محتكما في خيرة الدول لكان ركبي قد أفضى إلى فرج ... وكان حزني قد أوفى على جذل ألممت بالعتب لم أحذر مواقعه ... " أنا الغريق فما خوفي من البلل " ولست أجحد ما خولت من نعم ... لكنها النفس لا تنفك عن الأمل ولست أيأس من وعد وعدت به ... إنما " خلق الإنسان من عجل "

وقال رحمه الله يخاطب السلطان أبا الحجاج: مولاي إنَّ الشعر ديوان حكمة ... يفيد الغني والعز والجاه من كانا وقد وجد المختار في الحفل منصتا ... له وحبا كعبا عليه وحسانا وفيما رواه الناقلون وأثبتوا ... بذلك ديواننا صحيحا فديوانا بأن أبا بكر خليفته الرضا ... وفاروق الأدنى إليه وعثمانا لهم في ضروب القول إذ هم فحوله ... خطاب وشعر يستقران تبيانا وفاض على أهل القريض نوالهم ... فروض روض القول سحا وتهتانا وأنت أحق الناس إن تفعل التي ... بها فعل المختار دينا وإيمانا فما زلت تهدي في البرية هديه ... وتفضي بما يرضيه سرا وإعلانا وإن قيل قدر المرء ما هو محسن ... فصنعة نظم القول أرفعه شانا وقال رحمه الله في فن التورية: بنفسي حبيب في ثناياه " بارق " ... ولكنها للواردين عذاب إذا كان لي منه الوصل " حاجر " ... فمعي " ععقيق " بالجفون مذاب وقال: عذبت قلبي بالهوى فقيامه ... في نار هجرك دائما وقعوده ولقد عهدت القلب وهو موحد ... فعلام يقضي في العذاب خلوده وقال في التجنيس: دعوتك للود الذي جنباته ... تداعت مبانيها وهمت بأن تهي

وقلت لعهد الوصل والقرب بعدما ... تناءى أأسلو عن حياتي وأنت هي ومن شام من جو الشبيبة بارقا ... ولم تنهه عنه النهى كيف ينتهي؟ وقال أيضاً: ناديت دمعي إذ جد الرحيل بهم ... والقلب من فرق التوديع قد وجبا سقطت يا دمع من عيني غداة نأى ... عني الحبيب ولم تقض الذي وجبا وقال موريا: كتبت بدمع عيني صفح خدي ... وقد منع الكرى هجر الخليل وراب الحاضرين فقلت هذا ... كتاب العين ينسب للخليل وتذكرت بهذا قول الشيخ أبي حيان: سبق الدمع بالمسير المطايا ... إذ نوى من أحب عني نقله وأجاد السطور في صفحة الخد ... ولم لا يجيد وهو أبن مقله والبيت الثاني أدرت ولكن أبن الخطيب قد قصد تورية أخرى لم يقصدها أبو حيان وكلاهما قد أحسن في توريته. وقال أبن الخطيب: ولمّا رأت عزمي على السرى ... وقد رابها صدري على موقف البين أتت بصحاح الجوهر دموعها ... فعارضت من دمعي بمختصر العين وقال أيضاً: بحق ما بيننا يا ساكني القصبه ... ردوا علي حياتي فهي مختصبه ماذا جنيتم على قلبي ببينكم ... وانتم الأهل والأحباب والعصبه

وقال عفا الله عنه: مضجعي فيك عن قتادة يروي ... وروي عن أبي الزناد فؤادي وكذا النوم شاعر فيك أمسي ... من دموعي يهيم في كل وادي وقال رحمه الله: حين ساروا عني وقد خنقتني ... عبارات قد أعربت عن ولوعي صحت من ينصر الغريب فلما ... لم أجد ناصرا بلعت دموعي وقال عفا الله عنه: قال لي والدموع تنهل سحبا ... في عراض من الخدود محول بك ما بي فقلت مولاي عفا ... كَ المعافي من عبرتي ونحولي أنا جفني القريح يروي عن الأعمش ... والجفن منك عن مكحول وقال وقد جلس السلطان في يوم شديد البرد للسلام: جلس المولى لتسليم الورى ... ولفصل البرد في الجو احتكام فإذا ما سألوا عن يومنا ... قلت هذا اليوم برد وسلام وقال رحمه الله تعالى: يا أبي بدر غزاني ... مستبيحا سرح صدري فأنا اليوم شهيد ال ... حب من غزوة بدر وقال: أشكوا لمبسمه الحريق وقد حمى ... عني لماه المشتهى ورحيقه يا ريقه حيرتني ومطلتني ... ما أنت إلاّ بارد يا ريقه

وقال فيمن ركب البحر وماد: ركب السفينة واستقل بأفقها ... فكأنما ركب الهلال الفرقد وشكو إليَّ بميدهم فأجبتهم ... لا غرو أن ماد القضيب الأملد وقال أيضاً: يا مالكي بخلال ... تهدي إلى الفكر حيره أضرمت قلبي نارا ... يا مالك بن نويره وقال عندما خرج السلطان أبن الأحمر من فاس متوجها إلى الأندلس لطلب حقه: ولمّا حثثت السير والله حاكم ... لملكك في الدنيا بعز وفي الأخرى حكى فرس الشطرنج طرفك لا يرى ... ينقل من بيضاء إلا إلى حمرا وقال رحمه الله تعالى: تعجلت وخط الشيب في زمن الصبا ... لخوضي خمار الهم في طلب المجد فمهما رأيتم شيبة في المفارقي ... فلا تنكروها إنها شيبة الحمد وقال رضي الله عنه: يا من تقلد للعلاء سلوكا ... والفضل أضحى نهجه مسلوكا كاتبتني متفضلا فملكتني ... لا زلت منك مكاتبا مملوكا

وقال عفا الله عنه: أجاد يراع الحسن خط عذاره ... وأودعه السر المصون الذي يدري ولم يفتقر فيه لختم وطابع ... فمبسمه أغناه عن طابع السر وقال في رجل حلف واقسم أنه ذو مال وأمانة وطلب من السلطان الخدمة: حلفت لهم بأنك ذو يسار ... وذوثقة وبر في اليمين ليستندلوا بحفظ مال ... فتأكل باليسار وباليمين وقال في الفخر: ما ضرني أن لم أكن متقدما ... فالسبق يعرف أخر المضمار ولئن غدا ربع البلاغة بلقعا ... فلرب كنز في أساس جدار وقال في مديح السلطان أبي الحجاج: في مصر قلبي من خزائن يوسف ... حب وعير مدائحي تمتاره حليت شعري باسمه فكأنه ... في كل قطر حله ديناره وقال يخاطب ابنه السلطان أبا عبد الله: قالوا لخدمته دعاك محمّد ... فكرتها وزهدت في التنويه فأجبتهم أنا والمهيمن كاره ... في خدمة المولى محب فيه ومن قوله في غرناطة: أحبك يا مغنى الكمال بواجب ... وأقطع في أوصافك الغر أوقاتي تقسم منك الترب قومي وجيرتي ... ففي الظهر أحيائي وفي البطن أمواتي

وقال في غرض ينحو به نحو المشارقة: رموا بالسلو حليف الغرام ... وأدمعه كالحيا الهاطل أعوذ بعزك يا سيدي ... لذلي من دعوة الباطل وقال أيضا: يا ليل طلت ولم تجد بتبسم ... وأريتني خلق العبوس النادم هلا رحمت تغربي وتفرقي ... لله ما أقساك باب الرجل بن الخادم وقال في سكين الأضاحي للسلطان أبي الحجاج رحمه الله: لي الفضل أن شاهدتني واختبرتني ... على كل مصقول الغرارين مرهف كفاني فخرا أن تراني قائما ... بسنة إبراهيم في كف يوسف وقال في مروحة سلطانية: كأني قوس الشمس عند طلوعها ... وقد قدمت من قلبها نسمة الفخر وإلاّ كما هبت بمحتدم الوغى ... بنصر ولكن من بنود بني نصر وقال يخاطب شيخه أبن الجياب: بين السهام وبين كتبك نسبة ... فيها يصاب من العدو المقتل وإذا أردت لها زيادة نسبة ... هذي وهذي في الكناية تجعل وقال يتغزل وفيه معنى غريب: إن اللحاظ هي السيوف حقيقة ... ومن استراب فحجتي تكفيه لم يدع غمد السيف جفنا باطلا ... إلاّ لشبه اللحظ يغمد فيه قيل أحسن منه قول غيره: إنَّ العيون النجل أمضى موقعا ... من كل هندي وكل يمان

فضل العيون على السيوف بأنها ... قتلت ولم تخرج من الأجفان وأصل ما قاله أبن الخطيب قول الآخر: بين السيوف وعينيه مشاركة ... من أجلها قيل للأغماد أجفان وقال أبن الخطيب أيضاً في البراغيث: بتنا نكابد هم القحط ليتنا ... وأنجد السهد والكرب البراغيثا وكان يحمل ما كنا نكابده ... من المشقة لو أن البراغيثا وقال خالد البلوي صاحب الرحلة وقد استكثر من سرقة كتاب " البرق الشامي " للعماد الأصبهاني: خليلي إن يلف اجتماع بخالد ... فقولا له قولا ولن تعدوا الحقا سرقت العماد الأصبهاني برقة ... وكيف ترى في شاعر سرق البرقا؟ وقال في المنجانة: تأمل في المنجان منقطعا ... يجري وقدره عمرا منك منتهيا والله لو كان وادي الرمل ينجده ... ما كان كامله إلاّ وقد ذهبا وقال: أقول لعاذلي لمّا نهاني ... وقد وجد المقالة إذ جفاني علمت بأنه مر التجني ... وفاتك أنه حلو اللسان

وقال في غرض صوفي: لا تنكروا أن كنت قد أحببتكم ... أو أنني استولى على هواكم طوعا وكرها ما ترون فإنني ... طفت الوجود فما وجدت سواكم وقال يمدح وفيه تورية: وإن نظرت إلى لآلاء غرته ... يوم الهياج رأيت الشمس في الأسد ونسب إليه الحافظ أبو على التنسي رحمه الله قصيدة يخرج منها أكثر من ثلاث مائة بيت ونسبها غير التنسي إلى بعض المشارقة فالله أعلم وهي: داء ثوى بفؤادي شفة سقم ... لمحنتي من دوائي الهم والكمد يوم النوى حل في قلبي لم ألم ... وحرقتني وبلائي فيه بالرصد توجعي من جوى شبت حرارته ... مع العنا رثى لي فيه ذو الحسد أصل الهوى ملبسي وجدا بهه عدم ... لمهجتي من رشا بالحسن منفرد تتبعي وجه من تزهو نضارته ... إذا انثنى قاتلي عمدا بلا قود مهدي الجوى مولع بالهجر منتقم ... ما حيلتي قد كوى قلبي مع الكبد لمصرعي معتد تحلو مرارته ... يا قومنا آخذ نحو الردى بيدي قلبي كوى ملك في النفس محتم ... لقصتي فهو سولى وهو معتمدي مروعي قمر تسبي إشارته ... إذا رنا ساطع الأنوار في البلد

هد القوى حسن كالبدر مبتسم ... لفتنتي موهن عند النوى جلدي مودعي النار قد شبت زيارته ... لمّا جنى مورثي وجدا مع الأبد قلت: وعندي أنها بعيدة من نفس أبن الخطيب مع أن الحافظ التنسي نسبها له وغيره لبعض المشارقة وذكر التنسي أنه يخرج منها ثلاث مائة بيت ونيف ستون بيتا والله ولي التوفيق. ثم وقفت بعد هذا على كراسة من بعض تآليف الصفدي بخطه وعبر فيها أنها لبعض المشارقة وأورد القطعة مع تقديم وتأخير فأردت أن أذكره إتماما للفائدة ونصه: صالح بن أحمد بن عثمان صلاح الدين القواس الشاعر الخلاطي ثم البعلبكي توفي سنة ثلاث وعشرين وسبع مائة كان رجلاً خيرا متواضعا صحب الفقراء وسافر الكثير وكان يعبر الرؤيا قال الصفدي: أنشدني من لفظه الشيخ الحافظ الذهبي قال: أنشدني المذكور قصيدته السائرة ذات الأوزان وهي: داء ثوى بفؤادي شفه سقم ... لمحنتي من دواعي الهم والكمد بأضلعي لهب تذكو شرارته ... من الضنى في محل الروح من الجسد يوم النوى ظل النوى في قلبي به ألم ... وحرقتي وبلائي فيه بالرصد توجعي من جوى شبت حرارته ... مع العنا قد رثى لي فيه ذو الحسد أصل الهوى ملبسي وجدي به عدم ... لمهجتي من رشا بالحسن منفرد

تتبعي وجه من تزهو نضارته ... لمّا جنى مورثي وجدا مع الأبد هد القوى حسن كالبدر مبتسم ... لفتنتي موهن عند النوى جلدي مروعي قمر تسبي إشارته ... إذا رنا ساطع الأنوار في البلد مهدي الجوى مولع بالهجر منتقم ... ما حيلتي قد كوى قلبي مع الكبد لمصرعي معتد تحلو مرارته ... يا قومنا آخذ نحو الردى بيدي قلبي كوى ملك في النفس محتم ... لقصتي فهو سولى وهو معتمدي تتبعي وجه من تزهو نضارته ... إذا انثنى قاتلي عمدا بلا قود قال الصفدي: قلت: هذه القصيدة تقرأ على ثلاث مائة وستين وجها. وقال في المشيب: إني لمبلي بالهوى من بعدما ... للوخظ بالفودين أي دبيب لبس البياض وحل ذروة منبر ... مني ووالي الوعظ فعل خطيب وكتب ببعض الحيطان لمّا أجاز بسبته: أقمنا برهة ثم ارتحلنا ... كذلك الدهر حالا بعد حال وكل بداية فإلى انتهاء ... وكان إقامة فإلى ارتحال ومن سام الزمان دوام أمر ... فقد وقف الرجاء على المحال وقد قدمنا بعض هذه المقطوعات على غير هذا الوجه. وقال مما يكتب في طاق الماء بباب القبة: أنا طاق تزهو بي الأيام ... تعبت في بدائعي الأفهام

وتباديت للنواظر محرا ... باً كأن الإناء في إمام واقف للصلاة حتى إذا ما ... جئت للشراب حان مني السلام وقال في ذلك أيضاً: يا صانعي لله ما أحكمته ... فلأنت بين العالمين رئيس أحكمت تاجي يوم صغت رقوشه ... فصبت إليه مفارق ورءوس وأقمت في محرابه فكأنه ... محلى إناء الماء فيه عروس وكتب إليه شيخه أبن الجياب بقوله: أيا كتابي إذا ما جئت مالقة ... دار المكارم من ثني ووحدان فلا تسلم على ربع بذي سلم ... بها وسلم على الربع لسلمان فأجابه أبن الخطيب بقوله: يا ليت شعري هل يقضي تألفنا ... ويثني الشوق عن غاياته الثاني أو هل يحن على نفسي معذبها ... أو هل يرق لقلبي قلبي الثاني وقال رحمه الله: عد عن كيت وكيت ... ما عليها غير ميت كيف ترجى حالة البق ... يا لمصباح وريت وقال رحمه الله: والله ما جان على ماله ... أو جاهد من ذاد عن عرضه

والناس في خير وفي ضده ... هم شهداء الله في أرضه وقال رحمه الله: ومما قلته من الموشحات التي أنفرد باختراعها الأندلسيون وطمس الآن رسمها: رب ليل ظفرت بالبدر ... ونجوم السماء لم تدر حفظ الله ليلنا ورعى أي شمل من الهوى جمعا غفل الدهر والرقيب معا ليت نهر النهار لم يجر ... حكم الله لي على الفجر علل النفس يا أخا العرب بحيث أحلى من الضرب في هوى من وصاله أربي كلما مر ذكر من تدري ... قلت يا برده على صدري صاح لا تهتم بأمر غد وأجز صرفها يدا بيد بين نهر وبلبل غرد وغصون تميد من سكر ... أعلنت يا غمام بالشكر يا مرادي ومنتهي أملي هاتها عسجدية الحلل حلت الشمس منزل الحمل وينود الربيع في النشر ... والصبا عنبرية النشر

غرة الصبح هذه وضحت وقيان الغصون قد صدحت وكأن الصبا إذا نفحت وهفا طيبها عن الحصر ... مدحة في علا بني نصر هم ملوك الورى بلا ثنيا مهدوا الدين زينوا الدنيا وحمى الله منهم العليا بالإمام المرفع الخطر ... والغمام المبارك القطر إنما يوسف إمام هدى حاز في المعلومات كل مدى قل لدهر بملكه سعدا افتخر جملة على الدهر ... كافتخار الربيع بالزهر يا عماد العلا والمجد أطلع العيد طالع السعد ووفي الفتح فيه بالوعد وتجلت فيه على القصر ... غرر من طلائع النصر فتناهت من حسنها البهج بحياة النفوس والمهج واستمعها ودع مقال شجي قسما بالهوى لذي حجر ... ما لليل المشوق من فجر ومن بديع موشحاته رحمه الله قوله: كم ليوم الفراق من غصة ... في فؤاد العميد نرفع الأمر فيه والقصة ... للمولى الحميد

رحل الركب يقطع البيدا ... بسفين النياق كل وجناء تتلع الجيدا ... وتبذ الرفاق حسبت ليلة القا عيدا ... فهي ذات اشتياق صائمات لا تقبل الرخصة ... قبل فطر وعيد فهي مذ أملته مختصه ... بجهاد جهيد ومنها وهو آخرها: يا إمام العلا والفخر ... ذا السنا البهيج هاكها لا عدمت في الدهر ... آملا يرتجى عارضت قول بائع التمر ... بمقال شج غربوك الجمال يا حفصة ... من مكان بعيد من سجلمات ومن قفصة ... وبلاد الجريد ومن بديع نظمه رحمه الله في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم هذه القصيدة المشهورة وهي: سل ما لسلمى بنار الهجر تكويني ... وحبها في الحشي من قبل تكويني وفي معناها تمنيت المنى فغدا ... تغلبي كئيبا ببلواه يناجيني وفي قباب قبا قامت لنا بقبا ... طرازها مذهب في الحسن تزيين لمّا انثنت في الحلى تزهو ببهجتها ... وبالغزالة تزري والسراحين لمّا تفننت في أفنان قامتها ... تفننت بفنون الصد تفنيني ويحسب الصب يسليني محبتها ... هيهات لو أن جم النار يصليني النار في كبدي والشوق يقليني ... والقرب ينشرني والبعد يطويني

وركن صبري تخلى في الغرام وقد ... تمكن الحب في أي تمكين وقد رأيت ميسري عز مطالبه والطرف والظرف يبكيني ويكويني حالي لرفع الضم منجزم ... بالكسر عل برشف الضم تحييني يا صاح عج بالحمى وانزل بهم سحراً ... وأنظر لعجب أثيلاث البساتين وفوق سفح العميق عج لترى ... جآذر الحي بين الخرد العين ومل على أثلاث ألبان منعطفاً ... وحي سلعا وسل عن حال مسكين ثم أت جزعاً وجز عن حي كاظمة ... واقر السلام على خير النبيين محمّد المصطفى المختار من ظهرت ... آياته فتسلى كل جاء بالدين ومن شهاب بدا من نوره رجمت ... والماء من كفه يزري بجيحون وهو الذي اختاره الباري وأرسله ... برا رءوفاً رحيماً بالمساكين إنَّ سار في الرمل لم يظهر أثر ... وإنَّ علا الصخر كالطين كأنَّ بالرمل ما بالصخر بالصخر من جلد ... شوقا وبالصخر ما بالرمل من لين وفي الصحيحين أنَّ الجذع حن له ... والعذاق أنَّ إليه أي تأنين وقد سمعنا بأن الطير خاطبته ... في منطق مفصح من غير تلكين والظبي والضب جاءا يشهدان بان ... لا شيء أعظم من ويسين فكيف أحسن مدحا في محاسنه ... لكن لي قبولا منه يكفيني أقبل الأرض إجلالا لهيبته ... وألم الترب عل الوصل يحيني وقد أقول أبن حمدان أتى ... منديا بفؤاد منه محزون يا أكرم الخلق من عرب ومن عجم ... وأحسن الناس من حسن وتزيين

إني أتيتك فاقبلني بيدي ... ومن لهيب لظى وسجين وقد مدحتك فارحمني وجد فعسى ... من هول يوم اللقاء والحشر تنجيني وكن شفيعي من النيران يا أملي ... ولعل أحظى بأجر غير ممنون صلى عليك إله العرش ما غردت ... حمائم فوق أغصان البساتين صلى عليك إله العرش وما وفدت ... نويقة لحمي الأطلال تبريني صلى عليك إله العرش ما هطلت ... مدامع السحب أو عين المحبين صلى عليك إله العرش ما ضحكت ... مباسم الزهر في ثغر الأفانين وألفُ ألفِ صلاة لا نفاد لها ... مضروبة في ثمان ألف تسعين عليك يا خير خلق الله قاطبة ... وألف ألف سلام في ثمانين وآلك الغر والأصحاب كلهم ... وتابعيهم ليوم الحشر والدين ما عطر الروض في الأسحار صبا ... وفاح تسر خزامى منه نسرين وما شدا منشد صب لفرط جوي ... سل ما لسلمى بنار الهجر تكويني وقال رحمه الله: لبسنا فلم نبل الزمان وأبلانا ... يتابع أخرانا على الغي أولانا ونغتر بالآمال والعمر ينقضي ... فما كان بالرجعى إلى الله أولانا وماذا عسى أنَّ ينظر الدهر ما عسى ... فما انقاد للزجر وللزجر الحنيث ولا لانا جزينا صنيع الله شر جزائه ... فلم نزع ما من سابق الفضل أولانا فيا رب عاملنا بما أنت أهله ... من العفو واجبر صدعنا أنت مولانا انتهى.

ولنقتصر من نظمه على هذا القدر، فانه طويل عريض، وإنّما أطلت النفس في ترجمة أبن الخطيب، رحمه الله، علما مني بأن الذين رغبوا في تأليف هذا الموضوع، لهم تشوف إلى أنباء أبن الخطيب، وكلامه وجيلة أحواله ليست عندهم، وإنما يحفظون بعض نظمه ونثره، ولا يدرون ابتداء أمره وانتهاءه، وقد حكي غير واحد أنّه رئ رحمه الله بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بسبب بيتين، وهما: يا مصطفى من قبل نشأة آدم ... والكون لم تفتح له أغلاق أيروم مخلوق ثناءك بعد ما ... أثنى على أخلاق وقد رأيت على هذين البيتين تخميسا لا بأس به، لأبي عبد الله بن جابر الغساني المكناسي، رحمه الله، وهو: يا سائر لضريح خير العالم ... ينتهى إليه مقال صب هائم بالله ناد وقل مقالة عالم ... يا مصطفى من قبل نشأة آدم والكون لم تفتح له إغلاق بثناك قد شهدت ملائكة السما ... والله قد صلى عليك وسلما يا مجتبي ومعظماً ومكرماً ... أيروم مخلوق ثناء بعد ما أثنى على أخلاقك الخلاق انتهى. وأولاد أبن الخطيب رحمه الله ثلاثة: عبد الله، ومحمّد، وعلي. وكلهم حدث عن أبيه وعن أبن الجياب، وعلى منهم هو صاحب السلطان أحمد المرني الملقب بالمستنصر.

وحكى أنّه حضر معه في بستان، سح فيه ماء المذاكرة الهتان؛ وقد أبدى الأصيل شواهد الأصفرار، وأزمع النهار لمّا قدم الليل على الفرار؛ فقال المستنصر لمّا لأنَّ جانبه، وسالت بين سرحان البستان جداوله ومذانبه: يا فاس وأيم الله ذو شغفٍ ... في كل ربع له معناه يسبيني وقد أنست بقرب منك يا أملي ... ونظرة فيكم بالأنس تحسيني فأجابه على بن الخطيب بقوله العذب المصيب: لا أوحش الله ربعا أنت زائره ... يا بهجة الملك والدنيا مع الدين يا أحمد الحمد أبقاك الإله لنا ... فخرا وسلطان السلاطين وأما عبد الله فقد كتب بالعودتين، عن ملوك الحضرتين. وأما محمّد فقد نال حظاً من التصوف، ولم يكن له إلى خدمة الملوك تشوف. ولا بد أنَّ نلم بوصية أبن الخطيب، رحمه الله، لأولاده المذكورين، لمّا فيها من الحكم والوصايا النافعة لمن عمل بها، وهي: الحمد لله الذي لا يروعه الحمام المرقوب، إذا شم نجمه المثقوب، ولا يبغته الأجل المكتوب، ولا يفجوه الفراق المعتوب، ملهم الهدى الذي تطئن به القلوب، وموضح السبيل المطلوب، وجاعل النصيحة الصريحة في قسم الوجوب، لا سيما للولي المحبوب، والولد المنسوب، القائل في كتابه المعجز الأسلوب، " أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب "، " ووصي بها إبراهيم بنيه يعقوب "؛ والصلاة

والسلام على سيدنا ومولانا محمّد رسوله اكرم على نوره جيوب الغيوب، وأشرف من خلعت عليه حلل المهابة والعصمة، فلا تقتحمه العيون ولا تصمه العيوب، والرضا عن آله وأصحابه المثابرين على سبيل الاستقامة بالهوى المغلوب والأمل المسلوب، والاقتداء الموصل للمرغوب، والعز والأمن من اللغوب. وبعد، فإني لمّا علاني المشيب بغمته، وقادني الكبر في رمته، وادكرت الشباب بعد أمته لمّا أضفت، وندمت بعد الفطام على ما رضعت؛ وتأكد وجوب نصحي لمن لزمني رعيه، وتعلق سعيه، وأملت أنَّ تتغذى إلى ثمرات استقامته، وأنا رهين فوات، وفي أموات، ويأمن العثور في الطريق التي اقتضت عثاري، إنَّ سلك وعسى ألا يكون ذلك على آثاري: فقلت أخاطب الثلاثة الولد؛ بعد الضراعة إلى الله توفيقهم، وإيضاح طريقهم، وجمع تفريقهم؛ وأنَّ يمن على فيهم بحسن الخلف، والتلافي من قبل، وأنَّ يرزق خلفهم التمسك بهدي السلف؛ فهو ولي ذلك والهادي إلى خير المسالك. اعلموا هداكم من بأنواره يهتدي الضلال، وبرضاه ترفع الأغلال، وبالتماس قربه يحصل الكمال؛ إذا ذهب المال، وأخلفت الآمال، والتبرات من يمينها. الشمال؛ أني مودكم وإنَّ سالمني الدرى، ومفارقكم وإنَّ طال المدى، وما عدا

مما بدا؛ فكيف وأدوات السفر جمع، ومنادي الرحيل يسمع؛ ولا أقل للحبيب المودع من وصية محتضر، وعاجلة مقتصر، ورتيمة تعقد في خنصر، ونصيحة تكون نشيدة واعٍ ومبصر، تتكفل لكم بحسن العواقب من بعدي، وتوضح لكم في الشفقة والحنو قصدي، حسبما تضمن وعد الله من قبل وعدي، فهي أربكم الذي لا يتغير وقفه، ولا ينالكم المكروه ما رف عليكم سقفه، وكأني بشبابكم قد شاخ، وبراحلكم قد أناخ؛ وبنشاطكم قد كسل، واستبدل الصاب من العسل، ونصول الشيب تروع بأسل، لا بل السام من ليس حدب قد نسل، والمعاد اللحد ولا تسل؛ فبالأمس كنتم فراخ حجر، واليوم آباء عسكر مجر، وغدا شيوخ مضيعة وهجر؛ والقبور فاغره، والنفوس عن المألوفات صاغره؛ والدنيا بأهلها ساخرة، والأولى تعقبها آخره؛ والحازم من لم يتعظ به في أمر، وقال: بيدي عمرو، فاقتنوها من وصية في النصح قصية؛ وخصوا بها أولادكم إذا عقلوا، ليجدوها زادها إذا انتقلوا؛ وحسبي وحسبكم الله الذي لم يخلق الخلق هملا، ولكن ليبلوهم أيهم أحسن عملا؛ ولا رضى الدنيا منزلا، ولا لطف بمن أصبح عن فئة الخير منعزلا؛ ولتلقنوا تلقينا، وتعلموا علماً يقينا؛ أنكم لن تجدوا بعد أفرد بذني، ويفترش التراب جنبي؛ ويسح إنسكابي، وترهول عن المصلى ركابي؛ أحرص مني على سعادة إليكم تجلب، أو غاية كمال بسببكم ترتاد وتطلب؛ حتى لا يكون في الدين والدنيا أورف

منكم ظلا، ولا أشرف محلا ولا أغبط نهلا وعلا وأقل ما يوجب ذلك عليكم أن تصيخوا الى قولي الآذان وتتلمحوا صبح نصحى فقد بان وسأعيد عليكم وصية لقمان: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) وإذ قال لقمان لابنه وهو يعضه يا بني لا تشرك بالله إنَّ الشرك لظلم عظيم (.) يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر وأصبر على ما أصابك إنَّ ذلك من عزم الأمور. ولا تصعر خدك للناس ولا تمشي في إلاّ مرحا إنَّ الله لا يحب كل مختال فخور. وأقصد في مشيتك وأغضض من صوتك إنَّ أنكر الأصوات لصوت الحمير. (. وأعيد وصية خليل الله وإسرائيله حسبما محكم تنزيله:) يا بن إنَّ الله أصطفى لكم الدين فلا تموتن إلاّ وانتم مسلمون (. والدين الذي ارتضاه واصطفاه وأكمله ووفاه وقرره مصطفاه من قبل أن يتوفاه إذا أعمل فيه افتقاد فهو عمل واعتقاد وكلاهما مقرر ومستمد من عقل أو نقل محرر والعقل متقدم وبناؤه مع رفض أخيه متهدم فالله واحد أحد فرد صمد ليس له والد ولا ولد تنزه عن المكان والزمان وسبق وجوده وجود الأكوان خالق الخلق وما يعملون والذي لا يسأل عن شيء وهم يسألون الحي العليم المدبر القدير ليس كمثله شيء وهو السميع البصير أرسل الرسل رحمة لتدعوا العباد إلى النجاة من الشقاء وتوجه الحجة في مصيرهم

إلى دار البقاء مؤيدة بالمعجزات التي لا تتصف أنوارها بالاختفاء ولا يجوز على تواترها دعوى الانتقاء ثم ختم ديوانهم بنبي ملتنا المرعية للهمل الشاهدة على الملل فتلخصت الطاعة وتبينت له الإمرة المطاعة ولم يبق بعده إلاّ ارتقاب الساعة ثم إن الله قبضه إذ كان بشرا وترك دينه يضم من الأمة نشرا فمن اتبعه لحق به ومن حاد عنه تورط في منتسبه وكانت نجاته على قدر سببه. روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لم تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي فعضوا عليهما بالنواجذ ". فاعلموا يا بني بوصية من ناص جاهد ومشفق شفقة والد واستشعروا حبه الذي توفرت دواعيه وعوا مراشد هدية يافوز واعيه وصلوا السبب بسببه وآمنوا بكل ما جاء به مجملا أو مفصلا على حسبه وأوجبوا التجلة لصحبه الذين اختارهم الله لصحبه واجعلوا محبتكم إياهم من توابع محبته واشملواهم بالتوفير وفضلوا منهم أولى الفضل الشهير وتبرءوا من العصبية التي لم يدعكم إليها داع ولا تع التشاجر بينهم أذن واع فهو عنوان السداد وعلامة سلامة الاعتقاد ثم اسحبوا فضل تعظيمهم على فقهاء الملة وأئمتها الجلة فهم صقلة نصولهم وفروع ناشئة على أصولهم وورثة رسولهم واعلموا إني قطعت في البحث زماني وجعلت النظر شاني منذ براني الله وأنشاني مع نبل يعترف به الشاني وإدراك يسلمه العقل الإنساني فلم أجد خابط ورق ولا مصيب عرق ولا

نازع خطام ولا متكلف فطام ولا مقتحم بحر طام إلاّ وغايته التي يقصدها قد فضلتها الشريعة وسبقتها وفرعت ثنيتها وارتقتها فعليكم بالتزام جادتها السابلة ومصاحبة رفقتها الكافلة والاهتداء بأقمارها غير الآفلة والله يقول وهو أصدق القائلين:) ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (وقد علت شرائعه وراع الشكوك فلا تستنزلكم الدنيا عن الدين وابذلوا دون النفوس فعل المهتدين فلن ينفع متاع بعد الخلود في النار أبد الآبدين ولا يضر مفقود مع الفوز بالسعادة والله أصدق الواعدين ومتاع الحياة الدنيا أخس ما ورث الأولاد عن الوالدين اللهم قد بلغت فأنت خير الشاهدين فاحذروا المعاطب التي توجب في الشقاء الخلود وتستدعي شوه الوجوه ونضج الجلود واستعيذوا برضا الله من سخطه واربئوا بنفوسكم عن غمطه وارفعوا آمالكم عن القنوع بغرور قد خدع أسلافكم ولا تحمدوا على جيفة العرض الزائل ائتلافكم واقنعوا منه بما تيسر ولا تأسوا على ما فات وتعذر فإنما هي دجنة ينسخها المصباح وصفقة يتعقبها الخسار والرباح ودونكم عقيدة الإيمان فشدوا بالنواجذ عليها وكفكفوا الشبه أن تدنو إليها واعلموا أن الإخلال بشيء من ذلك خرق لا يرفؤه عمل وكل ما سوى الراعي همل وما بعد الرأس في صلاح الجسم أمل وتمسكوا بكتاب الله حفظا وتلاوة واجعلوا حمله على حمل التكليف علاوة وتفكروا في آياته ومعانيه وامتثلوا أموامره وانتهوا عن نواهيه ولا تتأولوه ولا تغلوا فيه وأشربوا قلوبكم حب

من أنزل على قلبه وأكثر من بواعث حبه وصونوا شعائر الله صون المحترم واحفظوا القواعد التي ينبنى عليها الإسلام حتى لا ينخرم. الله الله في الصلاة ذريعة التجلة وخاصة الملة وحاقنة الدم وغنى المستأجر المستخدم وأم العبادة وحافظة اسم المراقبة لعالم الغيب والشهادة والناهية عن الفحشاء والمنكر مهما عرض الشيطان عرضهما ووطأ للنفس الأمارة سماءها وأرضهما والوسيلة إلى بل الجوانح ببرود الذكر وإيصال تحفة الله إلى مريض الفكر وضابطة حسن العشرة من الجار وداعية المسالمة من الفجار والواسمة بسمة السلامة والشاهدة للعقد برفع الملامة وغاسول الطبع إذا شانه الطبع والخير الذي كل خير له تبع فاصبروا النفس على وظائفها بين إبداء وإعادة فالخير عادة ولا تفضلوا عليها الأشغال البدنية وتؤثروا على العلية الدنية فإنَّ أوقاتها المعنية بالانفلات تنبس والفلك بها من أجلكم لا يحبس وإذا قرنت بالشواغل فلها الجاه الأصيل والحكم الذي لا غيره الغدو والأصيل والوظائف بعد أداتها لا تفوت وأين حق من يموت من حق الحي الذي لا يموت؟ وأحكموا أوضاعها إذا أقمتموها وأتبعوها الموافل ما أطقتموها فبالإتقان تفاضلت الأعمال وبالمراعاة استحق الكمال

ولا شكر مع الإهمال ولا ربح مع إضاعة رأس المال وثابروا عليها الجماعات وبيوت الطاعات فهو أرفع للملام وأظهر لشرائع الإسلام وأبر بإقامة الفرض وأدعى إلى مساعدة البعض البعض. والطهارة التي هي في تحصيلها سبب موصل لمشروطها محصل فاستوفوها والأعضاء نظفوها وميهها بغير أوصافها الحميدة فلا تضفوها والحجول والغرر فأطيعوها والنيات في كل ذلك فلا تهملوها فالبناء بأساسه والسيف برئاسه. واعلموا أن هذه الوضيفة من صلاة وطهور وذكر مجهور وغير مجهور تستغرق الأوقات وتنازع شتى الخواطر المفترقات فلا يضبطها إلاّ من ضبط نفسه بعقال وكان في درجة الرجولة ذا انتقال واستعرض صدأه وإن تراخى تقهقر الباع وسرقته الطباع وكان لمّا سواها أضيع فشمل الضياع. والزكاة أختها الحبيبة ولدتها القريبة مفتاح السماحة بالعرض الزائل وشكران المسئول على الضد من درجة السائل وحق الله فيمال من أغناه لمن أجهده في المعاش وعناه من غير استحقاق مل يده وإخلاء يد أخيه ولا علة القدر الذي يخفيه وما لم ينله حظ فلا خير يه فاسمحوا بمتفرقاتها للحاضر لإخراجها واختيار عرضها ونتاجها واسحيوا من الله أن تبخلوا عليه ببعض ما بذل وخالفوا الشيطان كلما عذل واذكروا خروجكم إلى الوجود لا تملكون ولا تدرون أين تسلكون فوهب وأقدر وأورد

بفضله وأصدر ليرتب بكرمه الوسائل أو يقيم الحجج والدلائل فابتغوا إليه الوسيلة بماله واغتنموا رضاه ببعض نواله. وصيام رمضان عبادة السر المقربة إلى زلفى الممحوضة لمن يعلم السر وأخفى مؤكدة بصيام الجوارح عن الآثام والقيام ببر القيام والاجتهاد وإيثار السهاد على المهاد وإن وسع الاعتكاف فهو من سننه المرعية ولواحقه الشرعية فبذلك تحسن الوجوه وتحصل النفوس من الرقة على ما ترجوه وتهذب الطباع ويمتد في ميدان الوسائل إلى الله الباع. والحج مع الاستطاعة الركن الواجب والفرض على العين لا يحجبه الحاجب وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم قدره فيما فرض عن ربه وسنه وقال: ليس له جزاء عن الله إلاّ الجنة. ويلحق بذلك الجهاد في سبيل الله وإن كانت لكم قوة عليه وغنى لديه فكونوا ممن يسمع نفيره ويطيعه وإن عجزتم فأطيعوا من يستطيعه. هذه عمد الإسلام وفروضه ونقود مهره وعروضه فحافظوا عليها تعيشوا مبرورين وعلى من يناوئكم ظاهرين وتلقوا الله لا مبدلين ولا مغيرين ولا تضيعوا حقوق الله فتهلكوا مع الخاسرين. واعلموا أن بالعلم تستكمل وظائف هذه الألقاب وتجلى محاسنها من بعد الانتقاب فعليكم بالعلم النافع دليلا بين يدي الشافع فالعلم مفتاح هذا الباب والموصل إلى اللباب والله عز وجل يقول:) هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب (. والعلم وسيلة النفوس

الشريفة إلى المطالب المنيفة وشرطه الخشية لله والخيفة وخاصة الملأ الأعلى وصفة الله في كتبه التي تتلى والسبيل في الآخرة إلى السعادة وفي الدنيا إلى التجلى عاده والذخر الذي قليله يشف وينفع وكثيره يعلىو يرقع لا يغصبه الغاصب ولا يسلبه العدو المناصب ولا يبتزه الدهر إذا مال ولا يستأثر به البحر إذا هال من لم ينله فهو ذليل وإن كثرت آماله وقليل وإن جم ماله وإن كان وقته قد فات اكتسابكم وتخطى حسابكم فالتمسوه لبنيكم واستدركوا منه ما خرج عن أيديكم واحملوهم على جمعه ودرسه واجعلوا طباعهم ثرى لغرسه واستهلوا ما ينالهم من تعب من جراه وسهر يهجر له الجفن كراه تعقدوا لهم ولاية عز لا تعزل وتحلوهم مثابة رافعة لا يحط فارعها ولا يستنزل واختاروا من العلوم التي ينفقها الوقت ما لا يناله في غيره المقت وخير العلوم علوم الشريعة وما نجم وما نجم بمنابتها المريعة من علوم لسان لا تستغرق الأعمار فصولها ولا يضايق ثمرات المعاد محصولها فإنما هي آلات لغير وأسباب إلى خير منها وخير فمن كان قابلا منها لازدياد وألفى فهمه ذا انقياد فليخص تجويد القرآن بتقديمه ثم حفظ الحديث ومعرفة صحيحه من سقيمه ثم الشروع في أصول الفقه فهو العلم العظيم المنة المهدي كنوز الكتاب والسنة ثم المسائل المنقولة عن العلماء الجلة والتدرب في طرق النظر وتصحيح الأدلة وهذه هي الغاية القصوى في الملة ومن قصر إدراكه عن هذا المرمى وتقاعد عن التي هي أسمى فليرو الحديث بعد تجويد الكتاب وإحكامه وليقرأ المسائل الفقهية على مذهب إمامه وإياكم والعلوم القديمة والفنون المهجورة الذميمة فأكثرها لا يفيد إلاّ تشكيكا ورأيا ركيكا ولا يثمر في

العاجلة إلاّ اقتحام العيون وتطريق الظنون وتطويق الاحتقار وسمة الصغار وخمول الأقدار والخسف من بعد الإبدار وجادة الشريعة أعرق في الاعتدال وأوفق من قطع العمر في الجدال هذا أبن رشد قاضي المصر ومفتيه وملتمس الرشد ومؤتيه عادت عليه بالسخطة الشنيعة وهو إمام الشريعة فلا سبيل إلى اقتحامها والتورط في ازدحامها ولا تخلطوا سامكم بحامكم إلاّ ما كان من حساب ومساحة وما يعود بجدوى فلاحة وعلاج يرجى على النفس والجسم براحة وما سوى ذلك فمحجور وضرم مسجور وممقوت مهجور. وأمروا بالمعروف أمرا رفيقا وانهوا على المنكر نهيا حريا بالاعتدال حقيقا واغبطوا من كان سنة الغفلات مفيقا واجتنبوا ما تنهون عنه حتى لا تسلكوا منه طريقا وأطيع أمر من ولاه الله من أموركم أمرا ولا تقربوا من الفتنة جمرا ولا تدخلوا في الخلاف زيدا وعمرا. وعليكم بالصدق فهو شعار المؤمنين وأهم ما أضرى عليه الآباء السنة البنين وأكرم منسوب إلى مذهبه ومن أكثر من شيء عرف به. وإياكم والكذب فهو العورة التي لا توارى والسوءة التي لا يرتاب في عارها ولا يتمارى وأقل عقوبات الكذب بين يدي ما أعد الله له من العذاب ألا يقبل صدقه إذا صدق ولا يعول عليه إن كان بالحق قد نطق. وعليكم بالأمانة فالخيانة لوم وفي وجه الديانة كلوم ومن الشريعة التي

لا يعذر بجهلها أداء الأمانات إلى أهلها وحافظوا على الحشمة والصيانة ولا تجزوا من أقرضكم دين الخيانة ولا توجدوا للغدر قبولا ولا تقروا عليه طبعا مجبولا وأوفوا بالعهد إنَّ العهد كان مسئولا ولا تستأثروا بكنز ولا خزن ولا تذهبوا لغير مناصحة المسلمين في سهل ولا حزن ولا تبخسوا الناس أشياءهم في كيل أو وزن والله الله أن تعينوا في سفك الدماء ولو بالإشارة أو بالكلام أو ما يرجع إلى وظيفة الأقلام واعلموا أن الإنسان في فسحة ممتدة وسبيل الله غير منسده ما لم ينبذ إلى الله بأمانة ويغمس في الدم الحرام بيده أو لسانه قال الله في كتابه الذي هدى به سننا قويما وجلى من الجهل والضلال ليلا بهيما:) ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالد فيها وغضب الله عليه ولعنة وأعد له عذابا عظيما (. واجتناب الزنا وما يتعلق به من كرمت طباعه وامتد سبيل السعادة باعه ولو لم تتلق نور الذي لم يهد شعاعه فالحلال لم تضق عن الشهوات أنواعه ولا عدم إقناعه ومن غلبت عليه غرائز جهله فلينظر هذا يحي أن يزني بأهله؟ والله قد أعد للزاني عذابا وبيلا وقال:) ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا (. والخمر أم الكبائر ومفتاح الجرائم والجرائر واللهو لم يجعله الله في الحياة شرطا والمحرم قد أغنى عنه بالحلال الذي سوغ وأعطى وقد تركها في الجاهلية أقوام لم يرضوا لعقولهم الفساد ولا لنفوسهم بالمضرة في مرضاة

الأجساد والله جعلها رجسا محرما على العباد وقرنها بالأنصاب والأزلام في مباينة السداد. ولا تقربوا الربا فإنه من مناهي الدين والله تعالى يقول:) وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين (. وقال:) فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله (في الكتاب المبين. ولا تأكلوا مال أحد بغير حق يبيحه وانزعوا الطمع عن ذلك حتى تذهب ريحه والتمسوا الحلال يسعى فيه أحدكم على قدمه ولا يكل اختياره إلاّ للثقة من خدمة ولا تلجئوا إلى المتشابه إلاّ عند عدمه فهو في السلوك إلى الله أصل مشروط والمحافظ عليه مغبوط. وإياكم والظلم فالظلم ممقوت بكل لسان مجاهر لله بصريح العصيان والظلم ظلمات يوم القيامة كما ورد في الصحاح الحسان والنميمة فساد وشتات لا يبقى عليه ممات وفي الحديث: " لا يدخل الجنة قتات ". واطرحوا الحسد فما ساد حسود وإياكم والغيبة فباب الخير عنها مسدود والبخل فما رئى البخيل وهو مودود وإياكم وما يعتذر منه فموقف الخزي لا تستقال عثراته ومظنات الفائح لا تؤمن غمراتها وتفقدوا أنفسكم مع الساعات وأفشوا السلام في الطرق والجماعات ورقوا على ذوي الزمانات والعاهات وتاجروا مع الله بالصداقة يربحكم في البضاعات وعولوا عليه وحده في الشدائد واذكروا المساكين إذا نصبتم الموائد وتقربوا إليهم باليسر من ماله واعلموا أن الخلق عيال الله وأحب الخلق إليه المحتاط لعياله وارعوا حقوق الجار

واذكروا ما ورد في ذلك من الآثار وتعاهدوا أولى الأرحام والوشائج البادية الالتحام واحذروا شهادة الزور فإنها تقطع الظهر وتفسد السر والجهر والرشا فإنها تحط الأقدار وتستدعي المذلة والصغار ولا تسامحوا في لعبة قمر ولا تشاركوا أولي البطالة في أمر وصونوا المواعد من الإخلاف والأيمان من حنث الأوغاد والأجلاف وحقوق الله من الازدراء والاستخفاف ولا تلهجوا بالآمال العجاف ولا تكلفوا بالكهانة والإرجاف واجعلوا العمر بين معاش ومعاد وخصوصية وابتدعاد واعلموا أن الله بمرصاد وأن الخلق بين زرع وحصاد وأقلوا بغير الحالة الباقية الهموم واحذروا القواطع عن السعادة كما تحذر السموم واعلموا أن الخير أو الشر في الدنيا محال أن يدوم وقابلوا بالصبر أذية المؤذين ولا تقارضوا مقالات الظالمين فالله لمن بغي عليه خير الناصرين ولا تستعظموا حوادث الأيام كلما نزلت ولا تضجعوا للأمراض إذا أعضلت فكل منقرض حقير وكل منقض وإن طال فقصير وانتظروا الفرج وانتشقوا من جناب الله الأرج وأوسعوا بالرجاء الجوانح واجنحوا إلى الخوف من الله فطوبى لعبد إليه جانح وتضرعوا إلى الله بالدعاء والجئوا إليه في البأساء والضراء وقابلوا نعم الله بالشكر الذي يقيد منها الشارد ويعذب الموارد وأسهموا منها للمساكين وأفضلوا عليهم وعينوا الحظوظ منها لديهم فمن الآثار: " يا عائشة أحسني جوار

نعم الله فإنها قلما زالت عن قوم فعادت إليهم ". ولا تطغكم النعم فتقصروا في شكرها وتلفكم الجهالة بكسرها وتتوهموا أن سعيكم جلبها وجدكم حلبها فالله خير الرازقيم والعقبة للمتقين ولا فعل إلاّ الله إذا نظر بعين اليقين. والله الله لا تنسوا الفضل بينكم ولا تذهبوا بذهابه زينكم وليلتزم كل منكم لأخيه ما يشتد به تواخيه بما أمكنه من إخلاص وبر ومراعاة في علانية وسر وللإنسانية مزية لا تجهل وحق لا يهمل وأظهروا التعاضد والتناصر وصلوا التعاهد والتزاور ترغموا بذلك الأعداء وتستكثروا الأوداء ولا تنافسوا في الحظوظ السخيفة ولا تهارشوا تهارش السباع على الجيفة واعلموا أنَّ المعروف يكدر بالامتنان وطاعة النساء شر ما افسد بين الإخوان فإذا أسديتم معروفا فلا تذكره وإذا برز قبح فاستروه وإذا أعظم النساء أمرا فاحقروه والله الله لا تنسوا مقارضة سجلى وبروا أهل مودتي من أجلي ومن رزق منكم مالا بهذا الوطن القلق المهاد الذي لا يصلح لغير الجهاد فلا يستهلك أجمع في العقار فيصبح عرضة للمذلة والاحتقار وساعيا لنفسه إن تغلب العدو على بلده في الافتضاح والافتقار ومعوقا عن الانتقال أمام النوب الثقال وإذا كان رزق العبد على المولى فالإجمال في الطلب أولى وازهدوا جهدكم في مصاحبة أهل الدنيا فخيرها لا يقوم بشرها ونفعها لا يفي بضرها وأعقاب ما تقدم شاهده والنواريخ لهذه الدعوى عاضدة ومن بلى منكم بها فليستظهر بسعة الاحتمال والتقلل من المال ويحذر معاداة الرجال ومزلات الإذلال وفساد الخيال ومداخلة العيال وإفشاء الأسرار وسكر الاغترار

وليصن الديانة ويؤثر الصمت ويلزم الأمانة ويسر من رضا الله على أوضح الطرق ومهما اشتبه عليه أمران قصد أقربهما إلى الحق وليقف في التماس أسباب الجلال وسمو القدر ورفعة الحال دون الكمال فما بعد الكمال غير النقصان والزعازع تسالم اللدن اللطيف من الأغصان. وإياكم وطلب الولايات رغبة واستجلابا واستظهارا على الحظوظ وغلابا فذلك ضرر بالمروءات والأقدار داع إلى الفضح والعار ومن امتحن منك بها اختيار أو جبر عليها إكراها وإيثار فليتلق وظائفها بسعة صدره وليبذل من الخير فيها ما يشهد أنَّ قدرها دون قدره فالولايات فتنة ومحنة وأسر وإحنة وهي بين إخطاء سعادة وإخلال بعادة وتوقع عزل وإدالة رخاء بأزل وبيع جد من الدنيا بهزل ومزلة قدم واستتباع ندم ومآل العمر كله فوت ومعاد واقتراب من الله وابتعاد جعلكم الله ممن نفعه بالتصبير والتنبيه وممن لا ينقطع بسببه عمل أبيه. هذه أسعدكم الله وصيتي التي أصدرتها وتجارتي التي لربحكم أدرتهم فتلقوها بالقبول لنصحها والاهتداء بضوء صبحها وبقدر ما أمضيت من فروعها واستغشيتم من دروعها اقتنيتم من المناقب الفاخرة وحصلتم على سعادة الدنيا والآخرة بقدر ما أضعتم من لآليها النفيسة القيم استكثرتم من بواعث الندم ومهما شئمتم إطالتها واستغزرتم مقالتها فاعلموا أن تقوى الله فذلك الحساب وضابط هذا الباب كان الله خليقي عليكم في كل حال فالدنيا مناخ ارتحال وتأميل الإقامة فرض محال فالموعد للالتقاء دار البقاء

القاضي النبهاني

جعلها الله من وراء خطة النجاة ونفق بضائعها المزجاه المرتجاة والسلام عليكم من حبيبكم المودع والله يلامه حيث شاء من شمل متصدع والدكم محمّد بن عبد الله بن الخطيب ورحمة الله وبركاته. انتهت الوصية وهي غربة في معناها. قلت: ولأجل ذلك كان شيخنا الفقيه الإمام القاضي العلامة سيدي عبد الواحد الوانشريشي رحمه الله كثيرا ما يدخل منها في خطبه على مالا يخفق على من طالعها وإلى الله ترجع الأمور. وإذ بلغنا في ترجمة أبن الخطيب إلى هذا الحد الذي يستطيل الناظر فيه وهو والله يتمم التعريف بابن الخطيب ولا يوفيه فلنذكر القاضي النبهاني والكاتب أبن زمرك اللذين كان لهما مع أبن الخطيب أول الأمر مصافاة ومتات ثم استحالت إلى ما علمت من العداوة ذات البتات.

بسم الله الرحمن الرحيم

القاضي النبهاني بسم الله الرحمن الرحيم أما القاضي النباهي فهو علي بن محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد بن الحسن الجذامي المالقي النباهي، أبو الحسن الشهير بابن الحسن، قاضي الجماعة بغرناطة، الإمام العالم العلامة، كان رحمه الله من أكابر المشهورين بها، ممن له الفصاحة والبلاغة والجلالة، إلى الاتصاف بالعلم والمعرفة، والتفنن في العلوم معقولها ومنقولها. ذكره ابن الخطيب في الإحاطة وأثنى عليه، وذكر أن ولادته عام ثلاثة عشر وسبع مئة، على ما ذكره بعضهم، وتأخرت وفاته عن ابن الخطيب، بحيث إنه كان حياً عام اثنين وتسعين وسبع مئة. وقال ابن الخطيب في ترجمة السلطان ابن الأحمر ما نصه: ثم قدم للقضاء الفقيه الحسيب أبا الحسن، وهو عين الأعيان بمالقة، المخصوص برسم التجلة، والقيام بالعقد والحل، فسدد وقارب، وحمل الكل، وأحسن

مصاحبة الخطبة والخطة، وأكرم المشيخة، مع النزاهة، ولم يقف في حسن التأتي عند غاية؛ فاتفق على رجاحته، ولم يقف في النصح عند غاية؛ أعانه الله. انتهى ملخصا. وكم بين ما قال فيه هنا وبين ما في " الكتيبة الكامنة " من تلقيبه بجعسوس، ووصمه بما لا يليق سماعه. وعلى كل حال فقد انتصف كل واحد منهما من صاحبه بلسانه، وعفو الله وراء الجميع. وقال في حقه الشيخ أبو زكرياء يحيى السراج في فهرسته: الشيخ الفقيه الراوية، قاضي الجماعة بالأندلس وخطيبها، أبو الحسن؛ أخذ عن أبي محمد عبد الله بن أحمد التجيبي الموطأ والشفاء وأكثر الصحيحين؛ وعن الخطيب أبي جعفر الطنجالي، والقاضي العارف أبي القاسم بن سعيد الحميدي، والوزير أبي بكر بن الحكيم، والقاضي أبي جعفر أحمد بن عبد الحق، والحاج الراوية أبي القاسم بن المهنى؛ وقرأ على الفقيه الحاج أبي القاسم بن أحمد بن محمد بن عمران الحضرمي بعض مختصر ابن الحاجب، والتسهيل البديع في اختصار التفريع؛ والحاج أبي عبد الله محمد بن علي السكوني، والخطيب أبي عبد الله الساحلي، والقاضي أبي الحجاج المنتشافري. قدم رسولاً لفاس عام سبعة وستين، ثم عام ثمانية وثمانين. انتهى.

ابن زمرك

قلت: تقدم من كلام ابن خلدون أنه جاء رسولا في شأن ابن الخطيب، وذلك خلاف هذين التارخين معاً، فتأمله. وله رحمه الله بحث في مسألة الدعاء بعد الصلاة، رام فيه الرد على الشيخ الإمام أبي إسحاق الشاطبي، حسبما نقله صاحب المعيار. ومن تآليفه رحمه الله: " كتاب المرقبة العُليا، في مسائل القضا والفتيا " في جزأين، وهو كتاب ممتع إلى الغاية، وقفت على الجزء الأول منه، وقد ذكر في أثنائه أخبار سلفه رحمه الله، ولم أقف من أمره على غير ما ذكرته في هذا الموضوع. وقد قدمنا أنه كان مع السلطان أبي عبد الله بن الأحمر المخلوع حين رجع إلى طلب ملكه من المغرب؛ ورأيت لبعض المتأخرين وصفه بالقاضي الأجل ذي الوزارتين. والله أعلم. ابن زمرك وأما ابن زمرك فهو محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد بن يوسف الصريحي، أبو عبد الله، ويعرف بابن زمرك. هكذا ذكر غير واحد من المحققين، وسيأتي في كلام ابن الأحمر حذف " محمد " فيما بين " أحمد " و " يوسف "، ولعله من باب النسبة إلى الجد، والله أعلم. قال ابن الخطيب في الإحاطة: ولد هذا الفاضل بغرناطة، ونشأ بها،

وهو من مفاخرها، وكان صدراً من صدور طلبة الأندلس، وأفراد نجبائها، مختصا مقبولاً، هشا خلوبا، عذب الفكاهة، حلو المجالسة، حسن التوقيع، خفيف الروح، عظيم الانطباع، شره المذاكرة، فطناً بالمعاريض، حاضر الجواب، شعلة من شعل الذكاء، تكاد تحتدم جوانبه، كثير الرقة، فكهاً غزلا، مع حياء وحشمة، جواداً بما في يده، مشاركاً لإخوانه؛ نشأ عفا طاهرا، كلفاً بالقراءة، عظيم الدؤب، ثاقب الذهن، أصيل الحفظ، ظاهر النبل، بعيد مدى الإدراك، جيد الفهم؛ اشتهر فضله، وذاع أرجه، وفشا خبره، واضطلع بكثير من الأغراض، وشارك في جملة من الفنون، فأصبح متلقف كرة البحث، وصارخ الحلقة، وسابق الحلبة، ومظنة الكمال؛ ثم ترق في درج المعرفة والاطلاع، وخاض لجة الحفظ، وركض قلم التسويد والتقييد والتعليق، ونصب نفسه للناس متكلماً فوق الكرسي المنصوب، وبين الحفل المجموع، مستظهراً بالفنون التي بعد فيها شأوه، من عربية وبيان، وما تقذف به لجة النقل من أخبار وتفسير، متشوفا مع ذلك إلى السلوك مصاحباً للصوفية، آخذاً نفسه بارتياض ومجاهدة؛ ثم عانى الأدب، فكان أملك به. ورحل في طلب العلم والازدياد، فترقى إلى الكتابة عن ولد السلطان أمير المسلمين بالمغرب أبي سالم بن أبي الحسن، وعرف في بابه بالإجادة، ثم رجع مع السلطان ابن الأحمر في طلب ملكه، فلطف محله منه، وخصه بكتابة سره،) وثابت

الحال، ودالت الدولة، وكانت له الطائلة، فأقره على رسمه (، معروف الانقطاع والصاغية، كثير الدالة، مضطلعاً بالخطة: خطا، وإنشاء، ولسناً، ونقداً؛ فحسن منابه، واشتهر فضله، وظهرت مشاركته، وحسنت وساطته، ووسع الناس تخلقه، وامتد في ميدان النظم والنثر باعه، فصدر عنه من المنظوم قصائد بعيدة الشأو في مدى الإجادة، من الإغراض المتعددة، من ميلاديات وغيرها، وهو بحالة الموصوفة إلى الآن، أعانه الله وسدده. وأخذ العربية عن رحلة الوقت في فنها، أبي عبد الله) بن الفخار؛ ثم على إمامها القاضي الشريف، إمام الفنون اللسانية، أبي القاسم محمد بن أحمد الحسني؛ والفقه والعربية على الأستاذ المفتي أبي سعيد بن لب؛ واختص بالفقيه المحدث الصدر أبي عبد الله (بن مرزوق، روى عنه كثيراً؛ ولقي الحافظ القاضي أبا عبد الله المقري لما قدم الأندلس رسولا، وذاكره؛ وقرأ الأصول على أبي علي منصور الزواوي؛ وروى عن القاضي أبي البركات بن الحاج، والمحدث أبي الحسين بن التلمساني، والخطيب ابن اللوشي، والمقرئ أبي عبد الله بن بيبش؛ وقرأ بعض الفنون العقلية بفاس على الشريف الرحلة أبي عبد الله العلوي التلمساني، واختص به اختصاصاً لم يخل فيه من استفاردة، وحنكة في الصناعة. وأما شعره فمترامٌ إلى نمط الإجادة خفاجي النزعة، كلف بالمعاني البديعة، والألفاظ الصقيلة، غزير المادة

مولده في رابع عشر شوال عام ثلاثة وثلاثين وسبع مئة. انتهى كلام ابن الخطيب. وأورد له ابن الخطيب فيما يرجع إلى الفخر قوله - قال ابن الخطيب: ولقد صدق -: ولائمتي في الجود والجود شيمتي ... جبلت على إيثارها يوم مولدي ذريني فلو أني أُخلد بالغنى ... لكنت ضنيناً بالذي ملكت يدي وأورد له ايضاً قوله: لقد علم الله أني امرؤ ... أجر رثوب العفاف القشيب فكم غمض الدهر أجفانه ... وفازت قداحي بوصل الحبيب وقيل رقيبك في غفلة ... فقلت أخاف الإله الرقيب وله أيضاً رحمه الله: ما لي بحمل الهوى يدان ... من بعد ما أعوز التداني أصبحتُ أشكو إلى زمانٍ ... ما بتُّ منه على أمانِ ما بال عينيك تسجمان ... والدمعُ يرفضّ كالجُمان ما ذاك والإلف عنك وانٍ ... والبعدُ من بعده كَواني؟ يا شِقوة من هوانٍ ... لججتُ في أَبحُر الهوان

لم يَثنِنِي عن هواك ثانٍ ... يا بُغيةَ القلب قد كفاني انتهى. ثم أظلم الجو بينه وبين ابن الخطيب، وتولى مكانه بعد فراره كما قدمناه؛ وحظي عند ابن الأحمر جدا، وبقي على ذلك مدة. قلت: وقد رأيت بتلسان كتاباً ملوكياً من تأليف بعض سلاطينها بني الأحمر، وهو حفيد ابن الأحمد المخلوع، سلطان الأندلس، الذي كتب له ابن زمرك المذكور بعد ابن الخطيب، أورد فيه كلام ابن زمرك، وسماه: " البقية والمدرك، من كلام ابن زمرك "، وهو سفر ضخم، ليس فيه إلا نظمه فقط؛ وذكر فيه أن ابن زمرك مات قتيلاً بعد التسعين وسبع مئة، فكان ذلك الواقع له مساوياً لما وقع لابن الخطيب شيخه، حسبما قدمناه. ونص ما قيدت من ذلك الكتاب من أوله: " أما بعد ما يجب من حمد الله تعالى في كل حال، وشكره على ما أولى ويسر من صلاح الأحوال؛ والصلاة والسلام على سيدنا محمد صفوة الأنبياء، وسيد الأرسال، والرضا عمن له من صحب وأنصار وآل؛ فإن من المعلوم أن الأدب له بالنفس علاقة تؤديه إلى الاستحسان، وتؤثر من اشتهر به بالملاحظة بلحظ الحظ مع تعاقب الأحيان؛ ولا خفاء أن أيام مولانا الجد المقدس، الغني بالله، تولاه الله برضوانه، كانت غرراً في وجوه الأيام، ومواسم تجمع الطم والرم

من الرؤساء الأعلام؛ الآخذين بأعنة الكلام، السابقين في حلبة النثار والنظام؛ وأن الفقيه الرئيس المدرك، الناظم الناثر أبا عبد الله محمد بن يوسف ابن زمرك؛ عفا الله عنه - وحسبك بمن ارتضاه مولانا) الجد (رحمه الله لكتابته، وصرفه في الوجوه المتعددة من رسالته وحجابته؛ فكان بذلك خليقاً، لما جمع فيه من أدوات الكمال علماً وتحقيقا؛ وإدراكاً ونُبلا، وفقها وأوصولاً، وفروعاً وأدباً وتحصلا، وبياناً وتفسيراً ونظما وترسيلا - لما كان قد أخفت الأيام سنى صبحه، وخابت وسائل نصحه، وعادت بعدوانها بعد فوز قدحه؛ وعثر بين أقدام أقوام لا يعرفون أي ذخر فقدوا، ولا أي مطلق من تصرفاته الجميلة قيدوا؛ مستبصرين بالجهل في دياجي غيهم، معجبين بما ارتكبوه من جياد بغيهم؛ جميعهم يلحظه بمقل داميه، وألفاظ حامية؛ يصابحونه بأوجه خلت عن الوجاهة، سيماها الحسد، وضميرها السخط بما قدره الواحد الصمد. فخرّ على الألاءة لم يُوَسَّد ... كأن جَبِينَه سيفٌ صَقيلُ فيا لله من أشلاء هنالك ضائعة، وأعلاق غير مصونة، ووسائل مخفورة؛ وأذمة قطعت أرحامها، ولم يرع ذمامها؛ وعاثت الأيدي الفاتكة حينئذ على بنيه، وارتكبوها شنعاءَ في أهله وذويه.

هل كان إلا حيا تحيا العبادُ به ... هل كان إلا قذى في عين ذي عَوَرِ إن قال قولا تَرَ الأبصارَ خاشعةً ... لِمَا يُخبِّر من وَحيٍ ومن أثَر يا لَهف نفسيَ لو قد كنتُ حاضرَه ... غداةَ جُرِّعه أدهى مِنَ الصَّبر لَما تركتُ له شِلوا بِمَضيعةٍ ... ولا تولّى صريعَ الناب والظُّفُر وكان ما كان مما لست أذكره ... فظُنّ خيراً ولا تسأل عن الخَبر وإن سأل سائل عن الخبر الذي ألمعنا بذكره، وضمنا هذا البيت ذروا من فظيع أمره؛ فذلك عند ما نسب صاحب الأمر إليه ما راب، وتله) وابنيه (للجبين معفرين بالتراب؛ وصدمه في جنح السيوف، وتعاورته الحتوف؛ وأذهبه سليباً قتيلا، مصيرا مصراع منزله كثيباً مهيلا، وتعاورته الحتوف؛ وأذهبه سليباً قتيلا، مصيرا مصراع منزله كثيباً مهيلا، وكنا على بُعد من هذه الآزفة التي أورثت القلوب شجناً طويلا؛ وذكرتنا بعناية مولانا) الجد (الغني بالله بجانبه أعظم ذكرى، فأغرينا برثائه خلدا وفكرا؛ وارتجلنا عند ذكره الآن هذه الأبيات إشارة مقنعة، وكانية في السلوان مطمعه؛ وأرضينا بالشفقة أو داءه، وأرغمنا بتأبينه أعداءه. ولما تبلج الصبح لذي عينين، وتلقينا راية الفرج بالراحتين؛ عطفتنا على أبنائه عواطف الشفقه، وأطلقنا لهم ما عاثت الأيدي عليه صلةً لرحم طالما أضاعها من جهل الأذمة، وأخفر عهود تخدمه لمن سلف من الأئمة؛ وصرفنا للبحث والتفتيش وجوه آمالنا، وجعلنا ضم ما نثرته الحوادث

من منظوماته من أكيد أعمالنا؛ وكان تعلق بمحفوظنا جملة وافرة من كلامه، مشتملة على ما راق وحسن من نثاره ونظامه؛ فأضفنا ذلك إلى ما وقع عليه اجتهادنا من رقاعه، الحائلة المنتهبة بأيدي النوائب، الدائرة المستلبة بتعدي النواهب؛ فخلص من الجملة قلائد عقيان، وعقود در ومرجان؛ ترتاح النفوس النفيسة لإنشادها، وتحسد الأبصار الأسماع عند إيرادها؛ إلى ما يتخللها من تخليد مآثر سلفنا، والإشادة بعظيم ملكنا؛ فشرعنا في تقييد أوابدها الشارده، وإحياء رسومها البائدة؛ كلفا بالأدب؛ لوضوح فضله، وتأدية لما يجب من رعاية أهله. ولنبدأ بالتعريف بحال هذا الرئيس المنبه عليه، ونظهرها ما كنا نضمره من الميل إليه، في كل ما له أو عليه، فنقول: هو الفقيه الكاتب، الفذ الأوحد، أبو عبد الله، محمد بن يوسف بن محمد ابن أحمد بن يوسف الصريحي، ويعرف بابن زمرك؛ أصله من شرق الأندلس، وسكن سلفه بالبيازين من غرناطة، وبها ولد؛ فنشأ ضئيلاً كالشهاب يتوقد، مختصر الجرم والأعين بإطالة فواضله تشهد، ومكتب الفئة القرآنية يؤثره بالجناب الممهد، فاشتغل أول نشأته بطلب العلم، والدؤوب على القراءة، وأخذ نفسه بملازمة حلقات التدريس، ولم يبلغ حد وجوب المفترضات إلا وهو متحمل الرواية، وملتمس لفائد الدرايه، مصابح كل يوم أعلام العلوم، ومستهدٍ بمصابيح الحدود العلمية والرسوم. فافتتح أبواب الكتب النحوية بالإمام أبي عبد الله ابن الفخار، الآية الكبرى في فن العربية، وتردد الأعوام العديدة إلى قاضي الجماعة أبي القاسم الشريف؛ فأحسن الإصغاء، وبذ النحاة البلغاء، بما أوجب رثاءه عند الوقوف على ضريحه بالقصيدة الفريدة، التي أولها:

أغرى سراة الحي بالإطراق حسبما تأتى مستوفاة إن شاء الله تعالى. واهتدى إلى طريق الخطبة ومناهج الصوفية، بالخطيب المعظم أبي عبد الله بن مرزوق، الوافد على مولانا الجد أبي الحجاج رضي الله عنه في عام ثلاثة وخمسين وسبع مائة، وإليه جنح، وإياه قصد، عند تغربه إلى المغرب، في دولة السلطان أبي سالم، فتوجه بالعمامة التي ارتجل بين يديه فيها: توجتني بعمامة ... توجت تاج الكرامة فروض حمدك يزهى ... منى بسجع الحمامة وأخذ علم الأصلين عن الحافظ الناقد أبي المنصور الزواوي، وبرع في الأدب، أثناء الانقطاع وأول الطلب لأبي عبد الله بن الخطيب، ولكن لم يحمد بينهما المآل. واقتدى في العلوم العقلية بالشريف أبي عبد الله التلمساني، قدوة الزمان؛ وحصلت له الإجازة والتحديث بقاضي الجماعة، وشيخ الجملة، أبي البكرات بن الحاج، وبالخطيب البليغ أبي عبد الله اللوشي، وبالخطيب الورع أبي عبد الله بن بيبش العبدري، رضي الله عن جميعهم. وبواجب محافظتنا على عهدهم، إذ نحن واردون بالإجازة التامة عذب وردهم، وصل سببنا بهم الكثير من شيوخنا، مثل الإمام المعظم أبي محمّد عبد الله بن جزي، ومعلمنا الثقة المجتهد أبي الله الشريشي، والقاضي الإمام أبي عبد الله محمّد بن علي علاق، وغيرهم رحمة الله عليهم. لذلك صار صدراً في نوادي طلبة الأندلس، وأفراد نجبائها؛ فما شاءه المحضر يجده في خضله، ويتلقاه من باهر فضله؛ فكاهة ومجالسة أنيقة ممتعة، ومحادثة أريضة مزهرة، وجواباً مطبقا للمفصل، وذهنا

سابقا لإيضاح المشكل؛ مع انقياد الطبع، وإرسال الدمعة، في سبيل الخشوع والرقة، ورشح الجبين عند تلقي الموعظة، وصون الوجه بجلباب الحياء، ومقابلة الناظر إليه بالاحتشام، والمبادرة للاستدعاء، على طهارة، وبذل وسع، وكرم نفس، لم يعهد أجمل مشاركة منه لإخوانه، ولا أمتع منه بجاهه، إلى مبالغة في الهشة والمبرة والإيثار بما منح، وجنوح إلى حب الصالحين، ذلك بالأنضواء إلى شيخ الفرق الصوفية، الولي أبي جعفر بن الزيات، وأخيه الفاضل الناسك شيخنا أبي مهدي، قدس الله مغناه، وسواهما من أهل الأندلس والعدوة، وحملة أشد الحمل على كل تلبس كأبي البرغوطي وسواه. ومن تنديداته زعموا على أبي الحسن المحروق لميله عنه: ولد الفقر والرباط ولكن ... نفسه للسلوك ذات افتقار وخطب الأدب يافعا وكهلا، وحاز علمه إدراكاً ونبلاً. ولمّا كانت الحادثة على مولانا الجد رحمه الله، واجتاز إلى المغرب، كما تقرر في غير هذا، كلف به، وأنس إليه، لحلاوة منطق، ورفع استيحاش، ومراوضة خلق؛ ثم كرم الله وجهه في صحبه ركابه، فعلت منزلته، ولطف محله. وقفنا على وقعة من رقاعه وهو يبدي فيها ويعي، ويقول: " خدمته سبعاً وثلاثين سنة، ثلاثة بالمغرب، وباقيها بالأندلس، وأنشدته فيها ستاً وستين قصيدة، في ستّة وستين عيداً، وكل ما في منازله السعيدة، من القصور والرياض والدشار والسبيكة، من نظم الرائق، ومدح فائق، في القباب والطاقات والطرز وغير

ذلك فهو لي، وكانت أؤا كله وأؤا كل ابنه مولاي أبا الحاج وهما كبيرا ملوك أهل الأرض. وهنأته بكذا وكأنَّ قصيدة، وفوض لي في عقد الصلح بين الملوك بالعدوتين، وصلح النصارى عقدته تسع مرات، ألحسه فوض إلى ذلك "؟ قلنا: صدق في جميع ما ذكره، وبذلك شاهدة له. وخصه عام ثلاثة وسبعين بكتابة سره، واستعمله بعد أعوام في السفارة بينه وبين ملوك عصره، فحمد منابه، ونمت أحواله، ورغد جنابه. وكان هنالك بعض تقولات تشين وجه اجتهاده، وتومئ بما احتقبه من سوء مقاصده، وما صرفه من قبيح أغراضه، وهاجت الفتنة، فكانت سفارته أعظم أسبابها. وعند الأشد من عمره عرضت لأفكاره تقبلت، وأقعده عن قداح السياسة آفات مختلفات، وأشعرته حدة ذهنه إنه متخبط في أشراك وقعات؛ فقد بجامع مالقة، ثم بمسجد الحمراء، ملقيا على الكرسي فنونا جمله، وعلوما لم يزل يتلقاها عن أولياء التعظيم والتجله، فأنحاز إلى مادة أمم بمالقة طما منهم البحر، وتراءى لأبصارهم وبصائرهم الفخر؛ وكان التفسير أغلب عليه لفرط ذكائه، وما كان قيده وحصله أيام قراءته وإقرائه؛ فما شئت من بيان، وإعجاز قرآن؛ وآيات توحيد وإخلاص، ومنهاج صوفيه تؤذن بالخلاص، يوم الأحد بالنواص. مراراً عدة سمع ما يلقيه ولي الأمر وياشدة البلوى التي أذاقه مرها، وأمطاها إلى طية الهلاك ظهرها، ويا قرب ما كان الفوت، والحسام الصلت، من تباعد هذه القرب التي ألفيت.

قلنا: لقد جمع جواد القلم، فأطلقنا ونحن نشير إلى هذا الرئيس وتبدل طباعه، بعد انقضاء أعوام شاهدة باضطلاعه؛ وإحراز شيم أدت إلى علو مقداره، واستقامة مداره؛ فآل عمر مولانا جدنا إلى النفاذ، ورمت رئيس كتابه هذا أسهم الحساد؛ فظهر الخفي، وسقط به الليل على سرحان قد طالما جرب الوفي والصفي. وكان من شأنه الاستخفاف بأولياء الأمر من حجاب الدولة، والاسترسال في الرد عليهم بالطبع والجبلة مع الاستغراق في غمار الفتن اندلساً وغرباً، ومراعاة حظوظ نفسه استيلاء وغظبا؛ أما الجراءة فانتضى سيوفها، وأما إكفاء السماء على الأرض فقواصم نوع صنوفها، وأما المجاهدة فوقف الميدان الاعتراض صفوفها، وأما المجاملة فنكر معروفها. أداة هذا النبأ العظيم إلى سكنى المعتقل بقصبة المرية، وعلى الأثر كان الفرج قريبا، وسطور الموحدة قد أوسعها العفو تضريباً. ونالته هذه المحنة عند وفاة مولانا الجد الغني بالله وكانت وفاته غرة شهر صفر عام ثلاثة وتسعين وسبع مائة لأسباب يطول شرحها، أظهرها شراسة في لسانه، واعتزاز بمكانه، وتضريب بين خدام السلكان وأعوانه، فكبا

لليدين وللفم، إلى أنَّ من الله يسراحه، وأعاده إلى الخضرة في أوّل شهر رمضان المعظم عام أربعة وتسعين وسبع مائة، فكان ما كان من وفات مولانا الوالد رحمه الله، وقيام أخينا محمّد مقامة الأمر، فاستمر الحال أياما قلائل، وقدم للكتابة الفقيه أبن عاصم لمدة من عام، ثم أعاد المذكور إلى خطته، وقد دمثت بعض أخلاقه، وخمدت شراسته. وحلا بعض مذاقه، فما كان إلاّ كلاوليت، وإذابة قد ساء مشهداً وغيباً، وأوسع الضمائر شكا وريبا الإحن عليه. وغلت مراجلها لديه؛ وصار يتقلب على جمر الغضي، وتبرم بالقضا؛ ويظهر النصح وفي طيه التشفي، ويسم نفسه بالصلاح، ويعلن بالخشوع، ويشير بأنه الناصح الأمين، ويتلو قول الله سبحانه:) ولكن لا تحبون الناصحين (. ورتب على المشتغلين كبيرهم وصغيرهم ذنوباً ولم يقترفوها، ونسب إليهم نسبا من التضييع لم يعرفوها، وانهم أحتجنوا الأموال، وأساءوا الأعمال والأقوال؛ فلم يظفر من ذلك بكبير طائل، ولا حصل على تفاوت أعداده على حاصل؛ هذا على قلة معرفته بتلك الطريقة الاشتغالية، وعدم اضطلاعه بالأمور الجبائية فمن نفس يروع سرابها، ويكدر بالامتحان والامتهان شربها؛ ومن ضارعة

خاشعة لله سلبت، وطولبت بغير ما اكتسبت، وتعدت الأيدي إلى أقوام جلة سعدوا بشفائه، وامتحنوا وهم المبرءون من تزويره واعتدائه وسيسألون يوم لا يغني مال ولا بنون؛ وصار يصرف أغراضه، ويظهر أحقاده بين إفصاح بما كان الإعجام خيراً من إلقائه، وأنَّ عمر المسكين المستضعف لا حاجة في طول بقائه؛ إلى مجاهرة عهد منه أيام شبيبته نقيضها، وانعكس في شاخته تصريحها المنغص وتعريضها؛ لا يريح نفسه من جهد ولا يقف من اللجاجة عند حدّثني. وقد كان ثقل سمعه فساءت إجابته وطغت أخلاقه فسم الناس وساطته وبما استحلف؛ فلم يكن بين اللازمة واللازمة إلاّ الحنث عن قصد وغير قصد، ودعا على نفسه وأبنائه بإنجاز وعد وأن يقيض الله ولهم قاتل عمد. فسبحان القهار فوق عباده، الرحيم بهذا الشخص وبالأموات من شيعته وأولاده. فاستمر على ذلك إلى إحدى الليالي، فهلك في جنح الليل في جوف داره على يدي مخدومه؛ تلقاه زعموا عند الدخول عليه وهو بالمصحف رافع به يديه فجدلته السيوف وتناولته الحتوف فقضي عليه وعلى من وجد من خدامه وابنيه: كل ذلك بمرأى عين من أهله وبنايه، ولم يتقوا الله فيه حق تقاته؛ فكانت أنكى الفجائع وأفظع الوقائع؛ وساءت القالة وعظم المصاب وكل شيء إلى أجل نافذ وكتاب.

ولمّا تلخصت هذه المقدمة بين يدي نظامه، وتم جميع ما أبرزه البحث والاجتهاد من خير كلامه؛ اخترنا له اسماً يوافقه، ويوضح مشارقه، وهو " البقية والمدارك من شعر أبن زمرك ". أما البقية فلما بقى بعد هلاكه وتخطته الحوادث وشح الهر بإمساكه؛ والمدارك: لأجل ما ترك في مبيضاته، ولم يخرجه في حياته. وهانحن ننظم درره الرائقة ونطلع في مراتب التأليف كل شارقة. فمن ذلك قوله في ذكر الحضرة العلية، وتهنئة مولاه الجد رحمه الله عليه ببعض المواسم العيدية؛ ووصف كرائم من جياده وآثار ملكه وجهاده: يا من يحين إلى نجد وناديها ... غرناطة قد ثوت بجد بواديها قف بالسبيكة وانظر ما بساحتها ... عقيلة والكثيب الفرد جاليها تقلدت بوشاح النهر وابتسمت ... أزهارها وهي حلي في تراقيها وأعين النرجس المطلول يانعة ... ترقرق الطل دمعاً في مآقيها وافتر ثغر أقاحٍ من أزهارها ... مقبلاً خد وردٍ من نواحيها كأنما الزهر في حافاتها سحراً ... دراهم والنسيم اللدن يجيبها وانظر إلى الدوح والأنهار تكنفها ... مثل الندمى سواقيها سواقيها كم حولها من بدور تجتني زهرا ... فتحسبت الزهر قد قبلن أيديها حصباؤها لؤلؤ قد شف جوهره ... والنهر قد سال ذوبا من لآليها

نهر النجم والزهر المطيف به ... زهر النجوم إذا ما شئت تشبيها يزيد حسناً على نهر المجرة قد ... أغناهه در حبابٍ عن دراريها يدعي المنجم رائيه وناظره ... مسميات أبانتها أساميها إنَّ الحجاز مغانيه بأندلسٍ ... ألفاظها طابقت منها معانيها فتلك نجد ساقها كل منسجم ... من الغمام يحييها فيحييها وبارق وعذيب كل مبتسم ... من الثغر يحليها مجليها وإن أردت ترى وادي العقيق فرد ... دموع عشاقها حمراً جواريها وللسبيكة تاج فوق مفرقها ... تود در الدراري لو تحليها كأن حمراءها والله يكلؤها ... ياقوتة فوق ذاك التاج يعليها إنَّ البدور لتيجان مكللة ... جواهر الشيب في أبهى مجاليها لكنها حسدت تاج السبيكة إذ ... رأت أزهاره زهراً يجليها بروجها لبروج الأفق مخجلة ... فشهبها في جمال لا تضاهيها تلك القصور التي راقت مظاهرها ... تهوى النجوم قصوراً عن معاليها لله لله عينا من رأى سحراً ... تلك المنارة قد رقت حواشيها والصبح في الشرق قد قد لاحت بشائره ... والشهب تستن سبقاً في مجاريها تهوى إلى الغرب لمّا هالها سحر ... وغمض الفجر من أجفان واشيها

وساجع العود العود في كف النيم إذا ... ما استوقفت ساجعات الطير يغريها يبدي أفانين سحر في ترنمه ... يصبي العقول بها حسنا ويسبيها يجسه ناعم الأطراف تحسبها ... لآلئا وهي نور في تلاليها مقاتل بلحاظٍ قوس حاجبيها ... ترمي القلوب بها عمداً فتصميها فباكر الروض والأغصان مائلة ... يثني النفوس لها شوقا تثنيها لم يرقص الدوح بالأكمام من طرب ... حتى شدا من قيان الطير شاديها وأسمعتها فنون السحر مبدعة ... ورق الحمام وغناها مغنيها غرناطة آنس الحمن ساكنها ... باحت بسر معانيها أغانيها أعدى نسيمهم لطفا نفوسهم ... فرقة الطبع منه يعديها فخلد الله أيام السرور بها ... صفراً عشيتها بيضاً لياليها وروض المحل منها كل منبجسٍ ... إذا اشتكت بغليل الجدب يرويها يحكي الخليفة كفا كلما وكفت ... بالجود فوق موات الأرض يحيها تغنى العُفاة وقد أمت مكارمه ... عن السؤال بالإحسان تغنيها لها بنان فما غيث يساجلها ... جوداً ولا سحبه يوما تدانيها فإن تصب سحبه بالماء حين همت ... بسجد ولحن صاب هاميها يا أيّها الغيث أنت الغوث في زمن ... ملكوه تلفت لولا تلافيها إنَّ الرعايا جزاك الله صالحة ... ملكت شرقا وغربا من يراعيها

إنَّ الخلائق في الأقطار أجمعها ... سوائم أنت في التحقيق راعيها فكل مصلحة للخلق تحكمها ... وكل صالحة في الدين تنويها إذا تيممت أرضاً وهي مجدبة ... فرحمة الله بالسقيا تحييها يا رحمة بثت الحمى بأندلس ... لولاك زلزلت الدنيا بمن فيها في فضل جودك قد عاشت مشيختها ... في ظل أمنك قد نامت ذراريها في طول عمرك يرجو الله آمالها ... بنصر ملكك يدعو الله داعيها عوائد الله قد عودت أفضلها ... لتبلغ الخلق ما شاءت أمانيها سل السعود وخل البيض مغمدة ... واضرب بها فرية التثليث تفريها لله أيامك الغر التي اطردت ... فيها السعود بما ترضى ويرضيها لله دولتك الغراء إن لها ... لكافلاً من إله العرش يكفيها هيهات أن تبلغ الأعداء مأربة ... في جريها وجنود الله تحميها هذي سيوفك في الأجفان نائمة ... والمشركون سيوف الله تفنيها سريرة لك في الإخلاص قد عرفت ... حسنى عواقبها حتى أعاديها لم تحتجب شهب الآفاق عن بصر ... إلاّ وهديك الأبصار يهديها يا بن الملوك وأبناء الملوك إذا ... تدعو الملوك إلى طوع تلبيها أبناء نصر ملوك عز نصرهم ... وأوسعوا الخلق تنويها وترفيها

هم المصابيح نور الله موقدها ... تضئ للدين والدنيا مشاكيها هم النجوم وأفق الهدى مطلعها ... فوزا لمهديها عزا لهاديها هم البدور كمال ما يفارقها ... هم الشموس ظلام لا يواريها قضت قواضيها أن لا انقضاء لها ... وأمضت الحكم في الأعداء مواضيها وخلدت في صفاح الهند سيرتها ... وأسنت عن عواليها معاليها وأورثتك جهاداً أنت ناصره ... والأجر منك يرضيها ويحظيها كم موقف ترهب الأعداء موقفه ... والخيل تردي ووقع السمر يرديها ثارت عجاجته واليوم محتجب ... والنقع يوثر غما من دياجيها والأسنة شهب كلما غربت ... في الدارعين تجلت من عواليها وللسيوف بريق كلما لمعت ... تزجي الدماء وريح النصر يزجيها أطلعت وجهاً تريك الشمس غرته ... تبارك الله ما شمس تساميها من أين للشمس تطلق كله حكم ... يعيدها كل حين منك مبديها لك الجياد إذا تجري سوابقها ... فللرياح جياد ما تجاريها إذا انبرت يوم سبق في أعنتها ... ترى البروق طلاحاً لا تباريها من أشهب قد بدا صبحا تراع له ... شهب السماء فإنَّ الصبح يخفيها إلاّ التي في لجام منه قيدها ... فإنه سامها عزاً وتنويها أو أشرقت مرعبٍ شقر البرق وقد ... أبقى لها شفقا في الجو تنبيها أو أحمر جمره في الحرب متقد ... يعلو لها شرر من بأس مذكيها

لون العقيق وقد سال العقيق دما ... بعطفه من كماة كرم الله وجهه يدميها أو أدهم مثل صدر الليل تنعله ... أهله فوق وجه الأرض يبديها إن حارث الشهب ليلا في مقلده ... فصبح غرته بالنور يهديها أو اصفر بالعشيات ارتدى مرجاً ... وعرفه بتمادي الليل ينبيها مموهٍ بنضار تاه من عجب ... فليس يعدم تمويها ولا تيها ورُبَّ نهر حسام راق رائقه ... متى ترده نفوس الكفر يرديها تجري الرءوس حباباً فوق صفحته ... وما جرى غير أنَّ البأس يجريها وذابل من دم الكفار مشربة ... يجني الفتوح وكف النصر تجنيها وكم هلال لقوس كلما نبضت ... ترى النجوم رجوما في مراميها أئمة الكفر ما يممت ساحتها ... إلاّ وقد زلزلت قسرا صياصيها يا دولة النصر هل من مبلغ دولاً ... مضين أنك تحييها وتنسيها أو مبلغ سالف الأنصار مالكةً ... والله بالخلد في الفردوس يجزيها أنَّ الخلافة أعلى الله مظهرها ... أبقت لنا شرفاً والله يبقيها يا بن الذين لهم في كل مكرمة ... مفاخر ولسان الدهر يمليها أنصار خير الورى مختار هجرته ... جيران روضته أكرم بأهليها أسمتهم الملة السمحاء تكرمة ... أنصارها وبهم عزت أواليها

ففي حنين وفي بدر وفي أحد ... تلفي مفاخرهم مشهورةً فيها ولتسأل السير المرفوع مسندها ... فعن مواقفهم تروي مغازيها مآثر خلد الحمن أثرتها ... بنصها من كتاب الله قاريها ماذا يجيد بليغ أو ينمقه ... من الكلام ووحي الله تاليها له الجهاد به تسري الرياح إلى ... ممالك الأرض من شتى أقاصيها تحدى الركاب إلى البيت العتيق به ... فمكة عمرت منه نواديها بشائر تسمع الدنيا وساكنها ... إذا دعا باسمك الأعلى مناديها كفى خلافتك الغراء منقيبة ... أنَّ الإله يوالي من يواليها وقد أفاد بنيه الدهر تجربة ... أنَّ السعود تعادي من يعاديها إذا رميت سهام العز صائبة ... فما رميت بل التوفيق راميها شكراً لمن عظمت منا مواهبه ... وإن تعد فليس العد يحصيها عما قريب ترى الأعياد مقبلة ... من الفتوح ووفد النصر حاديها وتبلغ الغلية القصوى بشائرها ... فقد أظلت بما ترضى مباديها فاهنأ بما شئت من صنع تسر به ... وانو الأماني فالأقدار تدنيها مولاي خذها كما شاءت بلاغتها ... ولو تباع لكان الحسن يشريها أرسلتها حيثما الأرواح مرسلة ... نوادرا تنشر البشرى أهاليها جاءت تهنيك عيد الفطر معجبة ... بحسنها ولسان الصدق يطريها البشر في وجهها واليمن في يدها ... والسحر في لفظها والدر في فيها

لو رصع البدر منها تاج نفرقه ... لم يرض در الدرارى أن تحليها فإن تكن بنت فكري وهو أوجدها ... نعماك في حجره كانت تربيها في روض جودك قد طوقني مننا ... طوق الحمام فما سجعي موفيها ولو أعرت لسان الدهر يشكرها ... لكان يقصر عن شكر يوفيها بقيت للدين والدنيا إمام هدى ... مبلغ النفس ما ترجو أمانينا والسعد يجري لغايات تؤملها ... ما دامت الشمس تجري في مجاريها ومن ذلك أيضاً قوله هناء لمولانا الجد رحمه الله بالفتح المغربي للسلطان أبي العباس بن السلطان أبي سالم المريني: هي نفحة هبت من الأنصار ... أهدتك فتح ممالك الأمصار في بشائرها وبشارة الدنيا بها ... مستمتع الأسماع والأبصار هبت على قطر الجهاد فروحت ... أرجاءه بالنفحة المعطار وسرت وأم الله طي برودها ... يهدي البرية صنع لطف الباري مرت بأرواح المنابر فانبرت ... خطباؤها مفتنة الأطيار

حنت معارجها إلى أعشارها ... لمّا سمعن بها حنين عشار لو أنصفتك لكلت أدواتها ... تلك البشائر يانع الأزهار فتح الفتوح أتاك في حلل الرضا ... بعجائب الأزمان والأعصار كم آيةٍ لك في السعود جليلةٍ ... خلدت منها عبرة استبصارها كم حكمة لك في النفوس جليلةٍ ... خفيت مداركها عن الأفكار كم من أمير أم بابك فانثنى ... يدعي الخليفة دعوة الإبكار أعطيت أحمد راية منصورة ... بركاتها تسري من الأنصار أركبته في المنشآت كأنما ... جهزته في وجهة لمزار من كل خافقة الشرع مصفقٍ ... منها الجناح تطير كل مطار ألقت بأيدي الريح فضل عنانها ... فتكاد تسبق لمحة الأبصار مثل الجياد تدافعت وتسابقت ... من طافح الأمواج في مضمار لله منها في المجاز سوابح ... وقفت عليك الفخر وهي جواري لمّا قصدت بها مراسي سبتة ... عطفت على الأسوار عطف سوار لمّا رأت من صبح عزمك غرة ... محفوفة بأشعة الأنوار ورأت حبيبها دونه شمس الضحى ... لبتك بالإجلال والإكبار

فأفضت فيها من نداك مواهبا ... حسنت مواقعها على التكرار وأريت أهل الغرب عزم مغرب ... قد ساعدته غرائب الأقدار وخطبت من فاس الجديدة عقيلة ... لبتك طوع تسرع وبدر ما صدقوا متن الحديث بفتحها ... حتى رأوه في متون شفار وتسمعوا الأخبار باستفتاحها ... والخبر قد يغني عن الأخبار قولوا لقرد في الوزارة غره ... حلم مننت به على مقدار أسكنته من فاس جنة ملكها ... متنعما منها بدار قرار حتى إذا كفر الصنيعة وازدرى ... بحقوقها ألحته بالنار جرعت نجل الكأس كأسا مرةً ... دست إليه الحتف في الإسكار كفر الذي أوليته من نعمة ... لا تأنس النعماء بالكفر فطرحته طرح النواة فلم يفز ... من عز مغريه بغير فرار لم يتفق لخليفة مثل الذي ... أعطى الإله خليفة الأنصار

لم أدر والأيام ذا عجائب ... تردادها يحلوا على التذكار ألواء صبح في ثنيه مشرق ... أم راية في جحفل جرار وشهاب أفق أم سنان لامع ... ينقض نجمها في سماء غبار ومناقب مولى الإمام محمّد ... قد أشرقت أم هن زهر دراري فاق الملوك بهمة علوية ... من دونها نجم السماء الساري لو صافح الكف الخضيب بكفه ... فخرت بنهر للمجرة جاري والشهب تطمع في مطامع أفقها ... لو أحرزت منه منيع جوار سل بالمشارق صبحها عن وجهه ... يفتر منه عن جبين نهار سل بالغمام صوبها عن كفه ... تنبيك عن بحر بها زخار سل بالبوارق صفاحها عن عزمه ... تجبرك عن أمضي شبا وغرار قد أحرز الشيم الخطيرة عندما ... أمطى العزام صهوة الأخطار إن يلق ذو الإجرام صفحة صفحة ... فسح القبول له خطا الأعمار يا من إذا هبت نواسم حمده ... أزرت بعرف الروضه المعطار يا من إذا افترت سباسم بشره ... وهب النفوس وعاش في الإقتدار يا من إذا طلعت شموس سعوده ... تعشى أشعتها قوى الأبصار قسما بوجه في الضياء وإنه ... شمس تمد الشمس بالأنوار

قسما بعزمك في المضاء وإنه ... سيف تجرده يد الأقدار لسماح كفك كلما استوهبته ... بزري بغيث الديمة المدرار لله حضرتك العلية لم تزل ... يلقى الغريب بها عصار التسيار كم من طريد نازح قذفت به ... أيدي النوى في الفقر رهن سفار بلغته ما شاء من آماله ... فسلا عن الأوطان بالأوطار صيرت بالإحسان دارك داره ... متعت بالحسنى وعقبى الدار والخلق تعلم أنك الغوث الذي ... يضفى عليها وافي الأستار كم دعوة لك في المحول مجابة ... أغرت جفون المزن باستعبار جارت مجاري الدمع من قطر الندى ... فرعى الربيع لها حقوق الجار ففأعاد وجه الأرض طلقا مشرقا ... متضاحكا بمباسم النوار يا من مآثره وفضل جهاده ... تحدى القطار بها إلى الأقطار حطت البلاد ومن حوته ثغورها ... وكفى بسعدك حاميا لذمار فلرب بكر للفتوح خطبتها ... بالمشرفية والقنا الخطار وعقيلة للكفر لمّا رعتها ... أخرست من ناقوسها المهذار أذهبت من صفح الوجوه كيانها ... ومحوتها إلاّ من التذكار عمروا بها منات عدن زخرفت ... ثم انثنوا عنها ديار بوار صبحت منها روضة مطلولة ... فأعدتها للحين موقد نار وأسود وجه الكفر من خزى متى ... ما احمر وجه الأبيض البتار

ولرب روض للغنا متأود ... ناب الصهيل به عن الأطيار مهما حكت زهر الأسنة زهره ... حكت السيوف معاطفها الأنهار متوقد لهب الحديد بجوه ... تصلى به الأعداء لفح أوار فبكل ملتفت صقال مشهر ... قداح زند للحفيظة وارى في كف أروع فرق نهد سابح ... متموج الأعطاف في الإحضار من كل منحفز بلمحة بارق ... حمل السلاح به على طيار من أشهب كل الصبح يطلع غرة ... في مستهل العسكر الجرار أو أدهم كالليل إلاّ أنه ... لم يرض بالجوزاء حلي عذار أو أحمر كالجمر يذكى شغله ... وقد ارتمى من بأسه بشرار أو أشقر حلي الجمال أديمة ... وكساه من زهو جلال نضار أو أشعل راق العيون كأنه ... غلس يخالط سدفة بنهار شهب وشقر في الطراد كأنها ... روض تفتح عن شقيق بهار عودتها أن ليس تقرب منهلا ... حتى يخالط بالدم الموار يأيها الملك الذي أيامه ... غرر تلوح بأوجه الأعصار يهني لواءك أن جدك زاحف ... بلواء خير الخلق للكفار لا غر أن فقت الملوك سيادة ... إذ كان جدك سيد الأنصار السابقون الأولون إلى الهدى ... والمصطفون لنضرة المختار

متهللون إذا التنزيل عراهم ... سفروا له عن أوجه الأقمار من كل وضاح الجبين إذا احتبى ... تلقاه معصوبا بتاج فخار قد لاث صبحا فوق بدر بعدما ... لبس المكارم وارتدى بوقار فاسأل ببدر عن مواقف بأسهم فهم تلافوا أمره ببدار لهم العوالي عن معالي فخرها ... نقل الرواة عوالي الأخبار وإذا كتاب الله يتلو حمدهم ... أودى القصور بمنة الأشعار باب الرجل بن الذين إذا تذكروا فخرهم ... فخروا بطيب أرومة ونجار حقا لقد أوضحت من آثارهم ... لمّا أخذت لدينهم بالثار أصبحت وارث مجدهم وفخارهم ... ومشرف الأعصار والأمطار صادرا في الفتح عن ورد المنى ... رد ناجح الإيراد والإصدار وهنأ بفتح جاء يشتمل الرضا ... خذلان يرفل في حلى استبشار وإليكها ملء العيون وسامة ... حيتك بالأكبار من أفكاري تجري حداة العيس طيب حديثها ... يتعللون به على الأكوار إن مسهم لفح الهجير أبلهم ... منه نسيم ثنائك المعطار وتميل من أضغى لها فكأنني ... عاطيته منها كئوس عقار قذفت بحور الفكر منها جوهرا ... لمّا وصفت أناملا ببحار لا زلت للإسلام سترا كلما ... أمّ الحجيج البيت ذا الأستار وبقيت يا بدر الهدى تجري بما ... شاءت علاك سوابق الأقدار انتهى ما تعلق به الغرض من هذا التأليف الملوكي وقد أتيت به بحروفه

من أوله إلى هذا الموضع وتتبعه يطول ولكني أنتقي منه نبذة زائجة على ما سبق من مواضيع شتى فنقول: قال المؤلف رحمه الله: ومن ذلك أثناء وجهه مولانا الجد رحمه الله لتجديد الدولة الأحمدية صدر عام تسعة وثمانين وسبع مائة: هب النسيم على الرياض مع السحر ... فاستيقظت في الدوح أجفان الزهر ورمى القضيب درهما من نوره ... فاعتاض من طل الغمام بها درر نثر الأزهار بعد ما نظم الندى ... يا حسن ما نظم النسيم وما نثر قم هاتها والجو أزهر باسم ... شمسا تحل من الزجاجة في القمر إن شجها بالماء كف مديرها ... ترمي من شهب الحباب بها شرر نارية نورية من ضوئها ... يقد السراج لنا إذا الليل اعتكر لم يبق منها الدهر إلاّ صبغة ... قد أرعشت في الكأس من ضعف الكبر من عهد كسرى لم يفض ختامها ... إذ كان يذخر كنزها فيما ذخر كانت مذاب التبر فيما قد مضى ... فأحالها ذوب اللجين لمن نظر جدد بها عرس الصبوح فإنها ... بكر تحييها الكرام مع البكر وابلل بها ريق الأصيل عشية ... والشمس من رغد الغروب على خطر

محمرة مصفرة قد أظهرت ... خجل المريب يشوبه وجل الحذر من كف شفاف تجسد نوره ... من جوهر لألاء بهجته بهر تهوي البدور كمالها وتود أن ... لو أوتيت منه المحاسن والغرر قد خط عذاره في خده ... قلمان من آس هناك ومن شعر وإلى عليك بها الكئوس وربمنا ... يسقيك من كأس الفتور إذا فتر سكر الندامي من يديه ولحظة ... متعاقب مهما سقى وإذا نظر حيث الهديل مع الهدير تناغيا ... فالطير تشدو في الغصون بلا وتر والقضب مالت للعنان كأنها ... وفد الأحبة قادمين من السفر متلاعبات في الحلي ينوب في ... وجناتها الورد حسنا عن خفر والنرجس المطلول يرنو نحوها ... بلواحظ دمع الندى منها انهمر والنهر مصقول الحسام متى يرد ... درع الغدير مصفقا فيه صدر تجري على الحصباء وهي جواهر ... متكسرا من فوقها مهما عثر هل هذه أم روضة البشرى التي ... فيها لأرباب البصائر معتبر لم أدر من شغف بها وبهذه ... من منها فتن القلوب ومن سحر جاءت بها الأجفان ملء ضلوعها ... ملء الخواطر والمسامع والبصر ومسافر في البحر ملء عنانه ... وافى مع الفتح المبين على قدر قادته نحوك بالخطام كأنه ... جمل يساق إلى القياد وقد نفر وأراه دين الله عزة أهله ... بك يا أعف القادرين إذا قدر

يا فخر أندلس وعصمة أهلها ... للسر في اختصاصك قد ظهر كم معضل من دائها عالجته ... فشفيت منه بالبدار وبالبدر ماذا عسى يصف البليغ خليفة ... والله ما أيامه إلاّ غرر ورثت هذا الفخر يا ملك الهدى ... عن كل من آوى النبي ومن نصر من شاء يعرف فخرهم وكمالهم ... فليتل وحي الله فيهم والسير أبناؤهم أبناء نصر بعدهم ... بسيوفهم دين الإله قد انتصر مولاي سعدك والصباح تشابه ... وكلاهما في الخافقين قد اشتهر هذا وزير الغرب عبد آبق ... لم يلف غيرك في الشدائد من وزر كفر الذي أوليته من نعمة ... والله قد حتم العذاب لمن كفر إن لم يمت بالسيف مات بغيظه ... وصلى سعيرا للتأسف والفكر ركب الفرار مطية ينجو بها ... فجرت به حتى أتقر على سقر وكذا أبو حمو وكان حماسه ... قد حم وهو في الحياة على غرر بلغته والله أكبر شاهد ... ما شاء من وطن يعز ومن وطر حتى إذا جحد الذي أوليته ... لم يبق منه الحادثات ولم تذر في حاله والله أعظم عبرة ... لله عبد في القضاء قد اعتبر فاصبر تنل امثالها في مثله ... إنَّ العواقب في الأمور لمن صبر رد حيث شئت مسوغا ورد المنى ... فالله حسبك في الورود وفي الصدر

لا زلت محروسا بعين كلاءة ... ما دام عين الشمس تعشى من النظر ومنها وقد أضاف إلى ذلك من التغزل طوع بداره وحجة اقتداره فقال: والعود في كف النديم بسر ما ... تلقى لنا منه الأنامل قد جهر غنى عليه الطير وهو بوحه ... والآن غنى فوقه ظبي أغر عود ثوى حجر القضيب رعى له ... أيام كانا في الرياض مع الشجر لاسيما لمّا رأى من ثغره ... زهرا وأين الزهر من تلك الدرر ويظن أن عذاره من آسه ... ويظن تفاح الخدود من الثمر يسبي القلوب بلفظه وبلحظه ... وافتنتي بين التكلم والنظر قد قيدته لأنسنا أوتاره ... كالظبي قيد في الكناس إذا نفر لم يبل قلبي قبل سمع غنائه ... بمعذر سلب العقول وما اعتذر جس القلوب بجسه أوتاره ... حتى كأن قلوبنا بين الوتر نمت لنا ألحانه بجميع ما ... قد أودعت فيه القلوب من الفكر يا صامتا والعود تحت بنانه ... يغنيك نطق الخبر فيه عن الخبر أغنى غناؤك عن مدامك يا ترى ... هل من لحظك أم بنانك ذا السكر باحت أناملك اللدان بكل ما ... كان المتيم في هواه قد ستر ومقاتل ما سل غير لحاظه ... والرمح هز من القوام إذا خطر دانت له منا القلوب بطاعة ... والسيف يملك ربه فيمن قهر ثم قال بعد إيراد جملة من كلامه: وقال شاكرا لنعمة وصلته من مولانا رحمه الله عليه في عاشوراء:

مولاي يا أبن السابقين إلى العلا ... والرافعين لواءها المنشورا إن لحقوا في المعلوات فإنهم ... طلعوا بآفاق العلاء بدورا أو فوخروا في المكرمات فإنهم ... نظموا بأسلاك الفخار شذورا أبناء أنصار النبي وصحبه ... في الذكر أصبح فجرهم مذكورا والمؤثرين وربنا أثنى بها ... في الحشر خلد وصفهم مسطورا فاضت علينا من نداك غمائم ... وتفجرت من راحتيك بحورا من كف شفاف الضياء تخاله ... لصفاء جوهره تجسد نورا منوعة تعدد وفرها ... أعجزت عنها شكرى الموفورا في موسم للدين قد جددته ... وأقمت فينا عيده المشهورا أضعاف ما أهديتنا من منة ... تهدي إليك ثوابها عاشورا وعلى الطريق بشائر محمودة ... ألقاك جذلانا بها مسرورا ثم قال: ومن لفظه في وصف القرنفل الصعب الاجتناء بجل الفتح وقد وقع له مولانا الغني بالله بذلك فارتجل قطعا منها: أتوني بنوار يروق نضارة ... كخد الذي أهوى وطيب تنفسه وجاءوا به من شاهق متمنع ... تمنع ذلك الظبي في ظل مسكنه رعى المنى عاشقا متقنعا ... بزهر حكى في الحسن خد مؤنسه

وأن هب خفاق النسيم بنفحة ... حكت عرفه طيباً قضى يتأنسه ومنها: رعى الله زهراً ينتمي لقرنفل ... حكى عرف من الهوى وإشراق خده ومنبته في شاهق متمنع ... كما امتنع المحبوب في صده أميل إذا الأغصان مالت بروضة ... أعناق منها القضب شوقاً لقده وأهوف لخفاق النسيم إذا سرى ... وأهوج أريج الطيب من عرف نده ومنها: يقر بعيني أنَّ أرى الزهر يانعاً ... وقد نازع المحبوب في الحسن وصفه وما أبصرت عيني كزهر قرنفل ... حكى خد من يسبي الفؤاد وعرفه تمنع في أعلى الهضاب لمجتنٍ ... تمنعه منى إذا رمت إلفه وفي جبل الفتح اجتنوه تفاؤلا ... بفتح لباب الوصل يمنح عطفه وما ضر ذلك الغصن وهو مرنح ... إذا ما ثنى نحو التميم عطفه ثم قال: ومن قصائده التي يود الصباح سناها، والنسيم اللدن رقه معناها يهني مولانا الجد رضي الله عنه، عند وصول خالصة مقامه، وكبير خدامه، القائد خالد، رحمه الله تعالى، من تلمسان بالهداية، وتجديد المقاصد للوديه، ووفاق استئناف راحة من الذات العليه، ومن فروع دوحتها الزكيه: أدرها ثلاثا من لحاظك وأحبس ... فقد غال منها الشكر أبناء مجلس إذا ما نهاني في الشيب عن أكؤس الطلا ... تدير عليَّ الخمر منها بأكؤس عذيري من لحظ ضعيف وقد غدا ... يحكم منا في جسوم وانفس

وروض شباب ماس قوامه ... وفتح فيه للحظ أزهار نرجس وما زال ورد الخد وهو مضعف ... يعير أقاح الثغر طيب تنفس وكم جال طرف في روض حسنه ... يقيده فيه العذار بسندس أما وليالي الوصل الصبا ... ومألف أحبابي وعهد تأنسي لئن نسيت تلك العهود أحبتي ... فقلبي عهود العامرية ما نسي وحاشا لنفسي بعد ما أفتر فودها ... من الشيب عن صبح به متنفس وألبسها ثوب الوقار خليفة ... به لبس الإسلام أشرف ملبس وجدد للفتح المبين مواسما ... أقام بها الإيمان أفراح معرس وأورثته العلياء كل خليفةٍ ... نماه إلى الأنصار كل مقدس فيا زاجر الأظعان وهي ضوامر ... بغير الفلا والوحش لم تتأنس إذا جئت من دار الغنى بربة ... مناخ العلا والعز فانزل وعرس فإنَّ شئت من بحر السماحة فاغترف ... وإنَّ شئت من نور الهداية فاقبس أمولاي والي السهد منك ولاية ... أنارت بها الأكوان جذوة مقبس إذا شئت إنَّ ترمي القضى من المنى ... تدور لك الأفلاك مرفوعة القسى فترمى بسهم من سعودك صائب ... سديدً لأغراض الأماني مقرطس أهنيك بالأبلال ممن شفاؤه ... شفاؤك فاسكر من تلاقي وقدس ودعني أرد يمناك فهي غمامة ... تبخل صوب المعارض المتبجس

أقبل منها راحة إثر راحةٍ ... أتتك بها الركبان من بيت مقدس ومن نسب الفتح المبين ولادة ... إليه بغير الفخر لم يتأسس فيأيها المولى الذي بكماله ... خلائف ذلك العصر في الفخر تأتسي لآمنت موسى من عوادي سمية ... ولولاك لم يبرح بخفية موجس بعثت بميمون النقيبة، في اسمه ... خلود لعز ثابت متأسس فجاءك بالمال العريض هدية ... بها الدين أثواب المسرة يكتسي وشفعها بالصافنات كأنها ... وقد راق مرآها جآذر مكنس تنص من الإشراف جيد غزالة ... وترنو من الإيجاس عن لحظ أشوس لك الخير، موسى كلاهما ... بغير شعار الود لم يتلبس فلا زلت في ظل النعيم وكل من ... يعاديك لا ينفعك يشقي بأبؤس عليك سلام مثل حمدك عاطرا ... تنفس وجه الصبح عنه بمعطس ثم قال بعد ذكر كثير من نظمه وبعض ميلاداته: وأنشد في مولد عام خمسة وستين: لعل الصبا إنَّ صافحت روض نعمان ... تؤدى أمان القلب عن ظبية ألبان وماذا على الأرواح وهي طليقة ... لو احتملت أنفاسها جاجة العاني وما حال من يستودع الريح سره ... ويطلبها وهي النموم بكتمان وكالطيف استقريه في سنة الكرى ... وهل تنقح الأحلام غلة ظمآن

أسائل عن نجد ومرمى صبابتي ... ملاعب غزلان الصريم بنعمان وأبدى إذا ريح الشمال تنفست ... شمائل مرتاح المعاطف نشوان عرفت بهذا الحب لم أدر سلوة ... وإني لمسلوب الفؤاد بسلوان فيا صاحبي نجواي والحب غاية ... فمن سابق جلى مداه ومن واني وراءكم ما اللوم يثني مقادتي ... فإني عن شأن الملامة في شأن وإني وإنَّ كنت الأبي قياده ... ليأمرني حب الحسان وينهاني ولا زلت أرعى العهد فيمن يضيعه ... وأذكر إلفي ما حييت وينساني فلا تنكر ما سامني مضض الهوى ... قمن قبل قد أود بقيس وغيلان لي الله إما أومض البرق في الدجى ... أقلب تحت الليل مقلة وسنان وإنَّ من غمد الغمام حسامه ... بري كبدي الشوق الملم وأضناني تراءى بأعلام الثنية باسماً ... فأذكرني العهد القديم وأبكاني أسامر نجم الأفق حتى كأننا ... وقد سدل الليل الرواق حليفان ومما أناجي الأفق أعديه بالجوى ... فأرعى له سرح النجوم ويرعاني ويرسل صوب القطر من فيض أدمعي ... ويقدح البرق من نار أشجاني وضاعف وجدي رسم دار عهدتها ... مطالع شهب أو مراتع غزلان على حين شرب الوصل غير مصرد ... وصفوف الليالي لم يكدر بهجران لئن كدرت عيني الطلول فإنها ... تمت إلى قلبي بذكر وعرفان ولم أر مثل الدمع في عرصاتها ... سقى تربها حين استهل وأظماني ومما شجاني أنَّ سرى الركب موهناً ... تقاد به هوج الرياح بأرسان غوارب في بحر السراب تخالها ... وقد سبحت فيه مواخر غربان

على كل نضو مثله فكأنما ... رمى منهما صدر المفازة سهمان ومن زاجر كوماء مخطفة الحشى ... توسد منها فوق عوجاء مرنان نشاوي غرام يستميل رءوسهم ... من النوم والشوق المبرح سكران أجابوا نداء البين طوع غرامهم ... وقد تبلغ الأوطار فوقة أوطان يؤمنون من قبر الشفيع مثابة ... تطلع منها جنة ذات أفنان إذا نزلوا من طيبة بجواره ... فأكرم مولى ضم أكرم ضيفان بحيث علا الإيمان وامتد ظله ... وزان حلي التوحيد تعطيل أوثان مطالع آيات مثابة رحمةٍ ... معاهد أملاك مظاهر إيمان هنالك تصفو للقبول موارد ... يسقون منها فضل عفو وغفران هناك تؤدي للسلام أمانة ... يحيهم عنها بروح وريحان يناجون عن قربٍ شفيعهم الذي ... يؤمله القاصي من الخلق والداني لئن بلغوا دوني وخلفت أنّه ... قضاء جرى من مالك الأمر ديان وكم عزمةٍ منيت نفسي صرفها ... وقد عرفت مني مواعد ليان إلى الله نشكوها نفوسا أبية ... تحيد عن الباقي وتغتر بالفاني ألا ليت شعري هل تساعدني المنى ... فأترك أهلي في رضاه وجيراني وأقضي لبنات الفؤاد بأن أرى ... أعفر خدي في ثراه وأجفاني إليك رسول الله دعوة نازحٍ ... خفوق الحشى رهن المطامع هيمان غريب بأقصى الغرب قيد خطوه ... شباب تقضى في مراح وخسران

يجد اشتياقا للعقيق وبانه ... ويصبو إليها ما استجد الجديدان وإنَّ أومض البرق الحجازي موهنا ... يردد في الظلماء أنّه لهفان فيا مولي الرحمي ويا مذهب العمى ... ويا منجد الفرقي ويا منقذ العاني بسط يد المحتاج يا خير راحم ... وذنبي ألجأني إلى موقف الجاني وسيلتي العظمى شفاعتك التي ... يلوذ بها عيسى وموسى بن عمران فأنت حبيب الله خاتم رسله ... وأكرم مخصوص بزلفي ورضوان وحسبك أنَّ سماك أسماءه العلا ... وذاك كمال لا يشاب بنقصان وأنت لهذا الكون علة كونه ... ولولاك ما امتاز الوجود بأكوان ولولاك للأفلاك لم تجل نيراً ... ولا قلدت لباتهن بشهبان خلاصة صفو المجد من آل هاشم ... ونكته سر الفخر من آل عدنان وسيد هذا الخلق من نسل آدمٍ ... وأكرم مبعوث إلى الإنس والجان وكم آية أطلعت في أفق الهدى ... يبين صباح الرشد فيها ليقظان وما الشمس بحلوها النهار لمبصر ... بأجلى ظهوراً أو بأوضح برهان وأكرم بآيات تحديتها بها ... ولا مثل آيات لمحكم فرقان وماذا عسى يثني وقد أتى ... ثناؤك في وحي قديم وقرآن فصلى عليك الله ما انسكب الحيا ... وما سجعت ورقاء في غصن ألبان

وأيد مولانا أبن نصر فإنه ... لأشرف من ينمي لملك وسلطان أقام كما يرضيك مولدك الذي ... به سفر الإسلام عن وجه جذلان سمي رسول الله ناصر دينه ... معظمه في حال سر وإعلان ووارث سر المجد آل خزرج ... وأكرم من تنمي قبائل قحطان ومراسلها ملء الفضاء كتائباً ... تدين لها الملوك بإذعان حدائق خضر والدروع غدائر ... وما أنبت إلاّ ذوابل مران تجاوب فيها الصاهلات وترتمي ... جوانبها بالأسد من فوق عقبان فمن كل خوار العنان قد أرتمى به كل مظعام العشيات مطعان ومورد ظمآي الكعوب ذوبلا ... ومصدرها من كل أملد ريان ولله منها والربوع مواحل ... غمام ندى كفت به المحل كفان إذا أخلفت الناس الغمام وأمحلوا ... فإن نداه والغمام لسيان إمام أعاد الملك بعد ذهابه ... إعادة لأنابي الحسام ولا واني فغادر أطلال الضلال دوارساً ... وجدد للإسلام ارفع بنيان وشيدها والمجد يشهد دولةً ... محافلها تزهى بيمن وإيمان وراق من الثغر الغريب ابتسامة ... وهز له الإسلام أعطاف مزدان لك الخير ما أسنى شمائله التي ... يقصر عن إدراكها كل إنسان ذكاء إياس في سماحة حاتم ... وإقدام عمرو في بلاغة سبحان أمولاي ما أنسى مناقبك التي ... هي الشهب لا تحصى بعد وسبحان فلا زلت يا غوث البلاد وأهلها ... مبلغ أوطار ممهد أوطان ثم قال بعد سرد ميلادية، وانشد ذلك في مولد سنة سبع وستين وسبع مائة وألم في أخرياتها بوصف المشور الأسنى، الرفيع المبنى:

زار الحيال بأيمن الزوراء ... فجلا سناه غياهب الظلماء وسرى مع النسمات يحسب ذيله ... فأتت تنم بعنبر وكباء هذا وما شيء ألذ من المنى ... إلاّ زيارته مع الإعفاء بتنا خيالين التحقا بالضنى ... ما نخشى من الرقباء حتى أفاق الصبح من غمراته ... وتجاذبت أيدي النسيم ردائي يا سائلي عن سر من أحببته ... السر عندي ميت الأحياء تالله ما أشكو المحبة والهوى ... لسوى الأحبة أو أموت بدائي يا زين قلبي لست أبرح عانياً ... أرضى بسقمي في الهوى وعنائي أبكى وما غير النجيع مدامعي ... أذكى ولا ضرم سوى أحشائي أهفو إذا تهفو البروق وأنثني ... لسرى النواسم من ربا تيماء بالله يا نفس الحمى رفقا بمن ... أغريته يتنفس الصعداء عجبا له يندى على كبدي وقد ... أذكى بقلبي جمرة البرحاء يا ساكني البطحاء أي لبانةٍ ... لي عندكم يا ساكني البطحاء أترى النوى يوما تخيب قداحها ... ويفوز منكم بلقاء في حيكم قمر فؤادي أفقه ... تفديه نفسي من قريب نائي لم تنسني الأيام يوم وداعه ... والركب قد أوفى على الزوار أبكى ويبسم والمحاسن تنجلي ... فعلقت بين تبسم وبكاء يا نظرة جادت بها أيدي النوى ... حتى استهلت ادمعي بدماء

من لي بثانية تنادي بالأسى: ... " قدك اتئد أسرفت في الغلواء " ولرب ليل بالوصال قطعه ... أجلو دجاء بأوجه الندماء أنسيت فيه القلب عادة حلمه ... وحثثت فيه أكوس السراء وجريت في طلق التصابي جامحا ... لا أنثني لمقادة النصحاء أطوبي شبابي للمشيب مراحلا ... برواحل الإصباح والإمساء يا ليت شعري هل أرى أطوبا إلى ... قبر الرسول صحائف البيداء فتطيب في تلك الربوع مدائحي ... ويطول في ذلك المقام ثوائي حيث النبوة نورها متألق ... كالشمس تزهى في سنى وسناء حيث الرسالة في ثنية قدسها ... وفعت لهدى الخلق خير لواء حيث الضريح أكرم مرسل ... فخر الجود وشافع الشفعاء المصطفى والمرتضى والمجتبي ... والمتقي من عنصر العلياء خير البرية مجتباها ذخرها ... ظل الإله الوارف الأفياء تاج الرسالة ختمها وقوامها ... وعمادها السامي على النظراء لولاه للأفلاك ما لاحت بها ... شهب تنير دياجي الظلماء ذو المعجزات الغر والآي التي ... أكبرن عن عدٍ وعن إحصاء وكفاك رد الشمس بعد غروبها ... وكفاك ما قد جاء في الإسراء والبدر شق له وكم من آيةٍ ... كأنامل جادت ينبع الماء وبليلة الميلاد كم من رحمة ... نشر الإله بها ون نعماء قد بشر الرسل الكرام ببعثه ... وتقدم الكهان بالأنباء

أكرم بها بشرى على قدرٍ سرت ... في الكون كالأرواح في الأعضاء أمسى بها الإسلام يشرق نوره ... والكفر أصبح فاحم الأرجاء هو آيه الله التي نورها ... تجلو ظلام الشك أي جلاء والشمس لا تخفي مزية فضلها ... إلاّ على ذي المقله العمياء يا مصطفى والكون لم تعلق به ... من بعد أيدي الخلق والإنشاء يا مظهر الحق الجلى ومطلع النور السنى السافر الأضواء يا ملجأ الخلق المشفع فيهم ... يا رحمة الأموات والأحياء يا آسي المرضى ومنتجع الرضا ... ومؤاسي الأيتام والضعفاء أشكو إليك وأنت خير مؤمل ... داء الذنوب وفي يديك دوائي إني مددت يدي إليك تضرعا ... حاشى وكلا أنَّ يخيب رجائي إنَّ كنت لم أخلص إليك فإنما ... خلصت إليك محبتي وندائي وبسعد مولاي الإمام محمّد ... تعد الأماني أنَّ يتاح لقائي ظل الإله على البلاد وأهلها ... فخر الملوك السادة الخلفاء غوث العباد وليث مشتجر القنا ... يوم الطعان وفارج الغماء كالدهر في سطواته وسماحه ... تجري صباه يزعزع ورخاء رقيت سجاياه وراقت مجتلى ... كالنهر وسط الروضة الفيحاء كالزهر في إيراقه والبدر في ... إشراقه والزهر في اللألاء يا أبن الآلي إجمالهم وجمالهم ... فلق الصباح وواكف الأنواء

أنصار دين الله حزب رسوله ... والسابقين بحلبة العلياء يا بن الخلائف من بني نصر ومن حاطوا ذمار الملة السمحاء من كل من تقف الملوك ببابه ... يستمطرون سحائب النعماء قوم إذا قادوا الجيوش إلى الوغى ... فالرعب رائدهم إلى الأعداء العز مجلوب بكل كتيبة ... والنصر معقود بكل لواء يا وارثا عنها مناقبها التي ... تسمو مراقيها على الجوزاء يا فخر أندلس وعصمة أهلها ... يجزيك عنها الله خير جزاء كم خضت طوع صلاحها من مهمة ... لا تهتدي فيه القطا للماء تهدي بها حادي السرى بعزائم ... تهدي نجوم الأفق فضل ضياء يا رافع لواء الفخر غير مدافع ... واسحب ذيول العزة القسعاء يا هنا بمبناك السعيد فإنه ... كهف ليوم مشورة وعطاء منه هالة قد أصبحت ... حرم العفاة ومصرع الأعداء تقاتبها طير الرجاء فتجتني ... ثمر المنى من دوحة الآلاء منه قبة مرفوعة ... دون السماء تفوت لحظ الرائي راقت بدائع وشيها فكأنها ... وشى الربيع بمسقط الأنداء علمت ميلاد النبي محمّد ... وشفعته بالليلة الغراء أحييت ليلك ساهرا فأفدتنا ... قوت القلوب بذلك الإحياء يا أيها الملك الهمام المجتبى ... فاتت علاك مدارك العقلاء من لي بأن أحصي مناقبك التي ... ضاقت بهن مذاهب الفصحاء

وإليك مني روضة مطلولة ... أرجت أزهارها بطيب ثناء فافسح لها أكناف صفحك إنها ... بكر أتت تمشي على استحياء قال: وأنشد من ذلك في مولد عام ثمانية وستين وقد كان مولانا رضي الله عنه أبي أن يرسل العنان في مدح مقامه مبالغة في توقير جانب المصطفى صلى الله عليه وسلم وإعظامه فلهذا القصد الأدبي الكريم أتى من المدح السلطاني في آخرها الملتمح القريب واكتفى من القلادة بما أحاط بالترتيب ومدّ القول في ذكر الرسول وعجائب مجده حسبما اقتضاه الاختيار من مولانا كافأ الله جميل قصده آمين: هذا الصباح صباح الشيب قد وضحا ... سرعان ما كان ليلا فاستنار ضحى للدهر لونان من نور ومن غسق ... هذا يعاقب هذا كلما برحا ونلك صبغته أعدى بينه بها ... إذا تراخى مجال العمر وانفسحا ما ينكر المرء من نور جلا غسقا ... ما لم يكن لأماني النفس مطرحا إذا رأيت بروق الشيب قد بسمت ... بمفرق فمحيا العيش قد كلحا يلقى المشيب بإجلال وتكرمة ... من قد أعد من الأعمال ما صلحا أما ومثلي لم يبرح بعلله ... من النسيم عليل كلما نفحا والبرق ما لاح في الظلماء مبتسما ... من جانب السفح إلاّ دمعه سفحا فما له بقريب الشيب من قبل ... من بعد ما لام في شأن الهوى ولحا

يأبى وفائي أن أصغي للأئمة ... وأن أطيع عذولي غش أو نصحا يأهل نجد سقي الوسمي ربعكم ... غيثا ينيل غليل الترب ما اقترحا ما للفؤاد إذا هبت يمانية ... تهديه أنفاسها الأشجان والبرحا يا حبذا نسمة من أرضكم نفحت ... وحبذا ربرب من جوكم سنحا يا جيرة تعرف الأحياء جودهم ... ما ضر من ضن بالإحسان لو سمحا ما شملت بارقة من جو كاظمة ... إلاّ وبت لزند الشوق مقتدحا في ذمة الله قلبي ما أعلله ... بالقرب إلاّ وعاد القرب منتزحا كم ليلة والدجى راعت جوانبها ... قلب الجبان فما ينفك مطرحا سريتها ونجوم الأفق فيه طفت ... جواهرا وعباب الليل قد طفحا بسابح اهتدى ليلا بغرته ... والبدر في لجو الظلماء قد سبحا والسحب تنثر در الدمع من فرق ... والجو يخلع من برق الدجى وشحا ما طالبت همتي دهري بمعلوة ... إلاّ بلغت من الأيام مقترحا ولا أدرت كئوس العزم مغتبقا ... إلاّ أدرت كئوس العز مصطبحا هذا وكل الذي نلت من أمل ... مثل الخيال تراءى ثمت انتزحا كم يكدح المرء لا يدري منيته ... أليس كان امرئ يجزى بما كدحا وارحمتا أيامنا ضاع أطيبه ... فما فرحت به قد عاد لي ترعا أليس أيامنا اللائى سلفنا لنا ... منزلا أعلمت فيها الخطا مرحا

إنا إلى الله ما أولى المتاب بنا ... لو أن قلبا إلى التوفيق قد جنحا الحق أبلج والمنجاة عن كئب ... والأمر لله والعقبى لمن صلحا يا ويح نفس توانت عن مراشدها ... وطرفها في عنان الغي قد جمحا نرجو الخلاص ولم تنهج مسالكها ... من باع رشدا بغي قلما ريحا يا رب صفحك يرجو كل مقترف ... فأنت أكرم من يغفو ومن صفحا يا رب لا سبب أرجو الخلاص به ... إلاّ الرسول ولطفا منك إن نفحا فما لجأت له في دفع معضلة ... إلاّ وجدت جناب اللطف منفسحا ولا تضايق أمر فاستجرت به ... إلاّ تفرج باب الضيق وافتحا يا هل تبلغني مثواه ناجية ... تطوي بي القفر مهما امتد وانفسحا حيث الربوع بنور الوحي آهلة ... من حلها احتسب الآمال مقترحا حيث الرسالة تجلو من عجائبها ... من الجمال بنور الله متضحا حيث النبوة تتلو من غرائبها ... ذكر يغادر صدر الدين منشرحا حيث الضريح بما قد ضم من كرم ... قد بذلك في الفجر من ساد ومن نجحا يا حبذا بلدة كان النبي بها ... يلقي الملائك فيها آية سرحا يا دار هجرته يا أفق مطلعه ... لي فيك بدر بغير الفكر ما لمحا من هاشم في سماء العز مطلعة ... أكرم به نسبا بالعز متشحا من آل عدنان في الأشراف من مضر ... من محتد تطمح العلياء إن طمحا من عهد آدم ما زالت أوامره ... تسام بالمجد من آبائه الصرحا

عناية سبقت قبل الوجود له ... والله لو ووزنت بالكون ما رجحا يا مصطفى وكمام الكون ما فتقت ... يا محبتي وزناد النور ما قدحا لولاك ما أشرقة شمس ولا قمر ... لولاك ما راقت الأفلاك ملتمحا صدعت بالنور تجلو كل داجية ... حتى نهج الحق واتضحا يا فاتح الرسل لو يا خاتمها شرفا ... بوركت مختتما قدست مفتتحا دنوت للخلق بالألطاف تمنحا ... والقلب في العالم العلوي ما برحا كالشمس في الأفق الأعلى مجرتها ... والنور إلى الأبصار قد وضحا كم آية لرول الله معجزة ... نكل عن منتهاها ألسن لفصحا إن ردت الشمس من بعد الغروب له ... قد ظللته غمام الجو حيث نحا يا نعمة عظمت في الخلق منها ... ورحمة تشمل الغادرين والروحا الله أعطاك ما لم يؤته أحد ... والله أكرم من أعطى ومن منحا حبيبه مصطفاه مجتباه وفي ... هذا بلاغ لمن حلاك ممتدحا أثنى عليك كتاب الله ممتدحا ... فأين يبلغ في علياك من مدحا قد أبعدتني ذنوبي عنك يا أملي ... فجهدي اليوم أن أهدي لك المدحا لعل رحماك والأقدار سابقة ... تدنى محبا بأقصى الغرب منتزحا نفس شعاع وقلب خان أضلعه ... مما يعاني من الأشواق قد برحا إذا البروق أضاءت والغمام همت ... فزفرتي إذ كيت أو مدمعي سفحا لم لا أحن وهذا الجذع حن له ... لمّا تباعد عن لقياه وانتزحا كم ذا التعلل والأيام تمطلنا ... كأنها لم تجد عنك منتدحا ما أقدر الله أن يدنى على شحط ... وأن يقرب بعد البين من نزحا

يا سيد الرسل يا نعم الشفيع إذا ... طال الوقوف وحر الشمس قد لفحا أنت المشفع الأبصار شاخصة ... أنت الغياث وهو الخطب قد فدحا جاش العلا وجميل الظن يشفع لي ... أن يخفق السعي مني يعد ما نجحا غساك يا خير من ترجى وسائله ... تنجي غريقا ببحر الذنب قد سبحا ما زال معترفا بالذنب معتذرا ... لمل حبك يمحو كل ما اجترحا عسى البشر غداء الروح يسمعني ... بشرى تعود لي البؤسى بها فرحا لا تيأسن فإن الله ذو كرم ... وحبك العاقب الماحي الذنوب محا صلى الإله على المختار صفوته ... ما العارض انهل أو ما البارق التمحا وأيد الله مولانا بعصمته ... بأي باب إلى العلياء قد فتحا وهنأ الدين والدنيا على ملك ... لسعده الطائر الميمون قد سنحا أنا الضمين لمكحول بغرته ... ألا ترى عينه بؤسا ولا ترحا مولاي خذها كما شاءت بلاغتها ... غراء لم تعدم الأحجال والقزحا كأن سرب قوافيها إذا سنحت ... طير على فنن الإحسان قد صدحا قال: ومن إعذارياته المحكمة نسقا ورصفا المتناهية في كل فن حسن تحلية غريبة وصفا حسبما اقتضاه ملاحظة النسبة الرفيعة لصناع مولانا رحمه الله واحتفاله المناسب لعز ملكه من تعميم الخلق بالجفلى في دعواهم واستدعاء أشرف الأمم من أهل المغرب وسواهم تقننا في مكارم متعدد أيامها على أصالة المجد معربة وإغراء لهم الملك بما يتم الأمن من أوضاع مغربة ومباهاة بعرض الجيوش للعدو الكافر ومكاثر من مماليك دولته

بالعدد الوافر مما ألجم اللسن الذكي عيا وغادر الإعذار الذنوني منسيا كافأ الله أبوته المولوية عنا وعن آبائنا وتلقى بالقبول الكفيل بتحديد الرضوان ما نصل إليه من خالص دعائنا أنّه منعم جواد قوله في الصنيع المخلص من ذلك بمولانا الوالد قدس الله روحه وذلك سنة أربع وستين وسبع مائة: معاذ الهوى أن أصحب القلب ساليا ... وأن يشغل اللوم بالعذل باليا دعاني أعط الحب فضل مقادتي ... يقضي على الوجد ما كان قاضيا ودون الذي رام العواذل صبوة ... رمت بي في شعب الغرام المراميا وقلب إذا ما البرق أومض موهنا ... قدحت به زندا من الشوق واريا خليلي إني اليوم طارقة النوى ... شقيت بمن لو شاء أنعم باليا وبالخيف يوم النفر يا أم مالك ... تخلفت قلبي في حبالك عانيا وذو أشر عذب المنايا مخصر ... يسقي به ماء النعيم الأقاحيا أحوم عليه مادجا الليل ساهرا ... وأصبح دون الورد ظمآن صاديا يمضي ظلام الليل ما بين أضلعي ... إذا البارق النجدي وهنا بدا ليا أجيرتنا بالرمل والرمل منزل ... مضى العيش فيه بالشبيبة حاليا ولم أر ربعا منه أقضى لبانة ... وأشجى حمامات وأحلى مجانيا سقت ظله الغر الغوادي ونظمت ... من القطر في جيد الغصون لآليا أبثكم أي على النأي حافظ ... ذمام الهوى لو تحفظون ذماميا أناشدكم والحر أوفى بعهده ... ولن يعدم الإحسان والخير جازيا

هل الود إلاّ ما تحاماه كاشح ... وأخفق في مسعاه من جاء واشيا تأوبنى والليل يذكى عيونه ... ويسحب من ذيل الدجنة ضافيا وقد مثلت زهر النجوم بأفقها ... حبابا على نهر المجرة طافيا خيال على بعد المزار ألم بي ... فأدركني من لم أكن عنه ساليا عجبت له كيف اهتدى نحو مضجعي ... ولم يقول مني السقم والشوق باقيا رفعت له نار الصبابة فاهتدى ... وخاض لها عرض الدجنة ساريا ومما أجد الوجد سرب على النقي ... سوانح يصقلن الطلى والتراقيا نزعن عن الألحاظ كل مسدد ... فغادرن أفلاذ القلوب دواميا ولمّا تراءى السرب قلت لصاحبي ... وأيقنت أنَّ الحب ما عشت دائيا حذارك من سقم الجفون فإنه ... سيعدي بما يعيى الطبيب المداويا وإنَّ أمير المسلمين محمّدا ... ليعدى نداه الساريات الهواميا تضئ النجوم الزاهرات خلاله ... وينفث في روح الزمان المعاليا معال إذا ما النجم صوب طالبا ... مبالغها في العز خلف وانيا يسابق علوي الرياح إلى الندى ... وتفضح جدوي راحتيه الغواديا ويغضي عن العوراء إغضاء قادر ... ويرجح في الحلم الجبال الرواسيا هما يروع الأسد في حومة الوغى ... كما راعت الأسد الظباء الجوازيا مناقب تسمو للفخار كأنما ... تجري إلى المجد النجوم الجواريا إذا استبق الأملاك يوما لغاية ... ابيت وذاك المجد إلاّ التناهيا بهرت فأخفيت الملوك وذكرهم ... ولا عجب فالشمس تخفى الدرايا جلوت ظلام الظلم من كل معتد ... ولا عرو أن تجلو البدور الدياجيا

هديت سبيل الله من ضل رشده ... لا زلت مهديا إليها وهاديا أفدت وحتى الملك مما أفدته ... وطوقت أشراف الملوك الأياديا وقد عرفت منها مرين سوابقا ... تقر لها بالفضل أخرى اللياليا وكان أبو زيان جيدا معطلا ... فزينته حتى اغتدى بك حاليا لك الخير لم تقصد بما قد أفديته ... جزاء ولكن همة هي ما هيا فما تكبر الأملاك غيرك آمرا ... ولا ترهب الأشراف غيرك ناهيا ولا تشكي الأيام من داء فتنة ... فقد عرفت منك الطبيب المداويا أندلس أوليت ما أنت أهله ... وأوريتها وردا من الأمن صافيا تلافيت هذا الثغر وهو على شفى ... وأصبحت من داء الحوادث شافيا ومن بعد ما ساءت ظنون بأهلها ... وحاموا على ورد الأماني صواديا فما يأملون العيش إلاّ تعللا ... ولا يعرفون الأمن إلاّ أمانيا عطفت على الأيام عطف راحم ... وألبستها ثوب امتنانك ضافيا فآنس من تلقائك الملك رشده ... ونال بك الإسلام ما كان راجيا وقفت على الإسلام نفسا كريمة ... تصد عدوا عن حماه وعاديا فرأى كما انشق الصباح وعزمة ... كما صقل القين الحسام اليمانيا وكانت رماح الخط خمصا ذوابلا ... فأنهلت منها في الدماء صواديا وأوردت صفح السيف أبيض ناصعا ... فأصدرته في الروع أحمر قانيا لك العزم تستجلي الخطوب بهديه ... ويلفى إذا تنبو الصوارم ماضيا إذا أنت لم تفخر بما أنت أهله ... فما الصبح وضاح المشارق عاليا ويهنيك دون العيد شرعته ... تبث به في الخالقين التهانيا

أقمت به من فطرة الدين سنة ... وجددت من رسم الهداية عافيا صنيع تولى الله تشييد فخره ... وكان لمّا أوليت فيه مجازيا تود النجوم الزهر لو مثلت به ... وقضت من الزلفى إليك الأمانيا وما زال وجه اليوم بالشمس مشرقا ... سرورا به والليل بالشهب حاليا على مثله فليعقد الفخر تاجه ... ويسمو به فوق النجوم مراقيا به يعمر الأنداء كل مفوه ... ويحدو به من بات بالفقر ساريا ويوسف فيه بالجمال مقنع ... كأن له من كل قلب مناجيا وأقبل قد شاب الحيا مهابة ... ويقلب وجه البدر أزهر باهيا وأقدم لا هيابة الحفل واجما ... ولا قاصرا فيه الخطا متوانيا شمائل فيه من أبيه وجده ... ترى العز فيها مستكنا وباديا فيا علقا أشجى القلوب لو أننا ... فديناك بالأعلاق ما كنت غاليا جريت فأجريت الدموع تعطفا ... وأطلعت فيها للسرور فواشيا وكم من ولي ددون بابك مخلص ... يفديه بالنفس النفيسة واقيا وصيد من الحيين أبناء قيلة ... تكف العوادي أو تبيد الأعاديا بهاليل غر إن أعدوا لغارة ... أعادوا صباح الحي أظلم داجيا فو الله لولا أن توخيت سنة ... رضيت بها أن كان ربك راضيا لكانت بها للأعوجيات جولة ... تشيب من الغلب الشباب النواصيا

وتترك أوصال الوشيج مقصدا ... وبيض الظبي حمر المتون دواميا ولمّا قضى من سنة الله ما قضى ... وقد حسدت منه النجوم المساعيا أفضنا نهنى منك أكرم منعم ... أبى لعيم الجود إلاّ تواليا فيهني صفاح الهند والبأس والندى ... وسمر العوالي والعتاق المذاكيا ويهني البنود الخافقات فإنها ... سيعقدها في ذمة النصر غازيا كأني به يشفى الصوارم والظبي ... ويحطم في لأم الضلال العواليا كأني به قد توج الملك يافعا ... وجمع أشتات المكارم ناشيا وقضى حقوق الفخر في ميعة الصبا ... وأحسن من دين الكمال التقاضيا ما هو إلاّ السعد إن رمت مطلعا ... وسددت سهما كان ربك راميا فلا زلت يا فخر الخلافة كافلا ... ولا زلت يا خير الأئمة كافيا ودمت قرير العين منه بغبطة ... وكان له رب البرية واقيا نظمت له حر الكلام تمائما ... جعلت مكان الدر فيها القوافيا لآل بها باهي الملوك نفاسة ... وجلت لعمري أن تكون لآليا أرى المال يرميه الجديدان بالبلى ... وما إن أرى إلاّ المحامد باقيا ثم قال: ومن ذلك ما أنشد في الصنيع الثاني المختص بعمينا السيدين الأمير بن سعد ونصر رحمة الله عليهما وأجاد في وصف الجند والجرد والطلبة وغرائب الأوضاع. أللمحة من بارق مبتسم ... أرسلته دمعا تضرج بالدم

ولنفحة تهفو ببانات اللوى ... يهفو فؤادك عن جوانح مغرب هي عادة عذرية من يوم أن ... خلق الهوى تعتاد كل متيم قد كنت أعذل ذا الهوى من قبل أن ... أدري الهوى واليوم أعذل لومي كم زفرة بين الجوانح ما اتقت ... حذر الرقيب ومدمع لم يسجم إن كان اشي الدمع قد كتم الهوى ... هيهات واشي السقم لمّا يكتم ولقد أجد هواى رسم دارس ... قد كاد يخفى عن خفي توهم وذكرت عهدا في حماه قد انقضى ... فأطلت فيه ترددي وتلومي ولربما أشجى فؤادي عنده ... ورقاء تنفث شجوها بترسم لا أخرب الله الطلول فطالما ... أشجى الفصيح بها بذكاء الأبكم يا زاجر الأظعان يحفزها السرى ... قف بي عليها وقفة المتلوم لترى دموع العاشقين برسمها ... حمرا كحاشية الرداء المعلم دمن عهدت بها الشبيبة والهوى ... سقيا لها ولعهدها المتقدم وكتيبة للشوق قد جهزتها ... أغزو بها السلوان غزو مصمم ورفعت فيها القلب بندا خافقا ... وأريت للعشاق فضل تهمم فأنا الذي شاب الحماسة بالهوى ... لكن من أهوى مضايق مقدمي فطعنت من قد القوام بأسمر ... ورميت غنج اللحاظ بأسهم يا قاتل الله الجفون فإنها ... مهما رمت لم تخط كلة الرمي ظلمت قتيل الحب ثم تبينت ... للسقم فيها فترة المتظلم يا ظبية سنحت بأكناف الحمى ... سقى الحمى صوب الغمام المسجم

ما ضر إذ أرسلت نظرة فاتك ... أن لو عطفت بنظرة المترحم فرأيت جسما قد أصيب فؤاده ... من مقلتيك وأنت لم تتأثمي ولقد خشيت بأن يقاد بجرحه ... فوهبت لحظك ما أحلك من دمي كم خضت دونك من غمار مفارزة ... لا تهتدي فيها الليوث لمجثم والنجم يسري من دجاه بأدهم ... رحب المقلد بالثريا ملجم والبدر في صفح السماء كأنه ... مرآة هند وسط لج ترتمي والزهر زهر والسماء حديقة ... فتقت كمائم جنحها عن أنجم والليل مربد الجوانح قد بدا ... فيه الصباح كغزوة في أدهم فكأنما فلق الصباح وقد بدا مرأى أبن نصر لاح للمتوسم ملك أفاض على البسيطة عدله ... فالشاة لا تخشى اعتداء الضيغم هو منتهى آمال كل موفق ... هو مورد الصادى وكنز المعدم لاحت مناقبه كواكب أسعد ... فرأت ملامح نوره عين العمي ولقد تراءى بأسمه وسماحه ... فأتى الجلال من الجمال بتوءم من أمثالهم في الغمام وقد تضاحك برقه ... فأفاد بين تجهم وتبسم أنسى سماحة حاتم وكفاك في ... يوم اللقاء ربيعة بن مكدم سير تسير النيرات بهديها ... وتعير عرف الروض طيب تنسم فالبدر دونك في علا وإنارة ... والبحر دونك في ندى وتكرم ولك القباب الحمر ترفع للندى ... فترى العمائم تحتها كالأنجم

يذكى الكباء بها كأن دخانه ... قطع السحاب بجوها المتغيم ولك العوالي السمر تشرع للعدا ... فتخر صرعى لليدين وللفم ولك الأيادي البيض قد طوقتها ... صيد الملوك ذوي التلاد الأقدم شيم يقر الحاسدون بفضله ... والصبح ليس ضياؤه بمكتم ورث السماحة عن أبيه وجده ... فالأكارم أبن الأكرم أبن الأكرم نقلوا المعالي كابرا عن كابرا ... كالرمح مطرد الكعوب مقوم وتسنموا رتب العلاء بحقها ... بأب وجد في الخلافة وابم يا آل نصر أنتم سرج الهدى ... في كل خطب قد تجهم مظلم الفاتحون لكل صعب مقفل ... والفارجون لكل خطب مبهم والباسمون إذا الكماة عوابس ... والمقدمون على السواد الأعظم أبناء أنصار النبي وجزبه ... وذوي السوابق والجوار الأعصم سل عنهم أحدا وبدرا تلفهم ... أهل الغناء بها وأهل المغنم وبفتح مكة كم لهم في يومه ... بلواء خير الخلق من متقدم أقسمت بالحرم الأمين ومكة ... والركن والبيت العتيق وزمزم لولا مآثرها وفضل علاهم ... ما كان يعزى الفضل للمتقدم ماذا عسى أثني وأنثنت على ... عليائهم آي الكتاب المحكم يا وارثنا عنها مآثرها التي ... قد شيدت للفخر أشرف معلم يا فخر أندلس لقد مدت إلى ... علياك كف اللائذ المستعصم

أما سعودك في الوغى فتكفلت ... بسلامة الإسلام فاخلد واسلم وافيت هذا الشعر وهو على شفى ... فشفيت معضل دائه المستحكم ورعيته بسياسة دارت على ... مختلطه دور السوار بمعصم كم ليلة قد بت فيها ساهرا ... تهدي الأمان إلى العيون النوم يا مظهر الألطاف وهي خفية ... ومهب ريح النصر للمتبسم له دولتك التي آثارها ... سير الركاب لمنجد أو متهم ما بعد يومك في المواسم بعد ما ... أتبعت عيد الفطر أكرم موسم وافتك أشراف البلاد بيومه ... من كل ندب للعلا متبسم صرفوا إليك ركابهم وتيمموا ... من بابك المنتاب خير ميمم وتبؤوا منه بدار كرامة ... فالكل بين مقرب ومنعم ودت نجوم الأفق لم مثلت به ... لتفوز فيه برتبة المستخدم والروض مختال بحلة سندس ... من كل موشي الرقوم منعنم ورياحه نسمت بنشر لطيمة ... وأفاحه بسمت بثغر مثلم وأريتنا فيه عجائب جمة ... لم تجر في خلد ولم تتوهم أرسلت فيه سرعان الجياد كأنها ... أسراب طير في التنوفة حوم من كل منحفز بخطفة بارق ... قد كلد يسبق لمحة المتوهم

طرف يشك الطرف في اشتثابته ... فكأنه ظن بصدر مرجم ومسافر في الجو تحسب أنه ... يرقى إلى أوج السماء بسلم رام استراق السمع وهو ممنع ... فأصيب من قضب العصى بأسهم رجمته من شهب النصال حواصب ... لولا تعرضه لها لم يرجم ومدارة الأفلاك أعجز كنهها ... إبداع كل مهندس ومهندم يمشي الرجال بجوفها وجميعهم ... عن مستوى قدميه لم يتقدم ومنوع الحركات قد ركب الهوا ... يمشي على خط به متوهم فإذا هوى من جوه ثم استوى ... أبصرت طيرا حل صورة آدمي يمشي على فنن الرشاء كأنه ... فيه مساور ذابل أو أرقم وإليك من صوب العقول عقيلة ... وقفت ببابك وقفة المسترحم ترجو قبولك وهو أعظم منحة ... فاسمح به خلدت من متكرم طارت فيها وصف كل غريبة ... فنظمت شارده الذي لم ينظم ودعوت أرباب البيان أريهم ... " كم غادر الشعراء من متردم " ما ذاك إلاّ بعض أنعمك التي ... قد علمتنا كيف شكر المنعم ثم قال: وأنشد من ذلك في الصنيع المخصوص بعمنا الأمير أبي عبد الله رحمه الله وأطنب في وصف دار الملك وغير ذلك من ضخامة آثار مولانا الجد رضي الله عنه: سل الأفق بالزهر الكواكب حاليا ... فإني قد أودعته شرح حاليا

وحملت معتل النسيم أمانة ... قطعت بها عمر الومان أمانيا فيا من رأى الأرواح وهي ضعيفة ... أحملها ما يستخف الرواسيا وساوس كم جدت وجد بي الهوى ... فعد بها القلب المقلوب هازيا ومن يطع الألحاظ في شرعة الهوى ... فلا بد أن يعصي نصيحا ولا حيا عدلت بقلبي عن ولاية حكمه ... غداة ارتضى من جائر اللحظ واليا وما الحب إلاّ نظرة تبعث الهوى ... وتعقب ما يعيي الطبيب المداويا فيا عجبا للعين تمشي طليقة ... ويصبح من جرائها القلب عانيا إلاّ في سبيل الله نفس نفيسة ... يرخص منها الحب ما كان غاليا ويا رب عهد للشباب قضيته ... وأحسنت من دين الوصال التقاضيا خلوت بمن أهوى من غير رقبة ... ولكن عفافي لم أكن عنه خاليا ويوم بمستن الظباء شهدته ... أجد وصالا باليا فيه باليا وأصح من خمر اللحاظ وقد غدا ... به الجو وضاح الأسرة ضاحيا وجرد من غمد الغمامة صارما ... من البرق مصقول يمانيا تبسم فاستبكى جوني عبرة ... ملأت بدر الدمع منها ردائيا وأذكرني ثغرا ظمئت لورده ... ولا والهوى العذري ما كنت ناسيا وراح خفق القلب مثلي كأنما ... ببرق الحمى من لوعة الحب مابيا وليلة بات البدر فيها مضاجعي ... وباتت عيون الشهب نحوي روانيا كرعت بها بين العذيب وبارق ... بمورد ثغر بات بالدر حاليا

رشفت بها شهد الرضاب سلافة ... وقبلت في ماء النعيم الأقاحيا فيا برد ذاك الثغر رويت غلتي ... ويا حر أنفاسي أذابت فؤاديا وروضة حسن للشباب نضيرة ... هصرت بغصن ألبان فيها المجانيا وقد بت أقي وردة الخد أدمعي ... فأصبح فيها نرجس اللحظ ذاويا ومالت بقلبي مائلات قدودها ... فما للقدود المائلات وماليا جزى الله العهد عودا فطالما ... أعاد على ربع الظباء الجوازيا وقل لليال في الشباب نعمتها ... وقضيتها أنسا سقيت لياليا ويا واديا رفت على ظلاله ... ونحن ندير الوصل فديت واديا رمتني عيون السرب فيه وإنما ... رمين بقلبي في الغرام المراميا فلولا اعتصامي بالأمير محمّد ... لمّا كنت من فتك اللواحظ ناجيا فقل لذي يبني على الحسن شعره ... عليه مع الإحسان لا زلت بانيا فكم من شكاة في الهوى قد رفأتها ... ورقتها بالمدح إذ جاء تاليا وكم ليلة في مدحه قد سهرتها ... أباهي بدر النظم فيه الدراريا ولاح عمد الصبح مثل انتسابه ... رفعت عليه للمديح المبانيا إمام أفاد المكرمات زمانه ... وشاد له فوق النجوم المعاليا وجاوز قدر البدر نورا ورفعة ... ولم يرض إلاّ بالكمال مواليا هو الشمس بثت في البسيطة نفعها ... وأنوارها أبدت قريبا وقاصيا هو البحر بالإحسان يزخر موجه ... ولكنه عذب لمن جاء عافيا

هو الغيث مهما يمسك الغيث سحبه ... يروي بسحب الجود من كان صاديا شمائله لو أنَّ الرياض بحسنها ... لمّا صار فيها زهرها الغض ذاويا فيا بن الملوك من آل خزرج ... وذا نسب كالصبح عز مساميا ألست الذي ترجو العفاة نواله ... فتخجل جدواه السحاب الغواديا ألست الذي تخشى البغاة صياله ... فتنزل عليه الصعاب العواديا وهديك مهما ضلت الشهب قصدها ... تولته في جنح الدجنة هاديا وعزمك أمضى من حسامك في الوغى ... وإن كان مصقول الغرارين ماضيا فكم قادح في الدين يكفر ربه ... قدحت له زند الحفيظة واريا وما راعه إلاّ حسام وعزمة ... يضيئان في ليل الخطوب الدواجيا فلولاك يا شمس الخلافة لم يبن ... سبيل جهاد كان من قبل خافيا ولولاك لم ترفع سماء عجاجة ... تلوح بها بيض النصول دراريا ولولاك لم تنهل غصون من القنا ... وكانت إلى ورد الدماء صواديا فأثمر فيها النصل نصرا موزرا ... فأجني قطاف الفتح غضا ودانيا ومهما غدا سفاح سيفك عاريا ... يغادر وجه الأرض بالدم كاسيا قضى الله من فوق السموات أنه ... على من أبى الإسلام في الأرض قاضيا فكم معقل للفر صبحت أهله بجيش أعاد الصبح أظلم داجيا رقيت إليه والسيوف مشيحة ... وقد بلغت فيه النفوس التراقيا

ففتحت مرقاة الممنع عنوة ... وبات به التوحيد يعلو مناديا وناقوسه بالقسر أمسى معطلا ... ومنبره بالذكر أصبح حاليا عجائب لم تخطر ببال وإنما ... ظفرنا بها عن همة هي ماهيا فمنك أستفاد الدهر كل عجيبة ... يباهي بها الأملاك أخرى لياليا وعنك يروي الناس كل غريبة ... تخط على صفح الزمان أماليا ولله مبناك الجميل فإنه ... يفوق على حكم السعود المبانيا فكم فيه للأبصار من متنزه ... تجد به نفس الحليم الأمانيا وتهوي النجوم الزهر لو ثبتت به ... ولم تك في أفق السماء جواريا ولو مثلك في ساحتيه لسابقت ... إلى خدمة ترضيك منها الجواريا به البهو قد حاز البهاء وقد غدا ... به القصر آفاق السماء مباهيا وكم حلة جللته بحليها ... من الوشي تنسي السباري اليمانيا وكم من قسي في ذراه ترفعت ... على عمد بالنور باتت حواليا فتحسنها الأفلاك دارت قسيها ... تظل عمود الصبح إذ لاح باديا سواري قد جاءت بكل غريبة ... فطارت بها الأمثال تجري سواريا به المرمر المجلو قد شف نوره ... فيجلو من الظلماء ما كان داجيا إذا ما أضاءت بالشعاع تخالها ... على عظم الأجرام منها لآليا به البحر دفاع العباب تخاله ... إذا ما انبرى وفد النسيم مباريا

إذا ما جلت أيدي الصبا صفح متنه ... أرتنا دروعا أكسبتها الأياديا وراقصة في البحر طوع عنانها ... تراجع الحان القيان الغواليا إذا ما علت في الجو ثم تحدرت ... تحلى بمرفض الجمان النواحيا يذوب لجين سال بين جواهر ... غدا مثلها في الحسن أبيض صافيا تشابه جار للعيون بجامد ... فلم أدر أيا منها كان جاريا فإن شءت تشبيها له عن حقيقة ... تصيب بها المرمى وبوركت راميا فقل أرقصت منها البحيرة بنتها ... كما يرقص المولود من لاهيا أرتنا طباع الجود وهي وليدة ... ولم ترض في الإحسان إلاّ تغاليا سقت ثغر زهر الروض عذب برودها ... وقامت لكي تهدي إلى الزهر ساقيا كأن قد رأت نهر المجرة ناضبا ... فرامت بأن تجري إليه السواقيا وقامت بنات الدوح فيه موئلا ... فرادى ويتلو بعضهن مثانيا رواضع في حجر الغمام ترعرعت ... وشبت فشبت حبها في فؤاديا بها كل ملتف الغدائر مسبل ... تجيل به أيدي النسيم مداريا وأشرف جيد الغصن فيها معطلا ... فقلدت النوار منه التراقيا إذا ما تحلت در زهر غروسه ... يبيت لها النمام بالطيب واشيا

مصارف النقدين فيها بمثلها ... أجاز بها قاضي الجمال التقاضيا فإن ملأت كف النسيم مع الضحى ... دراهم نور ظل عنها مكافيا فيملأ حجر الروض حول غصونها ... دنانير شمس تترك الروض حاليا تغرد الطير في أفنانها كلما ... تجس به أيدي القيان الملاهيا تراجعها سجعا فتحسب أنها ... بأصواتها تملي عليها الأغانيا فلم ندر روضا منه أنعم نضرة ... وأعطر أرجاء وأحلى مجانيا ولم نر قصرا منه أعلى مظاهرا ... وأرفع آفاقا وأفسح ناديا معاني من نفس الكمال انتقيتها ... وزينت منها بالجمال المغانيا وفاتحت مبناها بعيد شرعته ... تبث به في الخافقين التهانيا ولمّا دعوت الناس نحو صنيعه ... أجابوا له من جانب الغور داعيا وأموه من أقصى البلاد تقربا ... وما زال منك السعد يدني الأقاصيا وأذكرت يوم العرض جودا ومنعة ... بموقف عرض كنت فيه المجازيا جزيت به كلا على حال سعيه ... فما غرست يمناه أصبح جازيا وأطلعت من جزل الوقود هو ادجا ... تذكر يوم النفر من كان ساهيا وحين غدا يذكى ببابك للقرى ... فلا غرو أن أجريت فيه المذاكيا

وطامحة في الجو غير مطالة ... يرد مداها الطرف أحسر عانيا تمد لها الجوزاء كف مصافح ... ويدنو لها بدر السماء مناجيا ولا عجب أن فاتت الشهب بالعلا ... وأن جاوزت منها المدى المتناهيا فبين يدي مثواك قامت لخدمة ... ومن خدم الأعلى استفاد المعاليا وشاهد ذا أني ببابك واقف ... وقد حسدت زهر النجوم مكانيا وقد أرضعت ثدي الغمام قبلها ... رياض كن فيه نواشيا فلما بنيت عن قرارة أصلها ... أرادت إلى مرقى الغمام تعاليا وعدت لقاء السحب عيدا وموسما ... لذلك اغتدت بالزمر تلهي الغواديا فأضحك البرق الطروب خلالها ... وبات لأكواس الدراري معاطيا رأت نفسها طالت فظنت بأنها ... تفوت على رغم اللحاق المراميا فخفت إليها الذابلات كأنها ... طيور إلى وكر أطنان تهاويا حنكت شبها للنحل والنحل حوله ... عصى إلى مثواه نهوى عواليا فمن مثبت منها الرمية مدرك ... ومن طائش في الجو حلق وانيا وحصن منيع في ذراه قد ارتقى ... فأبعد في الجو الفضاء المراقيا كأن بروج الأفق غارت وقد رأت ... بروج قصور شدتهن سواميا فأنشأت برجا صاعدا ومتنزلا ... يكون رسولا بينهن مداريا تظورت حالات أتى في ضروبها ... بأنواع حلي تستفز الغوانيا

فحجل برجليها وشاح بخصرها ... وتاج إذا ما حل منها الأعاليا وما هو إلاّ طير سعد بذروة ... غدا زاجرا من أشهب الصبح بازيا أمولاي يا فخر الملوك ومن به ... سيبلغ دين الله ما كان راجيا بنوك على حكم السعادة خمسة ... وذا عدد للعين ما زال واقيا تبيت لهم كف الثريا معيدة ... ويصبح معتل النسيم رواقيا أسام عليها للسعادة ميسم ... ترى العز فيها مستكنا وباديا جعلت أبا الحجاج فاتح طرسهم ... وقد عرفت منك الفتوح التواليا وحسبك سعد ثم نصر يليهم ... محمّد الأرضي فما زلت راضيا أقمت به من فطر الدين سنة ... وجددت من رسم الهداية عافيا وجاءوا به ملء العيون وسامة ... يقلب وجه البدر أزهر باهية فيا عاذلا ما كان أجرأ مثله ... فمثلك لا يدمى الأسود الضواريا وجاءتك من مصر التحايا كرائما ... كما فتقت أدي التجار الغواليا ووافتك من أرض الحجاز تميمة ... تتمم صنع الله لا زال باديا وناداك بالتهويل سلطان طيبة ... فيا طيب ما أهدى إليك مناديا وقام وقد وافى ضري محمّد ... لسلطانك الأعلى هنالك داعيا سيريرتك الرحمى جزاك بسعيها ... اله يوفي في الجزاء المساعيا فوالله لولا سنة نبوية ... عهدناه مهديا إليها موهاديا وعذر من الإعذار قرر حكمه ... من الشرع أخبار رفعن عواليا

لراعت بها للحرب أهوال موقف ... تشيب بمبيض النصول العواليا لك الحمد فيه من صنيع تعده ... فثالثه في الفخر عزز ثانيا تشد له الجوزاء عقد نطاقها ... لتخدم فيه كي تنال المعاليا وهنيت بالأمداح فيه وقد غدا ... وجودك فيه بالإجادة وافيا ودونك من بحر البيان جوهرا ... كرمن فما يشرين إلاّ غواليا وطاردت فيها وصف كل غريبة ... فأعجزت من يأتي ومن كان ماضيا فيا وارث الأنصار لا عن كلالة ... تراث جلال يستخف الرواسيا بأمداحه جاء الكتاب مفصلا ... يرتله في الذكر من كان تاليا لقد عرف الإسلام مما أفدته ... مكارم أنصارية وأياديا عليك سلام الله فاسم مخلدا ... تجدد أعياد وتبلى أعاديا ثم قال: ومن ذلك أيضاً فيما اعتمدنا به نحن وأخونا المتولى بالأمر بعد مولانا الوالد رحمة الله على الجميع من تلك الصنائع وهي جامعة لجم الأوصاف والبدائع: نجوم أمدتها بدر كوامل ... لها النور من شمس الخلافة شامل وفي الشهب من بدر اللسماء مشابه ... وفي البدر من شمس النهار مخايل وتعرف فيها من أبيها شمائل ... كما في أبيها من أبيه شمائل مراتب في عدد الحساب ثلاثة ... وهن لأقمار العلاء نازل طلعن على حكم السعود أهلة ... وسرعان ما تبدو وهن كوامل

تجلت إلى الأبصار من أفق الهدى ... وبثت إلى الأنصار منها وسائل فيأيها المولى الذي شاد آخرا ... من الفخر ما لم تستطعه الأوائل بنوك كأمثل الأناب عدة ... فزانت يد الإسلام تلك الأنامل غصون بروض الجود منك ترعرعت ... وقد جادها من صوب نعماك وابل فوا ما أدري إذا ما تذوكرت ... أأخلاقها تجلى لنا أم خمائل غيوث سماح والعفاة مسايل ... ليوث كفاح والكماة تنازل سيوف محلاة على عاتق الهدى ... إذا تنتضي تمضي وتنبو المناصل تخاف عداة الدين منهم وتتقي ... كما تتقى الأسد الظباء الجوافل وإنَّ أبا الحجاج وهو كبيرهم ... محل كثير دونه متضائل مليك إذا اتقبلت غزة وجهه ... تخليت أنَّ الشمس فيما تقابل إذا استمطرت في المحل سحب بنانه ... فهن لمستجد هوام هوامل وإن سال ماء البشر فوق جبينه ... فليس بمدفوع عن الورد سائل تقلد منه عاتق الملك صارما ... له العزم نصل والسعود حمائل وأبناؤه در تناسق عقده ... يحلى بهم من لبة الفخر عاطل أزهار في روض المحاسن أينعت ... فلا روضها ذاو ولا الزهر ذابل زواهر في أفق العلاء تطلعت ... يشابه بعض بعضها ويشاكل فما منهم إلاّ أغر نحجل ... بورد المعالي في الشبيبة ناهل أقمت لها الإعذار موسم رحمة ... تسنت به للمتقين المآمل وما هو إلاّ مورود لسعادة ... تفيض لها منه المنى والفواضل

وأجريت سرعان الجياد بملعب ... تذكر فيه موقف الجد هازل نجوم وآفاق الطرد مشارق ... عليها بدور من وجه كوامل مفاتيح أبواب الفتوح فطالما ... أبيحت بها للكافرين المعاقل فأشهب كالإصباح راق أديمه ... وغالت به شهب السماء الغوائل ألم تر أنَّ الشهب في الأفق كلما ... تجلى له الإصباح فهي أوائل وأحمر زان الورد منه جمية ... يحف به نهر من السيف سائل جرت لونه من فوقه مهج العدا ... فلله منه الجامد المتسابل تلاقي به أمثاله فكأنها ... جمار وقد أذكى بها البأس باسل إذا قبست بالركض في حومة الوغى ... تنير بها ليل القتام مشاعل وأشقر مهما جاول البرق في مدى ... يفوت جواد البرق منه المجاول تحلى بمحلون النضار أديمه ... فكل محلى دونه فهو عاطل وأدهم في مسح الدجى متلفع ... وقد خاض منه في الصبح الأسافل يكلل بالجوزاء حلى لجامه ... فدر الدراري من حلاه عواطل ولم يرضه سرج الهلال مفضضا ... فأعرض عنها للأهلة ناعل وأصفر في ثوب الأصيل قد ارتدى ... وربما ودت حلاه الأصائل وقد قد من برد العشى جلاله ... وفي ذيله صبغ من الليل حائل

وصاعدة في الجو ملء عنانها ... تسامت أعنان السما وتطاول طلعت تحيي البدر منها بصعدة ... عليها لواء الصبح في الأفق ماثل وقد أعربت بالرفع عن طيب فخرها ... متى نصبتها في الفضاء العوامل يمد لها الكف الخصيب بساعد ... ويشكي السماك الأعزل الرمح عامل وتنتابها هيف العصي كأنها ... سهام وعاها للرمية نابل تراوغها طورا وطورا تضيفها ... فسام لأعلى مرتقاها ونازل وبالأمس كانت بعض أغصان دوحها ... فنقله عنها على الرغم ناقل فحنت إلى أوطانها وتسابقت ... تعارد مسراها بها وتواصل وبرج منيف في ذراها قد ارتقى ... لترفع منه للبروج الرسائل تطور حالات أتى في جميعها ... بأوضاع حاي وصفه متغافل فتاج بأعلاها وشاح بخصرها ... وفي الساق منه قد أديرت خلاخل وما هو إلاّ قائم مد ملكه ... إلى الله في البقايا لمّا صد سائل ولله عينا من رأى القصر حوله ... منازل فيها للسعود منازل تروقك فيه للبدور مطالع ... إذا مثلت في ساحتيه الأماثل مظاهر أقمار مراتب أنجم ... منازل بالنصر العزيز أواهل وقد كان هول الحفل روع أهله ... وأشعرت الإشفاق تلك المحافل

فأدبت به أبناء نجلك أوجها ... تبين إلى السارين منها المجاهل فلا الحفل مرهوب ولا الخطو قاصر ... ولا السرب مرتاع ولا الروع هائل ولا القلب منخوب ولا الحلم طائش ... ولا العقل معقول ولا الفكر ذاهل أولئك أبناء الخلافة بوكروا ... وتجرى على أعدائهن الصواهل هنيئا بها من سنة نبوية ... زها الفخر محصول لديها وحاصل ورحمى له من عاذر بان عذره ... وأوهم نقصا فضله متطاول فنقص الهلال الأفق ما زال مؤذنا ... لمرآة أن يبدو وهو كامل ومن نقص ظل الشمس تزداد رفعة ... إلى أن ترى والظل في الشرق مائل وإن تابع النقص الشهور فإنها ... على إثره تأتي وهن كوامل ونقص صلاة الظهر يوم عروبة ... لمعنى كمال أوضحته الدلائل وإن نقص البازي رياشه جناحه ... يزيد استباقا وهو للصيد خاتل وتستفرغ الأنعام ما في ضروعها ... عيشا لتغدو والضروع حوافل ونقص زكاة المال فيه وفورة ... ومشق ذباب السيف يخشاه صاقل لك الخير من صنع جلوت محاسنا ... يحدى بها حدي السرى ويناقل إلاّ هكذا فليعقد الفخر تاجه ... ويسمو إلى أوج العلا ويطاول بأبلج ار الصبح منه بطلعة ... لها البدر تاج والنجوم قبائل إذا خطب العليا تخطت بركبه ... على خطر المسعى القنا والقنابل ولو رام إدراك النجوم بحيلة ... لا حرز من إدراكها ما يحاول وإن طلبت زهر النجوم لحاقة ... فمن دون ما تبغي المدى المتطاول وتخفق بالنصر العزيز بنوده ... إذا خفقت فيها الصبا والشمائل وليل جهاد بات يرعى نجومه ... فلا الليل منجاب والنجم آفل

يرعى حماة الدين فيه بمقلة ... يرعى بها الإسلام كاف وكافل إذا اشتاق هز الريح خافق بنده ... وإن حن غنته الجياد الصواهل وفي الله عن وصل الأحبة مرغب ... وفي الغزو عن ذكر المنازل شاغل من الخزرجيين اللذين نمتهم ... عشائر من قحطانها وفصائل تسامي إلى ماء السماء فجوده ... بماء السماء في البسيطة حائل أقول لمستام الربيع وقد غدا ... يرود مصاب الغيث والعام ماحل أمامك دار للغنى بربه ... بأرجائها للمعتفين مناهل تجر من كفيه عشرة أبحر ... يغض بهن البحر وهي أنامل فتجري بها سفن الرجاء إلى مدى ... وليس إلى الجودي من الجود ساحل فراجيه تستجدى العفاة نواله ... وسائله تزجى إليه الوسائل أحاديث عنه في السماح غريبة ... يروى عواليها عطاء وواصل لك الله من تول غمام بنانه ... أقامت فروض البر منها النوافل طلعت بأفق الغرب نير رحمة ... وقد شرقت منك العلا والفضائل فحمدك أحرى ما أفادت حقائب ... وذكرك أسنى ما أقلت رواحل

تروم جواري الشهب شأوك في العلا ... ومن دونه للنيرات مراحل وفي الصبح من ذاك الجبين أشعة ... وفي الشمس من ذاك المحيا دلائل وفي الروض من رياك عرف ونفحة ... وفي الغيث من يمناك جود ونائل إذا أنت لم تزج الجنود إلى العلا ... فإنَّ جنود الله عند تقاتل وإن لم تقومها سهاما مريشة ... فإن سهام الله عنك تناضل تريش لك الأقدار أسهم أسعد ... تصاب بها للدار عين مقاتل لك العز تستجلي الخطوب بنوره ... فليس له إلاّ الصباح مماثل إذا العزم لم يصقل حسام كميه ... فما نافع ما قد جلته الصياقل فقبل مضاء السيوف تمضي عزائم ... وبعد بناء الرأي تبنى المعاقل وما يستوي ... والعلم لله وحده عليم بأعقاب الأمور وجاهل تظلل سحب الطير جيشك حيثما ... تميل به الرايات وهي حوامل فلاقى بها عقبان طير وراية ... تبدي الأعادي والرماح حبائل فقل لعميد الروم دونك فارتقب ... طلائع فيها للمنايا رسائل وشم بارق السيف اللموع جفونه ... سحاب قتام تحته الدم سائل ولا تزجر الغربان في البحر إنها ... سفائن والبحر المذلل حامل ولكنها والله ينجز وعده ... جواد بآساد الرجال حوامل ومخضرة الأرجاء في جنباتها ... مارح تحميها الرماح الذوابل ترى الدوح منها بالأسنة مزهرا ... إذا ما سقته للسيوف الجداول تبل غليل الرمح من مهج العدا ... إذا ما كست منها الرماح غلائل

فيا عجبا للرمح رويته دما ... وقد راق منه العين ريان ذابل لقد كملت فيك المحاسن كلها ... وما كل من يعطى الخلافة كامل فعند جميع الخلق شكرك عاجل ... وعند الإله الحق أجرك آجل ودونك من نظمى جوهر حكمة ... يفاخر منها اللسحر بالشعر بابل وما هو إلاّ ذكر أوصافك العلا ... فتفعل يا مولاي والعبد قائل فتتلى على الأسماع منها بدائع ... وتجلى على الأبصار منها عقائل ولو أنني أدركت أعصار من مضى ... لمّا قال فيها الشاعر المتخايل " وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل " ولافتخرت قدما إياد بقسها ... ولا استصحبت سبحان في الفخر وائل فلا زلت يا مولاي مورد رحمة ... عطاش الأماني في رضاك نواهل تقيم رسوم المعلوات بمغرب ... وذكرك في أقصى البسيطة حائل وأدركت في الأعداء ما أنت طالب ... وبلغت في الأبناء ما أنت آمل ثم قال: ومن ذلك في الصنيع المختص بالأمراء الجلة أخينا المعز لدولتنا أبي الحسن وأخينا أبي العباس وأبن عمنا أبي عبد الله وصلى الله سعودهم ولقد أبدع في تشييده وتأسيسه وبسط يد الحسن من براعة تخميسة وذلك عام عودة مولانا رحمة الله تعالى عليه من سبتة لمّا عادت إلى مكة قال:

أرقت لبرق مثل جفني ساهرا ... ينظم من قطر الغمام جواهرا فأضحط زهر الروض منه أزهارا ... وصبح حكى وجه الخليفة باهرا تجسم من نور الهدى وتجسدا شفائي معتل النسيم إذا انبرى ... وأسند عن دمعي الحديث الذي جرى وقد فتق الأرجاء مسكا وعنبرا ... كأن الغنى بالله في الروض قد سرى فهبت به الأرواح عاطرة الردا عذيري من قلب إلى الحسن قد صبا ... تهيجه الذكرى ويصبو إلى الصبا ويجري جياد اللهو في ملعب الصبا ... ولولا أبن نصر ما أفاق وأعتبا رأي وجهه صبح الهداية فاهتدى إليك أمير المسلمين شاكية ... حنى الحسن فيها للقلوب جناية وأعظم فيها بالعيون نكاية ... وأطلع في ليل من الشعر آية محيا جميلا بالصبح قد ارتدى بهديك تهدي النيرات وتهتدي ... وأنوارها جدوى يمينك تجتدي وعدلك للأملاك أوضح مرشد ... بآثار في مشكل الأمر تقتدي فما بال سلطان الجمال قد اعتدى تحكم منا في نفوس ضعيفة ... وسل سيوفا من جفون نحيفة ألم يدر أنا في ظلال خليفة ... ودولة أمن لا تراع منيفة بها قد رسا دين الهدى وتمهدا

خذوا بدم المشتاق لحظا أرقته ... وبرقا بأعلام الثنية شاقة وإن كلفوه فوق ما قد أطاقه ... يبث حديثا ما ألذ مساقه خليفتنا المولى الإمام محمّد تقلد حكم العدل دينا ومذهبا ... وجور الليالي قد أزاح وأذهبا فيا عجبا للشوق أذكى وألهبا ... وسل صباحا صارم البرق مذهبا وقد بات في جفن الغمامة مغمدا يذكرني ثغرا لأسماء أشنبا ... إذا اتسم تجلو من الليل غيهبا كعزم أمير المسلمين إذا احتبى ... وأجرى به طرفا من الصبح أشهبا وأصدر في ذات الإله وأوردا فسبحان من أجرى الرياح بنصره ... وعطر أنفاس الرياض بشكره فبرد الصبا يطوي على طيب نشره ... ومهما تجلى وجهه وسط قصره ترى هالة بدر السماء بها بدا إمام أفاد المعلوات زمانه ... فما لحقت زهر النجوم مكانه ومدّ على شرق وغرب أمانه ... ولا عيب فيه غير أنَّ بنانه تغرق مستجدية في أبحر الندى هو البحر مدّ العارض المتهللا ... هو البدر لكن لا يزال مكتملا هو الدهر لا يخشى الخطوب ولا ولا ... هو العلم الخفاق في هضبة العلا هو الصارم المشهور في نصرة الهدى

أما والذي أعطى الوجود وجوده ... وأوسع من فوق البسيطة جوده لقد أصحب النصر العزيز بنوده ... ومدينة بأملاك السماء جنوده وأنجز للإسلام بالنصر موعدا أمولاي قد أنجحت رأيا وأيا ورواية ... ولم تبق في سبق المكارم غاية فتهدي سجاياك أبن رشد نهاية ... وإن كان هذا السعد منك بداية سيبقى على مر الزمان مخلدا سعودك تغني عن قراع الكتائب ... وجودك يزري بالغمام السواكب وإن زاحمتها شهبها بالمناكب ... ووجهك بدر المنتدى والمواكب وقد فسحت في الفخر أبناؤك المدى بنوك كأمثال الأنامل عدة ... أعدت لمّا يخشى من الدهر عدة وزيد يهم برد الخلافة جدة ... أطال لهم في ظل ملكك مدة إله يطيل العمر منك مؤبدا يدور بأوصاف الكمال استقلت ... غمام بفياض النوال استهلت سيوف على الأعداء بالنصر سلت ... نجوم بآفاق العلاء تجلت ولاحت كما شاءت سعودك أسعدا وإنَّ أبا الحجاج سيفك منتضى ... وبدر بآفاق الجمال تعرضا بنورك يا شمس الخلافة قد أضا ... وراقت على أعطافه حلل الرضا فحل محلا من رضاك ممهدا

مليك له تعنو الملوك جلاله ... يجرر أذيال الفخار مطالة وتفرق أسد الغاب منه بسالة ... وترضاه أنصار الرسول سلالة فأبناؤه طابوا فروعا ومحتدا أزاهر في روض الخلافة أيعنت ... زواهر في أفق العلاء تطلعت جواهر أعيت في الجمال وأبدعت ... وعن قيمة الأعلاق قدرا ترفعت يسر بها الإسلام غيبا ومشهدا بعهد ولي العهد كرم عهده ... وأنجز في تخليد ملكك وعهده تنظم منهم تحت شملك وعقده ... وأورثهم فخرا أبوه وجده فأعلى عليا حين أحمد احمدا تحوط بهم ملكا عزيزا وملة ... وتلحظ عين السعد منهم أهلة ستبدو على أفق العلا مستقلة ... وسحبها بفياض الندا مستهلة تفجر بحرا للسماحة مزبدا ونجلك نصر يقتفي نجل رسمه ... أمير يزين العقل راجح حلمه أتاك بنجل يستضاء بنجمه ... لحب رسول الله سماه بأسمه وباسمك في هذي الموافقة اقتدى أقمت بإعذار الإمارة سنة ... وطوقها من حلى فخرك منة وأسكنتها في ظل برك جنة ... وألحفتها برد اعتنائك جنة وعمرت منها بالتلاوة مسجدا

لله عينا من رآهم تطلعوا ... غصونا بروض الجود منك ترعرعوا وفي دوحة العلياء منك تفرعوا ... ملوك بجلباب الحياء تقنعوا أضاء بهم أفق قصرك منتدى وقد أشعروا الصبر الجميل نفوسهم ... وقد أفرغوا فوق الحلى لبوسهم وقد زينوا بالبشر فيه شموسهم ... وعاطوا كئوس الأنس فيه جليسهم وأبدوا على هول المقام تجلدا شمائل فيهم من أبيهم وجدهم ... تفصل آي الفخر فيها بحمدهم وتنسبها الأنصار قدما لسعدهم ... تضئ بها نورا مصابيح سعدهم ولم لا ومن صحب الرسول توقدا فو الله لولا سنة قد أقمتها ... وسيرة هدى للنبي علمتها وأحكم عدل للجنود رسمتها ... لجالت بها الأبطال تقصد سمتها وتترك أوصال الوشيج مقصدا ويا عاذرا أبدى لنا الشرع عذه ... طرقت حمى قد عظم الله قدره وأجريت طيبا يحسد الطيب نشره ... لد جئت ما تستطعم الصيد أمره وتفديه إن يقبل خليفها فدا رعى الله منها دعوة مستجابة ... أفادت نفوس المخلصين إنابة ولم تلف من دون القبول حجابة ... وعاذرها لم يبد عذرا مهابة فأوجب عن نقص كمالا تزيدا

فنقص زكاة المال وفر نصل به ... وما السيف إلاّ بعد مشق ذبا به وما الزهر إلاّ بعد شق إهابه ... بقطع يراع الخط حسن كتابه وبالنقص يزداد الذبال توقدا ولمّا قضوا من سنة الشرع واجبا ... ولم نلق من دون الخلافة حاجبا أفضنا منك جذلان واهبا ... أفاض علينا أنعما ومواهبا تعود بذل الجود فيما تعودا هنيئا بهذا قد بلغت مؤملا ... وأطلعت نورا يبهر المتأملا وأحرزت أجر المنعمين مكملا ... تبارك من أعطى جزيلا وأجملا وبلغ فيك الدين والملك مقصدا إلاّ في سبيل العز والفخر موسم ... يظل به ثغر المسرة يبسم وعرف الرضا من جوه يتبسم ... وأرزاق أرباب السعادة تقسم ففي وصفه ذهن الذكي تبلدا وجللت في هذا الصنيع مصانعا ... تمنى بدور التم منها مطالعا وأبديت فيها للجمال بدائعا ... وأجريت للاحسان فيها مشارعا يود بها نهر المجرة موردا وأجريت فيها الخيل وهي سوابق ... وإن طلبت في الروع فهي لواحق نجوم وآفاق الطرد مشارق ... يفوت التماح الطرف منها بوارق إذا ما تجارى الشهب تستبق المدى

وتطلع في ليل القتام كواكباً ... وقد وردت نهر النهار مشارباً تقود إلى الأعداء منها كتائباً ... فترسم من فوق التراب محاربا تخر رءوس الروم فيهن سجدا سواج بالنصر العزيز سوانح ... وهن لأبواب الفتوح فواتح توقد إليك النصر والله مانح ... فما زلت باب الخير والله فاتح وما ثم شيء قد عدا بعد ما عدا رياح لها مثنى البروق أعنة ... ظباء فإن جن الظلام فجنة تقيها من البدر المتمم جنة ... وتشرع من زهر النجوم أسنة فتقذف شهب الرجم في ثغر العدا فأشهب من نسل الوجيه إذا انتمى ... جرى فشأى شهب الكواكب في السما وخلف منها في مقلد انجما ... تردي جمالا بالصباح وربما يقول له الإصبح نفسي لك الفدا واحمر قد أذكى به البأس جمرة ... وقد سلب الياقوت والورد حمرة أدار به ساق من الحرب خمرة ... وأبدى حبابا فوقها ألسن غرة يزين بها خداً أسيلا موردا وأشقر مهما الركض برقه ... أعار جواد البرق في الأفق سبقه بدا شفقا قد جلل الحسن أفقه ... ألم تر أنَّ الله أبدع خلقه فسأل على أعطافه الحسن عسجدا وأصفر قد ورد الأصيل جماله ... وقد من برد العشى جلاله

إذا أسرجوا جنح الظلام ذباله ... فغرته نجم تضئ مجاله وفي ذيله ذيل الظلام قد ارتدى وأدهم في مسح الدجى متجرد ... يجيش به بحر من الليل مزبد وغرته نجم به متوقد ... له البدر سرج والنجوم مقلد وفي فلق الصبح المبين تقيدا وأبيض كالقرطاس لاح صباحه ... على الحسن مغداه وفيه مراحه وللظبيات الأنسات مراحة ... تراه كنشوان أمالته راحة وتحسبه وسط الجمال معربدا وذاهبة في الجو ملء عنانها ... وقد لفعتها السحب برد عنانها يفوت يرتداد الطرف لمح عيانها ... وختمت الجوزاء سبط بنانها وصاغت لها حلي النجوم مقيدا أراها عمود الصبح علو المصاعد ... وأوهمها قرب المدى المتباعد ففاتته سبقا في مجال الرواعد ... واتحفت الكف الخضيب بساعد فطوقت الزهر النجوم بها يدا وقد قذفتها للعصى حواصب ... قد انتشرت في الجو منها ذوائب تزاور منها في الفضاء حبائب ... فبينها من قبل ذلك مناسب لأنهما في الروض قبل تولدا بنات لأم قد حيين بروحها ... دعاها الهوى من بعد كتم لبوحها

فأقلامها تهوى لخط بلوحها ... فبالأمس كانت بعض أغصان دوحها فعادت إليها اليوم من بعد عودا ويا رب حصن في ذراعها قد اعتلى ... أنارت بروج الأفق في مظهر العلا بروج قصور شدتها متطولا ... فأنشأت برجا صاعدا متنزلا يكون رسولا بينها مترددا وهل هي إلاّ هالة حول بدرها ... يصوغ لها حلياً يليق بنحرها تطور أنواعا تشيد بفخرها ... فحجل برجلها وشاح بخصرها وتاج بأعلى رأسها تنضدا أراد استراق وهو ممنع ... فقام بأذيال الدجى يتفلح وأصغى لأخبار السما يتسمع ... فأتبعه منها ذوابل شرع لتقذفه بالرجم مثنى موحدا وما هو إلاّ قائم مد كفه ... ليسأل من رب السموات لطفه لمولى تولاه وأحكم رصفه ... وكلف أرباب البلاغة وصفه واكرم منه القانت المتهجدا ملاقي ركب من وفود النواسم ... مقبل ثغر للبروق البواسم مختم كف بالنجوم العواتم ... مبلغ قصد من حضور المواسم تجدده مهاما صنيع تجددا ومضطرب في الجو أثبت قامة ... تقدم يمشي في الهواء كرامة تطلع في غصن الرشاء كمامة ... وتحسبه تحت الغمام عمامة يسيل على أعطافه عرق الندى

هوى واستوى في حاله وتقلبا ... كخاطف برق قد تألق خلبا ونحسبه قد دار في الأفق كواكبا ... ومهما مشى واستوقف العقل معجبا تقلب فيه العين لحاظا مرددا لقد رام للسماء بسلم ... فيمشي على خط به متوهم أجل في الذي بيديه فكر توسم ... ترى طائرا قد حل صورة آدمي وجنا بمهواة الفضاء تمردا ومنتسب للخال سموه ملجما ... له حكمات حكمها فاه ألجما تخالف جنسا والداه إذا ابتمى ... كما جنسه أيضاً تخالف عنهما عجبت له إذ لم يلد وتولدا قلاثتها في الذكر جاءت مبينة ... من اللاء سماها لنا الله زينة وأنزل فيها آية مستبقية ... وأودع فيها للجهول سينة والاءه فيها على الخلق عددا كسوه من الوشي اليماني هودجا ... يمد على ما فوقه الظل سجسجا وكم صورة تجلى به تبهر الحجا ... وجزل وقود ناره تصدع الدجى وقلب حسود غاظ مذكيا موقدا وما هي إلاّ مظهر لجاحده ... أرتنا بها الأفراح فضل اجتهاده ملاعبها هزت قدود صعاده ... وإذ كرت الأبطال يوم طراده فما ارتبت فيه اليوم صدقته غدا

إلاّ جدد الرحمن صنعا حضرته ... ودوح الأماني في ذراه هصرته بقصر طويل الوصف فيه اختصرته ... يقيد طرف الطرف مهما نظرته " ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا " دعوت له الأشراف من كل بلدة ... فجاءها بآمال له مستجدة وخصوا بألطاف لديه معدة ... أياد بفياض الندى مستمدة فكلهم من فضله قد تزودا وجاءتك من آل النبي عصابة ... لها في مرامي المكرمات إصابة أحبتك حبا ليس فيه استرابة ... ولبت دواعي الخير منها إجابة وناداهم التخصيص فابتدروا الندى أجازوا إليك البحر والبحر يزخر ... لبحر سماح مدة ليس يجيز فرواهم من عذب جودك كوثر ... وواليت من نعماك ما ليس يحصر وعظمتهم ترجو النبي محمّدا عليه صلاة ثم سلامه ... به طاب من هذا النظام اختتامه وجاء بمحمد الله حلوا كلامه ... يعز على أهل البيان مرامه وتسمى له الكواكب حسدا أبت به حادي الركاب مشرقا ... حديث جهاد للنفوس مشوقا رميت به من بالعراق مفوقا ... وأرسلت منه بالبديع مطوقا حماما على دوح الثناء مغردا

ركضت به خيل البيان إلى مدى ... فأحرزت فضل السبق في حلبة الهدى ونظمت من در الدراري مخلدا ... وطوقت جيد الفخر عقدا منضدا وقمت به بين السماطين منشدا نسقت من الإحسان فيه غرائدا ... وأرسلت في روض المحاسن رائدا وقلدت عطف الملك منه قلائدا ... تعودت فيه للقبول عوائدا فلا زلت للفضل الجزيل معودا ولا زلت للصنع الجميل مجددا ... ولا زلت للفخر العظيم مخلدا وعمرت عمرا لا يزال مجددا ... ومتعت بالأبناء أوحد أواحد وقرت بهم عيناك ما سائق حدا ومن العيديات: هذي المعالم لفظ أنت معناه ... كل يقول إذا استنطقته الله بحر والوجود فلك الكون جارية ... وباسمك الله مجراه ومرساه من نور وجهك ضاء السكون أجمه ... حتى تشيد بالأفلاك مبناه عرش وفرش وأملاك مسخرة ... وكلها ساجد لله مولاه سبحان من أوجد الأشياء من عدم ... وأوسع قبل الكون نعماه من ينسب النور للأفلاك قلت له ... من أين أطلت الأفلاك لولاه مولاي مولاي بحر الجود أغرقني ... والخلق أجمع في ذا البحر قد تاهوا فالك تجري كما الأفلاك جارية ... بحر السماء وبحر الأرض أشباه

وكلهم نعم للخلق شاملة ... تبارك الله لا تحصى عطاياه يا فاتق الرتق من هذا الوجود كما ... في سابق العلم قد خطت قضاياه كن لي كما كنت لا عملا ... أرجو ولا ذنب قد أذنبت أخشاه وأنت في حضرات القدس تنقلني ... حتى استقر بهذا الكون مثواه ما أقبح العبد أن ينسى وتذكره ... وأنت باللطف والإحسان ترعاه غفرانك الله من جهل بليت به ... فيمن أفاد وجودي كيف أنساه مني على حجاب لست أرفعه ... إلاّ بتوفيق هدى منك ترضاه فعد على بما عودت من كرم ... فأنت أكرم من أملت رحماه ثم الصلاة صلاة الله دائمة ... على الذي بأسمه في الذكر سماه المجتبي وزناد النور ما قدحت ... ولا زكا من نسيم الروض مسراه والمصطفى وكمام الكون ما فتقت ... عن زهر يروق العين مرآه ولا تفجر نهر للنهار على ... در الدراري فغطاه وأخفاه يا فاتح الرسل أو يا خاتمها شرفا ... والله قدس في الحالين معناه لم أدخر غير حب فيك أرفعه ... وسيلة لريم يوم ألقاه صلى عليك إله أنت صفوته ... ما يطيب بلذيذ الذكر أفواه وعم بالروح والريحان صحبته ... وجادهم من نمير العفو أصفاه وخص أنصاره الأعلين صفوته ... وأسكنوا من جوار الله أعلاه أنصار ملته أعلام بيعته ... مناقب شرفت أثنى بها الله وأيد الله من أحيا جهادهم ... وأوصل الفخر أولاه بأخراه المنتقي من صمم الفخر جوهره ... ما بين نصر وأنصار تهاداه والعلم والحلم والإقبال شيمته ... والبأس والجود بعض من سجاياه

وهي طويلة سردها هذا المؤلف كلها ومنها: يهني زمانك أعياد مجدد ... من الفتح مدى الأيام تغشاه غضبت للدين والدنيا بحقهما ... يا حبذا غضب في الله أرضاه فوقت للغرب سهما راشه قدر ... وسدد الله للأعداء مرماه سهم أصاب وراميه بذي سلم ... لقد رمى الغرض الأقصى فأصماه من كان بندك يا مولاي يقدمه ... فليس يخلفه فتح ترجاه من كان جندك جند الله ينصره ... أناله الله ما يرجو وأسناه ملكته غربة خلدت من ملك ... للغرب والشرق منه ما تمناه وسام أداءك الأشقين ما كسبوا ... ومن ترى رداء الغدر أرداه قل للذي رمدت جهلا بصيرته ... فلم تر الشمس الهدى عيناه غطى الهوى عقله حتى إذا ظهرت ... له المراشد أعشاه وأعماه هل عنده وذنوب الغدر توبقه ... أنَّ الذي قد كساه العز أعراه لو كان يشكر ما أوليت من نعم ... ما زلت ملجاه الأحمى ومنجاه سل السعود وخل البيض مغمدة ... فالسيف مهما مضى فالسعد أمضاه واشرع من البرق نصلا راع مصلته ... وارفع من الصبح بندا راق محلاه فالعدوتان وما قد ضم ملكتهما ... أنصار ملكك صان الله علياه لا أوحش الله قطرا أنت مالكه ... وآنس الله بالألطاف مغناه لا أظلم الله أفقا أنت نيره ... لا أهمل الله سرحا أنت ترعاه

وأهنأ بشهر الصيام جاء رائده ... ميتنزلا من إله العرش رحماه أهل بالسعد فانهلت به منن ... وأوسع الصنع إجمالا ووفاه أما ترى بركات الأرض شاملة ... وأنعم الله قد عمت براياه وعادك العيد تستحلي موارده ... ويجزل الرحمى مصلاه جهزت جيش دعاء فيه ترفعه ... لذي المعارج والإخلاص رقاه أفضت فيه من النعماء أجزلها ... وأحسن البر ما الإحسان زكاه واليت للخلق ما أوليت من نعم ... وإلى لك الله ما أولى ووالاه ثم قال بعد سرد عدة قصائد: ومن بدائعه المنيفة عيدية ميلاد وافقتها وجهته من غزوات مولانا الجد أيضاً: لو كنت أعطي من لقائك سولا ... لم أجد برق الغمام رسولا أو كنت أبلغ من قبولك مأملي ... لم أودع الشكوى صبا وقبولا لكن معتل النسيم إذا سرى ... ما زال يوسع ذا الهوى تعليلا وبملتقى الأرواح دوحة أيكة ... جاذبتها عند الهبوب مميلا عهدي بها سدلت على ظلالها ... فسدلت ظلا للشباب ظليلا رتعت به حولي الظباء أوانسا ... فنعمت فيه معرسا ومقيلا وصقلت للحسناء صفح مودتي ... لمّا اجتليت العارض المصقولا ثم انتشيت وقد تعاطيت الهوى ... ريما أغر وجؤذرا مكحولا كم فيه ملح لمرتاد الهوى ... تركت فؤاد محبه متبولا

لم ترو لي عيناه حكمة بابل ... إلاّ أخذت حديثها مقبولا ولقد أجد جواي لمّا زرته ... رسما كحاشية الرداء محيلا قد أنكرته العين إلاّ لمحة ... عرفت به آثاره تخبيلا وإذا الطول تعرضت لمتيمٍ ... غادرن دمع جفونه مطلولا من ينجد الصبر الجميل فانه ... بعد الأحبة قد أجد رحيلا كيف التجمل بعدهم وأنا الذي ... أنسيت قيسا في الهوى وجميلا من عاذري والقلب أوّل عاذل ... فيمن أفند لائماً وعذولا اتبعت في دين الصبابة أمة ... ما بدلوا في حبهم تبديلا يا مورداً حامت عليه قولبنا ... لو نيل لم يخر المدامع نيلا ما ضر من وقت غلائله ضحًى ... لو بات ينقع للمحب غليلا كم ذا أعلل بالحديث وبالمنى ... قلبا كما شاء الغرام عليلا أعديت وصلة الهديل بسخرة ... شجوا وجانحة الأصيل نحولا وسريت في طي النسيم لعلنى ... أحتل حيا بالعقيق حلولا هذا ووجدي مثل وجدي عندما ... استشعرت من ركب الحجاز رحيلا قد سددوا الأنضاء ثم تتابعوا ... يتلو رعيل في الفلاة رعيلا مثل القسى ضوامر قد أرسلت ... يذرعن عرض البيد ميلاً ميلا مترنحين على الرحال كأنما ... عاطين من فرط الكلال شمولا إنَّ يلتبس علم الظريق عليهم ... جعلوا التشوق للرسول دليلا

يا راحلين وما تحمل ركبكم ... إلاّ قلوب العاشقين حمولا ناشدتكم عهد المودة بيننا ... والعهد فينا لم يزل مسئولا مهما وصلتم خير من وطي الثرى ... إنَّ توسعوا ذاك الثرى تقبيلا يا ليت شعري هل أعرس ليلة ... فأشم حولي إذخرا وجليلا أو تروني يوما مياه مجنةٍ ... ويشيم طرفي شمامة وطفيلا وأحط في مثوى الرسول ركائبي ... وأبيت للحرم الشريف نزيلا بمنزل الوحي التي قد شرفت ... قد شافهت أعلامها التنزيلا بمعاهد الإيمان والدين التي ... قد صافحت عرصاتها جبريلا ومهاجر الدين الحنيف وأهله ... حيث استقر به الأمان دخيلا دار الرسول ومطلع القمر الذي ... إبداؤه ما فارق التكميلا يا حبذى تلك المعالم والربا ... يا حبذا تلك الطلول طلولا حيث النبوة قد جلت آفاقها ... وجها من الحق المبين جميلا حيث الرسالة فصلت أحكامها ... لتبين التحريم والتحليلا حيث الشريعة قد رست أركاتها ... فالنص منها يعضد التأويلا

حيث الهدى والدين والحق الذي ... محق الضلال وأذهب التضليلا حيث الضريح يضم أكرم مرسل ... وأجل خلق الله جيلاَ جيلا إنَّ الإله اختارها لمقامه ... واختاره للعالمين رسولا رحم الإله العالمين ببعثه ... فيهم وفضل جنسه وتفضيلا بدعائه انقشع الغمام وقبله ... والت بدعوته الغمام همولا والشمس قد ردت له ولطالما ... قد ظللته سحابها تظليلا لم لا يطاوعه الوجود وقد غدا ... من نوره في خلقه معلولا يا نكتة إلاّ كوان يا علم الهدى ... آيات فضلك رتلت ترتيلا لولاك لم يك للكيان حقيقة ... ولكان باب وجودها مقفولا لولاك للزهر الكواكب لم تلح ... مثل الأزاهر ما عرفن ذبولا لولاك لم تجعل السماء شموسها ... ولكان سجف ظلالها مسبولا لولاك ما عبد الإله وما غدا ... ربع الجنان بأهله مأهولا يا رحمة الله التي ألطفها ... سحبت علينا للقبول ذيولا يا حجة الله التي برهانها ... ما كان يوما صدقه مجهولا كم آيه لك قد صعدت بنورها ... ليل الضلال وإفكه المنحولا أوضحتها كالشمس عند طلوعها ... وعقلت عن إدراكهن عقولا وأتيت بالذكر الحكيم مبينا ... قد فضلت آياته تفضيلا أثنى عليك بكتبه من أنزل ... القرآن التوراة والإنجيلا

قذا البليغ يروم مدحك جاهدا ... أضحى حسام لسانه مفلولا يا شافع الرسل الكرام ومن به ... يرجون في يوم الحساب قبولا رفقا بمن ملك القضاء زمامه ... فغداً ذنوبه معقولا وحسرتا ضيعت عمري في الهوى ... والتوب أضحى دينه ممطولا وجريت في طلق البطالة جماحاً ... حتى انثنى طرف الشباب كليلا وعثرت في طلب المفاز جهالة ... لكن وجدتك للعثار مقيلا يا صفوة الله الأمين لوحيه ... من أم جاهك أحرز التأميلا والله مالي للخلاص وسيلة ... إلاّ رضاك وعفوك المأمولا إنَّ كنت ما أعددت زاداً نافعاً ... أعددت حبك شافعاً مقبولا صلى عليك الله ما ركب سرى ... فأجد وخداً في المفازة ميلا وأعز من ولاه أمر عباده ... فحباهم إحسانه الموصولا واقام مفروض الجهاد بعزمةٍ ... تركت أفئدة العداة فلولا والله ما أدرى وقد حضر الوغى ... أحسامه أم عزمه مصقولا ملك إذا لثم الوجود يمينه ... فالبحر عذبا والرياض بليلا أو يخلف الناس الغمام وامحلوا ... فنداه لا يخشى العفاة محولا من دوحة نصرية يمنية ... وشجت فروعا في العلا وأصولا فإذا سألت الكتاب نقل فضيلة ... لم تلف إلاّ فخرها منقولا

يا أيّها الملك الذي أيامه ... وضحت بأوجه دحرز محولا والله ما آثار هديك عندنا ... إلاّ نجوما ما عرفن أفولا لم يعرف التركيب سيفك في الوغى ... فأعجب له قد أحكم التحليلا كم صورةٍ لك في الفتوح وسورة ... تجلى وتتلى بكرة وأصيلا لم تسر سارية الرياح بطيبة ... إلاّ لتحمل ذكرك المعسولا وكأنَّ صفح البرق سيفك ظل من ... غمد الغمامة مرهفا مسلولا كم بلدة للكفر قد عوضت من ... ناقوسها التكبير والتهليلا صدقت مقدمة الجيوش فصيرت ... من حينها موضوعها مخمولا كسروا تماثيل الصليب ومثلوا ... بمن انتمى لولائه تمثيلا لمّا أحط بها وحان دمارها ... أخرجت مترفا الأعز ذليلا تجرى الدموع وما تبل غليله ... فمصفد يبكي هناك قتيلا سلت يمين الملك منك على العدا ... عضبا مهيب الشفرين صقيلا لم يرض سيفك أنَّ يحلى جوهراً ... حتى يحلى عسجداً مخلولا لم ترض همتك القليل من التقى ... حتى أتت بالصالحات قبيلا فأقمت ميلاد الرسول بليلةٍ ... أوضحت فيها للجهاد سبيلا حيث القباب البيض جللت الربا ... أزهار روض ما اكتسين ذبولا مواقد النيران تذكى حولها ... فينير مشعلها ربأ وسهولا والأفق فوقك قبة محبوكة ... مدت عليك طرفها المسدولا

ورمى إليك ببدره ونجومه ... يهديك منه التاج والإكليلا حيث الكتائب قد تلاطم موجها ... وتدفقت فيها الخيول سيولا زخرت بأمواج الحديد وربما ... ضاق الفضاء فما وحدن مسيلا يتجاوب التكبير في جنباتها ... فتعيد غر الجياد صهيلا حملت من الأبطال كل مشمرٍ ... لا يقتني سمر القنا ونصولا آساد ملحمة إذا اشتجر الوغى ... دخلوا من الأسل المثقف غيلا إنَّ شمروا يوم الحروب ذيولهم ... سحبوا من الزرد المفاض ذيولا أو قصروا يوم الطعان رماحهم ... وصلوا بها الخطو الوساع طويلا يا ليلة ظفرت يداي بأجرها ... ومهرت فيها بالرضا مشمولا والله لو عوضت عنك شبيبتي ... ما كنت أرضى بالشباب بديلا يا ناصر الإسلام يا ملك العلا ... الله يؤتيك الجزاء جزيلا جهز جيوشك للجهاد موفقا ... وكفى بربك كافيا وكفيلا وللتعبد الغارات في أرض العدا ... والله حسبك ناصرا ووكيلا وإليك من سمر الجهاد غريبة ... جاءتك تقرضك الثناء جميلا وأطلت لكني أطبت وعادتي ... ألفي مخيبا في المديح مطيلا لا زال نصرك كلما استنجدته ... لمهم دينك عائدا موصولا

ثم قال بعد ذكر جملة من قصائد: ومن ذلك وقد عاد من وجهه للصيد أعملها وأعنت للجياد في ميادين ذلك الطرد أرسلها ما أنشده: حياك يا دار الهوى من دار ... نوء السماك بديعة مدرار وأعاذ وجه رباك طلقا مشرقا ... متضاحكا بمماسم النوار أمذ كرى دار الصباب والهوى ... حيث الشباب يروق حسن نضار عاطيتني عنها الحديث كأنما ... عاطيتني منها كئوس عقار إيه وإن أذ كيت نار صبابتي ... وقدحت زند الشوق بالتذكار يا زاجر الأظعان وهي مشوقة ... أشبهتها في زفرة وأوار حنت إلى نجد وليست دارها ... وصبت إلى هندية والقار لكنها شامت به برق الحمى ... واعتادها طيف الكرى بمزار هل تبلغ الحاجات إن حملتها ... إن الوفاء سجية الأحرار عرض بذكرى في الخيام وقل إذا ... جئت العقيق مبلغ الأوطار عار بقومك يا بنة الحيين أن ... تلوي الديون وأنت ذات يسار أمنعت ميسور الكلام أخا الهوى ... وبخلت حتى بالخيال الساري؟ وأبان جاري الدمع عذر هيامه ... لكن أضعت حقوق داك الجار هذا وقومك ... ما علمت خلالهم أوفى الكرام بذمة وجوار

الله في نفس شعاع كلما ... هب النسيم تطير كل مطار بالله يا لمياء منع الصبا ... إلاّ تهب بعرفك المعطر يا بنت من تشدو الجداة بذكره ... متعللين به على الأكوار ما ضر نسمة حاجر لو أنها ... أهدت لناخبر من الأخبار هل بأنه من بعدنا متأود ... متجاوب مترنم الأطيار وهل الظباء الآنسات كعهدها ... يصر عن أسد الغاب وهي ضواري يفتكن من قاماتها ولحاظها ... بالمشرفية والقنا الخاطر أشعرت قلبي حبهن صبابة ... فرمينني من لوعتي بجمار وعلى الكثيب سوانح حمر الحلى ... بيض الوجوه يصدن بالأفكار أدنى الحجيج مزارهن ثلاثة ... بمنى لو أن ديار قرار لكن يوم النفر جدن لنا بما ... عودننا من جفوة ونفار يا بن الالي قد أحرزوا فضل العلا ... وسموا بطيب ارومة ونجار وتنوب عن صوب الغمام أكفهم ... وتنوب أوجههم عن الأقمار من آل سعد رافعي علم الهدى ... المصطفين لنصرة المختار أصبحت وارث مجدهم وفخارهم ... ومشرف الإعصار والأمصار وجه كما حسر الصباح نقابه ... ويد تند أناملا ببحار جردت دون الدين عزامة أروع ... جددت منها سنة الأنصار

حطت البلاد ومن حوته ثغورها ... وكفى بسعدك حاميا لذمار لله رحلتك التي نلنا بها ... أجر الجهاد ونزهة الأبصار أوردتنا فيها لجودك موردا ... مستعذب الإيراد والإصدار وأفضت فينا من نداك مواهبا ... حسنت مواقعها على التكرار أضحكت ثغر الثغر لمّا جئته ... وخصصته بخصائص الإثار حتى الفلاة تقيم يوم وردتها ... سنن القرى بتلالؤ الأنوار وسرت عقاب الجو تهديك الذي ... تصطاد من وحش ومن أطيار والأرض تعلم أنك الغوث الذي ... تضفي عليها وافي الأستار ولرب منتد الأباطح موحش ... عالي الربا متباعد الأقطار همل المسارح لا يراع قنيصه ... إلاّ لنبأة فارس مغوار سرحت عنان الرياحفيه وربما ... ألقيت بساحته عصا التسيار باركته والأفق قد خلع الدجى ... مسحا ليلبس خدمة الإسفار وجرى به نهر النهار كمثل ما ... سكب النديم سلافة من قار عرضت به المستنفرات كأنها ... خيل عراب جلن في مضمار أتبعتها غرر الجياد كواكبا ... تنقض رجما في سماء غبار والهاديات يومها عبل الشوى ... متدفق كتدفق التيار أزجيتها شقراء رائقة الحلى ... فرميت منها بشعلة نار

أثبت فيه الرمح ثم تركته ... خضب الجوانح بالدم الموار حامت عليه الذابلات كأنها ... طير أوت منه إلى أوكار طفقت أرانبه غداة أثرتها ... تبغي الفرار ولات حين فرار هل ينفع الباع الطويل وقد غدت ... يوم الطراد قصيرة الأعمار من كل منحفز بلمحة بارق ... فاتت خطاه مدارك الأبصار وجوارح سبقت إليه طلابها ... فكأنما طالبنه بالثار سود وبيض في الطرد تتابعت ... كالليل طارده بياض نهار ترمي بها وهي الحنايا ضمرا ... مثل السهام نزعن أوتار طنت بأن بها كلا ولو ... أغريته بأرانب الأقمار وبكل فتخاء الجناح إذا ارتمت ... فكأنها نجم السماء الساري زجل الجناح مصفق كمن الردى ... في مخلب منه وفي منقار أجلى الطريد من الوحوش وإن رمى ... طيرا أتاك به على مقدار وأريتنا الكسب الذي أعداده ... ملأت جملا أعين النظار بيض وصفر خلت مطرح سرحها ... روضا عن شقيق بهار من كل موشي الأديم مفوف ... رقمت بدائعه يد الأقدار خلط البياض بصفوة في لونه ... فترى اللجين يشوب دوب نضار أو أشعل راق العيون كأنه ... غلس يخالط سدفة بنهار

سرحت بمخصر الجوانب يانع ... تنساب فيه أراقم الأنهار قد أرضعته الساريات لبانها ... وحللن فيه أزرة النوار أخذت سعودك حذرها فلحكمة ... أغرت جفون المزن باستعبار لمّا أرتك الشمس صفرة حاسد ... لجبينك المتألق الأنوار نفثت عليك السحب نفث معوذ ... من عينها المتوقع الأضرار فارفع لواء الفخر غير مدافع ... واسحب ذيول العسكر الجرار وأهنأ بمقدمك السعيد مخولا ... ما شئت من عز ومن أنصار قد جئت دارك محسنا ومؤملا ... متعت بالحسنى وعقبى الدار وإليكها من روض فكرى نفحة ... شف الثناء بها على الأزهار ثم قال: ومن ذلك ما أنشده رضي الله عنه في رحلة ركاب المجاهد إلى المرية بالقصر الصمادحي في حدود عشر سنين وسبع مائة: الخمول تحن للأطلال ... ويشوقها ذكر الزمان الخالي يثني أزمة هيمها شوق إلى ... ظل الأراك وأزرق سلسال ذكرت بها الحي الجميع كعهدها ... والربع منها أخضر السربال والدار حالية المعاطف والربا ... ومرادها بالروضة المخضال أييان ما لعبت بها أيدي النوى ... وتراهنت في الحال والترحال

وجرت بسدتها الحداة كأنها ... قطع السفائن خضن بحر ليال دعني أطارحها الحنين فإنني ... لا أنثني لمقالة العذال وهي النازل أشبهت سكانها ... أعمارها تفضي إلى الآجال بليت محاسنها وخف أنيسها ... والشوق والتذكار ليس ببالي ولقد أقول وما يعنف ذو الهوى ... ذهب الغرام بحيلة المحتال أحشى تذوب صبابة ومدامع ... تغري جفون المزن باستهلال ووراء مطلع الخدور جآذر ... تجلي شموسا في غمام حجال يا ساكني نجد وما نجد سوى ... نادي الهوى ومخيم الآمال ما للضباء الآنسات بربعكم ... عطلا وهن من الجمال خوالي أو للرياح تهب وهي بليلة ... فتهيج من وجدى ومن بلبالي هي شيمة عذرية عودتها ... قلبا شعاعا ما يرى بالسالي يا بنت من غمر العفاة نواله ... هلا سمحت ولو بطيف خيالي فلكم بعثت مع النسيم تحيتي ... عودت ساري البرق من أرسالي بالله يا ريح النعامي جرري ... فوق الخزامي عاطر الأذيال وإذا مررت على الكثيب برامة ... صافح محيا الروضة المخضال فيها المعاهد قد طلعن بأفقها ... زمنا ولم أجنح لوقت زوال

أمذ كرى عهد الشبيبة جاده ... صوب العهاد بواكف هطال عاطيتني عنه الحديث كأنما ... عاطيتني منه أبنة الجريال هذا على أني نزعت عن الصبا ... وصرمت من حب الحسان حبالي حسبي وقارا في الندى إذا احتبى ... وتجاولوا في الفخر كل مجال أني ألوذ بدولة نصرية ... حليت محاسنها بكل كمال حيث الوجوه صبيحة والمكرما ... ت صريحة والعز غير مزال حيث المكارم سنها أعلامها ... من كل فياض الندى مفضال بيض الأيادي والوجوه أعزة ... قد شيدوا العليا بسمر عوالي هم آل نصر ناصروا دين الهدى ... والمصطفون لخيرة الأرسال ما شئت من مجد قديم شاده ... أبناء قيلة أشراف الأقيال ما منهم إلاّ أعز محجل ... يلقى العظائم وهو غير مبالي متبسم واليوم أكلح عابس ... والحر تدعو بالكماة نزال قد عودا النصر العزيز وخولوا ال ... فتح المبين بملتقى الأبطال بذلوا لدى الهيجاء كرائم أنفس ... قد أرخصت في الله وهي غوالي يا أيها الملك الهمام المجتبى ... ومنيل دين الله خير منال أصبحت وارث مجدهم وفخارهم ... ومشرف الأمصار والأبطال وطلعت في أفق الخلافة نيرا ... تجلو ظلام الظلم والإضلال

فقت الملوك جلالة وبسالة ... وشأوتهم في الحلم والإجمال أعدت محاسنك المحاسن كلها ... فجمالها يزرى بكل جمال فالشمس تأخذ من جبينك نورها ... والروض ينفح عن كريم خلال والريح تحمل عن ثنائك طيبها ... في ملتقاها من صبا وشمال والغيث إلاّ من نداك مبخل ... فالغيث يقلع والندى متوالي تعطي الذي لا فوقه لمؤمل ... وتجود بالإحسان قبل سؤال طاولت علوى النجوم بهمة ... لا فاقدا عزا ولا مكسال وبلغت من رتب السعادة مبلغا ... أبعت فيه مرتقاك العالي وقياس سعدك في مرامك كله ... يقضى مقدمه بصدق التالي لمن الجياد الصافنات كأنها ... في الورد أسراب القطا الأرسال من كل ملموم القوى عبل الشوى ... مرخى العنان محفز جوال لمن القباب الحمر ترشع للندى ... فتفيض للعافين فيض سجال لمن الخيام البيض تحسب أنها ... زهر الكواكب أطلعت بحلال منداحة الأرجاء عالية الذرى ... فكأنها في الوهد شم جبال هو مظهر الملك العلي ومطلع الن ... ور الجلي بمرقب متعالي آثار مولانا الإمام محمّد ... بدر الهدى لا زال حلف كمال

لله وجهتك التي نلنا بها ... أجر الجهاد وبغيه الآمال ما شئت من حسن يفوق كماله ... ويروق منظره الجميل الحالي كم من عجائب جمة أظهرتها ... ما كان يخطر وصفهن ببال أمت وفود الناس منك مملكاً ... قد خص بالتعظيم والإجلال جاءوا مواقيت اللقاء منك كأنهم ... وفد الحجيج برامةٍ وألال لله عيناً من رأى ملك العلا ... حف الوقار جماله بجلال في موكب لبسوا الخلوص شعاره ... وتميزوا منه بزي جمال بلغوا به العدد الكثير وكلهم ... أرضاهم إحسانا المتوالي يهني المرية نعمة سوغتها ... جادت بها الأيام بعد مطال قدست واديها وزرت خلالها ... فلها الفخار بها على الآصال وكسوتها برد الشباب مفوفاً ... وشفيت ما تشكو من الأوجال مولاي لا أحصى ثناك أنّه ... أربى على التفصيل والإجمال أعليت في أفق العناية مظهري ... وخصصته بعوارف الإفضال ظفرت يداي بكل ما أملته ... في النفس أو في الجاه أو في المال لم تبق لي أملا وما بلغته ... بلغت ما ترجوا من الآمال ثم قال بعد ذكر بعض العيدان: ومن ذلك: بشرى كما وضح الصباح واجمل ... يعشى سناها كل من يتأمل

أبدي لها وجه النهار طلاقة ... وافتر من ثغر الأقاح مقبل ومنابر الإسلام يا ملك الورى ... بحلاك أو بحليها تتكمل تجول لنا الأكوان منك محاسناً ... تروى على مر الزمان وتنقل فالشمس تأخذ من جبينك نورها ... والبشر منك بوجهها يتهلل والروض ينفتح عن ثنائك طيبه ... والروق فيه بالمادح تهدل والبرق سيف من سيوفك منتضى ... والسحب تمهي من يديك وتهمل يا أيّها الملك الذي أوصافه ... در على جيد الزمان مفضل الله أعطاك كما حسر الصباح نقابه ... لضيائه تعشو البدور الكمل تلقاه في يوم السماحة والوغى ... والبشر في وجناته يتهلل كف أبت الاتكف عن الندى ... أبداً فإنَّ ضن الحيا تسترسل وشمائل كالروض باكره الحيا ... وسر برياه الصبا والشمأل خلق أبن نصر في الجمال كخلقه ... ما بعده عن غايةٍ تستكمل نور على نورٍ بأبهى منظرٍ ... في حسنه لمؤمل ما يأمل فاق الملوك بسيفه وبسيبه ... فبعدله وبفضله يتمثل وإذا تطاول للفخار عميدهم ... فله عليه تطاول وتطاول

يا آية الله التي أنوارها ... يهدي بها قصد الرشاد الضلل قل للذي التبست معالم رشده ... هيهات قد وضح الطريق الأمثل قد ناصح الإسلام خير خليفة ... وحمى عرين الملك أغلب مشبل فلقد ظهرت من الكمال بمستوى ... ما بعده لذوى الخلافة مأمل وعناية الله اشتملت رداءها ... وعلقت منها عروة لا تنفصل فالجودة إلاّ من يديك مقتر ... والغيث إلاّ من نداك مبخل والعمر إلاّ تحت ظلك ضائع ... والعيش إلاّ في جنابك ممحل حيث الجهاد قد اعتلت راياته ... حيث المغانم للعفاة تنفل حيث القباب الحمر ترفع للقرى ... قد قام في أرجائهن المندل يا حجة الله التي برهانها ... عز المحق به وذل المبطل قل للذي ناوأك يرقب يومه ... فوراه ملك يقول ويفعل والله جل جلاله إنَّ أمهلت ... أحكامه مستدرجاً لا تهمل يا ناصر الإسلام وهو فريسة ... أسد العدا من حولها تتسلل يا فخر أندلس وعصمة أهلها ... لك فيهم النعمى التي لا تجهل لا يهمل الله الذين رعيتهم ... فلأنت أكفى والعناية أكفل لا يبعد النصر العزيز فإنه ... آوى إليك وأنت نعم الموئل لولا نداك لها لمّا نفع الندى ... ولجف من ورد الصنائع منهل

لولاك كان الدين يغمط حقه ... ولكان دين النصر فيه يمطل لكن جنيت الفتح من شجر القنا ... وجنى الفتوح لمن عداك معلل فلطالما استفتحت كل ممنع ... من دونه باب المطامع مقفل ومتى نزلت بمقلٍ متأشب ... فالعصم من شعفاته تستنزل وإذا غزو فإنَّ سعدك ضامن ... ألا تخيب وإنَّ قصدك يكمل فمن السعود أمام جيشك موكب ... ومن خلال دون جندك جحفل وكتيبة أردفتها بكتيبة ... والخيل تمرح في الحديد وترفل من كل منفخر كلمحة بارقٍ ... بالبدر يسرج والأهلة ينعل أوفى بهاد كالظليم وخلفه ... كفل كما ماج الكثيب الأهيل حتى إذا ملك الكمى عنانه ... يهوى كما يهوى بجو أجدل حملت أسود كريهة يوم الوغى ... ما غابها إلاّ الوشيج الذبل لبسوا الدروع غدائر مصقولة ... والسمر قضب فوقها تتهدل من كل معتدل القوام مثقفٍ ... لكنه دون الضريبة يعسل أذكيت فيه شعلة من نصله ... يهدى بها إنَّ ضل عنه المقتل ولرب لماع الصقال مشهر ... ماضٍ ولكن فعله مستقبل رقت مضاربه وراق فرنده ... فالحسن فيه مجمل ومفضل فإذا الحروب تسعرت أجوالها ... ينساب في يمناك منه جدول

وإذا دجا ليل القتام رأيته ... وكأنه فيه ذبال مشعل فأعجب لها من جذوةٍ لا تنطفي ... في أبحر زخرت وهن الأنمل هي سنة أحييتها وفريضة ... أدنيتها قرباتها تتقبل فإذا الملوك تفاخرت بجهادها ... فلأنت أحفى بالجهاد وأحفل يا ابن الذين جمالهم ونوالهم ... شمس الضحى والعارض المتهلل يا ابن الأمام ابن الإما ... م أبن الإمام وقدرها لا يجهل آباؤك الأنصار تلك شعارهم ... فلحيهم آوى النبي المرسل فهم الألى نصروا الهدى بعزائمٍ ... مصقولةٍ وبصائر لا تخذل ماذا يحبر شاعر في مدحهم ... وبفضلهم أثنى الكتاب المنزل مولاي لا أحصي مآثرك التي ... بحديثها تمضي المطي الذلل وإذا الحقائق ليس يدركها ... سيان فيها مكثر ومقلل فاليك من شوال غرة وجهه ... أهداكما يوم أغر محجل عذراء راق العيد رونق حسنها ... فغدا بنظم حليها يتجمل رضعت لبان العلم في حجر النهى ... فوفت لها منه ضروع حفل سلك البيان لها سبيل إجازةٍ ... لولا صفاتك كان عنها يعدل جاءت تهني العيد أيمن قادم ... وافى بشهر صيامه يتوسل وطوى الشهور مراحلاً معدودة ... كيما يرى بفناء جودك ينزل

وأتى وقد شف النحول هلاله ... ولشوقه للقاء وجهك ينحل عقدت بمرقبه العيون مسرة ... فمكبر لطلوعه ومهلل فاسلم لألفٍ مثله في غبطةٍ ... ظل المنى من فوقها يتهدل فإذا بقيت لنا فكل سعادةٍ ... في الدين والدنيا بها تتكفل ثم قال بعد إراد جملة قصائد: ومن جياد أناشيده المتميزة بالسبقية، وبارقات تهانيه في المواسم العقيقية، قوله يهنئه، رضوان الله تعالى عليه، بطلوع مولانا الوالد قدسه الله تعالى: طلع الهلال وأفقه متهلل ... فمكبر لطلوعه ومهلل أوفى على وجه الصباح بغرةٍ ... فغدا الصباح بنورها يتجمل شمس الخلافة قد أمدت نوره ... وبسعدها يرجو التمام ويكمل لله منه هلال سعد طالع ... لضيائه تعشو البدور الكمل وألحت يا شمس الهداية كواكباً ... يعشى سناه كل من يتأمل والتاج تاج البدور في أفق العلا ... ما زال بالزهر النجوم يكلل ولئن حوى كل الجمال فإنه ... بالشهب أبهى ما يكون وأجمل أطلعت يا بدر السماح هلاله ... والملك أفق والخلافة منزل يبدو بهالات السروج وأنّه ... من نور وجهك في العلا يستكمل قلدت عطف الملك منه صارماً ... بغنائه ومضائه يتمثل حليلته بحلي الكمال وجوهر ... الخلق النفيس وكل خلق يجمل يغزو أمامك والسعود أمامه ... وملائك السبع العلا تتنزل

من مبلغ الأنصار منه بشارة ... غر البشائر بعدها تسترسل أحيا جهادهم وجدد فخرهم ... بعد الئين فملكهم يتأثل فبه إلى الأجر الجزيل توصلوا ... وبهم إلى رب السما يتوسل من مبلغ الأذواء من يمنٍ وهم ... قد توجوا وتملكوا وتقيلوا أنَّ الخلافة في بنيهم أطلعت ... قمراً به سعد الخليفة يكمل من مبلغ قحطان آساد الشرى ... ما غابها إلاّ الوشيج الذبل أنَّ الخليفة وهو شبل ليوثهم ... قد حاط منه الدين ليث مشبل يهنى بني الأنصار أنَّ مليكهم ... قد بلغته سعود ما يأمل يعني البنود فإنها ستظله ... وجناح جبريل الأمين يضلل يهني الجياد الصافنات فإنها ... بفتوحه تحت الفوارس تهدل يهني المذاكي والعوالي والضبى ... فبها إلى نيل المنى يتواصل يهني المعالي والمفاخر أنّه ... في مرتقى أوج العلا يتوقل سبقت مقدمة الفتوح قدومة ... وأتاك وهو الوادع المتمهل وبدت نجوم السعد قبل طلوعه ... تجلو المطالع قبله لا تأمل وروت أحاديث الفتوح غرائبا ... والنصر يملي والبشائر تنقل ألقت إليك به السعود زمامها ... فالسعد يمضي ما تقول ويفعل فالفتح بين معجل ومؤجل ... ينسيك ماضيه الذي يستقبل

أوليس في شأن المسير دلالة ... أن المقاصد من طلابك تكمل ناداهم داعي الضلال فأقبلوا ... ودعاهم داعي المنون فجدلوا عصوا الرسول إباية وتحكمت ... فيهم سيوفك بعدها فاستمثلوا كانوا جبالا قد علت هضابها ... نسفتهم ريح الجلاد فزلزلوا كانوا بحارا من حديد زاخر ... أذكتهم نار الوغى فتسيلوا ركبت أرجلها الأداهم كلما ... يتحركون إلى قيام تصهل كان الحديد لباسهم وشعارهم ... واليوم لم تلبسه إلاّ الأرجل الله أعطاك التي لا فوقها ... فتحا به دين الهدى يتأثل جددت الأنصار حلي جهادهم ... فالدين والدنيا به تتجمل من يتحف البيت العتيق وزمزمها ... والوفد وفد الله فيه ينزل متسابقين إلى مثابة رحمة ... من كل ما حدب إليه تنسل سما كأفواج القطا قد ساقها ... ظمأ شديد والمطاف المنهل من كل فروع الأكف ضراعة ... والقلب يخفق والمدامع تهمل حتى إذا روت الحديث مسلسلا ... بيض الصوارم والرماح العسل عن فتحك الأسنى عن الجيش الذي ... بثيابه أهل الوغى تتمثل أهدتهم السراء نصرة دينهم ... واستبشروا بحديثها وتهللوا وتناقلوا عنك الحديث مسرة ... بسماعه واهتز ذاك المحل ودعو بنصرك وهو أعظم مفخرا ... إنَّ الحجيج بنصر ملكك يحفل فاهنأ بملكك واعتمد شكرا به ... لطف الإله وصنعه تتخول شرفت منه باسم والدك الرضا ... يحيا به منه الكريم المفضل

أبديت من حسن الصنيع عجائبا ... تروي على مر الزمان وتنقل خفقت به أعلامك الحمر التي ... يخفوقها النصر العزيز موكل هدرت طبول العز تحت ظلالها ... عنوان فتح إثرها يستعجل ودعوت أشراف البلاد وكأنهم ... يثني الجميل وصنع جودك أجمل وردوا ورود الهيم أجهدها الظما ... فصفا لهم من ورد كفك منهل واثرت فيه للطراد فوارسا ... مثل الشموس وجوههم تتهلل من كل وضاح الجبين كأنه ... نجم وجنح النقع ليل مسبل يرد الطراد على أغر محجل ... في سرجه بطل أغر محجل قد عودوا قبض الكماة كأنما ... عقبانها ينقص منها أجدل يستتبعون هوادجها موشية ... من كل بدع فوق ما يتخيل قد صورت منها غرائب جمة ... تنسي عقول الناضرين وتذهل وتضمنت جزل الوقود حمولها ... والنصر في التحقيق ما هي تحمل والعاديات إذا تلت فرسانها ... آي القتال صفوفها تترتل الله خيلك أنها لسوابح ... بحر القتام وموجه متهيل من كل برق بالثريا ملجم ... بالبدر يسرح والأهلة ينعل أو في بهاد كالظلم وخلفه ... كفل كما ماج الكثيب الأهيل هن البوارق غير أنَّ جيادها ... عن سبق خيلك يا مؤيد تنكل من أشهب كالصبح يعلو سرجه ... صبح به نجم الضلالة يأفل أو أدهم كالليل قلد شهبه ... خاض الصباح فأثبتته الأرجل

أو أشقر سال انضار بعطفه ... وكساه صبغة بهجة لا تنصل أو احمر كالجمر أضرم بأسه ... بالركض في يوم الحفيظة يشعل كالخمر أرتع كأسها لندامها ... وبها حبابة غرة تتسيل أو أصفر لبس العشى ملاءة ... وبذيله لليل ذيل مسبل أجملت في هذا الصنيع عوائدت ... الجود فيها مجمل ومفصل أنشأت فيها من نداك غمائما ... بالفصل تنشأ والسماحة تهمل فجرت من كفيك عشرة أبحر ... تزجي سخاب الجود وهي الأنمل من قاس كفك بالغمام فانه ... جهل القياس ومثلها لا يجهل تسخو الغمام ووجهها وتجهم ... والوجه منه مع الندى يتهلل والسحب تسمح بالمياه وجوده ... ذهب به أهل الغنى تتمول من قاس بالشمس المنيرة وجهه ... ألفيته في حكمه لا يعدل من أين للشمس المنيرة منطق ... بيانه در الكلام يفصل من أين للشمس المنيرة راحه ... تسخو إذا بخل الزمان الممحل من قاس بالبدر المنير كماله ... فالبدر ينقص والخليفة يكمل من أين للبدر المنير شمائ ... تسري برياها الصبا والشمأل من أين للبدر المنير مناقب ... بجهادها تنقص المطي الذلل يا من إذا نفحت نواسم حمده ... فالمسك يعبق طيبه والمندل يا من إذا لمحت محاسن وجهه ... تعشو العيون ويبهر المتأمل يا من إذا تليت مفاخر قومه ... آي الكتاب بذكرها تتنزل كفل الخلافة منك يا ملك العلا ... والله جل جلاله بك أكفل مأمونها وأمينها ورشيدها ... منصورها مهديها المتوكل

حسب الخلافة أن تكون وليها ... ومجيرها من كل من يتخيل حسب الزمان بأن تكون إمامه فله بذلك عزة لا تهمل حسب الملوك بأن يكون عميدها ... ترجو الندى من راحتيك وتأمل حسب المعالي أن تكون عميدها ... فعليك أطناب المفاخر تسدل يا حجة الله التي بهانها ... عز المحق به وذل المبطل أنت الإمام ابن الإمام ابن الإما ... م ابن الإمام وفخرها لا يعدل علمت حتى لم تدع من جاهل ... أعطيت حتى لم تدع من يسأل وعناية الله أشتملت رداءها ... وعلقت منها عروة لا تفصل اتصل بهذا البيت جملة أبيات من القصيدة المترجمة في العيديات التي أولها: بشرى كما وضح الصباح وأجمل وحذفناها من هذه اقتصارا للتكرار، وزاد في هذه: أخذت قلوب الكافرين مهابة ... فعقولهم من خوفها لا تعقل حسبوا البروق صوارما مسلولة ... أرواحهم من بأسها تتسلل وترى النجوم مناصلا ورهوبة ... فيقر منها الخائف المتنصل يا أبن الألي إجمالها وجمالهم ... شمس الضحى والعارض المتهلل مولاي لا أحصي ما ثرك التي ... بجهادها يتوسل المتوسل

أصبحت في ظل إمتداحك ساجعا ... ظل المنى من فوقه يتهدل طوقته طوق الحمائم أنعماً ... فغداً بشكرك في المحافل يهدل فاليك من صون العقول عقلية ... أهداكها صنع أغر محجل عذراء راق الصنع حسنها ... فغدا بنظم حليها يتكلل خيرتها بين المنى فوجدتها ... أقص مناها أنها تتقبل لا زلت شمساً في سماء خلافةٍ ... وهلا لك الأسمى يتم ويكمل ثم قال بعد ذكر جملة من نظمه: ومن رقيق منازعه في بعض نزه مولانا رضوان الله عليه بالقصر السلطاني من شنيل قوله: نفسي الفدى لشادن مهما خطر ... فالقلب من سهم الجفون على خطر فضح الغزالة والاقاحة والقنا ... منها تثني أو تبسم أو نظر عجباً لليل ذوائب من شعره ... والوجه منه عن صباح قد سفر عجباً لعقد الثغر منه منظماً ... والعقد من دمعي عليه قد انتثر ما رمت أن أجني الأقاح بثغره ... إلاّ قد سل السيوف من الحور لم أنسه ليل ارتقاب هلاله ... والقلب من شك الظهور على غرر بتنا نراقبه بأول ليلةٍ ... فإذا به قد لاح في نصف الشهر طالعته في روضةٍ كخلاله ... والطيب من هذى وتلك قد اشتهر وكلاهما يبدي محاسنه جملة ... ملء المشامم والمسامع والبصر والكأس تطلع شمسها في خده ... فتكاد تعشى بالأشعة من نظر

نورية جبينه وكلاهما ... يجلوا ظلام الليل بالوجه الأغر هي شيمة للشيخ فيها نسبة ... ما إن يزالا يرعشان من الكبر أفرغت في جسم الزجاجة روحها ... فرأيت روح الأنس منها قد بدر لا تسق غير الروض فضلة كأسها ... فالغصن في ذيل الأزاهر قد عثر ما هب خفاق النسيم مع السحر ... إلاّ وقد شاق النفوس وقد سحر ناجى القلوب الخافقات كمثله ... ووشى بما تخفى الكمام من الزهر وروى عن الضحاك من زهر الربا ... ما أسند الزهري عنه عن مطر وتحملت عنه صحيح حديثه ... رسل النسيم وصدق الخبر الخَبَر يا قصر شينل وربعك آهل ... والروض منك على الجمال قد اقتصر لله بحرك والصبا قد سردت ... منه دروعا تحت أعلام الشجر والآس حف عذاره من حوله ... عن كل من يهوى العذار قد اعتذر قبل بثغر الزهر كف خليفةٍ ... يغنيك صوب الجود منه عن المطر وافرش خدود الورد تحت نعاله ... واجعل بها لون المضاعف عن خفر وانظم غناء الطير فيه مدائحاً ... وانثر من الزهر الدراهم والدرر المنتقى من الجوهر الشرف الذي ... في مدحه قد أنزلت آي السور والمجتبى أنت عنصر النور الذي ... في مطلع الهدى المقدس قد ظهر

ذو سطوةٍ مهما كفى ذو رحمةٍ ... مهما عفا ذو عفةٍ مهما قدر كم سائلٍ للدهر أقسم قائلاً ... والله ما أيامه إلاّ غرر مولاي سعدك كالمهند في الوغى ... لم يبق من رسم الضلال ولم يذر مولاي وجهك والصبح تشابها ... وكلاهما في الخافقين قد اشتهر إنَّ الملوك كواكب أخفيتها ... وطلعت وجهك في مظاهرها قمر في كل يوم من زمانك موسم ... في طيه للخلق أعياد كبر فاستقبل الأيام يندى روضها ... ويرف والنصر العزيز له ثمر قد ذهبت منها العشايا ضعف ما ... قد فضضت منها المحاسن في السحر يا بن الذين إذا تعد خلالهم ... نفذ الحساب وأعجزت عنها القدر إن أوردتهم السيوف غدائراً ... مصقولة فلطالما حمدوا الصدر سائل ببدر عنهم بدر الهدى ... فبهم على حزب الضلال قد انتصر واسأل مواقفهم بكل مشاهد ... واقر المغازي في الصحيح وفي السير تجد الثناء ببأسهم وجودهم ... في مصحف الحي المنزل مستطر فبمثل هديتك فلتنر شمس الضحى ... وبمثل قومك فليفتخر من فخر ماذا أقول وكل وصفٍ معجر ... والقول فيك مع الإطالة نختصر تلك المناقب كالثواقب في العلا ... من رامها بالحصر أدركه الحصر إن غاب عبدك عن حماك فانه ... بالقلب في تلك المشاهد قد حضر

فاذكره إنَّ الذكر منك سعادة ... وبما على كل الأنام قد افتخر ورضاك عنه غاية ما بعدها ... إلاّ رضا الله الذي ابتدع البشر فاشكر صنيع الله فيك فانه ... سبحانه ضمن المزيد لمن شكر وعليك من روح الإله تحية ... تهفو إليك مع الأصائل والبكر ثم قال: ومن أغراضه الوقتية استرسالا مع الطبع البديهي، في الشكر على ضروب من التحف التي يقتضيها التحفي السلطاني بأولياء خدمته، نبذ متعددة فيما يظهر؛ فمنها قوله: يا خير من لك الملوك بجوده ... وبفضله قد أشبه الأملاكا والله ما عرف الزمان وأهله ... أمناً ويمناً دائماً لولاكا وافيت أهلي بالرياض عشية ... في روض جاهك تحت ظل رضاكا فوجدته قد طله صوب الندى ... بسحائب تنهل من يمناكا وسفائن مشحونةٍ ألقى بها ... بحر السماح يجيش من نعماكا رطب من الطلع النضيد كأنها ... قد نظمت من حسنها أسلاكا من كل ما كان النبي يحيها ... وأحبها الأنصار من أولاكا وبدائع التحف التي قد أطلعت ... مثل البدور أنارت الأحلاكا نصف من النور المبين تجسمت ... حتى حسبنا أنهن هداكا

يحلو على الأفواه طيب مذاقها ... لولا التجسد خلتهن سناكا طافت بها النشأ الصغار كأنها ... سرب القطا لمّا وردن نداكا نجواهم مهما سمعت كلامهم ... ونداهم: مولاي أو مولاكا أبلغت في الأبناء عبدك سؤله ... لازلت تبلغ في بنيك مناكا يتدارسون من الدعاء صحائفاً ... كيما يطيل الله في بقياكا فبقيت شمساً في سماء خلافةٍ ... وهم البدور أمدهن سناكا ثم قال: ومنها وقد أهداه رحمه الله أطباقا من حب الملوك: كتب الإله على العباد محبة ... لك كان فرض كتابها موقوتا وأنا الذي شرفته من بينهم ... حتى جعلت له المحبة قوتا ما زلت تتحفه بكل ذجيرةٍ ... حتى لقد أتحفته الياقوتا والي الملوك قد اعتزى من عزه ... فغدا له ياقوتها ممقوتا ومنها في مثل ذلك: يا خير من ملك الملوك ... أهديتني حب الملوك فكأنما ياقوتها ... نظمت لنا نظم السلوك إنَّ الملوك إذا لجوا ... فغياثهم أن أملوك وكذا العفاة إذا شكوا ... فغناهم أن يسألوك فالله يقبل من دعا ... لعلاك من أهل السلوك

لا لا زلت تطلع غرةً ... كالشمس في وقت الدلوك ومنها وقد أهاه صيداً مما صاده بنوه رضي الله عنه: يا خير من ورث السماح عن الألى ... نصروا الهدى وتبوءوا الإيمانا في كل يومٍِ منك تحفة منعمٍ ... وإلى الجميل والجزل الإحسانا قد أذكرت دار النعيم عبيده ... وتضمنت من فضله رضوانا تهدي مواليك الذين تفرعوا ... عن دوح فخرك في العلا أغصانا لجلالك الأعلى قنيصاً أتبعوا ... في صيده الأرواح والأبدانا فتخصني منه بأوافر قسمةٍ ... فسحت لعبدك في الرضا ميدانا لله من مولى كريمٍ بالذي ... تهدي المالي يتحف العبدانا تدعو بني إلى الغنى بربه ... يا ربنا أغن الذي أغنانا وعليك من قدس الإله تحية ... تهديك منه الروح والريحانا ومنها وقد أهداه رحمه الله أصنافا من الفواكه: يا من له الوجه الجميل إذا بدا ... فاقت محاسنه البدور كمالا والمنتقى من جوهر الفخر الذي ... فاق الخلائف عزة وجلالا ما أبصرت عيناي مثل هديةٍ ... أبدت لنا صنع الإله تعالى فيها من التفاح كل عجيبةٍ ... تذكي بريحها صبا وشمالا تهدى لنا نهد الحبيب وخده ... وترى من الورد الجني مثالا وبها من الأتراج شمس أطلعت ... من كل شطر للعين هلالا ويحفها ورق يروق كأنه ... ورق النضار وقد أجاد نبالا

لون العشية ذهبت صفحاتها ... رقت وراقت بهجة وجمالا وبها من النقل الشهي مذكر ... عهداً تولى ليته يتولى لله مها خضرة من حضرةٍ ... تغني العفاة وتحسب الآمالا أذكرتني العهد القديم ومعهداً ... كانت شموس الراح فيه تلالا فأردت تجديد العهود ة إنّما ... متب المشيب على عذاري لالا فأدركت من ذكراك كأس مدامةٍ ... وشربت من حبي لها جريالا فبقيت شمسا في سماء خلافةٍ ... لا يستطيع لها الزمان زوالا ثم قال: ومنها عاشوراء: يا أيها المولى الذي بركاته ... رفعت لواء للندى منشورا لك راحة تزجى الغمام بأنملٍ ... فجرت منها بالنوال بحورا واليوم موسم قربةٍ وعبادةٍ ... وغداً ظفرت بأجره عاشورا راعيت فيه سنة نبوية ... يروي الثقات حديثها المشهورا لا زلت عامك كله في غبطةٍ ... لقيت منها نصرة وسرورا ومنها في بعض قطعه: واليت ما أوليت يا بحر الندى ... ووحق وجهك ما رأيت كهذه فإذ يهز اللسان حسامه ... فصفات فخرك قد قضت بنفاذه علمت فرسان الكلام نظامها ... كتعلم التلميذ من أستاذه والبحر تمتار السحائب ماءه ... فتجوده من غيثها برذاذه

ومنها وقد أهداه باكورا: يا وارث الأنصار وهي مزية ... بفخارها أثنى الكتاب المنزل أهديتني الباكور وهي بشارة ... ببواكير الفتح الذي تستقبل وولادة لهلال تم طالع ... وجه الزمان بوجهه يتهلل هو أول الأنوار في أفق الهدى ... وترى الأهلة بعده تسترسل مولاي صدق الفأل جربته ... من لفظ عبدك والعواقب أجمل ثم قال: ومنها جفنة ثريد: طعامك من دار النعيم بعثته ... فشرفتني من حيث أدري ولا أدري بهضبة نعمى قد سمونا لأوجها ... فصدنا بأعلاها الشهي من الطير وقوراء قد درنا بهالة بدرها ... كما دارت الزهر النجوم على البدر وقد حملت فوق الرؤس لأنها ... هدية مولى حل في مفرق الفخر فما شئت من طعم زكي مهنا ... وما شئت من عرف ذكي ومن نشر فلو أنها قد قدمت لخليفة ... لأعظمها قدرا وبالغ في الشكر وكم لك نعمى على عميمة ... يقل لأدناها الجميل من الذكر فلا زلت يا مولى الملوك مبلغا ... أماني ترجوها إلى سالف الدهر ومنها شكرا عن كتاب: مولاي يوم الجمعة ... سعوده مجتمعة فانعم صباحا واغتنم ... أوقاته المجتمعة وابشر بصنع عاجل ... أعلامه مرتفعة

وانتظر الفتح الذي ... يأتيك بالنصر معه وبيضة وسمرة ... إلى العداة مشرعة واللطف مرجو فرد ... بفضل ربي مشرعة فاتحتني شرفتني ... برقعة مرتفعة بل روضة ممطورة ... أزهارها منوعة حديقة قد جدتها ... بصوب جود مترعة وراية منشورة ... وآية مستبدعة كم حكمة لطيفة ... في طيها مستودعة عقيلة صورتها ... من الجمال مبدعة سقيتني بفضلها ... من فضل كأس مترعة فدم وأملاك الورى ... على علاك مجمعة ومنها شكره على خلعة: يا بدر تم في السماء خلافة ... حفت نجوم السعد هالة قصره ألبست عبدك من ثيابك ملبسا ... قد قصرت عنه مدارك شكره ورضاك عنه خير ما ألبسته ... فلقد أشاد بجاهه وببره ألبستني أركبتني شرفتني ... أهديتني ما لا أقوم بحصره نظري لوجهك وهو أجمل نير ... يزرى على شمس الزمان وبدره أعلى وأعظم منه لا سيما ... وأنا المنعم في الحضور ببشره لا زلت مولى للملوك مؤملا ... وعلاك للإسلام مفخر دهره

ثم قال: ومنها وقد خلع رضوان الله عليه على رسول من أرساله: أبحر سماح مدينة عشرة أبحر ... تفيض غمام الجود وهي الأنامل بكفك غيث للبلاد وأهلها ... يروض محل الأرض والعام ماحل لك الخير إن أصبحت بحر سماحة ... يعم نداه فالمواهب ساحل خلعت على هذا الرسول ملابسا ... بها تتسنى في علاك المآمل وبلغته آماله كيف شاءها ... فبلغت يا مولاي ما أنت آمل ثم قال بعد إيراد عدة مقطوعات وقصائد من نمط ماسبق: وأنشد وقد مرض بعض أبنائه رحمة الله عليه وعليهم سائلا عن حاله: أسائل بدر التم كيف هلاله ... وأدعو له الرحمن جل جلاله وأسأله تعجيل راحته التي ... وسيلتنا فيها النبي وآله ستبلغ فيه ما تؤمل من منى ... ويرضيك يا بدر الكمال كماله وفي مثله يقول رحمه الله: أقول لبدر التم كيف هلالكا ... نعمت صباحا بالسرور وآلكا وبلغت في النجل السعيد سعادة ... تقر بها عينا وينعم بالكا وخصصت بالبشرى من الله ربنا ... كما عم أقطار الجهات نوالكا

وفي التورية باسم قائد مولاه مولانا رضي الله عنه على جماعة من الجند: يا أيها المولى الذي أيامه ... تهمى بسحب الجود من آلائه أبشر لجيشك بالسعادة كلما ... يغزو فنصر الله تحت لوائه وأنشده رضي الله عنه في ملبس اتخذه: أمولاي يا بن السابقين إلى العلا ... ومن نصروا الدين الحنيفي أولا غنيت بنور الله من كل زينة ... وألبست من رضوانك أشرف الحلى وقارك زاد الملك عزا وهيبة ... وسوغه من رحمة الله منهلا ويا شمس هدى في سماء خلافة ... وأبناؤه الزهر المنير تجلى تبارك من أبداك في كل ظهر ... جميلا جليلا مستعاذ مؤملا فيخجل منك الشمس شمس هداية ... ويحسد منك البدر بدرا مكملا إذا أنت ألبست الزمان وأهله ... ملابس عز ليس يدركها البلى وطوقت أجياد الملوك أياديا ... وتوجتهم بالفخر تاجا مكللا فما شئت فالبس فالمشاهد قائل: ... تبارك ما أسنى وأبهى وأجملا ألا كل من صلى وضحى ومن دعا ... ومد يديه ضارعا وتوسلا وجودك شرط في حصول قبوله ... وجودك أثرى كفه متنفلا

وقال برسم ما يرسم على ثوب في بعض هدايا مولانا رحمه الله للسلطان أبي العباس: أهدى أبا العباس ... ملك الندى والباس ثوب السماء لأنه ... بدر بدا للناس فلق الصباح بوجهه ... عوذته بالناس يكسو إماما لم يزل ... بحلى المحامد كاس فياله من مرتاد ... ثوب التقى لباس أذياله من حمده ... مسكية الأنفاس وبطروز مدح زرى ... بالمدح في القرطاس إن كنت في لون السماء ... بنسبة وقياس فلأنت يا بدر العلا ... شرفتني بلباس أنا منشد ما في وقو ... فك ساعة من باس لترى رياضا أطلعت ... زهرا على أجناس أوراقها توريقها ... بقضيبها المياس ومن المديح مدامتي ... ومن المحابر كاسي فالله يمتع لابسي ... بالبشر والإيناس وفي مثل ذلك قوله رحمه الله: إنَّ الإمام محمدا ... أهدى الخليفة أحمدا

للباسه ثوبا وقد ... لبس المحامد وارتدى وعمامة التقوى التي ... من فوقها شمس الهدى يا أحسنها إذا أرسلت ... من كفه غيث الندى وكأن وشي رقومها ... بالبرق طرز عسجدا وبطرزه لون السماء ... ووجهه قمر بدا لله من نير ... حل المنازل أسعدا مستنصرا أعلى له ... فوق الكواكب مصعدا ثم قال بعد ذكر قصيدة في المدح: وأنشده وهو على جواد أدهم: تجلى لنا المولى الإمام محمّد ... على أهدم قد راق حسن أديمه فأبصرت صبحا فوق ليل وقد حكى ... مقلد ذاك الطرف بعض نجومه وكتب له مع هدية زهرية: أمولاي تقبيلي ليمناك شاقني ... ولا ينكر الظمآن شوقا إلى البحر ولمّا رأيت الدهر ماطني بها ... وشوقني من حيث أدري ولا أدري بعثت لك الزهر الجني لعلها ... يقبلها عني ثغور من الزهر وكتب إليه أيضا متشوقا: كتبت ودمعي بلل الركاب قطره ... وأجرى به بين الخيام السواقيا

حنينا لمولى أتلف المال جوده ... ولكنه قد خلد الفخر باقيا وما عشت بعد البين إلاّ لأنني ... أرجى بفضل الله منه التلاقيا وأنشده أيضاً وهو بحال تألم: كأني بلطف الله قد عم خلقه ... وعافى إمام المسلمين وقد شفى وقاضي القضاء سجل حكمه ... وخط على رسم الشفاء له: أكتفى وقال في مثل ذلك: لك الخير يا مولاي أبشر بعصمة ... عقدت مع الأيام في حفظها صلحا وعافية في صحة مستجدة ... تجدد للدين السعادة والنجحا فوجه التهاني مشرق متهلل ... وجو الأماني بعد ما غام قد أصحى وقد ظهرت للبرء منك علامة ... علامتك العظمى تقول لنا: صحا وفي مثل ذلك: يا إماما قد تخذنا ... هـ من الدهر ملاذا خط يمناك ينادي ... صح هذا صح هذا وقال مهنئا بالشفاء: الحمد لله بلغنا المنى ... لمّا رأيناك وزال العنا وفزت بالأجر وكبت العدا ... وفزت بالعز وطيب الثنا فالحمد لله على ما به ... من علينا من ظهور السنى

وقال أيضاً في نحو منه: نعم قرت العينان وانشرح الصدر ... وقد لاح من وجه الإمام لنا البدر سرينا بليل التيه يكذب فجره ... فلما تجلى بشره صدق الفجر أغر المحيا بالحياء مقنع ... زهاه الكلام الحر والنسب الحر إمام الهدى قد خصه بخلافة ... إله في خلقه النهي والأمر وقال في مثله وقد ركب رحمه الله عليه لمعاهد حضرته: هنيئا هنيئا لا نفاد لعده ... وبشرى لدين الله إنجاز وعده فقد لاح بدر التم في أفق العلا ... وحل كما يرضى منازل سعده وطاف إمام المسلمين محمّد ... بحضرته العلياء مبلغ قصده ولاحت به الأنوار من بشر وجهه ... وفاح بها النور من نشر حمده وأبصر الأبصار شمس هداية ... وأشرقت الأرجاء من زهر وفده ولوحت الأعلام فيها بنصره ... كما لوح الصبح المنير ببنده سهدى له الأيام كل مسرة ... ويحيى به الرحمن آثار جده غسل حسام السعد واضرب بحده ... وخل حسام الهند في كن غمده فسيفك سيف الله مهما سللته ... يقيم حدود الله قائم حده

وأنشده رضي الله عنه في طرد مولانا الوالد رحمه الله ويصف البازي ويشكر ما أهداه من صيده: يا من تمد له الملوك أكفها ... تدعو الإله له بطول بقاء أضحى ولي العهد نجلك صائدا ... شأن الملوك العلية العظماء ورمى البزاة على القناة يصيده ... صيد الخليفة شارد الأعداء من كل خافقة الجناح إذا مشت ... تبدي اختيال الغادة العذراء أهدت لنا سبج العيون وطوقت ... أرجاءها بعقيقة حمراء واستاقت الياقوت في منقارها ... ومشت على المرجان في استحياء ووشت يد الأفدار في أعطافها ... وشيئاً زرى بالحلة السيراء ملك الطيور أتى إلى ملك الورى ... فاستاقها لمؤمل الخلفاء وقضى سماحك أن تجود ببعضها ... للعبد تعليه على الجوزاء لله هل شرف يضاهي ذا الذي ... أوليته من منة غراء هيهات أين جزاؤها من شكره ... يجزيك عنا الله خير جزاء أولست قد أوليت كل خليفة ... شرقا وغربا أصواب الآراء فلصاحب الصفراء فخر خالد ... يحظى به من صاحب الحمراء بيضا وسمرا قد شرعت لنصره ... واعنت بالبيضاء والصفراء لا زلت شمس خلافة أبناؤه ... مثل البدور بمرقب العلياء

وأجاب عن أبيات خمس كتب رضي الله عنه بها إليه: لك في الخلافة مظهر لا يفرع ... من دون مرقبه النجوم الطلع يا أيها الملك الذي أيامه ... غرر بوجه الدهر لا تتقنع سبحان من حلاك بالخلق الرضا ... وكساك منه حلة لا تخلع أما المدام فدمت تطلع شمسها ... بين البدور وشمس وجهك تسطع أغنيتني عنها بخمر بلاغة ... فالطيب من نفحتها يتضوع بوأتني من عز نظمك روضة ... طاب الجنى منها ولذلك المشرع وأريتني جنح الدجنة غرة ... فالنور من قسماتها يتطلع يعنو لها البدر المنير وقد علا ... والبدر تاج بالنجوم مرصع فاتحتني منها بخمس ولائد ... لتعيذها من كل عين تلقع قبلتها ألفا وبت لربها ... دعوا له حتى الصباح وأضرع وقال يصف غربانا أجراها رحمه الله ويتفائل له بالراحة من شكاية ثلاثة: أعلامك الحمر فوق السفن خافقة ... وريح سعدك تجريها على قدر ما إن رفعت قسي السفن في وطن ... إلاّ ونلت قصي السؤل والوطر قالوا السفائن فوق البر ذا عجب ... من غير بحر ولا موج ولا غرر فقلت آثار مولانا التي سفرت ... لنا العناية عن آياتها الكبر تجري بريح سعود في بحار ندى ... تغني بنانك عن بحر وعن مطر لله يوم عجيب الصنع ذو أثر ... محجل رائق الأوضاح والغرر استبشر الناس فيه بالصنيع وقد ... تضمن البشر في ورد وفي صدر

زجرته بشفاء قد أتاك كما ... يرضى علاك جميل الخبر والخبر إذا شكوت فكل الكون ذو وصب ... فأنت منه مكان السمع والبصر ومن شكا بأليم الوجد في بصر ... فقد تعود غير السهد والسفر فأسأل الله رب العرش في لطف ... يسرى إليك بها إنعام مقتدر وأن يدافع عن ذات بحرمتها ... تعود الخلق لطف الله في القدر ثم قال بعد إيراد جملة من نظمه: وأنشد وقد عاد رحمه الله من بعض متوجهاته الجهادية لجبل الشوار: على الطائر الميمون والطالع السعد ... قدمت مع الصنع الجميل على وعد وقد عدت من جبل الشوار لتجتلي ... عقائل للفتح المبين بلا عد ثم قال بعد ذكر جملة: وقال مما رسم في طيقان الأبواب بالمباني السعيدة التي أبتناها مولانا رضي الله عنه: أنا تاج كهلال ... أنا كرسي جمال ينجلي الإبريق فيه ... كعروس ذي اختيال جود مولانا أبن نصر ... قد حباني بالكمال وفي المعنى: من رأى التاج الرفيعا ... قد حوى الشكل البديعا

تحسد الأفلاك منه ... قوسه السهل المنيعا دمت ربعا للتهاني ... أنظم الشمل الجميعا وفيه: للغني بالله قصر ... للتهاني يصطفيه فيه محراب صلاة ... يقف الإبريق فيه ثاليا سورة حبى ... والمعالي تقتفيه وفيه: أي قوس ذي كمال ... سهمه سهم السعادة ملك الإبريق فيه ... عود الإخسان عادة ذو صلاة من صلات ... كلها دأبا معاده وفي المعنى مما كتبه لمبتني لعمنا سعد رحمه الله: انظر لأفق جمال ... به الأباريق تصعد بديع حسن حباه ... به الأمير الممجد فخر الإمارة سعد ... به الخليفة يسعد وكيف لا وأبوه فخر الملوك محمّد عليه حلى رضاه ... في كل يوم تجدد وفيه أيضاً: رفعت قوس سماء ... يزهي بتاج الهلال

قد قلدته نقوشي ... در الدراري الغوالي ترى الأباريق فيه ... تهديك عذب الزلال قد زان قصري سعد ... بسعده المتوالي فدام يعمر ربعي ... في ظل مولى الموالي وقال في الغرض: ما ترى في الرياض أشباهي ... يسحر العقال حسنى الباهي زان روضي أميره سعد ... وهو نجل الغني بالله دام منه بمرتقى عز ... آمر بالسعود أو ناهي وقال في غرض الشكر عن مغطى صنهاجي أهداه إياه: لمن قبة حمراء مد فضاؤها ... تطابق منها أرضها وسماؤها وما أرضها إلاّ خزائن رحمة ... وما قد سما من فوق ذاك غطاؤها وقد شبه الرحمن خلقتنا بها ... وحسبك فخرا بان منه اعتلاؤها ومعروشة الأرجاء مفروشة بها ... صنوف من النعماء منها وطاؤها ترى الطير في أجوافها قد تصففت ... على أنعم عند الإله كفاؤها ونسبته صنهاجة غير أنه ... تقصر عما قد حوى خلفاؤها حبتنيبها دون العبيد خلافة ... على الله في يوم الجزاء جزاؤها

وفي مثله: ما للعوالم جمعت في قبة ... قد شادها كرم الإمام محمّد في صفح صرح بالزجاج مموه ... وبجود مولاي الإمام ممهد ما إن رأيت ولا سمعت بطائر ... عن ثوب موشى الرياش مجرد إن لم تكن تلك الطيور تغردت ... فلشكر هذا العبد سجع مغرد صفت عليها للفواكه كل ما ... قد عاهدته بدوحها المتعود لو أبصرت صنهجة أوضاعه ... دانت له أملاكها بتعبد عودتني الصنع الجميل تفضلا ... لا زلت خير معود ومعود وبسورة الأنعام كم من آية ... فيها لقار بالنوال مجرد وقال تذييلا لبيتي أبن المعتز: سقتني بليل شبيه بشعرها ... شبيهة خديها بغير رقيب فأمسيت في ليلين للشعر والدجى ... وشمسين من خمر وخد حبيب إلى إن بدا الصبح المنير كأنه ... محيا أبن نصر لم يشن بغروب شمائله مهما أديرت كئوسها ... قلائد أسماع وأنس قلوب وقال مذيلا على بيت أبن وكيع أيضاً: هي في أوجه الندامي عقيق ... وهي مثل النظار في الأقداح كابن نصر تراه في الحرب ليثا ... وهو بدر الهدى وغيث السماح

ذكره قد ثنى قدود الندامي ... وأعاد الحياة في الأشباح وقال مما يرسم للغني بالله: للغنى بالله ملك ... برده بالعز مذهب دام في رفعة شان ... ماجلا الإصباح غيهب وقال أيضاً: يا بن نصر لك ملك ... ليس تعوده الفتوح دمت روحا للمعالي ... ما سرى في الجسم روح وقال من مقطوعة: وأبن نصر ليس محيا كصبح ... إن تجلى جلا دجى كل كرب ذو حسام كأنه لمع برق ... في بنان كأنها غيث سحب ومن أخرى: وكأن النجوم في غسق اللي ... ليس جمان يلوح في آبنوس وكأن الصباح في الأفق يجلى ... بجلي النجوم مثل العروس وكأن الرياض تهدي ثناء ... للغنى بالله فوق الطروس ثم قال بعد قصائد كثيرة عيدية: وقال بعد أخرى عيدية شاركتها في كثير من أبياتها قصيدة فتحية

هي نفحة هبت من الأنصار والمختص بهذه: أضياء هدى أم ضياء نهار ... وشذا المحتمد أم شذا الأزهار ومنها بعد كثير: قسما بهديك في الضياء وإنه ... شمس تمد الشهب بالأنوار ومنها أيضاً: كم من لطائف للهدى أوضحتها ... خفيت مداركها على الأفكار كم من جرائم قد غفرت عظيمها ... مستنزلا من رحمة الغفار علمت ملوك الأرض أنك فخرها ... فتسابقت لرضاك في مضمار ومنها يصف الجيش: سالت به تحت العجاج سفينة ... نفحت بريح العزم من أنصار أرست بجدوى الجود في يوم الندى ... وجرت بيوم الحرب في تيار ومنها: ألقى بأيدي الريح فضل عنانه ... فيكاد يسبق لمحة الأبصار ومنها: فهي العراب متى أثيرت في الوغى ... قد أعربت عن صنع لطف الباري

ومنها: إن خاض في بحر العجاج رأيته ... يجلو دجنتة بوجه نهار ومنها: كم فيهم من قاري ضيف طارق ... وضحت شواهد فضله للقاري ومنها أيضاً: يا أيها الملك الذي أيامه ... غرر تلوح بأوجه الإعصار قد زارك العيد السعيد مبشرا ... فاسمح لألف مثله بمزار لمّا أزدهته عواطف ألطفتها ... عطف الإله عليك عطف سوار فأتى يؤمم منك هداية صالحا ... كي يستمد النور بعد سرار وأتاك يسحب ذيل سحب أغدقت ... تغري جفون المزن باستعبار جادت بجاري الدمع من قطر الندى ... فرعي الربيع لها حقوق الجار فأعاد وجه الأرض طلقا مشرقا ... متضاحكا بمباسم النوار لمّا دعاك إلى القيام بسنة ... حكمة دواعي الجود والإيثار فأفضت فينا من نداك مواهب ... حسنت مواقعها على التكرار فاهنأ بعيد عاد يشتمل الرضا ... جذلان يرفل في حلى استبشار

ومنها: لا عذر لي أنَّ كنت فيه مقصرا ... سدت صفاتك أوجه الأعذار فإذا نظمت من المناقب درها ... شرفني منها بنظم دراري فلذلك أنظمها قلائد لؤلؤ ... لألاؤها قد شف بالأنوار ثم أورد هذا المؤلف قصيدة ميمية طويلة، أولها: هناء له ثغر الهدى يتبسم ... وبشرى بها عرف الرضا يتنسم تبسم ثغر الثغر عنها بشارة ... فأعدى ثغور الزهر منه التبسم ولا عجب من مبسم الزهر في الربا ... فللبرق من خلف السحائب مبسم عناية من أعطى الخليفة رتبة ... عليها النجوم النيرات تحوم فمنه استفاد الملك كل غريبةٍ ... تخط على صفح الزمان وترسم ومنه تلقى الهدى كل خليفةٍ ... كأنهم مما أفاد تعلموا ومنها بعد نيف على ستين بيتاً: وكم من لواء في الفتوح نشرته ... وللرعب جيش دونه يتقدم فقل لملوك الأرض دونكم فقد ... أعلم ما لا زال بالنصر يعلم تسامت به للنصر اشرف ذمة ... لها من رسول الله عهد مكرم وكم من جهاد قد أقمت فروضه ... يزار به البيت العتيق وزمزم وكم عزمةٍ جردت منها إلى العدا ... حساما به داء الضلالة يحسم وكم بيت مال في الجهاد بذلته ... وأقرضت منه الله ما الله يعلم وكم ليلة قد جئت فيها بليلةٍ ... من النقع فيها للأسنة أنجم جرئت بها والله أجراها ... تؤمن فيها الخلق والخلق نوم

وفوقك من سعدٍ لواء مشهر ... ودونك من عزم حسام مصمم إذا أنت جهزت الجياد لغارة ... فأن صبح الحي أغبر أقتم فمن أشهب مهما يكر رأيته ... صباحا بليل النفع لا يتكتم وأحمر قد أذكى به البأس جذوة ... إذا ابتل عطفا في الوغى يتضرم وأشقر أعدى البرق لونا وسرعة ... ولكن له دون البروق التقدم وأصفر في لون العشى وذليله ... ولون الذي بعد العشية يعلم وأدهم مثل الليل غرة ... وبالشهب في حلى المقلد ملجم وأشهب كالقرطاس صفحة ... كتاب من النصر المؤزر محكم ورُبَّ جلاد من جدالٍ سطرته ... يراع القنا فيه تخط وترسم وقام خطيب السيف فوق رءوسهم ... فأعجب منه أعجم يتكلم فكم من رءوس عن جسوم أزالها ... فأثكل منها كل باغ يجسم وزرق العيون للأسنة قد بكت ... ولا دمع إلاّ ما أسيل به الدم ونهر حسام كلما أغرق العدا ... تلقتهم منه سريعا جهنم فأصليت عباد المسيح من الوغى ... سعيراً به يرضى المسيح ومريم أبر من التثليث بالله وحده ... فمن يعتصم بالله فالله يعصم ونبه سيوفاً ماضيات على العدا ... وخل جفون المرهفات تهوم ولله من شهر الصيام مودع ... على كل محتوم السعادة يكرم تنزل فيه الذكر من عند ربنا ... فيبدأ بالذكر الجميل ويختم

ولله فيه من ليالٍ منيرة ... أضاء بنورها الوحي منهن مظلم وصابت سحاب الدمع يمحي بمائها ... من الصحائف أوزار تخط ومأثم ولله فيه ليلة القدر قد غدت ... على ألف شهر من الثواب تقدم تبيت بها حتى الصباح بإذنه ... ملائكة السبع الطباق تسلم وبشري بعيد الفطر أيمن قادمٍ ... عليك بمجموع البشائر يقدم جعلت قراه سنة نبوية ... لها في شعار الدين قدر معظم ومن عدوات للإله رفعتها ... تسدد منها للإجابة اسهم وفي كل عين من محياك قرة ... وفي كل كف من نوالك أنعم إذا أنت لم تفخر بما أنت أهله ... فلا ابصر المصباح من يتوسم فما مهد الإسلام غير خليفةٍ ... على عطفه در المحامد ينظم فكم بيت شعر قد عمرت بذكره ... فبات به جادي السرى يثرنم ولسن بيوتنا بل قصوراً مشيدة ... تطل على أوج العلا وتخيم وما ضرها أنَّ قد تأخر عهدها ... إذا طال مبناها الذين تقدموا وإذ أنت مولاها وعامر ربعها ... فكل فخار تدعيه مسلم أنا العبد قد أسكنته جنة الرضا فلا زلت فيها خالداً تتنعم ولا زلت في الأعياد ساجع روضها ... إذا احتفلت أشرافها أترنم بقيت متى يبل الزمان تجده ... وفي كل يومٍ منك عيد وموسم

ودمت لألف مثله في سعادةٍ ... يذل بها باغٍ ويعتز مسلم ولمّا رأيت الفخر جهد مقصر ... وأنك أعلى من مديحي وأعظم ختمت ثنائي بالدعاء وهأنا ... أقلب في كف الندى وأسلم ثم قال: ولمّا أنتقل مولانا الجد إلى رضوان الله ونعيم خلده، وقام مولانا الوالد ولي عهده بالأمر من بعده، وانشد رثاء في السلف، وهناء في الخلف، رحمه الله تعالى عليهما: عزاء فإنَّ الشجو قد كان يسرف ... وبشرى بها الداعي على الغور يشرف لئن غرب البدر المنير محمّد ... لقد طلع البدر المكمل يوسف وإنَّ رد سيف الملك صوناً لغمده ... فقد سل من غمد الخلافة مرهف وإنَّ طوت البرد اليماني يد البلى ... فقد نشر البرد الجديد المفوف وإنَّ نضب الوادي وجف معينه ... فقد فاض بحر بالجواهر يقذف وإنَّ صوح الروض الذي ينبت الغنى ... فقد أزهر الروض الذي هو يخلف وإنَّ أقلعت سب الحيا وتقشع ... فقد نشات منها غمائم وكف وإنَّ صدع الشمل الجميع يد النوى ... بيوسف فخر المنتدى يتألف وإنَّ راع قلب الدين نعى إمامه ... فقد هز منه بالبشارة معطف وقد ملك الإسلام خير خليفةٍ ... من البدر أبهى بل من الشمس أشرف يعير محياه الصباح إذا بدا ... وتخجل يمناه الغمام وتخلف فمن ور مرآه الكواكب تهتدي ... ومن فيض جدواه الحيا نتوكف

ولمّا قضى المولى الإمام محمّد ... تحكم في الناس الأسى والتأسف فلا جفن إلاّ مرسل سحب دمعه ... ولا قلب بالجوى يتلهف وقد كادت الدنيا تميد بأهلها ... وقد كادت الشم الشوامخ ترجف وقد كادت الأفلاك ترفض حسرة ... وكادت بها الأنوار تخفو وتكسف ولكن تلافي الله أمر عباد ... بوارثه والله بالناس أرأف فللذين والدنيا ابتهاج وغبطة ... وللثغر ثغر بالمنى يرتشف أمان كما تندى الشبيبة نضرة ... يمد له ظل على الأرض أورف طلعت على الإسلام في دولة الرضا ... فأمنته من كل ما يتخوف بوجه يرينا البدر عند طلوعه ... وفي وجنه البدر المنير التكلف وعزم كما انشق الصبح مصمم ... ورأى به بيض الصوارم ترهف وحولك من حفظ الإله كتائب ... وفوقك من ظل السعادة رفرف فوالله ما ندري وللعلم عندنا ... براهين عن وجه الحقائق تكشف أوجهك أم شمس النهار تطلعت ... وكفك أم سحب الحيا نتوكف فكم لك من ذكر جميل ومفخر ... عمم على أوج الكواكب يشرف يزار به البيت العتيف وزمزم ... ويعرفه حتى الصفا والمعرف ومن يسأل الأيام تخبره أنها ... بقومك تزهى في الفخار وتشرف وهل تهدم الأيام بنيان مفخر ... تشيده آي كرام ومصحف ولو كانت الأيام قبل تنكرت ... فباسمك يا بدري الهدى تتعرف ألا لا ترعنا الحادثات فإننا ... عصابة توحيد به نتشرف

وليس لنا إلاّ التوكل عادة ... وظن جميل وعده ليس يخلف فمن مبلغ عنا الغنى بربه ... وقد سار للفردوس يحيا ويتحف بآية ما بلغت دين محمّد ... أماني للرحمن تدني وتزلف وعنك يروي الناس كل غريبة ... يروي لنا منها الغريب المصنف فكسرت تمثالا وهدمت بيعة ... وناقوسها بالكفر يهدي ويهتف وكم من منار بالأذان عمرتها ... فصارت به الآذان بعد تشنف وسرت وقد خلفت خير خليفة ... لك الفخر منه والثناء المخلف أيوسف قد أرضيته أجمل الرضا ... وكان بما ترضى وتختار يكلف وكنت له يا قرة العين قرة ... على برة المحتوم تحنو وترأف ستجري على آثاره سابق المدى ... فيهدي له منك الثناء المضعف سيلقى عدو الدين منك عزائما ... إليه بجرار لكتائب تزحف ويأسف لمن يبصر البر يرتمي ... بفرسانه والبحر بالسفن يقذف وتفتح من بلدانه كل مقفل ... يعبد عباد الصليب ويؤسف فما أرؤس الكفار إلاّ حصائد ... بسيفك سيف الله تجني وتقطف حسا بك رقراق الصفيح كأنه ... بكفك من ماء السماء ينطف ضعيف يصح النصر من فتكانه ... فيروي لنا منه الصحيح المضعف ورمحك مرتاح المعاطف هزة ... كأن قد سقته من دم الكفر قرقف ولا عيب فيه غير أنَّ سنانه ... إذا شم ريح النقع في الحرب يرعف

فإن كعت الأبطال في حومة الوغى ... يشير لنا منه البنان المطرف لقد فخر الإسلام منك ببيعة ... وزال بها عنه الأسى والتخوف وألبسته بردا من الفخر ضافيا ... على عطفه وشى المديح يفوف وقد نظمت فيه السعود ميامنا ... كما ينظم العقد النفيس ويرصف فدمت قرين العين في كل غبطة ... بما شئت من آمالك الغر تسعف وأنشد في لحده المقدس رحمه الله في المعنى قوله: ضريح أمير المسلمين محمّد ... يخصك ربي بالسلام المردد وحياك من روح الإله تحية ... مع الملإ الأعلى تروح وتغتدي وشقت جيوب الزهر فيك كمائم ... يرف بها الريحان عن خضر ندى وصابت من الرحمى عليك غمائم ... تروى ثرى هذا الضريح المنجد وزارتك من حور الجنان أوانس ... نواعم في كل النعيم المخلد وجاءتك بالبشرى ملائكة الرضا ... كما جاء في الذكر الحكيم الممجد وصافح منك الروض أطيب تربة ... وعاهد المزن أكرم معهد رضا الله والصفيح الجميل وعفوه ... يوالي على ذلك الصفيح المنضد

ويا صدفا قد حاز من جوهر العلا ... لكل نفيس بالنفاسة مفرد أعندك أنَّ الحلم والعلم والحجا ... وزهر الحلى أدرجت طي ملحد وهل أنت إلاّ هالة القمر الذي ... بنور هداه الشهب تهدي وتهتدي ويا عجبا من ذلك الترب كيف لا ... يفيض ببحر للسماحة مزبد لقد ضاقت الأكوان وهي رحيبة ... بما حزت من فخر عظيم وسؤدد قدمت على الرحمن أكرم مقدم ... وزودت من رحماه خير مزود أقام بك المولى الإمام محمّد ... مؤمل فوز بالشفيع محمّد فجاء كما يرضى وترضى به العلا ... وأنجز للآمال أكرم موعد ومدينة ظلال العدل في كل وجهة ... وكف أكف البغي من كل معتدي وقام بمفروض الجهاد عن الورى ... وعود دين الله خير معود قضى بعد ما قضى الخلافة حقها ... وعامل وجه الله في كل مقصد وفتح بالسيف الممالك عنوة ... ومدت له أملاكها كف مجتدي وكسر تمثال الصليب وأخرست ... نواقيس كانت للضلال بمرصد وطهر محرابا وجدد منبرا ... وأعلن ذكر الله في كل مسجد ودانت له الأملاك شرقا وغربا ... وكلهم ألقى له الملك باليد وطبق معمور البسيطة ذكره ... وسارت به الركبان في كل فدفد وسافر عن دار الفناء ليجتني ... بما قدم اليوم السعادة في غد

وقام بأمر الله حق قيامه ... بعزمة لا وان ولا متردد لثن سار للرحمن خير مودع ... وحل من الفردوس أشرف مقعد فقد خلف المولى الخليفة يوسفا ... له غر المساعي ويبتدي سبيلك في سبيل المكارم يقتفي ... وهديك يا خير الأئمة يقتدى محمّد جلى الخطب من بعد يوسف ... ويوسف جلى الخطب بعد محمّد ولو وجد الناس الفداء مسوغا ... فداك ببذل النفس كل موحد ستبكيك أرض كنت غيث بلادها ... وتبكيك حتى الشهب في كل مشهد وتبكي عليك السحب ملء جفونها ... بدمع يروي غلة المجدب الصدي وتلبس فيك النيرات ظلامها ... حدادا ويذكى النجم جفن مسهد وما هي إلاّ أعين قد تسهدت ... فكحلها نجم الظلام بإثمد فلا زلت في ظل النعيم مخلدا ... ونجلك يحيا بالبقاء المخلد وأوردك الرحمن حوض نبيه ... وأصدر من خلفت عن خير مورد علك سلام مثل حمدك عاطرا ... يفض ختام المسك عن تربك الندى وصلى على المختار من آل هاشم ... صلاة بها نرجو الشفاعة في غد ثم قال: وقال أيضاً في هذا الغرض من رثائه ومدح مولانا الوالد في أثنائه: سلام على الدنيا جميعا وما فيها ... غدات نعت شمس الخلافة من فيها نعت ملك الأملاك والكلمل الذي ... يكف عواري الحادثات ويكفيها عميد بني الأنصار غير مدافع ... ومحي معاليها ومولى مواليها

وبدر دياجها وشمس نهارها ... وبشر محياها ونور مجاليها خفا الكواكب الوقاد قد كان نوره ... يجلى من الدهم الخطوب دياجها هوى القمر الوضاح من أفق العلا ... فأظلم جو النيرات بساريها وقد كسفت شمس الهداية بعدما ... أبان سبيل الحق للخلق هاديها هو الجبل الراسي تصدع بعد ما ... أقرت به شم الجبال رواسيها يعز على دين الهدى أنَّ شمسه ... يطول بأطباق التراب تواريها يعز على زهر النجوم متى سرت ... ولا تلمح الهدى الذي كان يهديها لأندلس ثكل عليه مردد ... له لبست سود المسوح نواحيها ثلاثين حولا بعد خمس تعودت ... يدافع عنها كل خطب ويحميها أبيه للرايات يخفق بندها ... وفي مرقاب النصر المؤزر يعليها أبيه للخيل المغيرة ... بالضحى وقد أبعد الفتح الميبن مراميها ويبكيه معمور البسيطة كلها ... وما ضم من داني البلاد وقاصيها وتبكيه سحب أخجلتها بنانه ... وترسل دمع الغيث حزنن مآقيها وتبكيه حتى الشهب في أفق العلا ... وتلبس جلباب الظلام جواريها عزاء أمير المسلين فإنها ... مقادير رب الخلق في الخلق يجريها هو الموت ورد للخليفة كلها ... أواخرها تقفو سبيل أواليها وما بيننا حي وما بين آدم ... إلاّ هكذا سوى البرية باريها

وفي موت خير الخلق أكبر أسوة ... تصبر أحرار النفوس وتسليها أمولاي لو كان الفداء مسوغا ... فديناك بالدنيا جميعا وما فيها أمولاي كم من نعمة لك عندنا ... إذا نحن رمنا حصرها ليس بحصيها أمولاي خلفت العبيد إلى الأسي ... يناجيك من فرط الشجون مناجيها وقد مات منا الصبر إلاّ صبابة ... بذكرك في جنح الدجنة نحييها أمولاي يا مولاي هل أنت سامعي ... أبثك ما يشجى القلوب ويدميها تحفيت بي حتى نضوت شبيبتي ... عزيزا وجيها حيثما رمت توجيها وقد كان ظني أن تكون جنازتي ... يشيعها منك الرضا ويواريها وقد عشت حتى ذقت فقدك قلما ... تبلغ نفس ما تريد أمانيها ز لولا أبو الحجاج نجلك لم يكن ... لدين الهدى كرات بحر يزجيها ولكنه والله يجمل صبره ... مناقبك الغر الكرام سيحييها فخلفتنا منه لأكر كافل ... يحمل أعباء الخلافة كافيا سريرته الرحمى وسيرته الرضا ... وأخلاقه الغر الكريمة تدريها وسيلتك العظمى وظلك فوقنا ... وعمدتنا والله في العز يبقيها فما كنت إلاّ الشمس قد غربت لنا ... وأنوارها بدر التمام يجليها وما أنت المسك إن تخف ذاته ... يم بها العرف الذكي فيفشيها إلاّ قدس الرحمن نفيسا كريمة ... بكل عزيز في الوجود نفديها وبشرى لنا أنَّ السعادة نزلها ... وأنَّ رضا الله الكريم يرضيها وحاشا وكلا أن تضيع وسائل ... سيذخرها الرب الكريم وينشيها

فكم من جهاد رفعت بنوده ... وقد أثمرت فيها المعالي عواليها كسرت تماثيل الصليب وأخرست ... نواقيس كانت بالضلال تناغيها وكم من منار قد أعدت أذانه ... وأعلن فيه دعوة الحق داعيها وكم من رياض للكتائب قد غدت ... تضيق بمستن الجياد نواحيها وملتف زرع الأسنة مزهر ... ولكن به المران تحلو مجانيها إذا ظمئت منها الذوابل في الوغى ... جداول أنهار السيوف ترويها غرس زكي للجهاد غرسته ... فصرت إلى دار السعادة تجنيها ولو لم يكن إلاّ سنين قطعتها ... رهين شكاة لا تزال تعانيها صبرت لها صبر الكرام وإنما ... ذخرت أجورا فضل ربك جازيها أمالك في الأنصار خير وسيلة ... وقد كنت بالنصر العزيز تحييها وحسبك بالمختار أكرم شافع ... وسنته والله لا زلت تحييها على علم الدنيا وفخر ملوكها ... تحية رب لا يزال يواليها سأبكيه ما دام الحمام مطوقا ... وما سجعت تبكي الهديل قماريها وأهديه من طيب السلام معطرا ... كما فتقت أيدي التجار غواليها وأسبل رب العرش سحب كرامة ... نسخ على ذاك الضريح غواديها ونسأل فتحا للخليفة يوسف ... يملكه أقصى البلاد ومن فيها ثم ذكر هذا المؤلف جملة نظم أبن زمرك في السلطان أبي الحجاج واستعطافه وما يهز له لرضا من شمائل أعطافه ومنها: بما قد حزت من كرام الخلال ... بما أدرت من رتب الجلال

بما خولت من دين ودنيا ... بما قد حزت من شرف المعالي بما أوليت من صنع جميل ... يطابق لفظه معنى الكمال تغمدني بفضلها واغتفرها ... ذنوب في الفعال وفي المقال ثم قال: ومن ذلك أيضاً يخاطب أخانا السلطان أبا عبد الله رحمه الله تعالى متوسلا بقديم ذمامه والخدم المتدععة من نظامه: أتعطش أولادي وأنت غمامة ... تعم جميع الخلق بالنفع والسقيا وتظلم أوقاتي ووجهك نير ... تفيض به الأنوار للدين والدنيا وجدك قد سماك ربك باسمه ... وأورث الرحمن رتبته العليا وقد كان أعطاني الذي أنا سائل ... وسوغني من غير شرط ولا ثنيا وشعري في غر المصانع خالد ... يحييه عنى في الممات وفي المحيا وما زلت أهدي المدح مسكا مفتقا ... فتحمله الأرواح عاطة الريا وقد كثر العبد التشكي وأنّه ... وحقك يا فخر الملوك قد استحيا وما الجود إلاّ ميت غير أنّه ... إذا نفخت يمناك في روحه يحيا فمن شاء أن يعدو لدين محمّد ... فيدعو لمولانا الخليفة بالبقيا ثم ذكر قصائد كثيرة ومقطوعات في مدحه لأخيه أبي عبد الله إلى أن قال: وقال أيضاً وقد نزل بالولجة من مرج الحضرة: منزل اليمن والرضا والسعود ... أنجزت فيه صادقات الوعود

كل يوم نزاهة إن تقضت ... أنشدتها السعود بالله عودي جمع المستعيف وصف الكمال ... بين بأس عم الملوك وجود فاهن في غبطة وعزة ملك ... أنت والله فخر هذا الوجود وقال أيضاً مشيرا لتوليته العلامة: لك غرة ود الصباح جمالها ... ومحاسن تهوي البدور كمالها وشمائل تحكي الرياض خلالها ... وأنامل ترجو الأنام خلالها للمستعين خلافة نصرية ... عرفت ملوك العالمين جمالها وأنا الذي قد نال منك معاليها ... تهوي النجوم الزاهرات منالها تهديه ما قد نلته من بعضها ... والفخر كل الفخر فيمن نالها في كل يوم منك منة منعم ... لو طاولت سمك العلا ماطالها بلغت آمال العبيد فبلغت ... فيك العبيد من البقا آمالها ثم قال: وقال أيضاً وكتبها إليه مع خمسة أقلام: أيا ملكا لم يبد للعين حسنة ... سوى ملك قد حل من عالم القدس لك الخير خذها كالأنامل خمية ... تعوذ مرآك المكمل بالخمس فمن أبصرت عيناه مرآك فليقل ... أعوذ برب الناس أو آية الكرسي ثم قال بعد ذكر قصيدة: وقال يخاطب مولانا الوالد رحمه الله

وقد مر معه بفحص رية والثلج قد عم أنديته وبسط أرديته في وجهة توجهها مولانا الجد رحمه الله: يا من رتب المعالي تعتلي ... ومعالم الفخر المشيد تبتني ازجر بهذا الثلج فألا إنه ... ثلج اليقين بنصر مولانا الغني بسط البياض كرامة لقدومه ... وافتر ثغرا عن مسرة معتني فالأرض جوهرة تلوح لمجتل ... والدوح مزهرة تفوح لمجتنى سبحان من أعطى الوجود وجوده ... ليدل منه على الجواد المحسن وبدائع الأكوان في إتقانها ... أثر يشير إلى البديع النقتن ثم قال: ومن غير السلطانيات مما بز فيه سبقا وتبريزا وعرضه على نقدة البيان فرأت منه كل مذهبة خلصت إبريزا مرثيته للقاضي المعظم الشريف أبي القاسم الحسني من شيوخه أنجزها الوعد السابق في المقدمة بها: أغرى سراة الحي بالإطراق ... نبأ أصم مسامع الآفاق أمسى به ليل الحوادث داجيا ... والصبح أصبح كاسف الإشراق فجع الجميع بواحد جمعت له ... شتى العلا ومكارم الأخلاق هبوا لحكمكم الرصين فإنه ... صرف القضاء فما له من واق نفش الزمان بصرفه في صفحة: ... كل جماع مؤذن بفراق ماذا ترجى من زمانك بعدما ... علق الفناء بأنفس الأعلاق من تحسد السبع الطباق علاءه ... عالوا عليه في الثرى بطباق

إنَّ المنايا للبرايا غاية ... سبق الكرام لخصلها بسباق لمّا حسبنا أن تحول أبؤسا ... كشفت عوان حروبها عن ساق ما كان إلاّ البدر طال سراره ... حتى رمته يد الردى بمحاق أنف المقام مع الفناء نزاهة ... فنوى الرحيل إلى مقام باقي عدم الموقف في مرافقة الدنا ... فثنى الركاب إلى الرفيق الباقي أسفا على ذلك الجلال تقلصت ... أفياؤه وعهدن خير رواق يا آمري بالصبر عيل تصبري ... دنى عدتك لواعج الأشواق وذر اليراع تشي بدمع مدادها ... وشى القريض يروق في الوراق يا حسرتي للعلم أقفر ربعه ... والعدل جرد أجمل الأطواق ركدت رياح المعلوات لفقدها ... كسدت به الآداب بعد نفاق كم من غوامض قد صدعت بفهمها ... خفيت مداركها على الحذاق كم قاعد في البيد فوق قعوده ... قعدت به الآمال دون لحاق لمن الركائب بعدك تنتضي ... ما بين شأم ترتمي وعراق تفلى الفلا بمناسم مفلولة ... تسم الحصى بنجيعها الرقراق كانت إذا اشتكت الوجى وتوقفت ... يهفو نسيم ثنائك الخفاق فإذا تنسمت الثناء أمامها ... مدت لها الأعناق في الإعناق يا مزجي البدن القلاص خوافقا ... رفقا بها فالسعي في إخفاق

مات الذي ورث العلا عن معشر ... ورثوا تراث المجد باستحقاق رفعت لهم رايات كل جلالة ... فتميزوا في حلبة السباق علم الهدة وقطب أعلام الورى ... حرم العفاة لمجتني الأرزاق رقث سجاياه وراقت مجتلى ... كالشمس في بعد وفي إشراق كالزهر في لألائه والبدر في ... عليائه والزهر في الإبراق مهما مدحت سواه قيد وصفه ... وصفاته حمد على الإطلاق يا وارثا نسب النبوة جامعا ... في العلم والأخلاق والأعراق يا بن الرسول وإنها لوسيلة ... يرقى بها أوج المصاعد راقي ورد الكتاب بفضلهكم وكمالكم ... فكفى ثناء الواحد الخلاق مولاي إني في علاك مقصر ... قد ضاق علم النجوم نطاقي ومن الذي يحصى مناقب فضلكم ... عد الحصى والرمل غير مطاق يهني قبورا زرتها فلقد ثوت ... منا مصون جوانح وحداق خط الردى منها سطورا نصها: ... لا بد أنك للفناء ملاق ولحق ترجمة الكتاب وصدره ... وفوائد المكتوب في الألحاق كم من سراة في القبور كأنهم ... في بطنها در ثوى بحقاق قل للسحاب اسحب ذيولك نحوه ... والعب بصارم برقك الخفاق أودي الذي غيث العباد بكفه ... يزري بواكف غيثك الغيداق

إن كان صوبك بالمياه فدرها ... در يروض ما حل الإملاق بشر كثير قد نعموا لمّا نعى ... قاضي القضاة وغاب في الأطباق ألبستهم ثوب الكرامة ضافيا ... وأرحت من كد ومن إرهاق يتفيئون ظلال جاهك كلما ... لفحت سموم الخطب بالإحراق عدموا المواقف في فراقك وانطوى ... عنهم بساط الرفق والإرفاق رفعوا سريرك خافضين رءوسهم ... ما منهم إلاّ حليف سياق لكن مصيرك للنعيم مخلدا ... كان الذي أبق على الأرماق ومن العجائب أن يرى بحر الندى ... طود الهدى يسري على الأعناق إن يحملوك على الكواهل طالما ... قد كنت محمولا على الأحداق أو يرفعوك على العواتق طالما ... رفعت ظهر منابر وعتاق ولئن رحلت إلى الجنان فإننا ... نصلى بنار الوجد والأشواق لو كنت تشهد حزن من خلفته ... لثنى عنانك كثرة الإشفاق أن جن ليل جن من فرط الأسى ... وسوى كلامك ماله من راق فابعث خيالك في الكرى يبعث به ... ميت السرور لثاكل مشتاق أغليت يا رزء التصبر مثلما ... أرخصت در الدمع في الآماق إن يخلف الأرض الغمام فإنني ... أسقي الضريح بدمعي المهراق

ومن أوليات نظمه يخاطب شيخه الوزير أبا عبد الله بن الخطيب رحمه الله مادحا قوله من قصيدة مطلعها: أما وانصدع النور من مطلع الفجر يقول فيها بعد أبيات: لك الله من فذلك الجلالة أوحد ... تطاوعه الآمال في النهي والأمر لك القلم الأعلى الذي طال فخره ... على المرهفات البيض والأسل السمر يقلد أجياد الطروس تمائما ... بصنفي لآل من نظم ومن نثر تهيبك القرطاس فاحمر إذ غدا ... يقل بحور من أناملك العشر كأن رياض الطرس خد مورد ... يطرزه وشي العذار من الحبر فشارة على الملك رائقة الحلى ... بألوية حمر وبالصحف الحمر وما روضة غناء عاهدها الحيا ... بها وشى الربيع يد القطر تغنى قيان الطير في جنباتها ... فيرقص غصن ألبان في حلل خضر تمد لأكواس العرار أناملا ... من السوسن الغض المختم بالتبر ويحرس خد الورد صام نهرها ... ويمنع ثغر النور بالذابل النضر يفاخر مرآها السماء محاسنا ... فتزرى نجوم الزهر منها على الزهر إذا مسحت كف الصبا جفن نورها ... تنفس ثغر الزهر عن عنبر الشحر بأعطر من ريا ثنائك في السرى ... وأبهر حسنا من شمائلك الغر عجبا له يحكى خلال خميلة ... وتفوق منه الأسد في موقف الذعر

إذا أضرمت من بأسها الحرب جاحما ... تأجج منه العضب في لجى البحر وإن كلح الأبطال في حومة الوغى ... ترقرق ماء البشر في صفحة البدر لك الحساب اوضاح والسؤدد الذي ... نطاق الوصف فيه عن الحصر تشرفت أفق أنت بدر كماله ... فغرناطة تختال تيها على مصر تكلل تاج الملك منك محاسنا ... وفاخرت الأملاك منك بنو نصر بعزمة مضمون السعادة أوحد ... وغرة وضاح المكارم والنجر طوى الحيف منشور اللواء مؤيدا ... حمى الإسلام بالطي والنشر ومدينة ظلال الأمن إذ قصر العدا ... فيتلى ثناء الملك بالمد والقصر إذا احتفل الإيوان يوم مشورة ... وتضطرب الآراء من كل ذي حجر صدعت بفضل القول غير منازع ... وأطلعت آراء قبس من الفجر فإن تظفر الخيل المغيرة بالضحى ... فعن رأيك الميمون تظفر بالنصر فلا زلت للعلياء تحمى ذمارها ... وتسحب أذيال الفخار على النسر وللعلم فخر الدين والفتك بالعدا ... بأوت به يا بن الخطيب على الفخر يهنيك عيد الفطر من أنت عيده ... ويثنى بما أوليت من نعم غر جبرت مهيضا من جناحي ورشته ... وسهلت لي من جانب الزمن الوعر وبوأتني من ذروة العز معتلى ... وشرفتني من حيث أدري ولا أدري وسوغتني الآمال عذبا مسلسلا ... وأسميت من ذكرى ورفعت من قدري فدهير عيد بالسرور وبالمنى ... وكل ليالي العمر لي ليلة القدر

فأصبحت مغبوطا على خير نعمة ... يقل لأدناها الكثير من الشكر قال: وكتب إليه جوابا عن رسالة خاطب أولاده بها صدرها: مالي بحمل الهوان يدان قال جامع هذا الموضوع وفقه الله تعالى: هذه قد تقدمت في هذا الموضوع فراجعها. ثم قال: وكتب إليه جوابا عن آخر كذلك: حيت صباحا فأحييت ساكني القصبة ... واسترجعت أنفسا بالشوق مغتصبة قضى البيان لها إلاّ نظير لها ... فأحرزت من معاني فضله قصبة ناجت طليح سرى لا يستفيق لها ... هدت جوارحها واستوهنت عصبة فحركته على فتك الكلال به ... وأذهبت بسرور الملتقى نصبه وأذكرت عهد مهديها على شحط ... فعاود القلب من تذكاره وصبه ما كنت أسمح من ذهري بجوهره ... لو كان يسم لي بالقلب من غصبة سل أدمع الصب من أغرى السحاب بها ... وقلبه بجمار الشوق من حصبة فالله يحفظ مهديها ويشكره ... فوجهها بعصاب الحسن قد عصبه من كان وارث آداب يشعشعها ... بالفرض إني في إرثي لها عصبة هذا الملاذ ملاذ الناس قاطبة ... سبحان من لغياث الخلق قد نصبه

وخاطب كذلك: طالعتها دون الصباح صباحا ... لمّا جلت غرر البيان صباحا ولقد رأيت وما رأيت كحسنها ... وجها أغر ومبسما وضاحا عذراء أرضعها البيان لبانه ... وأطال مغدى عندها ومراحا فأتت كما شاءت وشاء نجيها ... تذكى الحجا وتنعم الأرواح لا بل كمثل الروض باكره الحيا ... وسقى به زهر الكمام ففاحا وطوت بساط الشوق منى بعدها ... نشرت على من القبول جناحا وخاطبه كذلك: يكلفني مولاي رجع جوابه ... وما لتعاطي المعجزات وما ليا أجيبك للفضل الذي أنت أهله ... وأكتب مما قد أفدت الأماليا فأنت الذي طوقتني كل منة ... وأحييت آمالي وأكسبت ماليا وأنت الذي أعدى الزمان كماله ... وصيرت أحرار الزمان مواليا فلا زلت للفعل الجميل مواصلا ... ولا زلت للشكر الجزيل مواليا وخاطبه كذلك: ذروني فأني بالعلاء خبير ... أشير فإن النيرات تسير وكم بت أطوي الليل في طلب العلا ... كأني إلى نجم السماء سفير بعزم إذا ما الليل مدينة رواقه ... يكر على ظلمائه فينير أخو كلف بالمجد لا يستفزه ... مهاد إذا جن الظلام وثير ذاما طوى يوما على السر كشحه ... فليس له حتى الممات نشور

وإني وإن كنت الممنع جاره ... لتسبى فؤادي أعين وثغور وما تعتريني فترة في مدى العلا ... إلى أن أرى لحظا عليه فتور وفي السرب من نجد ظبية ... تصول على ألبابنا وتغير وتمنع ميسور الكلام أخا الهوى ... وتبخل حتى بالخيال يزور أسكان نجد جادها وأكف الحيا ... هواكم بقلبي منجد ومغير ويا سكنى بالأجرع الفرد من منى ... وأيسر حظ من رضاك كثير ذكرتك فوق البحر والبعد بيننا ... فمدته من فيض الدموع بحور وأومض خفاق الذؤابة بارق ... فطارت بقلبي أنه وزفيره ويهفو فؤادي كلما هفت الصبا ... أما لفؤادي في هواك نصير ووالله ما أدري أذكرك هزني ... أم الكأس ما بين الخيام تدور فمن مبلغ عني النوى ما يسؤها ... وللبين حكم يعتدىو يجور بأنا غدا وبعده سوف نلتقي ... ونمسي ومنا زائر ومزور إلى كم أرى أكني ووجدي مصرح ... وأخفي اسم من أهواه وهو شهير أمنجد آمالي ومغلي كاسدي ... ومصدر جاهي والحديث كثير أنَّ أنسى ولا أنسى مجالسك التي ... بها تلتقي نضرة وسرور نزورك في جنح الظلام وننثني ... وبين يدينا من حديثك نور على أنني إن غبت عنك فلم تغب ... لطائف لم يحجب لهن سفور نروح ونغدو كل يوم وعندها ... رواح علينا دائم وبكور فظلك فوقي حيثما كنت وارف ... ومورد آمالي لديك نمير

وعذرا فأني إن أطلت فإنما ... قصارى من بعد البيان قصور وكتب إليه خاتمة رسالة كذلك: وحقك ما استطعت بعدك غمضةً ... من النوم حتى آذن النجم بالغروب وعارضت مسرى الريح قلت لعلها ... تنم بريا منك عاطرة الهبوب إلى أن بدا وجه الصباح كأنه ... محياك إذ تجلى بغزته الخطوب فقلت لقبي استشعر الأنس وابتهج ... فإنَّ تبعد الأجسام لم تبعد القلوب وسر في ضمان الله حيقث توجهت ... ركابك لا تخشى الحوادث أن تنوب ثم قال: وقال - بعد إيراد جملة من نظمه في النسيب وما يناسبه - يصف مصباحاً: لقد زادني وجداً بي الجوى ... ذبال بأذيال الظلام قد التفا تشير وراء الليل منه بنانة ... مخضبة والليل قد حجب الكفا تلوح سناناً حين لا تنفح الصبا ... وتبدو سروراً حين تثنى له العطفا قطعت بها ليلي يطار حتى الجوى ... فآونة يبدو وآونةً يخفى إذا قلت لا يبدو أسال لسانه ... وإن قلت لا يخبو الضياء به كفا إلى أن أفاق الباح من غمرة الدجى ... وأهدى نسيم الروض من طيبه عرفا لك الله يا مصباح أشبهت مهجتي ... وقد شفها من لوعة الحب ما شفا

ثم قال وكتب له صدر رسالة: أزور بقلبي معهد الأنس والهوى ... وأنهب من أيدي النسيم رسائلا ومهما سألت البرق يهفو من الحمى ... يبادر به دمعي مجيباً وسائلا فيا ليت شعري والأماني تعلل ... أيرعى لي الحي الكرام الوسائلا وهل يجيرني الأولى كما قد عهدتهم ... يوالون بالإحسان من جاء سائلا ثم قال بعد أن ذكر عدة قطع: وقال يصف الزرافة في قصيدة مدح بها السلطان أبا سالم ملك المغرب - رحمه الله - وقد ورد عليه بها وفد الأحابش في هدية من ملكهم، ونصها: لولا تألق بارق التذكار ... ما صاب واكف دمعي المدرار لكنه مهما تعرض خافقاً ... قدحت يد الأشواق زند أواري عليه السلام المشوق إذا تذكر معهداً أن يغري الأجفان باستعبار أمذكري غرناطة حلت بها ... أيدي السحاب أزرة النوار كيف التخلص للحديث ودونها ... عرض الفلاة وطافح زخار هذا على أنَّ التغرب مركبي ... وتولج الفيح الفساح شعاري فلكم أقمت غداة زمت عيسهم ... أبغي القرار ولات حين قرار وطفقت استقري المنازل بعدهم ... يمحو البكاء مواقع الآثار إنا بني الآمال تخدعنا المنى ... فنخادع الآمال بالتسيار نتجشم الأهوال في طلب العلا ... ونروع سرب النوم بالأفكار

لا يجوز المجد الخطير سوى امرئ ... يمطي العزائم صهوة الأخطار إلا يفاخر بالعتاد ففخره ... بالمشرفية والقنا الخطار مستبصر مرمى العواقب واصل ... في حمله الإيراد بالإصدار فاشد ما قاد الجهول إلى الردى ... عمه البصائر لا عمى الأبصار ولرب مربد الجوانح مزبدٍ ... سبح الهلال بلجه الزخار فتقت كمائم جنحه عن أنجمٍ ... سفرت زواهرهن عن أزهار مثلت على شاطي المجرة نرجساً ... تصطف منه على خليج جاري فكأنما بدر التمام بجنحه ... وجه الإمام بجحفل جرار وكأنما خمس الثريا راحة ... ذرعت مسير الليل بالأشبار اسرجت من عزمي مصابيحاً بها ... تهدي السراة لها من الأقطار وارتاع من بازي الصباح غرابه ... لمّا اطل فطار كل مطار ومنها: وغريبةٍ قطعت إليك على الونى ... بيداً تبيدها هموم الساري تنسيه طيبته التي قدأمها ... والركب فيها ميت الأخبار يقتادها من كل مشتمل الدجى ... وكأنما عيناه جذوة نار تشدو بحمد المستعين حداتها ... يتعللون به على الأكوار إن مسهم لفح الهجير أبلهم ... منه نسيم ثنائك المعطار خاضوا بها الفلا فتخلفت ... منها خلوص البدر بعد سرار

سلمت بسعدك من غوائل مثلها ... وكفى بسعدك حامياً لذمار وأتتك يا ملك الزمان غريبة ... قيد النواظر نزهة الأبصار موشية الأعطاف رائعة الحلى ... رقمت بدائعها يد الأقدار راق العيون أديمها فكأنه ... روض تفتح عن شقيق بهار ما بين مبيض وأصفرٍ فاقعٍ ... سال اللجين به خلال نضار يحكي حدائق نرجسٍ في شاهقٍ ... تنساب فيه أرقام الأنهار تحدو قوائم كالجذوع وفوقها ... جبل أشم بنوره متواري وسمت بجيد مثل جذع مائل ... سهل التعطف لين خوار تستشرف الجدران منه ترائباً ... فكأنما هو قائم بمنار تاهت بكلكلها وأتلع جيدها ... ومشى بها الأعجاب مشي وقار خرجوا لها الجم الغفير وكلهم ... متعجب من لطف صنع الباري كل يقول لصحبه قوموا انظروا ... كيف الجبال تقاد بالأسيار ألقت ببابك رحلها ولطالما ... ألقى الغريب به عصا التسيار علمت ملوك الأرض انك فخرها ... فتسابقت لرضاك في مضمار يتبوءون به وإن بعد المدى ... من جاهك الأعلى أعز جوار فارفع لواء الفخر غير مدافعٍ ... واسحب ذيول العسكر الجرار واهنأ بأعياد الفتوح مخولاً ... ما شئت من نصرٍ ومن أنصار وإليكها من روض فكري نفحة ... شف الثناء بها على الأزهار

في فضل منطقها ورونق رسمها ... مستمتع الأسماع والأبصار وتميل من أصغى لها فكأنني ... عاطيته منها كئوس عقار وقال رحمه الله تعالى يخاطب كتاب الإنشاء بالمغرب وقد حضر هنالك ميلاد الرسول) ، وانشد قصائدهم، وأستنجز بعد ذلك وعدهم بتقييد نسخها بمقطوعات مرتجلة أجابوه عنها، منها: أكتيبة الكتاب أيد جمعكم ... بعناية المولى الخليفة أحمد لا تمطلوا دين الغريب فأنني ... منكم وإنَّ رغمت لذلك حسدي زينتم حفل البيان بسحركم ... اليوم زينة سحركم من موعد فلتسمحوا لي بالقصائد عاجلا ... ولتبلغوا مما أؤمل مقصدي وقال أيضاً: أيا علية الكتاب منصفٍ ... عليكم بكم في مقطع الحق يستعدي سمحتم بنظم الدر في لبة العلا ... فكم راق من سمط هناك ومن وعقد فما ضركم أنَّ تسمحوا ليس بكتابها ... فتستجزلوا شكري وتستجيبوا احمدي وقال أيضاً: ما عذركم أنَّ لم تجدوا بعدما ... ملكتم كف الخليفة أحمد فلتبعثوا لي كل بكرة فذةٍ ... تأتي بفخر خلالها وسط الندي وكتب إليهم في المعنى أيضاً وقد كان السلطان أبو العباس أعطاه قصيدة من نظمه تلك الليلة:

ظلالكم تندو وموردكم عذب ... وترضون أنَّ أضحى وبالملح لي شرب وانتم وما أنتم غمائم رحمةٍ ... تصوب وأحلام العفاة لها تصبو أفيضوا علينا وأنظرونا بفضلكم ... لنقتبس نوراً لا يخيب ولا يخبو ألفت الهوى حتى أنست بجوره ... فكل عذاب نالني في الهوى عذب وقلت لجسمي إنه ثوبك الضني ... وقلت لقلبي إنه إلفك الحب وقالوا صبا والشيب لاح صباحه ... فقلت ببيض كالصباح أنا صب نهبت عذاري الحي ليلة عرضها ... وقد جلبت منها لمبصرها شهب ولم أر منها غير رجع حديثها ... فتجهل منها العين ما يعرف القلب عراب إذا استنت بشأو بلاغةٍ ... تقصر من دون اللحاق لها العرب وإنَّ أسندت ما بين نجد وحاجر ... تقول رواة الشرق يا حبذا الغرب فنعمة صدق للخلافة قد ضفت ... على من حواه من مهابته حجب وجو صقيل قد جلته يد الصبا ... يسافر طرف الطرف فيه فما يكبو فلولا التي من دونها طاعة الهوى ... لحقت بها حولي الأباريق والشرب ولكن نهاني الشيب إنَّ أقرب الهوى ... إذا لم يتح ممن أحب لي القرب فلا تمطلوا دين المعلل عن غني ... فجانبكم سهل ومنزلكم رحب وإنَّ لم تروني كفهن ترفعا ... وصدكم من دون خطبها خطب فمولاي قد أهدى العميد عقيلة ... يكالها من لفظها اللؤلؤ الرطب أدارت كئوسا من مدام صبابة ... كما امتزج الصهباء والبارد العذب فوالله لولا موعد يومه غد ... لواجهتكم مني على مطلبي العتب

أكتاب مولانا الخليفة أحمد ... وحسبكم الفخر العميم به حسب به اعتزت الآداب وامتد باعها ... وطالت يداها واستخف بها العجب فلو لم يكن بالفضل تنفق سوقها ... لكان يقال التبر في أرضه ترب بقيتم به في ظل جاهٍ وغبطةٍ ... تخب إلي لقيا نجيبكم النجب وقال يراجع الكتاب أبا زكريا بن أبي دلامة منهم، وقد أجابه رحمه الله تعالى عليه: على الطائر الميمون والطالع السعد ... أتتني مع الصنع الجميل على وعد وأحييت يا يحيى بها نفس مغرمٍ ... يجيل جياد الدمع في ملعب السهد نسيت وما أنسى وفائي وخلتي ... وأقفر ربع القلب إلاّ من الواجد وما الطال في ثغر من الزهر باسم ... بأذكى وأصفى من ثنائي ومن ودي فأصدقتها من بحر فكري جواهرا ... تنظم من در الدراري في عقد وكنت أطيل القول لولا ضرورة ... دعتني إلى الإيجاز في سورة الحمد وانشد السلطان أبا العباس المذكور في غراب من إنشائه: أإنسان عين الدهر جفنك قد غدا ... يحفك منه طائر اليمن والسعد إذا ما هفا فوق الرءوس شراعه ... أراك جناحا مدينة للجزر والمد وأنشده فيه أيضاً: لك الخير شأن الجفن يحرس عينه ... وهذا بعين الله يحرس دائماً تبيت له خمس الثريا معيذة ... تقلده زهر النجوم تمائماً

فيا جفن لا تنفعك في الحفظ دائما ... وإنَّ كنت في لج من البحر عائما انتهى ما انتقيت من هذا التأليف الملوكي مع أني تركت أكثره. قلت: وإنّما أطلت في كلام الرئيس أبن زمرك رحمه الله تعالى لوجوه: أولها: أنَّ الذي ألفت الكتاب من أجله راغب في ذلك. الثاني: ولوع كثير من الناس بكلامه، حتى قال شيخنا سيدي الإمام العلامة المؤلف الكبير أبو العباس الشهير ببابا السوداني رحمه الله، بعد أن ذكر في التعريف به نحو عشرين سطراً: إني لم أقف في أمره على غير هذا، ولم أقف على وفاته. وبالجملة فالذي تكلم خواص الناس فيه من أمره هو ما في الإحاطة والكتيبة: وأما الجم الغفير فهم بمعزل عما في الكتابين فضلا عن غيره. الوجه الثالث: أنَّ ما نقلته من ذلك كان عندي مقيدا في عدة أوراق، فخفت عليه الدروس، فلذا جمعت بعضه هنا. الرابع: ما اشتمل عليه من أوصاف الجهاد والخيل وغير ذلك من الغرائب، وليس الخبر كالعيان. الخامس: ما في بعضه من أمداح المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو المقصود بالذات وغيره تبع، وهو في مسك ختام هذه الأوجه الخمس، وليس يحتاج إلى دليل نول القمر والشمس. وقد عن لي أنَّ أذكر جملة من موشحاته لغرابتها، ولأن جل ما وقفت عليه منها ينخر في سلك المعرب، إذ أكثره من مخلع البسيط.

فمن ذلك قوله تشوقا إلى غرناطة أعادها الله ومادحاً الغنى بالله: بالله يا قامة القضيب ... ومخجل الشمس والقمر من ملك الحسن في القلوب ... وأيد اللحظ بالحور من لم يكن طبعه رقيقا ... لم يدر ما لذة الصبا فرب حر غدا رقيقا ... تملكه نفحة الصبا نسوان لم يشرب الرحيقا ... لكن إلى الحسن قد صبا فعذب القلب بالوجيب ... ونعم العين بالنظر وبات والدمع في صبيب ... يقدح من قلبه الشرر أواه من قلبي المعنى ... يهفو إذا هبت الرياح لو كان للصب ما تمنى ... لطار شوقا بلا جناح وبلبل الدوح إنَّ تغف ... أسهر ليلي إلى الصباح عساك إنَّ زرت يا طبيبي ... بالطيف في رقدة السحر أنَّ تجعل النوم من نصبي ... والعين تحمي من السهر كم شادن قاد لي التحوفا ... بمربع القلب قد سكن يسل من لحظه سيوفا ... فالقلب بالورع ما سكن خلقت من عادتي ألوفا ... أحن للإلف والسكن غرناطة منزل الحبيب ... وقربها السؤل والوطر

تبهر بالمنظر العجيب ... فلا عدا ربعا المطر عروسة تاجها السبيكة ... وزهرها الحلي والحلل لم ترض من عزها شريكة ... بحسنها يضرب المثل أيدها الله من مليكة ... تملكها اشرف الدول بدولة المرتجى المهيب ... الملك الطاهر الأغر تخال من بردها القشيب ... في حلة النور والزهر كرسها جنة العريف ... مرآتها صفحة الغدير وجوها الطل في شنوف ... تحكيمه صنعته القدير والأنس فيها على صنوف ... فيمن هديل ومن هدير كم خرق الزهر من جيوب ... وكلل القضب بالدرر فالغصن كالكعاب اللعوب ... والطير تشدو بلا وتر ولائم النصر في احتفال ... وفرح دين الهدى جديد سلطانها معمل العوالي ... محمّد الظافر السعيد ومخجل البدر في الكمال ... سلطانها المجتبي الفريد أصفح مولى عن الذنوب ... أكرم عاف إذا قدر وشمس هدى بلا مغيب ... وبحر جودٍ بلا حسر

مولاي يا عاقد البنود ... تظلل الأوجه الصباح أوحشت يا نخبة الوجود ... غرناطة هالة السماح سافرت باليمن والسعود ... وعدت بالفتح والنجاح يا ملهم القلب للغيوب ... ومطعم النصر والظفر أسمعك الله عن قريب: ... " على السلاما من الالسفر " وقال أيضاً من الموشحات الفائقة، في مثل أغراض هذه السابقة، وأشار إلى محاسن من وصف " الرشاد ": نسيم غرناطة عليل ... لكنه يبري العليل وروضها زاهر بليل ... ورشفه ينقع الغليل سقى بنجد ربا المصلى ... مباكراً روضها الغمام فجفنه كلما استهلا ... تبسم الزهر في الكمام والروض بالحسن قد تجلى ... وجرد النهر عن حسام ودوحها ظله ظليل ... يحسن في ربعه المقيل والبرق والجو مستطيل ... يلعب بالصارم الصقيل عقيلة تاجها السبيكة ... تظل بالمراقب المنيف كأنها فوقه مليكه ... كراسيها جنة العريف

تطلع من عسجد سبيكة ... شموسها كلما تطيف أبدعك الخيال الجليل ... يا منظرا كله جميل قلبي إلى حسنه يميل ... وقبلنا قد صبا جميل وزاد للحسن فيك حسنا ... محمّد الحمد والسماح جدد للفخر فيك مغنى ... في طالع اليمن والنجاح تدعى رشادا وفيك معنى ... يخصك الفأل بافتتاح فالنص والسعد لا يزول ... لأنه ثابت أصيل سعد وأنصره قبيل ... آباؤه عترة الرسول أبدى به حكمة القدير ... وتوج الروض بالقباب ودرع الزهر بالغدير ... وزين النهر بالحباب فمن هديل ومن هدير ... ما أولع الحسن بالشباب هبت على روضها القبول ... وطرفها بالسرى كليل فلم يزل بينها يجول ... حتى تبدت له حجول للزهر في عطفها رقوم ... تلوح للعين كالنجوم وللندى بينها رسوم ... عقد الندى فوقه نظيم وكل واد بها يهيم ... ولم يزل حولها يحوم

شنيلها مدّ منها نيل ... والشين ألف لمستنيل وعين واد تسيل ... من فوق خد له أسيل كم من ظلال به ترف ... تضفو لها فوقه ستور ومن زجاج به يشف ... ما بين نور وبين نور ون شموس بها تصف ... تديرها بيننا البدور مزاجها العذب سلسبيل ... ياهل إلى رشفها سبيل وكيف والشيب لي عذول ... وصبغة صفرة الأصيل يا سرحة في الحمى ظليلة ... كم نلت في ظلك المنى روضك الله من خميلة ... يجنى بها أطيب الجنى وبرقها صادق المخيلة ... ما زال بالغيث محسنا أنجز لي وعدك القبول ... فلم أقل مثل من يقول " يا سرحة الحي يا مطول ... شرح الذي بيننا يطول " ومن ذلك ما كتب به للغني بالله: أبلغ لغرناطة سلامي ... وصف لها عهدي السليم فلو رعى طيفها ذمامي ... ما بت في ليلة السليم كم بت فيها على اقتراح ... أعل من خمرة الرضاب أدير منها كئوي راح ... قد زانت الثغر بالحباب

أختال كالمهر في الجماح ... نشوان في روضة الشباب أضحكك الزهر في الكمام ... مباهيا روضة الوسيم وأفصح الغصن في القوام ... إن هب من جوها نسيم بينا أنا والشباب ضافي ... وظله فوقنا مديد ومورد الأنس فيه صافي ... وبرده رائق جديد إذ لاح في الفود غير خافي ... صبح به نبه الوليد أيقظ من كان ذا منام ... لمّا انجلى ليلة البهيم وأرسل الدمع كالغمام ... في كل واد به أهيم يا جيرة عهدهم كريم ... وفعلهم كله جميل لا تعذلوا الصب إذ يهيم ... فقبل قد صبا جميل القرب من ربعكم نعيم ... وبعدكم خطبه جليل كم من رياض به وسام ... يزهى بها الرائد المسيم غديرها أزرق الججمام ... ونبتها كله جميم أعندكم أنني بفاس ... أكابد الشوق والحنين أذكر أهلي بها وناسي ... فاليوم في الطول كالسنين

الله حسبي فكم أقاسي ... من وحشة الصحب والبنين مطارح ساجع الحمام ... شوقا الذي الإلف والحنين والدمع قد لج في أنسجام ... وقد وهى عقده النظيم يا ساكني جنة العريف ... أسكنتم جنة الخلود كم ثم من منظر شريف ... قد حف باليمن والسعود ورب طود به منيف ... أدواحة الخصر كالبنود والنهر قد سال كالحسام ... ولراحة الشرب مستديم والزهر قد راق بابتسام ... مقبلا راحة النديم بلغ عبيد المقام صحبي ... لا زلتم الدهر في هنا لقاكم بغية المحب ... وقربكم غاية المنى فعندكم قد تركت قلبي ... فجدد الله عهدنا ودارك الشمل بانتظام ... من مرتجى فضله العميم في ظل سلطاننا الإمام ... الطاهر الظاهر الحليم مؤمن العبدوتين مما ... يخاف من سطوة العدا وفارج الكرب إنَّ ألما ... ومذهب الخطب والردى قد راق حسنا وفاق حلما ... وما عدا غير ما بدا مولاي يا نخبة الأنام ... وحائز الفخر في القديم كم أرقب البدر في التمام ... شوقا إلى وجهك الكريم

ومن موشحاته في غير المخلع موطئا على موشحة أبن سهل التي أولها: " ليل الهوى يقظان " قوله: نواسم البستان ... تنثر سلك الزهر والطل في الأغصان ... ينظمه بالجوهر وراية الإصباح أضاء منها المشرق تنشرها الأرواح ... فلا تزال تخفق والزهر زهر فاح ... لها عيون ترمق فأيقظ الندمان ... تبصر ما لم يبصر جواهر الشهبان ... قد عرضت للمشري قدحت لي زندا ... يأيهذا البارق أذكرتني عهدا ... إذ الشباب رائق فالشوق لا يهدا ... ولا الفؤاد الخافق وكيف بالسلوان ... والقلب رهن الفكر وسحب الهجران ... تحجب وجه القمر لولا شموس الكآس ... نديرها بين البدور وعرج الإناس ... منا على ربع الصدور

لكن لها وسواس ... يغري بربات الخدود كم واله هيمان ... بصبح وجه مسفر ضياؤه قد بان ... من تحت ليل مقمر يا مطلع الأنوار ... كم فيك من مرأى جميل ونزهة الأبصار ... ما ضر لو تشفي الغليل يا روضة الأزهار ... وعرفها يبري العليل قضيبك الفينان ... يسقى بدمع همر فلا عج الأشجان ... فيض الدموع يجري هل في الهوى ناصر ... أو هل يجار الهائم لو كان لي زائر ... طيف الخيال الحائم ما بت بالساهر ... ودمع عيني ساجم والحب ذو عدوان ... يجهد في ظلم البري وصارم الأجفان ... مؤيد بالحور رحماك في صب ... أذكرته عهد الصبا بواعث الحب ... قادت إليه الوصبا لم تهف بالقلب ... ريح الصبا إلاّ صبا بليلة الأردان ... قد ضمخت بالعنبر يشير غصن ألبان ... منها بفضل المئزر

طيبها حمد ... فخر الملوك المجتبى من يرجح الطود ... من حلمه إذا احتبى قد جرد السعد ... منه حساما مذهبا فالبأس والإحسان ... والغوث للمستنصر تحمله الركبان ... تحية للمنبر عصابة الكتاب ... حق لها الفوز العظيم تختال في أثواب ... ألبستها الظول الجسيم فحسبها الإنطاب ... في الحمد والشكر العميم خليفة الرحمن ... لازالت زاهية المظهر يا مورد الظمآن ... ورأس المعسر خدها بلا دعوى ... تزهي على الروض الوسيم جاءت كما تهوى ... أرق من لدن النسيم قد طارحت شكوى ... من قال في الليل البهيم " ليل الهوى يقظان ... والحب ترب السهر والصبر لي خوان ... والنوم من عيني بري " ومخلع البسيط في الصبوحيات قوله سامحه الله تعالى ورحمه ورضى عنه: ريحانة الفجر قد أطلت ... خضراء بالزهر تزهر

وراية الصبح إذ أظلت ... في مرقب الشرق تنشر فالشهب من غارة الصباح ... ترعد خسوفا وتخفيق وأدهم الليل في جماح ... أعنة البرق يطلع والأفق في ملتقى الرياح ... بأدمع الغيث يشرق والسحب بالجوهر استهلت ... فالبرق سيف مجوهر صفاحة المذهبات حلت ... في راحة الجو تشهر كم للصبا ثم من مقيل ... بطينه الزهر يشهد والنهر كالصارم الصقيل ... في حلية النور يغمد ورب قال به وقيل ... للطير في حين تنشد فألسن الورق قد أملت ... مدائحا عنه تشكر ونسمة الصبح حين كلت ... في سندس الروض تعثر والكأس في راحة النديم ... يجلو بها غيهب الهموم أقبست النار في القديم ... من قبل أن تخلق الكروم والغصن في ملعب النسيم ... للزهر في عطفه رقوم فلبة القضب قد تحلت ... والطل في الحلى جوهر

وبهجة الكون قد تجلت ... والروض بالحسن يبهر يذكرني وجنة الحبيب ... والآس في صفحة العذار وشارب العجيب ... بين أقاحٍ وجلنار يدير من ثغره الشنيب ... سلافة دونها العقار حلت لأهل الهوى وجلت ... بالذكر والوهم تسكير كم من نفوس بها تسلت ... فما لها الدهر منكر يا غصن بان يميل زهوا ... ريان في روضة الشباب لو كنت تصغى لرفع الشكوى ... أطلت من قصة العتاب ومن لمثلي ببث نجوى ... للبدر في رفرف السحاب عزائم الصبر فيك حلت ... وعقدة الصبر تذخر قد أكثرت منك ما استقلت ... وليت لو كنت تشعر كم ليلة بتها وبتا ... ضدين في سهد والرقاد أسامر النجم فيك حتى ... علمت أجفانه السهاد أراقب بدر وأنتا ... قد لحت في هالة الفؤاد نفسي وليت ما تولت ... دعاها على الشوق تصبر لو سمتها الهجر ما تولت ... ولم تكن عنك تنفر علمها الصبر في الحروب ... سلطاننا عاقد البنود معفر الصيد للجنوب ... أعز من حف بالجنود

نصرت بالرعب في القلوب ... والبيض لم تبرح الغمود عناية الله فيه حلت ... بسعده الدين ينصر والخلق في عصره تملت ... غنائماً ليس تحصر مولاي يا نكته الزمان ... دار بما ترضى الفلك جللت باليمن والأمان ... كل مليك وما ملك لم بدر وصفي ولا عياني ... أمملك أنت أم ملك جنودك الغلب حيث حلت ... بالنصر والفتح تخفر وعادة الله فيك دلت ... أنك بالكفر تظفر يا آية الله في الكمال ... ومخجل البدر في التمام قدمت بالعز والجلال ... والدهر في ثغره ابتسام يختال في حلة الجمال ... والبدء قد عاد في اختتام ريحانة الفجر قد أطلت ... خضراء بالزهر تزهر وراية الصبح إذ أظلت ... في مرقب الشرق تنشر وقال رحمه الله تعالى وسامحه: قد طلعت راية الصباح ... وآذن الليل بالرحيل فباكر الروض باصطباح ... واشرب على زهره البليل فالورق هبت من السنان ... لمنبر الدوح تخطب

تسجع مفتنة اللغات ... كل عن الشوق يعرب والغصن بعد الذهاب يأتي ... لأكوس الطل يشرب وأدمع السحب في أنسياح ... في كل روض لها سبيل والجو مستبشر النواحي ... يلعب بالصارم الصقيل قم فأغتنم بهجة النفوس ... ما بين نورٍ وبين نورٍ وشفع الصبح بالشموس ... تديرها بيننا البدور ونبيه الشرب للكئوس ... تمزج من ريقه الثغور ما أجمل الراح فوق راح ... صفراء كالشمس في الأصيل تغادر الصدر ذا انشراح ... للأنس في طيفه مقيل ولا تذر خمرة الجفون ... فكسرها في الهوى جنون ولتخش من اسهم العيون ... فإنها رائد المنون عرضت منها إلى الفتون ... وكل خطب لها يهون أهيم بالغادة الرادح ... والجسم من حبها عليل لو بت منها على اقتراح ... نقعت من ريقها الغليل أواعد الطيف للمنام ... ومن لعيني بالمنام أسهر في ليله التمام ... وأنت يا بدر في التمام وألم الزهر في الكمام ... عليه من ثغرك ابتسام

سفرت عن مبسم الأقاح ... وريقك العذب سلسبيل قل لي يا ربة الوشاح ... هل لي إلى وصل من سبيل يا كعبة الحسن زدت حسنا ... وللهوى حولك المطاف وغصن بانٍ إذا تثنى ... لو جان من زهرك القطاف ألا انعطاف على المعنى ... فالغصن يزهو بالانعطاف أصبحت تزهو على الملاح ... بذلك المنظر الجميل ووجهك الشمس في اتضاح ... لو أنها لم تكن تميل ما الزهر إلاّ بنظم در ... تحسد في حسنه العقود للملك الظاهر الأغادر ... أكرم من حف بالسعود محمّد الحمد وأبن نصر ... وباسط العدل في الوجود مساجل السحب في السماح ... بالغيث من رفده الجليل ومخجل البدر في اللياح ... بغرة مالها مثيل يا مشرب الحب في القلوب ... وواهب الصفح للصفاح نصرت بالرعب في الحروب ... والرعب أجدى من السلاح قد لحت من عالم الغيوب ... لم تعدم الفوز والنجاح مراكش نهبة افتتاح ... والصنع في فتحها جليل

بشراك بالفتح والنجاح ... والشكر من ذلك القبيل ومن غير المخلع قوله في الهناء بالشفاء من مرض: في كئوس الثفر من خمر اللعس ... راحة الأرواح وتغشى الروض مسكي النفس ... عاطر الأرواح قد كسا الأدواح وشيا مذهبا ... يبهر الشمسا عسجد قد حل من فوق الربا ... يبهج النفسا فاتخذ للهو فيه مركبا ... تحلق الأنسا منبر الغصن عليه قد جلس ... ساجع الأدواح حلل السندس خضرا قد لبس ... عطفه المرتاح قم ترى هذا الأصيل شاحبا ... حسنه قد راق ولأذيال الغصون ساحبا ... في حلى الأوراق ونديمي قال لي مخاطبا ... قول ذي إشفاق عادة الشمس بغرب تخلس ... هات الشمس الراح إنَّ أرانا الجو وجها قد عبس ... أوقد المصباح ووجوه الشرب تغنى عن شموس ... كلما تجلى بلحاظ أسكرنا عن كئوس ... خمرها أحلى

تطنب لله في الثناء ... تقول: سلمت يا سلام كم من ثغور لها ثغور ... تبسم إذ جاءها البشير ومن خدور بها بدور ... يشير منها له المشير تقول إذ حفها السرور ... تبارك المنعم القدير قد أنعم الله بالبقاء ... في ظل مولى به اعتصام قد صادف النجح في الدواء ... فالداء عنا له انفصام ينهيك مولاي بل يهنا ... ببرئك الدين والهدى فالغرب والشرب منك يعني ... بمذهب الخطب والردى والله لولاك ما تهنا ... من فيه من سطوة الردى يا مورد الأنفس الظماء ... قد كان يشتفها الأوام وقرة العين بالبهاء ... رددت للأعين المنام لو أبذل الروح في البشارة ... بذلت بعض الذي ملك فأنت يا نفس مستعارة ... مولاك بالفضل جملك لم أرد إذ أسطر العبارة ... أملك هو أم ملك لا زلت مولاي في هناء ... تبلغ القصد والمرام ودمت للملك في أعتلاء ... تسحب أيذاله الغمام وقال أيضاً يصف مالقه ويمدح الغنى بالله: عليك يا رية الإسلام ... ولا عدا ربعك المطر مذخل في قصرك الإمام ... فقربك السؤل والوطر كم فيك للغرم المشوق ... من منظر يبهج النفوس

والدوح في روضك الأنيق ... للشكر قد حطت الرءوس والجو من وجهك الشريق ... تحسده أوجه الشموس وأعين الزهر لا تنام ... تستعذب السهد والسهر تنفث من تحتها الغمام ... ترقيك من أعين الزهر عروسة أنت يا عقيله ... تجلى على مظهر الكمال مدت لك الكف مستقيله ... تمسح أعطافك الشمال والبحر مرآتك الصقيله ... تشف عن ذلك الجمال والحلي زهر له انتظام ... يكال القضب بالدرر قد راق من ثغره ابتسام ... والورد في خدها خفر إنَّ قيل من بعلها المفدى ... ومن له وصلها مباح أقول أسنى الملوك رفداً ... مخلد الفخر بالصفاح محمّد الحمد حين يهدى ... ثناؤه عاطر الرياح تخبر عن طيبه الكمام ... والخبر يغني عن الخبر فالسعد والرعب والحسام ... والنصر آياته الكبر ذو غرة تحسر البدورا ... وطلعته تخجل الصباح كم راية سامها ظهورا ... تظلل الأوجه الصباح وكم ظلام جلاه نورا ... أظفر بالفوز والنجاح الطاهر الظاهر الهمام ... أعز من صال وافتخر

لسيفه في العدا احتكام ... جرى به سابق القدر يا مرسل الخيل في الغوار ... لو تطلب البرق تلحق لك الجواري إذا تجاري ... سوابق الشهب تسبق تستن في لجى البحار ... فالكفر منهن يفرق فالدين وليقصر الكلام ... بسيفيك اعتز وانتصر كذلك أسلافك الكرام ... هم نصروا سيد البشر وقال من غير هذا البحر في المحدث بمالقة: قد نظم الشمل أتم انتظام ... واغتنم الأحباب قرب الحبيب واستضحك الروض ثغور الكمام ... عن مبسم الزهر البرود الشنيب وعمم النور رءوس الربا ... وجلل النور صدور البطاح وصافح القضب نسيم الصبا ... فالزهر يرنو عن عيون وقاح وعاد للروض زمان الصبا ... فقلد النهر مكان الوشاح وأطلع القصر بدور التمام ... في طالع الفتح القريب الغريب خدورها قامت مقام الغمام ... لا أشتكى من بعدها بالمغيب أصبحت يا رية مجلى الشموس ... جمالك العين به تبهر والبشر في جميع النفوس ... وراية الأنس بها تنشر والدوح للشكر تحط الرءوس ... وأنجم الزهر بها تزهر

وراجع النهر غناء الحمام ... وقد شدت تسجع الخطيب بمنبر الغصن الرشيق القوام ... لمّا انثنى يهفو بقد رطيب يا حبذا مبناك فخر القصور ... بدوحة طالت بروج السما ما مثله في سالفات العصور ... ولا الذي شاد أبن ما السما كم فيه من مرأى بهيج ونور ... في مرتقى الجو به قد سما خليفة الله ونعم الإمام ... أتحفك الدهر بصنع عجيب يهنيك شمل قد غدا في التئام ... ممهد في ظل عيش خصيب نواسم الوادي بممسك تفوح ... ونفحة الند به تعبق وبهجة السكان فيه تلوح ... وجوه من نورهم يشرق وروضة بالسر منه تبوح ... بلابل عن وجده تنطق لو أنَّ من يفهم عنا الكلام ... فهي تهنيك هناء الأديب ونهره قد سل منه الحسام ... يلحظه النرجس لحظ المريب فأجمل الأيام عصر الشباب ... وأجمل الأجمل يوم اللقا يا درة القصر وشمس القباب ... وهازم الأحزاب في الملتقى بشرك الرب بحسن المآب ... متعك الله بطول البقا ولا يزال القصر قصر السلام ... يختال في برد الشباب القشيب يتلو عليك الدهر في كل عام ... " نصر من الله وفتح قريب "

وقال رحمه الله من المخلع في الشفاء: في طالع اليمن والسعود ... قد كملت راحة الإمام فأشرق نور في الوجود ... وابتسم الزهر في الكمام قد طلعت راية النجاح ... وانهزم البأس والعنا وقال حي على الفلاح ... مؤذن الفوز بالمنى فالدهر يأتي بالاقتراح ... مستقبلا أوجه الهنا تخفق منشورة البنود ... والسعد يقدم من أمام والأنس مستجمع الوفود ... واللطف مستعذب الجمام وأكؤس الطل مترعات ... بأنمل السوسن الندى والطير مفتنعة اللغات ... تشدو بأصوات معبد والغصن يذهب ثم يات ... بالسندس الغض مرتدى والدوح يومي إلى السجود ... شكرا لذي الأنعم الجسام والريح خافقة البنود ... تبارك الروض بالغمام مظاهر للجمال تجلى ... قد هز أعطافها السرور وباهر الحسن قد تجلى ... ما بين نور وبين نور قد هنأت بالشفاء مولى ... بعصره تفخر العصور ما بين باس وبين جود ... قد مهد الأمن للأنام فالدين ذو أعين رقود ... وكان لا يطعم المنام والكأس في راحة السقاة ... تروح طورا وتغتدي

يهديكها رائق السمات ... ما بين برق وفرقد والشمس تذهب للبيات ... قد لبست ثوب عسجد والزهر في اليانع المجرد ... يقابل الشرب بابتسام والروض من حلبة الغمود ... قد جرد النهر عن الحسام مولاي يا أشرف الملوك ... وعصمة الخلق أجمعين أهديك من جوهر السلوك ... يقذفه بحرك المعين جعلت تنظيمه سلوكي ... وأنت لي المنجد المعين تحية الواحد المجيد ... ورحمة الله والسلام عليك من راحم ودود ... يا مخجل البدر في التمام وقال رحمه الله تعالى من الرمل المجروء: وجه هذا اليوم باسم ... وشذا الأزهار ناسم هاتها صاح كئوسا ... جالبات للسرور وارتقب منها شموسا ... طالعات في بدور ما نرى الروض عروسا ... في حلى نور ونور وأتت رسل النواسم ... تجتلي هذي المواسم قد أهلت بالبشائر ... أضحكت ثغر الأزاهر سنحت في يمن طائر ... ونظمن كالجواهر فانشروها في العشائر ... إن هذا الصنع باهر وأشيعوا في العوالم ... الغنى بالله سالم

أي نور يتوقد ... أي بدر يتلالا أي فخر يتخلد ... أي غيث يتوالى إنّما المولى محمّد ... رحمة الله تعالى فهذا البحر المقاسم ... وبها حج المباسم خير أملاك الزمان ... من بني سعد ونصر ما ترى أن الشواني ... في صعيد البر تجري قد أطارتها التهاني ... دون بحرى وبحر مذ رأت بحر النعام ... كلها جار وعام فهنيئا بالشفاء ... يا أمير المؤمنين ولنا حتى الهناء ... وجميع المسلمين إن جهرنا بالدعاء ... ينطق الدهر أمين دمت محروس المكارم ... بظبي البيض الصوارم وقال يهنئ السلطان موسى بن السلطان أبن عنان وقد وجه إليه الغنى بالله أمه وعياله عند تملكه المغرب من قبله: قد نظم الشمل أتم انتظام ... ولاحت الأقمار بعد المغيب وأضحك الروض ثغور الكرام ... عن مبسم الزهر البرود الشنيب

وعاود الغصن زمان الصبا ... وأشرب الأنس جميع النفوس وعمم النور رءوس الربا ... وجلل النور وجه الشموس وأطرب الغصن نسيم الصبا ... فالدوح للشكر يحط الرءوس واستقبل البدر ليالي التمام ... وصافح الصبح بكف خضيب وراجع الأطيار سجع الحمام ... بكل ذي لحن بديع غريب نواسم الوادي بمسك تفوح ... ونفحة الند به تعبق وبهجة السكان منه تلوح ... وجوه من نورهم يشرق وعرفهم بالطيب منهم يفوح ... كأنه من عنبر يفتق والنهر قد سل كمثل الحسام ... حبابه تطفو وطورا تغيب وقال ثغرها قد راق منه ابتسام ... يهنئ الأحباب قرب الحبيب كواكب أبراجهن الخدور ... يلوح عنها كل بدر لياح جواهر أصدافهن القصور ... نطمها السعد كنظم الوشاح يا حبذا والله ركب السرور ... يبشر المولى بنيل اقتراح ابتهج الكون بموسى الإمام ... واختال في برد الشباب القشيب وعاده يخدم مثل الغلام ... شبابه قال عاد بعد المشيب أكرم به والله وفد الكريم ... مولاتنا الحرة في مقدمه مرضاتها تحظى بدار النعيم ... وتوجب التوفيق من منعمه

بشر بالنصر وفتح جسيم ... وخيره أجمع في مقدمه لقاؤها المبرور مسك الختام ... بشرك الله بصنع عجيب وقصرك الميمون قصر السلام ... خص بحفظ من سميع عليم مولاي يهنيك وحق الهنا ... قد نظم الشمل كنظم السعود قد فزت بالفخر ونيل المنى ... وأنجز السعد جميع الوعود وقرت العين وزال العنا ... وكلما مر صنيع يعود فلا يزال ملكك حلف الدوام ... يحوز في التخليد أو في نصيب يتلو عليك الدهر بعد السلام ... " نصر من الله وفتح قريب " وقال رحمه الله في وصف غرناطة والطرد وغيرها: لله ما أجل روض الشباب ... من قبل أن يفتح زهر المشيب في عهده أدرت كأس الرضاب ... حبابها الدر بثغر الحبيب من كل من يخجل بدر التمام ... مهما تبدى وجهه للعيون ويفضح الغصن بلين القوام ... وأين منه لين قد الغصون ولحظه يمضي مضاء الحسام ... ويذهل القلب بسحر الجفون أبصرت منه إذ يحط النقاب ... شمسا ولكن ما لها من مغيب إذا تجلت بعد طول أرتقاب ... صرفت عنها اللحوظ خوف الرقيب من عاذري منه فؤاد صبا ... للامع البرق وخفق الرياح يطير إن هب نسيم الصبا ... تعيره الريح خفوق الجناح

ما أولع الصب بعهد الصبا ... وهل على من قد صبا جناح فقلبه من شوقه في ألتهاب ... قد أحرق الأكباد منه الوجيب والجفن منه سحبه في انسكاب ... قد روض الخد بدمع سكيب غرناطة ربع الهنا والمنى ... وقربها السؤل ونيل الوطر وطيبها بالوصل لو أمكنا ... لم أقطع الليل بطول السهر عما قريب حق فيه الهنا ... بيمين ذي العود بعد السفر ويحمد الناس نجاح الإياب ... بل صنع مستجد غريب ويكتب الفأل على كل باب ... " نصر من الله وفتح قريب " ما لذة الأملاك إلاّ القنص ... لأنّه الفأل بصيد العدا كم شارد جرع فيه الغصص ... وأورد المحروب ورد الردى وكم بذا الحص لنا من حصص ... قد جمع البأس بها والندى ومنها أبيات سقطت: مولاي مولاي وأنت الذي ... جددت للأملاك عهد الجلال والشمس والبدر من العوذ ... لمّا رأت منك بديع الجمال والروض في نعمته يغتدي ... بطيب ما قد حزته من خلال بشراك بشراك بحسن المآب ... تستضحك الروض بثغر شنيب ودمت محروس العلا والجناب ... بعصمة الله السميع المجيب

وقد طال الكلام ولنجعل آخر موشحة له رحمه الله تعالى زهرية في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم وتكون مسك الختام وهي: لو ترجع الأيام بعد الذهاب ... لم تقدح الأشواك ذكرى الحبيب وكل من نام بليل الشباب ... يوقضه الدهر بصبح المشيب يا راكب العجز ألا نهضة ... قد ضيق الدهر عليك المجال لا تحسبن أنَّ الصبا روضة ... تنام فيها تحت فئ الظلال فالعيش نوم والردى يقظة ... والمرء ما بينهما كالخيال والعمر قد مر كمر السحاب ... والملتقى بالله عما قريب وأنت مخدوع بلمع السراب ... تحسبه ماء لا تستريب والله ما الكون بما قد حوى ... إلاّ ظلال توهم الغافلا وعادة الظل إذا ما استوى ... تبصره متنقلا زائلا أنا إلى الله عبيد الهوى ... لم نعرف الحق ولا الباطلا فكل من يرجو سوى الله خاب ... وإنما الفوز لعبد منيب يستقبل الرجعي بصدق المتاب ... ويرقب الله الشهيد القريب سا حسرتا مر الصبا وانقضى ... وأقبل الشيب يقص الأثر واخجلتا والرحل قد قوضللا ... وما بق في الخبر غير الخبر وليته لو كنت فيما مضى ... أدخر الزاد لطول السفر قد حان من ركب التصابي إياب ... ورائد الرشاد اطال المغيب يا أكمله القلب بغين الحجاب ... كم ذا أناديك فلا تستجيب

هل يحمل الزاد دار الكريم ... والمصطفى الهادي شفيع مطاع فجاهه ذخر الفقير العديم ... وحبه رادى ونعم المتاع والله سماه الرءوف الرحيم ... فجاره المكفول ما إن يضاع عسى شفيع الناس يوم الحساب ... وملجأ لدفع الكروب يلحقني منه قبول مجاب ... يشفع لي في موبقات الذنوب يا مصطفى والخلق لهم العدم ... والكون لم يفتق كمام الوجود مزية أعطيتها في القدم ... بها على كل نبي تسود مولدك المرقوب لنا نجم ... أنجز للأمة وع السعود ناديت لو يسمع لي بالجواب ... شهر ربيع: يا ربيع القلوب أطلعت للهدى بغير احتجاب ... شمسا ولكن مالها من غروب وليكن هذا آخر ما أردناه وقصدناه من شأن أبن زمرك وسردناه. وسنح لي أن أنتقي بعض كلام أبن خلدون في تاريخه الكبير في ذكر الموشحات والأزجال فنقول: قال رحمه الله: وأما أهل الأندلس فلما كثر الشعر في قطرهم وتهذبت مناحيه وفعوله وبلغ التعميق فيه الغاية استحدث المتأخرون منهم فنا منه وسموه بالموشح ينظمونه أسماطا أسماطا وأغصانا أغصانا يكثرون منها ومن أعاريضها المختلفة ويسمون منا بيتا واحدا ويلتزمون عدد قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتالية فيما بعد إلى آخر القطعة وأكثر ما ينتهى عندهم إلى سبعة أبيات ويشتمل كل بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض والمذاهب وينسبون فيها ويمدحون كما يفعل في القصائد وتجاوزوا

في ذلك إلى الغاية واستضرفه الناس جملة الخاصة والكافة ولسهولة تناوله وقرب طريقه. وكان المخترع لها بجزيرة الأندلس مقدم بن معافي القبري من شعراء الأمير عبد الله بن محمّد المرواني وأخذ عنه ذلك عبد ربة صاحب كاتب العقد ولم يظهر لهما مع المتأخرين ذكر وكسدت موشحاتهما فكان أوّل من برع في هذا الشأن بعدهما عبادة القزاز شاعر المعتصم بن صمداح صاحب المرية وقد ذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع أبا بكر بن زهر يقول: كل الواشاحين عيال على عبادة القزاز فيم اتفق له من قوله: بردتم شمس الضحى ... غصن نقا مسك شم ما أتم ما أوضحا ... ما أورقا ما أنم لا جرم من لمحا ... قد عشقا قد حرم وزعموا أنه لم يسبق عبادة وشاح من معاصريه الذي كانوا في زمان ملوك الطوائف وجاء مصليا خافه منهم أبن ارفع رأسه شاعر المأمون بن ذي النون صاحب طليطلة. قالوا: وقد أحسن في ابتدائه في الموشحات التي طارت له حيث يقول:

العود قد ترنم ... بأبدع تلحين وسقت المذانب ... رياض البساتين وفي انتهائه حيث يقول: تخطر ولا تسلم ... عساك المأمون مروع الكتائب ... يحيى بن ذي النون ثم جاءت الحلبة التي كانت في مدة الملثمين فظهرت لهم البدائع وفرسان حلبتهم الأعمى التطيلي ثم يحيى بن بقي وللتطيلي من الموشحات المذهبة قوله: كيف السبيل إلى ... صبري وفي العالم أشجان والركب وسط الفلا ... بالخرد النواعم قد بانوا وذكر غير واحد من المشايخ أن أهل هذا الشأن بالأندلس يذكرون أن جماعة من الواشين اجتمعوا في مجلس بإشبيلية وكان كل واحد منهم قد صنع موشحة وتأنق فيها فتقدم الأعمى التطيلي للإنشاد فلما افتتح موشحته المشهورة بقوله: ضاحك عن جمان ... سافر عن بدر ضاق عنه الزمان ... وحواه صدري خرق أبن بقي موشحته وتبعه الباقون.

وذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع زهر يقول: ما حسدت قط وشاحا على قول إلاّ أبن بقي حين وقع له: أما ترى أحمد ... في مجده العالي لا يلحق أطلعه المغرب ... فأرنا مثله يا مشرق وكان في عصرهما من الوشاحين للطبوعين أبو بكر بن الأبيض وكان في عصرهم أيضاً الحكيم أبو بكر بن باجة صاحب التلاحين المعروفة. ومن الحكايات المشهورة أنه حقر مجلس مخدومة أبن تيفلوت صاحب سرقسطة فألقى على بعض قيناته موشحته التي أولها: جرر الذيل أيما جر فطرب الممدوح لذلك وختمها بقوله: عقد الله راية النصر ... لأمير العلا أبي بكر فلما طرق ذلك التلحين سمع أبن تيفلويت صاح: واطرباه وشق ثيابه وقال: ما أحسن ما بدأت وما ختمت وحلف بالأيمان المغلظة إلاّ يمشي أبن باجة إلى داره إلاّ على الذهب فخاف الحكيم سوء العاقبة فاحتال بأن جعل ذهبا في نعله ومشى عليه. ثم قال أبن خلدون بعد كلام: واشتهر بعد هؤلاء في صدر دولة الموحدين محمّد بن أبي الفضل بن شرف. ثم قال: وأبن هردوس الذي له: يا ليلة الوصل والسعود ... بالله عودي

وأبن موهل الذي له: ما العيد في حلةٍ وطاق ... وشم طيب وإنّما العيد في التلاقي ... على الحبيب وأبو إسحق الدويني: سمعت أبا الحسن سهم بن مالك يقول أنّه دخل على أبن زهير وقد أسن وعليه زي البادية، إذ كان يسكن بحصن إستبه، فلم يعرفه؛ فجلس حيث انتهى به المجلس، وجرت المحاضرة أنَّ أنشده لنقصه، موشحة وقع فيها: كحل الدجى يجرى من مقلة ... الفجر على الصباح ومعقتم النهر في حللٍ ... خضر من البطاح فتحرك ابن زهر، وقال: أنت تقول هذا؟ قال: اختبر؛ قال: ومن تكون عرفه، فقال: ارتفع فوالله ما عرفتك. قال ابن سعيد: وسابق الحلبة التي أدركت هؤلاء أبو بكر ابن زهر موشحاته وغربت. قال: وسمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول: قيل لابن زهر: كان لو قيل لك ما أبدع ما وقع لك في التوشيح؟ فقال: كنت أقول: ما للموله ... من سكره لا يفيق يا له سكران من غير خمر ... ما للكئيب المشوق بندب الأوطان هل تستعاد ... أيامنا بالخليج وليالينا إذ يستفاد ... من النسيم الأريج مسك دارينا

وإذ يكاد ... الحسن المكان البهيج إنَّ يحيتا نهر أظله ... دوح عليه أنيق مورق فيتان والماء يجري ... وعائم وغريق من جنى الريحان واشتهر بعده أبن حيون. إلى إنَّ قال أبن خلدون: وبعد هؤلاء أبن حمزون بمرسية. ذكر أبن الرائس إنَّ يحيى الخزرجي دخل عليه في مجلسه: فأنشده موشحه لنفسه، فقال له أبن حزمون: ما الموشح بموشح حتى يكون عاريا عن التكلف؛ فقال: على مثل ماذا؟ قال على مثل قولي: يا هاجري هل إلى الوصال ... منك سيبل أو هل ترى عن هواك سالي ... قلب العليل وأبو الحسن سهل بن مالك بغرناطة. قال أبن سعيد: كان والدي يعجب بقوله: إنَّ سيل الصباح في الشرق ... عاد بحراً في أجمع الأفق فتداعت نوادب الورق ... أتراها خافت من الغرق فبكت سحرة على الورق واشتهر باشبيلية لذلك العهد أبو الحسن بن الفضل. قال أبن سعيد عن والده: سمعت سهل بن مالك يقول له: يا بن الفضل، لك على الوشاحين الفضل بقولك: وأحسرنا لزمان مضى ... عشية بان الهوى وانقضى وأفرد بالرغم لا بالرضا ... وبت على جمرات الغضى

أعانق بالفكر تلك الطلول ... وألثم بالوهم تلك الرسوم قل: وسمعت أبا بكر بن الصابوني ينشد الأستاذ أبا الحسن الدباج موشحاته غير ما مرة، فما سمعته يقول: لله درك إلاّ في قوله: قسما بالهوى لذي حجر ... ما الليل المشوق من فجر جمد الصبح ليس يطرد ... ما لليالي فيما أظن غد صح يا ليل انك الأبد أو فقضت قوادم النسر ... فنجوم السماء لا تسرى ومن محاسن موشحات أبن الصابوني قوله: ما حال صب ذي ضني واكتئاب ... أمرضته يا ويلتاه الطبيب عامله محبوبه باجتناب ثم ... اقتدى فيه الكرى بالحبيب بالحبيب جفا جفوني النوم لكنني ... لم ابكه إلاّ لفقد الخيال وذا الوصال اليوم قد عزني ... منه كما شاء وشاء الوصال فلست باللأئم من صدني ... بصورة الحق ولا بالمحال واشتهر ببر العداوة أبن خلف الجزاري صاحب الموشحة المشهورة: يد الإصباح ... قد زناد الأنوار من مجامر الزهر وأبن الخرز البجائي، وله من موشحة: ثغر الزمان موافق ... حياك منه بابتسام

ومن محاسن الموشحات للمتأخرين موشحة أبن سهل شاعر اشبيلية وسبتة من بعدها فمنها قوله: هل درى ظبي الحمى أن قد حمى ... قلب صب حله عن مكنس فهو في نار وخفق مثلما ... لعبت ريح الصبا بالقيس وقد نسج على منواله فيها صاحبنا الوزير أبو عبد الله بن الخطيب شاعر الأندلس والمغرب لعصره فقال: جادك الغيث إذا الغيث همى ... يا زمان الوصل بالأندلس لم يكن وصلك إلاّ حلما ... في الكرى أو خلسة المختلس إذ يقود الدهر اشتات المنى ... تنقل الخطو على ما يرسم زمرا بين فرادي وثنى ... مثلما يدعو الوفود الموسم والحيا قد جلل الروض سنى ... فثغور الزهر فيه تبسم وروى النعمان عن ماء السما ... كيف يروي مالك عن أنس فكساه الحسن ثوبا معلما ... يزدهي منه بأبهى ملبس في ليال كتمتا سر الهوى ... بالدجى لولا شموس الغرر مال نجم الكأس فيها وهوى ... مستقيم السير سعد الأثر وطر ما فيه من عيب سوى ... أنه مر كلمح البصر حين لذلك النوم مع حلو اللمى ... هجم الصبح هجوم الحرس

غارت الشهب بنا أو ربما ... أثرت فينا عيون النرجس أي شيء لأمري قد خلصا ... فيكون الروض قد مكن فيه تنهب الأزهار منه الفرصا ... أمنت من مكره ما تتقيه فإذا الماء تناجى والحصى ... وخلا كل خليل بأخيه تبصر الورد غيور برما ... يكتسي من غيظه ما يكتسي وترى الآس لبيبا فهما ... يسرق السمع بأذني فرس يأهل الحي من وادي الغضى ... وبقلبي مسكن انتم به ضاق عن وجدي بكم رحب الفضا ... لا أبالي شرقه من غربه فأعيدوا عهد أنس قد مضى ... تعتقدوا عانيكم من كربه واتقوا الله وأحيوا مغرما ... يتلاشى نفسا في نفس حبس القلب عليكم كرما ... أفترضون عفاء الحبس وبقلبي منكم مقترب ... بأحاديث المنى وهو بعيد قمر أطلع منه المغرب ... شقوة المغرى به وهو سعيد قد تساوي محسن أو مذهب ... في هواه بين وعد ووعيد ساحر المفلة معسول اللمى ... جال في النفس مجال النفس سدد السهم وسمى ورمى ... ففؤادي نهبة المفترس إن يكن جار وخاب الأمل ... وفؤاد الصب بالشوق يذوب

فهو للنفس حبيب أول ... ليس في الحب لمحبوب ذنوب أمره معتمد ممتثل ... في ضلوع قد براها وقلوب حكم اللحظ بها فاحتكما ... لم يراقب في ضعاف الأنفس منصف المظلوم ممن ظلما ... ومجازي البر منها والمسى ما لقلبي هبت صبا ... عاده عيد من الشوق جديد كان في اللوح له مكتتبا ... قوله: " إنَّ عذابي لشديد " جلب الهم له والوصبا ... فهو للأشجان في جهد جهيد لاعج في أضلعي قد أضرمها ... فهي نار في هشيم اليبس لم يدع في مهجتي إلاّ ذما ... كبقاء الصبح بعد الغلس سلمي يا نفس في حكم القضا ... واعمري الوقت برجعي ومتاب دعك من ذكرى زمان قد مضى ... بين عتبي قد تقضت وعتاب وأصر في القول إلى المولى الرضا ... ملهم التوفيق في أم الكتاب الكريم المنتهي والمنتمي ... أسد السرج وبدر المجلس ينزل النصر عليه مثلما ... ينزل الوحي بروح القدس قال: وأما المشارقة فالتكلف ظاهر على ما عانوه من الموشحات. ومن أحسن ما وقع لهم في ذلك موشحة أبن سناء الملك المصري التي اشتهرت شرقا وغربا وأولها: حبيبي أرفع حجاب النور ... عن العذار

ننظر المسك على الكافور ... في جلنار كللي ... يا سحاب التيجان الربا بالحلى واجعلي ... سوارها منعطف الجدول ولمّا شاع فن التوشيح في أهل الأندلس وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق كلامه وتصريع أجزائه نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله ونظموا على طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيه إعرابا واستحدثوا فنا سموه بالزجل والتزموا النظم فيه على مناحيهم إلى هذا العهد فجاءوا فيه بالغرائب واتسع فيه للبلاغ مجال بحسب لغتهم المستعجمة. وأول من أبدع في هذه الطريقة الزجلية أبو بكر بن قزمان وإن كانت قيلت قبله بالأندلس لكن لم تظهر حلاها ولا انسبكت معانيها ولا اشتهرت رشاقتها إلاّ في زمانه وكان لعهد الملثمين وهو إمام الزجالين على الإطلاق. قال أبن سعيد: ورأيت أزجاله مروية ببغداد أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب. قال: أبا الحسن بن حجدر الإشبيلي إمام الزجالين في عصرنا يقول: ما وقع لأحد من أئمة هذا الشأن مثل ما وقع لابن قزمان شيخ الصناعة وقد خرج إلى متنزه مع بعض أصحابه فجلسوا تحت عريش وأمامهم تمثال أسد من رخام يصب الماء من فيه على صفائح من الحجر فقال: وعريش قد قام على دكان ... بحال رواق وأسد قد ابتلع الثعبان ... في غلظ ساق

وفتح فمه بحال إنسان ... به الفواق وانطلق يجري على الصفاح ... وألقي الصياح وكان أبن قزمان مع أنه قرطبي الدار كثير ما يتردد إلى أشبيلية وينتاب نهرها. ثم ذكر أبن خلدون عنه وعن جماعة حكاية وكلاما إلى أن قال: وجاءت بعدهم حلبة كان سابقها مدغليس وقعت له العجائب في هذه الطريقة فمن قوله في زجله المشهور: ورذاذ دق ينزل ... وشعاع الشمس يضرب فترى الواحد يفضض ... وترى الآخر يذهب والنبات يشرب ويسكر ... والغصون ترقص وتطرب وتريد تجئ إلينا ... ثم تستحي وتهرب ومن محاسن أزجاله قوله: لاح الضياء والنجوم حيارى ثم قال أبن خلدون: وظهر بعد هؤلاء في إشبيلية أبن جحدر الذي فضل على الزاجلين في فتح ميروقة بالزجل المشهور الذي أوله: من عاند التوحيد بالسيف يمحق ... أنا برئ ممن يعاند الحق قال أبن سعيد: لقيته ولقيت تلميذه البعج صاحب الزجل المشهور الذي أوله:

يا ليتني إن رأيت حبيبي ... أفتل اذنو بالرسيلا ليش أخذ عنق الغزيل ... وسرق فم الحجيلا ثم جاء من بعدهم أبو الحسن سهل بن مالك إمام الآداب ثم من بعدهم لهذه العصور صاحبنا الوزير أبو عبد الله بن الخطيب إمام النظم والنثر في الملة الإسلامية غير مدافع فمن محاسنه في هذه الطريقة: أمزج الأكواس واملالي نجدد ... ما خلق المال إلاّ أن يبدد ومن قوله على طريقة الصوفية وينحو منحى الششتري منهم: بين طلوع وبين نزول ... اختلطت الغزول ومضى من لم يكن ... وبقمن لم يزول ومن محاسنه أيضاً قوله في ذلك المعنى: البعد عنك يا بني ... أعظم مصابي وحصل لي قمسك ... نسيت أقاربي وكان لعصر الوزير أبن الخطيب بالأندلس محمّد بن عبد العظيم من أهل وادي آش وكان إماما في هذه الطريقة وله من زجل يعارض به مذغليس في قوله: لاح الضياء والنجوم حيارى بقوله: حل المجون يأهل الشطارا ... مذ حلت الشمس بالحمل

ثم ذكر أبن خلدون جملة من هذا الزجل وقال بعد ذلك: وهذه الطريقة الزجلية لهذا العهد هي فن العامة بالأندلس من الشعر وفيها نظمهم حتى إنهم لينظمون بها في سائر البحور الخمسة عشر لكن بلغتهم العمامية ويسمونه الشعر الزجلي. إلى أن قال: وكان من المجيدين في هذه الطريقة لأول هذه المئة الأديب أبو عبد الله اللوشي وله من قصيدة يمدح فيها السلطان أبن الأحمر: طل الصباح قم يا نديم نشربو ... ونظحكو من بعد ما نطربو ثم سردها أبن خلدون وهي طويلة جدا. ثم قال: ثم استحدث أهل الأمصار بالمغرب فنا آخر من الشعر في أعاريض مزدوجة كالموشح نظموا فيه بلغتهم الحضرية أيضاً وسموه عروض البلد وكان أول من استحدثه بينهم رجل من أهل الأندلس نزل بفاس يعرف بابن عمير فنظم قطعة على طريقة الموشح ولم يخرج فيها عن مذهب الإعراب إلاّ قليلا مطلعها: أبكاني بشاطي النهر نوح الحمام ... على الغصن في البستان قريب الصباح وكف السحر تمحو مداد الظلام ... وماء الندى يجري بثغر الأقاح باكرت الرياض والطل فيه افتراق ... سر الجوهر في نحور الجوار ودمع النواعر ينهرق انهراق ... يحاكي ثعابين حلقت بالثمار لووا بالغصون خلخال على كل ساق ... ودار الجميع بالروض دور السوار

وأيدي الندى تخرق جيوب الكمام ... وتحمل نسيم المسك عنها رياح وعاج الضياء يطلى بمسك الغمام ... وجر النسيم ذيلو عليها وفاح رأيت الحمام بين الورق في القضيب ... قد ابتلت ارياشو بقطر الندى ينوح مثل ذاك المستهام الغريب ... قد ألتف من ثوبو الجديد ردا ولكن بفاح أحمر وساق خصيب ... ينظم سلوك جوهر ويتقلدا جلس بين الأغصان جلسة مستهام ... جناحا توسد والتوى في جناح وصار يشتكي ما في الفؤاد من غرام ... منها ضم منقارو لصدرو وصاح فقلت أحمام أحرمت عيني الهجوع ... أدى ما تزال تبكي بدمع سفوح قال لي بكيت حتى صفت لي الدموع ... بلا دمع نبقى طول حياتي ننوح على فرخ طار لي لم يكن لو رجوع ... ألفت البكا والحزن من عهد نوح كذال هو الوفا كذا هو الذمام ... انظر للجفون صارت بحال الجراح وانتم من بكى منكم إذا تم عام ... يقول قد عياني ذا البكا والنواح فقلت أحمام لو خضت بحر الضنى ... كان تبكي وترثي لي بدمع هتون ولو كان بقلبي ما بقي أنا ... رماد كان يصير تحتك فروع الغصون اليوم لي نقاسي الهجر كم من سنا ... حتى لا سبيل جملة تراني العيون ومما كسا جسمي النحول والسقم ... أخافني نحولي عن عيون اللواح

لو جتني المنايا كان نموت في المقام ... ومن مات بعد يا قوم لقد استراح ثم قال أبن خلدون: فاستحسنه أهل فاس وولعوا به ونظموا على طريقته وتركوا الإعراب الذي ليس من شأنهم وكثر شياعه بينهم واستحفل فيه كثير منهم ونوعوه أصنافا إلى المزدوج والكازي والملعبة والغل واختلفت أسماؤها باختلاف ازدواجها وملاحظاتهم فيها. فمن المزدوج ما قاله أبن شجاع من فحولهم وهو من أهل تازا: المال زينة الدنيا وعز النفوس ... يبهى وجوها ليس هي باهيا فهل كل من هو كثير الفلوس ... ولوه الكلام والرتبة العاليا يكبروا من كثر ماله ولو كان صغير ... ويصغر عزيز القوم إذا يفتقر من ذا ينطبق صدري ومن ذا بغير ... وكاد ينفقع لولا الرجوع للقدر حتى يلتجي من في قومه كبير ... لمن لا أصل عندو ولا لو خطر لقد ينبغي نحزن على ذي العكوس ... ونصبغ عليه ثوبي من راس خابيا أدى صارت الأذناب أمام الرءوس ... وصار يستفيد الواد من الساقيا ضعف الناس عمل ذا أو فساد الزمان ... ما ندريو على من نكثرو ذا العتاب أدى صار فلان اليوم يصبح بو فلان ... ولو ريت وكيف حتى يرد الجواب

عشنا والسلام حتى رأينا عيان ... أنفاس السلاطين في جلود الكلاب كبار النفوس جدا ضعاف الأسوس ... هم في ناحيا المجد في ناحيا يروا أنهم ... والناس يروهم تيوس وجوه البلد والعمد الراسيا ثم ذكر أبن خلددون كلاما آخر لابن شجاع. ثم قال: وكان منهم على بن الؤذن بتلمستان. وكان لهذه العصور القريبة من فحولهم بزرهون من نواحي مكانسة رجل يعرف بالكفيف أبدع في مذاهب هذا الفن ومن أحسن ما علق له بمحفوظي قوله رحلة السلطان أبي الحسن بني مرين إلى أفريقية يصف هزيمتهم بالقيروان ويعزيهم عنها ويؤنسهم بما وقع لغيرهم بعد أن عيبهم على غزاتهم إلى أفريقية في ملعبة من فنون هذه الطريقة يقول في مفتتحها وهو من أبدع مذاهب البلاغة في الإشعار بالمقصد في مطلع الكلام وافتتاحه ويسمى براعة الاستهلال: سبحان مالك خواطر الأمرا ... بنواصيها في كل حين وزمان إن طعناه أعظم لنا نصره ... وإن عصيناه عاقب بكل هوان إلى أن يقول في السؤال عن جيوش المغرب بعد التخلص: كن مرعى قل ولا تكن راعي ... فالراعي عن رعيته مسئول

واستفتح بالصلاة على الداعي ... للإسلام والرضى السنى المكمول للخلفا الراشدين والأتباع ... واذكر بعدهم إذا تحب وقول أحجاجا تخللوا الصحرا ... ودروا شرح البلاد مع السكان عسكر فاس المنيرة الغر ... أين سارت به عزائم السلطان أحجاج بالنبي زرتم ... وقطعتهم لو كلاكل البيدا عن جيش الغرب جيت نسألكم ... المتلوف في أفريقيا السودا وأمير كان بالعطا يزودكم ... ويدع برية الحجاز رغدا قام كل كلسد صادف الجزرا ... ويعجز شوط بعد ما لحقان وتركوا دم ولهب في الغبرا ... أدى صار إذ غار له سيحان لو كان ما بين تونس الغربا ... وبلاد الغرب سد الاسكندر مبنى من شرقها إلى غربا ... طبقا بحدبد وثانيا بصفر لا بد للطير كان يجي بنبا ... أو يأتي الريح عنهم بفرد خبر ما أعوصها من أمور وما شرا ... لو تقرا كل يوم على الويدان لجرت بالدم وانصدع حجرا ... وهوت الاجراف وجفت الغدران ادري لي بعقلك الفحاص ... وتفكر لي بخاطرك جمعا

إن كان يعلم حمام ولا رقاص ... عن السلطان شهر وقبله سبعا بكتاب عبد المهيمن القواص ... وعلامات تنشر على الصمعا إلاّ قوم العاربين بلا سترا ... مجهولين لا مكان ولا إمكان لم يدريوا كيف يصيروا الكسرا ... أو كيف دخلوا مدينة اليروان أمولاي بو الحسن خطينا الباب ... بقضة سيران إلى تونس في غنا كنا عن الجريد والزاب ... وايش لك بعرب إفريقية القونس ما بلغك عن عمر بن الخطاب ... الفارق فاتح القرى المونس ملك الشام والحجاز وتاج كسرى ... ولم يفتح من أفريقيا دكان كان إذا تذكر له كره ذكرا ... ويقول اسمها يفرق الإخوان هذا الفاروق زمرد الأكوان ... صرح في أفريقيا بذا التصريح وبقت حمى إلى زمن عثمان ... وفتحها أبن الزبير عن تصحيح لمّا دخلت غنايمها الديوان ... مات عثمان وانقلب علينا الريح وافترق الناس على ثلاث أمرا ... وبقى ما هو السكوت عنو إيمان إذا كان ذا في مدة البررا ... أيش نعمل في أواخر الأزمان وأصحاب الجفر في كتيباتنا ... وفي تاريخ كتابنا وكيوانا

تذكر في صحفها وأبياتا ... شق وسطيح وأبن مرلنا أبن مرين إذا انكبت برايانا ... لجدار تونس فقد سقط شانا قد ذكرنا ما قال سيد الوزرا ... عيسى بن الحسن الرفيع الشان قال لي رينا وأنا بها أدري ... لكن إذا جاء القضا عمت الاجفان ويقول لك ما رمى المرينيا ... من حضرة فاس إلى عرب دياب راد المولى يموت أبو يحيى ... سلطان تونس وصاحب العناب ولقد كان قبل ذا الأشيا ... جعل أولاد أبو الحسن أنسابا ثم أخذ في ترحيل السلطان وجيوشه إلى آخر رحلته ومنتهى أمره مع أعراب أفريقية وأتى فيها بكل غريبة من الإبداع. وأما أهل تونس فاستحدثوا فن الملعبة أيضاً على لغتهم الحضرية إلى أن أكثره رديء ولم يعلق بمحفوظي منه شيء لرداءته. وكان لعامة بغداد أيضاً فن من الشعر يسمونه المواليا وتحته فنون كثيرة يسمون منها القوما وكان ومنه مفرد ومنه في بيتين ويسمونه دوبيت على اختلاف الموازين المعتبرة عندهم في كل واحد منها وغالبا مزدوجة من أربعة أغصان وتبعهم في ذلك أهل مصر والقاهرة وأتوا فيها بالغرائب

وتجاروا فيها بأساليب البلاغة بمقتضى لغتهم الحضرية فجاءوا بالعجائب. ورأيت في ديوان الصفي الدين الحلي من كلامه أن المواليا من بحر البسيط وهو ذو أربعة أغصان وأربع قواف يسمى صوتا وبيتين وأنه من مخترعات أهل واسط وأن كان وكان في قافية واحدة وأوزان مختلفة في أشطاره والشطر الأول من البيت أطول من الشطر الثاني ولا تكون قافيته إلاّ مردفة بحرف العلة وأنه من مخترعات البغداديين وأنشد فيه. ثم ذكر أبن خلدون عدة مقطعات من المواليا ومنها: ناديتها ومشيبي قد طاوني طي ... جودي على مقبله في الهوى يا مي قالت وقد تركت داخل فؤادي كي ... ما ظن القطن يغشى فم من هو حي ومنها: يا حاديا العيس أزجر بالمطايا زجر ... وقف على منزل أحبابي قبيل الفجر وصح في حيهم ما من يريد الأجر ... ينهض يصلي على ميت قتيل الهجر ومنها: عيني التي كنت أرعاكم بها باتت ... ترعى النجوم وبالتسهيد اقتاتت واسهم البين صابتني ولا فاتت ... وسلوتي عظم الله أجركم ماتت

ثم قال: ومن الذي يسمونه ذو بيت: قد أقسم من أحبه بالباري ... أن يبعث طيفه مع الأسحار يا نار أشواقي به فاتقدي ... ليلا عساه يهتدي بالنار واعلم أن الذوق من معرفة البلاغة منها كلها إنما يحصل لمن خالط تلك اللغة وكثر استعماله لها ومخاطبته بين أجيالها حتى يحصل ملكتها كما قلناه في اللغة العربية فلا يشعر الأندلسي بالبلاغة التي في شعر أهل المغرب ولا المغربي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس والمشرق ولا المشرقي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس والمغرب لأن اللسان الحضري وتركيبته مختلفة فيهم وكل واحد منهم مدرك بلاغة لغته وذائق محاسن الشعر من أهل بلدته وفي خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم آيات للعالمين. انتهى كلام أبن خلدون في ديوان العبر ببعض الاختصار. قلت: كأن بمنتقد ليس له خبره يسدد سهام الاعتراض ويتولى كبره ويقول: ما لنا وإدخال الهزل في معرض الجد الصراح؟ والذي أحوجنا إلى ذر هذا المنحى والأليق طرحه كل الاطراح؟ فنقول في جوابه على الإنصاف: لم تزل كتب الأعلام مشحونة بمثل هذه الأوصاف وليس مرادهم إيثار الهزل على غيره وإنما ذلك من باب ترويح القلب وهو أعون على خيره وللسلف في مثل ذلك حكايات يطول جلبها ولا يقدح ذلك في سكينتهم ولا يتوهم لسببه سلبها ويرحم الله تعالى عياض إذ قال: قل للأحبة والحديث شجون ... ما ضر أن شاب الوقار مجون والأبيات الآتية في محلها.

وليس قصدنا نحن بهذا علم الله غرضا فاسدا ننفق منه في سوق الهزل كاسدا وإنما غرضنا صحيح وزندنا غير شحيح. على أن المقصود الأعظم مدح النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأوزان وكل ما سيق وسيلة إلى ذلك مما راق أوزان. وأعلو أيها الناظر أذهب الله عن ساحتك الأشجان أنَّ كثيرا من الأئمة مدحوا بذلك المبعوث رحمة إلى الإنس والجان صلى الله عليه وسلم صلاة وسلاما يتوضع نشرهما في المشارق والمغارب ويتألق نورهما فيهتدي به قائلهما لقضاء الأغراض والمآرب. فمن ذلك قول بعض من كرع من منهل حبه العذب المشارب من موشح لم أقف من إلاّ على قوله: البلبل في الرياض لمّا نشدا ... بالقول شدا والغصن له يميل حتى سجد ... مما وجدا قد مدينة له الأكف من غير ندا ... يمتاح ندى والورق شدت بصوتها الملحان ... دون العلق لمّا ذكر بأطيب الألحان ... رب الفلق يا أشرف مرسل به الله هدى ... من رام هدى بالمدح لديك عبد وهاب غدا ... يرجوك غدا يا من مديحه جلا كل صدا ... ممن رصدا يا ملجأ كل خائف أو جاني ... بالذنب شقي

لا زال حماك روضة للجاني ... والمنتشق يا عرب الشهامة حماكم أربي ... فيه العربي فالسعي لغير أرضكم لم يجب ... حث النجب فالفضل لكم مع كمال الحسب ... عند النسب من مدحكم تصرمت أحزاني ... والفرح بقي عندي أبدا وفوحت أوزاني ... مسك العبق ومن ذلك قول بعض العدول من أهل العصر القريب من عصرنا رحمهم الله تعالى: يا عريب الحمى من حي الحمى ... أنتم عيدي وانتم عرسي لم يحل عنك ودادي بعدما ... حلت لا وحياة الأنفس من عذيري في الذي أحببته ... ملك القلب شديد البرحا بدر تم أرسلت مقلته ... سهم لحظ لفؤادي جرحا إن تبدي أو تثني خلته ... غصن بان فوقه شمس ضحى تطلع الشمس عشاء عندما ... تتحلى منه أبهى ملبس وترى الليل أضاء منهزما ... وترى الصبح أضاء في الغلس يا حياة النفس صل بعد النوى ... وألها مضنى شديد الشغف قد براه السقم حتى ذا الهوى ... كاد أن يفضي به للتلف آه من ذكرى حبيب باللوى ... وزمان بالمنى لم يسعف

كنت أرجو الكيف يأتي حلما ... عائدا يا نفس من ذا فا يأسي هل يعود الطيف الصبا مغرما ... ساهرا أجفانه لم تنعس همت في أطلال ليلى وأنا ... ليس في الأطلال لي من أرب ما مرادي رامة والمنحى ... لا ولا ليلى وسعدي مطلبي إنما سؤلي وقصدي والمنى ... سيد العجم وتاج العرب أحمد المختار طه من سما ... الشريف أبن الشريف الكيس خاتم الرسل الكريم المنتمى ... طاهر الأصل زكي النفس ولم أقف من هذه الموشحة على غير هذا القدر وهو عجيب عارض موشحتي أبن سهل وأبن الخطيب السابقتي الذكر. ومن ذلك جملة موشحات أنتقيتها من كلام الشيخ الإمام الصالح الزكي الصوفي أبي عبد الله محمّد بن أحمد بن الصباغ الجذامي وقد ألف ذلك بعض الأئمة في تأليف رفعه للسلطان المرتضى صاحب مراكش وأطال فيه من موشحات هذا الشيخ وسائر نظمه ولم أذكر من موشحاته إلاّ الغرر على أنها كلها غرر فمن ذلك قوله رحمه الله: ألف المضنى الشجونا ... وارتضى الأحزان دينا فوق صفح الوجنتين ... أهمل الدمع الهتونا يقطع الأيام حزنا ... وبكاء وعويلا فارحموا صبا معنى ... قلبه يذكى غليلا

ملهب الأحشاء مضنى ... بالنوى أضحى عليلا ذاب شوقا وحنينا ... وسقاما وأنينا يا له من حلف بين ... يرتضى فيك المنونا أترى عهدا تقضى ... منكم هل لي يعود فمتى عني ترضى ... قد برئ جسمي الصدود لم أطق والله نهضا ... فبحق الحق جودوا وارحموا صبا مهينا ... كم شكى البين سنينا وشئون المقلتين ... تسكب الدمع المعينا قد ذوى غصن الشباب ... ومضى عمري وولى آن لي وقت الإياب ... كم أسلى النفس جهلا هذه عرس المتاب ... في قباب الوصل تجلى حسنوا فيها الظنونا ... وادخلوها آمنينا قد وصلنا كل بين ... وعفونا ورضينا نحو هانيك الربوع ... فاجهدوا كد الحمول وإلى قبر الشفيع ... أعملوا سير الرحيل إن تكن خلي مطيعي ... يمن خير رسول كن لي يا رب معينا ... وصل الصب الجزينا قبل أن يحين حيني ... وأرى الموت يقينا

نم ريحان التداني ... وسرت ريح الوصال قد صفا ورد الأماني ... فانتهض نحو المعالي صاح كم هذا التواني ... فاستمع عذب المقال وبلينا وابتلينا ... واش يقول الناس فينا قم بنا يا نور عيني ... نجل الشك يقينا وقوله في التشوق إلى مكة وطيبة على ساكنها الصلاة والسلام: زهر شيب المفارق ... تفتحت عنه الكمام فابك الزمان المفارق ... وحاك في النوح الحمام عوضت بالصبح الأصيل ... وقد عرا البدر أنكساف ألم بالغصن الذبول ... وكان لدنا ذا انعطاف ريح الصبا كان تميل ... كأن سلا صرف السلاف حتى رمى القلب راشق ... وفوقت نحو السهام ولسان الحال ناطق ... يخبرني أن لا دوام يا بدر أيام الشباب ... هل للأفول منك طلوع أضحى فؤادي ذا المذاب ... حليف أشجان فزوع ونار حزني في ألتهاب ... تذكى بأحناء الضلوع فإن هفا البرق خافق ... ذكرت عهدي بالخيام

إن تأوه عاشق ... ساجلت في دمي الغمام ولى الشباب وانقضى ... فدمع عيني في انهمال وفي الحشى جمر الغضا ... لفقد هاتيك الليال يا عهد أيام الرضا ... هل رجعت دني الوصال تحيا بها نفس وامق ... مضنى الفؤاد مستهام نحو العذيب وبارق ... يحدو به حادي الغرام يهيجه لمع البوارق ... من طيبة حين تشام فإن تعقني العوالق ... ألصقت خدي بالرغام يا دار هل يدنو المزار ... فيعقب الليل الصباح لهفي على بعد الديار ... وقال الأصمعي: أرياش الجناح متى أرى أحدو القطار ... فقد براني الأنتزاح أشدو المطايا السوابق ... مزمزما عند المقام ثغر الزمان الموافق ... حياك منه بابتسام وقوله رحمه الله: رسوم ظاهر البلى ... بكل رسم طامس العنوان وربعهم ما أشكلا ... منها لك حازم تبيان

قف بالديار وأعتبر ... إن كنت من أهل العبر وأنظر لها وأزدجر ... فإنَّ فيها الأجر كم معلم قد دثر ... فلم يبن منه أثر تبكيه ورق الفلا ... وفي بكى الحمام أشجان فلننتدب إلى الطلا ... ففي فؤاد الهائم أحزان سماعا من الوجود ... عنه تفاهم العقول فغيبه وشهود ... كلاهما عين الدليل حتى متى يا مريد ... تختال في ثوب الخمول تشكو لنا العللا ... وأنت بالمآثم جذلان فلذ بعز العلا ... فعندنا للنادم إحسان فناء أهل الطريق ... هو الوجود المطلق فكل معنى دقيق ... بوصفهم يحقق أنوارهم في شريق ... بها استضاء الموفق قد أوضحوا السبيلا ... فهم لنا في العالم برهان فاجنح إليهم ولا ... تعفل للمواسم إبان يا ناسيا لوصلنا ... أيقظ من النوم الجفون سلم إلينا فعلنا ... ما كان منه أو يكون لا حول إلاّ حولنا ... فأنف الشكوك والظنون

يا غادرا قد سلا ... أقصر فليس يجمل سلوان لله ما أجملا ... من بات وهو بالهوى نشوان يا طلبي للندى ... يبغي السماحة والنوال يمم ... فديت احمدا بدر العلا شمس الكمال وعد عمن شدا ... واستغرق المدح وقال: إن جئت أرض سلا ... تلقاك بالمكارم فتيان هم سطور العلا ... ويوسف بن القاسم عنوان وقوله رحمه الله: بأرض طيبة معهد ... شوقي إليه مجدد هل لي بتلك الطلول من زورة ومقيل يا قبر خير رسول متى يراك فيسعد ... صب ببعدك مكمد مذ قد براه انتزاح وقص منه الجناح له إليك ارتياح بالغرب أضحى مقيد ... والضعف والشيب يشهد ربع التواصل أقوى فمن على الهجر يقوى قد صير الجسم نضوا

سهم بعاد مسدد ... لقد رماني فأقصد متى يتاح التداني لمكد القلب عاني يشدو بكل لسان عسى الذي كنت أعهد ... مما تقضى يجدد يا بغيتي يا مرادي أشكوك فرط بعادي في كل وادي أنادي: مالي غيرك مقصد ... فكيف بالهجر أقصد فوضت أمري إليك فذاك وقف عليك مالي شفيع لديكا إلاّ بكائي سرمد ... فمن على الحسن يسعد بي فاعل ما تشاء أضحى لي منك الرجاء فكل داء دوا وكل رأيي مسدد ... وكل أمر مرشد

وقوله رحمه الله: قم وناج الله في داجي الغلس ... تنتشي الأرواح والتمس للعفو فيه ملتمس ... وانتبه قد فاح عرف أزهار الرضا ثم اقتبس ... نور رشد لاح وانتشق يا صاح أرواح السحر ... يا لها مشموم عرفه إن هب في إثر الزهر ... ينعش المزكوم مرغ الخد ونادي بالنحيب ... واهمل الأجفان قف بمغناهم وقوف مستريب ... حالف الأشجان واشك إن وافقت إصغاء الطبيب ... علة الهجران فعسى بالوصل تحيي ما دثر ... ويطيب النعيم فالنوى ما إن عليه مصطبر ... والبعاد أليم يا رحيم الخلق رحماك فقد ... جئت مغنى رحيب ليس للعبد على النار جلد ... وهو عبد مريب عبد سوء لحماك قد قصد ... يشتكي بالذنوب من له يوم ترامي بالشرر ... زفرات الجحيم فيهاب الخلق من خير البشر ... عافني يا رحيم أنا ما بين مقامين مقيم ... أورثاني شجا

في فؤادي من دموعي كلوم ... قلما ترتجي واعتلاقي بجناب الكريم ... مشعر بالنجا ها أنا في الحالتين في خطر ... والفؤاد سليم سلك التوحيد فيه بالنظر ... سبل نهج قويم أحليف الحزن تشكو بالعباد ... لذ بمجد أثيل في قباب المجد تحظى بالمراد ... حيث حل الرسول عنده يشفي صداه الفؤاد ... واسألن من يقول: ليتني رملة الحرة وقوله رحمه الله: نأت بي الأوطان ... عن حضرة الإحسان ولا معين فمن لذي أحزان ... لطيبة قد كان له حنين شطت بي الدار ... فيا شوقها ليثرب أحبابه ساروا ... والبين أقصاه بالمغرب في قلبه نار ... تذكيه أمراه فلتعجب لو سابق الإخوان ... في ذلك الميدان أضحى مكين

فحالف الأشجان ... واصحب مع الأحيان قلبا حزين للمورد العذب ... والمنهل السلسل شدوا الرحيل فيا ظما قلبي ... لذلك المنهل هل من مقيل بساحة القرب ... فيبرد السلسل حر الغليل إنَّ أمكن الإمكان ... أنَّ يكرع الظمآن من المعين في مشرب الرضوان ... فذاك سعد دان للرائدين يا حادي الظعن ... وسائق الركب إلى العقيق أسفت للبين ... فهل إلى القرب يلفي طريق متى النوى تدنى ... من مطلع الشهب قلبا خفوق فيثرب بستان للروح والريحان ... فيه فنون ودوحه المزدان ... تحيا به الأكوان في كل حين يا خير مرسول ... للحر والعبد بالمعجزات نداء مخبول ... نادى على بعد خوف الممات أنتم مني سولي ... وانتم قصمدي ولي صفات تمجها الآذان ... وتقتضي الهجران فما تكون من ذي شجونٍ عان ... يحكى بدوح ألبان شادي الغصون يا صاح والقصد ... أنَّ يظفر الأواه بقصده

إنَّ شفك البعد ... فثق بعفو الله عن عبده ودع فتى يشدو ... واللهو قد ألهاه عن رشده جنان يا جنان ... أجن من البستان الياسمين وخل الريحان ... بحرمة الرحمن للعاشقين وقوله رحمه الله تعالى: لأحمد المصطفى مقام جل علا فلا يرام بنوره يهتدى الأنام فأي شمس وأي بدر ... قد أطلعته لنا السعود بنوره تشرق الشموس في حبه تخلع النفوس يا أيّها المسمع الرئيس أدر علينا كئوس فخر ... من ذكره تعط ما تريد أمدح خير الروى نعيم نحن أناس بها نهم يا مادحيه بالله قوموا خوضوا بنا موج بحر فخر ... من مات فيه فهو شهيد الشطح في حله مباح ونحن قوم لنا ارتياح قلوبنا حشوها جراح

من نأي مغنيات ليت شعري ... متى يرى قبره العميد إنَّ سمح الدهر بالوصول لقبر خير الروى الرسول السيد الأرفع الجليل فثم نخلع ثياب طهر ... وتوفى روح لمن تريد وقوله أيضاً: لهفي على عمري مضى ... والشيب في الفود بدا وما قضيت الغرضا أيام ريعان الشباب ... ولت ولم تنو الإياب فنار حزني في التهاب ... ودمع عيني في انسكاب يا عهد أيام الرضا ... ليس رجعة تشفي الصدى وتبقي المرضا إنَّ كنت من أهل الصفا ... دع عنك أوصاف الجفا وأذكر كرم الله وجهه لرسم قد عفا ... وهو بمدح المصطفى الهاشمي المرتضى ... تاج العلا شمس الهدى لا تبغ منه عوضا وشم ربوعا للحبيب ... وانزل بمغناه الرحيب ولذ بمرعاه الخصيب ... فهو لمّا تشكو الطبيب ناد به معرضا ... هل تقبلون مكمدا قد كان عنكم اعرضا رمت فؤادي النوى ... وغصن عمري قد ذوى والشوق قلبي قد كوى ... واهاً على فقدي القوى

قضى النوى ما قد قضى ... هل يستطيع الجلدا قلب على جمر الغضى لقد تناءت الديار ... وشط بي عنها المزار لو كان لي حكم اختيار ... ما قر بي عنها قرار ما شاءه حكم القضا ... يجري ولو طال المدى فلا تكن معترضا وقوله رحمه الله: أطلع الصبح راية الفجر ... فتبدي المكتوم من سري إنَّ تكن باحثا عن الأسرار ... فانتشق صاح نفحة الأسحار وأطل في الأصائل الأذكار ... فهي أذكى من عاطر الأزهار أين طيب المسك وشذا الزهر ... في دجى الليل من شذا الذكر آو من أدمعي ومن حزني ... فجعة البين كم ترى تضني جسم مشتاق دمعي الجفن ... يا عذولي عليهم عني عبراتي تنهل كالقطر ... وفؤادي يذكى على الجمر شفني الوجد فأجبروني صدعي ... يوم بنتم عن ساحتي سلع خدد الحد ساكب الدمع ... إنَّ تدعون متيم الجزع بدل العسر منه باليسر ... وأتته السعود بالبشر ليس للعبد منكم بدك ... قد براني وشفني البعد

من لصب أذابه الوجد ... بات في دوح حزنه يشدو في هواكم لقد فنى عمري ... فالطفوا بي وأمنوا ذعري سيدي أنت ملجأ الصب ... فأجر من ضني النوى قلبي إنَّ تكن لي أو إنَّ تكن حبسي ... فيك أشدو مقال ذي عجب جبرر الذليل أيما جر ... وصل الشكر منك بالشكر وقوله رحمه الله تعالى: لأحمد بهجة ... كالقمر الزاهر في أبراج السعد علاؤها يسبي ... بنوره الباهر كل سنى مجد في عالم القدس ... قدس علياه ففاق في الحمد بالبدر والشمس ... يزري محياه فجل عن ند للجن والإنس ... أرسله الله يهدي إلى الرشد أذل بالحجة ... وأمره الظاهر من خان للعهد بالشرق والغرب ... ثناؤه العاطر أندى من الند يا خير مرسول ... من خيرة الخلق أذابي البعد إليك يا سوبي ... قد شوقي فكم أرى أشدو بصوت مخبول ... حكى غنا ورق هيجا الوحد غرقت في لجة ... وليس لي ناصر على جوي البعد

إلا يا حسبي ... وأدمع الناظر تنهل في الخد إنَّ عاقني ذنبي ... عن ذلك المغنى فليس لي حول وكيف بالقرب ... للهمام المضى وبيننا سبل تذيب بالكرب ... جسما ذوى حزناً وشفه الخبل إليكم وجه ... وجها غدا حائر والدمع في الخد ينهل كالسحب ... وزفرة الخاطر تلهب بالوقد يا سامع النجوى ... إليك أوصابي تشكو بأوجالي تركتني تنضوا ... ألوذ بالباب مقسم البال إنَّ كان بالبلوى ... لطول أغيابي أسأتم حالي فقلبكم رجه ... بها أرى حاسر إنَّ لم تكن ندى أعوذ بالحب ... من أمرك الآمر بالبعد للعبد بحب من تحدى ... لقبره النجب السيد الطاهر هم دائما وجداً ... يا أيّها الصب وعد عن خاطر من قال إذ أودى ... بقلبه الحب قولا غد سائر بدائع البهجة ... ونزهة الناظر وجنة الخلد وبغية القلب ... وراحة الخاطر في ذلك الخد

وقوله، رحمه الله تعالى: لأحمد تعنو الأقمار ... فعدد فخاره وأنظم ثناه أشعار ... ولازم وقاره لأحمد بدر الأفق ... وشمس المعالي تأجج نار إنشوق ... وكيف احتيالي لئن فاز أهل السبق ... بذاك الكمال وحلوا بهاتيك الدار ... وحازوا جواره ففي القلب نار الأفكار ... قد أذكت أواره حادي الركب بلغ عني ... سلاما كثيراً وقل مغرم ذو حزن ... قد أضحى أسيرا أصمته سهام البين ... لم يلف نصيرا وقد أبعدته الأقدار ... والحزن أثاره في القلب تنائي الأقطار ... يضرم ناره إذا لاح لمع البرق ... من اكناف نجد دعاني إليه شوقي ... وافرط وجدي إلى قبر خير الخلق ... سأجهد جهدي لعلي أقضى الأوطار ... وأعطى مزاره

فعني تمحى الأوزار ... إذا زرت داره يا حادي شوقي زمزم ... بذكر حبيب يا حر وجدي ضرم ... نيران الوجيب يا دمع عيني ارقم ... بخد الكثيب رسوم سطور التذكار ... لربع أناره سنا نور وجه المختار ... قد أعلى مناره أيا رب بالمختار ... والصحب الكرام قرب قرب نائي الدار ... من ذلك المقام وأغفر قول ذي إصرار ... غنى في هيام من يروني دار العطار ... بذرا المناره ثيابي وما تحي الدار ... نعطه البشاره وقوله رحمه الله تعالى: آه من فرط الوجيب ... أورثت قلبي خبلا زفرات شوق مدنف ... منكم لم يعط وصلا قد أذابته الشجون ... والبكاء والأنين نحوكم له حنين ... أبدا به يدين

دمع خديه الهتون ... دميت منه الجفون يا ساقمي يا طبيبي ... عفوكم عني أولى لم تزل باللطف توصف ... فأنل عبدك فضلا لم تزل بي في أموري ... سيدي مولى لطيفا أنت مولاي نصيري ... فاجبر العبد الضعيفا من عذيري أو مجيري ... إن أطلت بي الوقوفا يا ليومي العصيب ... وسجل الصحف يتلى وقلوب الخلق ترجف ... ولنار الخوف تصلى بالنبي بالعلى ... بالرفيع القدر أحمد وعتيق الرضى ... وأبي حفص الممجد والشهيد وعلى ... غرر الفجر المؤبد نحو ساحات الحبيب ... فلتيسر لي سبلا فمتى بالقرب أسعف ... أو أرى لذلك أهلا يا حداة العيس عنى ... فاحملوا نحو العقيق أسفي وطول حزني ... وبكائي وشهيقي علني بالخيف أجنى ... زهر إبان اللحوق

هل لصب من نصيب ... فيعود الهجر وصلا يا زمان القرب أعطف ... وأنل مضناك شملا سيدي قد ذبت حزنا ... لا تخيب فيك قصدي وأنلني منك حسني ... قد براني طول بعدي واغتفر قول معنى ... هائما يشكو بوجدي يا فلان إنَّ زرت حبي ... افتل أذن وبالرسيلا ليس أخذ عنق الخشيف ... وسرق فم الحجيلا انتهى ما قصدته من موشحة هذا الشيخ النبوية. وأما نظمه في غير الموشحات فمنه قوله رحمه الله: هب النسيم بطيب ذكر الهادي ... فتأرجت نفحات عرف النادي يا شاديا يشدو بمدح محمّد ... كرر فديتك مدحه يا شادي كرر على الأسماع ذكر محمّد ... فلذكره برد على الأكباد وأعد علينا نظم فخر هلال من ... بهر الورى من حاضر أو بادي هو ذروة المجد اللأثيل وقطبه ... هو صفوة الأشراف والأمجاد هو بحر جود فاض عذب نواله ... وصفت موارده لدى الوراد هو خير خلق الله والمختار من ... أعلى بحار جل عن أنداد

هو منتهى أملي وملجأ مفزعي ... هو شمس إيماني وبدر رشادي هو عصمتي مما أخاف وحبه ... يوم القيامة للخطوب عمادي إشراق كل النيرات وحسنها ... من نور حسن شهابه الوقاد لا تعجبوا فعناية المختار قد ... خرقت قياس العقل في المعتاد شوقي إلى ذاك المقام أثاره ... حزن تلهب لفحه بفؤادي يا ويح مكتئب وما قد شفه ... من فرط أحزان وطول بعاد كم رام قرب الدار من أحبابه ... لو أسعف المقدور بالإسعاد كم رام أن يشفى بزورته ظلما ... لب إليَّ تلك المعاهد صادي أيام أطلع بدر حسن شبابه ... من فوق ناعم غصنه المياد فالآن قد لعبت به أيامه ... وعدت عليه للمشيب عوادي شيب وضعف وانتزاح مواطن ... فمتى الدهر نيل مراذي لهفي على عمر تصرم واقضى ... أفنيت فيه طارفي وتلادي فلأنزحن مدافعي أسفا على ... ما قدمته يدي ليوم معادي يا حادي الأضعان يأمل طيبة ... أقصص فديتك قصتي يا حادي وانزل بهاتيك الربوع وقف على ... نادي الندامي إن عرضت وناد: هذا أسير بعادكم أجفانه ... تجلى بفيض الدمع سحب عهاد فمتى على بعد الديار وشحطها ... يحظى بوصلكم حلف سهاد فعليكم مني لسلام طيب ... ما ناح غريد بسرحة وادي وقوله رحمه الله: سأنظم من فخر النبي محمّد ... لآلئ لا يبلى جديد نظامها

تضوع طيبا عرفها فكأنه ... تضوع أزهار بدت من كمامها سجايا أبت إلاّ السماكين منزلا ... ففاق على العلياء علق مقامها خلال إذا لاحت قباب لدى علا ... تنيف فتعلوها قباب خيامها إذا يمموا يوما إمام مكارم ... فأحمد قد أضحى إمام إمامها فكم ذو علا أو ما لدرك مقامها ... فمر ولم يدرك مرامي مرامها وكم ظامي رام يروى بريها ... فآب وقد ضحى عليل أوامها لذلك العلا قلبي مشوق بحبهم ... وقد شوقت نفسي بطول مقامها فلله عيه لا تمل بكاءها ... وقد حرمت فيه لذيذ منامها ونفس على بعد الدار قريحة ... تطارح في البلوى حمام حمامها وعمر مضت أيام شرخ شبابه ... وقد صرف الدهر غصن قوامها قيا نسمة الأسحار من نحو يثرب ... ألمى بنفس قد ذوت بضرامها ويا حادي الأظان نحو قبابهم ... إلاّ فاخصص العليا بطيب سلامها ومن ذلك قوله رحمه الله مخمسا شعرا لغيره: إلاّ هل إلى وادي العقيق طريق فقد هاج شوقا للديار مشوق يقول وفي الأكباد منه خفوق دموعي على وادي العقيق عقيق ... ولي زفرة تحدو بها وتسوق

إذا ما حدا في ظلمة الليل دالج تحركني نحو العقيق لواعج وعندي من الشوق المبرح هائج وفي كبدي من لوعة البين لاعج ... يهيج بها بين الضلوع حريق ولمّا جرت بي نحو طيبة أسعدي وبلغت آمالي وأوتيت مقصدي وأوردني التوفيق أعظم مورد نظرت فقالوا إنَّ ذا قبر أحمد ... وذاك أبو حفص وذاك عتيق فما ذاك إلاّ أنني شممت بارقا ففت الجوى مني ضلوعا خوافقا وأبديت وجدا للعوائد خارقا فما ملكت عيني دموعا سوابقا ... ولا هدأت لي زفرة وشهيق بذكرك يا خير الأنام تلذذي وباسمك من خطب البعاد تعوذي وما زال قلبي بامتداحك يتغذى ألا يا رسول الله حبك منقذي ... وإني لفي بحر الذنوب غريق عليك مدى الأحيان تنهل أدمعي وفيك وإن أبدعت ما زال مطمعي شفيعي حبي للنبي المرفع وهل تحرقن النار قلبي وأضلعي ... وحبك في قلبي وأنت رفيق

ثناؤك ريحاني ومسكي ومندلي عليك رسول الله كل معولي حنانيك للقلب المتيم فابذل فكم فيه من مثقال حبة خردل ... وربك بالوعد الكريم حقيق قلت: ولنجعل آخر ما أوردناه من أمداحه النبوية قوله: تركت انتداح العالمين ولذت من ... مدائح خير الخلق بالعروة الثقى سأجعلها كهفي وحصني وملجئي ... لعلي بالأمداح أستوجب العتقا نسأل الله بجاه هذا النبي الشرف القدر العظيم المزية أن يعتقنا من النار ويجيرنا في الدنيا والآخرة من كل مصيبة ورزية وأن يسهل علينا زيارته العظيمة البركات وأن يلطف بنا في السكنات والحركات. وقد عن لي لمّا ذكرت كلام أبن خلدون في الموشحات أن أذكر كلام الإمام أبن خاتمة. قال رحمه الله تعالى في كتابه " مزية المرية " في باب محمّد ما نصه: " محمّد بن عبادة يكنى أبا بكر ويعرف بالقزاز وأحسبه من أهل مالقة كان من صدور الأدباء ومشاهير الشعراء والألباء وممن له باع فسح في طريقة التوشيح حتى طار اسمه فيها كل مطار واشتهر بها نظمه أي اشتهار. وهذه الطريقة من مخترعات أهل الأندلس ومبتدعاتهم الآخذة

بالأنفس هم الذين نهجوا سبيلها ووضعوا محصولها. قال أبو الحسن بن بسام: وأوّل من صنع أوزان هذه الموشحات بأفقنا واخترع طريقتها فيما بلغني محمّد بن محمود القبري الضري وكان يصنعها على أعاريض أشطار الأشعار غير أن أكثرها على الأعاريض المهملة غير المستعملة يأخذ اللفظ العامي أو العجمي يسميه المركز ويضع عليه الموشحة من غير تضمين فيها وأغصان. وقيل إنَّ أبا عمر بن عبد ربة صاحب كتاب العقد هو أوّل من سبق إلى هذا النوع من الموشحات. وحكى الكاتب أبو الحسن علي بن سعيد العنسي في كتابه " المقتطف من أزهار الطرف " أنَّ الحجاري ذكر في كتابه " المسهب في غرائب المغرب " أنَّ المخترع لها بجزية الأندلس المقدم بن معافي القبري من شعراء الأمير عبد الله المرواني وأخذه عنه أبو عمر بن عبد ربة صاحب العقد ثم غلبهما عليه المتأخرون. وأوّل من برع فيه منهم عبادة بن القزاز شاعر المعتصم صاحب المرية. قال الأستاذ أبو الحسن على بي سعد الخيري البلنيس في كتابه: " نزهرة الأنفس وروضة التأنس في توشيح أهل الأندلس " ضمنه عشرين وشاحا على طريقتها في الإجادة والإحسان. العباديون ثلاثة: أبن ماء السماء وهو عبادة بن عبد الله بن محمّد بن عبادة

أبن ماء السماء بن أفلح بن الحسين بن سعيد بن قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي الأنصاري من أهل مالقة. وعبادة بن محمّد بن عبادة بن الأقرع ومحمّد بن عبادة القزاز هذا. قال الأستاذ أبو جعفر: وكان محمّد بن عبادة من شعراء المعتصم فوشحه منها بكل در منتظم وعقد بمعنى البلاغة والبراعة ملتم. ومن أظرف ما وقع له في المديح من التوشيح موشحته التي أولها: كم في القدود الليان ... تحت اللمم من أقمار عواطي ومن أظرف ما وقع له من خلالها من حسن الاتئام وسهولة النظام ما يندر وجود مثله في منثور الكلام وذلك في أحد مراكزها حيث يقول: لمّا غدا قادرا ... أضحى قليل المعذلة يا حاكما جائرا ... قتلت من لا ذنب له سطوت بالهيمان ... ظلما ولم تستبصر يا ساطي خفف سطوة الرحمن ... إذا حكم بين البري والخاطي ويخرج في هذه الموشحة على قوله: ما أملح المهرجان ... وفل ينم كالعنبر للسواطي والفلك كالعقبان ... والمعتصم بالعسكر في الشاطي ثم قال أبن خاتمة: " ومن شعره ما أنشد أبو أحمد جعفر بن إبراهيم أبن الحاج المعافري في كتابه محك الشعر ونسبه إليه:

أودع فؤادي حرقا أو دع ... ذاتك تردى أنت في أضلعي وأرم سهام اللحظ أو كفها ... أنت بما ترمى مصاب معي موقعها قلبي وأنت الذي ... مسكنه في ذلك الموضع وله رحمه الله: أنظر إلى البدر الذي لاح لك ... في وسط اللجة تحت الحلك قد جعل البحر سماء له ... واتخذ الفلك مكان الفلك وحضر مجلس المعتصم أبن صمادح وبين أيديهم ورد مصبوب فبرز من داخل وردة منها الحيوان الأخضر الموجود في الورد وتسميه العرب القيقزان فقال له المعتصم: صفه فقال: وأخضر حمادي في الورد لائح ... على صفح ورد حسنه متناهي كما أخذت حسناء فص زمرد ... بصفرة مسواك وحمرة شفاه وكتب يوما إلى المعتصم وقد تأخرت صلات شعرائه: يا أيها الملك الذي حاز العلا ... معن أبوه وخاله المنصور بفناء قصرك عصبة أدبية ... لا زال بشملهم معمور زفوا إليك بنات أفكارهم ... واستبطئوك فهم لهن قصور انتهى كلام أبن خاتمة رحمه الله تعالى.

رجع

رجع وحيث انتهينا إلى هذا المقدار من الخروج عن أصل الترجمة فلنثن العنان إلى ما ألممنا به أولا مع ذكر سبتة أعادها الله فنقول: إنَّ بعض الفقهاء يذكر في شأن سبتة حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلف الناس في أمره وقد حدث به الفقيه أبو عبد الله محمّد بن محمّد أبن يحيى السراج عن جده العلامة أبي زكريا السراج قال أخبرنا أبو البركات محمّد بن إبراهيم قال: أخبرنا إبراهيم بن أحمد الغافقي حدثنا محمّد بن عبد الله بن أحمد الأزدي حدثنا محمّد بن حسن بن عطية هو أبن غازي حدثنا أبو الفضل عياض حدثنا أحمد بن قاسم أبو العباس الصنهاجي شيخ لا بأي به أنبأنا أبو علي بن خالد وأبو عبد الله محمّد بن عيسى قالا حدثنا عبد الله محمّد بن علي بن الشيخ حدثنا وهب بن ميسرة عن محمّد بن وضاح عن محنون عن أبي القاسم عن مالك عن نافع عن أبن عمر قال: " مدينة بالمغرب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنها على مجمع بحري المغرب وهذا مدينة بناها سبت بن سام بن نوح عليه السلام واشتق لها اسما من اسمه فهي سبتة ودعا لها بالبركة والنصر فلا يريد أحد بها سوءا إلاّ رد الله دائرة السوء عليه ".

هكذا ذكره الشيخ الإمام الحافظ سيدي أبو عبد الله محمّد أبن الشيخ العالم الرباني سيدي الحسن بن مخلوف التلمساني رحمه الله في شرحه للشفاء ورواه عن شيخه أبي عبد الله السراج المذكور بالسند المذكور وقال إثره: تردد رأي القاضي عياض في هذا الحديث ففي الغنية: " أنا براء من عهدة هذا الحديث ". وفيه: " هذا حديث موضوع. وأبن الشيخ لا يتهم ولا أدري من أين دخل عليه هذا ". وفي المدارك: " هو حديث رواه أبن الشيخ عن وهب بن ميسرة يرفعه إلى مالك عن نافع عن أبن عمر: أنَّ في أقصى المغرب على ساحل من سواحل البحر مدينة تسمى سبتة أسسها رجل صالح اسمه سبت واشتق لها اسما من اسمه ودعا لها بالنصر والظفر فما رامها أحد بسؤ إلاّ رد الله بأسه عليه ". وذكر أشياء على من رامها بسوء ثم قال: وهكذا كله يصدق هذا الحديث. انتهى. وكانت سبتة مطمح همم ملوك العدوتين وقد كان للناصر المرواني صاحب الأندلس عناية واهتم بدخولها في إيالته حتى حصل له ذلك ومنها ملك المغرب حسبما هو مذكور في أخباره وكان تملكه إياها سنة تسع عشرة وثلاث مائة وبها أشتد سلطته وملك البحر بعدوانيته وصار المجاز في يده وتوطدت طاعته لأرض المغرب وكان أول من سما إلى ذلك من أملاك

الأندلس مذ سكنها الإسلام فاستظهر بها على أمره وخلقها ميراثا لمن بعده من ولاة الأندلس وأكرم وجوه أهل سبتة الذين جنحوا إلى طاعته ورفع منازلهم وقضى حوائجهم ووصلهم وخلع عليهم وعلى قاضيهم حسين أبن فتح. والناصر أوّل من تسمى بأمير المؤمنين من بني أمية بالأندلس لأن الدولة عظمت في أيامه حين أختل نظام ملك العباسيين بالمشرق وتغلبت عليه الأعاجم ولم يتسم أحد من سلفه بالأندلس إلاّ بالأمير وكان ملكه بالأندلس في غاية ما يكون من الضخامة ورفعة الشأن وهادته الروم وأزدلفت إليه تطلب مهادنتها ومتافحته بعظيم الذخائر ولم تبق أمة سمعت به من ملوك الروم والأفرنج والمجوس وسائر الأمم إلاّ وجرت إليه أو وفدت خاضعة راغبة وانصرفت عنه راضية. وقد سرد الإمام أبن حيان من ذلك في تاريخه الكبير ما هو معلوم وذكر هو وغيره أنَّ صاحب مدينة القسطنطينية العظمى هاداه ورغب في موادعته. وكان وصول أرسال صاحب القسطنطينية عظيم الروم قسطنطين بن ليون في شهر صفر سنة ثمان وثلاثين وثلاث مائة وتأهب الناصر لورودهم وأمر أن يتلقوا أعظم تلق وأفخمه وأحسن قبول وأكرامه وأخرج إلى لقائهم ببجانة يحيى بن محمّد بن الليث وغيره لخدمة أسباب الطريق فلما صاروا بأقرب المحلات من قرطبة خرج إلى لقائهم القواد في العدد والعدة

والتبعية فتلقوهم قائدا بعد قائد وكمل اختصاصهم بعد ذلك بأن أخرج إليهم الفتيين الكبيرين الخصيين ياسرا وتماما إبلاغا في الاحتفاء بهم فلقياهم بعد القواد فاستبان لهم بخروج الفتيين إليهم بسط الناصر وإكرامه وأنزلوا بمنية ولي العهد الحكم المنسوبة إلى نصير بعدوة قرطبة في الربض ومنعوا وحموا من لقاء الخاصة والعامة وملابسة الناس جملة ورتب لحاجتهم رجال تخيروا من الموالي ووجه الحشم فصيروا على باب قصر هذه المنية ستّة عشر رجلاً لأربع دول لكل دولة أربعة منهم ورحل الناصر لدين الله من قصر الزهراء إلى قصر قرطبة لدخول وفود الروم عليه فقعد لهم يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول من السنة المذكورة في بهو المجلس الزاهر فقعودا حسنا نبيلا فقعد عن يمينه من بنيه ولي العهد الحكم ثم عبد الله ثم عبد العزيز ثم الأصبغ ثم مروان وقعد عن يساره المنذر ثم عبد الجبار ثم سلمان وتخلف عبد الملك لأنه كان عليلا لم يطق الحضور وحضر الوزراء على مراتبهم يمينا وشمالا ووقف الحجاب من أهل الخدمة من أبناء الوزراء والموالي والوكلاء وغيرهم وقد بسط صحن الدار أجمع بعتاق البسط وكرائم الدرانك وظللت أبواب الدار وحناياها بظلل الديباج ورفيع السور فوصل رسل ملك الروم حائرين مما رأوه

من بهجة الملك وفخامة السلطان ودفعوا كتاب ملكهم صاحب القسطنطينية وهو في رق مصبوغ لونا سماويا ومكتوب بالذهب بالخط الإغريقي وداخل الكتاب مدرجة مصبوغة اياضا مكتوب بفضة بخط إغريقي أيضاً فيها وصف هديته التي أرسل بها وعددها وعلى الكتاب طابع ذهب وزنه أربعة مثاقيل على الوجه الواحد منه صورة المسيح وعلى الآخر صورة قسطنطين الملك وصورة ولده. وكان الكتاب بداخل درج فضة منقوش عليه غطاء ذهب فيه صورة قسطنطين الملك معمولة من الزجاج الملون البديع وكان الدرج داخل جعبة ملبسو بالديباج وكان في ترجمة عنوان الكتاب في سطر منه: " قسطنطين ورومانس المؤمن بالمسيح الملكان العظيمان ملكا الروم ". وفي سطر آخر: " العظيم الاستحقاق للفخر الشريف النسب عبد الرحمن الخليفة الحاكم على العرب بالأندلس أطال الله تعالى بقاءه ". وفي خمس بقين من نقل هؤلاء الرسل من منلهم بمنيطة نصير بالربض إلى دار إبراهيم الفتى بداخل قرطبة. وفي آخر هذا الشهر أعاد الناصر لين الله القعود الثاني لرسل ملك الروم بقصر الزهراء فاحتفل لذلك أيضاً واستكم له الأهبة وبالغ في الزينة وقعد على باب السدة صحب المدينة مع من ضم إليه من العرفاء والشرط والحرس وهم صنوف قيام وقام مع سور القصر سماط من المولى في

الملابس الحسان والسلاح وألزم الفصلان كلها جملا من العبيد والحشم والبوادبين وغيرهم في أشكال زينهم. ثم أعاد العقود لهم بالزهراء وهذا العقود الثالث كان يوم الخميس لثلاث بقين منه على ما تقدم في الأهبة والاحتفال في الزينة. وفي النصف من جمادي الأولى منها أدخل الناصر لدين الله هؤلاء الرسل على نفسه في مجلس خاص قعد بهم فيه بقصر الزهراء في المجلس المشرف على الرياض فلما خرجوا من عنده أدخلوا في ديار الصناعات والعدة بأكناف الزهراء ودار السكة وطيف بهم بأرجائها ثم صرفوا إلى دار نزولهم فاتصل مقامهم بقرطبة في كرامة موصلة وعطايا متوالية إلى أن كملت الهدية التي كوفئ بها الطاغية مرسلهم وأسلمت إليهم مع أجوبتهم وأمروا بالرحيل. وجلس لهم الناصر لدين الله في النصف من شوال من السنة بعدها فدخلوا للوداع وجددت لهم الخلع وانطلقوا لسبيلهم متعجبين مما رأوه من عز الإسلام وفي سنة سبع وعشرين وثلاث مائة لثمان خلون من شهر جمادي الأولى وردت على ناصر لدين الله هدية وزيره أحمد بن عبد الملك بن شهيد العظيمة الشأن التي اشتهر ذكرها إلى الآن ووقع الإجماع على أنه لم يهاد أحد من ملوك الأندلس بمثلها فأعجب الناصر وأهل مملكته جميعا وأقروا أنَّ نفسا

لم تسمح بإخراج مثلها ضربة عن يدها وكتب مع هديته هذه رسالة حسنة بالاعتراف للناصر لدين الله بالنعمة والشكر عليها واستحسنها الناس وكتبوها. وزاد الناصر وزيره هذا حظوة واختصاص وأسمى منزلته على سائر الوزراء جميعا فأضعف له رزق الوزارة وبلغة ثمانين دينارا في الشهر وبلغ مصروفه إلى ألف دينار في السنة وثنى له العظمة لتثنيته له الرزق فسماه ذا الوزارتين لذلك وكان أوّل من سمى بذلك بالأندلس امتثالا لاسم صاعد بن مخلد الوزير بني العباس ببغداد وأمر بتصدير فراشه في البيت وتقديم اسمه في زمام الارتزاق في أوّل التسمية فعظم مقداره في الدولة جدا. وتفسير هديته هذه على ما ثبت في كتابه للناصر: وذلك من المال العين خمس مائة ألف دينار ومن العود المرتفع أربع مائة رطل منها في قطعة واحد مائة وثمانون رطلا ومن المسك الذكي المفضل في جنسه مائتا أوقية واثنتا عشرة أوقية ومن العنبر الأشهب الذي بقي على خلقته ولم تدخله صناعة مائة أوقية منها قطعة عجيبة الشكل أربعون أوقية ومن الكافور المرتفع النقي الذكي ثلاث مائة أوقية ومن أنواع الثياب ثلاثون شقة وبقج خاصية للباسه بيضا وملونة وخمس ظهائر شعيبية خاصية له وعشرة فراء من عالي الفتك منها سبعة بيض خرسانية وثلاثة ملونة وستّة مطارف عراقية خاصية له وثمان وأربعون ملحفة لكسوته ومائة ملحفة زهرية

لرقاده وعشرة قناطير شد فيها مائة جلد سمور وأربعة آلاف رطل من الحرير المغزول وألف رطل من لون الحرير قبض جميع ذلك صاحب الطراز وثلاثون بساطا من صوف مختلفة الصناعات طول كل بساط منها عشرون ذراعا ومائة مصلى من وجوه الفراش المختلفة الصناعات من جنس البسط وخمس عشر نخا من عمل الخز المقطوع شطرها وسائرها من جنس البسط الوجوه ومن السلاح والعدة مائة تجفاف بأبدع الصناعات وأغربها وأكملها وألف تريس سلطانية ومائة ألف سهم ومن الخيل مائة فرس منها من الخيل العراب المتخيرة لركابة خمس عشر فرساو خمسة من عرض هذه الخيل ملجمة لمراكب الخلافة مجالس سروجها خز عراقي وثمانون فرسا مما يصلح للوصفاء والحشم وخمسة أبغل عالية الركاب وأربعون وصيفا وعشرون جارية من متخير الرقيق بكسوتهم وجميع آلاتهم. وفي الكتاب: كان قد أمرني أيده الله بابتياعهم من المال الأخماس قبل فابتعتهم من نعمته عندي وصيرتهم من بيتي ومع ذلك عشرة قناطير سكر طبرزذ لاسحاق فيه. وفي آخر الكتاب: ولمّا علمت تطوع مولاي أيده الله تعالى إلى قرية كذا بالعقبانية النطقة الغرس في شرفها وترداده أيده الله

تعالى لذكرها لم أهنأ بعيش حتى أعملت الحيلة في أبتياعها وأحوازها وأكتبت وكيلة أبن بقية اللوثيقة فيها باسمه وضمها إلى ضياه وكذلك صنعت في قرية شيرة من نظر الجيان عندما اتصل من وصفه لها وتطلعه إليها فما زلت أتصدى لمسرته بها حتى ابتاعها الآن بأحوازها وجميع منازلها وربوعها واحتاز ذلك كله الوكيلة أبن بقية وصار في يده له أبقاه الله سبحانه وأرجو أنه سيرفع فيها في هذه السنة آلاف أمداد من الأطعمة إن شاء الله تعالى. ولمّا علمت نافذ عزمه أبقاه الله تعالى في البنيان به وفكرت في عدد من الأماكن التي تطلع نفسه الكريمة إلى تخليد آثاره في بنينها مدينة الله في عمره وأوفى بها على أقصى أمله علمت أنَّ أسه وقوامه الصخر والاستكثار منه فأثارت لي همتي ونصيحتي حكمة حيلة أحكمها سعدك وجدك اللذان يبعثان ما لا يتوهم علمه حيلة أقيم لك بها في عام واحد عدد ما كان يقوم على يد عبدك أبن عاصم في عشرين عاما وينتهى تحصيل النفقة فيه إلى نحو الثمانين ألفا أعجل شأنه في عام سوى التوفير العظيم الذي يبديه العيان إن شاء الله تعالى وكذلك ما ثاب إلي في أمر الخشب لهذه المنية المكرمة فإن أبن خليل عبدك المجتهد الدءوب انتهى في تحصيل عدد ما تحتاج إليه ثلاث مائة ألف عود ونيف على عشرين ألف عود على أنّه لا يدخل منه في السنة إلاّ نحو الألفي عود ففتح لي سعدك رأيا أقيم له بتمامه جميع الخشب العام على كماله بورود الجلبية لوقتها وقيمته على الرخص ما بين الخمسين ألفا إلى الستين ألفا.

انتهى ما بث به الوزير أبن شهيد ملخصا. ومن الغريب ما يحكى أنَّ أمير المؤمنين أراد الفصد فقعد في البهو بالمجلس الكبير المشرف بأعلى مدينته بالزهراء وأستدعى الطبيب لذلك وأخذ الطبيب المبضع وجس عضد الناسر فبينما هو كذلك إذ أطل زرزور فصعد على إناء ذهب بالمجلس وأنشد: أيها الفاصد رفقا ... بأمير المؤمنينا إنما تفصد عرقا ... فيه محيا العالمينا وجعل يكرر ذلك المرة بعد المرة فاستظرف أمير المؤمنين الناصر ذلك عاية الاستظراف وسر به غاية السرور وسأل عمن أهتدى إلى ذلك وعلم الزرزور فذكر له أنَّ السيدة الكبرى مرجانة أم ولده ولي عهد الحكم المستنصر بالله صنعت ذلك وأعدته لذلك الأمر فوهب لها ما ينيف على ثلاثين ألف دينار. والناصر المذكور هو الباني لمدينة الزهراء العظيمة المقدار. وكان يعمل في جامعها حين شرح فيه من حذاق الفعلة كل يوم ألف نسمة منها ثلاث مائة بناء ومائتا نجار وخمس مائة من الأجراء وسار أهل الصنائع فاستتم بنيانه وإتقانه في مدة ثمانية وأربعين يوما وجاء غاية الإتقان من خمسة أبهاء عجيبة الصنعة. وطوله من القبلة إلى الجوف حاشي المقصورة ثلاثون ذراعا وعرض البهو الأوسط من أبهائه من الشرق إلى الغرب ثلاث عشرة ذراعا وعرض كل بهو من الأربعة المكتنفة له أثنتا عشرة ذراعا وطول

صحنه المكشوف من القبلة إلى الجوف ثلاث وأربعون ذراعاً، وعرضه من الشرق إلى الغرب إحدى وأربعون ذراعاً، وجميعه مفروش بالرخام الخمري؛ وفي وسطه فوارة يجري فيها الماء؛ فطول هذا المسجد أجمع من القبلة إلى الجوف سوى المحراب سبع وتسعون ذراعاً، وعرضه من الشرق إلى الغرب تسع وخمسون ذراعاً، وطول صومعته في الهواء أربعون ذراعا، وعرضها، عشر أذرع في مثلها. وأمر الناصر لدين الله باتخاذ منبر بديع لهذا المسجد؛ فصنه في نهاية من الحسن، ووضع في مكانه منه، وحظرت حوله مقصورة عجيبة الصنعة. وكان وضع هذا المنبر في مكانه من هذا المسجد عند إكماله، وذلك يوم الخميس لسبع بقين من شعبان من سنة تسع وعشرين وثلاث مائة. وكان في صدر هذه السنة كمل الناصر بنيان القناة الغريبة الصنعة، التي أجرى فيها الماء العذب من جبل قرطبة إلى قصر الناعورة غربي قرطبة، في المناهر المهندسة، وعلى الحنايا المعقودة، ويجري ماؤها بتدبير عجيب، وصنعة غريب محكمة، إلى بركة عظيمة، عليها أسد عظيم الصورة، بديع الصنعة، شديد الروعة، لم يشاهد أوفى منه ولا أبهى منه فيما صور الملوك في غابر الدهر، مطلي بذهب إبريز، وعيناه جوهريتان، لهما وميض شديد. يجوز هذا الماء إلى عجز هذا الأسد، فيمجه في تلك البركة من فيه، فيبهر الناظر بحسنه وروعة منظره، وثجاجة صبه، فتسقى من مجاجة جنان هذا القصر على سعتها، ويستفيض على ساحاته وجنباته، ويمد النهر الأعظم بما فضل منه، فكانت هذه القناة وبركتها، والتمثال الذهب الذي يصب فيها، من أعظم آثار الملوك في

غابر الدهر، لبعد مسافتها، واختلاف مسالكها، وفخامة بنيانها، وشموا أبراجها، التي يترقى الماء فيها، ويتصوب من أعاليها. وكان مدة العمل فيها، من يوم ابتدئت من الجبال إلى أنَّ وصلت أعني القناة إلى هذه البركة، أربعة عشر شهراً. وكان انطلاق الماء في هذه البركة الانطلاق الذي اتصل واستمر، يوم الخميس غرة جمادى الآخرة من السنة المذكورة، وكانت للناصر في هذا اليوم بقصر الناعورة دعوة حسنة، أفضل فيها على عامة أهل مملكته، ووصل المهندسين والقوام بصلات حسنة جزيلة. واستمر العمل في مدينة الزهراء من عام خمسة وعشرين وثلاث مائة إلى آخر دولة الناصر وابنه الحكم، وذلك نحو من أربعين سنة. ولمّا فرغ من بناء مسجد الزهراء على ما ذكره آنفاً، كانت أول جماعة صليت فهذا صلاة المغرب من ليلة الجمعة لثمان بقين من شعبان، وكان الإمام لها فيه القاضي أبا عبد الله محمّد بن عبد الله لن أبي عيسى. ومن الغد صلى الناصر فيه الجمعة، وأوّل خطيب خطب به القاضي المذكور. ولمّا بنى الناصر قصر الزهراء. المنتهى في الجلالة والفخامة، وأطبق الناس على أنّه لم يبن مثله في الإسلام البتة، وما دخل إليه أحد قط من سائر البلاد النائية، والنحل المختلفة، من ملك وارد، ورسول وافد، وتاجر، وجهبذ، وفي هذه الطبقة من الناس تكون المعرفة والفطنة، إلاّ وكلهم قطع أنّه لم ير له شبيها، بل بم يسمع به، بل لم يتوهم كون مثله، حتى أنّه كان أعجب ما يؤمله القاطع إلى الأندلس في تلك العصور النظر إليه، وتحدث عنه؛ والأخبار عن هذا تتسع جدا، والأدلة عليه تكثر، ولو لم يكن فيه إلاّ السطح الممرد،

المشرف على الروضة، المباهي بمجلس الذهب والقبة وعجائب ما تضمنته من إتقان الصنعة، وفخامة الهمة، وحسن المستشرف، وبراعة الملبس والحلة، ما بين مرمر مسنون، وذهب موضون، وعمد كأنما أفرغت في القوالب، ونقوش كالرياض، وبرك عظيمة محكمة الصنعة، وحياض وتماثيل عجيبة الأشخاص، لا تهتدي الأوهام إلى سبيل استقصاء التعبير عنها؛ فسبحان الذي أقدر هذا المخلوق الضعيف على إبداعها واختراعها من أجراء الأرض المنحلة، كيما يرى الغافلين عنه من عباده، مثالاً لمّا أعده لأهل السعادة في دار المقامة، التي لا يسلط عليها الفناء، ولا تحتاج إلى الكرم، لا اله إلاّ هو المنفرد بالكرم. وذكر المؤرخ أبو مروان بن حيان صاحب الشرطة، أنَّ باني قصر الزهراء اشتملت على أربعة آلاف سارية، ما بين كبيرة وصغيرة، ومحمولة، ونيف على ثلاث مائة سارية زائدة؛ وفسر بعضهم هذا النيف بثلاث عشرة منها ما جلب من دينة رومة، ومنها ما أهداه صاحب القسطنطينية؛ وأنَّ مصاريع أبوابها، وصغارها وكبارها، كانت تنيف على خمسة عشر ألف باب، وكلها ملبسة بالحديد والنحاس المموه، والله أعلم، فإنها كانت من أهول ما بناه الإنس، وأجله خطراً، وأعظمه شأناً. وقال بعض المؤرخين: وكان عدد الفتيان بالزهراء ثلاثة عشر ألف فتى وسبع مائة وخمسين فتى، ودخالتهم من اللحم كل يوم، حاشى أنواع الطير والحوت، ثلاثة عشر ألف رطل؛ وعدة النساء بقصر الزهراء، الصغار والكبار وخدم الخدمة، ستّة آلاف وثلاث مائة امرأة وأربع عشرة. ورأيت في بعض الدواوين

وهو صواب إن شاء الله أنَّ عدد الصقالبة ثلاثة آلاف وسبع مائة وخمسون، وجعل بعضهم مكان الخمسين وثمانين، وعدد النساء بقصر الزهراء مثل ما ذكرنا أوّلاً. ثم قال بإثره: وكان هؤلاء من اللحم ثلاثة عشر ألف رطل، تقسم من عشرة أرطال للشخص إلى ما دون ذلك، سوى الدجاج والحجل وصنوف الطير وضروب الحينان. والله تعالى اعلم. وقال أبن حيان: ألفيت بخط أبن دحون الفقيه، قال مسلمة بن عبد الله العريف المهندس: بدأ عبد الرحمن الناصر لدين الله بنيان الزهراء أوّل سنة خمس وعشرين وثلاث مائة، وكان مبلغ ما ينفق فيها كل يوم من الصخر المنحوت المنجور المعدل ستّة آلاف صخرة المنصرف في التبليط، فإنه لم يدخل في هذا العدد. وكان يخدم في الزهراء كل يوم ألف وأربع مائة بغل، منها أربع مائة زوامل الناصر لدين الله، ومن الدواب الأكرية الراتبة للخدمة ألف بغل، لكل منها ثلاثة مثاقيل في الشهر، يجب لها في الشهر ثلاثة آلاف مثقال. وكان يرد الزهراء من الجير والجص في كل ثالث من الأيام ألف ومائة حمل، وكان فيها حمامان، واحدة للقصر والثانية للعامة. وذكر بعض أهل الخدمة في الزهراء أنّه قدر النفقة فيها في كل عام بثلاث مائة ألف دينار، مدة خمسة وعشرين عاماً التي بقيت من دولة الناصر، من حين ابتدأها، لأنه توفي سنة خمسين، وحصل جميع الاتفاق فيها، فكان مبلغه خمسة عشر بيت مال.

قال: وجلب إليها الرخام من قرطاجة وأفريقيا وتونس، وكان الذين يجلبونه عبد الله بن يونس عريف البنائين وعلى ابنا جعفر الإسكندراني. وكان الناصر يصلهم على كل رخمة، صغيرة أو كبيرة بعشرة دنانير. وقال بعض المؤرخين الأثبات: كان يصلهم على كل رخامة صغيرة بثلاثة دنانير، وعلى كل سارية بثمانية دنانير سجلماسية، وكان عدد السواري المجلوبة من أفريقيا ألف سارية، وثلاث عشرة سارية، ومن بلاد الإفرنج تسع عشرة سارية. وأهدى إليه ملك الروم مائة وأربعين سارية، وسائرها من مقاطع الأندلس: طركونة وغيرها؛ فالرخام المجزع من رية، والأبيض من غيرها، والوردي والأخضر من أفريقيا، من كنيسة سفاقس. وأما الحوض المنقوش المذهب الغريب الشكل، الغالي القيمة، فجلبه إليه أحمد اليوناني من القسطنطينية، مع ربيع الأسقف القادم من إيلياء؛ وأما الحوض الصغير الأخضر المنقوش يتماثيل الإنسان، فجلبه أحمد من الشام، وقيل من القسطنطينية مع ربيع الأسقف أيضاً وقالوا أنّه لا قيمة له، لفرط غرابته وجماله، وحمل من مكان إلى مكان، حنى وصل في البحر، ونصبه الناصر في بيت المنام، في المجلس المستشرف الشرقي، المعروف بالمؤنس، وجعل عليه أثنى عشر تمثالاً من الذهب الأحمر مرصعة بالدر النفيس الغالي، مما عمل بدار الصناعة بقرطبة: صورة أسد إلى جانبه صورة غزال، إلى جانبه صورة تمساح، وفيما يقابله ثعبان وعقاب، وفي جانبه صورة غزال، إلى جانبه صورة تمساح، وفيما يقابله ثعبان وعقاب، وفي

المجنبتين حمامة، وشاهين، وطاووس، ودجاجة، وديك، والثاني عشر لم يحضرني اسمه الآن، وكل هذا من ذهب مرصع بالجوهر النفيس، ويخرج الماء من أوفها. وكان المتولي لهذا البنيان المذكور أنّه الحكم، لم يتكل فيه الناصر على أمين غيرة، وكان يخبز في أيامه كل يوم برسم حيتان البحيرة ثمان مائة خبزة وقيل أكثر، إلى غير ذلك مما يطول تتبعه. وكان الناصر قد قسم الجباية أثلاثاً، ثلث للجند وثلث للبناء، وثلث مدخر. وكانت جباية الأندلس يومئذ من الكور والقرى خمسة آلاف ألف، وأربع مائة ألف، وثمانين ألف دينار، ومن الستوق والمستخلص سبع مائة وألف، وخمسة وستين ألف دينار، وأما أخماس الغنائم فلا يحصيها ديوان. وقيل إنَّ مبلغ تحصيل النفقة في بنيان الزهراء مائة مدى من الدراهم القاسمية، بكيل قرطبة. وقيل إنَّ مبلغ النفقة فيها بالكيل المذكور ثمانون مديا وستّة أقفزة، من الدراهم المذكورة. واتصل بناء الزهراء أيام الناصر خمساً وعشرين سنة، شطر خلافته، ثم اتصل بعد وفاته خلافة ابنه الحكم كلها، وكانت خمسة عشر عاما وأشهراً. فسبحان الباقي بعد فناء الخلق، لا اله إلاّ هو.

وكانت قرطبة إذ ذاك أم المدائن، وقاعدة الأندلس، وقرارة الملك، وكان عدد شرطاتها أربعة آلاف وثلاثة مائة، وكانت عدة الدور التي في القصر الكبير أربع مائة دار ونفيا وثلاثين، وكانت عدة دور الرعايا والسواد بها، والواجب على أهل المبيت في السور، مائة ألف دار، وثلاثة عشر ألف دار، حاشى دور الوزراء وأكابر الناس والبياض، وعدد أرباضها ثمانية وعشرون، وقيل أحد وعشرون؛ ومبلغ المساجد بها ثلاثة آلاف وثمان مائة وسبعة وثلاثون مسجداً؛ وعدد حمامات المبرزة للناس سبع مائة حمام، وقيل ثلاث مائة؛ ووسط الأرباض قصبة قرطبة، التي تختص بالسور دونها. وأما اليتيمة التي كانت في القص في المجلس البديع؛ فإنها كانت من تحف قصر اليونانيين، بعث بها صاحب القسطنطينية إلى الناصر مع تحف كثيرة سنية. وكان القاضي منذر بن سعيد البلوطي ممن يكرمه الناصر ويجله، وولاه قضاء جماعته؛ وكان أوّل الأسباب في معرفته بالناصر، وزلفاه لديه، إنَّ الناصر لمّا احتفل بالجلوس لدخول رسل ملك الروم الأعظم صاحب القسطنطينية عليه بقصر قرطبة، الاحتفال الذي اشتهر ذكره في الناس، حسبما تقدم بعض الإلماع به، أحب أنَّ يفوم الخطباء والشعراء بين يديه، لتذكر جلالة مقعده، وعظيم سلطانه، وتصف ما تهيأ له من توطيد الخلافة في دولته. وتقدم إلى الأمير الحكم ابنه وولي عهده، بإعداد من يقوم بذلك من الخطباء، ويقدمه أمام نشيد

الشعراء، فأمر الحكم صنيعه الفقيه الكسيباني بالتأهب لذلك وإعداد خطة بين يدي الخليفة وكان يدعى من المقدرة على تأليف الكلام ما ليس في وسع غيره وحضر لمجلس السلطاني فلما قام يحاول التكلم بما رآه بهره هول المقام وأبهة الخلافة فلم يهتد إلى لفظة بل غشى عليه وسقط إلى الأرض فقيل لأبي علي البغدادي إسماعيل بن القاسم القالي صاحب الأمالي والنوادر وهو حينئذ ضيف الخليفة الوافد عليه من العراق وأمير الكلام قم فارقع هذا الوهى فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على نبيه محمّد صلى الله عليه وسلم ثم انقطع به القول فوقف ساكتا مفكرا في كلام يدخل به إلى ذكر ما أريد منه فلما رأى ذلك منذر بن سعيد وكان ممن حضر في زمرة الفقهاء قام من ذاته بدرجة من مرقاته فوصل افتتاح أبي علي لأول خطبته بكلام عجيب وفصل مصيب يسحه سحا كأنما يحفظه قبل ذلك بمدة وبدأ من المكان الذي انتهى إليه أبو علي البغدادي فقال: أما بعد حمد الله والثناء عليه والتعداد لآلائه والشر لنعمائه والصلاة على محمّد صفيه وخاتم أنبيائه فإن لكل حادثة مقام ولكل مقام مقال وليس بعد الحق إلاّ الضلال وإني قمت من مقام كريم بين يدي ملك

عظيم فأصغوا إلى معشر الملأ بأسماعكم والقنوا عني بأفئدتكم إنَّ من الحق يقال للمحق صدقت وللمبطل كذبت وإنَّ الجليل تعالى في سمائه تقدس بصفاته وأسمائه أمر كليمه موسى صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا وعلى جميع أنبيائه يذكر قومه بأيام الله عز وجل عندهم وفيه وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة وأني أذكركم بأيام الله عندكم وتلافيه لكم بخلافة أمير المؤمنين التي لمت شعثكم وأمنت سربكم ورفعت قوتكم بعد أن كنتم قليلا فكثرتم ومستضعفين فقواكم ومستذلين فنصركم ولاه الله رعايتكم وأسند إليه أمانتكم أيام ضربت الفتنة سرادقها على الآفاق وأحاطت بكم شعل النفاق حتى صرتم في مثل حدقة البعير من ضيق الحال ونكد العيش والتقتير فاستبدلتم بخلافته من الشدة الرخاء وانتقلتم بيمن سياسته إلى تمهيد كنف العافية بعد استيلاء البلاء. أنشدكم بالله معاشر المللأ ألم تكن الدماء مسفوكة فحقنها والسبل مخوفة فأمنها والأموال منتهبة فأحرزها وحصنها ألم تكن البلاد خرابا فعمرها وثغور المسلمين مهتضمة فحماها ونصرها فاذكروا آلاء الله عليكم بخلافته وتلافيه جميع كلمتكم بعد افتراقا بإمامتها حتى أذهب الله عنكم غيظكم وشفى صدوركم وصرتم يدا على عدوكم بعد أن كان بأسكم بينكم فأنشدكم الله ألم تكن خلافته قفل الفتنة بعد انطلاقها من عقالها ألم يتلاف صلاح الأمور بنفسه بعد اضطراب أحوالها ولم يكل ذلك إلى القواد والأجناد حتى باشره بالقوة والمهجة

والأولاد واعتزل النسوان وهجر الأوطان ورفض الدعة وهي محبوبة وترك الركون إلى الراحة وهي مطلوبة بطوية صحية وعزيمة صريحة. وبصيرة نافذة ثاقبة وريح هابة غالبة ونصرة من الله واقعة واجبة وسلطان قاهر وجد ظاهر وسيف منصور تحت عدل مشهور متحملا للنصب مستقلا لمّا ناله في جانب الله من التعب حتى لانت الأحوال بعد شدتها وانكسرت شوكة الفتنة عند حدتها ولم يبق لها غارب إلاّ جبة ولا نجم لأهلها قرن إلاّ جده فأصبحتم بنعمة الله إخوانا وبلم أمير المؤمنين لشعثكم على أعدائه أعوانا حتى تواترت لديكم الفتوحات وفتح الله عليكم بخلافته أبواب الخيرات والبركات وصارت وفود الروم وافدة عليه وعليكم وآمال الأقصين والأدنين مستخدمة إليه وإليكم يأتون من كل فج عميق وبلد سحيق لأخذ حبل بينه وبينكم جملة وتفصيلا " ليقضي الله أمرا كان مفعولا " لن يخلف الله وعده ولهذا الأمر وما بعده وتلك أسباب ظاهرة بادية تدل على أمور باطنة خافية دليلها قائم وجفنها غير نائم " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض كم استخلف الذين من قبلهم " الآية. وليس في تصديق ما وعد الله اتياب ولكل نبأ مستقر ولكل أجل كتاب فاحمدوا الله أيها الناس على آلائه واسألوه المزيد من نعمائه فقد أصبحتم في خلافة أمي أيده الله بالعصمة والسداد وألهمه بخالص التوفيق إلى سبيل الرشاد أحسن الناس حالا وانعمهم بالا وأعزهم قرارا وأمنعهم دارا وأكثفهم جمعا وأجملهم صنعا لا تهاجون ولا تذادون وانتم بحمد الله على أعدائكم ظاهرون فاستعينوا على صلاح أحوالكم بالمناصة

لإمامكم والتزام الطاعة لخليفتكم أبن عم نبيكم صلى الله عليه وسلم فإن من نزع يدا من الطاعة وسعى في تفريق الجماعة ومرق من الدين فقد خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين وقد علمتم أنَّ في التعلق بعصمتها والتمسك بعروتها حفظ الأموال وحقن الدماء وصلاح الخاصة والدهماء وأنَّ بقوم تقام الحدود وتوفى العهود وبها وصلت الأرحام ووضحت الأحكام وبها سد الله الخلل وأمن السبل ووطأ الأكناف ورفع الاختلاف وبها طاب لكم القرار واطمأنت بكم الدار فاعتصموا بما أمركم الله بالاعتصام به فإنه تبارك وتعالى يقول: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " الآية. وقد علمتم ما أحاط بكم في جزيرتكم هذه من ضروب المشركين وصنوف الملحدين الساعين في شق عصاكم وتفريق ملئكم والآخذين في مخاذلة دينكم وهتك حريمكم وتوهين دعوة نبيكم صلى الله عليه وسلم وهذا جميع النبيين والمرسلين. أقول قولي هذا وأختتم بالحمد لله رب العالمين وأستغفر الله الغفور الرحيم فإنه خير الغافرين. هـ خير الغافرين. فخرج الناس يتحدثون عن حسن مقام المنذر وثبات جنانه وبلاغة لسانه. وكان الخليفة الناصر لدين الله أشدهم تعجبا منه فأقبل على ولي عهده ابنه الحكم يسأله عنه ولم يكن يثبت معرفة عينه وقد سمع باسمه فقال له الحكم: هو منذر بن سعد البلوطي. فقال: والله أحسن ما شاء فلئن كان حبر خطبته هذه وأعدها مخافة أن يدور ما دار غفي تلافى الوهى

فإنه لبديع من قدرته واحتياطه ولئن كان أتى بها على البديهة لوقته إنه لأعجب وأغرب فكان سبب اتصاله به واستعماله له. وذكر أبن أصبغ لهمداني عن منذر القاضي أنه خطب يوما وأراد التواضع فكان من فصول خطبته أن قال: حتى متى وإلى متى أعظ غيري وأتعظ وأزجر ولا أزدجر أدل الطريق على المستدلين وأبقى مقيما مع الحائرين كلا إ هذا لهو البلاء المبين " إن هي إلاّ فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء " الآية. اللهم فرغني لمّا خلقتني له ولا تشغلني بما تكفلت لي به ولا تحرمني وأنا أسألك ولا تعذبني وأنا أستغفرك يا أرحم الراحمين قال: وكان الخليفة الناصر لدين الله كلفا بعمارة الأرض وإقامة معالمها وتخليد الآثار الدالة على قوة الملك وعزة السلطان فأفضى به الإغراق في ذلك إلى أن ابتنى مدينة الزهراء البناء الذي شاع ذكره واستفرغ وسعه في تنميقها وإتقان قصورها وزخرفة مصانعها فأراد القاضي منذر أن يغض منه بما يتناوله من الموعظة بفضل الخطاب والحكمة والتذكير بالإنابة والرجوع فأدخل في خطبته فص مبتدئا بقوله تعالى: " أتبنون بكل ريع آية تعبثون. وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون. وإذا بطشتم بطشتم جبارين. فاتقوا الله وأطيعون. واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون. أمدكم بأنعم وبنين.

وجنات وعيون. إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ". ولا تقولوا: " سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين ". " قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن أتقى " وهي دار القرار ومكان الجزاء. ووصل ذلك بكلام جزل وقول فصل ومضى في ذم تشييد البنيان والاستغراق في زغرفته والإسراف في الإنفاق عليه فجرى طلقا وانتزع فيه قوله تعالى: " أفمن أسس بنيانه على التقوى من الله ورضوان خير " الآية وأتى بما يشاكل المعنى من التخويف بالموت والتحذير من فجأته والدعاء إلى الزهد في هذه الدار الفانية والحض على اعتزالها والرفض لها والندب إلى الإعراض عنها والإقصار عن طلب اللذات ونهي النفس عن اتباع هواها فأسهب في ذلك كله وأضاف إليه آي القرآن ما يطابقه وجلب من الحديث والأثر ما يشاكله أدكر من حضر من الناس وخضعوا ورقوا واعترفوا وبكوا ودعوا وأعلنوا التضرع إلى الله والتوبة والابتهال في المغفرة وأخذ خليفتهم من ذلك بأوفر حظ وقد علم أنه المقصود فبكى وندم على مثال سلف له من فرطه واستعاذ بالله من سخطه إلاّ أنه وجد على المنذر بن سعيد لغلظ تقرعه به فشكا ذلك إلى ولده الحكم بعد انصرافه وقال: والله قد تعمدني منذر بخطبته وما عنى بها غيري فأسرف علي وأفرط في تقريعي ولم يحسن السياسة في وعضي فزعزع قلبي وكاد بعصاه يقرعني واستشاط غيظا عليه فأقسم إلاّ يصلي

خلفه صلاة الجمعة خاصة فجعل يلتزم صلاتها وراء أحمد بن مطرف صاحب الصلاة بقرطبة ويجانب الصلاة بالزهراء وقال له الحكم: وما الذي يمنعك من عزل المنذر من الصلاة بك والاستبدال منه إذ كرهته؟ فزجره وانتهره وقال له: أمثل منذر بن سعيد في خير وفضله وعلمه لا أم لك يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الرشد سالكة غير القصد هذا ما لا يكون وإني لأستحي من الله ألا أجعل بيني وبينه في الصلاة الجمعة شقيعا مثل منذر في ورعه وصدقه ولكنه في أحرجني فأقسمت ولو وددت أني أجد سبيلا إلى كفارة يميني بملكي بل يصلي بالناس حياته وحياتنا إن شاء الله تعالى. وقحط الناس آخر مدة الناصر فأمر القاضي المذكور منذر بن سعيد بالبروز إلى الاستسقاء بالناس فتأهب لذلك وصام بين يديه أياما ثلاثة تنفلا وإنابة ورهبة فاجتمع له الناس في مصلى الربض بقرطبة بارزين إلى الله تعالى في جمع عظيم وصعد الخليفة مصانعه المرتفعة من القصر ليشارف الناس ويشاركهم في الخروج إلى الله تعالى والضراعة له فأبطأ القاضي حتى اجتمع الناس وغصت بهم ساحة المصلى ثم خرج نحوهم ماشيا متضرعا مخبتا متخشعا وقام ليخط فلما رأى بدار الناس إلى ارتقابه واستكانتهم من خيفة الله وإخباتهم له وإبتهالهم إليه رقت نفسه وغلبته عيناه فاستعبر وبكى حينا ثم افتتح خطبته بأن قال: يا أيها الناس سلام عليكم ثم سكت ووقف شبيه الحصر ولم يك من

عادته فنظر الناس بعضهم إلى بعض لا يدرون ما عراه ولا ما أراد بقوله ثم اندفع تاليا لقوله تعالى " كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سواءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم " استغفروا ربكم أنّه كان غفارا واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه وتزلفوا بالأعمال الصالحات لديه. قال الحاكي: فضج الناس بالبكاء وجأروا بالدعاء ومضى على تمام خطبته فقرع النفوس بوعظه وانبعث الإخلاص بتذكريه فلم ينقص النهار حتى أرسل الله السماء بماء منهمر روى الثرى وطرد المحل وسكن الأزل والله بعباده. وكان له في خطبة الاستسقاء استفتاح عجيب ومن أن قال وقد سرح طرفه في ملأ الناس عندما شخصوا إليَّ بأبصارهم فهتف بهم كالمنادي: يا أيها الناس وكررها عليهم مشيرا بيده في نواحيهم: " أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد. إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد. وما ذلك على الله بعزيز ". فاشتد وجه الناس وانطلقت أعينهم بالبكاء ومضى في خطبته. قال القاضي أبو الحسن: ومن أخبار منذر المحفوظة له مع الخليفة الناصر في إنكاره عليه الإسراف في البناء أن الناصر اتخذ لسطح القبيبة المصغرة الاسم للخصوصية التي كانت مائلة على الصرح الممرد المشهور شأنه بقصر الزهراء قراميد مغشاة ذهبا وفضة أنفق عليها مثال لا جسيما وقرمد

سقفها به وجعل سقفها حمراء فاقعة إلى بيضاء ناصعة فتستلب الأبصار بأشعة أنوارها وجلس في إثر تمامها يوما لأهل مملكته فقال لقرابته ومن حضر من الوزراء وأهل الخدمة مفتخرا عليهم بما صنعه من ذلك: هل رأيتم أو سمعتم ملكا كان قبلي فعل مثل هذا أو قدر عليه؟ فقالوا: لا والله يا أمير المؤمنين وإنك لأوحد في شأنك كله وما سيبقك إلى مبتدعاتك هذه ملك رأيناه ولا انتهى إلينا خبره فأبهجه قولهم وسره. فبينما هو كذلك إذ دخل عليه القاضي منذر بن سعيد واجما ناكس الرأس فلما أخذ مجلسه قال له كالذي قال لوزرائه من ذكر السقف المذهب واقتداره على ابتداعه فأقبلت دموع القاضي تتحدر على لحيته وقال له: والله يا أمير المؤمنين ما ظننت أنَّ الشيطان لعنه الله يبلغ منك هذا المبلغ ولا أن تمكنه من قيادك هذا التمكين مع ما آتاك الله من فضله ونعمته وفضلك به على العالمين حتى ينزلك منازل الكافرين. قال: فانفعل عبد الرحمن لقوله وقال له: انظر ماذا تقول وكيف أنزلتني منزلتهم. فقال له: نعم أليس الله تعالى يقول: " ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ". فوجم الخليفة وأطرق مليا ودموعه تتساقط خشوعا لله سبحانه. ثم أقبل منذر وقال له: جزاك الله يا قاضي عنا وعن نفسك خيرا وعن الدين والمسلمين أجمل الجزاء وكثر في الناس أمثالك فالذي قلت هو الحق. وقام عن مجلسه ذلك وهو يستغفر الله

تعالى وأمر بنقض سقف القبيبة وأعاد قرمدها ترابا على الصفة غيرها. انتهى. وحكى غير واحد أنّه وجد بخط الناصر رحمه الله: أيام السرور التي صفت له دون تكدير يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا ويوم كذا من كذا. وعدت تلك الأيام فكانت أربعة عشر يوما. فأعجب أيها العاقل لهذه الدنيا وعدم صفائها وبخلها بمال الأحوال لأوليائها. هذا الخليفة الناصر حلف السعود المضروب به المثل في الارتقاء في الدنيا والصعود ملكها خمسين سنة وستّة أو سبعة أشهر وثلاثة أيام ولم تصف له إلاّ أربعة عشر يوما فسبحان ذي العزة القائمة والمملكة الدائمة تبارك اسمه تعالى لا اله إلاّ هو. وحكى أنّه اعني الناصر لمّا أعذر لأولاد ابنه أبي مروان الأكبر عبيد الله أتخذ لذلك صنيعا عظيما بقصر الزهراء لم يتخلف عنه أحد من أهل مملكته وأمر أن ينذر لشهوده الفقهاء المشاورون ومن يليهم من العلماء والعدول ووجوه الناس فتخلف من بينهم الفقيه المشاور أبو إبراهيم المذكور الذكر في كتب النوادر والأحكام وافتقد مكانه لارتفاع منزلته فساء ذلك الخليفة الناصر ووجد على أبي إبراهيم وأمر ابنه ولي العهد الحكم بالكتاب إليه والتفنيد له فكتب إليه الحكم رقعة نسختها:

بسم الله الرحمن الرحيم حفظك الله وتولاك وسددك ورعاك لمّا امتحن أمير المؤمنين مولاي وسيدي أبقاه الله الأولياء الذين يستعد بهم وجدك متقدما في الولاية متأخرا عن الصلة على أن قد أنذرك أبقاه الله خصوصا للمشاركة في السرور الذي كان عنده لا أعدمه الله توالي المسرة ثم انذرك من قبل إبلاغا في التكرمة فكان على ذلك كله من التخلف ما ضاقت عليه فيه المعذرة واستبلغ أمير المؤمنين في إنكاره ومعاتبته عليه فأعيت عليك عنك الحجة. فعرفني أكرمك الله ما العذر الذي أوجب توقفك عن إجابة دعوته ومشاهدة السرور الذي سر به ورغب المشاركة فيه لنعرفه أبقاه الله بذلك فتسكن نفسه العزيزة إليه إن شاء الله تعالى ". فأجابه أبوه إبراهيم: " سلام على الأمير ورحمة الله وبركاته. رأت أبقى الله سيدي هذا الكتاب وفهمته ولم يكن توقفي لنفسي إنّما كان لأمير المؤمنين سيدنا أبقاه الله ولسلطانه لعلمي بمذهنه ولسكوني إلى تقواه واقتفاره لأثر سلفه الطيب رضوان الله عليهم فإنهم كانوا يستبقون من هذه الطبقة بقية لا يمتهنوها ولا بما يغض منها ويطرق إلى تنقصها فيستعدون بها لدينهم ويتزينون بها عند رعاياهم ومن يفد عليهم من قصادهم فلهذا تخلفت ولعمي بمذهبه توقفت إن شاء الله تعالى. قال فلما اقرأ أباه الناصر لين الله جواب أبي إبراهيم إسحاق

أعجبه واستحسن اعتذاره وزال ما بنفسه عليه. وكان الفقيه أبو إبراهيم المذكور معظما عند الناصر وابنه الحكم وحق لهما أن يعظماه. وقد حكى الفقيه أبو القاسم مفرج بن محمّد بن مفرج قال: كنت أختلف إلى الفقيه أبي إبراهيم رحمه الله فيمن يختلف إليه للتفقه والرواية فإني لعنده في بعض الأيام في مجلسه بالمسجد المنسوب لأبي عثمان الذي كان يصلي فيه قرب داره بجوفي قصر فرطبة ومجلسه حافل بجماعة الطلبة وذلك بين الصلاتين إذ دخل عليه خصي من أصحاب الرسائل جاء من عند الخليفة الحكم فوقف وسلم وقال له: يا فقيه أجب أمير المؤمنين أبقاه الله فإن الأمر خرج فيك وها هو قاعد ينتظرك وقد أمرت بإعجالك فالله الله. فقال له: سمعا وطاعة لأمير المؤمنين ولا عجلة فارجع إليه وفقه الله وعرفه عني أنك وجدتني في بيت من بيوت الله عز وجل مع طلاب العلم أسمعهم حديث أبن عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم يقيدونه عني وليس يمكنني ترك ما أنا فيه حتى يتم المجلس المعهود لهم في رضاء الله وطاعته فذلك أوكد من مسيري إليه الساعة فإذا انقضى أمر من اجتماع إليَّ من هؤلاء المحتسبين في ذات الله الساعين في مرضاته مشيت إليه إن شاء الله تعالى. ثم أنّه أقبل على شأنه ومضى الخصى يهينم متضاجرا من توقفه فلم يك إلاّ ريثما أدى جوابه وانصرف سريعا ساكن الطيش. فقال له: يا فقيه أنهيت قولك على نصه إلى أمير المؤمنين أبقاه الله فأصغى إليه وهو يقول لك جزاك الله خيرا عن الدين وعن أمير المؤمنين وجماعة المسلمين

وامتعهم بك وإذا أنت أعبت فامض إليه راشدا إن شاء الله تعالى فقد أمرب أن أبقى معك حتى ينقضي شغلك وأذكرك تمضي معي. فقال له: حسن جميل ولكني أضعف عن المشي إلى باب السدة ويصعب علي ركوب دابة لشيخوختي وضعف أعضائي وباب الصناعة الذي يقرب إلي من أبواب القصر المكرم أحوط لي وأرفق بي فإن رأى أمير المؤمنين أيده الله تعالى أن يأمر بفتحه لأدخل إليه منه هون علي المشي وودع جسمي وأحب أن تعود فتنهي إليه ذلك عني حتى تعرف رأيه فيه وكذلك تعود إليَّ فإني أراك فتى شديد فكن على الخير معينا. ومضى عنه الفتى ثم رجع بعد حين وقال: يا فقيه قد أجابك أمير المؤمنين إلى ما سألت وأمر بفتح باب الصناعة وانتظارك من قبله ومنه خرجت إليك وامرت بملازمتك مذكرا بالنهوض عند فراغك وقال: افعل راشدا وجلس جانبا حتى أكمل أبو إبراهيم مجلسه بأكمل وأفسح ما جرت به عادته غير منزعج ولا قلق فلما انفضضنا عنه قام إلى داره فأصلح من شأنه ثم مشى إلى الخليفة الحكم فوصل إليه من ذلك الباب وقضى حاجته من لقائه ثم صرفه على ذاك الباب فأعيد إغلاقه على إثر خروجه. قال المفرج: ولقد تعمدنا في تلك العشية إثر قيامنا عن الشيخ أبي إبراهيم المرور بهذا الباب المعهود إغلاقه بدير القصر لنرى الذي تجشم الحليفة له فوجدناه كما وصف الخصي مفتوحا قد حفه الخدم والأعوان منزعجين ما بين

كناس وفراس متهيئين لانتظار أبي إبراهيم فاشتد عجبنا لذلك وطال تحدثنا عنه. انتهى. هكذا هكذا تكون المعالي ... طرق الجد غير طرق المزاح وكان الخليفة الحكم المستنصر المذكور قام بأعباء الملك أحسن قيام لمّا توفي والده الناصر في يوم الأربعاء لثالث وقيل لاثنين مضين من شهر رمضان من سنة خمسين وثلاث مائة واستقرت الخلافة به حتى لم يعدم من الناصر إلاّ شخصه واعتلى سرير الملك ثامن وفاة أبيه يوم الخميس وأنفذ الكتب إلى الأفاق بتمام الأمر له ودعا الناس إلى بيعته واستقبل من يومه النظر في تمهيد سلطانه وتثقيف مملكته وضبط قصوره وترتيب أجناده. وأول ما أخذ البيعة على صقالبة قصره الفتيان المعروفين بالخلفاء الأكابر كجعفر صاحب الخيل والطرز وغير من عظمائهم وتكفلوا بأخذها على من وراءهم وتحت أيديهم من طبقتهم وغيرهم وأوصل إلى نفسه في الليل دون هؤلاء الأكابر من الكتاب والوصفاء والمقدمين والعرفاء فبايعوه فلما كملت بيعتهم وبيعة أهل القصر تقدم إلى عظيم دولته جعفر بن عثمان بالنهوض في أخيه شقيقه أبي مروان عبيد الله المتخلف لعلته بأن يلزمه الحضور للبيعة دون معذرة وتقدم إلى موسى بن أحمد بن حدير بالنهوض أيضاً في أبي الأصبغ عبد العزيز شقيقه الثاني فمضيا اليهما كل واحد منهما في قطيع من الجند وأتيا بهما إلى قصر مدينة الزهراء ونفذ غيرهما من وجوه المال في الخيل للإتيان بغيرهما من الإخوة وكانوا يومئذ ثمانية فوافى جميعهم الزهراء في الليل فنزلوا في مراتبهم

بفصلان دار الملك وقعدوا في المجلسين الشرقي والغربي وقعد المستنصر بالله على سرير الملك في البهو الأوسط من الأبهاء المذهبة القبلية التي في السطح الممرد فأول من وصل إليه الإخوة فبايعوه وأنصتوا لصحيفة البيعة والتزموا الأيمان المنصوصة بكل ما أنعقد فيها ثم بايع بعدهم الوزراء وأولادهم وإخوتهم ثم أصحاب الشرطة وطبقات أهل الخدمة وقعد الإخوة والوزراء والوجوه عن يمينه وشماله إلاّ عيسى بن فطيس فانه كان يأخذ البيعة على الناس وقام الترتيب على الرسم في مجالس الاحتفال المعروفة فاصطاف في المجلس الذي قعد فيه أكابر الفتيان يمينا وشمالا إلى آخر البهو كل منهم على قدره في المنزلة عليهم الظاهر البيض شعار الحزن قد تقلدوا فوقها السيوف ثم تلاهم الفتيان الوصفاء غليهم الدروع السابغة والسيوف الحالية صفين منتظمين في السطح وفي الفصلان المتصلة به ذوو الأسنان من الفتيان الصقالبة الخصيان لابس البياض بأيديهم السيوف يتصل بهم من دونهم من طبقات الخصيان الصقالبة ثم تلاهم الرماة متنكبين قسيهم وجعابهم ثم وصلت صفوف هؤلاء الخصيان الصقالبة صفوف العبيد الفحول شاكين في الأسلحة الرائقة والعدة الكاملة وقامت التعبية في دار الجند والترتيب من رجالة العبيد عليهم الجواشن والأقبية البيض وعلى رءوسهم البيضات الصقلية وبأيديهم التراس الملونة والأسلحة المزينة انتظموا صفين إلى آخر الفصيل. وعلى باب السدة الأعظم البوابون وأعوانهم ومن خارج باب السدة فرسان العبيد إلى باب الأقباء واتصل بهم فرسان الحشم وطبقات الجند والعبيد والرماة مواكبا

إثر مواكب إلى باب المدينة الشارع إلى الصحراء فلما تمت البيعة إذن للناس بالنفضاض إلاّ الإخوة والوزراء وأهل الخدمة فإنهم مكثوا بقصر الزهراء إلى أن احتمل جسد الناصر رحمه الله إلى قصر قرطبة للدفن هنالك في تربة الخلفاء. وفي ذي الحجة من سنة خمسين المذكورة تكاثرت بباب الخليفة الحكم من البلاد للبيعة والتماس المطالب من أهل طليطلة وغيرها من قواعد الأندلس وأصقاعها فتوصلوا إلى مجلس الخليفة بمحضر جميع الوزراء والقاضي منذر أبن سعيد والملأ وأخذت عليه البيعة ووقعت الشهادات في نسخها. وفي آخر صفر من سنة إحدى وخمسين أخرج الخليفة الحكم المستنصر مولييه محمدا وزيادا أبني أفلح الناصري في كتيبة من الحشم والخدم لتلقي غالب الناصري صاحب مدينة سالم المورود للطاغية أردون بن أدفنوش الخبيث في الدولة المتملك على طوائف من امم الجلالقة والمنازع لابن عمه المملك قبله شانجه بن ردمير وتبرع هذا اللعين اردوت بالمسير إلى باب المستنصر بالله من ذاته غير طالب أذن ولا مستظهر بعهد وذلك عندما بلغه ن اعتزام المستنصر بالله في عامه ذلك على الغزو إليه وأخذه في التأهب له فاحتال في تأميل المستنصر بالله والارتماء إليه وخرج قبل أمان يعقد له اوو ذمة تعصمه في عشرين رجلاً من وجوه أصحابه تكنفهم غالب الناصري الذي خرج إليه فجاء بهم نحو مولاه الحكم وتلقاهم ابنا أفلح بالجيش المذكور فأنزلاهم ثم تحركا بهم ثاني يوم نزولهم إلى قرطبة فأخرج المستنصر بالله إليهم هشام بن محمّد بن عثمان المصحفي في جيش عظيم كامل التعبية وقدموا إلى باب قرطبة

فمروا باب قصرها فلما انتهى أردون إلى ما بين السدة وباب الجنان سأل عن مكان رمس الناصر لدين الله فأشير إلى ما يوازي موضعه من داخل القصر في الروضة فخلع قلنسوته وخضع نحو مكان القبر ودعا ثم رد قلنسوته إلى رأسه. وأمر المستنصر بإنزال اردون في دار الناعورة وقد كان تقدم في فراشها بأنواع الغطاء والوطاء وانتهى من ذلك إلى الغاية وتوسع له في الكرامة ولأصحابه فأقام بها الخميس والجمعة فلما كان يوم السبت تقدم المستنصر بالله باستدعاء أردون ومن معه بع إقامة الترتيب وتبعية الجيوش والاحتفال في ذلك من العدد والأسلحة والزينة وقعد المسنتصر بالله على سرير الملك في المجلس الشرقي من مجالس السطح وقعد الإخوة ونوهم والوزراء ونظراؤهم صفا في المجلس فيهم القاضي منذر بن سعيد والحكماء والفقهاء فأتى محمّد بن القاسم بن طملس بالملك أردون وأصحابه وعالي لبوسه ثوب ديباجي رومي أبيض وبليوال من جنسه وفي لونه وعلى رأسه قلنسوة رومية منظومة بجوهر وقد حفته جماعة من نصارى وجوه الذمة بالأندلس يؤنسونه ويبصرونه فيهم وليد بن حيزران قاضي النصارى بقرطبة وعبيد الله بن قاسم مطران طليطلة وغيرهما فدخل بين صفي الترتيب يقلب الطرف في نظم الصفوف ويجيل النظر في كثرتها وتظاهر أسلحتها ورائق حليتها وفراعهم ما أبصروه

وطبوا على وجوههم وتأملوا ناكسي رءوسهم غاضين من جفونهم قد سكرت أبصارهم حتى وصلوا إلى باب الأقباء أول قصر الزهراء فترجل جميع من كان خرج إلى لقائه وتقدم الملك أردون وخاصة قوامسه على دوابها حتى انتهوا إلى باب السدة فأمر القوامس بالترجل هنالك والمشي على الأقدام فترجلوا ودخل الملك أردون وحده راكبا مع محمّد بن طملس فأنزل في برطل البهو الأوسط من الأبهاء الفبلية التي بدار الجند على كرسي مرتفع مكسو الأوصال بالفضة وفي هذا المكان بعينه نزل فبله عدوه ومناوئه شانجا بن ردمير الوافد على الناصر لدين الله رحمه الله تعالى فقعد أردون على الكرسي وقعد أصحابه بين يديه وخرج الإذن لأردون الملك من المستنصر بالله بالدخول عليه فتقدم يمشي وأصحابه يتبعونه إلى أن وصل إلى السطح فلما قابل المجلس الشرقي الذي فيه المستنصر بالله وقف وكشف رأسه وخلع برنسه وبقي حاسرا إعظاما لمّا بان له من الدنو إلى السرير واستنهض فمضى بين الصفين المرتبين في ساحة السطح إلى أن قطع السطح وانتهى إلى باب البهو فلما قابل السرير خر ساجدا سويعة ثم استوى قائما ثم نهض خطوات وعاد إلى السجود ووالى ذلك مرارا إلى أن قدم بين يدي الخليفة وأهوي إلى يديه فناوله إياها وكرر راجعا مقهقرا على عقبه إلى وساد الديباج مثقل بالذهب جعل له هنالك ووضع على قدر عشرة أذرع من السرير فجلس عليه والبهر قد علاه وأنهض خلفه من استدنى من قوامسه وأتباعه فدنوا ممتثلين

فعله في تكرير الخنوع وناولهم الخليفة يده فقبلوها وانصرفوا مقهقرين فوقفوا على رأس ملكهم ووصل بوصولهم وليد بن حيزران قاضي النصارى بقرطبة فكان الترجمان عن الملك أردون ذلك اليوم وأطرق الخليفة الحكم عن تكليم الملك أردون إثر قعوده أماما وقتا ريما يفرخ روعه فلما رأى أنَّ قد خفض عليه افتتح تكليمه فقال: ليسرك إقبالك ويغبطك تأميلك فلدينا لك من حسن رأينا ورحب قبولنا فوق ما قد طلبته. فلما ترجم له كلامه إياه تطلق وجه أردون وانحط عن رتبته فقبل البساط وقال: أنا عبد أمير المؤمنين مولاي المتورك على فضله القاصد إلى مجده المحكم في نفسه ورجاله فحيث وضعني من فضله وعوضني من خدمته رجوت أن أتقدم فيه بنية صادقة ونصيحة خالصة. فقال له الخليفة: أنت عندنا بمحل من يستحق حسن رأينا وسينالك من تقديمنا لك وتفضيلنا إياك عن أهل ملتك ما يغبطك وتتعرف به فضل جنوحك ألينا واستظلالك بظل سلطاننا. فعاد اردون إلى السجود عند فهمه مقالة الخليفة وابتهال داعيه وقال: إنَّ شانجة أبن عمي تقدم إلى الخليفة الماضي مستجيرا به مني فكان من إعزازه إياه ما يكون من مثله من أعاظم الملوك وأكارم الخلفاء لمن قصدهم وأملهم وكان قصده قصد مضطر قد شتأته رعيته وأنكرت سيرته واختارني لمكانه من غير سعي مني علم الله ذلك ولا دعاء إليه فخلعته وأخرجته عن ملكه مضطرا مضطهدا فتطول عليه رحمة الله بأن صرفه إلى ملكه

وقوى سلطانه واعز نصره. ومع ذلك فلم يقم بفرض النعمة التي أسديت إليه وقصر في أداء المفروض عليه وحقه وحق أمير المؤمنين مولاي من بعده وأنا قد قصدت باب أمير المؤمنين لغير ضرورة من قرارة سلطاني وموضع احتكامي محكما له في نفسي ورجالي ومعاقلي ومن تحويه من رعيتي فشتان ما بيننا من قوة الثقة ومطرح الهمة. فقال الخليفة: قد سمعنا قولك وفهمنا مغزاك وسوف يظهر من إقراضنا إياك على الخصوصية فوق شأنه ويترادف من إحساننا إليك به أضعاف ما كان من أبينا رضي الله عنه إلى ندك وإن كان له فضل التقدم بالجنوح إلينا والقصد إلى سلطاننا فليس ذلك مما يؤخرك عنه ولا ينقصك مما أنلناه وسنصرفك مغبوطا إلى بلدك ونشد أواخي ملكك ونملكك جميع من انحاش إليك من أمتك ونعقد لك بذلك كتابا يكون بيدك نقرر به حدّ ما بينك وبين أبن عمك ونقبضه من كل ما يصرفه من البلاد إلى يدك وسيرادفك عليك من إفضالنا فوق ما احتسبته. والله على ما نقول وكيل. فكرر أردون الخضوع وأسهب في الشكر وقام للانصراف مقهقرا لا يولي الخليفة ظهره وقد تكنفه الحفدة من جلة الفتيان فأخرجوه إلى المجلس الغربي في السطح وقد علاه البهر وأدهله الروع من هول ما باشره وجلالة ما عاينه من فخامة الخليفة وبهاء العوة. فلما أن دخل المجلس ووقعت عينه على مقعد أمير المؤمنين خاليا منه انحط ساجدا إعظاما له ثم تقدم الفتيان به إلى البهو الذي بجوف هذا المجلس فأجلسوه هناك على وساد مثقل بالذهب وأقبل نحوه الحاجب جعفر فلما بصر به قام إليه وخضع له

وأومأ إلى تقبيل يده، فقبضها الحاجب عنه، وانحنى إليه فعانقه وجلس معه، فغبطه ووعده من إنجاز عدات الخليفة له بما ضاعف سروره؛ ثم أمر الحاجب جعفر فصبت عليه الخلع التي أمر بها الخليفة وكانت دراعة منسوجة بالذهب وبرنسا مثلها، له لوزة مفرعة من خالص التبر مرصعة بالجواهر والياقوت ملأت عين العلج تجلة فخر ساجداً وأعلن بالدعاء؛ ثم دعا الحاجب أصحابه رجلاً فخلع عليهم على قدر استحقاقهم؛ فكمل جميع ذلك بحسب ما يصلح لهم. وخر جميعهم خاضعين شاكرين، ثم انطلق الملك " اردون " وأصحابه وقدم لركابه في أول البهو الأوسط فرس من عتاق خيل الركاب، عليه سرج حلي، ولجام حلي مفرع، وانصرف مع أبن طملس إلى قصر الرصافة، وكان تضييفهن وقد أعد له كل ما يصلح لمثله من الآلة والفرش والماعون، واستقر الملك أردون وأصحابه فيما لا كفاء له من سعة التضييف، وإرغاد المعاش، واستشعر الناس من مسرة هذا اليوم وعزة الإسلام فيه، ما أفضوا في التبجح به، والتحدث عنه أياماً. وكانت للخلفاء والشعراء بمجلس الخليفة في هذا اليوم مقامات حسان وإنشادات لأشعار محكمة متان يطول القول في اختيارها. فمن ذلك قول عبد الملك بن سعيد المردي من قصيدة طويلة: ملك الخليفة آية الإقبال ... وسعوده موصولة بنوال فالمسلمون بعزة وبرفعة ... والمشركون بذلة وسفال القت بأيديها الأعاجم نحوه ... متوقعين لصولة الرئبال هذا أميرهم أتاه آخذا ... منه أواصر ذمة وحبال

متواضعاً لجلاله متخشعاً ... متبرعاً لمّا يرع بقتال سينال بالتأميل للملك الرضا ... عزاً يعم عداه بالإذلال لا يوم أعظم للولاة مسرة ... وأشده غيظا على الأقبال من يوم أردون الذي إقباله ... أمل المدى ونهاية الإقبال ملك الأعاجم كلها أبن ملوكها ... والٍ نكاه الأعاجم وال إن كان جاء ضرورة فلقد أتى ... عن عز مملكة وطوع رجال فالحمد لله المنيل إمامناً ... حظ الملوك بقدرة المتعالي هو يوم حشر الناس إلاّ أنهم ... لم يشألوا فيه عن الأعمال أضحى الفضاء مفعما بجيوشه ... والأفق أقتم أغبر السربال لا يهتدي الساري لليل قتامه ... إلاّ بضوء صوارم وعوالي وكأن الأجسام الكماة تسربلت ... مذ غبرت منه جسوم صلال وكأنما العقبان الفلا ... منقصة لتخطف الضلال وكأن منتصب القنا مهتزه ... أشطان نازحةٍ بعيدة جال وكأنما خيل التجافيف اكتست ... ناراً توهجها بلا إشعال وتتبع مثل هذه الأخبار لا آخر له؛ والله المستعان. وكان القاضي منذر بن سعيد السابق ذكره، سمع بالأندلس من عبيد الله أبن يحيى بن يحيى ونظرائه، ثم رحل حاجاً سنة ثمان وثلاث مائة، فسمع من عدة أعلام، منهم محمّد بن المنذر النيسابوري، سمع عليه كتابه المؤلف في

اختلاف العلماء، المسمى بالإشراف، وروى بمصر كتاب العين للخليل عن أبي العباس بن ولاد وروى عن أبي حعفر بن النحاس؛ وكان متفنناً في ضروب العلوم وغلب عليه التفقه بمذهب أبي سليمان داود بن علي الأصبهاني، المعروف بالقياسي وبالظاهري؛ فكان منذر بن سعيد يؤثر مذهبه ويجمع كتبه ويحتج لمقالته ويأخذ به في نفسه وذويه؛ فإذا جلس ببحكومة قضى بمذهب الإمام مالك وأصحابه، بالذي استقر عليه العمل في بلدهم، وحمل عليه السلطان أهل مملكته. وله تواليف مفيدة؛ منها كتاب أحكام القرآن؛ والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك في الفقه والكلام والرد على أهل المذاهب؛ وكان خطيباً بليغاً عالماً بالجدل، حاذقاً فيه، شديد العارضة حاضر الجواب عتيده ثابت الحجة ذا شارة عجيبة ومنظر جميل وخلق حميد وتواضع لأهل الطلب وانحطاط لهم وإقبال عليهم؛ وكان مع وقاره التام فيه دعابة مستملحة وله نوادر مستحسنة لولا السآمة لجلبنا طرفاً. وكانت ولايته القضاء بقرطبة للناصر في شهر ربيع الآخر سنة تسع وثلاثين وثلاث مائة، ولبث قاضياً من ذلك التاريخ للخليفة الناصر إلى وفاته، ثم للخليفة الحكم المستنصر، إلى أن توفى رحمه الله، عقب ذي الحجة سنة خمس وخمسين وثلاث مائة، رحمه الله ورضى عنه. ودفن بمقبرة قريش بالربض الغربي من قرطبة، أعادها الله، جوفي مسجد السيدة الكبرى بقرب داره.

قال القاضي أبو الحسن: كان شيخنا القاضي أبو عبد الله بن عياش الخزرجي يستحسن من كلام القاضي منذر قوله في التزكية: اعلم إنَّ العدالة من أشد الأشياء تفاوتاً وتبايناً ومتى حصلت ذلك عرفت حالة الشهود لأن بين عدالة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعدالة التابعيين رضي الله عنهم فوتاً عظيماً وتبايناً شديداً وبين عدالة أهل زماننا وعدالة أولئك مثل ما بين السماء والأرض؛ وعدالة أهل زماننا على ما هي عليه بعيدة التباين أيضاً. والأصل في هذا عندي، والله الموفق، أنَّ من كان الخير أغلب عليه من الشر، وكان متنزها عن الكبائر فواجب أن تعمل شهادته، فإنَّ الله تعالى قد أخبرنا بنص الكتاب أنَّ من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية، وقال في موضع آخر:) فأولئك هم المفلحون (؛ فمن ثقلت موازين حسناته بشيء لم يدخل النار؛ ومن استوت حسناته وسيئاته لم يدخل الجنة في زمرة الداخلين أولاً، وهم أصحاب الأعراف، فذلك عقوبة لهم، إذ تخلفوا عن أن تزيد حسناتهم على سيئاتهم؛ فهذا حكم الله في عباده. ونحن إنما كلفنا الحكم بالظاهر، فمن ظهر لنا أنَّ خيره أغلب عليه من شره حكمنا له بحكم الله في عباده، ولم نطلب له علم الباطن ولا كلفه محمّد صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عنه أنه قال " إنّما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليّ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأحكم له على نحو مما أسمع ". فأحكام الدنيا على ما ظهر، وأحكام الآخرة على ما بطن؛ لأن الله تعالى يعلم الظاهر والباطن، ونحن لا نعلم إلاّ الظاهر؛ وأهل كل قوم قد تراضى عليهم عامتهم فبهم تنعقد منكحهم وبيعهم وقد قدموهم في المساجد ولجمعهم وأعيادهم، فالواجب على من استقصى على

موضع أن يعمل شهادة أمثالهم وفقهائهم، وأصحاب صلواتهم، وإلاّ ضاعت حقوق ضعيفهم وقويهم، وبطلت أحكامه. ويجب عليه أنَّ يسأل إنَّ استراب في بعضهم في بعضهم في الظاهر والباطن عنهم، فمن لم يلبث عنده عليه اشتهار في كبيرة، فهو على عدالة ظاهرة، حتى يثبت غير ذلك. انتهى. قلت: تذكرت هنا ما رأيته بخط الأمام الحافظ سيدي أحمد الونشريشي رحمه الله على ظهر كتاب أبن الخطيب: " مثلى الطريقة في ذم الوثيقة "، وقد مدينة فيه أبن الخطيب الباع في ذم الموثقين، وذكر مثالبهم، ونص ما ألفيته بخط المذكور: الحمد لله. جامع هذا الكلام المقيد هنا بأول ورقة منه، قد كد نفسه في شيء لا يعني الأفاضل، ولا يعود عليه في القيامة ولا في الدنيا بطائل، وأفنى طائفة من نفيس عمره في التماس مساوي طائفة، بهم تستباح الفروج، وتملك مشيدات الدور والبروج، وجعلهم أضحوكة لذوي الفتك والمجانة، وانتزع عنهم جلباب الصدق والديانة، سامحه الله وغفر له. قال ذلك وخطه بيمنى يديه عبيد ربه أحمد بن يحيى بن محمّد بن على الونشريشي، خار الله سبحان له، انتهى. ولنرجع إلى ما كنا فيه من أخبار سبتة فنقول: ولنرجع إلى ما كنا فيه من أخبار سبتة، فنقول: كان أهل سبتة في غاية الذكاء والفطنة، والعلم والمعرفة؛ وقد حكي الشيخ النظار أبو إسحاق الشاطبي في شرحه على ألفية أبن مالك، عن شيخه أبي عبد الله الفخار، عن بعض أهل سبتة، أنَّ الشيخ أبا عبد الله بن خميس التلمساني لمّا ورد على سبته بقصد الإقراء بها، اجتمع عليه عيون طلبتها؛ فألقوا عليه

مسائل من غوامض باب الاشتغال، فحاد عن الجواب، بأن قال لهم: انتم عندي كرجل واحد. يعني أنَّ ما ألقوا عليه من المسائل إنّما تلقوا من رجل واحد، وهو أبن أبي الربيع؛ إنّما يخاطب رجلاً واحداً، ازدراء بهم. فاستقبله أصغر القوم سنا وعلما، بأن قال له: إنَّ كنت بالمكان الذي تزعم، فأجبني عن هذه المسائل، من باب معرفة علامات الإعراب، التي أذكرها لك؛ فإنَّ أجبت فيها بالصواب، لم تحظ بذلك في نفوسنا، لصغرها بالنظر إلى تعاطيك من الإدارك والتحصيل، وإنَّ أخطأت فيها لم يسعك هذا البلد، وهي عشيرة: الأولى: انتم يا زيدون تغزون. والثانية: انتن يا هندات تغزون. والثالثة: انتم يا زيدون ويا هندات تغزون. والرابعة: انتن يا هندات تخشين. والخامسة: أنت يا هند تخشين. والسادسة: أنت يا هند تمرين. والثامنة: انتن يا هندات تمحون أو تمحين كيف تقول. والتاسعة: أنت يا هند تمحين أو تمحون كيف تقول. والعاشرة: أنتما تمحوان أو تمحيان، كيف تقول.

وهل هذه الأفعال كلها مبنية أو معربة؟ أو بعضها مبني وبعضها معرب؟ وهل كلها على وزن واحد أم على أوزان مختلفة؟ علينا السؤال، وعليك التمييز، لنعلم الجواب. فهبت الشيخ وشغل المحل بأن قال: إنما يسأل عن هذا صغار الولدان. فقال له الفتى: فأنت دونهم إنَّ لم تجب. فأنزعج الشيخ وقال هذا سوء أدب، ونهض منصرفا، ولم يصبح إلاّ بمقالة، ومتوجها إلى غرناظة، فلم يزل بها مع الوزير أبن الحكيم، إلى أنَّ مات. تغمده الله برحمته. انتهى. وأورد هذه الحكاية أيضاً عالم الدنيا، سيدي أبو عبد الله بن مرزوق، في شرحه على الألفية لابن مالك، وهو شرح متسع جداً، وقفت منه على بعضه بتلمسان، وكان آخر السفر الأول اسم الإشارة، وذلك السفر أعظم جرما من جميع شرح المرادي؛ ونص محل الحاجة منه: وقد حكي أنَّ بعض طلبة سبتة أورد على أبي عبد الله بن خميس عشر مسائل من هذا النوع، وهي: أنتم يا زيدون تغزون؛ وانتن يا هندات تغزون؛ وانتم يا زيدون ويا هندات تغزون، وانتن يا هندات تخشين؛ وأنت يا هند تخشين؛ وأنت يا هند تمرين، وأنتن يا هنادت تمرين، وانتن يا هندات تمحون أو تمحين كيف تقول. وأنت يا هند تمحين أو تمحين كيف تقول؛ وأنتما تمحوان أو تمحيان، على لغة من قال محوت كيف تقول؟ وهل هذه الأمثلة كلها مبنية او معربة او مختلفة؟ وهل وزنها واحد أو مختلف؟ قالوا: ولم يجب بشيء. قلت: فلعله استسهل أمرها.

كتنظرون، فاستثقلت ضمة الواو، التي هي لام، فحذفت، ثم حذفت الواو أيضاً، لالتقائها ساكنة مع واو الضمير، وكانت أولى بالحذف، لأن واو الضمير فاعل، ولغير ذلك مما تقدم بعضه. وأما الثاني فمبني، ووزنه تفعلن، كتخرجن. وأما الثالث فكالأول إعراباً ووزناً، لأن فيه تغليب المذكر على المؤنث. وأما الرابع فمبني، ووزنه تفعلن، مثل تفرحن لأنه لمّا احتياج إلى تسكين آخر الفعل، لاستناده إلى نون جماعة النسوة، ردت الياء إلى أصلها، لأنها إنّما قلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، والآن ذهبت حركتها لاستحقاقها السكون. وأما الخامس فمعرب، ووزنه تفعين، وأصله تخشين، كتفرحين، فقبلت الياء ألفاً، لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم حذفت لالتقائها ساكنة مع ياء الضمير، وتركت فتحة الشين دالة على الألف. وأما السادس فمعرب، ووزنه تفعين. وأصله ترمين، كتضربين، حذفت كسرة الياء لاستثقالها، ثم حذفت الياء لاجتماعها ساكنة مع ياء الضمير. وأما السابع فمبني، ووزنه تفعلن كتضربن. وأما الثامن والتاسع، فمضارع محي ورد بالأوزان الثلاثة، فمن قال يمحو قال في المضارع من جماعة النسوة: تمحون، مثله من غزا ناء ووزنا، ومن قال يمحى قال فيه: تمحين كترمين، بناء ووزنا. ومن قال يمحى قال

فيه تمحين كتخشين، بناء ووزنا. ويقال في المضارع الواحدة على اللغة الأولى تمحين كتدعين: إعرابا ووزنا وتصريفا. وقد تقدم في كلام المصنف. وعلى الثانية، كما يقال لها من رمى إعراباً ووزناُ وتصريفاً. وعلى الثالثة كما يقال لها من تخشى أيضاً، وقد تقدما. وليس ما وقع في السؤال كما نقل خط بعض الشارحين أنّه يقال فيها " تمحون " كتفرحن بشيء. وأمر التثنية ظاهر. انتهى بحروفه. قلت: وقد جزم واحد بان أبن خميس لا يجهل مثل هذه المبادئ، إذ هو من أكابر الأعلام العارفين بالنحو واللغة وغيرهما وغير من أنواع العلوم؛ وقد نقل بعض من له خبرة بأحوال أنّه كان يحسن علم السيمياء والله اعلم. وهو محمّد بن عمر بن محمّد بن محمّد بن عمر بن محمّد الحجري بفتح الحاء وسكون اليم، الرعيني، نسبة إلى حجر ذي رعين. وهو من أهل تلمسان، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن خميس. قال أبن الخطيب في " عائد الصلة ": كان رحمة الله نسيج وحده زهدا وانقباضاً وأدبا وهمة، وحسن الشيبة، وجميل الهيئة، سليم الصدر، قليل التصنع، بعيداً عن الرياء والهوى، عاملا على السياحة والعزلة، عارفا بالمعارف القديمة، مضطلعا بتفاريق النحل، قائما على العربية والأصلين، طبقة الوقت في الشعر، وفحل الأوان في المطول، أقدر الناس على اجتلاب الغريب. ثم ذكر أبن الخطيب من أحواله جملة، إلى أنَّ قال: وبلغ الوزير أبا عبد الله

أبن الحكيم أنّه يروم السفر، فشق ذلك عليه، وكلفه تحريك الحديث بحضرته، وجرى ذلك. فقال الشيخ: أنا كالدم بطبعي أتحرك في كل ربيع. انتهى. وقال أبن خاتمة في حقه، بعد إنَّ وصفه بالشاعر المجيد: أنّه رحل من تلمسان بلده إلى سبتة، فأقام بها مدة، ومدح رؤساءها من بني العزفي، ثم أجاز البحر إلى الأندلس، فأحتل بحضرة غرناطة في أواخر سنة ثلاث وسبع مائة، في جوار الوزير أبي عبد الله بن الحكيم، فتقارضا حلل المجد، وتباريا في الرفد والحمد، فأدنى له ذو الوزارتين أخلاف بره وإكرامه، وخلع عليه أبن خميس أثواب نثره ونظامه، فله فيه القصائد التي حليت بها لبات الآفاق، وتنفست عنها صدور الرفاق. وكان رحمه الله من فحول الشعراء، وأعلام البلغاء، يصرف العويص، ويرتكب مستصعبات القوافي، ويطير في القريض مطار ذوي القوادم الباسقة والخوافي، حافظا لأشعار العرب وأخبارها، له مشاركة في العقليات، واستشراف على الطلب؛ وعقد لإقراء العربية بحضرة غرناطة، وكان ما ينتحله من العلم فوق ما يحصله. ومال بأخرة إلى التصوف والتجوال، والتحلي بحسن السمت، وعدم الاسترسال، بعد طي بساط ما فرط له في بلده من الأحوال، وكان صنع اليدين. حدثني بعض من لقيه من الشيوخ أنّه صنع قدحا من الشمع على أبدع ما يكون، في شكله، ولطافة جوهره، وإتقان صنعته، وكتب بدائرة شفته: وما كنت إلا زهرة في حديقةٍ ... تبسم عني ضاحكات الكمائم فقبلت من طور لطور فهأنا ... أقبل أفواه الملوك الأعاظم وأهداه خدمة للوزير أبي عبد الله بن الحكيم. وأنشدتا شيخنا أبو البركات أبن الحاج وحكي لنا، قال:

أنشدني أبو عبد الله بن خميس وحكي لي، قال: لمّا وقفت على الجزاء الذي ألفه أبن سبعين، يعني أبا محمّد عبد الحق بن أحمد بن إبراهيم بن نصر، وهو الذي سماه بالفقيرية، كتبت على ظهره: الفقر عندي لفظ دق ... معناه من رامه من ذوي الغايات عناه كم من غبي بعيد عن تصوره ... أراد كشف معماه فعماه وأنشدنا شيخنا الأستاذ أبو عثمان بن ليون غير مرة، قال: سمعت أبا عبد الله بن خميس ينشد، وكان يحسب انهما له، ويقال انهما لأبن الرومي: رب قوم في منازلهم ... عررٍ صاروا بها غررا ستر الإحسان ما بهم ... ستري لو زال ما سترا ثم قال أبن خاتمة بعد الكلام: وقد جمع شعره ودونه صاحبنا القاضي أبو عبد الله بن إبراهيم الحضرمي في جزء سماه: " الدر النفيس من شعر أبن خميس "، وعرف به صدر الجزء. وقد نقلت منه هنا: وقدم أبو عبد الله بن خميس المرية سنة ست وسبع مائة، فنزل بها في كنف القائد الحاضر بها حينئذ، أبي الحسن بن كماشة، من خدام الوزير أبي عبد الله أبن الحكيم، فوسع له في الإيثار والمبرة، وبسط له وجه الكرامة طلق الأسرة؛ وبها قال في مدح الوزير أبي عبد الله بن الحكيم قصيدته التي أولها: العشى تعيا والنوابغ ... عن شكر أنعمك السوابغ ووجه بها إليه من المرية. ومنها: ودسائع أبن كماشة ... مع كل بازغة وبازغ

تأتي بما تهوى النغا ... نع من شهيات اللغالغ ويقال إ الوزير أبا عبد الحكيم اقترح عليه أن ينظم له قصيدة هائية فابتدأ منها مطلعها وهو قوله: لمن المنازل لا تجيب هواها ... محيت معالمها وصم صدها وذلك في أواخر شهر رمضان من سنة ثمان وسبع مائة. ثم لم يزد على ذلك إلى معناه وقد آذن أولاه بحضور أخراه فكانت وفاته بحضرة غرناطة قتيلا ضحوة يوم الفطر مستهل شوال سنة ثمان وسبع مائة وهو أبن نيف وستين سنة وذلك يوم مقتل مخدومة الوزير أبي عبد الله بن الحكيم أصابه قاتله لحقده على مخدومه. ويقال إنه لمّا هم به قاتله قال له: أنا دخيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلتفت إليه وجعل يجهز عليه فقال له: لم لم تقبل الدخيل بيني وبينك؟ فكان آخر ما سمع منه: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ ثم أنّه استفاض بذلك من حال القاتل أنّه هلك قبل أن يكمل سنة من حين قتله من فالج شديد أصابه فكان يصح ويستغيث: أبن خميس يطالبني أبن خميس يعذبني أبن خميس يقتلني. وما زال الأمر يشتد به حتى قضى نحبه على تلك الحال. نعوذ بالله من المورطات ومواقعات العثرات. انتهى كلام أبن خاتمة. وحكى غيره أنَّ تلك القصيدة نظمه ليهنئ بها أبن الحكيم في ذلك العيد الذي قتل فيه فلم يقدر على زيادة شيء فلما قتل كتب بعضهم بعد قوله: لمن المنازل لا تجيب هواها لابن الحكيم.

ونقل غير واحد في شأن قاتله خلاف ما حكاه أبن خاتمة. والله أعلم. ومن مشهور نظمه رحمه الله قصيدته التي أولها: مشوق زار ربعك يا أماما ... محا آثار دمنتها الشآما تتبع ريقه الطل ارتشافا ... فلا نفعت ولا نقعت أوامها وهي طويلة ولكنها من غرر القصائد يمدح بها أبا سعيد بن عامر ويذكر الوشحة الواقعة بينه وبين أبي بكر بن خطاب. ومن بديع شعره قوله مطلع قصيدة: تراجع من دنياك ما أنت تارك ... ونسألها العتبى وها هي فارك تؤمل بعد الترك رجع ودادها ... وشر وداد ما تود الترائك حلالك منها ما حلالك في الصبا ... فأنت على حلوائه متهالك تظهار بالسلوان عنها تجملا ... فقلبك محزون وثغرك ضاحك تنزهت عنها نخوة لا زهادة ... وشعر عذاري أسود اللون حالك وهي من القصائد الطنانة وتركتها لطولها وآخرها يقول: فلا تدعون غيري لدفع ملمة ... إذا ما دهى من حادث الدهر داهك فما إن لذاك الصوت غيري سامع ... وما إن لبيت المجد بعدي سامك يغص ويشجى نهشل ومجاشع ... بما أورثتني حمير والسكاسك تفارقني الروح التي لست غيرها ... وطيب ثنائي لاصق بي صائك

وماذا عسى ترجو لداتي وأرتجي ... وقد شمطت مني اللحى والأفانك يعود لنا شرخ الشباب الذي مضى ... إذا عاد للدنيا عقيل ومالك ومما اشتهر من نظمه قوله: أرق عيني بارق من أثال ... كأنه في جنح ليلى ذبال أثار شوقا من صميم الحشى ... وعبرتي في صحن خدي أسال حكى فؤادي قلقا واشتعال ... وجفن عيني أرقا وانهمال جوانح تلفح نيرانها ... وأدمع تنهل مثل العزال قولوا وشاة الحب ما شئتم ... ما لذة الحب سوى أن يقال أعذر لوامي ولا عذر لي ... فزلة العالم ما إن تقال قم نطرد الهم بمشمولة ... تقصر الليل إذا الليل طال وعاطها صفراء ذمية ... تمنعها الذمة من أن تنال كالمسك ريحا واللمى مطعما ... والتبر لونا والهوا في اعتدال عتقها في الدن خمارها ... والبكر لا تعرف غير الحجال لا تثقب المصباح ولا واسقني ... على سنى البرق وضوء الهلال

فالعيش نوم والردى يقظة ... والمرء ما بينهما كالخيال خذها على تنعيم مسطارها ... بين خوابيها وبين الدوال في روضة باكر وسميها ... أخمل دارين وأنسى أوال كأن فأر المسك مفتوقة ... فيها إذا هب الصبا أو شمال من كف ساجي الطرف ألحاظه ... مفوقات أبداً للنظال من عذاري والكل لي عاذر ... من حسن الوجه قبيح الفعال من خلبي الوعد كذابه ... ليا لا يعرف غير المطال كأنه الدهر وأي امرئ ... يبقى على الدهر إذا الدهر حال أما تراني آخذا ناقضا ... عليه ما سوغني من محال ولم أكن قط له عائبا ... كمثل ما عابته فبلي رجال يأبى ثراء المال علمي وهل ... يجمع الضدان علم ومال وتأنف الأرض مقامي بها ... حتى تهاداني ظهور الرحال لولا بني زيان ما لذلك لي ال ... عيش ولا هانت علي الليال هم خوفوا الدهر وهم خففوا ... على بني الدنيا خطاه الثقال ألفيت من عامرهم سيدا ... غمر رداء الحمد جم النوال

وكعبة للجود منصوبة ... يسعى إليها الناس في كل حال خذها أبا زيان من شاعر ... مستعذب النزعة عذب المقال يلتفظ الألفاظ لفظ النوى ... وينظم الآلاء نظم الآل مجاريا مهيار في قوله ... " ما كنت لولا طمعي في الخيال " ومقطع قصيدة مهيار التي عارضها أبن خميس هو قوله: ما كنت لولا طمعي في الخيال ... أنشد ليلى بين طول الليال وربما يهجس في خاطر من يرى وصف هؤلاء الأئمة للخمر وغيرها أنَّ ذلك منهم على حقيقته حاشاهم من ذلك وإنما مقصدهم بذلك خلاف ما يتوهم فلا يساء بهم الظن فإن العذر لهم في مثل ذلك بين واعتقاد براءتهم من هذا الشين المتعين ويرحم الله شيخ الشيوخ ولي الله الرباني الشهير البركات سيدي أبا مدين شعيبا أفاض الله علينا من أنواره إذ يقول على ما نسب له بعض الأئمة: بكت السحاب فأضحكت لبكائها ... زهر الرياض وفاضت الأنهار وقد أقبلت شمس النهار بحلة ... خضراء وفي أسرارها أسرار وأتى الربيع بخيله وجنوده ... فتمتعت في حسنه الأبصار والورد نادي بالورود إلى الجنى ... فتسابق الأطيار والأشجار والكأس ترقص والعقار تشعشعت ... والجو يضحك والحبيب يزار

والعود للغيد الحسان مجاوب ... والطار أخفى صوته المزمار لا تحسبوا الزمر الحرام مرادنا ... مزمارنا التسبيح والأذكار وشرابنا من لطفه وغناؤنا ... نعم الحبيب الواحد القهار والعود عادات الجميل وكاسنا ... كاس الكياسة والعقار وقار فتألفوا وتطيبوا واستغنموا ... قبل الممات فدهركم غدار والله أرحم بالفقير إذا أتى ... من والديه فإنه غفار ثم الصلاة على الشفيع المصلى ... ما رنمت بلغاتها الأطيار وقد تذكرت بلامية أبن خميس المذكورة قصيدة على رويها ووزنها أولها قوله: ما حال من فارق ذاك الجمال ... وذاق طعم الهجر بعد الوصال وهي من نظم الشيخ العارف الصالح سيدي إبراهيم التازي رضي الله عنه رأيت أن أذكرها هنا كفارة لمّا يتوهمه السامع في لامية أبن خميس وقد كنت رأيت بتلمستان تخميسا لبعض الأكابر على قصيدة سيدي إبراهيم هذه وأنشدته الشيخ مولانا العم شيخ الإسلام سيدي سعيد بن أحمد المقري رضي الله عنه فانفعل لذلك غاية واهتز وهأنا أذكر القصيدة ضمن التخميس وهو: بدت كغصن ناعم في اعتدال وأبدلت وصلي بصاد ودال قلت كصب عاشق حيث قال

ما حال من فارق ذاك الجمال ... وذاق طعم الهجر بعد الوصال صب صبا من وجد لحظ الرشا من حبه عن لبه ينتشي وسره بدمعي قد فشا والعقل منه ذاب والحشى ... ملتهب والجسم يحكي الخيال شأني بها ما دمت في رقها راق ولا رغبة في عتقها دمت لها عبدا ومن حقها أبيت أرعى النجم في أفقها ... وليل أهل الحب رحب طوال جاء بها التنصيص في جملتي أقضي بها فرضي وهي ملتي نأت بصبري صحت واخجلتني والدمع كالمدرار من مقلتي ... يجري على الوجنة يا للرجال ما عمرت لي بالهوى راحة من بعدها ولا خلت ساحة من حسنها إذا هي وضاحة وليس لي عيش ولا راحة ... والحال يغني ذا الحجا عن سؤال الوصل قد أبدى لنا حسنة

والبعد قد أبدى لنا شينة قولوا لمن ليل الهوى جنة يا قبح الله النوى إنه ... قتل بلا سيف وداء عضال إلفي مذ حل بقلبي قضى أعاد الله لنا بالرضا بطالع السعد ونور أضا ويا رعى الله زمانا مضى ... بالأنس في وارف تلك الظلال لله أطلال بها خيمت فكم بها من أمة أحرمت ويا رعى الله بها ما حمت ظلال تيماء التي تيمت ... قلبي وخلت مهجتي في نكال نلت لذيذ الوصال في تربها لو دام ما غيبت عن قربها فكيف لا أعلن من حبها آها لها من لي بأنس بها ... خوف الوجى ما بين تلك الجبال تلك الربوع فاز من حلها

وعقدة الإبعاد قد حلها من لي بقرب أجتني وصلها ألزمها أبث أمري لها ... أنعم الطرف بذاك الجمال ما فاز إلاّ من غدا خلها ومن أتاها قاصدا أهلها يا عاشقين استعطفوا دلها لله ما أحسن خال لها ... تقبيله المحظور عين الحلال نفسي فدا من حل في ركبها ومرغ الخدين في تربها ونال ظل الأمن في حزبها وما ألذ العيش في قربها ... في ريه بذل العطا والنوال يأهل ذاك المنصب المولي عن حبكم قلبي ما يرعوي لأني من مائكم أرتوي يا سادتي يا صفوتي يا ذوي ... برى وشكرى يا كرام الفعال كم بت ليلى بكم ساهرا سامرت فيه كوكبا زاهرا

وصرت من شوقي لكم زاهرا كان سروري بكم وافرا ... وبدر سعدي مشرقا في كمال فهأنا اليوم أعاني العنى وظل أمني كان في المنحنى وبدر سعدي ناظم شملنا فانخسف البدر وراح الهنا ... ما كان ذا يخطر مني ببال يا من بدا قلبي بهم مغرما من أجل خود حسنها قد سما من لي بها أرشف ذاك اللمى يا جيرة الحي وأهل الحمى ... انتم منى القلب على كل حال كانت بكم في الهوى نزهة فصرت أبكي إذ بدت وحشة وهأنا لم ترق لي دمعة وليس بي صبر ولا سلوة ... عنكم ولو شط المدى واستطال يا من بهم قلبي غدا مولعا وحق من طاف ومن قد سعى ما العبد إلاّ صادق ما ادعى فارعوا ذمامي واجهدوا في الدعا ... للمدنف المضنى عسى ذو الجلال متى أرى ركبي بهم قافلا

وربعكم أضحى به آهلا فالله أرجو داعياً سائلا أن يجمع الشمل بكم عاجلا ... في ذلك المغنى العديم المثال ومن نظم أبن خميس التلمساني المذكور قوله: نظرت إليك بمثل عيني جوذر ... وتبسمت عن مثل يمطي جوهر عن ناصعٍ كالدر وكالبرق أو ... كالطلع أو كلأقحوان مؤشر تجري عليه من لماها نطفة ... بل خمرة لكنها لم تعصر لو لم يكن خمراً سلافاً ريقها ... تزري وتلعب بالنهى لم تحظر وكذلك ساجي جفنها لو لم يكن ... فيه مهند لحظها لم يحذر لو عجت طرفك في حديقة خدها ... وأمنت سطوة صدها المتنمر لرتعت من ذاك الحمى في جنةٍ ... وكرعت من ذاك اللمى في كوثر طرقتك وهناً والنجوم كأنها ... حصباء در في بساط أخضر والركب بين مصعدٍ ومصوبٍ ... والنوم بين مسكن ومنفر بيضا إذا أعتكرت ذوائب شعرها ... سفرت فأزرت بالصبح المسفر سرحت غلائلها فقلت سبيكة ... من فضة أو دمية من مرمر منحتك ما منعتك يقظاناً فلم ... تخلف مواعيدها ولم تتغير وكأنما خاف بغاة وشاتها ... فأتتك من أردافها في عسكر ويجزع ذاك المنحنى إدمانه ... تعطو فتسطو بالهزير القسور

وتحية جاءتك في طي الصبا ... أزكى وأعطر من شمم العنبر جرت على واديك فضل ردائها ... فعرفت فيها عرف ذاك الإذخر هاجت بلابل نازحٍ عن إلفه ... متشوقٍ ذاكي الحشى متسعر وإذا نسيت ليالي العهد التي ... سلفت لنا فتذكريها تذكري رحنا تغنينا ونرشف ثغرها ... والشمس تنظر مثل عين الأخزر والروض بين مفضضًو معسجدٍ ... والجو بين ممسك ومعصفر وقد تذكرت بهذه القصيدة قول الأديب أبن مرج الكحل: عرج بمنعرج الكثيب الأعفر ... بين الفرات وبين شط الكوثرِ ولتغتبقها قهوةٍ ذهبيةً ... من راحي أحوى المراشف أحور وعشيةٍ قد كنت أرقب وقتها ... سمحت بها الأيام بعد تعذر نلنا بها آمالنا في روضةٍ ... تهدي لناشقها شميم العنبر والدهر من قدم يسفه رأيه ... فيما مضى منه بغير تكدر والورق تشدو والأرائكة تنثني ... والشمس ترفل في قميص اصفر والروض بين مفضضٍ ومعسجدٍ ... والزهر بين مدهم ومدنر والنهر مرقوم الأباطح والربا ... بمصندل من زهره ومعصفر وكأنه خضرة شطه ... سيف يسل على بساط أخضر

وكأنما ذاك الحباب فرنده ... مهما طفا في صفحه كالجوهرِ وكأنه وجهاته محفوفة ... بالآس والنعمان خد معذرِ نهر يهيم بحسنه من لم يهم ... ويجيد فيه الشعر من لم يشعرِ ما أصفر وجه الشمس عند غروبها ... إلاّ لفرقة حسن ذاك المنظرِ وما أحسن قول أبن الكحل المذكور: رأوا بالجزع برقاً فاستهاموا ... ونام العاذلون ولم يناموا وعندي من مراشفها حديث ... يخبر أنَّ ريقها مدام وفي أجفانها السكرى دليل ... وما ذقنا ولا زعم الهمامُ تعالى الله ما أجرى دموعي ... إذا عرضت لمقلتي الخيامُ واشجاني إذا لاحت بروق ... وأطربني إذا غنى الحمامُ وكان السلطان أبو عنان المربني رحمه الله كثير الاعتناء بنظم الشيخ أبي عبد الله بن خميس وحفظه وروايته. قال رحمه الله: أنشدني بلفظه الشيخ الفقيه القاضي المحدث، الراوية العالم المدرس، خطيب حضرتنا العلمية، أبو عبد الله محمّد بن الشيخ الأجل، الصالح المبارك الراوية، المرحوم أبي الحسن بن عبد الرزاق وذلك بقصر المصارة يمنه الله في يوم الأثنين خامس عشر من شهر المحرم المبارك مقتتح عام خمسة وخمسون وسبع منه؛ قال أنشدنا شيخ الأدباء، وفحل الشعراء، أبو عبد الله محمّد بن عمر بن محمّد بن خميس الحميري، ثم الحجري: حجر ذي رعين، لنفسه، رحمه الله تعالى:

أنبت ولكن بعد طول عتاب ... وفرط لجاجٍ ضاع فيه شبابي وما زلت والعليا تغني غريمها ... أعلل نفسي دائماً بمتابِ وهيهات من بعد الشباب وشرخه ... يلذ طعامي أو يسوغ شرابي خدعت بهذا العيش قبل بلائه ... كما يخدع الصادي بلمع سرابِ تقول هو الشهد المشور جهالةً ... وما هو إلاّ السم شيب بصابِ وما صاحب الدنيا كبكرٍ وتغلبٍ ... ولا ككليب رىء فحل ضرابِ إذا كعت الأبطال عنها تقدموا ... أعاريب غراء في متون عرابِ وإن ناب خطب أو تفاقم معضل ... تلقاه منهم كل اصيد نابِ تراءت لجالسٍ مخيلة فرصةٍ ... تأتت له في جيئة وذهابِ فجاء بها شوهاء تنذر قومها ... بتشييد أرحامٍ وهدم قبابِ وكان رغاء السقب في قوم صالح ... حديثاً فأنساه رغاء سرابِ فما سمع الآذان في عرصاتهم ... سوى نوح ثكلى أو نعيب غرابِ وسل عروة الرحال عن صدق بأسه ... وعن بيته في جعفر بن كلابِ

وكانت على الأملاك منه وفادةٌ ... إذا آب منها آب خير مآبِ يجير الحيين قيس وخنف ... بفضل يسار أو بفضل خطابِ زعامة مرجو النوال مؤل ... وعزمة مسموع الدعاء مجيبِ فمر يزجيها حواسر ظلعاً ... بما حملوها من منى ورغابِ إلى فدكٍ والموت أقرب غايةً ... وهذا المنى يأتي بكل عجابِ تبرض صفو العيش حتى استسفه ... فداف له البرض فشب حبابِ فأصبح في تلك المعاطف نهزةً ... لنهب ضباع أو لنهش ذئابِ وما سمه عند النضال بأهزعٍ ... ولا سيفه عند المصاع بنابي ولكنها الدنيا تكر على الفتى ... وإن كان منها في أعز نصابِ وعادتها ألا توسط عندها ... فإما سماء أو تخوم ترابِ فلا ترج من دنياك وداً وإن يكن ... فما هو إلاّ مثل ظل سحابِ ومثال الحزم كل الحزم إلاّ اجتنابها ... فأشقى الورى من تصطفي وتحابي أبيت لها ما دام شخصي أن ترى ... تمر ببابي أو تطور جنابي فكم عطلت من أربع وملاعبٍ ... وكم فرحت من أسرةٍ وصحابِ وكم عفرت حاسر ومدجج ... وكم أثكلت من معصر وكعابِ إليك بني الدنا نصيحة مشفق ... عليكم بصيرٍ بالأمور نقابِ

طويل مراس الدهر جزلٍ مماحك ... عريض مجال الهم حلس ركابِ تأتت له الأوهام أدهم سابقاً ... وغصت به الأيام أشهب كابي ولا تحسبوا أني على الدهر عاتب ... فأعظم ما بي منه أيسر مابي وما أسفي إلاّ شباب خلعته ... وشيب أبى إلاّ نصول خضابِ وعمر مضى لم أحل منه بطائل ... سوى ما حلا من لوعة وتصابي ليالي شيطاني على الغي قادرٌ ... وأعذب ما عندي أليم عذابِ عكسنا قضايانا على حكم عادنا ... وما عكسها عند النهى بصوابِ على المصطفى المختار أزكى تحيني ... فتلك التي أعتد يوم حسابي فتلك عتادي أو ثناء أصوغه ... كدر سحاب أو كدر سخابِ ومن مشهور نظم أبي خميس رحمه الله تعالى: عجباً لها أيذوق طعم وصالها ... من ليس يأمل أن يمر ببابها وأنا الفقير إلى تعلة ساعةٍ ... منها وتمنعني زكاة جمالها كم ذاد عن عيني الكرى متألق ... يبدو ويخفي في خفي مطالها يسمو له بدر الدجى متضاءلا ... كتضائل الحسناء في أسمالها وأين السبيل يجيء يقبس نارها ... ليلا فتمنحني عقيلة مالها يعتادني في النوم طيف خيالها ... فتصبني ألحاظها بنبالها كم ليلةٍ جاءت به فكأنما ... زفت على ذكاء وقت زوالها

أسرى فعطلها وعطل شهبها ... بأبي شذا المعطار من معطارها وسواد طرته كجنح ظلامها ... وبياض غرته كضوء هلالها دعني أشم بالوهم أدنى لمعةٍ ... من ثغرها وأشم مسكة خالها ما راد طرفي حقيقة خدها ... إلاّ لفتنتة بحسن دلالها أنسيب شعري رق مثل نسيمها ... فشمول راحك مثل ريح شمالها وأنقل أحاديث الهوى وأشرح غريب لغاتها واذكر ثقات رجالها وإذا مررت برامةٍ فتوق من ... أطلائها وتمس في أطلالها وانصب لغزلها حبالة قانصٍ ... ودع الكرى شر كالصيد غزالها وأسل جداولها بفيض دموعها ... وانضح جوانحا بفضل سجالها أنا من بقية معشر عركتهم ... هذى النوى عرك الرحى بثفاله أكرم بها فئة أريق نجيعها ... بغيا فراق العين حسن مألها حلت مدامة وصلها وحلت لهم ... فإن انتشوا فبحلوها وحلالها بلغت بهرمس غاية ما نالها ... أحد وناء لها لبعد منالها وعدت على سقراط سورة كأسها ... فهرق ما في الدن من جريالها وسرت إلى فارات منها نفحة ... قدسية جاءت بنخبة آلها ليصوغ من ألحانه في حانها ... ما سوغ القسيس من أرمالها وتغلغلت في سهر ورد فأسهرت ... عيناً يؤرقها طوق خيالها

فخبا شهاب الدين لمّا أشرفت ... وخوى فلم يثبت لنور جلالها ما جن مثل جنونه أحد ولا ... سمحت يد بيضا بمثل نوالها وبدت على الشوذى منها نشوة ... ما لاح منها غير لمعة آلها بطلت حقيقته وحالت حاله ... فيما يعبر عن حقيقة حالها هذى صبابتهم ترق صبابةً ... قيروق شاربها صفاء زلالها اعلم أبا الفضل بن يحيى أنني ... من بعدها أحرى على آمالها فإذا رأيت مدلها مثلي فخذ ... في عذله إن كنت من عذالها لا تعجبن لمّا ترى من شأنها ... في حلها إن كان أو ترحالها فصلاحها بفسادها ونعيمها ... بعذابها ورشدها بضلالها ومن العجائب أن اقيم ببلدةٍ ... يوماً وأسلم من أذى جهالها شغلوا بدنياهم أما شغلتهم ... عني فكم ضيعت من اشغالها حجبوا بجهلهم فإن لاحت لهم ... شمس الهدى عبثوا بضوء ذبالها وإن انتسبت فإنني من دوحة ... يتفيأ الإنسان برد ظلالها من حمير من ذي رعين من ذوي ... حجر من العظماء من أقيالها وإذا رجعت لطينتي معنى فما ... سلساله بأرق من صلصالها لله درك أي نجل كريمةٍ ... ولدت فاس منك بعد حيالها

ولأنت لا عدمتك والد فخرها ... وسماك سؤددها وبدر كمالها اغلظ على عاث من أنذالها ... واخشع لمن تلقاه من أبدالها والبس بما أوليتها من نعمةٍ ... حلل الثناء وجر من اذيالها خذها أبا الفضل بن يحيى تحفة ... جاءتك لم ينسج على منوالها ما جاء في مضمارها شعر ولا ... سمعت قريحة شاعرٍ بمثالها وأنل أبا البركات من بركاتها ... وادفع محال شكوكه من آلها قال السلطان أبو عنان رحمه الله: أخبرنا شيخنا الإمام العالم العلامة، وحيد زمانه، أبو عبد الله محمّد بن إبراهيم الآبلي رحمه الله قال: لمّا توجه الشيخ الصالح الشهير أبو إسحاق التنسي من تلمسان إلى بلاد المشرق اجتمع هناك بقاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد، فكان من قوله له: كيف حال الشيخ العالم أبي عبد الله بن خميس؟ وجعل يحليه بأحسن الأوصاف ويطنب في ذكر فضله فبقى السيخ أبو إسحاق متعجباً، وقال: من يكون هذا الذي حليتموه بهذا الحلى ولا أعرفه ببلدي؟ فقال له هو القائل: " عجباً لها أيذق طعم وصالها " قال: فقلت له: إنَّ هذا الرجل ليس هو عندنا بهذه الحالة التي وصفتم، إنّما هو عندنا شاعر فقط. فقال له: إنكم لم تنصفوه، أنّه لحقيق بما وصفناه. قال السلطان أبو عنان: وأخبرنا شيخنا أبو عبد الله المذكور إنَّ قاضي القضاة أبن دقيق العيد كان قد جعل القصيدة المذكورة بخزانته كانت له، تعلو موضع جلوسه للمطالعة وكان يخرجها من تلك الخزانة ويكثر تأمله والنظر فيها. ثم قال السلطان أبو عنان: قال لنا شيخنا أبو عبد الله الآبلي المذكور:

وقد تعرفت أنّه لمّا وصلت هذه القصيدة إلى قاضي القضاة تقي الدين المذكور لم يقرأها حتى قام إجلالا لها. انتهى. وقد وصل أبي خميس رحمه الله هذه القصيدة إلى قاضي القضاة بنثر لم أثبته هنا لطوله، ولمّا قيل إنَّ هذا الرجل معري النزعة أي نظمه أحسن من نثره؛ وقد أوردها أبن الخطيب في الإحاطة وأوردها السلطان أبو عنان في مروياته. وكان أبي خميس بعد مفارقته بلده تلمسان، سقى الله أرجاءها أنواء نيسان كثيرا ما يتشوق لمشاهدها ويتأوه عند تذكره لمعاهدها، وهي شيمة الأحرار في حنينهم إلى أوطانهم وللدهر إحلاء وإمرار. فمن ذلك قوله رحمه الله تعالى: تلمسان لو أنَّ الزمان بها يسخو ... منى النفس لا دار السلام ولا الكرخُ وداري بها الأءلى التي حيل دونها ... مثار الأسى لو أمكن الحنق اللبخُ وعهدي بها والعمر في عنفوانه ... وماء شبابي لا أجين ولا مطخُ قرارة تهيام ومغنى صبابةٍ ... ومعهد أنس لا يلذ به لطخُ إذ الدهر مثنى العنان منهنه ... ولا ردع يثني من عنان ولا ردخُ ليالي لا أضغي إلى عذل عاذل ... كأن وقوع العذل في اذني صمخُ معاهد أنس عطلت فكأنها ... ظواهر ألفاظٍ تعمدها النسخُ وأربع آلاف عفا بعض آيها ... كما كان يعرو بعض ألواحنا اللطخُ

فمن يك سكراناً من الوجد مرةً ... فإني منه طول دهري لملتخ أأنسى وقوفي لاهيا في عراصها ... ولا شاغل إلاّ التودع والسبخ وإلاّ اختبالي ماشيا في سماطها ... رخيا كما يمشي بطرته الرخ وإلاّ فعدوي مثل ما ينفر الطلا ... وليدا وحجلي مثل ما ينهض الفرخ كأني فيها أردشير بت بابك ... وملك لي إلاّ الشبيبة والشرخ وإخوان صدق من لداتي كأنهم ... جآدر رمل لا عجاف ولا بزخ وعاة لمّا يلقى إليهم من الهدى ... وعن كل فحشاء ومنكر صلخ هم القوم كل القيوم سيان في العلا ... شبابهم الفرعان والشيخة السلخ مضوا ومضى ذاك الزمان وأنسه ... ومر الصبا والمال والأهل والبذخ كأنهم لم يكن يوما لأقلامهم بها ... صرير ولم يسمع لأكعابهم جبخ ولم يك من أرواحها من ثنائهم ... شيم ولا في القضب من لينهم ملخ ولا في محيا الشمس من هديهم سنى ... ولا في جبين البدر من طيهم ضمخ

سعيتم بني عمور في شت شملنا ... فما تجركم ربح ولا عيشنا ربخ دعيتم إلى ما يرتجى من صلاحكم ... فردكم عنه التعجرف والجمخ تعاليتم عجبا فطم عليكم ... عباب له في رأس عليائكم جلخ وهي طويلة جدا ألم فيها بمدح سبتة وملوكها بني العزفي فقال: تركت لمينا سبتة كل نجمة ... كما تركت للعز أهضابها الشمخ وآليت إلاّ أرتوي غير مائها ... ولو حل لي في غيره المن والمذخ وألا أحط الدهر إلاّ بعقرها ... ولو بوأتني دار إمرتها بلخ فكم نقعت من غلة تلكم الأضا ... وكم أبرأت من علة تلكم اللبخ وحسبي منها عدلها واعتدالها ... وأبحرها العظمى وأريافها النفخ وأملاكها الصيد المقاولة الألى ... لعزهم تعنو الطراخمة البلخ كواكب هدى في سماء رياسة ... تضئ فما يدجوا ظلال ولا يطخو ثواقب أنوارها ترى كل غامض ... إذا الناس في طخياء غبها التخوا

وروضات آداب إذا ما تأرجت ... تضاءل في أفياء أفنانها الرمخ مجامر ند في حدائق نرجس ... تنم ولا لفح يصيب ولا دخ وأبحر علم لا حياض رواية ... فيكبر منها النضح أو يعظم النظج بنو العزفيين الألى من صدورهم ... وأيديهم تملا القراطيس والرخ إذا مثال الفتى منهم تصدى لغاية ... تأخرت من ينحو وأقصر من ينخو رياسة أخيار وملك أفاضل ... كرام لهم في كل صالحة رضخ إذا ما بدا منا جفاء تعطفوا ... علينا وإن حلت بنا شدة رخوا نزورهم حذا نحافي فننثني ... وأجمالنا دلح وأبداننا دلخ يربوننا بالعلم والحلم والنهى ... فما خرجنا بز ولا حدنا برخ والزهد في أملاك التقى ... ببدع وللدنيا لزوق بمن يرخو وإلاّ ففي رب الخورنق غنية ... فما يومه سر ولا صيته رضخ

تطلع يوما والسدير أمامه ... وقد نال العجب ما شاء والجفخ وعن له من شيعة الحق قائم ... بحجة صدق لا عبام ولا وشخ فأصبح يجتاب المسوح زهادة ... وقد كان يؤذى بطن أخمصه النخ وفي واحد الدنيا أبي حاتم لنا ... دواء ولكن ما لأدوائنا نتخ تخلى عن الدنيا تخلى عارف ... يرى أنها في ثوب نخوته لتخ وأعرض عنها مستهينا بقدرها ... فلم يثنه منها اجتذاب ولا مصخ فكان له من قلبها الحب والهوى ... وكان لها من كفه الطرح والطخ وما الغرض عنها وهي في طلابه ... كمن في يديه من معاناتها نبخ ولا مدرك ما شاء من شهواتها ... كمن حظه منها التمجع والنجخ ولكننا نعمى مرار عن الهدى ... ونصلج حتى ما لآذاننا صمخ

وما لامري عما قضى الله مزحل ... ولا لقضاء الله نقض ولا نسخ أبا طالب لم تبق شيمة شؤدد ... يساد بها إلاّ وأنت لها سنخ لسوغت أبناء الزمان أياديا ... لدرتها في كل سامعة شخ وأجريتها فيهم عوائد سؤدد ... فما لهم كسب سواها ولا نخ غذتهم غواديها فهي في عروقهم ... دماء وفي أعماق أعظمهم مخ وعمتهم حزنا وسهلا فأصبحوا ... ومرعاهم وزخ ومرعيهم ولخ بني العزفيين أبلغوا ما أردتم ... فما دون ما تبلغون وحل ولا زلخ ولا تقعدوا عمن أراد سجالكم ... فما غربكم جف ولا غرفكم وضخ وخلوا وراء كل طالب غاية ... وتيهو على من رام شأوكم وانخوا ولا تذروا الجوزاء تعلو عليكم ... ففي رأسها من وطء أسلافكم شدخ لأفواه أعدائي وأعين حسدي ... إذا جليت خائيتي الغص والفضخ دعواها تهادي في ملاءة حسنها ... ففي نفسها من مدح أملاكها مدخ

يمانية زارت يماني فانثنت ... وقد جد فيها الزهو واستحكم الزمخ ومن مطلع قصيدة لابن خميس رحمه الله في مدح بلدة تلمستان حاطها الله تعالى قوله: تلمستان جادتها الغوادي الروائح ... وأرست بواديها الرياخ اللواقح وسح على ساحات باب جيادها ... ملث يصافي تربها ويصافح يطير فؤادي كلما لاح بارق ... ويزداد شوقي كلما مر سانح ولم يعلق بحفظي من هذه القصيدة سوى ما ذكرت. وكنت تركتها بتلمستان ولم أرها الآن بفاس حماها الله. وباب جياد التي أشار إليها هي إحدى أبواب تلمسان المحروسة وفيها يقول الفقيه العلامة الناظظم الناثر أبو عبد الله محمّد بن يوسف الثغري من قصيدة رفعها للسلطان أبي حمو رحم الله الجميع: أيها الحافظون عهد الوداد ... جددوا أنسنا بباب الجياد وصلوها أصائلا بليال ... كلآل نظمن في الأجياد في رياض منضدات المجاني ... بين تلك الربا وتلك الوهاد وبورج مشيدات المباني ... باديات السنى كمشهب بوادي رق فيها النسيم مثل نسيبي ... وصفا النهر مثل صفو دوادي ورها الزهر والغصون ثثنت ... وتغنت عليه ورق شوادي

وانبرى كل جدول كحسام ... عاري الغمد سندسي النجاد وظلال الغصون تكتب فيه ... أحرفا سطرت بعير مداد تذكر الوشم في معاصم خود ... قضب فوقه ذوات امتداد وكئوس المنى تدار علينا ... بجنى عفة ونقل اعتقاد واصفرار الأصيل فيها مدام ... وصفير الطيور نغمة شادي كان غدونا بها لانس روحنا ... جادها رائح من المزن غادي ولكم روحة على الدوح كادت ... أن تربح الصبا لنا وهو غادي ورقت الشمس في عشاياها حتى ... أحدثت منه رقة في الجماد جددت بالغروب شجو غريب ... هاجه الشوق بعد طول البعاد يا حيا المزن حيها من بلاد ... غرس الحب غرسها في فؤادي وتعاهد معاهد الأنس منها ... غرس الصبا بصوب العهاد حيث مغنى الهوى وملهى الغواني ... ومراد المنى ونيل المراد ومقر العلا ومرقى الأماني ... ومجرى القنى ومجرى الجياد كل حسن على تلمستان وقف ... وخصوصا على ربا العباد ضحك النور في رباها وأربى ... كهف ضحاكها على كل نادي وسما تاجها على كل تاج ... وسطا على كل وادي

يدعى غيرها الجمال فيقضي ... حسنها أنَّ تلك دعوى زياد وبشعري فهمت معنى علاها ... من حلاها فهمت من كل وادي حضرة زانها الخليفة موسى ... زينة الحلي عاطل الأجياد وحبها بكل عذل وعدل ... وحماها من كل باغ وعادي ملك جاوز المدى في المعالي ... فالنهايات عنده كالمبادي معقل للهدى منيع النواحي ... مظهر للعلا رفيع العماد قاتل المحل والأعادي جميعا ... بغرار الظبا وغر الأيادي كلما ضنت السحائب أغنت ... راجتاه عن السحاب الغوادي كم هبات له وكم صدقات ... عائدات على العفاة بوادي فأيادي خليفة الله موسى ... أبحرت عذبة على الوراد ركب الجود في بسيط يديه ... فتلافى به تلاف العباد جل باريه ملجأ للبرايا ... كالحيا ضامنا حيا البلاد جل من خصه بتلك المزايا ... باهرات من طارف وتلاد شيم حلوة الجنى وسجايا ... يشيد المحد أنها كالشهاد يا إمام الهدى وشمس المعالي ... وغمام الندى وبدر النوادي لك بين الملوك سر خفي ... ليس معناه للعقول ببادي

فكأن البلاد كفك مهما ... كان فيها من ينتمي للعباد قبض كفك البنان عليه ... فانثنى بالإذعان حلف انقياد وبكم تصلح البلاد جميعا ... إن آراءكم صلاح البلاد لم نزل دائما تحن إليكم ... كحنين السقيم للعواد لو أعينت بمنطق شطرتكم ... مثل شكر العفاة للأجواد قد أطاعتكم البلاد جميعا ... طاعة أرغمت أنوف الأعادي فأريحوا الجياد أتعبتموها ... وأقروا السيوف في الأغماد واهنئوا خالدين في عز ملك ... قائم السعد دائم الإسعاد وإليكم من مذهبات القوافي ... حكما سهلت ليان المقاد كل بيت من النظام مشيد ... عطر الأفق بالثناء المشاد ذو ابتسام كزهر روض مجود ... وانتظام كسلك در مجاد ومن قول الثغري المذكور في تلمستان وسلطانه أيضاً: تاهت تلمستان بحسن شبابها ... وبدا طراز الحسن في جلبابها فالبشر يبدو من حباب ثغورها ... متبسما أو من ثغور حبابها قد قابلت زهر النجوم بزهرها ... وبروجها ببروجها وقبابها حسنت بحسن مليكها المولى أبي ... حمو الذي يحمي حمى أربابها ملك شمائله كزهر رياضها ... ونداه فاض بها كفيض عبابها

رحمه الله

أعلى ملوك الصيد من أعلامها ... وأجلها من صفوة ولبابها غارت بغرة شمس الضحى ... وتنقبت خجلا بثوب ضبابها والبدر حين بدت أشعتها له ... حسنا تضاءل نوره وخبا بها لله حضرته التي قد شرفت ... خدامها فسمو بخدمة بابها فاللثم في يمناه يبلغها المنى ... والمدح في علياه من أسبابها وتذكرت بقوله رحمه الله تعالى: أيّها الحافظون عهد الوداد ... جددوا أنسنا بباب الجياد قصيدة أبي المكارم منديل بن آجروم في ذكر فاس المحروسة وباب الفتوح منها وموضع من متنزهاتها ولا شك أنَّ كل واحدة من هاتين القصيدتين تنظر إلى الأخرى وناظماها متعاصران فالله أعلم أيهما أخذ من الآخر على أنَّ الورى مختلف وقد يقال إنَّ ذلك من باب توارد الخواطر. ونص قصيدة أبن آجروم المذكور: أيها العارفون قدر الصبوح ... جددوا أنسنا بباب الفتوح جددوا ثم أنسنا ثم جدوا ... نسرح الطرف من مكان فسيح حيث شابت مفارق اللوز نورا ... وتساقطن كاللجين الصريح وبدا منه كل ما أحمر يحكى ... شفقا مزقته أيدي الريح

وكأن الذي تساقط منه ... نقط لحن من دم مسفحِ وإذا ما وصلتم للمصلى ... فلتحلوا بموضع التسبيح وبطيفورها فطوفا لكيما ... تبصروا من ذراه كل سطوح ولتقيموا هناك لمحة طرفٍ ... لتردوا بها دماء الروحِ ثم حطوا رحالكم فوق نهر ... كل في وصفه لسان المديح فوقحافاته حدائق خضر ... ليس عنها لعاشق من نزوح وكأن الطيور فيها قيان ... هتفت بين أعجمٍ وفصيحِ وهي تدعوكم إلى قبة الجو ... ز هلموا إلى مكان مليحِ فيه ما تشتهون من كل نور ... مغلق في الكمام أو مفتوح وغصونٍ تهيج رقصاً متى ما ... سمعت صوت كل طير صدزحِ فأجيبوا دعاءها أيها الشر ... باب وخلوا مقال كل نصيح واجنحوا للمجون فهو جدير ... وخليق من مثلكم بالجنوح واخلعوا ثم للتصابي عذارا ... إن خلع العذار غير قبيح وإذا شئتم مكاناً سواه ... هو أجلى من ذلكم في الوضوح فاجمعوا أمركم لنحو أتى ... جاء كالصل من قفار فيحِ عطرت جانبيه كف الغوادي ... بشذا عرف زهرها الممنوح قل لمهيار إن شممت شذاها ... قول مستخير أخي تجريحِ أين هذا الشذا الذكي من القي ... صوم والرند والغضا والشيح حبذا ذلك المهاد مهاداً ... بين دان من الربا ونزوحِ ثم من ذلك المهاد أفيضوا ... نحو هضبٍ من الهموم مريحِ

نظم ابن خميس

فيه للحسن دوحة وزوايا ... وانشراح لذي فؤادٍ قريح وحجار تدعى حجار طبول ... غير أنَّ التطبيل غير صحيحِ تنشر الشمس ثم كل غدو ... زعفراناً مبللا بنضوح وسبو من هناك يسبي عقولا ... ويجلي لحاظ طرفٍ طموحِ وعيون بها تقر عيون ... وكلام يأسو كلوم الجريحِ فرشت فوقها طنافس زهر ... ليس كالعهن نسجها والمسوحِ كلما مر فوقهن طليح ... عاد من حسنهن غير طليحِ فانهضوا أيّها المحبون مثلي ... لنرى ذات حسنها المملوح هكذا يربح الزمان وإلاّ ... كل عيش سواه غير ربيح نظم ابن خميس رحمه الله ومن بديع نظمه قصيدة مدح الوزير أبن الحكيم. قال أبن الخطيب: وهي من مشاهير أمداحه فيه، وكتب بها إليه من المرية، وألم فيها بذكر بلده تلمسان، وما حل بها من البلاء والحصار في ذلك التاريخ من قبل السلطان أبي يعقوب يوسف أبن السلطان المجاهد الكبير

أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، نفعنا الله ببركاته، في أهل تلمسان المحصورين فلم يقبل شفاعتهم، فقال الشيخ سيدي أبو زيد كلاماٍ معناه: إنَّ سعادة يقضي هذا، ورجع الشيخ إلى فاس، فاتفق هذا العبد كان مع السلطان في الحمام، وكان له عليه حقد، فانتهز فيه الفرصة ووجأه بخنجر، فكان في ذلك حتفه، فنفس الله أهل تلمسان بعد حصارها نحو العشر سنين. ولمّا وصل الخبر إلى سيدي أبي زيد بموت السلطان قال: وعبد الرحمن يموت، يعني نفسه؛ و " يموت ": بتشديد الميم، على لغة البربر؛ فتوفى رحمه الله ودفن بمسجد الصابرين، وقبره مشهور مقصود الإجابة، نفعنا الله به، وقد زرته مرارا لا أحصيها، ودعوت الله عنده بما أرجو قبوله. وقد أشار أبو عبد الله بن خميس في هذه القصيدة إلى ذلك الحصار وكان من الاتفاق الغريب، سرعة وقوع ما تمناه أبن خميس هذه من الخبر، بعد طول المحنة، واشتداد البلاء، ولم يتأخر ذلك عن تاريخ القصيدة غير أربعة أشهر. ونص القصيدة: سل الريح لم تسعد السفن أنواء ... فعند صباها من تلمسان أنباء

وفي خفقان البرق منها إشارة ... إليك بما تنمى إليك وإيماء تمر الليالي ليلة بعد ليلة ... وللأذن إصغاء وللعين إكلاء وإني لصبوا للصبا كلما سرت ... وللنجم مهما كان للنجم إسراء وأهدي إليها كل يوم تحية ... وفي رد إهداء التحية إهداء واستجلب النوم الغرار ومضجعي ... قتاد كما شاءت نواها وسلاء لعل خيالا من لديها يمر بي ... ففي مره بي من جوى الشوق إبراء وكيف خلوص الطيف منها ودونها ... عيون لها في كل طلعة راء وإبي لمشتاق إليها ومنبي ... ببعض اشتياقي لو تمكن إنباء وكم قائل تفنى غراما بحبها ... وقد أخلفت منها ملاء وأملاء اعشرة أعوام عليها تجرمت ... إذا ما مضى قيظ بها جاء إهراء يطنب فيها عائثون وخرب ... ويرحل عنها قاطعون وتناء كأن رماح الناهبين أملكها ... قداح وأموال المنازل ابداء

فلا تبغين فيها مناخاً لراكب ... فقد قلصت منها ظلال وأفياء ومن عجبٍ أن طال سقمي ونزعها ... وقسم أضناء عليها وأطناء وكم أرجفوا غيظاً بها ثم أرجئوا ... فيكذب إرجاف ويصدق إرجاء يرددها عيابها الدهر مثلما ... يردد حرف الفاء في النطق فأفاء فيا من لا نال الردى منه ما اشتهى ... ترى هل لعمر الأنس بعدك إنساء وهل لي زمان أرتجي فيه عودةً ... إليك ووجه البشر أزهر وضاء فياهي مالي إن هلكت ولم أقل ... لصحبي بها الغر الكرام ألا هاءوا لم أطرق الدرب الذي كنت طارقاً ... لعادٍ وبدر الأفق أسمع مشناء أطيف به حتى تهر كلابه ... وقد نام عساس وهوم سباء ولا صاحب إلاّ حسام ولهذم ... وطرف لخد الليل مذ كان وطاء واسحم قاري كشعري حلكة ... تلألأ فيه من سنى الصبح أضواء فما لشربي في سواك مزازة ... ولا لطعمي دون مائك إمراء

ويا داري الأولى بدرب مغيلةٍ ... وقد جد عيث في بلاها وإرداء أما آن أنَّ يعشو لنارك طارق ... جنيب له رفع إليك ودئداء يرجى نوالا أو يؤمل دعوة ... فما زال قارٍ في ذراك وقراْ أحن لها ما أطئت النيب حولها ... وما عاقها عن مورد الماء أظماء فما فاتها مني نزاع على النوى ... ولا فاتني منها على القرب إجشاء كذلك جدى في صحابي وأسرتي ... ومن لي به من أهل ودي إرفاء ولولا جوار أبن الحكيم محمّد ... لمّا فات نفسي من بني الدهر إقماء حماني فلم تنبت محلي نوائب ... بسوء ولم ترزأ فؤادي أرزاء وأكفأ بيتي في كفالة جاهه ... فصاروا عبيدا لي وهم لي أكفاء يؤمون قصدي طاعة ومحبة ... فما عفته عافوا وما شئته شاءوا دعاني إلى المجد الذي كنت آملا ... فلم يك لي عن دعوة المجد إبطاء وبواني من هضبة العز تلعةً ... يناجي السها منها صعود وطأطاء

يشيعني منها إذا سرت حافظ ... ويكلوني منها إذا نمت كلاء ولا مثل نومي في كفالة غيره ... وللذئب إلمام وللصل إلماء بغيضة ليث أو بمرقاب خارب ... تبز كسا فيه وتقطع أكساء إذا كان لي من نائب الملك كافل ... ففي حيثما هومت كن وإدفاء وأخوان صدقٍ من صنائع جاهه ... يبادرني منهم قيام وإيلاء سراع لمّا يرجى من الخير عندهم ... ومن كل ما يخشى من الشر أبراء إليك أبا عبد الإله صنعتها ... لزومية فيها لوجدي إفشاء مبرأة مما يعيب لزومها ... إذا عاب إكفاء سواها وإيطاء أذعت بها السر الذي كان قبلها ... عليه لأحناء الجوانح إضناء وإنَّ لم يكن الذي كنت آملا ... وأعوز إكلاء فما عاز إكماء ومن يتكف مفخما شكر منةٍ ... فما لي إلى ذاك التكلف إلجاء إذا منشد لم عنك ومنشي ... فلا كان إنشاد ولا كان إنشاء وأبن الحكيم المذكور: هو ذو الوزارتين أبو عبد الله محمّد بن عبد الرحمن أبن إبراهيم بن يحيى بن محمّد بن سعد بن محمّد بن فتوح بن محمّد بن أيوب بن محمّد اللخمي، من أهل رندة، الكاتب الأديب البليغ الشهير الذكر بالأندلس، ويعرف بابن الحكيم

أصل سلفه من أشبيلية، من أعيانها، ثم انتقلوا إلى رندة؛ وأوّل من انتقل منهم إليها جده محمّد بن فتوح، في دولة بني عباد، ويحيى جد والده هو المعروف بالحكيم لطبه، وكانوا قديما يعرفون ببني فتوح. قدم ذو الوزارتين أبو عبد الله على حضرة غرناطة أيام السلطان أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن نصر، إثر قفوله من الحج، فألحقه بكتابه، وأقام يكتب له في ديوان الإنشاء، إلى أنَّ توفي هذا السلطان في ثامن شعبان سنة إحدى وسبع مائة، وتقلد الملك بعده ولي عهده أمير المسلمين، أبو عبد الله محمّد المخلوع، فقلده الوزارة والكتابة، وكان مشتركاً معه في الوزارة الوزير الجليل التقي، أبا سلطان عبد العزيز سلطان الداني، فلما توفي أبو سلطان الداني، أفرده سلطانه بالوزارة، ولقبه بذي الوزارتين، وصار صاحب أمره ونهيه، إلى أنَّ توفي بحضرة غرناطة قتيلا، غدوة يوم الفطر، مستهل شوال سنة ثمان وسبع مئة، وذلك لتاريخ خلع سلطانه، وخلافة أخيه أمير المسلمين أبي الجيوش مكانه؛ ومولده ببلده رندة في شهر ربيع الأول سنة ستين وست مائة. وكان رحمه الله علماً في الفضيلة والسراوة ومكارم الأخلاق؛ كريم النفس، واسع الإيثار، متين الحرمة، عالي الهمة، كاتبا بليغا شاعراً، حسن الخط، يكتب خطوطا على أنواع، كليما جليل الانطباع، خطيبا فصيح القلم، زاكي الشيم، مؤثر لأهل العلم والأدب، برا بأهل الفضل والحسب، نفقت في مدته للفضائل أسواق، وأشرقت بإمداده للأفاضل آفاق. وراحل إلى المشرق، وكانت إجازته البحر من المرية، فتقضى فريضة الحج،

وأخذ عمن لقي هنالك من الشيوخ، فمشيخته متوافرة. وكان رفيقه في هذه الوجهة الخطيب أبو عبد الله بن رشيد، فتعاونا على هذا الغرض، وقضيا منه كل نفل ومفترض، واشتركا فيمن أخذا عنه من الأعلام، في كل مقام. وكانت له عناية بالرواية، وولوع بالأدب، وصبابة باقتناء الكتب، جمع من امهاتها العتيقة، وأصولها الرائقة الأنيقة، ما لم يجمعه في تلك الأعصر أحد سواه، ولا ظفرت به يداه. أخذ عنه الخطيب الصالح أبو إسحاق بن أبي العاصي التنوخي، والخطيب أبو عبد الله بن رشيد تدبج معه، وابنه الوزير الكاتب الأديب الفاضل أبو بكر محمّد بن محمّد بن الحكيم، وغيرهم. ومدحه الكاتب العلامة أبو الحسن بن الجياب، ومن بديع ما مدحه به قصيدة رائية رائقة، يهنئه فيها بعيد الفطر، وهي قوله: يا قادما عنت الدنيا بشائره ... أهلا بمقدمك الميمون طائره ومرحبا بك من عيد تحف به ... من السعادة أجناد تظافره قدمت فالخلق في نعمي وفي جذل ... أبدى بك البشر بادبه وحاضره والأرض قد لبست أثواب سندسها ... والروض قد بسمت منه أزاهره حاكت يد الغيث في ساحاته حللا ... لمّا سقا دراكا منه باكره فلاح فيها من الأنوار باهرها ... وفاح من النوار عاطره وأم فيها خطيب الطير مرتجلا ... والزهر قد رصعت منه منابره موشي ثوب طواه الدهر آونة ... فها هو اليوم للأبصار ناشره

فالغصن من نشوة يثني معاطفه ... والطير من طرب تشدو مزاهره وللكمام انشقاق عن أزاهرها ... كما بدت لك من خل ضمائره لله يومك ما أزكى فضائله ... قامت لدين الهدى فيه شعائره! فكم سريرة فضل فيك قد خبئت ... وكم جمال بدا للناس ظاهره فأفخر بحق على الأيام قاطبة ... فما لفضلك من ندٍ يناظره فأنت في عصرنا كابن الحكيم إذا ... قيست بفخر أولى العلياء مفاخره يلتاح منه بأفق الملك نور هدى ... تضائل منه الشمس مهما لاح زاهره مجد صميم على عرش السماك سما ... طالت مبانيه واستعلت مظاهره وزاره الدين والعلم الذي رفعت ... أعلامه والندى الفياض زاخره وليس هذا ببديع مكارمه ... ساوت أوائله فيه أواخره يلقى الأمور بصدر منه منشرحٍ ... بحر وآراؤه العظمى جواهره راعي أمور الرعايا معملاً نظرا ... كمثل علياه معدوماً نظائره والملك سير في تدبيره حكماً ... تنال ما عجزت عنه عسا كره سياسة الحلم لا بطش يكدرها ... فهو المهيب وما تخشى بوادره لا يصدر الملك إلاّ عن إشارته ... فالرشد لا تتعداه مصايره تجرى الأمور على أقصى إرادته ... كأنما دهره فيها يشاوره وكم مقام له في كل مكرمةٍ ... أنست موارده فيها مصادره ففضلها طبق الأفاق أجمعها ... كأنه مثل قد سار سائره فليس يجحده إلاّ أخو حسدٍ ... يرى الصبح فيعشى منه ناظره

لا ملك أكبر من ملك يدبره ... لا ملك أسعد من ملك يؤازره يا عز أمر به اشتدت مضاربه ... يا حسن ملك به أزدانت محاضره تثنى البلاد وأهلوها بما عرفوا ... ويشهد الدهر آتيه وغابره بشرى لآمله الموصول مأمله ... تعساً لحاسده المقطوع دابره فالعلم قد أشرقت نوراً مظالعه ... والجود قد أسبلت سحا مواطره والناس في يسر والملك في ظفر ... عالٍ على كل عالي القدر قاهره والأرض قد ملئت أمنا جوانبها ... بيمن من خلصت فيها سرائره وإلى أياديه من مثنى وموحدةٍ ... تساجل البحر إنَّ فاضت زواخره فكل يوم تلقنا عوارفه ... كساه أمواله الطولي دفاتره فمن يؤدي لمّا أولاه من نعمٍ ... شكراً ولو أنَّ سحباناً يظاهره يا أيها العيد بادر لثم راحته ... فلثمها خير مأمول تبادره وأفخر بان قد لقيت أبن الحكيم على ... عصر يباريك أو دهر تفاخره ولي الصيام وقد عظمت حرمته ... فأجره لك وافيه ووافره وأقبل العيد فاستقبل به جذلا ... وأهنأ به قادما عمت بشائره ومن أحسن ما رثي له رحمه الله تعالى، ثلاثة أبيات لبعض الأعلام من أهالي ذلك الزمان، وهي: قتلوك ظلماً واعتدوا ... في فعلهم حدّثني الوجوب

ورموك أشلاء وذا ... أمر قضته لك الغيوب إنَّ لم يكن لك سيدي ... قبر فقبرك في القلوب قال أبن خاتمة: ومن شعره ما أنشدني ابنه الوزير أبو بكر، مقدمه على المرية، غازيا مع الجيش المنصور، قال أنشدني أبي رحمه الله تعالى: ولمّا رأيت الشيب حل بمفرقي ... نذير بترحال الشباب المفارق رجعت إلى نفسي لها أنظري ... إلى ما أرى، هذا ابتداء الحقائق وأنشدني شيخنا الخطيب أبو إسحاق بن أبي العاصي إذنا، قال أنشدني الوزير أبو عبد الله بن الحكيم إنَّ لم يكن سماعه فإجازة: فقدت حياتي بالمفارق ومن غدا ... بحال نوى عمن يحب فقد فقدْ ومن أجل بعدي عن ديار ألفتها ... جحيم فؤادي قد تلظى وقد وقد وقد سبقه إلى هذا المعنى القائل: أواري أواريِ بالدموع تجلداً ... وكم رمت إطفاء اللهيب وقد وقد فلا تعذلوا من غاب عنه حبيبه ... فمن فقد المحبوب مثلي فقد فقدِ هكذا رواه أبن خاتمة، ورواه غيره هكذا: أواري أواريِ والدموع تبينه ... ون لي بإطفاء الغرام وقد وقد وهو الصواب. قال أبن خاتمة: وأنشدني رئيس الكتاب الصدر البليغ الفاضل، أبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان النجاري، قال: أنشدني رئيس الكتاب الجليل، أبو محمّد عبد المهيمن بن محمّد الحضرمي، قال: أنشدني رئيس الكتاب ذو الوزارتين، أبو عبد الله محمّد بن عبد الرحمن بن الحكيم، رحمه الله تعالى:

سح الكتاب وعنه ... واختم على مكتنه واحذر عليه من مخا ... لسة الرقيب بجفنه واجعل لسانك سجينه ... كي لا ترى في سجنه قال ابن خاتمة: وفي سند هذه القطعة نوع غريب من التسلسل. انتهى. ومن بديع نظم ذي الوزارتين أبن الحكيم قوله رحمه الله: يا ليت شعري هل تطول حياتي ... حتى أرى هذا الزمان الآتي؟ يا رب إن قدرت لي ببلوغه ... فاجعله عصراً بالسرور مواتي وإن انقضت أيام عمري قبله ... فاجعل على ما تريضيه مماتي لا شيء للدنيا وللأخرى معا ... أرجو إذا ضاقت علي جهاتي إلاّ يبقني أنَّ جودك فوق ما ... يرجى وانك غافر الزلات ومن نثره آخر فصل خاطب به الشيخ أبا علي الجراوي رحمه الله قوله: وهأنا أجري معه على حسن مغتقده وأكلمه في هذا الغرض إلى ما رآه بمقتضى تودده وأجيز له ولولديه، اقر الله بهما عينه، وجمع بينهما وبينه رواية جميع ما حملته ونقلته وحسن اطلاعه يفصل من ذلك ما أجملته، فقد أطلعت لهم الإذن في جميعه، وأبحت لهم الحمل عني ولهم الاختيار في تنويعه، والله عز وجل يخص أعمالنا لذاته، ويجعلها ابتغاء مرضاته. قال هذا وكتبه محمّد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن يحيى بن محمّد اللخمي بن

الحكيم، عفا الله عنه، حامدا الله عز وجل ومصليا على رسوله المصطفى، ومسلماً عليه وعلى آله، في منتصف جمادي الآخرة، عام ثلاث وسبع مائة. وحكي غير واحد أنَّ ذا الوزارتين أبن الحم المذكور لمّا اجتمع مع الفقيه الجليل الكاتب أبن أبي مدين أنشده أبن مدين رحمه الله تعالى: عشقتكم بالسمع قبل لقاكم ... وسمع الفتى يهوى لعمري كطرفه وحببني ذكر الجليس إليكم ... فلما التقينا كنتم فوق وصفه فأنشده ذو الوزارتين: ما زلت أسمع عن علياك كل سنى ... أنهى من الشمس أو أجلى من القمرِ حتى رأى بصري فقوق الذي سمعت ... أذني فوفق بين السمع والبصرِ وتذمرت هنا قول الحاج الكاتب أبي إسحاق الحسناوي رحمه الله تعالى: سحر البيان بناني صار يعقده ... والنفث في عقده من منطقي الحسن لا أنشد المرء يلقاني ويبصرني: ... أنا المعيدي فاسمع بي ولا ترني وكان الوزير أبن الحكيم المذكور كما أسلفناه رفيق أبن رشيد الفهري في رحلته الحجازية وقد اشتملت رحلة أبن رشيد على رأي وروى. وهو محمّد بن عمر بن عمر بن محمّد إدريس بن عبد الله بن سعيد أبن مسعود بن حسن بن محمّد الفهري، من أهل سبته، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بأبن رشيد، وكأنه تصغير رشد، الخطيب المحدث الشهير. رحل إلى المشرق لأداء فريضة الحج ولقاء أهل العلم سنة ثلاث وثمانين

وست مائة، وكانت إجازته البحر من المرية فتلاقى بها هو وذو الوزارتين أبو عبد الله بن الحكيم المذكور وكان قصدهما واحد ومسعاهما متعاضداً؛ فترافقا في السفر، كما ترافقا في الوطر. فدخل إفريقية ومصر والشام والحجاز وأخذ عمن لقي من الأئمة الأعلام، وأكثر من هذا الشان وأجاد فيه الضبط والإتقان وتوسع في الرواية وذهب في ذلك إلى ابعد غاية. وكان له تحقق بعلوم الحديث وبزجاله، وضبط أسناده، ومعرفة انقطاعه واتصاله، إماماً في هذا الشأن مشار إليه في هذا الفن معتمداً عليه مع كمال اثقة وشهوة العدالة. قال القاضي أبو البركات أبن الحاج في حقه: أبن رشيد ثقة عدل من أهل هذا الشأن المتحققين به، وكان أيضاً من أهل المعرفة بعلم القراءات وصناعة العربية وعلم البيان والآداب والعروض والقوافي مشاركا في غير ذلك من الفنون من خدام الكتاب والسنة، حسن العهد كريم العشرة براً بأصدقائه، فاضلا في جميع أنحائه، أديباً بليغاً، ذاكراً متأدباً يقرض الشعر على تكلف ويجود النثر ويبصر مواقع حسنه، وأعظم عنايته بعلم الحديث: متنه وسنده ومعرفة رجاله، ولذلك كان جل اشتغاله، وفيه عظم احتماله، حتى حصل منه على غاية قصده ومنتهى آماله. قرأ بسبتة بلده على الأستاذ أبي الحسن بن أبي الربيع القرآن العزيز بالقراءات السبع بمضمن كتاب التفسير، وتفقه عليه في العربية وقيد عنه

تقيداً حسنا على كتاب سيبويه، وأخذ عنه غير ذلك. وقرأ أيضاً الكتاب العزيز على الأستاذ أبي الحسن علي بن محمّد الكتامي أبن الخضار بالمقارئ السبعة، وأخذ بالمرية في اجتيازه عليها، عن الخطيب أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن الصائغ والوزير الأديب أبي جعفر أحمد بن محمّد أبن سلبطور قيد عنه من شعره. ورحل فأخذ ببجاية عن الحافظ أبي محمّد عبد العزيز بن عمر القيسي أبن كحيلا نزيلها. وبتونس عن قاضي الجماعة بها، أبي القاسم بن أبي بكر بن زيتون. وأخذ بإسكندرية عن العدل المبرز سراج الدين أبي بكر بن أحمد بن إسماعيل أبن فارس التميمي، والعدل الصالح أبي عبد الله محمّد بن عبد الخالق بن طرخان القرشي. وبالقاهرة عن الحافظ أبي محمّد عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، والأديب الصوفي شهاب الدين أبي عبد الله محمّد بن عبد المنعم بن محمّد بن يوسف أبن أحمد الأنصاري، أبن الخيمي، نزيل إيوان الحسين رضي الله عنه من القاهرة. وبدمشق عن شيخ الشيوخ عز الدين أبي العز عبد الله بن عبد المنعم أبن علي الحراني، وبقية المسندين فخر الدين أبي الحسن علس بن أحمد بن عبد الواحد المقدسي والمسند أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الملك المقدسي. وبالحرم لاشريف عن المحدث الأديب مقيم الحرم الشريف أبي إسحاق عبد لاصمد بن عبد الوهاب بن عساكر الدمشقي، وبقية المحدثين مقيم الحرمين أبي عبد الله محمّد أبي بكر بن خليل بن إبراهيم المكي. وبالمدينة المشرفة المنورة عن الشيخ الإمام النحوي عفيف الدين أبي محمّد عبد السلام بن محمّد

أبن مزروع البصري وغيرهم. وفي أشياخه كثيرة وقد أودمهم رحلته الحافلة التي سماها: " ملء العيبة فيما جمع بطول الغيبة في الوجهتين الكريمتين إلى مكة وطيبة ". وهب أربعة أسفار وقفت عليها بتلمستان وقد جمع فيها من الفوائد الحديثية والفرائد الأدبية كل غريبة عجيبة. من تآليفه " ترجمان التراجم " في إبداء وجه مناسبات تراجم صحيح البخاري لمّا تحتها مما ترجمت عليه. ومنها " السنن الأبين في السند المعنعن " و " المقدمة المعروفة لعلو المسافة والصفة " و " المحاكمة بين البخاري ومسلم " " إحكام التأسيس في أحكام التجنيس " و " الإضاءات والإنارات " في البديع المسماة: " بإيراد المرتع المربع لرائد التسجيع والترصيع " و " وصل القوادم بالخوافي " شرح فيه كتاب القوافي لشيخه أبي الحسن حازم القرطاجني وجزء مختصر في العروض وتقييد على كتاب سيبويه. وذكر بعضهم أنَّ الإمام أبن رشيد كان ظاهري المذهب والمعروف أنّه كان مالكيا والله اعلم. وكان يعتمد في شرح كلام البخاري على " المحير الفصيح في شرح البخاري الصحيح " لبي عمرو الصفاقسي المعروف بابن التين لأجل حظور البربر في مجلسه ومعتمد المدونة وأبو عمرو في هذا الكتاب ينقل المونة وكلام شراحها عليها. وتكلم يوما بعد فراغه من إسماع الشمائل وكانت بالمغرب فتنة على قوله عليه الصلاة واليلام: " بحسب أصحابي القتل " فقال: معنى الحديث أنّه منجيهم من عذاب الله تعالى كما قالوا: بحسبك زيد ثم قال: على أنّه

روى النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فتنة فعظم أمرها فقالوا: يا رسول الله لئن أدركنا هذا الزمان لنهلكن فقال: كلا غن بحسبكم القتل. ويدل على صحة هذا التأويل ما خرجه أبو داود أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أمتى هذه امة محرومة ليس عليها عذاب في الآخرة عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل ". وترجم عليه أبو داود: " باب ما يرجى في القتل " ثم أدخل الحديث تحت الترجمة. وقال تلميذه أبو إسحاق إبراهيم بن يحيى: أنّه تكلم يوما على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ". فقال: رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو مائة نفس من الصحابة فيهم العشرة المشهود لهم بالجنة ولا يعرف حديث مثله وإن كانت ألفاظه تختلف لكن هو متواتر المعنى. وفي رسمه من حرف الميم من إحاطة أبن الخطيب ما نصه: حدّثني بعض شيوخنا قال: قعد يوما على المنبر فظن أنَّ المؤذن الثالث قد فرغ فقام يخطب والمؤذن قد رفع صوته بأذانه فاستفظع ذلك بعض الحاضرين وهم آخر بإشعاره وتنبيهه وكلمه آخر فلم يثنه ذلك عما شرع فيه وقال بديهة: أيّها الناس رحمكم الله إنَّ الواجب لا يبطله المندوب وإن الأذان الذي بعد الأول غسر مشروع الوجوب فتأهبوا لطلب العلم

وتنبهوا وتذكروا قوله تعالى: ) وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا (فقد روينا عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: " من قال لأخيه والإمام يخطب أنصت فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له ". جعلنا الله وإياكم ممن علم فعمل وعمل فقبل وأخلص فتخلص. فكان ذلك مما استدل به قوة جنانه وانقياد لسانه لبيانه. انتهى. وتذكرت بهذه القضية من قام من اثنتين ولم يذكر حتى استقل ومن نسى المضمضة والاستنشاق حتى شرع في غسل الوجه وراجع شرح أبن ناجي على المدونة فانه ذكر أن بعض شيوخه لم يرجع من الخطبة كما فعل أبن رشيد وبعض الأشياخ رجع لمّا سمع المؤذن وفعل الأول أصوب والله اعلم. وكان رحمه الله تعالى أعني أبن رشيد يقول: ليس بالمغرب عالم إلاّ أبن البنا بمراكش وأبن الشاط بسبتة والقاضي أبا عبد الله محمّد بن محمّد الخمي قرطبي. ومن المشارقة خلق كثير كابن دقيق العيد والشريف أبي الحسين العراقي واخيه أبي إسحاق وجماعة. وفي تأليف أبن رشيد في التجنيس يقول صاحب الفقيه الأديب البارع الفاضل أبو بكر محمّد بن محمّد القالونسي من نظمه حتى طالعه بغرناطة:

أبدع في التجنيس إنشاءا ... فليحو فضل السبق إن شاءا إذ كل من ألف من قبله ... ما جاء فيه بالذي جاءا ومن شعر أبن رشيد رحمه الله تعالى ولنا فيه أسانيد قوله: صيام عاشور أتى ندبة ... في سنة محكمة قاضية قال الرسول المصطفى إنه ... تكفير ذنب السنة الماضية ومن يوسع يومه لم يزل ... في عامه في عيشة راضية ومن ذلك قوله: تغرب ولا تحفل بفرقة معشر ... تفز بالمنى في كل ما شئت من حاج فلولا اعتراب المسك ما حل مفرقا ... ولولا اغتراب الدر لم يحظ بالتاج وقوله رحمه الله تعالى في البحر وقد انبسط عليه ضوء القمر في ليلة البدر: أنظر إلى البدر وقد مدت أشعته ... على خضارة حتى ابيض أزرقه والريح قد صنعت درعا مسمارها ... جباب ماء يروق العين رونقه وذكر رحمه الله تعالى عن أبي الخير الفضل بن على بن نصير بن عبد الله بن رواحة الأنصاري الخزرجي أنّه أملئ عليه بمدينة بلبيس بمصر حرسها الله تعالى: وأرجو إن عجزت عن الأماني ... أمانا من ذمامك يا إلهي فلي ظن أحققه يقينا ... برحمتك التي كل المنى هي وأسأل منك عونا لي على ما ... أمرت به وتركي للمناهي

قال رحمه الله: من عمد إلى أحاديث خراش ودينار وأبي هدبة وشبهم الذين يسميهم أهل الرواية والنقل طيور أنس فمثل هؤلاء لا يعرج عليهم ولا يفرح بعلوهم وروايتهم شبه الريح وإنما يكتب حديثهم للتعريف به. وقد جمع الحافظ أبو الطاهر الأصبهاني جماعة منهم في بيتين فأحس أحسن الله إليه. أنشدني المكتسب الخير المقيد أبو عبد الله محمّد أبن أبي العباس أحمد بن حيان الشاطبي صاحبنا بتونس قال أنشدنا الشيخ الخطيب أبو محمّد بن بركات رحمه الله قال: قرأت على الحافظ أبي عمر بن عات قال: سمعت فيما قري على السلفى رحمه الله تعالى من نظمه: حديث بن نسطور وقيس ويغنم ... وبعد أشج الغرب ثم خراش ونسخة دينار نسخة تربه ... أبى هدبة القيسي شبه فراش قال لي أبو عبد الله الله إذا فرغ من إنشاده لهما ينفخ في يديه. فمثل هؤلاء لا يلتفت إليه ولو بلغ أقصى الممكن في القرب. انتهى.

ووجد بخط القاضي اليزناسي ما نصه: الحمد لله. وقفت على إجازة أبي عبد الله بن رشيد لست العرب بنت عبد المهيمن الحضرمي مؤرخة بغرة محرم عام إحدى وعشرين الذي توفي فيه وقال أحسن الله افتتاحه واختتامه: ومن لم يكن يعرفني فإني: أنا المذنب الخطاء والعفو واسع ... ولو لم يكن ذنب لمّا عرف العفو انتهى. ولمّا قفل الشيخ أبن رشيد من المشرق عاد إلى بلدة سبتة فلم يساعده فيها المقدور ولم يعرف له بها مقدار فكتب إليه رفيقه الوزيرابن الحكيم يستدعيه إلى حضرة غرانطة ويعده بنيل كل أمنيه رعيا لمّا سلف له معه من الصداقة المرعية فأعمل الرحلة إليه حتى قدم الحضرة الغرناطية عليه فألفاه من عناية السلطان تحت جاه واسع فأهله من ماليه وقرب إليه من أمانيه كل شاسع وأكرم مثواه وحمد لديه مغبة سراه وتقدم حينئذ للصلاة والخطبة بالجامع الأعظم بغرناطة وخول كل كرامة ومبرة. ثم لمّا توفى الأستاذ أبو جعفر بن الزبير عن قضاء المناكح خلفه عليها فاتصلت له الأثرة بالأثرة ولم يزل مقيما بحضرة غرناطة منتصبا للإقراء ومركزا لدائرة القراء إلى أن قتل الوزير أبو عبد الله بن الحكيم فرحل أبو عبد الله بن الحكيم فرحل من غرناطة ولحق بحضرة فاس فحل بها تحت عناية وفي كنف رعاية وجعل له الأمر السلطاني الاختيار حيث اختار أو الاستقرار فاختار التحول إلى مراكش إذ كان قبل قد سكنها واستحسنها فورد عليها ورود الإنامة ونزل بها نزول البر والكرامة وقدم للصلاة والخطبة بجامعها العتيق وأقام بها سنين يبث بها

العلم ليس له شغل غير التدريس والتحقيق. ثم غن المقام السلطاني دعاه منها بعد مدة إلى حضرة فاس فانتقل إليها الإيثار والإيناس فلحق بحاضرة السلطان والتحف من الوجاهة النباهة برداء سابغ الأردان وصار في عداد خواصه وآل مجلسه من الخلصاء إلى أن توفي رحمه الله بفاس في الثالث والعشرين من شهر محرم سنة إحدى وعشرين وسبع مائة قيل ليلة الاثنين الرابع والعشرين من شهر محرم. وأما قول من قال إنه توفي ثامن المحرم فغلط. ودفن خارج باب الفتوح بالروضة المباركة المعروفة بمطرح الجنة حيث تدفن العلماء والصلحاء الواردون في فاس من الغرباء. ومولده بسبتة في شهر رمضان سنة سبع وقيل تسع وخمسين وست مائة. وروى عنه الجم الغفير كأبي البركات بن الحاج والأستاذ الخطيب أبي عبد الله بن أبي العاصي التنوخي وآخرين رحم الله جميعهم ونفعنا بهم. وقد قدمنا أنَّ أبن الحكيم تدبج معه ومعنى التدبيج: أن يروى كل واحد من القرينين عن صاحبه. وكان ذو الوزارتين أبو عبد الله بن الحكيم المقدم الذكر محط رحال الأفاضل وكم للناس فيه من أمداح وتآليف وله ألف الشيخ الفقيه المحدث الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن أبي طالب عبد الله العزفي كتاب " الإشادة بذكر المشتهرين من المتأخرين بالإفادة ". وكان أبو القاسم هذا سمع من

أبي جعفر بن الزبير وتوفي رحمه الله يوم الأربعاء الثالث عشر من رجب الفرد من عام سبعة عشر وسبع مائة قرب الزوال بالدرب الطويل من فاس المحروسة وتوفي أخوه الشاعر الجليل أبو العباس أحمد بغرناطة في ذي الحجة من عام ثمانية وستع مائة. ومن إنشاداته في كتاب الإشادة من شعر أخيه أبي العباس المذكور رحمه الله تعالى: ملكت رق بالجمال فأجمل ... وحكمت في قلبي بجورك فاعدل أنت الأمير على الملاح ومن يجر ... في حكمه إلاّ جفونك يعزل إن قيل أنت البدر فالفضل الذي ... لك بالكمال ونقصه لم يجهل لولاك الحظوظ لكنت أنت مكانه ... ولكان دونك في الحضيض الأسفل عيناك نازلتا القلوب فكلها ... أما جريح أو مصاب المقتل هزت ظباها بعد كسر جفونها ... فأصيب قلبي في الرعيل الأول ما زلت أعذل في هواك ولم يزل ... سمعي عن العذال فيك بمعزل صبحت في شغل بحبك شاغل ... عن أن أصيخ إلى كلام العذل لم اهمل الكتمان لكن أدمعي ... هملت ولو لم تعصي لم تهمل جمع الصحيحين الوفاء مع الهوى ... قلبي وأملئ الدمع كشف المشكل وهي طويلة مدح بها الوزير أبن الحكيم وأجاد.

وله من مطلع قصيدة فيه أيضاً: هذا الصباح فغادني بصبوح ... وانهض براحك فهي راحة روحي لا تكترث لخطوب دهرك واسقني ... كأس تحسن منه كل قبيح واسرح سوام اللفظ بين حدائق ... ما سائم في مثلها بمريح فتنت بزهرة زهرها فتمايلت ... تختال في الحبرات نعد مسوح شقت شقائقها جيوب كمائم ... أسفا على زق يخر جريح وعيون نرجسها تلوح شواخصا ... لوميض برق في الكئوس مليح والورد تخجله أنامل سوسن ... تومئ إليه بالسلام وتوحي وأتى الربيع ربوعها بسواجع ... عجم تشق فؤاد كل فصيح سجعت تنشرها بعود شبابها ... فأصخ إلى شق بها وسطيح مالي وللأطلال أسأل صامتا ... منها وأعول في مهامه فيح في الراح الريحان شغل شاغل ... لي عن عيافة بارح وسنيح وأهيم في ورد الخدود وآسها ... لا في عرار بالفلاة وشيح وأصون سمعي عن مقلة عاذل ... لتذللي والحب غير مشيح كم عرضوا لي بالملام وصرحوا ... فعصيت في التعويض والنصريح ومنها أيضاً: عجبا لهم يلقونني بملامهم ... في حب من يسلقون بالتسبيح

إن صوح الروض النضير فخذه ... أزهاره أمنت من التصويح وتحار أعين مبصريه إذا بدا ... في ثقل أرداف وخفة روح قلبي بعذلهم يزيد توقدا ... لا غرو في نار تشب بريح وهي طويلة. ومما أورده في " الإشادة " لبعض الأعلام وأظنه قاضي الموحدين أبا حفص أبن عمر رحمه الله تعالى في وصف الدنيا كلام بديع نصه: هذه الدنيا حفظك الله كما قد علمته فأعرض بحلمك عن جهلها وارغب بنفسك عن أهلها واذكر قبائح أنبائها واصرم وصل أبنائها لا ترتع في روضها ولا تركع في حوضهم وقل الله ثم ذرهم في خوضهم وإذا مررت باللاغين بذكر محاسنها اللاهين بحسن ظاهرها عن قبح باطنها فاله عن لهوهم ومر كريما بلغوهم مر المهتدي في سيره وأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره فالسيادة والسعادة في نبذها لا في أخذها وفي تركها لا في دركها وإليك عن وصلها إليك وعليك بهجرها عليك واتل قوله تعالى:) ولا تمدن عينيك (وقوله تعالى:) ولا تعد عيناك عنهم (واحرص أن يكون منهم فزخرت الدنيا في نظر العين زين وفي نظر العقل شين فغمض عينك تبصر ولا تمدها وأقصر جعلنا الله ممن نظر بفلبه وأبصر بلبه فأولو الألباب والفكر المخصوص بالذكر والعلم أرفع المزايا وأوسع العطايا هو غاية المنال والمدراك من ناله أي شيء فاته ومن فاته أي شيء أدركه ولا علم إلاّ علم الكتاب والسنة هما أفضل العطايا والمنة فمن

علمهما ونظر فيهما وعمل بهما نال غاية السعادة وأدرك منتهى السيادة قال الله تعالى لنبيه الكريم:) ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم (. هذه المزاية العالية والعطايا الواسعة الباقية لا ما نهت عنه الآية الثانية جعلنا الله ممن أبصر رشده وذكر مراده ووجه إليه قصده ورأى في أول أمره آخره وابتغى فيما آتاه الله الدار الآخرة بمنه وفضله. آمين. يا راكضا في طلب الدنيا ... ليس لمن تصرع انتعاش تتح يا عرضة لرام ... أسهمه بالرد تراش تحش نارا هوى لظاها ... بمن له حولها انحياش أعذر منك الفراش ألا ... علمت ما يجهل الفراش تطلبها لا تنام عين ... عنها ولا يستقر جاش من لك بالري من شراب ... يشتد من شربه العطاش دها فطلابها رعاع ... طاشت بألبابهم فطاشوا واظمأ لتروى وكن كقوم ... ماتوا بها عفة فعاشوا لم لم يردوها فهم رواء ... وواردوها هم العطاش كأن آمالنا ظباء ... ونحن من حيرة خراش لا تأمنن بها انبساطا ... به لأعمارنا انكماش

كأن آجالنا صقور ... ونحن من تحتها خشخاش انتهى. وأبو حفص بن عمر هذا هو القاضي الجليل أبو حفص عمر بن القاضي الجليل أبي محمّد عبد الله بن محمّد بن عبد الله بن عمر السلمي. وذكر الحافظ أبن الأبار أن أصله من جزيرة شقر. قال: وولد بأغمات وسكن مدينة فاس. روى عن جده لأمه أبي محمّد عبد الله بن علي اللخمي أجاز له في صغره وعن أبي مروان بن مسرة وأبي عبد الله بن الرمامة وأخذ عن أبي بكر بن طاهر كتاب سيبويه تفهما وكان من أهل المعرفة واليقين أديبا شاعرا مجيدا غلب عليه الأدب حتى عرف به وشهر مع جودت الخط وبراعة الأدوات. وولى قضاء تلمسان ثم نقل إلى قضاء فاس بعد أبيه بزمن وولى قضاء إشبيلية وغيرها ونال دنيا عريضة. وحكى عن أبي الربيع بن سالم أنه توفي بإشبيلية فجأة في الخامس من ربيع الأول سنة ثلاث وست مائة. ومولده في حدود الثلاثين وخمس مائة. وقد غلط أبن فرقد فذكر أنّه ولد سنة خمس وثلاثين وروايته عن جده أبي محمّد عبد الله بن علي المتوفى سنة ثلاث وثلاثين مع صحتها تقضي ببطلان ذ. قال أبن فرقد: توفي عام اثنين وسنة ست مائة بإشبيلية وهو يتولى قضاءها بعد صرف محمّد بن حوط الله وكان أبو حفص قد صرف بأبي محمّد بعد ذلك بعام أو أزيد. ومن مشهور نظمه رحمه الله تعالى يمدح أمير المؤمنين أبا يعقوب يوسف بن عبد المؤمن بن علي الموحدي رحمهم الله تعالى:

الله حسبك والسبع الحواميم ... تغزو بها سبعة وهي الأقاليم سبع المثاني التي لله قمت بها ... علي من نصرها نص تقديم وأنت بالسرور السبع الطوال على ... كل الورى حاكم بالله محكوم والدهر سبعته سبعة جعلت ... جواد مالك والمنصور مخدوم وسبعة الشهب لم تحفل بها ثقة ... بوعد ربك هيهات التناجيم تسمو بنفسي على السبع الشداد سمت ... فينا ثم لنا زلفى وتكريم أنوار عدلك في الآفاق داعية ... هل في البسيطة ظلام ومظلوم أعلى بك الله أعلاما هديت بها ... فأنت فيمن إكمال وتتميم عليك أهل الهدى والحق متفق ... وحبل من فارق الإجماع مصروم ومنها أيضاً: فؤاده بضياء العلم منشرح ... ووجهه بجمال النور موسوم وكفة بطنها بالخير منهمر ... وظهرها لعهود الله ملثوم العلم قيمته والحلم شيمته ... طابت أرومته والنفس والخيم لطالبي العلم ما شاءوا بخدمته ... غنى وعز وإرشاد وتعليم سحب العلوم عليها من سماحته ... تهمي فهم في بحرها هم شرع هيم العين من نظر والأذان في خبر ... لا تشبعان وباغي العلم منهوم يغضي أناة وحلما عالما وله ... في موضع الحق إقدام وتصميم

تشتد فيمن عصى أو خان وطأته ... وفي الثقاف لذات الزيغ تقويم إرادة فوق إدراك العقول لها ... فحسبها منه إيماء وتسليم حتى إذا ما بدا منها النجاح بدت ... كالشمس ما دونها في الجو تغييم انظر خواتمها تفهم مبادئها ... بالشرح ما ليس بالمفهوم مفهوم والحظ سماء علاها عبرة وكفى ... من يسترق سمعها بالشهب مرجوم إنَّ الخليفة سر الله ظاهرة ... آياته وهو عند الله معلوم فسلموا واخلعوا الآراء واتبعوا ... حكم الإمام فما في الدين تحكيم الشرق والغرب من عرب ومن عجم ... في كفه عودهم بالقبض معجوم والبحر والبر من سهل ومن جبل ... جميعها بزام الرأي مخطوم ومنها أيضاً: وكل حدّثني مفاد من علائك من ... نسيمه نفس العلياء مشموم للمسلمين أمير المؤمنين حمى ... يحله من صروف الدهر تحريم الدهر في أنفه من حكمة برة ... بها الزمان على الأبرار مخزوم العلم والدين والدنيا وساكنها ... في سلك رأيك يا وسطاه منظوم جزاء سعيك عند الله مدخر ... هذا كتابك في الأبرار مرقوم عطفا على حسن أمداحي وإن عجزت ... إنَّ الجمال على العلات مرحوم

ما علقوا لو رأوا هذا قفا وألا ... هبي ولو جاءهم حجر وكلثوم إذا لقال لرواية علقمية: ... " هل ما علمت وما استودعت مكتوم "؟ يا سامعي أماديح الإمام ألا ... فاجثوا على الركب الإعظام أو قوموا خذ كأس لفظي دهاقا من مدائحه ... فيها الحقائق لا لغو وتأثيم ندعو له بدلا من مدحه لقصو ... رُبَّ المدح عنه وفيه العذر معلوم عز الإمام فلا تضرب به مثلاً ... من ذا يقاس به ومثل معدوم أعطي الورى فضل ما أعطاه خالقه ... عليه من ربه بشرى وتسليم صل بالصلاة عليه صدق مدحته ... ذاك الرحيق بهذا المسك مختوم وحكى أنّه لمّا قال: يا سامعي أماديح الإمام ألا ... فاجثوا على الركب الإعظام أو قوموا قام جميع من في المجلس وكان فيهم الشاعر المفلق أبو العباس الجراوي فاحتاج إلى مشايعتهم في لذلك وثقل عليه لضخامته فجعل وهو يحاول القيام يسب القاضي أبا حفص عمر ويشير إلى أنّه انتصف منه. وحكى أيضاً أنّه لمّا أنشد القاضي أبو حفص هذه القصيدة قال فيه الجروي المذكور وكان شديد الحسد له والإذاية لعسفه وكان له تقد في تلك الدولة: نبغت عمرة بنت أبن عمر ... هذه فلتعجبوا أم العبر قل لها عني إذا لاقيتها ... قولة تترك في الصخر أثر

هبك كالخنساء في أشعارها ... أو كليلي هل تجارين الذكر فقال أبو حفص حينئذ: نهاني حلمى فلا أظلم ... وعز مكاني فلا أظلم ولا بد من حاسد قلبه ... بنور مآثرنا مظلم رحمت حسودي على أنّه ... يقاسي العذاب وما يرحم بغناك الحسود ولسنا ما ... يقول ولكن كما يعلم وكان أبو العباس الجراوي المذكور هجاء حاضر البادرة سريع الجواب. ومن أغرب ما صدر عنه في ذلك أنّه هجا قبيلة بني غفجوم استطرادا بهجو أهل فاس وقاضيهم أبن الملجوم والكبير البيت الشهير الأصالة فقال: يا بن السبيل إذا نزلت بتادلا ... لا تنزلن على بني غفجوم أرض أغاربها العدو فلن ترى ... إلاّ مجاوبة الصدى للبوم قوم طووا ذكر السماحة بينهم ... لكنهم نشروا لواء اللوم لا يملكون إذا استبيح حريمهم ... إلاّ الصياح بدعوة المظلوم لا حظ في أموالهم ونوالهم ... للسائل العافي ولا المحروم يا ليتني من غيرهم ولو إنني ... من أرض فاس من بني الملجوم ومن نظم القاضي أبي حفص المذكور من مطلع قصيدة يمدح أبا يعقوب بن عبد المؤمن ويهنئه ببيعته الثانية: إلاّ هكذا تبنى العلا والمآثر ... وتسمو إلى الأمر الكبير الأكابر

نؤم لبيعات الرضا مطلع الهدى ... وحيث الهدايا تعتلى والأوامر ومن غزلياته قوله: هم نظموا لواحظها فهاموا ... وتشرب عقل شاربها المدام يخاف الناس مقلتها سواها ... أيذعر قلب حامله الحسام سما طرفي إليها وهو باك ... وتحت الشمس ينسكب الغمام وأذكر قدها فأنوح شوقا ... على الأغصان تنتدب الحمام وأعقب بينها في الصدر غما ... إذا اغتربت ذكاء أتى الظلام وقوله أيضاً رحمه الله: مها القفر لادمية المرمر ... وفي العرب لا في بني الأصفر بنفسي يعافر تلك الخيام ... ومسرحها في النقا الأعفر ملاعب يصبو إليها الحكيم ... ويسلب فيها فؤادي الجري وفي الضباء بنات الأسود ... غيارى متى بغم تزأر فخيس الهزبر كناس الغزال ... به الشبل ناش مع الجؤذر تخالسها نظر تحته ... غرام به الحي لم يشعر وباللحظ يقدح زند الهوى ... فطرف غر وفؤاد بري وكفرها بقوله: بقلبك يا غافلا فانظر ... وعينيك غمضهما تبصر إذا أرسل الطرف هام الفؤاد ... وبعض المرائي عمى المبصر وآفة قلب الفتى عينه ... فإن ترع قلبك لا تنظر ومن قوله: أغار على الصب من أنبه ... هو الحب من يطفه ألهبه

نأى القلب عني وشوقي معه ... فلله أمري ما أعجبه يحن فؤادي إلى قاتلي ... كذلك الهوى عند من جربه ترق شمائل من ذاقه ... وتلطف شمأل من هذبه يجود لمسخطه بالرضا ... ويطلب راحة من اتعبه إذا شف قلبي غرام الهوى ... دعا بالنعيم لمن عذبه وكان القاضي أبو حفص هذا كريما ممدحا وممن أجاد فيه الشيخ الأديب الفقيه أبو العباس أحمد بن أبي الحكم يعيش بن علي بن شكيل الصدفي من أهل شريش المتوفى سنة خمس وست مائة ومولده سنة ثمان وسبعين وخمس مائة وأمداحه فيه كثير قدم قبلها كلاما نصه: فيه استغفرت مجهودي وإليه جلبت عدتي وعديدي لأنه كان آدب أهل زمانه غير مدافع وأولاهم بالفضل غير منازع لتحليه بالتواضع في الجلالة والبشاشة في الجزالة ووردت عليه غلاما أحسب زندي سخاما وحدي كهاما فتلقى نزري بالاستكثارو نسب بحري إلى الاستبحار وأولى نضر الله وجهه من البر لجاني والاستطراف لمذاهبي والثناء على أنديته الآهلة ومجالسه الحافلة ما شهدت له بالتبريز وخلص معه فكرى من تخوف النقدة الحسدة خلوص الإبريز فقدحت فيه زند فكري فورى وفجرت فيه ينبوع شعري فجرى وأطلت فيه إطالة المفتن المغرب وجعلت أمداحه نقلة المشرق والمغرب ومع ذلك لم أنهض إلى عزه اعزه الله حيا وهابطا إلى خطة القضاء فأتى مع سن الشيبة إلى رتبة مشيخة العلماء فراسة منه وتوسما واسترواحا

للنجابة توهما إلاّ إنَّ البلد التي فيها كانت خشنة المباركة فكنت اتقلى فيها على جمر الغضى وأخابطها بما لو ألقي على الحجر لا نفجر وكانت الأناة غالبة على طباعه وجائلة على نظره وسمعه وكان مع ذلك مكدودا بالشفاعات ومضيقا عليه في الجهاد والطاعات فخلعت عن عاتقي نجاد تلك الخطة ودار فلك أمري على غير تلك النقطة وهو عفا الله عنه يقابل توقعي ابلنبساط وفترتي بتجديد الإنشاط انبساطا الأمكنة والأزمنة فقطع عليه غرضه تأخره عن الخطة فما قطعت عنه امتداحا ولا نسيت أيامه حنينا وارتياحا. ثم أعيد إلى الولاية فعدت إليه وقد أتى الهرم والسقم عليه فعاقت منيته عن بلوغ الآمال سلبتني علقا نفيسا لمّا تخلف الأيام والليال: يا من لصبح الشيب كيف تنفسا ... في لمتي فأجابه ليل الأسى لا تحسبن سواد شعري نعمة ... لكن كسته هموم قلبي حندسا إلاّ يكن شاب العذار ولا انحنى ... ظهري فقد شاب الفؤاد وقوسا إني لأغضى مقلتي عن لائمي ... وأرى ابتسامي من ضميري عبسا ويلين قلبي للخليل مودة ... فإذا أحس يوما هضيمة قسا وأجيل لحظي في المنى شغفا بها ... واجل شوقي عن لعل وعن عسى مالي أرى الهالات عدن وهوادجا ... ولهذه الأضلاع صارت مكنسا طويت على بيض الدمى فتكانست ... فيها ظباء يرتعين الأنفسا فهي الدراري في الهواجر خنسا ... وهي الجواري في الهوادج كنسا يطرقن أمواه الفلاة تعربا ... ويردن نيران الضلوع تمجسا

فيهن جائلة الوشاح تنفست ... فزها النسيم أريجها فتنفسا زارت كما زار الخيال تسترا ... وعطت كما يعلوا الغزال توجسا حذرت من الرقباء حول طرافها ... فأتت تجر على التراب السندسا ملت بطاريق الرجال وشاقها ... صعلوك حي ليس يبقى منفسا زعمت فتاة الحي أني مملق ... أرأيت إملاقي لمجدي مركسا باتت تهيجها وساوس حليها ... حتى إذا الصبح المنير تنفسا بكرت تلمومك في الندى كندية ... صدفية تنمي السكون وأشراسا يا بنت عمى هل سمعت بماجد ... يبكين أوتي الذم أطعم أوكسا لا تحسبي أكل المرار عميدنا ... غرثا ولكن عزة وتغطرسا أذهلت عن عقبي الندى إنَّ الندى ... ليرد وحشي المنى متأنسا عقر المطية للعذاري ربها ... فأبيح ثغرا من عنيزة أومسا لم ينس ميتا بالطلاب وربما ... قد ضاق ذرعا أن يفوه فيلبسا ونسيت حجرا يوم هيج بالعصا ... أسدا ومن هاج الأسود تفرسا هبطت كواهل ملكه من كاهل ... أبدا أصابت منه يوما أنحسا فلئن أبيرت مالك أو كاهل ... فلقد أبارت منه قرما أحمسا قد كان ملك في كنود والندى ... في ظبية فتفردا وتقيسا كملوك جيش كلما وطئوا الثرى ... وأظن أنَّ لها الثرى والأشمسا ولطودها السلمي قاضيها الرضا ... كرم وجود ينطقان الأخرسا

شهدت له أصحابه وعداته ... حتى الغمام إذا همي وتبجيسا قسما لأندى بالندى وإعتاده ... فينا فسار مع الركاب وعرسا وكسا الورى العدل المبين وقبله ... سلبوا بجور ولاتهم تلك الكسا وأعد أقدار الأمور بحزمه ... ورمى به غرض الخطوب فقرطسا وأتته للبيت الرفيع عماده ... عمد له مجداً وعزماً أقعسا قالوا بنو ثعل: نفس مكارماً ... تعزى لحاتمها، فقلت: وما عسى؟ جيئوا بواحد لحاتم طيء ... من هذه وعلى ألا أنفسا أو سائلوني في الأنام سوى أبي ... حفص فهل تجدون عنه معدسا أو فاحملوا بعض الذي هو حامل ... ليردكم منه يلملم قد رسا الناس أشباه ولكن بينهم ... في الفضل ما بين الذؤابة والنسا أحسبتم كل امرئ غمر الندى ... ما كل بيت بالشآم المقدسا يا خجلة القمر المنير وقد رأى ... عمرا بأنواع الجلالة ملبسا لو يستطيع لجاء مقتبسا لها ... من أفقه وإذا لصادف مقبسا خاب امرؤ يرجو نداه غضاضة ... إلاّ الكفور فانه قد ابلسا طيبت أفواه الرواة بمدحه ... فكان عطاراً يضمخ معرسا وعلوت قدر الناطقين بشكره ... ولئن تمادى في نداه لأخرسا يا واحد العرب الذي لو صورت ... طرفا عتيقا كان منه القونسا إنى دعوتك للأماني الغر في ... ظلم الزمان السوء أحكي يونسا

إنَّ يلقم نون الحوادث مطلبي ... فأمده له يقطين جودك ملبسا أنت الرواء إذا تعذر مورد ... والماء إنَّ كدر الرجاء فأيأسا والعجز أنَّ يرجى سواك وإنّما ... أخشى نبات الروضة المتخلسا فلأنت أنفس عقدة مذخورةٍ ... لم لا أصون عن ابتذالي الأنفسا انتهى. قال صاحب الإشادة العزفي المذكور: القاضي أبو حفص من مفاخر المغرب، لم يذكره أحد من لقيه وتعرض لذكره، إلاّ أطنب في الثناء عليه، ووصفه بالعلم والفضل، والعدل في القضاء، مع براعة النظم والنثر؛ ويكفي من ذلك ثناء المحدث أبي عبد الله محمّد أبن عبد الرحمن التجيبي، نزيل تلمسان عليه، وقد ذكره في شيوخه فقال: ونقلته من خط الشيخ الفقيه الأجل، الكاتب المجيد، الحسيب الأديب، الأرفع الأكمل، القاضي المسدد، الموفق الأعدل، أبي حفص. ثم قال: لقيته بتلمسان حرسها الله، قدمها علينا قاضيا، فشمل أهل البلد كلهم أجمعين بفضله وأدبه وعدله، وإجلاله وإكباره وحسن خلقه، لا سيما مع طائفة الطلب، وأهل الأدب والحسب، فجزاه الله عن نفسه وعنهم افضل الجزاء، فلا يعرف الفضل إلاّ فاضل، ولا يكرم الناس إلاّ الكريم، وكل يميل إلى جنسه، وما هو من طبعه، كما قال بعض الأدباء، وأجاد في مقالته، وأحسن

القول: " ما عبر الإنسان عن فضله، بمثيل إلى أهله ". وذلك منظوم في قول الشاعر: وما عبر الإنسان عن فضل نفسه ... بمثل اعتقاد الفضل في كل فاضل وإنَّ أخس النقص إنَّ بنفي الفتى ... قذى النقص عنه بانتقاص الأفاضل وامتثال رضى الله عنه قول الآخر: " أصحبوا الناس صحبة إنَّ عشتم معها حنوا عليكم، وإنَّ متم بكوا عليكم ". واستعمل ما قاله الشاعر في كلماته، ونظمه في قافيته: وإنّما المرء حديث بعده ... فكن حديثا حسنا لمن وعى ففعل والله ذلك أيام كونه بتلمسان، واستعمله بطبعه وطبيعته، وخلقه وخليقته، إلى أنَّ نقله الخليفة إلى قضاء فاس، فلا تسأل عما أصاب الناس والإخوان من فقده، وفقد أدبه وعلمه، فذكر الطيب، والثناء الجميل، باقيان عليه إلى الآن بتلمسان، وهو مستقر في غيرها من الأوطان. وكان أبو حفص رحمه الله حسن الخَلقِ والخُلقِ، مليح الخط، فصيح الخطابة والكتابة، وكنت إذا رايته تمثلت عند رؤيته والنظر إليه، باب الرجل أنشدنا شيخنا الحافظ أبو طاهر السلفي الأصبهاني، رضي الله عنه، في مدح هادي بن إسماعيل: لهادي بن إسماعيل خلات أربع ... بهن غدا مستوجبا للإمامة خاطب أبن عبادة، وخط أبن مقلة ... وخلق أبن يعقوب، وخلق أبن مامة

وأنشدته رضي الله عنه البيتين، فاستحسنهما وشكر لي ذلك، وكان لي من بره وتأنيسه وبشره حظ جزيل، وقسم كبير، ورغب إلى أنَّ كتب له بخطي بعض ما عندي من أخبار الصالحين، وأئمة المتقين، وأولياء الله المطيعين، فكتبت له من الأحاديث الوعظية العلمية، والأشعار الحكمية، ما أمكنني، فسر بذلك، وشكر عليه؛ ولمّا أتى مدينة فاس، صار يرى ذلك أوداءه وأحبابه، ويشكر عليه، ويثني خيراً، وبارك الله تعالى فيه. ثم قدر الله تعالى بوصولي بعد انفصاله عن مدينة فاس، وتوليته لقضاء أغمات، إلى حضرة مراكش، حرسها الله تعالى، وكان بالحضرة المذكورة، فسمع بذلك، وكنت نزلت بفندق من فنادقها، يقال له فندق السكر، فوصل إليه، واجتمع بي، فدعوت له وشكرت، ثم أولاني من بره وتأنيسه ما عهدت قبل منه، وزاد عليه، ورغب في الوصول إليه إلى أغمات، فوصل إليه بعد ذلك، فرحب وسهل وانزل، وأثنى على عند الأصحاب والإخوان خيرا، وقال ما يصدر عن مثله، فالعنصر الطيب لا يخرج منه إلاّ الطيب، وكنت معه في داؤه في خصب وسعة، وطلاقة وجه، وحسن خلق، وطيب حديث، وكريم مشاهدة ومناشدة، لنفسه ولغيره. انتهى ما قدصت جلبه من كلام صاحب الإشادة، المنقول عن التحيبي نزيل التلمسان، رحم الله الجميع. لنجعل آخر نظم القاضي أبي حفص رخ قوله: العلم يكسو الحلل الفاخرة ... والعلم يحيي الأعظم الناخرة كم ذنب أصبح رأسا به ... ومذنب أبحره زاخرة

ما شرف النسبة إلاّ التقي ... أين تهيم الأنفس الفاخرة من يطلب العز بغير التقي ... ترع عنه نفسه داخرة أعرض عن الدنيا تكن سيدا ... بل ملكا فيها وفي الآخرة وبين العزفين، الذين منهم صاحب الشهادة بسبتة أعادها الله مشهور، وكانت لهم الرياسة بها مدة، ثم أعقب الدهر جدتها بالبلى، ثم كل شيء فأن ولا يبقى إلاّ الواحد الذي ليس معه ملكه ثان. وأبو القاسم منهم هو الذي تأمر ورأس سبتة هو أبو القاسم محمّد بن القاضي المحدث أبي العباس أحمد بن محمّد بن الحسين، بن الفقيه الإمام على المعاصر لابن أبي زيد، بن محمّد بن سليمان بن محمّد، الشهير بابن عزفة اللخمي. ينتهي نسبهم إلى قابوس بن النعمان بن المنذر، وكان قيامه بسبتة ليلة سبع وعشرين من رمضان، من عام سبعة وأربعين وست مائة، في دولة المرتضى الخليفة بمراكش، وقتل والي سبتة أبا عثمان بن خالد تلك الليلة، وملك طنجة، ودخل أصيلا، وهدم سورها، وتوفي بسبتة يوم الخميس الثالث عشر من ذي الحجة من عام سبعة وسبعين وسن مائة وله سبعون سنة، وكانت دولته ثلاثين وشهرين وسنة عشر يوماً، من شهدة بين كتفيه، مرض بها واحد وعشرين يوما، وكان مولده بسبتة في منتصف شوال عام سبعة وست مائة.

وهو الذي اكمل " الدر المنظم، في مولد النبي المعظم ". من تأليف أبيه أبي العباس رحمه الله. ورأيت على نسخة كتبت في حياته أول الكتاب المذكور ما نصه: قال سالك سنن السنة، القائم من أعمال البر بما يضيق عنه وسع المنة المعتصم بجبل الله القوي المتين، المعتمد على لطفه الشامل وفضله العميم المبين، الشيخ الفقيه الأجل، العلم الأكمل، أبو القاسم بن الشيخ الفقيه الإمام، العارف العالم، علم العلماء العاملين المتقنين، ونخبة الفضلاء الصالحين المتقنين، أبي العباس أحمد بن الشيخ الفقيه القاضي العالم المحدث، أبي عبد الله اللخمي، ثم العزفي، من أهل سبتة حرسها الله وأجزل قسمه من عفوه ورضاه، وأنجح عمله وقوله وقصده، وجعل في ذاته وسبيل مرضاته صدوره ووروده. انتهى. وفي موضع آخر من هذه النسخة ما نصه: السفر الأول من كتاب " الدر المنظم في مولد النبي المعظم، صلى الله عليه وسلم، وشرف وكرم ". لمّا شرع في تأليفهن ومات ولم يكمله الشيخ الفقيه الصالح، علم العلماء، ونخبة الصالحين الفضلاء، أبو العباس أحمد، بن الشيخ الإمام الفقيه، الصالح القاضي، العالم المحدث، المقدس المرحوم، أبي عبد الله اللخمي، ثم العزفي السبتي، رحمه الله، ورضي عنه، ونضر وجهه، وأجزل ثوابه، وأكمل بعده، وأوضح فيه قصده، أبنه الشيخ الفقيه الأفضل، العلم الأوحد، السني السبتي، المبارك الأكمل، أبو القاسم، أدام الله عافيته ووفقه، وشرح صدره، وختم بالكتاب والسنة ديوان علمه الصالح وعمره، يذكر فيه بعض ما خص الله تعالى به نبيه)

وفضله على كل من تأخر من خلقه أو تقدم، وما امتن به عليه وعلى أمته، في أنَّ جعله أفضل الأنبياء، وجعلهم أفضل الأمم، من بين ولد آدم، ليتخذوا مولده الكريم موسماً، يتركون به ما كانوا يقيمونه من أعياد النصارى وعوائدهم، التي يجب لمغانيها أنَّ تعطل، ولمبانيها أنَّ تهدم. انتهى. وكان الرئيس أبو القاسم المذكور كتب خطه بالإجازة في هذا الكتاب للخطيب أبي على، بن الخطيب أبي فارس بن غالب الجمحي، مع جماعة من أهل سبتة وأعيانها، حين قرءوه عليه بالجامع الأعظم من سبتة، في شهر ربيع الثاني، من عام سبعة وخمسين وست مائة، قائلا: أجزت له بحق روايتي لمّا فيه عن أبي، ومشاركتي له في تأليفه، على حكم الإجازة وشرطها، وصحة الرواية، عاشر الربيع المذكور. انتهى. وبعضه بالمعنى. ونسبهم إلى لخم لا مدفع فيها عند الثقات، وبذلك وصفهم الأكابر، غير أنَّ أبن الخطيب في الإحاطة، نقل عن " الكتاب المؤتمن، في أنباء أبناء الزمن " ما نصه: وتزعم بعض أهل سبتة أنَّ أصلهم من مجكسة من البربر، فيقولون: ما للخم ومجكسة؟ وهذا موكول إلى قائلة، إذ لا نعلم حقيقة الأمر فيه. نعم، الإنصاف في المسألة أنَّ كل من عرف بالأصالة في المغرب الأقصى، ولم يعلم لآبائه قدوم من المشرق، حيث جراثيم العرب، ولا قدوم من الأندلس، حيث أبناء العرب، وانتسب مع ذلك إلى قبيلة، فلا بد له من الاستظهار على ذلك، وإلاّ كان ما أتى به مظنة لأحد أمرين: أما لكون سلفه من الموالي، فانتسبوا إلى ساداتهم، إذ يجوز لمن كان مولى عربي أنَّ ينتسب إلى قبيلة سيده؛ وأما للكذب. وهذا أعدل ما يقال. انتهى.

ونقله في الإحاطة في ترجمة الفقيه المشارك في الطلب والأدب أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن أبي عزفة اللخمي. وإلى ترجع الأمور. وكان الرئيس الفقيه أبو القاسم العزفي المذكور فقيها أصوليا نحويا لغويا محدثا عارفا بالرواية شاعرا مجيدا. فمن نظمه في آل بيت المصطفى صلى الله عليه وسلم: ذرية المصطفى إني احبكم ... وحبكم واجب في الدين مفترض فليس يبغضكم لا كان باغضكم ... إلاّ امرؤ مارق في قلبه مرض وحسبكم شرفا في الدهر أنكم ... خير البرية هذا ليس يعترض ولست أظالب في حبي لكم ثمنا ... إلاّ الشفاعة فهي السؤل والغرض ولمّا توفي رحمه الله تعالى قام بعده بالأمر ابنه أبو الحاتم أحمد ثم خلع وتولى أخوه أبو طالب عبد الله في سنة ثمان وسبعين وست مائة وخلع ليلة الأربعاء السابع والعشرين من شوال سنة خمس وسبع مائة فكانت دولته سبعا وعشرين سنة وتوفي بفاس مخلوعا عام ثلاثة عشر وسبع مائة وله خمس وسبعون سنة. والذي خلعه الأمير فرج بن إسماعيل بن يوسف بن الأحمر دخل عليه سبتة عنوة في الليلة المذكورة وقبض عليه. ثم تولاه الأمير يحيى بن الأمير أبي طالب أبن أبي القاسم ويكنى أبا عمر وبويع سبتة عام عشرة وسبع مائة وخلع في سنة إحدى عشرة وسبع مائة وكانت دولته الأولى هذه سنة وستّة أشهر. وبويع ثانيا بسبتة في سنة أربع

عشرة وسبع مائة وتوفي بها في ظهر يوم السبت السادس لشعبان سنة تسع عشرة وسبع مائة وكانت ولادته بها في رمضان سنة سبع وسبعين وست مائة. وكان فقيها فاضلا جميل الوجه شجاعا بطلا عافا بالأصول والفقه والمنطق والعربية واللغة والحديث وقيل أنه أول من ركب بالرمح والسيف من بني العزفي وجند الجنود. ثم تولى بعده ابنه أبو القاسم محمّد بن يحيى وبويع بعد أبيه في شعبان من عام تسعة عشر وسبع مائة وخلع في صفر سنة عشرين وسبع مائة فكانت دولته ستّة أشهر وتوفي بفاس وهو كاتب الحضرة المرينية ليلة السبت حادي عشر صفر عام ثمانية وستين وسبع مائة وله ثمان وستون سنة وولد بسبتة في شوال عام تسعة وتسعين وست مائة. وكان فقيها شاعرا مكثرا مليح الفكاهات وشاحا وقد بز أهل زمانه في الموشحات وقد حكي عنه أنّه أراق الدواة في في محفل جليل فقال بديهية: ألا يا كرام الناس غضوا ... فإني من الفعل القبيح مريب هرقت دواة وهي كالكأس بينكم ... وللأرض من كأس الكرام نصيب وكان مولعا بنظمه بالتورية. وعزم السلطان أبو عنان لمّا أخذ قسطنطينية على استعماله بها فبكى لبعد الشقة عن ولده وبلده فتركه. وهو آخر المذكورين من هذا البيت رحم الله الجميع. وصاحب الإشادة المتذدم الذكر هو عم أبي القاسم محمّد بن يحيى هذا لأنَّ صاحب الإشادة كما أسلفنا هو عبد الرحمن بن أبي طالب عبد الله بن محمّد بن أحمد أبن محمّد بن أحمد وهذا محمّد بن يحيى بن أبي طالب عبد الله بن محمّد بن أحمد. وقد عرف في إشادته بابن خبارة ورأيت أن أذكر بعض ذلك فنقول:

هو أبو عمرو ميمون بن علي بن عبد الخالق الخطابي نسبة إلى قبيل من صنهاجة الذي بقطر فاس ويعرف بابن خبارة نسبة إلى خاله الشاعر المشهور بابن خبارة. عرف به أبو عبد الملك المراكشي فقال: كان بارع الخط وكان من أكبر أعاجيب الدهر في سرعة البديهة ناظما أو ناثرا مع الإجادة التي لا تجاري والتفنن في أساليب الكلام معربه وهزله على اختلاف اللغات. تطور كثيرا وتصوف ونسك ووعظ وكان في أخر عمره جانحا إلى امتداح ملوك عصره فكان يأتي في ذلك بما لم يسمع بمثله ولا يطمع في لحاقه بسرعة ارتجاله وحسن افتنان وسرعة امتثال وله في ذلك أخبار غريبة عريقة. وولى بأخرة حسبة الطعام بمراكش. وذكر أبو عبد الله بن الأبار في التحفة فيمن لم يجد له غير الهجاء وظلمه كما أثبت أبو بكر بن رفاعة الشريشي وقد شهد فيه في كتاب التكملة له بما يخالف ذلك وكناه أبا سعيد وذكر أنه لقيه بإشبيلية وسمع منه بعض كلام في غير ذلك بمالقة وتوفي برباط الفتح في أول سنة سبع وثلاثين وست مائة. وأنشد له من قصيدة: وجد النبوة حلة مطوية ... لا يستطيع الخلق نسج مثالها فأسر حسوا في ارتغاؤ يبتغي ... بمحاله نسجا على منوالها وذكر أنّه قالها بمراكش. انتهى.

قال صاحب الإشادة: قال هذه القصيدة في المأمون بن المنصور حين تبرأ من إمامهم المهدي وأبدى مساوية. وأسقط اسمه من الخطبة وهو المعنى بقوله: وجد النبوة حلة مطوية. وقد كتب عن أبي عمرو هذا كثيرا من شعره أبو عمرو بن سالم بن صالح النهرواني المالقي الأديب المقيد الضابط وتاريخ إجازته إياه سنة أربع وست مائة. ومات ابن سالم فبله بست عشرة سنة. ومن شعره أي أبي همرو المذكور يرثي أبا محمّد عبد الله أحمد بن محمّد أبن عبد الملك بن الحافظ أبي بكر بن الجد ويعزي أباه عنه وهو يومئذ وزير إشبيلية وعظيمها وكانت حينئذ حاضرة الأندلس: أرجة الصعق يوم النفخ في الصور ... أم دكة الطود يوم الصعق في الطور أم هدت الأرض إظهارا لمّا زجرت ... به الخليفة من إيقاع مخدوع أم الكواكب في آفاقها انتثرت ... وباتت الشمس في طي وتكوير ما للنهار تعرى من ثياب سنى ... وأشبه الليل في أثواب ديجور قد كان للصبح طرف زان بلق ... فقسم الخلق بين الدجن والنور فما الملم الذي غشى بدهمته ... أديمه عنبر من بع كافور أصح لتسمع من أبائها نبأ ... يطوي من الإنس فيها كل منشور وانظر فإن بني عدنان ما حشروا ... إلاّ لرزء عظيم القدر مشعور وافى مع العيد لا عادت مضاضته ... فشاب سلساله الأصفي بتكدير واعتا دارا لها في السبق جمهرة ... من المفاخر أزرت بالجماهير

رمى قريشا فأصمى سهم حادثه ... أبناء فهر بتفريق المقادير فحانه الجد في أبن الجد حين قضى ... وأثر الخطب فيها أي تأثير لله المجد ما أبقاه من أثر ... أخرى الليالي بطيب الذكر مأثور نوارة عندما راقتبدوحتها ... أهوت إلى الترب من بين النواوير جار الذبول عليها بعدما ملأت ... معاطس الدهر من طيب وتعطير وسيف بأس الخطب أغمده ... صرف الحوادث فيها بعد تكسير ثضى فوافق شهر الصيام مرتجلا ... ووافق الشهر في فضل وتطهير واختاره خاطب الخطب الملم به ... للصهر كفئأ فأمضى العقد للحور فسار للحين مسرورا وخلفا ... للحزن فاعجب لمجزون بمسرور نادته أنجشة الأحزان يوم حدا ... أظعان فلبي رفقا بالقوارير فالوجد والدمع من الحزن قد اقتسما ... قلبي وجفني بمنظوم ومنثور فالقلب بالغيظ في تصعيد مستعر ... والجفن بالفيض في تصويب ممطور وساق الخطاب يشدو الحاملين به ... يسوقهم سوق حادي العير للعير وللملائك في آفاقها زجل ... قد شيعته بتهليل وتكبير أثنى المصاب على شيخ الجزيرة في ... عقد وحل وتقديم وتأخير ز خي طويلة جدا منها: مقدمات الليالي طالما فضحت ... نتائج الغدر منها كل مغرور جمع السلامة معدوم الوجود بها ... وكم بها للردى من جمع تكسير وعامل الموت فيد أحصى مهنديه ... منازل العمر عدا دون تكسير والأرض طرس وهذا الخلق أحرفه ... والحرف ما بين ننحو ومبتور

والدهر بالأفعال يظهراها ... طورا ويعجم منها كل مسطور وإنما الخلق أسماء تعاورها ... إعرابه بين مرفوع ومجرور وكلهم في مدى الأعمار تحسبهم ... كحالها بين ممدود ومقصور والموت مثل عروضي يقطع من ... أبياتهم كل موزون ومكسور يا من يؤمل أن يبقى وقد نفضت ... أيدي المقادير من إبرام تقدير هذي الحقيقة لا ما حدثتك به ... آمال نفسك عن دنياك من زور لا تخدعنك الليالي إن فتنتها ... كادت فكادت ترينا كل محذور كم بادرت بعبوس الخطب من ملك ... قد بات بالبشر وضاح الأسارير سائل كسرى مليك الفرس هل تركت ... له المنايا جناحا غير مكسور وانزلا بصنعاء في قصر ذي يزن ... تلمم بقصر على الأغيار مقصور اعبر على حيرة النعمان معتبر ... تعبر بأطلال نعمى ذات تغيير وأين من كان سجن الجن في يده ... والإس والجن في قهر وتسخير وأين مخترق الدنيا بعزمته ... يطوى البلاد بها طي الطوامير بادروا فليس باب الرجل باد يحس به ... منهم وأفناهم ريب الدهارير هو القضاء أبا بكر أصبت به ... فاصبر وسلم تسليم مأجور والله يحرس دنياكم ويدفع عن ... سامي معاليك أنواع المحاذير وحكي أنَّ المتصم يحيى بن الناصر بن المنصور الموحدي ضرب بظاهر مراكش قبة حمراء فبادر إليها العرب والنصارى من عسكر عمه المأمون فقطعوا أطنابها فسقطت فقال في ذلك أبو عمرو هذا من قصيدة:

انظر إلى القبة الحمراء ساقطة ... لمّا رأت مضر الحمراء عن كثب من كان أولى بها إن كنت ذا بصر ... لعجم أو معدن العليا من العرب ونما سجدت لمّا سمت وغدت ... فوق الضلال وكانت أعجب العجب ومن رائق نظم أبي عمرو قوله: هب النسيم ضحى ففاح المندل ... وتأرجت منه الصبا والشمال أسرى عليلا فاستحث إلى الصبا ... صبا بأنفاس الصبا بتعلل يهوى العذير وساكنيه ومن له ... لو كان يدنو منه ذاك المبزل ما شام برقا بالفضا إلاّ انبرى ... شوقا على جمر الغضى بتمليل والبرق في نقع السحائب سيفه ... سيف الكمى إذا يكر ويحمل فكأن ذاك البرق واش قد مشى ... بنميمة والرعد لاح يعذل وأنا الفداء لجيرة نزلوا الحمى ... وحمى القلوب هو الحمى والمنزل وتحلوا يوم الفراق وإنما ... بقلوبنا يوم الفراق تحملوا قبسوا ومن قلب المعذب موقد ... وردوا ومن جفن المعنى منهل ما ضرهم إذ أعرضوا لو عرضوا ... للوصل أو ذكروا العهود فأقبلوا حملوا الجمال على الجمال كأنما ... أفلاكها منها الأهلة تكمل أبدت لنا حلي الطلى وتبسمت ... زهرا فراق مقلد ومقبل ومن العجائب أن أهيم بجنة ... حلت بقلبي هو نار تشعل ويهان مرسل ناظري في حبها ... ومن التناصف أن يعز المرسل ومن شعره رحمه الله تعالى هذه القصيدة الفريدة التي ندح بها المصطفى صلى الله عليه وسلم وأشار إلى جملة من مناقبه الربانية ومآثره العرفانية وآياته

الباهرة ومعجزات الظاهرة صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد عظم وبارك انعم وتحنن وترحم وهي قوله: حقيق علينا أن نجيب المعاليا ... لنفني في مدح الحبيب المعانيا ونجمع أشتات الأعاريض حسبة ... ونحشد في ذات الإله القوافيا ونقتاد للأشعار كل كتيبة ... لنصر الهدى والدين تردى الأعاديا فألسن أرباب البيان صوارم ... مضاربها تنسي السيوف المواضيا لنطلع من أمداح أحمد أنجما ... تلوح فتجلو من سناه الدياجيا كواكب إيمان تنير فيهتدي ... بأضوائها من بات للحق ساريا سهوت بمدح الخلق دهري فهذه ... لجبري كل ما قلت ساهيا فلا مدح إلاّ للذي بمديحه ... تطيع إذا ما كنت بالمدح عاصيا رسول براه الله من صفو نوره ... وألبسه برادا من النور ضافيا وما زال ذاك النور من عهد آدم ... ينير به الله العصور الخواليا ثوى في ظهور الطيبين يصونه ... وديعه سر صار بالبعث فاشيا وخص بطون الطيبات بحمله ... ليحمل فرعا بالسيادة زاكيا به وزن الله الخلائق كلهم ... فألقاه فيهم راجح الوزن وافيا وأنقذنا من ناره بظهوره ... ولولاه كان الكل بالشرك صاليا وآدم لمّا خاف يجزى بذنبه ... توسل بالمختار لله داعيا فتاب عليه الله لمّا دعا به ... وأدنا منه بعد ما كان نائيا وقد يهجر المحبوب في حالة الرضا ... ويأبى إلاّ يصدق واشيا

وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا وأدرك نوحا في السفينة رعية ... فخلصه الله كان في الموج داعيا وما زال سام وهو ثاو بظهره ... على أخويه بالفضائل ساميا فخصص حتى بالمكان كرامة ... وأسكن في أعلى البلاد مراقيا وأنزل حام بالجنوب مجانيا ... ويافث في أقصى الشمال مؤازيا وأنزل سام للفضيلة وحده ... بأوسط معمور البلاد الأعاليا وبادر جبريل الخليل لأجله ... ليحميه إذ أبصر الجمر حاميا ويخبر في وقت البلاء يقينه ... فصادف ورد الخلة العذب صافيا فقال له: هل تسألني كفاية ... فجاوبه حسبي بربي كافيا فكانت عيه النار بردا كما أتى ... به وسلاما وهي نار كما هيا وجازاه في الإسراء عنها نبينا ... وألهمنا فوق السموات ساريا فلما انتهى جبريل عند مقامه ... بحيث تلقى الأمر ألا تماديا أشار على المختار أن سر فإنه ... مقامي لا أعدوه ما دمت باقيا فناداه يا جبريل: هل لك حاجة ... إلى الله فأسألها لتعطي الأمانيا فقال له: سله لأبسط رغبة ... على النار منى للعصاة جناحيا فدلي في أفق المهامه رفرف ... وزج براق العز في النور راقيا ومن أجله خص الذبيح فداؤه ... وفد ظهره المختار أصبح ثاويا فداه بذبح عظيم الله شأنه ... لأن كان دهرا في الفيراديس راعيا

وثنى بعد الله حامل فضله ... فكان بذاك الفرع للأصل راقيا لذلك ما قال الرسول منبها: ... أنا أبن ذبيحيها بعد المعاليا وعف أبوه إذا دعته لنفسها ... فتاة رأت نور النبوة غاديا مضى ولذلك النور بين جبيته ... شعاع السنى يعشى العيون الروانيا فأعرض عنه ثم سار لشأنه ... وكان له الرحمن بالحفظ واقيا وعاد وقد أدى أمانة ربه ... لأمته وعدا من الله ماضيا ومر على حي الفتاة فنوديت ... هلمي تصادف لذعة الحب راقيا فقالت لهم قد كان ذلك مرة ... لأمر عصينا في هواه النواهيا أردت بأن أعطي سناه وقد قضى ... لغيري به من كان بالحق قاضيا وكم طالب ما لا ينال وقاعد ... سعادته تبدي له السؤل دانيا وكم شاهدت من آية أمة به ... يصيربها جيد الديانة حاليا رأت في معاليه مرأئي جمة ... فصدقت الآثار منه المرائيا وقيل لها بشاك فزت بخير من ... يرى فوق أكناف البسيطة ماشيا وحفت به الأملاك في حين وضعه ... بليلة إفضال تزين اللياليا وبشر رضوان الجنان بخلقه ... ففتح جنات النعيم الثمانيا ونادى منادي العز طوفوا بأحمد ... جهات الدنا طرا وعموا النواحيا بدا واضعا كفيه بالأرض رافعا ... بعينيه نحو الأفق بالطرف ساميا وأعول إبليس اللعين وقال قد ... يئست وقدما كنت للكفر راجيا وصار إلى صنعاء شيبة جده ... فحل محلا للوفادة قاضيا

وحيا بغمدان أبن ذي يزن بها ... وهنأه بالملك إذ عاد واليا فقربه دون الوفود وخصه ... ليسمع قولا في الرسالة شافيا وقال له أنا وجدنا بكتبنا ... نبيا يرى من نحو أرضك آتيا يموت أبوه ثم تهلك أمه ... ويكفل بعض العمومة حانيا وقال له والبيت ذو الحجب زاره ... وفود الورى جابوا إليه الفيافيا لأنت على ما يقتضيه الوعد جده ... فشيد به للمجد ما كنت بانيا وقال له احفظ ما أقول فإنه ... سيملك أرضي إذ رأى الملك واهيا وقول هرقل إذ أظل زمانه ... فقال أرى ملك الختان مدانيا وطالع فيه مصحف الأفق ناظرا ... كما زعمو يستشير الدراريا فلم تنقض الأيام حتى أتى له ... كتاب رسول الله للحق داعيا فباحث عن أهل مكة ائلا ... وكان بأوصاف النبيين داريا ولبى الهدى لمّا دعاه اله ... وهام قليلا ثم ألفى ساليا وورد الرضا لا يتدي لسبيله ... فيروي به من كان في الله صاديا وإيوان كسرى ارتج يوم وضعه ... وبات عليه قصره متداعيا وزاد برؤيا الموبذان ارتياعه ... فأذهله أن يستبين المساعيا وفسرها شق وشق غباره ... سطيح بسجع قصَّ ما كان رائيا فنصا على إرسال أحمد مثبتا ... لدين الهدى بالرغم للكفر ماحيا وأخمدت النيران نيران فارس ... وكانت تلظى ألف عام تواليا وحمل ذاك الحلم حجر حليمة ... لترضعه در الفضائل صافيا

أبى حملة النسوان لليتيم وانبرت ... له فرأت من حينا الرزق ناميا فحاز به السبق الأتان كرامة ... وأخصب مرعاها ففاق المراعيا وشارفها إذ لا تبض بقطرة ... فصارت به ثجا تروى الصواديا وفي حياه وافاه جبريل قاصدا ... وأقبل ميكائيل بالأمر تاليا فشقا به صدر النبي لشرحه ... فكان لمّا يلقى له الله واعيا ورداه في الحين التئاما فما ترى ... سوى أثر ما زال للشرح باقيا وجاءا بمنديل وطست ليغسلا ... بماء الرضا قلبا عن الله راضيا وعاد أخوه جازعا مخبرا بما ... جرى من مخوف كان للأمر جاريا فسارت به من حينه نحو أمه ... تخاف عليه إن أقام العواديا وما زال محروسا أمينا مؤمنا ... سبوقا صدوقا سامي القدر عاليا حبيبا وفيا خاشعا متواضعا ... كريما حليما يستفز الرواسيا وفي سيره للشام شام بقربه ... بروق الهدى من لم يكن قط رائيا أكب عليه في طريق مسيره ... إليها بحيرا للهدى متراميا ولمّا رأى تلك العلامة لم يزل ... لمّا وافق الكتب القديمة باكيا وكانت به من غلة الشوق علة ... فساق له الله الطبيب المداويا وقصدته في ذي المجاز وعمه ... به ظمأ قد صير الصبر فانيا فأهوى ولا ماء إلى الأرض راكضا ... ففجر ينبوعا من الماء جاريا وكم بان من يسر لميسرة به ... يرد أخا سكر الغواية صاحيا فكان إذا اشتد الهجير أظله ... غمام عليه لا يزال مماشيا

وأخبره نسطور بصري ببعثه ... فأظهر من غيب الرسالة خافيا وبغضت الأصنام للمصطفى فلم ... يزل هاجرا فعل الضلالة قاليا وكان يرى ضوءا يلوح لعينه ... ويسمع تسليما عليه محاذيا ويأتي حراء للتعبد قاصدا ... حبا لأسباب الوصال مراعيا ويخرج من بيت البيوت لعله ... يحدث عن نفسه في السر خاليا وكان رآه الله أكرم خلقه ... فأرسله الحق للخلق هاديا وأسرى به ليلا إلى حضرة العلا ... فما زال فيها للحبيب مناجيا وسار على ظهر البراق كرامة ... له راكبا إذ سار جبريل ماشيا ولمّا أتاه الوحي وارتاع قلبه ... لشدة ما قد كان منه ملاقيا فسارت به عمدا خديجة زوجه ... لتسأل حبرا بالزمانة فانيا وكان امرأ قد مارس الكتب قارئا ... وبات لضيفان المعارف قاريا فبشره أن سوف يطلع صبحه ... فيكشف من ليل الغواية داجيا وقال له يا ليتني كنت حاضرا ... بها جذعا أوليك نفسي وماليا ووقتك أن يدرك زماني يومه ... ومن لي به أنصرك نصرا مواليا وآيته في الغار إذ نزلا به ... وكان له الصديق بالصدق ثانيا وقد أرسل الله الحمام لبابه ... وقارنه بالعنكبوت مضاهيا فباض على الفور الحمام وشيدا ... من النسيج أيدب العنكبوت مبانيا فدافع عن صديقه ورسوله ... بأضعف أسباب الوجود مقاويا وكم آية خصت سراقة إذ مشى ... على أثر المختار للغار قافيا

فشاهد آثارا من الخسف كاد أن ... يكون لقارون السفاه مؤاخيا ولمّا دعا بالهاشمي أجاره ... فأبصر في الحين من ذاك ناجيا وأصبحه منه ظهيرا مكرما ... بخط أبي بكر يخيف الدواهيا وأخبره أن سوف يفتح أمره ... مدائن كسرى والبلاد الأقاصيا ويجعل في كفيه من بعد فتحها ... سواراه مما يحز الدين ساميا فأنجرها الفاروق في حين فتحها ... له عدة بالصدق فيها مباهيا وآيته في خيمتي أم معبد ... وفي الشاة إذ لم تبق تصحب راعيا وفي الذئب إذ أقعى وأخبر مفصحا ... عن المصطفى والذئب ما زال عاويا وفي الضب لمّا أن دعاه أجابه ... وقال لبيك داعيا وآيته إذ فارق الجذع فضله ... فحن إليه الجذع في الحال شاكيا وإنَّ انشقاق البدر أعظم آية ... ترد على من كان للدين زاريا وفي الجمل الآتي بحضرة صحبه ... ليشكو تكليف المشقة راغيا وقصته في المحل لمّا دعا لهم ... فأبصرت سحبا كالجبال هواميا وسال به وادي قناة لأجله ... ثلاثين يوما لم يزل متواليا وفي قصة الزوراء للخلق آية ... وذكرى لعبد كان للذكر ناسيا دعا بإناء ليس ينقع مائه ... لقتلته بالرى من كان صاديا ففاض نمير الماء من بين بنانه ... وكان ضوءا للكتيبة كافيا وكونه يوم الحديبية التي ... أفاض بها الله البنان سواقيا

وإشباعهم الجم الغفير بقبضة ... من التمر حتى شاهدوا التمر باقيا وإخباره بالشيء من قبل كونه ... فيأتي على النص الذي قال حاكيا فأخبره ذا النورين أن ستصيبه ... على الأمر بلوى تعقب الأجر وافيا وأخبر عمارا بأن حياته ... سيقطعها بالبغي من كان باغيا وقال لذي السبطين أشقى الورى الذي ... سيخضبها من هامة الرأس عاصيا يصادف نور الشيب أبيض ناصعا ... فيسقسه صوب الحتف أحمر قانيا ونص على السبط الشهيد بكر بلا ... فقام له الدين الحنيفي ناعيا وفي الحسن الزاكي أبان بأنه ... سيصلح بين الناس للأجر ناويا وقال لقوم إن آخركم بها ... مماتا سيصلى جاحم الجمر حاميا وقال إذا ما مات كسرى فما ترى ... سميا له أخرى الليالي مساميا وأخبر عن موت النجاشي حينه ... وبينهما بحر من الموج طاميا وقال على قرب الحمام لبنته ... تموتين بعدي فافرحي بلقائيا وآياته جلت من العد كثرة ... فما تبلغ الأقوال منها تناهيا وأعظمها الوحي الذي خصه به ... فبلغ عنه آمرا فيه ناهيا تحدى به أهل البين بأسرهم ... فكلهم ألفاه بالعجز وانيا وجاء به وحيا صريحا يزيده ... مرور الليالي جدة وتعاليا تضم أحكام الوجود بأسرها ... وحكم القضاء مثبتا فيه نافيا وأخبر عما كان أو هو كائن ... يرى ماضيا أو ما يرى بعد آتيا ووافق أخبار النبيين كلهم ... وتمم بالغابات منها المباديا

وما كتبت يمناه قط صحيفة ... ولا رئ يوما للصحائف تاليا عليه السلام الله زال رائحا ... عليه مدى الأيام منا وغاديا ولتكن هذه القصيدة الفريدة النبوية آخر ما أوردناه في روضة الورد فقد طال الكلام واتسع وكثر السرد على أنَّ ما تركناه أكثر مما جلبناه وقد انثالت علينا أشغال شاغلة من خطوب الدهر والله يبلغنا من رضوانه ما طلبناه. ونسأل الله تعالى حسن الختام وأن يدفع عن قلوبنا القتام بجاه سيدنا ومولانا محمّد المصطفى خير الأنام صلى الله عليه وسلم الذي جعلنا مديحه مسك الختام.

روضة الأقحوان في ذكر حاله في المنشأ والعنفوان

روضة الأقحوان في ذكر حاله في المنشأ والعنفوان أقول ومن الله أسأل التأييد والعون والوقاية والصون: عقدنا هذه الترجمة الثانية لبيان حاله في حله وترحاله. فاعلم أرشدنا الله وإياك إلى طريق الرضوان وجنب جميعنا مسالك الذل والهوان أن حال هذا الإمام لا تفي بها عبارتي القاصرة ولا تحيط إشارتي بمن عقد الفضل عليه خناصره. وما أجد لبعض ذلك مثلاً إلاّ بعض قول الرئيس القاضي الكاتب أبي يحيى بن عاصم عند ما عرف بأبيه صاحب التحفة وقال فيه ما نصه: مولاي الوالد يكنى أبا بكر إن بسطت القول وعددت الطول وأحكمت الأوصاف وتوخيت الإنصاف أنفدت الطروس وكنت كما

يقول الناس في المثل: " من مدح العروس ". وإن أضربت عن ذلك صفحا وآثرت غضا من البنوة وسفحا فلبئسما صنعت ولشد ما أمسكت المعروف ومنعت ولكم من حقوق الأبوة أضعت ومن ثدي المعقة رضعت ومن شيطان لغمصة الحق أطعت ولم أرد إلاّ الإصلاح ما استطعت وإن توسطت واقتصرت وأوجزت واختصرت فلا الحق نصرت ولا أفنان البلاغة هصرت ولا سبيل الرشد أبصرت ولا عن هوى الحسدة أقصرت. هذا ولو أني أجهدت ألسنة البلاغة فجهدت وأيقظت عيون الإجادة فسدت واستعرت مواقف عكاظ على ما عهدت لمّا قررت من الفضل إلاّ ما به الأعداء قد شهدت ولا استقصيت من المجد إلاّ ما ما أوصت به الفئة الشانئة لخلفها الأبتر وعهدت فقد كان رحمه الله علم الكمال ورجل الحقيقة وقارا لا يخف راسية ولا يعرى كاسيه وسكونا لا يطرق جانبه ولا يرهب غالبه وحلما لا تزل حصاته ولا تهمل وصاته وانقباضا لا يتعدى رسمه ولا يتجاوز حكمه ونزاهة لا ترخص قيمتها ولا تلين عزيمتها وديانة لا تحسر أذيالها ولا يشف سربالها وإدراكا لا يفل نصه ولا يدرك خصله وذهنا لا يخبو نوره ولا ينبو مطوره وفهما لا يخفى فلقه ولا يلحق طلقه وصدقا لا يخلف موعده ويأسن مورده وحفظا لا يسبر غوره ولا يذبل نوره بل لا يطرق بحره ولا يعطل فخره

وتحصيلا لا يفلت قنيصه ولا يسأم حريصه بل لا يحل عقاله ولا يصدأ صقاله وطلبا لا تتحد فنونه ولا تتعين عيونه بل لا تحصر معارفه ولا تقصر مصارفه. انتهى المقصود منه وبعض كلامه أردت لا كله إذ هو اللائق بوصفه القاضي أبي الفضل عياض إمام الملة. قال الملاحي: كان القاضي عياض رحمه الله تعالى بحر علم وهضبة دين وحلم أحكم قراءة كتاب الله تعالى بالسبع وبلغ من معرفته الطول والعرض وبرز في علم الحديث وحمل راية الرأي ورأس في الأصول وحفظ أسماء الرجال وثقب في علم النحو وقيد اللغة وأشرف على مذاهب الفقهاء وأنحاء العلماء وأغراض الأدباء. انتهى كلام الملاحي. وقال ابنه القاضي أبو عبد الله بن عياض رحمه الله: نشأ أبي علي عفة وصيانة مرضى الحال محمود الأقوال والأفعال موصوفا بالنبل والفهم والحذق طالبا للعلم حريصا عليه مجتهدا فيه معظما عند الأشياخ من أهل العلم كثير المجالسة لهم والاختلاف إليهم إلى أن برع أهل زمانه وساد جملة أقرانه فكان من حفاظ كتاب الله تعالى مع القراءة الحسنة والنغمة العذبة والصوت الجهير والحظ الوافر من تفسيره وجميع علومه وكان من أئمة الحديث في وقته أصوليا متكلما فقيها حافظا للمسائل عاقدا للشروط بصيرا بالأحكام نحويا ريان من الأدب شاعرا مجيدا كاتبا خطيبا حافظا للغة والأخبار والتواريخ حسن المجلس

نبيل النادرة حلو الدعابة صبورا حليما جميل العشرة جوادا سمحا كثير الصداقة دءوبا على العمل صليبا في الحق وبلغ في التفنن في العلوم ما هو مشهور وفي العالم معلوم. قال ابنه وابن خاتمة في مزية المرية: وأخذ عن أشياخ بلدته سبتة كالقاضي أبي عبد الله بن عيسى والخطيب أبي القاسم والفقيه أبي إسحاق بن الفاسي وغيرهم. ثم رحل إلى الأندلس وكان خروجه من سبتة يوم الثلاثاء منتصف جمادى الأولى سنة سبع وخمس مائة فوصل إلى قرطبة يوم الثلاثاء مستهل جمادى الآخرة فأخذ بها عن ابن عتاب وابن حمدين وابن الحاج وابن رشد وأبي الحسين بن سراج وأبي الحسن بن مغيث وأبي القاسم بن النحاس وأبي بحر الأسدي وأبي القاسم بن بقي وأبي الوليد هشام بن أحمد بن العواد وغيرهم من أعلام قرطبة. ثم خرج منها إلى مرسية يوم الاثنين لخمس بقين من المحرم سنة ثمان من التاريخ فوصل مرسية يوم الثلاثاء الثالث من صفر بعده. كذا قال ولده وهو أعرف. وقال ابن خاتمة في مزية المرية: إنه وصل مرسية في غرة صفر فوجد الحافظ أبا هلي الصدفي مختفيا قال ابن خاتمة: وكان اختفى قبل ذلك بأيام لنبذة خطة القضاء من غير أن يعفى ووجد الرحالين إليه قد نفذت نفقات بعضهم ومنهم من ابتدأ كتابا لم يتمه فأخذ أكثرهم في الرجوع إلى مواطنهم وتربص بعضهم فمكث هو بقية صفر وشهر ربيع الأول لا يقع له على خبر سوى الظن بكونه هنالك وقابل أثناء ذلك بأصوله وكتب منها

ما أمكن على يد خاصته من أهله ولا يشك أنَّ تصرفه في ذلك لم يكن إلاّ بأمره إلى أن وصل كتاب قاضي الجماعة أبي محمّد بن منصور بحل القاضي أبي علي عن القضاء. قال ابنه: ووصل كتابه إلى أبي معلما له بذلك إذ كان يكرم عليه وعلم برحلته إليه فخرج أبو علي من اختفائه وجلس للتسميع فسمع عليه كثيرا وزمه وكان له به اختصاص فحصل له سماع كثير في أمد يسير. قال ابن خاتمة: سمع عليه الصحيحين والمؤتلف والمختلف ومشتبه النسبة لعبد الغني والشهاب للقضاعي وغير ذلك وكتب عنه فوائد كثيرة عارض بأصوله وأجاز له جميع رواياته. قال ابنه رحمه الله: حكى أبو الفضل عياض رحمه الله أنَّ القاضي أبا علي الصدفي رحمه الله قال له: لولا يسر خروجي بلطفه لكنت عزمت أن أشعرك بموضع يقع عليه الاختيار من بلاد الأندلس لا يؤبه لكوني فيه فتدخل إليه وأخرج مختفيا إليه بأصولي فتجد ما ترغب لمّا كان في نفسي من تعطيل رحلتك وإخفاق رغبتك. ولقي في رحلته هذا قولهم: جماعة من أعلام الأندلس وأجاز أبو علي الجياني

وشريح وابن شبرين وغيرهم من أعلام غرب الأندلس وأجاز أيضاً أبو جعفر بن بشتغير وابن الأدقر وأبو زيد بن منتال وغيره من أعلام شرق الأندلس. قال ابن خاتمة: وفي رحلته هذه دخل المرية وبها لقيه القاضي أبو جعفر بن مضاء. قال ابنه: ووصل بلده بعد هذه الرحلة ليلة السبت سابع جمادى الآخرة سنة ثمان وخمس مائة وأجلسه أهل بلده للمناظرة عليه في المدونة وهو ابن اثنين وثلاثين عاما وبعد ذلك بيسير أجلس للشورى ثم ولى القضاء عام خمس عشر وخمس مائة لقلاق بقين من صفر فسار فيها أحسن سيرة محمود الطريق مشكور الحالة أقام جميع الحدود على ضروبها واختلاف أنواعها وبنى الزيادة الغربية في جامع سبتة التي كمل بها جماله وبنى في جبل المينا الرابطة المشهورة إلى غير ذلك من الآثار المحمودة والمساعي المرضية فعظم جاهه وبعد صيته. ثم نقل إلى غرناطة ووصل إليه الكتاب بذلك في أوّل يوم من صفر عام أحد وثلاثين وخمس مائة فنهض إليها وتقلد خطة قضائها على المعتاد من شيمته السنية وأخلاقه المرضية مشكور عند جميع الناس لكن تاشفين ضاق به ذرعه وغص بمراقبته وصد أصحابه عن الباطل وخدمته عن الظلم وتشريدهم عن الأعمال فسعى في صرفه عن قضاء غرناطة فصرف بعد انفصاله عنها زائرا أهله وترك ابن أخيه الزاهد أبا عبد الله رحمه الله على الأحكام

وذلك في رمضان المعظم عام اثنين وثلاثين وخمس مائة. ثم ولى قضاء سبتة ثانية في آخر عام تسعة وثلاثين وخمس مائة قدمه إبراهيم بن تاشفين بن علي بن يوسف بن تاشفين فابتهج أهل بلده بذلك فسار فيهم السيرة التي عهدوا منه ثم بادر بالمسابقة إلى الدخول في نظام الموحدين والاعتصام بحبلهم المتين فأقره أمير المؤمنين أدام الله أمره على ما كان عليه وصوف أمور بلده إليه وخاطبه بالتنوية وحظى عنده وشكر بداره وسبقه. ثم رحل إليه فاجتمع به بمدينة سلا عند توجهه إلى محاصرة مراكش فأوسع له وأجزل صلته ولقي منه برا تاما وإكراما عاما وانصرف إلى أحسن حال إلى أن ثارت الفتنة. انتهى كلام ولده وسنذكر بقيته في محله إن شاء الله تعالى. وقال الشيخ العلامة أبو زيد عبد الله الرحمن الغرناطي المعروف بابن القصير رحمه الله لمّا ورد علينا القاضي عياض غرناطة خرج الناس للقائه وبرزوا تبريزا ما رأيت لأمير مثله وحزرت أعياد البلد الذين خرجوا إليه ركابا نيفا على مائتي راكب ومن سواد العامة ما لا يحصى كثرة وخرجت مع أبي رحمه الله تعالى في جملة من خرج فلقيناه شخصا بادي السيادة منبئا عن اكساب المعالي والإفادة. قال: وكان وروده علينا يوم الخميس لخمس بقين من ربيع الآخرة سنة ثلاثين وخمس مائة. انتهى. وانظر قوله سنة ثلاثين مع ما تقدم لولده من أن ولايته قضاء غرناطة سنة إحدى وثلاثين فلا أدرى أيهما أصوب إلاّ أنَّ يقال أحدهما تحريف من الناسخ. والله اعلم.

ثم إني رأيت في الاحاطة أنه تولى قضاء غرناطة عام أحد وثلاثين فتبين أنَّ ذلك هو الصواب. ورأيت مثله غير موضع فبان أنّه لا تحريف فيه. ويبقى النظر في الآخر المنقول عن عبد الرحمن بن القصير وقد نقله ابن جابر الوادي آشي عن عبد الرحمن المذكور كما حكيته سنة ثلاثين فالله اعلم. ثم قال عبد الرحمن المذكور: ولمّا استقر عندنا كان مثل التمرة كلما ليكت زاد حلاوة ولفظة عذب في كل ما صرف من الكلام للنفس إليه تتوق وله طلاوة وكان برا بلسانه جوادا ببنانه كثير التخشع في صلاته مواصلا لصلاته وقد جمعنا من سيره جملا في الكتاب الذي جمعنا فيه مناقب من أدركنا من أعيان عصرنا ونبهائه وذكرنا له ما يفاخر برونقه وبهائه وكان مع براعته في علوم الشريعة خطيبا في تحبير للخطب وفي لفظه ظاهر الخشوع عند التلاوة وفي لحظه سريع العبرة مديما للتفكير والعبرة كاتبا إذا نثر ناظما إذا شعر. انتهى. نقله ابن جابر وغير واحد كابن رشيد. وقال في أوله ما نصه: قال أبو القاسم عبد الرحمن بن أحمد بن أحمد الأزدي: ولي عندنا ببلدنا غرناطة حرسها الله تعالى الفقيه الأجل الحافظ الأحفل القاضي الأكرم الأفضل الإمام الخطيب المصقع الأديب الأبرع أبو الفضل أبو الفضل عياض. انتهى. ونقلت من خط بعض تلامذة ابن رشيد وهو محمّد بن البردعي ما نصه: وعبد الرحمن هذا قد سألت عنه شيخنا المذكور يعني ابن رشيد فقال

لي: لم يعرف به أحد من أهل الصلات. قلت: ولا المللاحي أيضاً. انتهى ببعض اختصار. وكان الإمام القاضي أبو الفضل عياض رحمه الله كثير الإنصاف ومما يدل على إنصافه الحق وتواضعه ما حكاه عبد الرحمن المذكور آنفا إذ قال: دخلت مجلس القاضي أبي الفضل عياض رحمه الله تعالى إذ كان قاضيا عندنا بغرناطة وبه جماعة من الطلبة الأعيان يسمعون تأليفه المسمى بالشفا فلما وصل القارئ إلى هذه الكلمات: " ومن قسم به أقسط " قرأه ثلاثين وكذلك كان في الأم التي كان يقرأ فيها فقلت للقاضي وصل الله توفيقه: هذا لا يجوز في هذا الموضع. فقال: ما تقول؟ فقلت: إنما هو أقسط لأن المراد في هذا الموضع " عدل " فالفعل منه رباعي كما قال الله تعالى: ) واقسطوا إنَّ الله يحب المقسطين (. وأما قسط فإنما هو " جار " كما قال تعالى:) وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا (. فتعجب وقال لمن حضر: إنَّ هذا الكتاب قد قرأه على من العالم ما لا يحصى كثرة ولا أقف على منتهى أعدادهم وما تنبه لهذه اللفظة. وفاه بلسان الإنصاف وشكر بفضله وأبلغ ببراعة علمه في تحسين المناقب والأوصاف وأورثني ذلك عنده كرامة كبيرة ومبرة ولم تزل مستمرة وصنع من المكارم أجزل صنيع وأبره رحمه الله من طود علم وهضبة فضل وحلم وتغمده إيانا برحمته ونفعه كما نفع في الدنيا والآخرة بعلمه. انتهى.

قلت: وقد رأيت نسخة من الشفا بخط هذا الشيخ عبد الرحمن المذكور وحكى هذه المسألة في الطرة بخطه كما نقلته حرفا حرفا إلاّ قوله: " المسمى بالشفا " فانه لم يقله. وألفيت في آخر هذه النسخة بخط الفقيه محمّد بن البردعي المتقدم الذكر، تلميذ ابن رشيد الفهري عندما ذكر هذه الحكاية، ما نصه: وعبد الرحمن هذا هو كاتب هذه النسخة وقد عاناها أحسن معاناة إلاّ الكراسة الأخيرة فإنها ليست بخطه وقد ذكر هذه الحكاية في بعض طرره المتياسرة حيث وقعت اللفظة المذكورة منه وأثبتها هنالك بخطه كما أثبت غيرها مما يدل على علمه وتفننه في المعارف. وقد سألت عنه شيخنا أبا عبد الله المذكور يعني ابن رشيد فقال لي: لم يعرف به أحد من أهل الصلات. قلت: ولا الملاحي أيضاً. انتهى ما ألفيته بخط ابن البردعي، وقد نقلت بعضه قبل هذا بأسطر، وأعدته هنا لارتباط بعضه ببعض، والله الموفق. قلت: ما ذكره ابن رشيد وتلميذه ابن البردعي، من أنَّ عبد الرحمن المذكور لم يعرف به أحد من أهل الصلات، قصور واضح وكذا قول ابن البردعي إنَّ الملاحي لم يذكره، فقد ذكره الملاحي وأبو جعفر بن الزبير في صلة الصلة وكناه أبا جعفر، لا أبا القاسم، ولا أبا زيد، كما كناه ابن جابر وغيره مما ذكرناه.

ونص ما في صلة ابن الزبير: عبد الرحمن بن أحمد بن أحمد بن محمّد الأزدي، من أهل غرناطة، يكنى أبا جعفر، ويعرف بابن القصير، من بيت شورى وجلالة، روى عن أبيه القاضي أبي الحسن أحمد بن أحمد، وعن عمه أبي مروان عبد الملك بن أحمد، وعن أبوي الحسن بن دري وابن الباذش، وأبي الوليد بن رشد، وأبي إسحاق إبراهيم بن رشيق الطليطلي، نزيل وادي آش، وأبي بكر بن العربي، وأبي الحسن بن موهب، وأبي محمّد عبد الحق بن غالب بن عطية، وأبي عبد الله بن أبي الخصال، وأبي الحسن يونس بن مغيث، وأبي القاسم بن ورد، وأبي بكر بن مسعود الخشني، وأبي القاسم بن بقي، وأبي الفضل عياض بن موسى وغيرهم، وكان فقيها مشاورا، رفيع القدر، جليلا بارع الأدب، عارفا بالوثيقة، ناقدا لها، صاحب رواية ودراية، تقلب ببلاد الأندلس، وأخذ الناس عنه بمرسيو وغيرها، ورحل الة مدينة فاس، فأخذ الناس عنه بها، ثم رحل إلى أفريقية وولى قضاء تقيوس، ببلاد الجريد، بمقربة من توزر، ثم ركب البحر قاصدا الحج، فتوفى شهيدا في البحر، قتلته الروم بمرسى تونس، مع جماعة من المسلمين، صبح يوم الأحد، في العشر الوسط من شهر ربيع الآخر، سنة ست وسبعين وخمس مائة. وله تواليف وخطب ورسائل ومقامات، وجمع مناقب من أدركه من أهل عصره، واختصر كتاب الحيل لابن خاقان الأصبهاني، وغير ذلك، وألف برنامج يضم رواياته. ذكر أبو القاسم بن الملجوم في برنامجه، وروى عنه، واستوفى خبره، وذكره الملاحي، وذكره الشيخ في الذيل، فيمن أسمه أحمد،

وغلطه في ذلك الكنية، ثم ذكره فيمن اسمه عبد الرحمن، وظن أنمها رجلان. انتهى كلام صاحب الصلة. قلت: ولعل الحامل لابن رشيد وتلميذه على هذا القصور، اعتمادها على الكنية، التي هي أبو زيد وأبو القاسم، وقد عرفت أنَّ صاحب الصلة قد كناه بأبي جعفر فقط، فلما فلعلهم لم يقفا على ما ذكرناه من التعريف به أصلا، أو وقفا على أوله، حين رأيا صاحب الصلة كناه أبا جعفر، ظنا أنه غيره، ولم يمعنا النظر في الترجمة إلى آخرها. وإلى الله مرجع العلم. ثم إنَّ الغلط في أمره وقع قبلهما لصاحب الذيل، كما قاله ابن الزبير. والله سبحانه اعلم بالصواب. قلت: وقد ذكرت في هذا الموضوع بعض فوائد عبد الرحمن المذكور، المكتوبة بهامش الشفا، الذي بخطه، فراجعه في ترجمة تآليف عياض، عند ذكر كتاب الشفا. وقال الفقيه الأجل، الراوي العدل، الزاهد الصالح، أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكول رحمه الله، في ذكر القاضيابي الفضل عياض في صلته، ما نصه: عياض بن موسى بن عياض اليحصبي، من أهل سبتة، يكنى أبا الفضل، قدم الأندلس طالبا للعلم، وأخذ بقرطبة عن القاضي أبي عبد الله مج بن علي، وغيرهم، وأجاز له أبو علي الغساني ما رواه، وأخذ بالمشرق عن القاضي علي حسين بن محمّد الصدفر كثيرا، وعن غيره، وعني بلقاء الشيوخ، والأخذ

عنهم، وجمع من الحديث كثيرا، وله عناية كبيرة بهم، واهتم بجمعه وتقييده، وهو من أهل التفنن في العلم، والذكاء واليقظة الفهم، واستقضى ببلده مدة طويلة، فحمدت سيرته فيها، ثم نقل عنها إلى قضاء غرناطة، فلم يطل أمده بها، وقدم علينا قرطبة في ربيع الآخر سنة إحدى وثلاثين وخمس مائة، وأخذنا عنه بعض ما عنده. وسمعته يقول: سمعت القاضي أبا علي بن محمّد الصدفي يقول: سمعت الإمام أبا محمّد التميمي ببغداد يقول: ما لكم تأخذون العلم عنا، وتستفيدونه منه منا، ثم لا تترحمون علينا، فرحم الله جميع من أخذنا عنه، من شيوخنا وغيرهم. ثم كتب إلى القاضي أبو الفضل بخطه، فذكر أنّه ولد في منتصف شعبان من سنة ست وسبعين وأربع مائة، وتوفي رحمه الله بمراكش، مغربا عن وطنه، وسط سنة أربع وأربعين وخمس مائة. انتهى كلام ابن بشكول في الصلة، وذكرته كله وإن كان بعضه قد تقدم ما يغني عنه، وبعضه يأتي، لأنه كلام أرتبط ببعضه. ورأيت في كتاب " المرقبة العليا، في الأقضية والفتيا " للقاضي الخطيب أبي الحسن علي بن عبد الله بن الحسن النباهي الغرناطي، رحمه الله، بعد أن ذكر كلام صاحب الصلة السابق، ما نصه: قلت: وسكن القاضي أبو الفضل هذا بمالقة مدة، وتمول بها أملاكا، وأصله من مدينة بسطة، ذكر ذلك حفيده، في الجزء الذي صنفه في التعريف به وبتواليفه، وبعض أخباره وخطبه، تغمده الله وإيانا برحمته، انتهى.

وقال صاحب المطمح والقلائد في وصف القاضي عياض ما نصه: " جاء على القدر، وسبق إلى نيل المعالي وابتدر، فاستيقظ لها والناس نيام، وورد ماءها وهم حيام، وجلى من المعارف ما أشكل، وأقدم على ما أحجم عنه سواه ونكل، فتحلت به للعلوم نحور، وتجلت له منها حور، " كأنهن الياقوت والمرجان "، " لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان " قد ألحفته الأصالة رادءها، وسقته أنداءها، وألقت إليه الرياسة مقاليدها، وملكته طريفها وتليدها، فبذ على فتائه الكهول، سكونا وحلما، وسبقهم معرفة وعلما، وأزرت محاسنه بالبدر اللياح، وسرت بفضائله مسرى الرياح، فتشوقت لعلاه الأقطار، ووكفت تحكي نداه الأمطار، وهو على اعتناء بعلوم الشريعة، واختصاصه بهذه الرتبة الرفيعة، يعني بإقامة أود الأدب، وينسل إليه أربابه من كل حدب ". قال ابن جابر: هكذا وصفه صاحب المطمح. انتهى. وهذا يدل على أنَّ بعض ألفاظ المطمح كألفاظ القلائد لأن هذا الذي نقله ابن جابر عن المطمح، هو بعينه في قلائد العقيان، وزاد بعد قوله: " من كل حدب " ما نصه: إلى سكون ووقار كما رسا الطود، وجمال مجلس كما حليت الخود، وعفاف وصون، ما علما فساد بعد الكون، وبهاء، لو رأته الشمس ما باهت بأضواء، وخفر، لو كان للصبح ما لاح وأسفر. انتهى. وقد رأيت بعض أوراق من المطمح، بخزانة الكتب من الجامع الأعظم بتلمستان، حرسها الله، أعني الخزانة الوسطى، التي فوق محراب الصحن، وهي التي يجلس بها الأشراف، أحفاد الشيخ الإمام، علم الأعلام

سيدي أبي عبد الله الشريف التلمستاني، رحمه الله تعالى، شارح جمل الخونجي، وصاحب التآليف المشهورة، المبرز على العلماء المعقول المنقول، وعادة هؤلاء الأشراف أن يجلسوا بها يوم الجمعة، بعد الصلاة وقبلها، فوجدت ألفاظ - أعني المطمح - كألفاظ القلائد، من غير فرق، غير أنّه في المطمح ذكر رجلاً لم يذكرهم في القلائد، فظهر من مقتضى ذلك أنَّ المطمح إنما زاد على القلائد في الرجال، وأما ما اتففنا عليه فلفظهما فيه واحد. وذكر غير واحد من الأئمة أنَّ المطمح ثلاث نسخ: كبرى، ووسطى، وصغرى. وأصل تسميته: " مطمح الأنفس، ومسرح التأنس، في ذكر أعيان الأندلس ". ولعلنا نذكر فيما يأتي من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، التعريف بصاحب المطمح والقلائد المذكور، وهو الفتح بن عبد الله، الكاتب المعروف بابن خاقان، في موضع أنسب من هذا، والله سبحانه المستعان، نسأله سبحانه أن ييسر علينا كرم الله وجهه مرام، ويغتمد بالعفو ما ارتكبناه من إصرار وإجرام، بجاه أشرف الخلق، ووسيلتهم إلى الحق، سيدنا محمّد بن عبد الله بن عبد الطلب ابن هاشم، عليه من الله أفضل صلوات وأزكى سلامة، وعلى جميع إخواننا المرسلين والنبيين، وعلى آله، وأصحابه، وأشياعه، وأنصاره، وأزواجه، وذريته، وأهل بيته الطاهرين. وكان القاضي أبو الفضل عياض - رحمه الله - حسن الإلقاء للمسائل،

كثير التحرير للنقول، وقد انتفع به من العلماء ما لا يحصى، كأبي زيد عبد الرحمن بن القصير، المتقدم الذكر. وممن أخذ عنه القاضي الشهير أبو جعفر أحمد بن عبد الله الرحمن بن مضاء اللخمي رحمه الله، وقد قدمنا أنّه لقيه بالمرية. وكان القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى وقورا، ذا سمت حسن، وهدي مستحسن، وربما تقع منه دعابة، كما تصدر من الفضلاء أمثاله. ومن دعابته ما حكاه ولده، قال: قال بعض أصحابنا: صنعت أبياتا تغزلت فيها، والتفت إلى أبيك رضي الله عنه، ثم اجتمع بي، فاستشهدني إياها، فوجمت، فعزم علي، فأنشدته: أيا مكثرا صدى ولم آت جفوة ... وما أنا عن فعل الجفاء براضي سأشكو الذي توليه من سوء عشرة ... إلى حكم الدنيا وأعدل قاضي ولا حكم بيني وبينك أرتضي ... قضايا في الدنايا سوى ابن عياض قال: فلما فرغت حسن وقال: ومتى عرفتني قوادا يا فلان، على طريق المداعبة، رحمه الله تعالى، ورضي عنه وأرضاه. وكان القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى كثير الاعتناء بالتقييد والتحصيل. قال ابن خاتمة: كان لا يبلغ شأوه، ويدرك مداه، في العناية بصناعة الحديث، وتقييد الآثار، وخدمة العلم، مع حسن التفنن فيه، والتصرف الكامل في فهم معانيه، إلى اضطلاعه بالآداب، وتحققه بالنظم والنثر، ومهارته في الفقه، ومشاركته في اللغة العربية.

صناعة التأليف بالمغرب

وبالجملة فكان جمال العصر، مفخر الأفق، وينبوع المعرفة، ومعدن الإفادة، وإذا عدت رجالات المغرب، فضلا عن الأندلس، حسب فيهم صدرا. انتهى. وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذووه أهل الفضل. وكان رحمه الله تعالى معظما للسنة، عالما عاملا، خاشعا قانتا، قوالا للحق، لا يخاف في الله تعالى لومة لائم. وكان رحمة الله معتنيا بضبط الألفاظ النبوية على اختلاف طرقها، وكتابه " المشارق " أزكى شاهد على ذلك، ولقد كان بعض من لقيته من صلحاء عصرنا وعلمائه يقول: لا أحتاج في كتب الحديث إلاّ للمشارق، فإذا كان عندي، أبالى بما فقدت منها، أو كلاهم هذا معناه. وسنذكر إن شاء الله تعالى بعض ما قيل في كتاب المشارق في محله من هذا الموضوع. وكان رحمه الله حاضر الجواب حاد الذهن، متوقد الذكاء جامعا للفنون آخذا منها بالحظ الأوفر. وكان القاضي أبو الفضل عياض رحمه الله بارع الخط المغربي، وقد وقفت على خطه رحمه الله، فرأيت خطأ رائقا، وكان سريع الوضع، ويدل على ذلك كثرة أوضاعه، وكتب مع ذلك كتب كثيرة بيده. وكان رحمه الله تعالى حسن العبارة لطيف الإشارة، وتآليفه شاهدة بذلك، وله في الفقه المالكي اليد الطولي، وعليه المعول في حل ألفاظ المدونة وضبط مشكلاته، وتحرير رواياتها، وتسمية رواتها. وتحقيق ذلك أنه جمع بين شرح المعاني وإيضاحها، وضبط الألفاظ، وذكر من رواها من الحفاظ. صناعة التأليف بالمغرب ولقد وقف في بعض التعاليق لأحد المتأخرين على كلام في صناعة

التأليف، رأيت أنَّ أجلبه جميعه، لمّا فيه من ذكر بلاغة القاضي عياض ونصه: وقد كان للقدماء، رضي الله عنهم، في تدريس المدونة اصطلاحان: اصطلاح عراقي، واصطلاح قروي. فأهل العراق جعلوا من مصطلحهم مسائل مدونة كالأساس، وبنو عليها فصول المذهب بالأدلة والقياس، ولم يعرجوا على الكتاب بتصحيح الروايات، ومناقشة الألفاظ، ودأبهم القصد إلى إفراد المسائل، وتحرير الدلائل، ورسم الجدليين، وأهل النظر من الأصوليين. وأما الاصطلاح القروي فهو البحث على ألفاظ الكتاب، وتحقيق ما احتوت عليه بواطن الأبواب، وتصحيح الروايات وبيان وجوه الاحتمالات والتنبيه على ما في الكلام من اضطراب الجواب، واختلاف المقالات، مع ما أنضاف إلى ذلك من تتبع الآثار، وترتيب أساليب الأخبار، وضبط الحروف على حسب ما وقع من السماع، وافق ذلك عوامل الأعراب أو خالفها. فهذه كانت سرة القوم رضوان الله عليهم، إلى أن عم التكاسل، وصار رسم العلم كالماحل. ويحقق ما قلناه تصرف التونسي في تعاليقه اللطيفة المنزع، واللخمي في تبصرته البارعة الختام والمطلع إلى غير ذلك من تآليف القرويين وتعاليق المحققين، من شيوخ الأفريقيين. وقد سلك القاضي عياض في تنبيهاته مسلك جمع فيه بين الطريقتين

والمذهبين وذلك لقوة عارضته، نفعه الله بذلك، وأعاد إلينا من بركاته. انتهى. وقال في هذا التعليق في موضوع آخر ما نصه: وأغلب تآليف المشارقة الإيجاز، لتمكن ملكتهم من التصرف، مثل كتاب ابن الحاجب، في فروعه وفي أصوله، والخونجي في المنطق، وغيرهما، وإن كان الغالب على جل أئمة المشارقة الإطناب، مثل الغزالي والإمام الفخر وغيرهما. وأما أهل الأندلس فالغالب عليهم فيهقة البلاغة، في حسن رصف الكلام وانتقائه، مثل عبارة القاضي عياض في تآليفه، التي لا تسمح القرائح بالإتيان بمثلها والنسج على منوالها. وانتهت صناعة التأليف في علماء المغرب، على صناعة أهل المشرق، لشيخ شيوخ العلماء في وقته، ابن البناء الازدء المراكشي، في جميع تصانيفه، أوجب ذلك براءة نسبة من البداوة، وملكنه في التصرف، التي هي نتيجة تحصيله. ولم يظهر من علماء فاس شيء من التآليف المرتجلة ولا الملخصة، إلاّ ما كان سبيله النسيج بها على ما هي عليه فقط، كما في تأليف المدونة المنسوبة للشيخ أبي اللحسن وهي التي اعتنى بها طلبته، وبنوها على ما قيدوه عنه من فوائد المجلس، وذلك كله في العشرة الرابعة من المائة الثامنة. ثم تلاهم طلبة

الشيخ الجزولي على الرسالة، وتعددت تلك التقاييد أيضاً، ونسبة إلى الشيخ وإنما له فيها ما قيد عنه في المجلس. واختلف نظر الشيخين بحسب تعدد السلكات، فقيد كل طالب ما سمع. فلا يقال في هذه تآليف، لكونها منسوخة من أماكن معزوة. والعلة في ذلك كون صناعة التعليم، وملكة التلقي، لم تبلغ فاسا، كما هي بمدينة تونس، اتصلت إليهم من الإمام المازري، كما تلقاه عن الشيخ الخمي، وتلقاها اللخمي عن حذاق القرويين، وانتقلت ملكة هذا التعليم إلى الشيخ ابن عبد سلام، مفتي البلاد الإفريقية وأصقاعها، المشهود له برتب التبريز والامامة، واستقرت تلذ الملكة في تلميذه ابن عرفة رحمه الله، وفي الشيخ ابن الإمام التلمساني. ونجب من طلبة ابن الإمام تلميذه الإمام أبو عبد الله الشريف، شارح الجمل وانتهت طريقته لولده أبي يحيى

المفسر العالم. واستقرت أيضاً طريقة ابن الإمام، في تلميذه سعيد بن محمّد العقباني، وانتهى ذلك إلى ولده شيخنا أبي الفضل قاسم العقباني، رحمهم الله جميعا. قال ابن خلدون، ولمن ذكرنا من أهل المائة الثامنة انتهت طريقة التعليم، وملكة التلقي. يعني بذلك الشريف والعقباني رحمهما الله تعالى، قال: لكونهما ألفا التصانيف البعيدة، وزاحما رتبة الاجتهاد من غير منازع. قلت: وكذلك بلغ رتبة التبريز في تحصيل العلم، كل واحد من ولديهما، الفقيه السيد أبو القاسم بن سعيد، والفقيه الأوحد السيد أبو يحيى الشريف، إذ بلغ درجة الإمامة والفتيا. وأما الإمامة ابن عرفة، فانتفع به جماعة، فكان أصحابه كأصحاب سحنون: أئمة في كل بلد، فمنهم أيضاً من بلغ درجة التأليف ووقع الاتفاق على إمامته، وتقدمه وسمو رتبته، كشيخنا الإمام الحافظ المحصل أبي القاسم بن أحمد البرزلي، مفتي ابلاد الإفريقية، ومؤلف كتاب الأسلة الحاوية للنوازل والفتاوي. ومنهم شيخنا الإمام الحافظ المجتهد، صاحب التصانيف المفيدة، أبو عبد الله محمّد بن مرزوق، وله " المنزع النبيل، في شرح مختصر خليل "، و " شرح التهذيب "، وغير ذلك من المسائل العلمية.

قلت: إنما اقتصرت على ذكر هذين الشيخين الإمامين، لمّا لهما علي من المشيخة، ولشهرتهما بالتأليف، التي تقوم مقام الشاهدة لمّا قلته، حتى نبد عن شبه التعصب. وأما من نجب من تلاميذة شيخ شيوخنا ابن عرفة، وتمكن من ملكة التعليم، فخلق يطول عددهم، فمنهم من أدركناه، وأخذنا عنه، وأجزنا مروياته، ومنهم من لم ندركه، نفع الله بجميعهم، وأعاد علينا من بركاتهم. قلت: هنا انتهت ملكة الفقه من علماء القيروان عن المازري، إلى من ذكرنا، ثم إلى من لقينا. وأما ملكة العلوم النظرية، فهي قاصرة على البلاد المشرقية، ولا عناية لحذاق القرويين والإفريقيين إلاّ بتحقيق الفقه فقط. ولم يزل الحال كذلك إلى أن رحل الفقيه ابن زيتون إلى الشرق، فلقي تلاميذ الفخر بن خطيب، ولازمهم زمانا، حتى تمكن من ملكة التعليم، وقدم إلى تونس، فانتفع به أهلها، وانتهت طريقته النظرية إلى تلميذه ابن عبد السلام المذكور، واستقل تلميذه بن عرفة بعده بتلك الطريقة، وكذلك أبو عيسى موسى ابن الإمام التلمساني المذكور ولهذا تجد أثر العلوم النظرية بتلمستان. قال الإمام ابن خلدون وغيره من أئمة التاريخ: لم نشاهد في المائة الثامنة من سلك طريق النظار بفاس، بل في جميع هذه الأقطار، لأجل انقطاع ملكة التعليم عنهم، ولم يكن منهم من له عناية بالرحلة،

بل قصرت هممهم على طريق تحصيل القرآن، ودرس التهذيب فقط. نعم أخذوا شيئاً من مبادئ العربية من أهل الأندلس، القادمين عليهم من يبتة وغيرها، باستدعاء ملوك بني مرين. قال: ولهذا لم يتصدر من الفاسيين من يقرئ " الكتاب " كما هو متناول بين أهل الأندلس، مثل ابن أبي الربيع والشلوبين وغيرهما، لوجود ملكة النحو في قطر الأندلس، بسبب رحلة علمائها إلى تلقيه من أربابها بالمشرق، كما ارتحل أعلامهم إلى بغداد في تحصيل الفقه من الابهري، وكذا يحيى بن يحيى عن مالك، وغير واحد وكذلك علوم الحديث وغيره، كرحلة الإمام الحافظ أبي بكر بن العربي. ولمّا كمل غرض أبي عنان، كبير ملوك بني مرين، من بناء مدرسته بالمتوكلية بفاس، وكل بعيد الصيت في علو الهمة، قال انظروا من يقري بها الفقه، فوقع الاختيار على الشيخ الصرصري الحافظ، ولمّا جلس بها واتسع صيته، وجه إليه أبو عنان المذكور من يسأله في مسائل التهذيب، التي انفرد باتقانها وحفظها، وطالبه بتحقيق ذلك وإتقانه، وحسن تلقيه، ولا أدري المنتخب له: هل هو أبو عيسى موسى ابن أبي الإمام المذكور آنفا، أم السيد الشريف أبو عبد الله شارح " الجمل "، المتقدم الذكر، أو هما معا، فطالباه بتحقيق ما أورده من المسائل عن ظهر قلب، على المشهور من حفظه، فانقطع انقطاعا فاحشا، ولمّا أضجره ذلك نزل عن كرسيه، وانصرف كئيبا، في

غاية القبض، ولمّا اشتهر ذلك عنه وجه إليه أبو عنان الملك المتقدم الذكر، فلما مثل بين يديه آنسة وسكنه، ثم قال له: أنا أمرت بذلك، كي تعلم ما عندك من العلم، وما عند الناس، وتعلم أنَّ دار الغرب في كعبة كل قاصد، فلا يجب أن تتكل على حفظك، وتقتصر على ما حصل عندك، ولا يمنعك ما أنت فيه من التصدي، عن ملاقاة من يرد من العلماء، والتنزل للأخذ عنهم، ولا يقدح ذلك في رتبتك عندنا، إن شاء الله تعالى. لخصت هذه الحكاية من تاريخ القيسي، فأنظرها. قلت: وعكس هذا وقع لفقهاء فاس في أواسط المائة الثامنة، لمّا شرق السلطان أبو الحسن رحمه الله، وانتهت به درجة الاستبداد والاستقلال ببلاد إفريقية، فظهر فقهاء المغرب ممن صحبه، على فقهاء تونس، لحفظهم كتاب التهذيب عن ظهر قلب، وزعيم فقهاء المغرب يومئذ الرجل الصالح، أبو عبد الله السطي رحمه الله ونفع به، إلى أن جاءت نوبة الشيخ ابن عبد السلام، وعقد مجلسه بمحضر السلطان المذكور، ومن معه من الفقهاء والنحاة والكتاب والرؤساء، وتوجهت مطالبة فقهاء المغرب له، فكان رحمه الله على ما وصفه به من أرخ الواقع، كأنه بحر تلاطمت أمواجه، فكان يقطعهم واحد بعد آخر، وتلميذه ابن عرفة كذلك، إلى أن قال ولي الله المنصف، أبو عبد الله السطي للسلطان: يا علي، كذا يكون التحصيل، وكذا يقرأ الفقه، ولو لم يكن بتونس إلاّ هذا الإمام لكان بها كل خير! فلا بد من ملازمة هذا لهذا المجلس، حتى ينتفع به أصحابنا، وينتع بطريقه. وذلك هو السبب في التنويه بالشيخ ابن السلام رحمه الله، على أنه كانت رغبته فيما عند الله أن مات.

قلت: وإنما ذكرت هذه القضايا تنشيطا للناظر، وتحميضا للذاكر، ولم نزل نسمع من أئمتنا ومن ذكرنا، في مجالي دروسهم، ما يشبه ما ذكرناه من آثار السلف لمّا في ذلك من تقوية باعث الطالب على كيفية التحصيل والدرك، والجد في إدراك أسبابه، وأخذ العلم من أربابه، والولوج إليه من بابه. وكان الإمام المازري رحمه الله كثير الحكايات في المجلس، ويقول: هي جند من جنود الله، حتى كان لا يخلي مجالسه منها. تنبيه: إياك أن تظن القصور بمن تصدى للتقييد على " التهذيب "، من طلبة الشيخ أبي الحسن، وكذا من تلاهم من طلبة الشيخ أبي زيد عبد الرحمن الجزولي، ويقرع سمعك ما أفتى به الشيوخ، ومن له في العلم الرسوخ، أنَّ تقاييد " التهذيب " و " الرسالة " لا يعول عليها في الإقراء، ولا يوثق بشيء منها في الفتيا، وأنَّ من عول عليها في الإقراء يرد المراتب. فاعلم شرح الله صدرك، إنَّ القوم كانوا أهل صلاح وورع، وجد في طلب الفقه، وإفراط حرص ومثابرة على درس " التهذيب "، وحفظ ما يتعلق به من النصوص فقط، فبنى كل واحد في تقييده على ما سمعه من الشيخ، وما ناسب اجتهاده ونظره ومن تقايد الفقهاء، مثل ابن يونس، واللخمي، والتنبيهات، وابن رشيد واختلف رأيهم في ذلك، فمنهم الموجز، ومنهم المطنب، وباب الفتيا باب احتياط، فلا بد للمفتي من مباشرة الكتب المروية، والأمهات الأصلية، ولا ينبغي له الاقتصار على الواسطة، إذ لا يؤمن من خلل أو تصحيف، لفقد

ملكة التأليف، وإنما الغالب على طباعهم تغفل البداوة، فقدح ذلك في صناعة التصنيف، وكيفية التأليف، والقوم أهل دين متين كما وصفنا، فلا يقدح ذلك في مراتبهم، ولا يثلم مناصبهم. ووجه ثان: ذكر أهل الاصول في باب الاجتهاد أنَّ مجهول الحال لا تقبل فتياه كالراوي، وإن أضاب كل واحد، ولا يخفى عليك وقوع مثل هذا لأصحاب تلك التقاييد. ووجه ثالث: مبنى ما أفتى به العلماء من عدم التعويل على شيء منها في الإقراء والفتايا، هو الله اعلم، لمّا اشتملت عليه من ذكر الشيء وضده، على أسلوب واحد، وقد وقفت على ذلك في جل تلك التقاييد، وهو أن المقيد يجمع للخلاف المذهبي ما ليس فيه، بل هو خارج المذهب، وقد وقع ذلك في موضع غير واحد من تلك القاييد، كما نقل بعضهم الخلاف في التنقل في الصحراء قبل صلاة العيد وليس كذلك، بل الخلافة قيما إذا صليت في المسجد، وأما في الصحراء فلم يقل به إلاّ الشافعي. ومثل ذلك ما وقفت عليه في حكم السواك، قال المقيدع كلام الشيخ في باب جمل من الفرائض: واختلف في حكم السواك على قولين: فقيل إنه واجب، وقيل سنة، فأنت ترى هذا لخلاف، ولم يل بوجوبه إلاّ أهل الظاهر، وعملا بصيغة ظاهر الحديث الوارد في ذلك. وكذلك وقفت على الخلاف في غسل الجمعة، فقال المقيد: اختلف فيه: فقيل فرض، وقيل سنة. وقد علمت أيضاً قول أهل الظاهر بوجوبه، عملا بظاهر الحديث. وكذا الغسل: هل هو للجمعة أو لليوم؟ فقال المقيد: اختلف في ذلك على قولين: وقد علمت قول اهخل الظاهر، وأنه لليوم، حتى لو اغتسل بعد الصلاة لأجزأه.

وكذا وقفت على القول ببطلان صلاته، على القول بفريضته، ولم يقل بذلك أهل التصوف. وكذا القول بموجب المضمضة والاستنشاق في الوضوء والغسل، وقد علمت نصوص أهل المذهب في هذه المسائل. ومن في تلك التقاليد ما لا يحصى كثرة لمن تأملها؛ وفيما ذكرنا كفاية، فلعل هذا هو سبب نقد العلماء في مجموع تلك التقاليد. والله اعلم. تنبيه: أحذر أيّها الناظر، شرح الله صدري وصدرك، أنَّ يقع في نفسك أنَّ عجز هؤلاء السادات عن صناعة التأليف، والحذق في التصنيف، وعدم الاقتدار، على الترجيح والاختيار، وعدم القيام بمواد مدارك المحققين والنظار، يوجب قدحا في مناصبهم، أو وصما في مراتبهم، فتكون ممن أساء الظن بالسالف، وعرض نفسه إلى الهوى في مهاوي التلف، بل أوجب ذلك ما أصلناه وقدمناه، من أنَّ القوم كانوا أهل عمل ودين متين، وجرى على سنن السلف الأقدمين الصالحين العاملين، فشغلهم ما أخذوا فيه من مدينة العمل، وإثقال التقلل والمجاهدة، وتحري الحلال، والزهد والإقلال، عن تتبع مواد التحقيق، إلى فقد الملكة النظرية من هذا القطر، وانقراضها منه منذ زمان إلى عصرنا هذا: وما حكوه من عدم الترتيب، وقلة العزو للأقوال، حال من صرف عنايته لتقييد العلم من حيث هو، ولم يتكلف ذكر مشهور، ولا ما عليه الجمهور، أو يكون اعتمد في تقييد ما قيد على ما سمع من الشيخ في السلكات، فيعذر على هذا ولا يفند. والتقييد المعزو للشيخ أبي الحسن اقل تكلفا لا محالة، إلاّ أنّه لا يخفى ما فيه من ضعف الاختيار، عند التحقيق والاستبصار. أعاد الله علينا من بركاتهم، ونفعنا بهم.

وما ذكرته في هذا الاستطراد مست الحاجة إليه، كما مست حاجة أئمة الحديث، على جلالتهم وورعهم، إلى تبيين الضعيف والمجرح، وتدوين أخبار الضعفاء، ومن نسب إليهم وهم أو تدليس أو وهن، وهذا لولا مسيس الحاجة، لم ينبغ أنَّ يلتفت إليه، والله الموفق بفضله. ثم قال هذا العالم في موضع آخر: تنبيه: ولا يعترض على ما وقع للشيخ، من الحكاية التي حدثنا بها شيخنا الإمام البرزلي رحمه الله، قال: لمّا قدم الفقيه القباب، حافظ مدينة فاس، وزعيم فقهائها في عصره، يريد أداء فريضة الحج، فاجتاز بحضرة تونس، فحضرة مجلس شيخنا ابن عرفة، هو ومن كان معه من الفقهاء، فاستطرد الشيخ رحمه الله الكلام إلى إنَّ قال: وكثيرا ما نجد في تقييد الشيخ أبي الحسن: " يؤخذ من هذه المسألة "، فلا أدري صورة ذلك الأخذ ما هو؟ هل هو من طريق الاستقراء، أو الاستنباط، أو القياس، أو المفهوم؛ وكل قسم من هذه الأقسام يفتقر إلى شرط، ولا شيء من ذلك؟ فقال القباب لأصحابه بعد انصرافهم: علمتم ما تحصل بأيدينا من الفقه، وصح عندكم أنَّ الملكة التامة في التحصيل والتصرف، إنّما هذا في قوى أهل تونس ومن يليهم من أهل المشرق، وإنَّ قصارى ما عندنا وعند مشايخنا إنّما هو حفظ المنصوص، وإبقاؤها على ما هي عليه، وأنَّ ملكة القروبين انتقلت إلى الأفريقيين. فهذا الواقع من الشيخ، ليس هو بالمعارض لمّا وقع في جوابه، من اعتبار المفهوم، إنّما هو بحث في شرط المفهوم، وكيفية الاستنباط خاصة، فأعلم ذلك. تنبيه: لا يقع في ذهنك قصور الشيخ في قوله: " يؤخذ من هذه المسألة "، وأنّه خفي عليه كيفية الأخذ. فاعلم، أرشدك الله، أنَّ الشيخ أبا الحسن، كان إمام

وقته في فقه المدونة، وهو المستقل برياستها بعد شيخه الفقيه راشد، ما أخذ عنه حتى ظهرت على يديه الكرامات الخارقة، في شفاء أصحاب العلل المزمنة وغير ذلك، ولم ينظر في الفقه حتى أتقن علم الفرائض، وفنون البلاغة، وتلقى ذلك من أربابه، وارتحل، وانتقل إلى تازا، فلازم أهل اللسان، وفرسان المعارف وقتا طويلا، ثم اعتكف على قراءة " التهذيب "، ولازم الفقيه راشدا، واقتصر عليه، وكان الفقيه راشد لا ينفذ بمدينة فاس حكما، ولا جواباً في نازلة، حتى يحضره، ويعتني به، فلم تخط فراسته فيه؛ وكان لا يحجر عليه في القراءة، بل يقرأ من " التهذيب " من أي مكان شاء، وقد صدقت فراسته فيه، فكان في ميزان حسناته يوم القيامة. واستيفاء التعريف بالشيخ، وذكر محنته بالقضاء، وسبب عزله، وذكر وفاته، يخرجنا عن الاختصار. انتهى ما مست الحاجة إليه من كلام هذا المتأخر، ونقلت أكثره بلفظه، تبركا بعبارته، التي تلوح عليها إمارات الصالحين، وبالله التوفيق. ولنذكر كلامنا من هذا المعنى، فنقول: قال الإمام أبو عبد الله الأبي رحمه الله تعالى في شرح مسلم، عند كلامه على قوله) : " أو علم ينتفع به بعده ": كان شيخنا أبو عبد الله ابن عرفة يقول: إنّما تدخل التواليف في ذلك ذا اشتملت على فائدة زائدة، وإلاّ فذلك تخسير للكاغد. ونعني بالفائدة الزائدة على ما في الكتب السابقة عليه، وأما إذا لم يشتمل التأليف إلاّ على نقل ما في الكتب المتقدمة، فهو الذي قال فيه: أنّه تخسير للكاغد، وهكذا كان يقول في مجالس التدريس، وأنّه إذا لم يكون في مجلس التدريس التقاط

زائدة من الشيخ، فلا فائدة في حضور مجلسه، بل الأولى لمن حصلت له معرفة بالإصلاح، والقدرة على فهم ما في الكتب، أنَّ ينقطع لنفسه، ويلازم النظر؛ انتهى. ونظم في ذلك أبياتا، وهي: إذا لم يكن في مجلس الدرس نكتة ... بتقرير إيضاح لمشكل صورة وعوز غريب انقل أو حل مقفل ... أو أشكال أبدته نتيجة فكرة فدع سعيه وانظر لنفسك واجتهد ... ولا تتركن فالترك أقبح خلة وكنت قلت في جواب أبياته هذه: يمينا يمن أولاك أرفع رتبة ... وزان بك الدنيا بأحسن زينة لمجلسك الأحظى الكفيل بكل ما ... على حسن ما عنه المحاسن جلت فأبقاك من رقاك للناس رحمه ... وللدين سيفا قاطعا كل بدعة وإني في قسمي هذا لبار، فلقد كنت أقيد من زوائد إلقائه، وفوائد إقرائه، على الدول الخمس، التي كانت تقرأ بمجلسه، وهي: التفسير، والحديث، والدول الثلاث التي بالتهذيب، نحو الورقتين كل يوم، مما ليس في كتاب، فالله المسئول أنَّ يقدس روحه، فلقد كان الغاية، وشهادة ذلك ما اشتملت على تواليفه من ذلك، وناهيك بمختصره في الفقه، الذي ما وضع في الإسلام مثله، لضبطه فيه المذهب: مسائل وأقوالا، مع الزيادة المكتملة، والتنبيه على المواضع المشكلة، وتعريف الحقائق الشرعية. انتهى كلام الأبي ورأيت بخط بعض الأكابر ما نصه: المقصود بالتأليف سبعة: شيء لم يسبق إليه فيؤلف، أو شيء ألف ناقصا فيكمل، أو خطأ فيصحح، أو

مشكل فيشرح، أو مطول فيختصر، أو مفترق فيجتمع، أو منثور فيرتب. وقد نظمها بعضهم فقال: ألا فاعلمن أنَّ التأليف سبعة ... لكل لبيب في النصيحة خالص فشرح لإغلاق وتصحيح مخطئ ... وإبداع حبر مقدم غير ناكص وترتيب منثور وجمع مفرق ... وتقصير تطويل وتتميم ناقص وألفيت بخط شيخ شيخنا، الإمام القاضي سيدي عبد الواحد الونشريشي، رحمه الله، ما نصه: ألفيت بخط والدي، رحمه الله، على طرة من هذا المحل، وأعني كلام الأبي السابق، ما نصه: قلت: من هنا يعلم أنَّ انطلاق اسم المدرس على المقتصر على نقل تقاييد الرسالة والمدونة، من غير فتش ولا تنزيل، ولا كشف واستظهار بغيرها: مجاز، لا حقيقة؛ وهذا الوصف كاد أنَّ يعم أهل الوقت أو عمهم، فنسأل الله العظيم المغفرة من التطفل، وتعاطي ما ليس في المقدور. وقال أيضاً: تأمل هاهنا الثناء على شيخ الإسلام، الإمام أبي عبد الله بن عرفة، أسكنه الله دار السلام، وعلى تآليفه، لا سيما مختصره الفقهي، الذي أعجز معقوله ومنقوله الفحول، خلافا لبعض القاصرين من طلبة فاس، فأنهم يقولون: ما يقول شيئاً، يطفئون نور الله، ويحتقرون ما عظم الله، ومستندهم في ذلك بزعمهم حكاية تؤثر عن شيخ المحقق أبي العباس القباب، لا رأس لها ولا ذنب، وحاشاه من ذلك، وما أراهم في هذا إلاّ كما قال الأول: وكم من غائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقم

ولقد حبس ملوك المغرب، رضوان الله عليهم، بخزانتي القرويين والأندلس، من هذا الديوان المبارك نسخا عديدة، ثم لا يعرج عليها للمطالعة في هذا الوقت أحد من الطلبة الحضرة، شتاء ولا صيفا، فأنا لله وأنا إليه راجعون، بخلاف ما قيد عن الشيخ الجزولي، وأبي الحسن الصغير، فإنك تجدهم يزدحمون عليها في كل زمان، وخصوصا فصل الشتاء، لا يلحق الآخر منها ورقة واحدة، مع كثرة عددها بحيث ذكر، بل تجدهم يتنافسون في اقتنائها، بالأثمان العظيمة المجحفة، ومن ملك منهم المسبع من الجزولي، وتقييد اليحمدي، وحائر مذهب إمام دار الهجرة على التمام، والقائم بأمره. ولقد كان الحسن المغيلي عندهم في أعلى طبقة من الفقه والتفقه، لقيامه على مسبع الجزولي نقلا، ولقد شاهدتهم يتساقطون كالفراش، على نسخة من الجزولي بجزالة القروين، وزعموا أنها بخط أبي الحسن المذكور، وهي مشحونة بالتصحيف، تعمى البصر والبصائر، نور الله قلوبنا بذكره، وعمر ألسنتنا بشكره، ووفقنا لمّا فيه رضاه عنا. انتهى ما ألفي بخط الشيخ سيدي أحمد الونشرينس، رضي الله عنه. أقول: ولقد احسن بعض الأكابر من طلبة ابن عرفة، رحمه الله تعالى إذ يقول في مدح مختصره المذكور: إذا ما شئت أنَّ تدعى إماما ... فخذ في درس مختصر الإمام تنال به السعادة والمعالي ... وتضحى ظاهرا بين الأنام

كتاب قد حوى من كل علمٍ ... كبستان سقي غيث الغمام فدع عنك السآمة وادرسنه ... وعن عينيك دع طيب المنام وحل بدره جيد المعالي ... تفز بالخلد على أعلي مقام وما أشار إليه الشيخ الونشريشي من قوله: " ومستندهم في ذلك بزعمهم حكاية تؤثر عن القباب، لا رأس لها ولا ذنب "، أشار به إلى ما يزعمون عن الشيخ القباب، وقد نقلها شيخنا الإمام سيدي أحمد بابا، أبقاه الله في تكميله لديباج ابن فرحون، ونصه: ويقال أنّه لمّا حج اجتمع في تونس بابن عرفة، فأوقفه على ما كتب من مختصره الفرعي، وقد كان شرح في تأليفه، فقال له القباب: ما صنعت شيئاً. فقال له ابن عرفة: ولمه؟ قال: لأنه لا يفهمه المبتدئ، ولا يحتاج إليه المنتهي. فتغير وجه ابن عرفة، ثم ألقى عليه مسائل أجابه عنها القباب. ويقال إنَّ كلامه هو الحامل لابن عرفة على أنَّ بسط العبارة في أواخر المختصر، وبين الاختصار، والله اعلم. انتهى كلام شيخنا أبقاه الله. قلت: رأيت بخط ابن داود الأندلسي ثم التلمساني، ما نصه: وجدت بخط الرملي ما نصه: حدثنا الشيخ ابن عرفة رضي الله عنه الله عنه، عن الشيخ القباب الفاسي، عن الآبلي، قال: أورد السلطان أبو عثمان على فقهائه الحلة، في قول عائشة رضي الله عنه عنها، في حديث مسلم: " فتوفي رسول الله) ، وكان مما يقرأ: " خمس رضعاتٍ يحرمن ". أنظره في مسلم. قال: يلزم على هذا الخلف في خبرها، رضي الله تعالى عنها، أو عدم حفظ القرآن،

ترجمة الفيروزأبادي

وكلاهما محال. قال: فسكت الحاضرون بأجمعهم. قال: فقلت: القرآن على قسمين متحدين به، وهو المعجز، وغير متحدى به، والأول هو المحفوظ، بخلاف الثاني بدليل هذا الحديث، قال: فقبله الحاضرون كلهم. ولنورد هنا تمام الحكاية: وهذا يحتاج إلى دليل. وشنعه الأستاذ أبو سعيد ابن لب غاية التشنيع، وقال: كون القرآن على قسمين قسم معجزة متحدى به محفوظ يصلى به، وقسم بخلاف ذلك يحتاج إلى دليل ولا يوجد. انتهى. ولو قيل: أنّه لم يبلغها النسخ، كما أجابوا به حديث ابن مسعود في حديث سورة:) والليل إذا يغشى (، لكان ابين وأحسن. وذكر ابن الخطيب القسنطيني أنها في أسئلة مجموعة، منسوبة إلى السلطان أبي عنان رحم الله تعالى الجميع. انتهت الوجادة. ونقلها بطولها لمّا فيها من الفائدة. والمسألة اعتاد الكلام عليها في " مرتقى الوصول إلى بناء الفروع على الأصول " للسيد أبي عبد الله الشريف، فراججعها منه. انتهى كلام ابن داود رحمه الله. قلت: وبالجملة قإمامة الشيخ ابن عرفة لا تنكر ولا تجحد ومعرفته بالفنون وتبريزه على أهل عصره، مما يعترف به كل منصف لوزعي أوحد، ولله در صاحب " الشقائق النعمانية، في علماء الدولة العثمانية " حيث صرح بأن ابن عرفة فاق أقرانه في فقه المالكية بالمغرب، آخر الثامن. ونص كلامه، عند ترجم لصاحب القاموس: ترجمة الفيروزأبادي عن الشقائق النعمانية هو المولى الفاضل مجد الدين أبو الطاهر، محمّد بن يعقوب بن محمّد الشيرازي الفيروزابادي. كان رحمه الله تعالى ينتسب إلى الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، صاحب

التنبيه، وربما يرفع نسبه إلى أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، وكان يكتب بخطه: " الصديقي ". دخل بلاد الروم، واتصل بخدمة السلطان بايزيد بن السلطان مراد، ونال عنده رتبة وجاهاً، وأعطاه السلطان مالاً جزيلاً، وأعطاه الأمير تيمور خمسة آلاف دينار، ثم جال البلاد شرقاً وغرباً، وأخذ عن علمائها، حتى برع في العلوم كلها، لا سيما الحديث والتفسير والفقه. وله تصانيف كثيرة، تنيف على أربعين مصنفاً، وأجل مصنفاته " اللامع المعلم العجاب، الجامع بين المحكم والعباب "، وكان تمامه في ستين مجلد، ثم لخصها في مجلدين، وسمى ذلك الملخص ب " القاموس المحيط " وله تفسير القرآن العظيم، وشرح البخاري والمشارق، وكان لا يدخل بلدة إلاّ وأكرمه واليها، وكان سريع الحفظ، وكان يقول: لا أنام حتى أحفظ مائتي سطر، وكان كثير العلم والاطلاع على المعارف العجيبة؛ وبالجملة كان آية في الحفظ والاطلاع والتصنيف. ولد رحمه الله تعالى سنة تسع وعسرين وسبع مائة بكارزين، من أعمال شيراز، وتوفى قاضيا بزبيد، في بلاد اليمن، ليلة العشرين من شوال، سنة ست أو سبع عشرة وثمان مائة، ودفن بتربة الشيخ إسماعيل الجبتي. وهو آخر من مات من الرؤساء، الذين أنفرد كل منهم بفن فاق فيه أقرانه، على رأس القرن الثامن، وهم الشيخ سراج الدين البقيني، في الفقه على مذهب الشافعي؛ والشيخ زين الدين العراقي في الحديث؛ والشيخ سراج الدين ابن الملقن، في كثرة التصانيف وفن الفقه والحديث؛ والشيخ شمس الدين الفناري، في الاطلاع على كل العلوم العقلية والنقلية والعربية؛ والشيخ أبو عبد الله بن

ترجمة ثانية للفيروزابادي، عن الضوء اللامع للسنحاري

عرفة، في فقه المالكية بالمغرب، والشيخ مجد الدين الشيرازي، في اللغة. رحمهم الله تعالى أجمعين رحمة واسعة. انتهى ما قصدته من كلام صاحب " الشقائق النعمانية، في علماء الدولة العثمانية ". قيل: ولو زاد ولي الدين بن خلدون في التاريخ وطبائع العالم، لحسن، والله تعالى أعلم. قلت: وإذ جرى ذكر صاحب القاموس، فلا بأس أن نورد ترجمته، على أتم مما ذكره صاحب " الشقائق النعمانية " وربما وقع التخالف، فنقول: ترجمة ثانية للفيروزابادي، عن الضوء اللامع للسنحاري قال بعض حفاظ المشارق، وهو الإمام السخاوي في كتابه " الضوء اللامع ": هو محمّد بن يعقوب بن ابراهيم، بن عمر، بن أبي بكر، بن احمد، ابن محمود، بن إدريس، بن فضل الله، بن الشيخ أبي إسحاق إبراهيم الكارزيني، المشهور بمولانا الشيخ مجد الدين، الفيروزابادي، اللغوي الشافعي. ولد في ربيع الآخر سنة عشرين وسبع مائة بكارزين، فنشأ بها، وحفظ القرآن وهو ابن سبع، وانتقل إلى شيراز وهو ابن ثمان، فأخذ الأدب واللغة عن والده، ثم عن القوام عبد الله بن محمود بن النجم،

وغيرهم من علماء شيراز، وانتقل إلى العراق، فدخل واسط وبغداد، وأخذ عن الشرف عبد الله بن بكتاش، وهو قاضي بغداد، ومدرس النظامية بها، وولى به تداريس وتصادير، وظهرت فضائله، وكثر الأخذ عنه، فكان ممن أخذ عنه الصفدي. ثم دخل القاهرة ولقي بها البهاء بن عقيل، والجمال الأسنوي، وابن هشام. وأخذ عن علمائها، وجال في البلاد المشرقية والشمالية، ودخل الروم والهند، ولقي جمعاً من الفضلاء، وحمل عنهم شيئاً كثيراً تجمعهم مشيخته، تخريج الجمال بن مسى المراكشي، وفيه أنَّ من مروياته الكتب الستة، وسنن البيهقي، ومسند أحمد وصحيح ابن حبان، ومصنف ابن أبي شيبة، وغير ذلك، غير مشايخ عديدة، وجم غفير.

ثم دخل زبيد في رمضان سنة ست وتسعين، بعد وفاة قاضي الأقضية باليمن كله، الجمال الريمي شارح التنبيه فتلقاه الأشرف إسماعيل بالقبول وبالغ في إكرامه وصرف له ألف دينار سوى ألف أخرى أمر ناظر عدن أن يجهزه بها واستمر مقيما في كنفه على نشر العلم وكثر الانتفاع به وأضيف إليه قضاء اليمن كله في ذي الحجة سنة سبع وتسعين بعد ابن عجيل فأرتفع بالمقام في تهامة وقصده الطلبة وقرأ السلطان فمن دونه عليه فاستمر بزبيد مدة عشرين سنة وهي بقية أيام الأشراف ثم ولد الناصر أحمد. وكان الأشراف قد تزوج ابنته لمزيد جمالها ونال منه برا ورفعة بحيث أنّه صنف كتابا وأهاداه له على أطباق فملأها له دراهم وفي أثناء هذه المدة قد مكة مرارا وجاور المدينة والطائف وعمل بها مآثر حسنة وكان يحب الانتساب إلى مكة ويكتب بخطه: " الملتجئ إلى حرم الله تعالى " ولم يدخل بلدا إلاّ وأكرمه متوليها وبالغ في تعظيمه مثل شاه منصور بن شجاع صاحب تبريز والأشرف صاحب مصر والسلطان بايزيد خان بن عثمان متولى الروم وابن أويس صاحب بغداد وتمرلنك وغيرهم. واقتنى كتبا كثيرة حتى نقل عنه أنَّه قال: اشتريت بخمسين ألف مثقال ذهبا كتبا. ولا يسافر إلاّ وفي صحبته منها أحمال ويخرجها من كان منزل وينظر فيها. وصنف كتبا كثيرة منها: " بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز " مجلدان و " تنوير المقباس في تفسير ابن عباس "

أربع مجلدات و " تيسير فائحة الإهاب في تفسير فاتحة الكتاب " مجلد كبير و " الدر النظيم المرشد إلى مقاصد القرآن العظيم " و " حاصل كور الخلاص في فضائل سروة الإخلاص " و " شرح خطبة الكشاف " و " شوارق الأسرار العلمية في شرح مشارق الأنوار النبوية " أبرع مجلدات و " منح الباري بالسيل العفسيح الجاري في شرح صحيح البخاري " كمل ربع العبادات منه في عشرين مجلدا و " الإسعاد بالإصعاد إلى درجة الاجتهاد " ثلاث مجلدات و " النفحة العنبرية في مولد خير البرية " و " الصلات والبشر في الصلاة على خير البشر " و " الوصل والمنى في فضل منى " و " المغانم المطالبة في معالم طالبه " و " مهيج الغرام إلى البلد الحرام " و " إثارة الحجون لزيارة الحجون " عمله في ليلة و " أحسن اللطائف في محاسن الطائف " و " فصل الدرة من الخرزة في فضل السلامة على الخبزة " قريتان بالطائف و " روضة الناظر في ترجمة الشيخ عبد الله الادر " و " المرقاة الوفية في طبقات الحنفية " و " البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة " و " الفضل الوفي في العدل الأرفي " و " نزهة الأذهان في تاريخ أصبهان " و " تعيين الغرفات للمعين في عين عرفات " و " منية السول في دعوات الرسول " و " التجاريح في فوائد متعلقة بأحاديث المصابيح " و " تسهيل طريق الوصول إلى الأحاديث الزائدة في جامع الأصول " و " الأحاديث الضعيفة " و " الدر الغالي في الأحاديث العوالي " و " سفر السعادة " و " المتفق وضعا المختلف صنعا " و " الامع المعلم العجاب الجامع بين المحكم والعباب وزيادات امتلأ بها

الوطاب " قدر تمامه في مائة مجلد يقرب كل مجلد منه من صحاح الجوهري اكمل منه خمس مجلدات و " القاموس المحيط والقابوس الوسيط " و " مقصود ذوي الألباب في علم الإعراب " مجلد و " تخبير الموشين فيما يقال بالسين والشين " تتبع في أوهام المجمل لابن فارس في ألف موضع و " المثلث الكبير " في خمس مجلدات و " الروض المسلوف فيما له اسمان إلى الألوف " و " تحفة القماعيل فيمن يسمى من الملائكة والناس إسماعيل " و " أسماء السراح في أسماء النكاح " و " الجليس الأنيس في أسماء الخندريس " مجلد و " أنوار الغيث في أسماء الليث " و " ترقيل الأسل في تصفيق العسل " في كراسين و " زاد المعاد في وزن بانت سعاد " وشرحه في مجلد و " التحف الظرائف في النكت الشرائف " وغير ذلك من مختصر ومطول. وقال التقي الكرماني: كان عديم النظير في زمانه نظما ونثرا بالفارسي والعربي جال البلاد واجتمع بمشايخ كثيرة وأقام بدهلك مدة عظمة سلطانها وجاور بمكة عشرين سنة وصنف بها القاموس في مجلدات فأمره والدي باختصاره فاختصره في مجلد ضخم وفيه فوائد عظيمة واعتراضات على الجوهري وسافر إلى الهند والروم وعظمة سلاطينها واجتمع بتمرلنك فعظمه وأنعم عليه بمائة ألف درهم. وقال الخزرجي في تاريخ اليمن: إنه لم يزل في ازدياد من علو الجاه والمكانة ونفوذ الشفاعات والأوامر على القضاة في الأمصار.

ورام عام تسعة وتسعين الوصول إلى مكة شرفها الله فكتب إلى السلطان ما مثاله: " ومما ننهيه إلى العلوم الشريفة ضعف العبد ورقدة جسمه ودقة بنيته وعلو سنه وقد آل إلى أن صار كالمسافر الذي تحزم وانتعل إذ وهن العظم والرأس اشتعال وتضعضع السن وتقعقع الشن فما هو إلاّ عظام في جراب وبنيان قد أشرف على الخراب ود ناهز العشرة التي تسميها العرب دقائق الرقاب وقد مر على المسامع الشريفة غير مرة في صحيح البخاري قولهم: رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بلغ المرء ستين سنة فقد أعذر الله إليه فكيف من ينيف على السبعين وأشرف على الثمانين؟ ولا يجمل بالمؤمن أن يمضي علليه أربع سنين ولا يتجدد له سوق وعزم إلى بيت رب العالمين وزيارة سيد المرسلين. وقد ثبت في الحديث النبوي ذلك والعبد له ست سنين عن تلك المسالك وقد غلب عليه الشوق حتى جل عمره عن الطوق ومن أقضى أمنيته أن يجدد العهد بتلك المعاهد ويفوز مرة أخرى بتلك المشاهد وسؤاله من المراحم العلية الصدقة عليه بتجهيزه في هذا العام قبل اشتداد الحر وغلبة الأوام فإن الفصل أطيب والريح أزيب وأيضاً كان من عادة الخلفاء سلفا وخلفا أنهم كانوا يبردون البريد لتبليغ سلامهم لحضرة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم فاجعلني

جعلني الله فداك ذاك البريد فلا أتمنى شيئاً سواه ولا أريد. شوقا إلى الكعبة الغراء قد زادا ... فاستحمل القلص الوخادة الزادا واستأذن الملك المنعام زيد علا ... واستودع الله أصحابا وأولادا فلما وصل كتابه إلى السلطان كتب على طرته ما مثاله: " إنَّ هذا الشيء ما ينطق به لساني ولا يجري به قلمي فقد كانت اليمن عمياء فاستنارت فكيف يمكن أنْ نتقدم وأنت تعلم أنَّ الله قد أحيا بك ما كان ميتا من العلم؟ فبالله عليك إلاّ ما وهبت لنا بقية هذا العمر. والله يا مجد الدين يمينا بارة أرى فراق الدنيا ونعيمها ولا فراقك أنت اليمن وأهله. قال الفاسي: له شعر كثير ونثره أعلى وكان الاستحضار لمحسنات الشعر والحكايات وله خط جيد مع السرعة وكان كثير الحفظ حتى يقال إنه قال: ما كنت أنام حتى أحفظ مائتي سطر وكانت له دار بمكة على الصفا عملها مدرسة للأشرف صاحب اليمن وقرر بها مدرسين وطلبة وفعل بالمدينة كذلك وله بمنى دور وبالطائف بستان وقد سارت الركبان بتصانيفه لا سيما القاموس فإنه أعطى قبولا كثيرا. قال الاديب المفلق نور الدين بن محمّد العفيف المكي الشافعي لمّا قرأ عليه القاموس: مذ مدينة مجد الدين في أيامه ... من فيض أبحر علمه القاموسا ذهبت صحاح الجوهري كأنها ... سحر المدائن حين ألقى موسى

ومن شعره مما كتبه عنه الصلاح الصفدي رحمه الله: أحبتنا الأماجد إنْ رحلتم ... ولم ترعوا لنا عهدا وإلاّ نودعكم ونودعكم قلوبا ... لعل الله يجمعنا وإلاّ وكان يرجو وفاته بمكة المشرفة فما قدر الله له ذلك بل توفي بزبيد وقد ناهز التسعين وهو ممتع بحواسه وذلك ليلة العشرين من شوال سنة سبع عشر وثمان مائة تغمده الله تعالى برحمته وأسكنه فسيح جنته. انتهى ملخصا من الضوء للسخاوي رحمه الله. ولأبي عبد الله الفيومي يمدح القاموس المذكور: لله قاموس يطيب وروده ... أغنى الورى عن كل معنى أزهر لفظ الصحاح بلفظه والبحر من ... عاداته يلقى صحاح الجوهري وقال عبد الرحمن بن معمر الواسطي في رموزة: وما فيه من رمز بحرف فخمسة ... فميم لمعروف وعين لموضع وجيم لجمع ثم هاء لقرية ... وللبلد الدال التي أهملت فعِ وأنشدنا فيه لغيره سيدنا ومولانا شيخ الشيوخ وخاتمة أهل التثبت والرسوخ ملحق الأحفاد بالأجداد المبرز على النظراء والأنداد مفتي تلمسان وأصقاعها ومعتمد أهل أقطارها وبقاعها عمنا سيدي سيد بن أحمد المقري صب الله عليه شآبيب رضوانه آمين:

ترجمة ثالثة للفيروز ابادي عن انباء الغمر لابن حجر

ألا ما لهذا في اللغات متشابه ... فما هو إلاّ كاسمه زاخر بحر أحاط بما يحوي سواه وفاقه ... بمبدع لفظ مع لغات بها كثر جزى الله خيرا من تصدى لجمعه ... وآتاه فضلا زاد ما اتصل الدهر قلت: هذه الأبيات لتقي الدين الواسطينظمها تجاه الكعبة المشرفة. وأنشدني أيضاً رحمه الله تعالى وكتبها بخطه: وما جاء القاموس رمزا فستة ... لموضعهم عين ومعروف الميم وجج لجمع الجمع دال لبلدة ... وقريتهم هاء وجمع له الجيم انتهى. قلك: ومن غرب ما منح الله تعالى المجد مؤلف القاموس المذكور أنّه بدمشق بين باب النصر والفرج تجاه بغل النبي صلى الله عليه وسلم على ناصر الدين أبا عبد الله محمّد بن جهبل صحيح مسلم في ثلاثة أيام وتبجح فقال: قرأت بحمد الله جامع مسلم ... بجوف دمشق الشام جوفا لإسلام على ناصر الدين الإمام بن جهبل ... بحضرة حفاظ مشاهير أعلام وتم بتوفيق الإله بفضله ... قراءة ضبط في ثلاثة أيام فسبحان المانح الذي يؤتي فضله من يشاء. ترجمة ثالثة للفيروز ابادي عن انباء الغمر لابن حجر وبعد أنْ كتبت هذه الترجمة وقفت على كلام تلميذه الإمام ابن حجر " إنباء الغمر بأنباء العمر " فأوردته هنا وإنْ كان مخالفا في بعض المواقع قدمها إذ لا يخلو من فائدة ونصه: محمّد بن يعقوب بن إبراهيم بن عمر الشيرازي الشيخ العلامة

مجد الدين أبو الطاهر الفيروزابادي كان يرفع نسبه إلى الشيخ أبي إسحاق الشيرازي صاحب التنبيه ويذكر أنَّ بعد عمر أبا بكر بن أحمد بن أحمد بن فضل الله بن الشيخ أبي إسحاق. ولم أزل اسمع مشاهير مشيخنا يطعنون في ذلك مستندين إلى أنَّ الشيخ أبا إسحاق لم يعقب. ثم ارتقى الشيخ مجد الدين درجة فادعى بعد أنْ ولي قضاء اليمن بمدة طويلة أنّه من ذرية أبا بكر الصديق رضي الله عنه. وزاد إلى أنْ رأيت بخطه لبعض نوابه في بعض كتبه: " محمّد الصديق " ولم يكن مدفوعا عن معرفة إلاّ أنَّ النفس تأبى قبول ذلك. ولد الشيخ مجد الدين سنة تسع وعشرين وسبع مائة بكارزين وتفقه ببلاده وسمع بها من محمّد بن يوسف الزرندي المدني صحيح البخاري وعلى بعض أصحاب الرشيد بن أبي القاسم ونظر في اللغة فكانت جل قصده في التحصيل فمهر فيها إلى أنْ تميز وفلق أقرانه ودخل الديار الشامية بعد الخمسين فسمع بها وظهرت فضائله وكثر الآخذون عنه ثم دخل القاهرة ثم جال في البلاد الشمالية والمشرقية ودخل الهند وعاد منها على طريق اليمن قاصدا مكة المشرفة ودخل زبيد فتلقاه الملك الأشرف إسماعيل بالقبول وكان ذلك بعد وفاة جمال الدين الريمي قاضي الأقضية باليمن كله فقرره الأشرف مكانه وبالغ في إكرامه فاستقرت قدمه بزبيد واستمر في ذلك إلى أنْ مات. وقدم هذه المدة مكة مرارا وأقام بها وبالطائف ثم رجع وصنف القاموس المحيط في اللغة لا مزيد عليه في حسن الاختصار وميز فيه

زياداته في الصحاح بحيث لو أفردت لكانت قدر الصحاح وأكثر في عدد الكلمات وقرئ غليه. وكان أولا أبتدا بكتاب كبير في اللغة سماه: " اللامع المعلم العجاب الجامع بين المحكم والعباب " وكان يقول: لو كمل لكان مائة مجلد. وذكر عنه الشيخ برهان الدين الحلبي أنّه تتبع أوهام المجمل لابن فارس في ألف موضع وكان مع ذلك يعظم ابن فارس ويثني عليه. وقد أكثر المجاورة بالحرمين الشرفين وحصل دنيا طائلة وكتبا نفيسة لكنه كان كثير التبذير وكان لا يسافر إلاّ وصحبته عدة أحمال من الكتب ويخرج أكثرها من كل منزل فينظر فيها ويعيدها إذا رحل وكان إذا أملق باعها. وكان الأشرف كثير الإكرام له حتى إنَّه صنف له كتابا وأهداه له على أطباق فملأها له دراهم وصنف للناصر كتابا سماه: " تسهيل الوصول إلى الأحاديث الزائدة على جامع الأصول " و " الإصعاد إلى رتبة الاجتهاد " في أربعة أسفار وشرع في شرح مطول على البخاري ملأه بغرائب المنقولات وذكر أنَّه بلغ عشرين سفرا. إلاّ أنَّه لمّا اشتهرت باليمن مقالة ابن عربي ودعا إليها الشيخ إسماعيل الجبرتي وغلب على علماء تلك البلاد صار الشيخ مجد الدين يدخل في شرح البخاري من كلام ابن عربي في الفتوحات ما كان سببا لشين الكتاب المذكور. ولم أكن أتهم الشيخ بالمقالة المذكورة إلاّ أنَّه كان يحب المداراة. وكان الناشري فاضل الفقهاء بزبيد يبالغ في الإنكار على إسماعيل وشرح ذلك يطول. ولمّا اجتمعت بالشيخ مجد الدين أظهر لي إنكار مقالة ابن عربي وغض

منها ورأيته يصدق بوجود رتن الهندي وينكر على الذهبي قوله في الميزان إنَّه لا وجود ليس. قال الشيخ مجد الدين: إنَّه دخل قريته ورأى ذريته وهم مطبقون على تصديقه وقد أوضحت ذلك في ترجمة " رتن " من كتاب الإصابة. ومن تصانيفه: " شوارق الأسرار في شرح مشارق الأنوار " و " الروض المسلوف قيما له اسمان إلى الألوف " و " تحبير الموشحين فيما يقال بالسين والشين ". وكان يقول: ما كنت أنام حتى أحفظ مائتي سطر ولم يقدر له قط أنَّه دخل بلدة إلاّ وأكرمه متوليها وبالغ في إكرامه مثل شاه شجاع صاحب تبريز والأشرف صاحب اليمن وابن عثمان صاحب التركية وأحمد بن أويس صاحب بغداد وغيرهم ومتعه الله بسمعه وبصره إلى أنْ مات. سمع الشيخ مجد الدين من ابن الجبار وابن القيم وابن الحموي وأحمد ابن عبد الرحمن المرداوي وأحمد بن مطر النابلسي والشيخ تقي الدين السبكي ويحيى بن علي بن مجلى بن الحداد وغيرهم بدمشق في سنة نيف وخمسين وبالقدس من العلائي والبياني وبمصر من القلانسي ومظفر الدين

وناصر الدين التونسي وابن نباتة والفارقي والعرضي والعز بن جماعة وبمكة من خليل مالكي والتقى الحرازي ولقي بغريها من البلاد جمعا جما من الفضلاء وحمل عنهم شيئاً كثيرا وخرج له الجمال المراكشي مشيخة واعتنى بالحديث. اجتمعت به بزبيد وفي وادي الخصيب وناولني جل القاموس وأذن لي مع المناولة أنْ أرويه عن وقرأت عليه من حديثه عدة أجزاء وسمعت منه المسلسل بالأولية لسماعه من السبكي وكتب لي قريظا على بعض تخريجاتي أبلغ فيه وأنشدني لنفسه في سنة ثمان مائة بيتين كتبهما عنه الصلاح الصفدي في سنة سبع وخمسين بدمشق وبين كتاباته عنه ووفاته ستون سنة رحمه الله: أخلانا الأماجد إنْ رحلتم ... ولم ترعوا لنا عهدا وإلاّ نودعكم ونودعكم قلوبا ... لعل الله يجمعنا وإلاّ مات رحمه الله تعالى في ليلة العشرين من شوال وهو ممتع بحواسه وقد ناهز التسعين. انتهى كلام ابن حجر في ترجمته سنة سبع عشرة وثمان مائة من " إنباء الغمر بأنباء العمر ". ووجدت في بعض المقيدات بخط بعض الفضلاء ممن يوثق بدينه وعلمه من أهل عصرنا ما نصه: سئل شيخ الإسلام الشيخ مجد الدين الفيروزبادي رضي الله عنه صاحب كتاب القاموس في اللغة بما نصه:

ما يقول سيدنا ومولانا شيخ الإسلام في الكتب المنسوبة إلى الشيخ محي الدين بن عربي كالفتوحات والفحوص هل تحل قراءتها وإقراؤها ومطالعتها؟ وهل هي من الكتب المسموعة المقروءة أم لا؟ فقال رضي الله عنه: الذي أقول وأتحققه وأدين الله به: أنَّ الشيخ محي الدين كان شيخ الطريقة حالا وعملا وإمام التحقيق حقيقة ورسما ومحيي رسوم العارفين فعلا واسما: إذا تغلغل فكر المرء في طرف ... من بحره غرقت فيه خواطره فهو بحر لا تدركه الدلاء وسحاب لا تتقاصر عنه الأنواء كانت دعواته تخترق السبع الطباق وتفترق بركتها فتملأ الآفاق وإني أصفه وهو يقينا فوق ما وصفته وناطق بما كتبته وغالب ظني أني ما أنصفته: وما علي إذا ما قلت معتقدي ... دع الجهول يعد العدل عدوانا والله والله والله العظيم ومن ... أقامه حجة للدين برهانا إنَّ الذي قلت بعض مناقبه ... ما زدت إلاّ لعلي زدت نقصانا وأما كتبه ومصنفاته فهي البحار الزواخر ما وضع الواضعون مثلها. انتهى. وباقي الجواب سقط سهل الله كماله.

قلت: ولمّا جرى ذكر الشيخ بن عربي الحاتمي فلا بأس من أنْ نلم ببعض حاله فنقول: قال ابن خاتمة: محمّد بن علي الطائي بن عربي الصوفي من أهل إشبيلية وأصله من سبتة يكنى أبا بكر ويعرف بابن عربي وبالحاتمي أيضاً. أخذ عنه مشيخة بلده ومال إلى الأدب وكتب لبعض الولاة بالأندلس ثم رحل إلى المشرق حاجاً فأدى الفريضة ولم يعد بعدها إلى الأندلس وسمع الحديث من أبي القاسم الخرستاني وغيره وسمع صحيح مسلم من الشيخ أبي الحسن ابن أبي نصر في شوال سنة ست وست مائة وكان يحدث بالإجازة العامة عن أبي طاهر السفلفي ويقول بها وبرع في علم التصويف وله في ذلك تواليف كثيرة منها: " ملاك التأويل وحقائق التنزيل " و " الجذوة المقتبسة والحظوة المختلسة " و " كتاب المعارف الإلهية " و " كتاب الإسرا إلى المقام الأسرى " و " كتاب مواقع النجوم ومطالع أهلة أسرار العلوم " و " كتاب عنقاء مغرب في صفة ختم الأولياء وشمس المغرب " وكتاب في فضائل شيخه عبد العزيز بن أبي بكر القرشي المهدوي والرسالة الملقبة " بمشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية " في كتب أخر عديدة. وقدم على المرية من مرسية مستهل شهر رمضان سنة خمس وتسعين وخمس مائة وبها ألف كتابه الموسوم بمواقع النجوم. قال الأستاذ أبو جعفر: ولا نسلم له جميع مقالاته وموضوعاته وإنْ كان لعلو في الإعراب قد تكلم من وراء حجاب وتحصن من الرمز بسند

منيع الحرز ففي الإشارة الراجحة الدليل ما يقوم مقام العبارة الواضحة السبيل. ولقد حكى لي بعض تقات أصحابنا عمن لقي من كبار شيوخ أهل العلم أنَّه كان يطعن عليهم ويرميه بوهن يقال دينه ويناسبه إليه والله اعلم بحقيقة ذلك إذ كل كلام يغلب المجاز والاستعارة عليه من غير قرينة فهو مستشعب المسالك. وعلى الجملة فهو الذي جرأ على نفسه لمآخذه المظلمة المدارك المشوشة على السالك. قال ابن الأبار: وقد لقيته جماعة من العلماء والمتعبدين وأخذوا عنه وتوفي بعد الأربعين وست مائة. ذكر ابن الأبار وقال: أفادني بعض أصحابنا أنَّه أجاز إجازة عامة لمن أحب الرواية عنه. انتهى كلام ابن خاتمة. والذي عند كثير من الأخيار من أهل هذه الطريقة التسليم لهم ففيه السلامة وهو أحوط من إرسال العنان وقول يعود على صاحبه بالملامة. وما وقع لأبي حيان وابن حجر في تفسيره من إطلاق اللسان في هذا الصديق وأنظاره فذلك من فلس الشيطان. والذي أعتقده ولا يصح غيره أنَّ الإمام أبي عربي ولي صالح وعلام ناصح وإنما فوق إليه سهام الملامة من لم يفهم كلامه. على أنَّه دست في كتبه مقالات يجل قدرها عنها وقد عرض من المتأخرين ولي الله الرباني سيدي عبد الوهاب الشعراني نفعنا الله تعالى ببركاته

التجديد والمجدود

لتفسير كلام الشيخ على وجه يليق وذكر من البراهين على ولايته ما شرح صدره أهل التحقيق فليطالع ذلك ما أراده والله ولي التوفيق. التجديد والمجدود قلت: وإذ قد تقدم أمر التجديد أواخر القرن الثامن فيما جلبناه في التعريف المنقول آنفا ناسب أنْ نذكر نظم إمام الدنيا جلال الدين السيوطي المسمى " بتحفة المهتدين بأسماء المجددين " ونصه: الحمد لله العظيم المنة ... المانح الفضل لأهل السنة ثم الصلاة والسلام نلتمس ... على نبي دينه ولا يندرس لقد أتى في خبر مشتهر ... رواه كل حافظ معتبر بأنه في رأس كل مائة ... يبعث ربنا لهذي الأمة منا عليها عالم يجدد ... دين الهدى لأنه مجتهد اختلف الناس في المراد بالمجدد فقيل من العلماء وقيل من الأولياء وقيل من الملوك ولكل حجة مذكورة في محلها. وسمعت شيخنا الإمام بقية الناس سيدي أحمد بابا السوداني التنبكتي أبقى الله جلاله وأدام عزته وحفظ جلاله يقول غن ذلك يكون في كل قطر بحسبه وليس من شرطه أنْ يعم الدنيا أو غالبا والله أعلم. ولأجل ذلك قال أبقاه الله في رجزه في هذا المعنى حيث ذكر المجددين. قال في العاشر ما نصه:

وعاشر القرون فيه قد أتى ... محمّد إمامنا وهو الفتى يعني به الشيخ العلامة سيدي محمّد بغيع رحمه الله. ولا خفاء أنَّ هذا منه أبقاه الله بناء على اعتبار كل قطر على حدة إذ هذا الشيخ الذي جزم بتجديده إنما هو في صقع تنبكت جاغو. وأما بلاد المغرب وغيرها فلا وهو مخالف لمّا عند السيوطي في هذا النظم كما تراه قريبا والله تعالى أعلم بالصواب. ولنرجع إلى كلام الاما الجلال السيوطي رحمه الله تعالى قال: فكان عند المائة الأولى عمر ... خليفة العدل بإجماع وقر والشافعي كان عند الثانية ... لمّا له من العلوم السارية وابن الشريح ثالث الأئمة ... والأشعري عدة من أمة والباقلاني رابع أو سهل أو ... الاسفرايني خلافا قد حكموا والخامس الحبر وهو الغزالي ... عدة ما فيه من جدال والسادس الفخر الإمام الرازي ... والراغعي منثله يوازي والسابع الراقي إلى المراقي ... ابن دقيق العيد باتفاق والثامن الحبر وهو البلقيني ... أو حافظ الأنام زين الدين

وعد سبط الميلق الصوفية ... لو وجدت مئته وفيه والشرط في ذلك أنْ تمضي المائة ... وهو على حياته بين الفئة يشار بالعلم إلى مقامة ... وينصر السنة في كلامه وأنْ يكون جامعا لكل فن ... وأنْ يعم علمه أهل الزمن وأنْ يكون في حديث قد روى ... من أهل المصطفى وهو قوي وكونه فردا وهو المشهور ... قد نطق الحديث والجمهور وهذه التاسعة المئين قد ... أتت ولا يخلف ما الهادي وعد وقد رجوت أني المجدد ... فيها ففضل الله ليس يجحد وآخر المئين فيها يأتي ... عيسى نبي الله ذو الآيات يجدد الدين لهذه الأمة ... وفي الصلاة بعضنا قد أمه مقررا لشرعنا ويحكم ... بحكمنا ذا في السماء يعلم وبعده لم يبق من مجدد ... ويرفع القرآن مثل ما بدي وتكثر الأشرار والإضاعة ... من رفيعه إلى قيام الساعة وأحمد الله على ما علما ... وما جلا من الخفاء والعمى مصليا على النبي الرحمة ... والآل مع أصحابه المكرمة انتهى وليكن هذا آخر هذه الترجمة والله ولي التوفيق لا رب غيره ولا معبود سواه وصلى الله على سيدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.

روضة البهار في ذكر جملة من شيوخه

روضة البهار في ذكر جملة من شيوخه الذين فضلهم أظهر من شمس النهار أقول معتمدا على ذي الطول الذي بيده القول والحول: أردنا أنْ نذكر في هذه الترجمة مشاهير شيوخ القاضي الإمام أبي الفضل عياض رحمه الله وقد قدمنا في الترجمة قبل هذه أسماء بعضهم على سبيل الإجمال خيث جر الكلام إليها وهذا هو محلها وقد تكفل رحمه الله بذكرهم في كتابه الذي أسماه بالغنية وقد ذكر فيها نحو المائة. وقال ابنه رحمه الله: انتهى عدد أشياخه الذين ذكرهم في فهرسته من سمع أو أجازه وايسير منهم لقيه وجالسه ولم يسمع منه إلى مائة شيخ. انتهى. وقد ذكر كثيرا من أحوالهم في الغنية ولم تحضرني نسخة منها الآن بفاس لأني تركت التي عندي بتلمستان ولم أجد منها بفاس نسخة وكل ما أذكره هنا من التعريف ببعض أشياخه فهو منقول من غيرها وقد يتفق لفظه مع ما فيها. شيوخ عياض فمن جملة أشياخه رحمه الله تعالى: القاضي أبو الوليد محمّد بن أحمد بن أحمد بن أحمد بن محمّد بن أحمد بن عبد الله رشد الفقيه ذكره ابن بشكوال فقال: قاضي الجماعة بقرطبة

وصاحب الصلاة بالمسجد الجامع بها يكنى أبا الوليد. روى عن أبي جعفر بن زرق الفقيه، وتفقه معه، وعن أبي مروان بن سراج، وأبي عبد الله محمّد بن خيرة، وأبي عبد الله محمّد بن فرج، وأبي علي الغساني، وأجاز له أبو العباس العذري ما رواه؛ وكان فقيهاً عالماً، حافظاً للفقه، مقدماً فيه على جميع أهل عصره، عارفاً بالفتوى على مذهب مالك وأصحابه، بصيراً بأقوالهم، واتفاقهم واختلافهم، نافذاً في علم الفرائض والأصول، من أهل الرياسة في العلم، والبراعة والفهم، مع الدين والفضل، والوقار والحلم، والسمت الحسن، والهدي الصالح. سمعت الفقيه أبا مروان عبد الملك بن مسيرة يقول: شاهدت شيخنا القاضي أبا الوليد يصوم يوم الجمعة دائماً، في الحضر والسفر. ومن تواليفه كتاب " المقدمات الأوائل كتب المدونة "، و " كتاب البيان والتحصيل، لمّا في المستخجة من التوجيه والتعليل "، و " اختصار المبسوطة "، و " اختصار مشكل الآثار " للطحاوي، إلى غير ذلك من تواليفه. سمعنا عليه بعضها، وأجاز لنا سائرها وتقلد القضاء بقرطبة وسار فيه بأحسن سيرة، وأقوام طريقة، ثم استعفى عنه فأعفي، ونشر كتبه وتواليفه، ومسائله وتصانيفه، وكان الناس يلجئون إليه ويعولون في مهماتهم عليه، وكان حسن الخلق، سهل اللقاء، كثير النفع لخاصته وأصحابه جميل العشرة لهم، حافظاً لعهودهم، كثير البر بهم، وتوفى عفا الله عنه ليلة الأحد، ودفن عشى يوم الأحد الحادي عشر من ذي القعدة، سنة عشرين وخمس مائة، ودفن بمقبرة العباس، وصلى عليه ابنه أبو القاسم، وشهده جمع عظيم من الناس، وكان الثناء عليه حسناً جميلاً.

ومن أشياخ القاضي أبي الفضل عياض:

ومولده في شوال سنة خمسين وأربع مائة. وقد كان أيام حياته توجه إلى المغرب، إثر الكائنة التي كانت بين المسلمين والنصارى، بالموضع المعروف بالربنيول، وذلك في منتصف شهر صفر عام عشرين وخمس مائة، فاستخار القاضي أبو الوليد في النهوض إلى المغرب، مبيناً لمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، ما الجزيرة عليه، فوصل إليه فلقيه أكرم لقاء، وبقي عنده أبر بقاء، حتى استوعب في مجالس عديدة، إيراد ما أزعجه إليه، وتبين ما أوفده عليه، فاعتقد ما قرره لديه؛ وانفصل عنه، وعاد إلى قرطبة، فوصلها آخر جمادى الأولى من السنة المذكورة، وعلى اثر ذلك أصابته العلة التي أضجعته، إلى أنْ أفضت به قضاء نحبه، ولقاء المرتقب من محتوم لقاء ربه، وتبارى الأدباء والشعراء في تأبينه؛ وحق لهم ذلك، رضى الله عنه وأرضاه. ومن أشياخ القاضي أبي الفضل عياض: الشيخ أبو عبد الله محمّد بن أحمد بن خلف بن إبراهيم التجيني الرطبي، الشهير بابن الحاج، قاضي الجماعة بقرطبة. روى عن أبي جعفر أحمد بن زرق الفقيه، وتفقه عنده، وقيد الغريب واللغة والأدب عن أبي مروان عبد الملك ابن سراج، وسمع عن أبي عبد الله محمّد بن فرج الفقيه، وعن أبي علي الغساني وغيرهم. وكان من جلة الفقهاء، وكبار العلماء، معدوداً في المحدثين والأدباء، بصيراً بالفتيا، رأساً في الشورى، وكانت الفتيا في وقته تدور عليه، لمعرفته وثقته وديانته، وكان معتنياً بالحديث والآثار، جامعاً لها، مقيداً لمّا أشكل من معانيها، ضابطاً لأسماء رجالها ورواتها، ذاكراً للغريب والأنساب، واللغة

ومن أشياخ القاضي أبي الفضل عياض رحمه الله:

والأعراب، وعالماً بمعاني الأشعار والسير والأخبار. قال ابن بشكوال: قيد العلم عمره كله، وعنى به عناية كاملة، ما أعلم أحداً في وقته عنى كعنايته، قرأت عليه وسمعت، وأجازني بخطه؛ وكان له مجلس بالجامع بقرطبة، يسمع الناس فيه، وتقلد القضاء بقرطبة مرتين، وكان في ذاته ليناً صابراً، حليماً متواضعاً، لم يحفظ له جور في قضية، ولا ميل بهوى، ولا إصغاء إلى عناية، وكان كثير الخضوع والذكر لله تعالى، ولم يزل آخر عمره يتولى القضاء بقرطبة، إلى أنْ قتل ظلماً بالمسجد الجامع بقرطبة، يوم الجمعة وهو ساجد، لأربع بقين من صفر، من سنة تسع وعشرين وخمس مائة، ومولده في صفر سنة ثمان مثال خمسين وأربع مائة. وكتابه في نوازل الأحكام، المتداول لهذا العهد بأيدي الناس: من الدلائل على تقدمه في المعارف وبراعته. تغمدنا الله وإياه برحمته. ومن أشياخ القاضي أبي الفضل عياض رحمه الله: القاضي الشهير الحافظ الإمام أبو بكر محمّد بن عبد الله بن محمّد بن عبد الله ابن أحمد بن العربي المعافري الأشبيلي، رحل إلى المشرق مع أبيه يوم الأحد، مستهل شهر ربيع الأول سنة خمس وثمانين وأربع مائة، فدخل الشام، ولقي بها أبا بكر محمّد بن الوليد الطرطوشي، وتفقه عنده، ورحل إلى الحجاز في موسم سنة نسع وثمانين، ودخل بغداد مرتين، وصحب أبا بكر الشاشي، وأبا حامد الطوسي الغزالي، وغيرهما من العلماء والأدباء، فأخذ عنهم، ثم صدر عن بغداد، ولقي بمصر والأسكندرية جماعة، ثم عاد إلى الأندلس سنة ثلاث وتسعين، وقدم إلى إشبيلية بعلم كثير، لم يدخل به أحد قبله، ممن كان له رحلة إلى المشرق،

ولذا نقل عنه أنَّه قال: كل من رحل لم يأت بمثل ما أتيت به أنا والقاضي أبو الوليد الباجي، أو كلاهما هذا معناه. أو قال: لم يرحل غيري وغير الباجي، وأما غيرنا فقد تعب، أو نحو هذا، مما لم تحصني عباراته الآن. وكان من أهل التفنن في العلوم، متقدما في المعارف كلها، متكلماً في أنواعها، حريصاً على نشرها. واستقصى بمدينة إشبيلية، فقام بما قلد أحمد قيام، وكان من أهل الصرامة في الحق، والشدة والقوة على الظالمين، والرفق بالمساكين، ثم صرف عن القضاء، وأقبل على نشر العلم وبثه. قال المحدث أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال: قرأت عليه بإشبيلية، وسألته عن مولده، فقال لي: ولدت ليلة الخميس لثمان بقين من شعبان سنة ثمان وستين وأربع مائة؛ وتوفي رحمه الله بالعدوة، ودفن بمدينة فاس في ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وخمس مائة. انتهى. وقال ابن بشكوال أيضاً في حقه: هو الحافظ المستبحر ختام علماء الأندلس وآخر أئمتها وحفاظها. انتهى. ومن تكملة المحدث أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن الأبار، عن أبي عبد الله بن مجاهد الإشبيلي الزاهد العابد: أنَّه لازم القاضي أبا بكر بن العربي نحواً من ثلاثة أشهر، ثم تخلف عنه، فقيل له في ذلك، فقال كان يدرس وبغلته عند الباب، ينتظر الركوب إلى السلطان. انتهى. وذكره الأستاذ أبو محمّد أحمد بن إبراهيم بن الزبير في صلته، وقال فيه: رحل مع أبيه أبي محمّد عند انقراض الدولة العبادية إلى الحج، سنة خمس وثمانين وأربع مائة، وسنه إذ ذاك نحو سبعة عشر عاماً، فلقى شيوخ مصر؛ وعدد أناساً ثم قال: وقيد الحديث، وضبط ما روى، وأتسع في الرواية

وأتقن مسائل الخلاف والأصول والكلام، على أئمة هذا الشأن، وعاد إلى بغداد بعد دخولها، وانصرف إلى الأندلس، فأقام بالإسكندرية، فمات أبوه بها أوّل سنة ثلاث وتسعين. ثم انصرف إلى الأندلس، فسكن بلده إشبيلية، وشوور فيه، وسمع ودرس الفقه والأصول، وجلس للوعظ والتفسير، وصنف في غير فن تصانيف مليحة، حسنة مقيدة، وولى القضاء مدة، أولها في رجب من سنة ثمان وعشرين، فنفع الله به، لصرامته ونفوذ أحكامه، والتزم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، حتى أوذي في ذلك، بذهاب كتبه وماله، فأحسن الصبر على ذلك كله، ثم صرف عن القضاء، وأقبل على نشر العلم وبثه، وكان فصيحاًحافظاً، أديباً شاعراً، كثير الملح، مليح المجلس. ثم قال: قال القاضي أبو الفضل عياض بن موسى - وقد وصفه بما ذكرته - ثم قال: ولكثرة حديثه وأخباره، وغريب حكاياته ورواياته، أكثر الناس فيه الكلام، وطعنوا في حديثه، وتوفي منصرفه من مراكش، من الوجهة التي توجه فيها مع أهل بلده إلى الحضرة، بعد دخول مدينة إشبيلية، فحبسوا بمراكش نحو عام، ثم سرحوا، فأدركته منيته بطريقه، على مقربة من فاس بمرحلة، وحمل ميتاً إلى مدينة فاس، فدفن بها، بباب الجيسة. قال: وروى عنه الجم الغفير. فمن جملة من روى عنه من علماء المائة الخامسة، القاضي أبو الفضل عياض بن موسى، وأبو جعفر بن الباذش، وطائفة. انتهى. قال القاضي أبو الحسن بن الحسن النباهي في كتاب " المرقبة العليا، في القضاء والفتيا " بعد أنْ ذكر ما قدمناه، ما نصه: والصحيح في القاضي أبي بكر

استطراد وتحقيق

أنَّه إنما دفن في خارج باب المحروق من فاس، وما وقع من دفنه بباب الجيسة، وهم من ابن الزبير وغلط، وقد زرناه وشاهدنا قبره بحيث ذكرناه. أرضاه الله وغفر لنا وله. انتهى. قلت: وقد سبق ابن الزبير إلى ذلك القاضي أبو الفضل عياض في الغنية، فانه قال: دفن جارج باب الحبيسة. واعتذر عنه بعض الأكابر، بأن باب المحروق لم يكن إذ ذاك فتح، لأنه من بناء أمير المؤمنين الناصر بن أمير المؤمنين يعقوب المنصور بن أمير المؤمنين يوسف بن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي، ولا شك أنَّ ذلك متأخر عن زمان عياض قطعاً، ويبقى الإشكال في كلام ابن الزبير، لتأخر زمانه عن ذلك. استطراد وتحقيق بين الشيخين: ابن غازي والوانشريشي وبع ما كتبت هذا هنا، وقفت على تأليف لطيف صغير الجرم، مثير العلم للشيخ الإمام العالم أبي عبد الله محمّد بن غازي رحمه الله تعالى ألم في آخره بالمسألة المذكورة، فرأيت أنْ أورده بطوله، لمّا اشتمل عليه من الفوائد، وإنْ كانت أجنبيه عما نحن فيه، ولكن لا يخلو من فوائد جمة، وختمته بهذا الغرض الذي ذكرتناه، وخاطب به الشيخ الحافظ الإمام سيدي أحمد بن يحيى الوانشريشي الملد، التلمساني المنشأ والقراءة، الفاسي القبر والدار آخر عمره، بل أوسط عمره، وسماه: " بالإشارات الحسان، المرفوعة إلى حبر فاس وتلمسان " يعني بحبر فاس وتلمسان: الشيخ الوانشريشي المذكور؛ وقد كتب بطرره الشيخ الوانشريشي المذكور زوائد، هاأنا أذكرها في محلها، تتميماً للغرض، ونصه:

بسم الله الرحم الرحيم صلى الله على سيدنا ومولانا محمّد وآله وصحبه وسلم. الحمد لله حمداً كثراً طيباً مباركاً في حق حمده، والصلاة والسلام على سيدنا محمّد نبيه وعبده. إلى السيد الفقيه، العلم، المحقق، المدرس، المفتي الصدر، الحجة، الكبير، الخطير، الأحضى، الملحوظ، الأحفل الأكمل، أبي العباس سيدي أحمد بن سيدي يحيى الوانشريشي، حفظ الله سبحانه وتعالى كماله، وبلغه في الدارين آماله، من محبة طبعاً وشرعاً، أصلاً وفرعاً، وتراً وشفعاً، إفراداً وجمعاً، محمّد بن أحمد بن غازي، سمح الله سبحانه وتعالى له، مسلماً عليكم أكمل السلام، مخصصاً لكم بمحض البر والإكرام. سيدي متى صار النهر يستمد من الساقية؟ وكيف السيح يفتقر إلى السانية؟ في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل ليس التكحل في العينين كالكحل كتبت، كتب الله لك السعادة، وبلغك منها الحسنى والزيادة، تشارك محبكم في أمر سعيد برداً بإسكات عمر بن عبد العزيز، أو إخراجه من المسجد، هل كان ذلك في خلافة، أو في إمرته بالمدينة؟ ومن برد هذا، ون عرف به؟ ومن قال بإسلام أبي طالب غير المسعودي؟ ومن أبو العباس العشاب، الذي نقل عنه ابن عرفة في فصل الاستثناء من كتاب الطلاق؟ ومن الآبلي المصري؟ وهل ألف أحد في التعريف برجال أهل السنة والمعتزلة؟

فتوزع فكر محبكم في أرادكم شذر مذر، ولم يكن بد من إسعاف ردكم، ولو بالتشدق والهذر. 1 - أما قضية سعيد بن المسيب بن حزن مع عمر بن عبد العزيز بن مروان ابن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، المذكور في سماع القرينين من صلاة العتبيه، فليس عند محبكم في طرده، إلاّ ما فسر به القاضي أبو الوليد بن رشد: أنَّه من جواره، لا من المسجد جملة؛ فإنَّ وقفتم على تفسير أحد له بالإخراج من المسجد، فلكم الفضل في إفادتنا به، ثم لا مرية أنْ سعيداً مدني، وأنَّ عمر كان عاملا على المدينة، إلى أنْ عزل عنها سنة ثلاث وتسعين، حسبما هو في ترجمة مالك من المدارك، عن مصعب لن عبد الله. وفي جامع الموطأ لمالك، أنه بلغه أنَّ عمر بن عبد العزيز حين خرج من المدينة، التفت إليها فبكى، ثم قال: يا مزاحم، أتخشى أنْ نكون ممن نفت المدينة؟ قال أبو عمر: ذكر أهل السير أنَّ خروج عمر مع مزاحم مولاه من المدينة، كان في شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين، وذلك أنْ الحجاج كتب إلى الوليد: إنَّ عمر بن عبد الله العزيز بالمدينة كهف لأهل النفاق، وأهل البغضاء والعداوة لأمير المؤمنين. فجاوبه الوليد: إني أعزله. فعزله، وولى عثمان بن حيان المري؛ وذلك في شهر رمضان المذكور. فلما صار عمر بالسويداء قال لوزاحم: يا مزاحم أتخاف أنْ نكون ممن نفت المدينة؟ وقال ميمون بن مهران: ما رأيت ثلاثة مجتمعين خيراً من عمر بن

عبد العزيز، وابنه عبد الملك، ومولاه مزاحم. انتهى. قلت: مات ابنه ومولاه المذكوران قبله مطعونين ومات هو مسموما. ذكر ذلك أبو نعيم الحافظ في " حلية الأولياء ". وكان ميمون بن مهرا كاتبه رضي الله عنه. وأفضت الخلافة إلى عمر باستخلاف سليمان النهم إياه فاستقر بالشام دار خلافة قومه بني أمية إلى أنْ قبض ودفن بدير سمعان. قال ابن الخطيب في شرح رقم الحلل: من عمل حمص في أخريات رجب سنة إحدى ومائة. وقبره مشهور يغشاه الناس. انتهى. وقال الشاعر يرثيه رضي الله عنه: أقول لمّا نعى الناعون لي عمرا ... لا يبعدن قوام الحق والدين قد غيث الرامسون اليوم إذ رمسوا ... بدير سمعان قسطاس الموازين وفي رواية " جبران الموازين ". أنشدهما أبو نعيم في حلية. ورأيت في نسخة منها جريان بالياء آخر الحرف وأظنه تصحيفا لأن مصدر جريان جري جريان بفتح الراء والوزن يأباه مع ما فيه من القلق من جهة المعنى وصوابه والله تعالى اعلم جربان بضم الجيم وإسكان الراء وبالباء ثانية الحروف وأظن أنَّ منه اللفظ الذي في صرف العتيبة فيمن له على رجل دينار فأعطاه به نصفين وازنين قال: لا خير فيه إلاّ أنْ يكون للدينار جربان: كعيار عنده. قال اللقاضي أبو الوليد بن رشد: جربان أي وزن معلوم. وفي صحاح الجوهري: الجريب من الطعام والأرض: ممقدار معلوم والجمع أجربة وجربان. انتهى.

وبين التفسيرين فرق ولكنهما حول حقيقة واحدة يدندنان. وإنْ كان عند سيدنا في تحقيق هذا اللفظ غير هذا فعسى أنْ يفيدنا به. فإذا تقرر سكناه بالمدينة أيام العمالة ثم بالشام أيام الخلافة فالأظهر أنْ طرد سعيد إياه كان أيام العمالة حيث كان ثاويا بالمدينة لقوله في الرواية: كان عمر بن عبد العزيز يخرج من الليل أراه في آخره وكان ظاهره في المثابرة ومظنتها الإقامة لولا أنَّ شيخ الحقيقة وإمام الطريقة القاضي أبا الوليد بن رشد قال: لم يهبه لمكانه من الخلافة لجزالته وقوته في الحق وقلة مبالاته باأئمة. فاقتضى كلامه أنَّ ذلك كان وهو خليفة لا وهو عامل. فإن صح ذلك فيحتمل أنْ يكون جاء ليزور المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام في أيام خلافته وأقام فيها للعبادة. وربما يتعين هذا بأن النافلة في البيوت افضل لغير الغرباء والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. وقد ذكر قول ابن رشد هذا محبكم ما في صحيح البخاري عن سعيد بن المسيب أنَّه قال: جاء جدي حزن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ما اسمك؟ قال: حزن. قال أنت سهل. فقال: ما كنت أغير اسما سماني به أبواي. قال سعيد: فما زالت الحزونة فينا بعد. انتهى. ولصلابته في الحق وشدته على الدين امتحنه عبد الملك بن مروان وضربه بالسياط ألبسه المسوح وتبانا من الشعر ونهى عن الجلوس إليه. وذلك أيام استعماله هذا بن إسماعيل على المدينة وهو صاحب المد الشامي

لا الدينار الهاشمي، خلافاً لمن نسبه له، وإلاّ قيل الشامي أيضاً وتغيرات النسب مقصورة على السماع، وبالله تعالى التوفيق. قال عبيد الله أحمد بن محمّد المقري لطف الله به، وجدت بخط الإمام سيدي أحمد الوانشريشي في طرة: قول الإمام ابن غازي: " ولصلاته في الحق ... الخ " ما نصه: قلت: ذكر أبو العرب في كتاب الملحن، أنَّه لمّا أراد عبد الملك بن مروان أنْ يكتب العهد لابنه الوليد، قيل له لا يتم لك هذا الأمر إلاّ بابن المسيب، فكتب له، فكتب إليه أنْ يبايع، فرد إليه: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أنْ نبايع لخليفتين، فإن أردتها لابنك، فاخلع نفسك، وإلاّ فلا. فكتب عبد الملك إلى عامل المدينة، هشام بن إسماعيل المخزومي: إنْ لم يبايع فأضربه مائة سوط، فضربه مائة، وحلق رأسه ولحيته، وكساه تباناً من شعر، ونادى عليه، وطيف به اى الليل، فأغلقت الدور، وكثر البكاء والتحسر، وما سمع يوئذ بالمدينة إلاّ نائحة أو هاتف، لمّا انتهك من حرمته. وكان أيضاً قبل ذلك ضربه جابر بن الأسود على البيعة لابن الزبير. انتهى. ابن الحذاء: وكان جابر بن الأسود والي المدينة لابن الزبير، فدعاه إلى البيعة لابن الزبير، فضربه ستين سوطاً. ودعاه هشام بن إسماعيل أيضاً إلى البيعة للوليد وسليمان بالعهد، فلم يفعل؛ فضربه ستين سوطاً، وطاف به في المدينة، في تبان من شعر. انتهى.

تنبيهات

قال بعض الشيوخ: إنْ كان استناد ابن المسيب في إبايته من البيعة للوليد حديث: " إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما "، فإنما الحديث في البيعة للخليفتين، يفرق الثاني جماعة الأمل، ويشق العصا. وإنْ كان النهي في غير هذا الحديث، فهو أعلم بما استند إليه، قال: وأما امتناعه من البيعة لابن الزبير، فإنَّ البيعة حينئذ كانت انعقدت لبني امية في الشام، وكان مذهب ابن المسيب كمذهب الأكثر، في منع القيام على من انعقدت له البيعة ثم ظهر فسقه. وانظر هذا مع قول مالك: ابن الزبير أحق بها من مروان وابنه عبد الملك. انتهى ما ألفيته على هذا المحل بخط الشيخ العلامة الوانشريشي. ووجدت أيضاً بخطه ما نصه: تنبيهات الأول - ولد أبو محمّد سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي، لسنتين مضتا من خلافة عمر بن الخطاب. وتوفي بالمدينة، قال يحيى بن سعيد: سنة إحدى أو اثنتين وتسعين؛ وقال الواقدي: سنة أربع وتسعين؛ وكان يقال لهذه السنة الفقهاء، لكثرة من مات منهم؛ وقال المدائني ويحيى بن معين: سنة خمس ومائة. الثاني - قال غير واحد: عمال عبد الملك بن مروان: الحجاج بالعراق، وأخوه محمّد في اليمن، والمهلب بخراسان، وهشام بن إسماعيل بالمدينة، وابنه عبد الله بمصر، وموسى بن نصير بالمغرب، ومحمّد بن قلان بالجزيرة. قال ابن خلكان: وكل واحد من هؤلاء ظلوم غشوم. الثالث - هشام بن إسماعيل المذكور هنا هو ثالث آباء أبي هشام،

محمّد بن سلمة لبفقيه المدني، صاحب مالك. قال الشيرازي: وكان مالك إذا دخل على الرشيد دخل رجلين من بني مخزوم: المغيرة عن يمينه وابن مسلمة عن يساره. وهشام هذا هو الذي نسب إليه مدينة هشام المذكور في الوضوء والظهار والذي يذكر عنه ذكر عهدة الرقيق في خطبته وانظر شدة إنكار ابن العربي اعتبار مدينة في آية الظهار في أحكامه تطالع. انتهى ما ألفيت بخط الوانشريش. وقد سنح لي أنْ ما ذكره الشيخ ابن غازي عن ابن رشد من أنَّ طرد سعيد بن المسيب عمر بن عبد العزيز إنما كان في خلافته لا يتم إلاّ على الول بأن وفاته أعني سعيدا كانت على رأس المائة أو بعدها وأما على قول الأكثر إنَّه بعد التسعين بسنة أو سنتين أو أربع فلا يصح قطعا فتديره. ومن العجائب إغفال الشيخين: ابن غازي والوانشريشي له. وإلى الله منتهى العلم. ولنرجع إلى تكميل كلام الشيخ ابن غازي في التأليف المذكور ونصه: أما برد فليس عند معظم قدركم أكثر من أنَّه مولى سعيد كما أنَّ زيد بن حارثة وسفينة وأبا رافع وشقران: مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلال بن رباح مولى أبي بكر ويرفأ مولى عمر بن الخطاب وحمران مولى عثمان بن عفان ونافع مولى ابن عمر وكريب وعكرمة البربري موليا ابن عباس مزاحم مولى عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنهم. وقد صرح بذلك الحافظ أبو نعيم قائلا في ترجمة سعيد من الحلية عن برد مولى سعيد ابن المسيب: ما نوي للصلاة منذ أربعين سنة إلاّ وسعيد في المسجد. انتهى.

ولم أجد عند أبي جعف العقيلي ولا عند أبي يحيى الباجي ولا عند ابن أبي أحد عشر الذي جمع بينهم من اسمه برد وذلك والله أعلم لأحد وجهين: إما أنَّه لم يتكلم فيخ أحد بجرح أو لكونه لا رواية له. ولا يعترض هذا بوقوعه في سند الحلية المتقدم إذ ليس بمرفوع. وقد ذكروا بعض من اسمه بريد وبريدة لوقوعهما في أسانيد المرفوع وتكلم بعض الأئمة فيهما ببعض الجرح وبالله العصمة لا رب غيره. وأبو عبد الله بن أبي أحد عشر المذكر: هو من أهل المرية وقد عده صاحب بغية الراغب في أشياخه وعرف به تعريف كافيا. 2 - وأما أبو طالب فليس عند معظم منصبكم في شأن غير ما تضمنته الصحاح من قوله آخر كلامه عند الموت: " على ملة عبد المطلب " وحديث الضحضاح الذي يغلي منه دماغه وقوله: " لولا أنْ تعيرني النساء على المغازل لأقررت بها عينك " وما نزل فيه من قوله تعالى:) ما كان للنبي والذين آمنوا أنْ يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (وقوله سبحانه:) إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء (وقوله جل وعلى في أحد التأويلين: " وهم ينهون عنه وينأون عنه ". وأنشد في في تفسيرها الثعلبي والزمخشري له يخاطب رسول ليس صلى الله عليه وسلم: والله لن يصلوا إليك بجمهم ... حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وابشر بذاك وقر منه عيونا ودعوتني وزعمت أنك ناصح ... ولقد صدقت وكنت ثم أمينا

وعرضت دينا لا محال أنَّه ... من خير أدينا البرية دينا لولا الملامة أو حذاري سبة ... لوجتني سمحا بذاك مبينا وقد فسر اللطيب في فتوح الغيب غريبها. وبحسب ما تقرر من حاله أورد علماؤنا القاضي أو الفضل عياض وغيره السؤال على قوله عليه السلام: " لعله تنفعه شفاعتي " مع قوله تعالى:) فما تنفعهم شفاعة الشافعين (وانفصلوا عنه بما في كريم علم سيدنا. وأما عبد المطلب الذي قلده من أهل الفترة وللقاضي أبي بكر بن العربي في كتاب الناسخ والمنسوخ كلام مليح على أهل الفترة عند قوله تعالى:) إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عيهم ولا هم يحزنون (. وقد حدث محبكم غير واحد عن الشيخ سيدي أبي محمّد عبد الله العبدوسي أنَّه كان يلهج بحديث وقف عليه في بعض الكتب غير واحد عن الشيخ سيدي أبي محمّد أنَّ الله عز وجل بعث لرسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه حتى آمنا به صلى الله عليه وسلم إكراها لنبيه عليه السلام وكان العبدوسي يستحسنه ويسر به كثيرا. وقد أنشدني بعض أصحابنا للنميري السلوى: وإنَّ ابن طلاع روى أنَّ أحمدا ... رأى أبويه بعد ذوق المنية فأحياهما رب العباد فآمنا ... به ثم عادا مكرمين لتربة وقدره عليه السلام أوسع من هذا كله صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم وعظم: لو ناسبت قدره آياته عظما ... أحيا اسمه حين يدعى دارس الرعم

وأما قول المسعودي في أبي طالب فما استفاده محبكم إلاّ من كتبكم أبقى الله لنا بركاتنا. قال جامع هذا الموضوع عبيد الله أحمد بن محمّد المقري وفقه الله: وجدت على هذا المحل من كلام الشيخ ابن غازي في الطرة بخط الإمام سيدي أحمد الوانشريشي رحمه الله ما نصه: قال القاضي أبو عبد الله محمّد بن خلفة الوشتاتي المعروف بالأبي في إكمال الإكمال ما نصه: السهيلي: ورأيت في بعض كتب المسعودي: وقيل إنَّه مات مؤمنا. ولا يصح لم تقدم من الآي والأحاديث. ولا يحتج لذلك بما في السير من قول العباس: " والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته بها يا رسول " لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لم اسمعها. ولو أنَّ العباس شهد بذلك بعد إسلامه قبلت شهادته لأن العدل إذا قال: سمعت وقال الأعدل: لم اسمع أخذ بقول من أثبت لأن عدم السماع قد يكون لسبب. فإن قلت: قد ذكرت أنَّ السير تدل على أنَّه كان مصدقا بقلبه وقدمت الخلاف في صحته إيمان من صدق بقلبه ولم ينطق بلسانه فهل يدخل في إيمانه ذلك الخلاف؟ قلت: لا يدخل لأنه صرح بالنقيض في قوله هو: " على ملة عبد المطلب ". انتهى ما ألفيت بخط الوانشريشي. ولنرجع إلى تتميم كلام ابن غازي. 3 - قال رحمه الله: وأما أبو العباس العشاب الذي عرف بابن طلحة

فلا يعرف مجل سيادتكم إلاّ من كلام ابن عرفة وكأنه مؤرخ. قال أحمد المقري وفقه الله: ألفيت على طرة هذا المحل بخط سيدي أحمد الوانشريشي رحمه الله ما نصه: لت أبو العباس العشاب المعروف بابن طلحة في كتاب الطلاق وقد وهم فيه وعرف في الترجمة مواقع الشهادات بابن الخبازي النحوي: هو أحمد بن محمّد بن إبراهيم المرادي المعروف بالعشاب. قال ابن مرزوق الخطيب في فهرسة شيوخه: هو من أعظم من لقيت بثغر الإسكندرية وأكثرهم تحصيلا قرأت عليه بعض موطأ الإمام وكتاب الشفا في التعريف بحقوق المصطفى وكتاب التيسير وكتاب التفسير من تأليفه جمع فيه بين تفسير ابن عطية وتفسير الزمخشري وقرأت عليه أوائل الكتب الستة بأسانيده فيها. ويحمل عن أعلام منهم أبو القاسم بن البراء والشيخ العارف أبو العباس أحمد بن عثمان بن أحمد بن عجلان القيسي الإشبيلي وأبو عمر عثمان بن سفيان المعروف بابن الشقي وأبو محمّد عبد الله بن محمّد بن أحمد الواعظ المعروف بابن الحجام وأبو العباس بن الغماز وعبد الحميد بن أبي البركات بن أبي الدنيا الصدفي وأبو القاسم بن زيتون وأبو علي بن عبيل. انتهى ما ألفيت في هذا المحل بخط الشيخ سيدي أحمد الوانشريشي. ولنرجع إلى تكميل كلام ابن غازي. قال رحمه الله: نعم ابن طلحة الذي عرف به: هو شيخ محمود الأعرج الزمخشري قرأ عليه كتاب سيبويه بمكة شرفها الله تعالى سمعت ذلك من شيخنا الأستاذ سيدي أبي عبد الله الكبير برد الله تعالى ضريحه وقد عرف

صاحب الخريدة الزمخشري وهو بخزانة جامع الأندلس. وفي اعتقاد محبكم أنَّ ابن طلحة هذا النحوي خلاف الفقيه صاحب المدخل وأنَّ حظه من مسألة الاستثناء اللسان دون الفقه. فإن صح عند سيدنا أنَّه هو فليفدنا به متطولا مأجورا مشكورا. قال أحمد المقري وفقه الله: وجدت على طرة هذا المحل بخط سيدي أحمد الوانشريشي رحمه الله ما نصه: قلت: بل هو هو وهو عبد الله بن طلحة بن محمّد عبد الله اليابري نزل إشبيلية أبو بكر وأبو محمّد الأول أشهرهما. روى عن جماعة من الأعلام نزل مكة شرفها الله وكان من أهل المعرفة بالفقه وأصوله ماهرا في النحو حافظا للتفسير قائما عليه ذاكرا للقصص المتعلقة به وذلك الغالب عليه وحلق به للعامة تنثال على مجلسه. وله مصنفات منها في التفسير كتاب كبير ومنها في الفقه وأصوله وشرح صدر رسالة الشيخ أبي محمّد ومنها رد على ابن حزم ومنها كتاب في الفقه على مذهب مالك سماه سيف الإسلام ومنها كتاب سمها المدخل إلى هذا المتاب واستوطن مصر وقتا ثم رحل إلى مكة فجاور فيها إلى أنْ توفي بها رحمه الله. وكان حيا سنة ست عشرة وخمس مائة وكانت له معرفة تامة بكتاب سيبويه وبسببه ارتحل إليه الزمخشري من خوارزم لقراءته عليه. انتهى. من كتاب الذيل والتكملة لابن عبد الملك. وذكر الشيخ أبو حيان في باب القسم أنَّ الزمخشري رحل من خوارزم إلى مكة قبل العشرين والخمس مائة لقراءة كتاب سيبويه على رجل من أصحابنا وما أهل الأندلس يعرف بابي بكر بن طلحة اليابري وكان مجاورا بها عالما

بالكتاب وغيره وله تصانيف تقرأ عليه. قلت: وتوفي فخر خوارزم أبو القاسم محمود سنة ثمان وثلاثين وخمي مائة. وقطعت إحدى رجليه بسبب الثلج ولم يكن لريبة والله اعلم. انتهى ما وجد بخط الشيخ الوانشريشي على هذا المحل. ولنرجع لكلام الإمام ابن غازي. قال رحمه الله: وثم ابن طلحة آخر وهو مخاطب أحد بني رغبوش بقصيدة مديحية زائة الروى هائية الوصل حسبما ذكر ابن عبد الملك في تكلمته. 4 - وأما الآبلي المصري فلا إخالة طرق اسمه سمعي إلاّ من جهتكم فإنكم ذكرتموه لي في غير هذا الوقت وقد سألت الفقيه المحقق سيدي أبا عبد الله الغوري ليلة عن ضبط باء الآبلي الذكي الرحال: أبالضم أو بالكسر فكأنه ترجح فيه ثم مال إلى الضم. 5 - وأما رجال أهل السنة والمعتزلة فلا علم لمحبكم هل صنف فيهم أم لا. نعم ربما سمعت أو رأيت بعض حكاياتهم في المناظرة كمناظرة الشافعي حفصا الفرد بعد ما أنشده الشافعي يتوعده متمثلا: ستعلم يا يزيد إذا التقينا ... بشط الزاباي فتى أكون وذكرهم أبو نعيم في الحلية ومناظرة القاضي أبي بكر الطيب الباقلاني ابن المؤدب إذ أخرج ابن المؤدب فولا فرمى به يعرض بالباقلاني فأخرج

الباقلاني سوطا فرمى به يعرض بابن المؤدب والحكاية ظريفة ذكرها صاحب بغية الراغب في ترجمة أبي عبد الله البغدادي. قال أحمد المقري وفقه الله: وجدت بخط الوانشريشي بطرة هذا المحل ما نصه: أبو عبد الله هذا هو أبو بكر بن مجاهد والله أعلم. انتهى. ولنرجع إلى كرم ابن غازي: قال رحمه الله ما نصه: قال قال فنا خسرو يوما لوزرائه: هؤلاء المثبنة أما لهم ناصر؟ فقال له القاضي قاضي الجماعة بشر بن الحسين: ليس لهم ناصر وإنما هم قوم رعاع أتباع حشوية لا يعرفون النظر وإنما هم أصحاب روايات وأخبار والمعتزلة هم فرسان المناظر والجدل. فقال فنا خسرو: محال أنْ يكون مذهب قد طبق الأرض وليس له ناصر. فقال له بشر بن الحسين: سمعت أنَّ رجلين بالبصرة أحدهما شيخ والآخر شاب فأما الشيخ فهو أبو بكر محمّد بن مجاهد وأما الشاب فهو أبو بكر بن الطيب. فأرسل إليهما الأمير فنا خسرو وخمسة آلاف درهم فضة طيبة. فقال أبو بكر بن مجاهد هؤلاء قوم ظلمة فسقة لا يحل لي أنْ أطأ بسطهم وليس غرضهم منا إلاّ أنْ يقال إنَّ مجلسه مشتمل على أصحاب المحابر ولو كان ذلك الله تعالى لكانت أموره جارية على السداد وأنا لأحضر عند قوم هذه الصفة. قال أبو بكر بن الطيب فقلت له هكذا قال عبد الله ابن كلاب والحارث بن أسد المحاسبي: إنَّ المأمون ظالم فسق ولا نحضر مجالسه حتى سيق أحمد بن حنبل إلى طرسوس ولمّا مات المأمون ضربه المعتصم

بالسياط ولو نصروه لكان أولى لأن الرجل كان الرجل كان يدعى أنَّ أهل السنة ليست لهم حجة على قولهم وإنما غراضهم رياسة العامة ودفن الحق ولو مضوا إلى المعتصم وبينوا له أنَّ الذي يدعى زور وبهتان لأرتدع المعتصم ولكن أسلموا أحمد بن حنبل لابن أبي داود القاضي فجرى على أحمد ما جرى وهم ينظرون. وكذلك أنت سلكت مسلكهم حتى يجري على الفقهاء ما جرى على أحمد بن حنبل وهنأ خارج. فقال له ابن مجاهد: إذا شرح الله لك صدرك لذلك فافعل. قال القاضي أبو بكر بن الطيب: فخرجت إلى شيراز فلما دخلت المدينة استقبلني ابن الخفيف في جماعة من الصوفية وأهل السنة فلما جلسنا في موضع كان ابن خفيف يدارس فيه أصحابه اللمع للشيخ أبي الحسن الأشعري قال له القاضي أبو بكر: تماد على التدريس كما كنت فقال له ابن خفيف: أصلحك الله إنما أنا بمنزلة المتيم عند عدم الماء فإذا وجد الماء فلا حاجة إلى التيمم. فقال له القاضي: جزاك الله خيرا وما أنت بمتيمم بل لك وافر من هذا العلو وأنت على الحق والله ينصرك. قال القاضي أبو بكر: قلت: متى الدخول إلى فنا خسرو؟ فقال لي: يوم الجمعة لا يحجب عنه صاحب طيلسان. فدخلت والناس قد أجمعوا والملك قاعد على سرير ملكه والناس صفوف على يسار الملك وفوق الكل قاضي القضاة بشر بن الحسين وكان يدخل مع الوزراء في وزاراتهم ويصغي الملك إلى رأيه في أمر الدولة. قال القاضي أبو بكر: فلما رأيت ذلك كرهت أنْ أتقدم على الناس وأتخطى رقابهم من غير أنْ أرفع ولم تدعني نفسي أنْ اقعد في أخريات الناس

وكان عن يمين الملك المجلس خاليا ولا يقعد هناك إلاّ ملك أو وزير عظيم المنزلة فمضيت وقعدت عن يمينه بحذاء قاضي القاضاة فوجدوا من ذلك وفزعوا واضربوا لأن كان عندهم من الجنايات العظام وما كان في المجلس من يعرفني إلاّ رجل واحد فقال للقاضي: أطال الله بقاء سيدنا هذا هو الرجل الذي طلبه الملك مولانا. فقال قاضي القضاة: أطال الله بقاء مولانا هذا هو الرجل الذي كتبت فيه وهو لسان المثبتة فنظر إلى الغلمان بين يديه والحجاب فطاروا من بين يديه ثم قال لهم: اذكروا له مسألة. وكان في المجلس رئيس البغداديين وهو الأحدب وما كان زمانه أفصح منه ولا أعلم منه عندهم فأما البصريون فحضر منهم خلق كثير أقدمهم أبو إسحاق النصيبي. فقال الأحدب لتلاميذه: سلوه: هل لله تعالى أنْ يكلف الخلق ما لا يطيقونه أو ليس له ذلك؟ فقال الرجل للقاضي: هل لله تعالى أنْ يكلف الخلق ما لا يطيقونه أو ليس له ذلك؟ فقال له القاضي أبو بكر: إنْ أردت بالتكليف القول المجرد فالقول المجرد قد توجه لأن الله تعالى قال:) قل كونوا حجارة أو حديدا (ونحن لا نقدر أنْ نكون حجارة ولا حديدا وقال تعالى) أنبئوني بأسماء هؤلاء إنْ كنتم صادقين (فطلبهم بما لا يلمون وقال تعالى) ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون (وهذا كله أمر بما لا يقدر عليه الخلق وإنْ أردت التكليف الذي نعرفه وهو ما يصح فعله وتركه فالكلام متناقض وسؤالك فاسد. فاخذ الأحد الكلام وقال: أيها الرجل أنت سئلت عن كلام مفهوم

فطرحه في الاحتمالات وليس ذلك بجواب والجواب - إذا سئلت: هذا لله تعالى أنْ يكلف الخلق ما لا يطيقون - أنْ تقول: نعم له أنْ يكلف أو ليس له أنْ يكلف. فعدلت عن الجواب إلى ما ليس بجواب وهذا اضطراب شديد. قال القاضي: فلما لم يوقرني ولم يخاطبني بما يليق قلت له: أيها الرجل أنت عائم ورجلاك في الماء إني طرحت الكلام في الاحتمالات فلم تعدل أنت إلاّ لعجز أو لعي فإن كان معك كلام في المسألة وإلاّ تكلم في غيرها. فال الملك للأحدب: هذا قد بين الاحتمالات وتلا عليك الآيات. ثم إني جمعتكم إلاّ لنستفيد ولا لمّا لا يليق بالعلماء. ثم التفت إلى وقال لي: تكلم على المسألة فقالت: ما لا يطاق على ضربين: أحدهما يطاق للعجز منه والآخر لا يطاق للاشتغال عنه بضده كما يقال: فلان لا يطيق التصرف لاشتغاله بالكتابة وما أشبه ذلك وهذا سبيل الكافر: إنَّه لا يطيق الإيمان لا لأنّه عاجز عن الإيمان لكنه لا يطيقه لاشتغاله بضده الذي هو الكفر فهذا يجوز تكليفه بما لا يطاق. وأما العاجز فما ورد في الشريعة تكليفه ولو ورد لكان صوليا وقد أثنى الله تعالى على من سأله ألاّ يكلفه ما لا طاقة له به لأن الله تعالى له أنْ يفعل في ملكه ما يريد. ثم تجاوز الأحدب إلى غيره من الكلام ومال الملك إلى قول القاضي أبي بكر. قال القاضي: ثم سألني النصيبى عن مسألة الرؤية: هذا يرى الباري سبحانه بالعين؟ وهل تجوز الرؤية عليه أو تستحيل؟ وقال: كل شيء يرى

بالعين فيجب أنْ يكون في مقابلة العين. فالتفت الملك إلى القاضي أبي بكر وقال له: تكلم أيّها الشيخ في المسألة. فقال القاضي: لو كان الشيء يرى بالعين لوجب أنْ يكون في مقابلة العين على ما قال ولكن لا يرى الشيء بالعين. فتعجب الملك من ذلك والتفت إلى قاضي القضاة فقال: إذا لم يرى الشيء بالعين فبأي شيء يرى؟ فقال: يسأله الملك. فقال: أيّها الشيخ فبأي شيء يرى إذا لم يرى بالعين؟ فقال أبو بكر يرى بالإدراك الذي في العين. ولو كل شيء يرى بالعين لكان يجب أنْ نرى كل عين قائمة وقد علمنا أنَّ الأجهر عينه قائمة ولا يرى شيئاً. فزاد الملك تعجبا وقال للنصيبي: تكلم. فقال النصيبي: إني لم أعلم أنَّه يقول هذا ولا بنيت إلاّ على ما نعرف وظننت أنَّه يسلم أنْ الشيء يرى بالعين. فغضب الملك وقال: ما أنت مثل الرجل لأنك بنيت المسألة على الظن. ثم التفت إليَّ وقال: تكلم. فقلت: العين لا ترى وإنما ترى الأشياء بالإدراك الذي يحدثه الله تعالى فيها وهو البصر إلاّ ترى أنَّ المحتضر يرى الملائكة ونحن لا نراهم؟ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى جبريل عليه السلام ولا يراه من يحضره؟ والملائكة يرى بعضهم بعضا ولا نراهم نحن؟ والدليل على جواز رؤية الباري تعالى أنَّه ليس فيها قلب للحقائق ولا إفساد للأدلة ولا إلحاق صفة نقص بالقدير تعالى فوجب أنْ يكون كسائر الموجودات لأنّه تعالى موجود والشيء إنّما يرى لأنّه موجود لأنَّ المرئي لم يكن مرئيا لأنّه جنس لانا نرى سائر الأجناس المختلفة ولا لقيام معنى بالمرئى لانا نرى الأعراض التي لا تحتمل المعاني وقد ثبت بالنص

وجوب رؤية الحق سبحانه في الدار الآخرة. ثم طول الكلام. قال ولم يزل فنا خسرو يتقرب إليه وينزل عن سريره ملكه حتى صار بين يديه لمّا استعذب من كلامه. فلما فرغ من المسألة قيل للفارابي صاحب المنطق: تكلم معه فتلجلج في كلامه واقشعر وقال: إنما أنا صاحب إصطرلاب ما قدر هؤلاء وهم فرسان الكلام: الأحدب وبرغوث وغيرهم على جدالة. فخرج القاضي أبو بكر وأمر الملك بإنزاله والجراية عليه وقال: والله ما كنت إلاّ مفكرا بأي لون من القتل أقتله إذا لم يستحق مكانه وأما الآن فقد ظهر لي أنَّه أحق بمكاني هذا ولكني مبتلى بالملك. انتهى. والمراد بالمثبتة هنا: أهل السنة والزمخشري يسميهم المجبرة وقع له ذلك وفي أماكن من الكشاف منها في تفسير قوله تعالى:) قل لا يستوي الخبيث والطيب (وفي وقوله سبحانه:) وقال الشيطان لمّا قضى الأمر (. ولصاحب " الانتصاف من الكشاف " ولصاحب فتوح الغيب في الرد عليه عند تفسير الآيتين كلام حسن ينبغي الوقوف عليه. وسمى أهل السنة المجبرة لاعتقاده قرب مذهبهم من مذهب الجبرية لا سيما وقد قال بعض أئمة أهل السنة: " وبالجبر أقول والله المستعان ".

وقد حدثنا شيخنا الأستاذ سيدي أبو عبد الله الكبير عن شيخه أبي عبد الله العكرمي وكان لسنا أنَّه كان كثيرا ما يقول: إمامان عظيمان قالا بالجبر من أئمتنا: القاضي أبو بكر بن العربي والفخر بن الخطيب كما أنَّ إمامين عظيمين من أئمتنا نسب إليهما القول بالجهة وهما أبو محمّد بن أبي زيد وأبو عمر بن عبد البر وجنح لذلك ابن المرابط في تفسير البخاري وهو ديوان كبير بخزانة جزيرة الأندلس. ثم عند محبكم تردد في أبي بكر بن مجاهد هذا هو شيخ أئمة الإقراء الذي يعتمد عليه أبو عمرو الداني في إيجاز البيان وفي التمهيد كثيرا. وقال فيه الجعبري إنَّه المسبع الأول. صنف كتاب السبعة على رأس الثلاث مائة. وقال أبو علي الأهوازي: هو الذي أخرج يعقوب من السبعة وجعل الكستنائي مكانه. وهو الذي قال له الشبلي: أين تجد في القرآن العزيز أنَّ الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فقال: لا أدري. فأشار إلى قوله تعالى:) قل فلم يعذبكم بذنوبكم (حسبما بسطه القاضي أبو الفضل عياض في ترجمة الشبلي من المدارك. وفي ظنى أنَّ اسم المقرئ موسى وقد سمى هذا هاهنا محمّدا فلسيدنا الفضل في تحقيق ذلك لنا في كتاب طبقات القراء لأبي

عمرو الداني ومن تعريف الجعبري الذي ختم به شرح القصيد وهما بخزانة جامع القرويين عمره الله تعالى. لله در على بن المدني حيث قال: أشد التصحيف في أسماء الرجال. ولا شك أنَّ هذا موضع لبس كابني وابني زياد ممن اتحد اسمه وتعدد مسماه وكالأبهرى والصالحي في عكسه. ورحم الله الفقيه الشيخ سيدي أبا محمّد عبد الله العبدوسي فقد حدثني عنه التقة أنَّه كان يمثل هذا المعرض الذي نحن بصدده بقضية القاضي أبي بكر ابن العربي فإن كثيرا من الناس ينكرون أنْ يكون هو المدفون خارج باب المحروق ويقولون إنما هو مدفون خارج باب الجيسة واغتروا في ذلك بظواهر التواريخ. وذلك أنْ القاضي أبا الفضل عياض ذكر في الغنية أنه دفن خارج باب الجيسة قال: وجوابه أنَّ باب المحروق لم يكن فتح في ذلك الوقت وإنما فتح على رأس ست مائة سنة فكان ذلك الخارج كله ينسب لباب الجيسة ثم يدفع في صدر هذا الجواب ما في بعض هذه التواريخ أنه دفن على مقربة من حارة الجذامي. قال: وجوابه أنَّ الجذامي كانوا هناك قديما حتى تضرر أهل فاس بسكناهم على رأس مائهم فنقلوا إلى موضعهم اليوم.

ثم يرد على هذا أنا نجد عند باب الجيسة إلى جنب حارة الجذمى قبر رجل يسمى بابن العربي يقصده الناس بالزيارة كثيرا فلعله هو. قال: وجوابه أنَّ ذلك رجل آخر يدعى أيضاً بابن العربي كان موقتا في القرويين. قلت: ويزاد فيه إنَّ الفقيه هو أبو بكر وهذا الذي خارج باب المحروق اشتهر بابي يحيى. وجوابه إنهما كنيتان مترادفتان على مسمى واحد وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. وقد هذى محبكم هنا وهجر وأهدى التمر لأهل هجر وجلب العنبر إلى البحر الأخضر فلكم الفضل في الإغضاء والتجاوز والإمضاء. وكتب في أوائل ذي الحجة الحرام خاتم عام سبعة وثمانين وتسع مائة عرفنا الله خيره ووقانا ضيره والسلام الكريم يخص مقامكم العلي ومنصبكم السمي وأهليكم وذويكم ومن هو منكم وفيكم ورحمة الله تعالى وبركاته. انتهى التأليف العجيب للشيخ العلامة أبي عبد الله بن غازي رحمه الله ووجدت في آخره ما نصه: الحمد لله وكذلك يسلم على كريم مقامكم خديمكم أحمد بن محمّد بن غازي قاصدا بتوالي كتبه التبرك بكم ملتمسا منكم الدعاء أفاض الله علينا من بركاتكم ونفعنا بمحبتكم بجاه النبي عليه السلام. انتهى. وأوردت جميعه لمّا قدمته والله تعالى المنجد المعين. قلت: وقد وقفت على كلام لبعض الأقدمين " ينفي الاحتمال " في أمر ابن العربي المذكور ونصه: توفي ابن العربي منصرفه من مراكش بموضع

يعرف بأغلان على مسيرة يوم من فاس غربا منها فاحتمل فينا إلى فاس في اليوم الثاني من موته وذلك يوم الأحد السابع من ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وخمس مائة ودفن بأعلى مدينة فاس خارج القصبة بتربة القائد مضفر وصلى عليه صاحبه أبو الحكم بن حجاج رحمه الله. انتهى. وقدمنا عن ابن بشكوال أنه توفي في ربيع الآخر من هذه السنة فالله اعلم. وقد ذكر بعض من شرح الشفا أنَّ ابن العربي توفي سنة أثنتين وأربعين. قلت: وهو غير صحيح إن شاء الله تعالى وإنما الصحيح ما قدمته. ومن صلابة الإمام أبي بكر بن العربي رحمه الله أنَّه حكم في زامر بثقب أشتداق حسبما نقله صاحب المعيار وغيره. ومن بديع نظمه رحمه الله: أتتني نؤنبي بالبكا ... فأهلا بها وبتأنيبها تقول وفي نفسها حسرة ... أتبكي بعين تراني بها فقلت إذا استحسنت غيركم ... أمرت جفوني بتعذيبها وقال رحمه الله: دخل علي ابن صارة وبين يدي نار قد علاها رماد فقلت: لتقل في هذا فقال: شابت نواصي النار بعد سوادها ... وتسترت عنا بثوب رماد ثم قال لي ابن صارة: أجز فقلت: شابت كما شبنا وزال شبابنا ... فكأنما كنا على ميعاد

وحكى غير واحد أنَّ أبا بكر بن العربي رحمه الله بينما هو جالس في محل درسه إذ دخل شاب من الملثمين وبيده رمح فهزه فقال القاضي أبو بكر رحمه الله: يهز على الرمح ضبي مهفهف ... لعوب بألباب البرية عابث فلو كان رمحا واحدا لاتقيته ... ولكنه رمح وثاني وثالث وقد اختلف حذاق الأندلس من أهل الأدب في معنى الرمح الثاني والثالث وأكثرهم يقول: هما القد واللخظ والله اعلم. ولمّا ذكر الإمام ابن العربي المذكور رحمه الله في كتاب قانون التأويل ركوبه البحر في رحلته من إفريقية قال: وقد سبق في علم الله أنْ يعظم علينا البحر بزوله ويغرقنا في هوله فخرجنا من البحر خروج الميت من القبر وانتهينا بعد خطب طويل إلى بيوت بني كعب بن سليم ونحن من السغب على عطب ومن العرى في أقبح زي قد قذف البحر زقاق زيت مزقت الحجارة منيئتها ودسمت الأدهان وبردها وجلدها فاحتزمناها أزرا واشتملناها لفعا تمجنا الأبصار وتخذلنا الأنصار فعطف أميرهم علينا فأوينا إليه فآوانا وأطعمنا الله تعالى على يديه وسقانا وأكرم مثوانا وكسانا بأمر حقير ضعيف وفن من العلم ظريف. وشرحه: أنا لمّا وقفنا على بابه ألفيناه يدير أعواد الشاه فعل السامد اللاه فدنوت منه في تلك الأطمار وسمح لي بياذقه إذ كنت من الصغر في

حدّثني يسمح فيه للأغمار ووقفت بأزائهم أنظر إلى تصرفهم من ورائهم إذ كان علق بنفسي بعض ذلك من بعض القرابة في خلس بطالة مع غلبة الصبوة والجهالة فقلت للبياذقة: الأمير أعلم من صحابه فلمحوني شزرا وعظمت في أعينهم بعد أنْ كنت نزرا وتقدم إلى الأمير من نقل إليه الكلام فاستدعاني فدنوت منه وسألني: هل لي بما فيه بصر؟ فقلت لي فيه بعض نظر سيبدو لك ويظهر حرك تلك القطعة ففعل وعارضه صاحبه فأمرته أنْ يحرك أخرى وما زالت الحركة بينهم كذلك تترى حتى هزمهم الأمير وانقطع التديبر فقال: ما أنت بصغير. وكان في أثناء تلك الحركات قد ترنم ابن عم الأمير منشدا: وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه ... وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتقي فقال: لعن الله أبا الطيب أو يشك الرب؟ فقال له في الحال: ليس كما ظن صاحبك أيّها الأمير إنما أراد بالرب ها هنا الصاحب. يقول: ألذ الهوى ما كان المحب فيه من الوصال وبلوغ الغرض من الآمال على ريب فهو في وقته كله على رجاء لمّا يؤمله وتقاة لمّا يقطع به كما قال: إذا لم يكن في الحب سخطا ولا رضا ... فأين حلاوة الرسائل والكتب وأخذنا نظيفالى ذلك من الأغراض في طرفي الإبارم والانتقاض ما حرك منهم إلى جهتي داعي الانتهاض وأقبلوا يعجبون مني ويسألونني كم سني ويستكشفونني عني فبقرت لهم حديثي وذكرت لهم نجيثي وأعلمت الأمير بأن أبي معي فاستدعاه وقمنا الثلاثة إلى مثواه فخلع علينا خلعه وأسبل علينا أدمعه وجاء كل خوان بأفنان الألوان. ثم قال بعد المبالغة في وصف ما نالهم من إكرامه:

فانظر إلى هذا العلم الذي هو إلى الجهل اقرب مع تلك الصبابة اليسيرة من الأدب كيف أنقذانا من العطب؟ وهذا الذي يرشدكم إنْ غفلتم إلى الطلب. وسرنا حتى انتهينا إلى ديار مصر. انتهى مختصرا. والزوال العجب ونجيث الخبر: ما ظهر من قبيحه يقال: بدا نجيث القوم: إذا ظهر سرهم الذي كانوا يخفونه. قالها الجوهري. إفادة: قال الإمام غازي رحمه الله: في هذه الرحلة لقي ابن العربي شيخه ذانشمند الأكبر وهو إسماعيل الطوسي ودانشمند الأصغر وهو أبو حامد الغزالي الطوسي. ومعنى ذامنشد بلغة الفرس عالم العلماء وكان شيخنا الأستاذ أبو عبد الله الصغير يحكي أنا عن شيخه أبي محمّد عبد الله العبدوسي أنَّه بلغه الفرس يفخمون ميم دانشمند والله تعالى اعلم. قال ابن العربي في قانون التأويل: ورد علينا دانشمند يعني الغزالي فنزل برباط أبي سعد بإزاء المدرسة النظامية معرضا عن الدنيا مقبلا على الله تعالى فمشينا إليه وعرضنا أمنيتنا عليه وقلنا له: أنت ضالتنا التي كنا ننشد وإمامنا به نسترشد. فلقيناه لقاء المعرفة وشاهدنا منه ما كان فوق الصفة وتحققنا أنَّ الذي نقل إلينا من الخبر على الغائب فوق المشاهدة ليس على العموم ولو رآه علي بن العباس لمّا قال: إذا ما مدحت امرأ غائبا ... فلا تغل في مدحه واقصد

فإنك إنْ تغلُ تغل الظنو ... ن فيه إلى الأمد الأبعد فيصغر من حيث عظمته ... لمفضل المغيب على المشهد انتهى. وقال بعض من عرف به، أعنى بابن العربي رحمه الله، ما نصه: علم الاعلام، الطاهر الأثواب، الباهر الألباب، الذي أنسى ذكاء إياس، وترك التقليد للقياس، وانتج الفرع من الأصل، وغدا في يد الإسلام أمضى من النصل، سقى الله به الأندلس، بعد ما أجدبت من المعارف، ومدينة عليها منه الظل الوارف، فكساها رونق نبله، وسقاها ريق وبله، وكان أبوه أبو محمّد بإشبيلية المأمون لابن أبي داود، ولاه الولايات الشريفة، وبواه المراتب المنيفه، فلما أقفزت حمص من ملكهم وخلت، وألقتهم منها وتخلت، رحل به إلى المشرق، وحل فيه محل الخائف الفرق، فجال في أكنافه، وأجال قداح الرجاء في استقبال العز واستئنافه، فلم يسترد ذاهبا، ولم يجد كمعتمد باذلا زاهيا، فعاد إلى الرواية والسماع، وما استفاد من إجالة تلك الأطماع، وأبو بكر إذ ذاك في ثرى الذكاء قضيب ما دوح، وفي روض الشباب زهر ما صوح، فألزمه مجالس العلم رائحا وغاديا، ولازمه سائقا إليها وحاديا، حتى استقرت به مجالسه، واطردت له مقياسه، فجد في طلبه، واستجد به أبوه منخرق أربه،

ثم أدرك حمامه، ووراته هناك رجامه، وبقي أبو بكر متفرد، وللطلب متجردا، حتى أصبح في العلم وحيداً، ولم تجد عنه الرياسة محيدا، فكر إلى الأندلس، فحلها والنفوس إليه متطلعه، ولأنبائه متسمعه، فناهيك من حظوة لقي، ومن غزة سقى، ومن رفعة سما إليها ورقي، وحسبك من مفاخر قلدها، ومن محاسن أنس أثبتها فيها وخلدها. وقد أثبت من بديع نظمه ما يهز أعطافا، وترده الأوهام نطافا. فمن ذلك قوله يتشوق إلى بغداد، ويخاطب أهل الوداد: أمنك سرى والليل يخدع بالفجر ... خيال حبيب قد حوى قصب الفخر جلا ظلم الظلماء مشرق نوره ... ولم يخبط الظلماء بالأنجم الزهر ولم يرض بالأرض البسيطة مسحبا ... فسار على الجوزاء إلى فلك يجرى وحث مطايا قد مطاها بعزة ... فأوطأها قسرا على قنة النسر فصارت ثقالا بالجلالة فوقها ... وسارت عجالا تتقي ألم الرجر وجرت على ذيل المجرة ذيلها ... فمن ثم يبدو ما هناك لمن يسري ومرت على الجرباء توضع فوقها ... فآثارها ما مرت به كلف البدر وسافت أريج الخلد من جنة العلى ... فدع عنك رملا بالأنيعم يستذري

فما حذرت قيسا ولا خيل عامر ... ولا أضمرت خوفاً لقاء بني ضمر سقى الله مصرا والعراق وأهلها ... وبغداد والشامين منهل القطر انتهى. وما أقربه من نفس الفتح، صاحب القلائد والمطمح، ولعل هذا من كلامه في المطمح. والله اعلم. وقد طال الكلام، ولكن لا يلحقنا في مثله الملام. ومن تآليف الإمام أبي بكر بن العربي المذكور، كتاب " القبس، في شرح موطأ مالك بن انس " وكتاب " ترتيب المسالك، في شرح موطأ مالك "، وكتاب " أنوار الفجر " في تسعين سفراً، وكتاب " أحكام القرآن "، وكتاب " عارضة الأحوذي بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة، وفتح الواو، وكسر الذال المعجمة، وآخره ياء مشددة على الترمذي "، وكتاب " مراقي الزلف "، وكتاب " الخلافيات "، وكتاب " نواهي الدواهي "، وكتاب " سراج المردين "، وكتاب المشكلين ": مشكل القرآن والسنة، وكتاب " الناسخ والمنسوخ في القرآن "، وكتاب " قانون التأويل "، وكتاب " النيران في الصحيحين "، وكتاب " سراج المهتدين "، وكتاب " الأمد الأقصى، بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا:، وكتاب غيره الكلام على " مشكل حديث السبحات والحجاب "، وكتاب " العقد الاكبر، للقاب الأصغر "، و " تبيين الصحيح، في تعيين الذبيح "، و " تفضيل التفضيل،

بين التحميد والتهليل "، ورسالة " الكافي، في أنَّ دليل على النافي "، وكتاب " السباعيات "، وكتاب " المسلسلات "، وكتاب " التوسط في المعرفة بصحة الاعتقاد، والرد على من خالف أهل السنة من ذوي البدع والإلحاد "، وكتاب " شرح غريب الرسالة "، وكتاب " الإنصاف "، وكتاب " ملجئة المتفقهين، إلى معرفة غوامض النحويين ". ورأيت في بعض المجاميع ما نصه: قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله: قال علماء الحديث: ما من رجل يطلب الحديث إلاّ كان على وجهه نضرة، لقول النبي) : " نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها ". الحديث. قال: وهذا دعاء منه عليه السلام لحمالة علمه، ولا بد بفضل الله من نيل بركته. وإلى هذه النضرة أشار أبو العباس العزفي رحمه الله بقوله: أهل الحديث عصابة الحق ... فازوا بدعوة سيد الخلق فوجوههم زهر منضرة ... لألاؤها كتألق البرق يا ليلتي معهم فيدركني ... ما أدركوا بها من السبق انتهى. ومن أشياخ القاضي عياض رحمه الله. القاضي أبو عبد الله بن حمدين التغلبي، وهو محمّد بن على بن محمّد بن عبد العزيز بن أحمد التغلبي، بمثناه من فوق، وغين معجمة، منسوب لتغلب بكسر اللام وفتحها.

ولد سنة تسع وثلاثين وأربع مائة؛ ومات يوم الخميس لثلاث بقين من المحرم سنة ثمان وخمس مائة؛ ودفن يوم الجمعة بعد صلاة العصر: وقال في حقه صاحب القلائد: حامي ذمار الدين وعاضده، وقاطع ضرر المعتدين وخاضده، ملك للعلوم زماماً، وجعل العكوف عليها لزاما، فحيا رسمها، وأعلى اسمها، وخاصمت الملحدين منه ألسن لد، وتهدلت به على العالمين أغصن ملد، وكف أيدي الظالمين، فلم تكن لهم استطالة؛ وأرهف خواطر المجتهدين، فلم تسنح لهم بطالة؛ فأصبح أهل مصره بين دارس علم، ولابس حلم، وآيس ظلم؛ ناهيك من رجل كثير الرعى لأهل المعارف، مؤو من بره إلى ظل وارف؛ أعم الورى منه، وأعظم خلق الله منه؛ وأقام وأدنى وأبعد، وأنحس وأسعد؛ فتقلصت به الظلال وفاءت، وحسنت به الأيام وساءت؛ واعمل للضرر والنفع لسانه ويده، وشغل بالرفع والوضع يومه وغده، وعمر بهما فكره وخلده؛ حتى هد الجبال الشوامخ، واجتث الأصول الرواسخ. وما أدار ابن الحاج من خلافة سنة تسع وتسعين ما أدار، واتفق هو ومن واطاه على ما فسخته الأقدار، واستشير في الخلع فما أساغه، واريغ ضيره فلم يكن فيمتن راغه، وعوض على الحمام فما هابه، ووالي في نقض ما أبرموه جيئته وذهابه، وسمح في ذلك بنفسه، وقنع من غده بذكر أمسه. فلما أنجلت ظلماؤه، وتحلت بنجوم ظفره سماؤه، أغرى بالمطالبين اهتضامه

وحيفه، وسرى إليهم مكره سرى قيس لحمل وحذيفه، وأعلن لمن أسر إغراء ولم ينظر بالمكروه نظراءه، فأخمل منهم أعلاما، وأورث نفس الدين منهم آلاما، وألبسهم ما شاء ذما من الناس وملاما، فدجت مطالع شموسهم، وخلت مواضع تدريسهم، فأصبحوا ملتحفين بالمهانة، ومتسوفين إلى الإهانة، يروغهم الرواح والغدو، ويحسبون كل صيحة عليهم هم العدو، ويذعرهم طروق النوم للأجفان، وينكرهم الثابت العرفان، فقد فقدوا حبوراً، وعادت منازلهم قبوراً، إلى أنَّ نفس بعد أحوال، وخلا أفقهم من تلك الأهوال، فتشنقوا ريح الحياة، وأشرقوا من تلك الظلمات، بعد أنَّ أحال البؤس نعيمهم، وأخذ الحمام زعيمهم. وكان رحمه الله متضح طريق الهدى، منفسح الميدان في العلم والندي، مع أدب كالبحر الزاخر، ونثر كالدر الفاخر، وقد أثبت منه ما تعذب مقاطفه، وتلين معاطفه. فمن ذلك فضل راجع به ابن شماخ: عمر بابك، وأخضب جنابك، وطاوعك زمانك، ونعم أوانك وسقي ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمى فما درج لسبيله من كنت سلالة سلسله، ووارث معرسه ومقيله، وما خام

وضرع، فخر رمى عن وتر قوسك ونزع، ولم يهلك هالك، ترك مثل مالك، فتركت المهاد، وألفت السهاد، وتقيلت الآباء والأجداد، فأسرجت في ميدان الحمد براقا، أتخذ الريح خافية وساقا، فأحتل من شعاب المجد صعقا، أثار به نقعا، ودوم في أفق السماء، تدويم فرخ الماء، حتى كأنه على قمة الرأس ابن ماء، فحق لباهر فضلك أنَّ يطول فيقول: لا بقومي شرفت بل شرفوا بي ... وبنفسي فخرت لا بجدودي أو يتنزل فيتمثل: لسان واحسبنا كرمت ... يوما على الأحساب نتكل تبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا كم متعاط شأو طلقك، سولت له نفسه شق غبارك، واقفاء منهاج آثارك فما أدرك، وطلح بغيره وبرك. وفي فصل منها: بيننا وسائل، أحكمتها الأوائل، ما هي بالأنكاث، والوشائج الرث من دونها عهد، جناه شهد، أرج عرف النسيم، مشرف جبين الأديم، رائق رقعه الجلباب، مقتبل رداء الشباب، كالصباح المنجاب، تروق أساريره، وتلقاك قبل اللقاء تباشيره. ورثناهن عن آباء صدقٍ ... ونورها إذا متنا بنينا

ومن أشياخ القاضي أبي الفضل عياض الفقيه الإمام الحافظ أبو بكر بن عطية رحمه الله. قال صاحب القلائد في حقه: شيخ العلم وحامل لوائه، وحافظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم وكوكب سمائه، شرح الله لتحفظه صدره، وطاول به عمره، مع كونه في كل علم وافر النصيب مياسراً بالمعلى والرقيب، رحل إلى المشرق لأداء الفض، لابس برد من العمر الغض، فروى وقيد، ولقي العلماء وأسند، وأبقى تلك المآثر وخلد. نشأ في نبتة كريمة وأرزمة من الشرف غير مرومة لم يزل فيها على وجه الزمان أعلام علم، وأرباب مجد ضخم، قد قيدت مآثرهم الكتب، وأطلعتهم التواريخ كالشهب، وما برح الفقيه أبو بكر يتسنم كواهل المعارف وغواربها، ويقيد شوارد المعاني وغرائبها، لاستضلاعه بالأدب الذي أحكم أصولاه وفروعه، وعمر برهة من شبيبته ربوعه، وبرز فيه تبريز الجواد المستولي على الأمد، وجلى عن نفسه به كما جلى الصقال عن النصل الفرد، وشاهد ذلك ما أثبته من نظمه الذي يروق جملة وتفصيلاً، ويقوم على قوة العارضة دليلاً. فمن ذلك قوله يحذر من خلطاء الزمان وينبه على التحفظ من الإنسان قال: كم بذئب صائدً مستأنساً ... وإذا أبصرت إنساناً ففر إنما الإنسان بحر ماله ... ساحل فاحذره إياك الغرر واجعل الناس كشخص واحدً ... ثم كن من ذلك الشخص حذر وله في الزهد:

أيها المطرود من باب الرضا ... كم يراك الله تلهو معرضا كم إلى كم أنت في جهل الصبا ... قد مضى عمر الصبا وانقرضا قم إذا الليل دجت ظلمته ... واستلذ الجفن إنَّ يغمضا فضع الخد على الأرض ونح ... واقرع السن على ما قد مضى وقال في هذا المعنى: قلبي يا قلبي المعنى ... كم أما أدعى فلا أجيب كم أتمادى على ضلال ... لا أرعوي لا ولا أنيب ويلاه من سوء ما دهاني ... يتوب غيري ولا أتوب وا أسفا كيف برء دائي ... دائي كما شاءه الطبيب لو كنت أدنو لكنت أشكو ... ما أنا من بابه قريب أبعدني منه سوء فعلي ... وهكذا يبعد المريب ما لي قدر وأي قدر ... لمن أخلت به الذنوب وله في المعنى أيضاً: لا تجعلن رمضان شهر فكاهة ... تلهيك فيه من القبيح فنونه واعلم بأنك لا تنال قبوله ... حتى تكون تصومه وتصونه وله في مثل ذلك: إذا لم يكن في السمع مني تصاون ... وفي بصري غض وفي مقولي صمت فحظي إذن صومي الجوع والظمأ ... وأنْ قلت إني صمت يومي فما صمت وله المعنى الأول: جفوت أنساناً كنت آلف وصلهم ... وما في الجفا عند الضرورة من باس

بلوت فلم أحمد وأصبحت آيسا ... ولا شيء أشفى للنفوس من الياس فلا عذلوني في انقباضي فإنني ... رأيت جمع الشر في خلطة الناس وله يعاتب بعض أخوانه: وكنت أظن أنَّ الجبال رضوى ... يزول وأنْ ودت لا يزول ولكن الأمور لها اضطراب ... وأحوال ابن آدم تستحيل فإن يك بيننا وصل جميل ... وإلاّ فليكن هجر طويل وأما شعره الذي اقتدحه من مرخ الشباب وعفاره وكلامه الذي وشحه بمآرب الغزل وأوطاره فإنه أنسى إلى ما تناساه وتركه حين كساه العلم والورع من ملابسه ما كساه. فما وقع من ذلك قوله: كيف السلو ولي حبيب هاجر ... قاسي الفؤاد يسومني تعذيبا لمّا درى أنَّ الخيال مواصلي ... جهل السهاد على الجفون رقيبا وله أيضاً رحمه الله: يا من عهودي لديك ترعى ... أنا على عهدك الوثيق إنْ شئت أنْ تسمعي غرامي ... من مخبر عالم صدوق فاستخبري قلبك المعنى ... يخبرك عن قلبي المشوق انتهى. ومن أشياخ القاضي أبي الفضل عياض رحمه الله: الشيخ الإمام النحوي الأديب اللغوي أبو عبد الله بن محمّد بن السيد

بكسر السين البطليوسي بفتح الموحدة والطاء المهملة والتحتانية وسكون اللام والواو نزيل بلنسية. قال السيوطي في الطبقات: كان عالما باللغات والآداب متبحرا فيها انتصب لإقراء علم النحو وجتمع إليه الناس وله يد في العلوم القديمة. ذكره في قلائد العقيان وبالغ في وصفه. وكان لابن الحاج صاحب قرطبة ثلاثة أولاد من أجمل الناس صورة: رحمون وعزون وحسون فأولع بهم وقال فيهم: أخفيت سقمي حتى كاد يخفيني ... وهمت في حب عزون فعزوني ثم أرحموني برحمون فإنَّ ظمئت ... نفسي إلى ريق حسون فحسوني ثم خاف على نفسه فخرج من قرطبة. صنف: شرح أديب الكتاب شرح الموطأ شرح سقط الزند شرح ديوان المتنبي إصلاح الخلل الواقع في الجمل الحلل في شرح أبيات الجمل المثلث المسائل المنثور في النحو وله كتاب " التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في رأيهم واعتقادهم " وهو كتاب عظيم. لم يصنف مثله وغير ذلك. ولد سنة أربع وأربعين وأربع مائة ومات في رجب سنة إحدى وعشرين وخمس مائة ببلنسية.

ترجمة ابن السيد البطليوسي للفتح بن خاقان.

ومن شعره: أخو العلم حي خالد بعد موته ... وأوصاله تحت التراب رميم وذو الجهل ماش على الثرى ... يظن من الأحياء وهو عديم ذكر في جمع الجوامع. انتهى كلام السيوطي في الطبقات. ترجمة ابن السيد البطليوسي للفتح بن خاقان. ورأيت تأليفا بديعا للفتح صاحب القلائد والمطمح ضمنه التعريف بهذا الإمام ابن السيد خاصة وهأنا أورده بجملته لغرابته وفصاحته وبلاغته وإنْ كان فيه بعض ما هو من قبيل الهزل الذي الإعراض عند أول وقد جرت عادة الأشياخ بذكر مثل ذلك وحسبك ما ذكره الإمام السيوطي آنفا في حق ابن السيد. وقد اغتفر الناس المقامات مع ما فيها من سخيف المقالات والأعمال بالنيات. قال ذو الوزارتين الكاتب أبو نصر الفتح بن عبيد الله المعروف بابن خاقان رحمه الله: أما بعد حمد الله الذي جعل الليل لباسا وأزال عن قلوبنا شكا والتباسا

وأرانا من الهدى منارا وجعل لنا من الشجر الأخضر نارا وخلقنا أطوارا وأطلع لنا شموسا وأقمارا تدل على حكمته ويستدل بها على مقدار نعمته. والصلاة على نبيه الذي بعثنا من مرقد الضلالة وجلى عنا غياهب الجهالة فظهر الرشاد بعد احتجابه وتوارى الغي في حجابه صلى الله عليه وسلم تسليما. فإني لمّا فرغت من الكتاب الذي أبديت به للإحسان مبسما وجعلته لمحاسن الثمان موسما وجلوت فيه أبكار المفاخر وعونها وخصصت به نكت المآثر وعيونها وشعشعت فيه المحاسن وروقتها وفتقت فيه كمائم البدائع وشققتها حتى أتت أزهى من الحديقة وأبهى من ملك النعمان بين الشقيقة يتمنى السحر أنْ يحلها والعيون النجل أنْ تكحلها فصارت به لأهل الأندلس السن مفتخرة وانتشرت لمعاليهم عظام نخرة ورأيت فيه فضل الأواخر على الأوائل وجريت به أمام سبحان وائل وملكت بسببه كل قياد وتركت ورائي قس أياد وكان لي فيه أمل ثناني أنْ يجلى وعداني أنْ ينص ويتلى فطويته طي السجل ولويته لي محيا الخجل وتركته كالبدر في السرار وأخفيته كما خفى في الغمد ماضي الغرار والخواطر تهيم به أعظم هيم وتستمطره أستمطار المحل المديم والنفوس تتشوف إليه تشوف الضال للمرشد والآذان تصيخ إليه إصاخة الناشد للمنشد وأنا أجعل لقاحه حيالا ولا أريه طيف ولا خيالا ثم خشيت أنْ يكسو الزمان جوهره عرضا ويتخذ الحدثان بدره عرضا فتمحى من وجهه الزمان غرته وتسقط عن جبين الدهر درته ومالمح منه عنان ولا شيم منه ما فيه سلوان فتذوب النفوس عليه عيون الذكاء بعد رمدا فرأيت أنْ أستخرج من أخباره دلالة اللفظ على المعنى واللحظ على المغنى وينبئ عنه إنباء

النسيم على الزهر ويشير إليه إشارة الشاطئ إلى النهر. ولمّا كان الفقيه الأجل أبو محمّد عبد الله بن السيد أدام الله علوه تاج مفرقه وهلال أفقه ومهب نفح صواره ومحلى أنواره ومجلى أنجاده وأغواره وأنت قد أحكمت نسق أخباره وسردها وفوفت مطرفها وبردها وأطلقتها قمرا وجعلتها سمرا إذ هو أزخر علمائنا بحرا وأوسعهم نحرا وأحسنهم خواطرا وأكسبهم مواطرا وأسيرهم أمثالا وأعدمهم مثالا وأصدقهم لسانا وأعمهم إحسانا وأرفعهم راية وأبعدهم راية وأبعدهم غاية ومحاسنه أعذب جماما وأصفى غماما وأظهر إعجازا وأحسن صدورا وأعجازا رأيت أنَّ أفرد كتابا في أخباره وأجرد ذبابا في إعظامه وإكباره ليبين به فضل من ضمنته تصنيفي ويعلم بأخباره ما أودعت عن تأليفي ويرى أنه قطرة من غمام ودرة من نظام وصبح يدل على النهار ونفح صدر عن حقائق وأزهار. والله المولى العون والكيل بالكلاءة والصون لا رب غيره. الفقيه الحافظ الإمام الأوحد أبو محمّد هو عبد الله بن محمّد بن السيد البطليوسي وشلب بيضته ومنها كانت حركة أبيه ونهضته وفيها كان قرارهم ومنها نم آسهم وعرارهم ونسب إلى بطليوس امولده بها ومن حيث كان فقد طبق الأرض علما وملأها ذكاء وفهما. وأنا أقول: لو أنَّ للأيام ألسنا ناطقة وأوصافا متناسقة تردد فنون بيانهاكالطير ترجع على أفنانها ما جرت إلى إنصافه ولا درت بعض أوصافه ولو أني أمددت ببيان سحبان وأيدت تأييد لسان حسان وأغراني

ابن صوحان الفصاحة وعلمني خالد صفوان إيضاحه لمّا أعربت عن مقداره الرفيع ولا أغربت بما له من التعظيم والترفيع فكيف بلسان قد فل غراره وبنان قد ذوى رنده وعراره وخاطر قد ارتمى في لجج الأخطار ووخز بأطراف القنا الخطار فما تذل له عصي إحسانه ولا تحل النوائب عقدة لسانه فحسبي أنْ أقتصر من وصفه على لمحة وأعطر من عرفه بنفحة فأقول: إنَّه ضارب قداح العلوم ومجيلها وغرة أيامنا البهية وتحجيلها لو أدركه قيس لمّا قضى للحلم وترا ولا شفعا ولو عاصره ابن العاصي لمّا ادعى ضرا ولانفعا حلب الدهر أشطره وتلا حروفه وأسطره وخذم الياسات وعلم طرق السياسات ونفق وكسد ووقف وتوسد. وهو اليوم شيخ المعارف وإمامها ومن في يديه مقودها وزمامها لديه تنشد ضوال الأعراب وتوجد شوارذ اللغات والأعراب إلى مقطع دمث ومنزع من النفاسة غير منتكث وندى خرق به العوائد وأورق في يد الرائد وعفاف كف حتى عن الطيف وحكى المحرمين بالخيف ولقد نزلت منه بالتقى الطاهر ولقيت منه ما لقي عوف بن محلم من ابن طاهر ورأيت نار مكارمه تتألق وبت كأنما على النار الندى والمحلق وله تحقيق بالعلوم الحديثة والقديمة وتصرف في طرقها المستقيمة ما خرج بمعرفتها عن مضمار شرع ولا نكب عن أصل للسنة ولا فرع. وتواليفه

في الشروحات وغيرها صنوف وهي اليوم في آذان الأيام شنوف. فمنها المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس والاقتضاب في شرح أدب الكتاب. وكتاب التنبيه على السبب الموجب لاختلاف العلماء في اعتقاداتهم وآرائهم وسائر أغراضهم وأنحائهم وغير ذلك مما يشتمل عليه هذا الموضوع ويخفيه ويوقف على تفسيره فيه. وقد أثبت من محاسنه التي تدور جريالا ويصير الحبر بقصتها نيالا وما ينشي ويسكر وبحمده الوسمي المبكر. فمن ذلك أنَّه حضر مع القادر بالله بد ذي النون بمجلس الناعورة بطليطلة في المنية المتناهية البهاء والإشراق المباهية لزوراء العراق التي ينفح شذاها العطر ويكاد من الغضارة يمطر والقادر بالله رحمه الله قد التحف الوتار وارتداه وحكم العقار في جوده ونداه والمجلس يشرق كالشمس في الحمل ومن حواه يبتهج كالنفس عند منال الأمال والزهر عبق وعلى ماء النهر مصطبح ومغتبق والدولاب يئن كناقة إثر حوار أو كثكلى من حر الأوار والجو قد عنبرته أنواؤه والروض قد بللته أنداؤه والأسد قد فغرت أفواهها ومجت أمواهها فقال رحمه الله يصف الحال: يا منظرا إنْ رمقت بهجته ... أذكرني حسن جنة الخلد تربة مسك وجو عنبر ... وغيم ند وطش ما ورد والماء كاللازورد قد نظمت ... فيه اللآلئ فواغر الأسد كأنما جائل الحباب به ... يلعب في حافتيه بالنرم تراه يزهى إذا يحل به ال ... تادر زهو الكعاب بالعقاد

تخاله إنْ بدا به قمرا ... تما بدا في مطالع السعد كألأنما ألبست حدائقه ... ما حاز من شيمة ومن مجد كأنما جادها فروضها ... بوابل من يمينه رغد لا زال في عزة مضاعفة ... ميمم الرفد واري الزند وله يصف فرسا وهو مما أبدع في التمثيل له والتشبيه ونبه خاطره فيه أحسن تنبيه وخلع عليه شيات لاحق والوجيه وعمه بالمحاسن وتوج ونسبة إلى الخاطر أعوج: وأقب من آل الوجيه ولاحف ... قيد العيون وغاية المتمثل ملك النواظر والقلوب بحسنه ... فمتى ترق العين فيه تسهل ذو منخر رحب وزور ضيق ... وسماوة خضب وأرض ممحل قصرت له تسع وطالت أربع ... وصفت ثلاث منه للمتأمل وتراه أحيانا لعزة نفسه ... يرنو بلا قبل بعين الأقبل وكأنما سال الظلام بمتنه ... وبدا الصبح بوجهه المتهلل ز كأن راكبه على ظهر الصبا ... من سرعة أو فوق ظهر الشمأل وله يصف فرسا للظافر عبد الرحمن بن عبيد الله بن ذي النون رحمه الله: وأدهم من آل الوجيه ولاحق ... له الليل لون والصبح حجول تحير ماء الحسن فوق أديمه ... فلولا التهاب الخصر ظل يسيل كأن هلال الفطر لاح بوجهه ... فأعيننا شوقا إليه تميل كأن الرياح العاصفات تقله ... إذا ابتل منه محزم وتليل

إذا الظافر الميمون في متنه علا ... بدا الزهو في الطفين منه يجول فمن رام تشبيها له قال موجزا ... وإنْ كان وصف الحسن منه يطول هو الفلك الدوار في صهواته ... لبدر الدياجي مطلع وأوفل وما أبدع قوله في وصف الراح والحض على النبذ للهموم والاطراح بمعاطاة كئوسها وموالاة تأنيسها ومعاقرة دنانها واهتصار ثمار الفتوة وأفنانها والإعراض عن الأيام وأنكادها والجري في ميدان الصهوة إلى أبعد آمادها: سل الهموم إذا نبا زمن ... بمدامة صفراء كالذهب مزجت فمن در على ذهب ... طاف ومن حبب على لهب وكأن ساقيها يثير شذا ... مسك لدى الأقوام منتهب ولله هو فقد ندب إلى المندوب وذهب إلى داواة القلوب من الندوب وإبارئها من الآلام وإهدائها كل تحية وسلام وابهاجها بآصال وبكر وعلاجها من هموم وفكر في زمن حلى عاطله وجلى في أحسن الصور باطله ونفقت محالاته وطبقت أرضه وسماءه استحالتها فليبد كأسد وذيبه مستاسد وأحفاسه تنمر وبعاثه قد استنسر استراحة إلاّ في معاطاة حميا ومؤاخاة وسيم المحيا وقد كان ابن عمار ذهب مذهبه وفضضه بالإبداع وذهبه حين دخل سرقسطه ورى غباره أهلها وتكاثف جهلها وشاهد منها من لا يعلم معنى ولا فصلا وواصل من لا يعرف قطعا ولا وصلا فأقبل على راحة يتعاطاها

وعكف عليها ما تعداه ولا تخطاها حتى بلغه أنهم نقموا معاقرته للعقار وجالت ألسنتهم في توبيخه مجال ذي الفقار فقال: نقمتم على الراح أدمن شربها ... وقلتم فتى راح وليس فتى مجد ومن ذا الذي قاد الجياد إلى الوغى ... سوى من أعطى الكثير ولم يكد فديتكم لم تفهوا السر إنما ... قليتكم جهدي فأبعدتم جهدي ودخل ليلة إلى مجلس قد احتشد فيه الأنس والطرب وقرع السرور نبعه بالغرب ولاحت نجوم أكواسه وفاح نسيم رنده وآسه وأبدت صدور أباريقه أسرارها وضمت عليه المجالس أزرارها والراح يديرها أهيف وأوطف والأماني تجنى وتقطف فقال: يا رب ليل قد هتكت حجابه ... بمدامة وقاد كالكواكب يسعى بها أحوى الجفون كأنها ... من خده ورضاب فيه الأشنب بدران: بدر قد أمنت غروبه ... يسعى ببدر جانح للمغرب فإذا نعمت برشف بدر غارب ... فانعم برشفة طالع لم يغرب حتى ترى زهر النجوم كأنها ... حول المجرة ربرب في مشرب والليل منحفز يطير غرابه ... والصبح يطرده أشهب وقال يمدح بعض الأعيان وهي قصيدة اشتملت على المحاسن اشتمال الليل وانفردت بالمحاسن انفراد سهيل ودرت فيها أخلاف الإبداع وزرت عليها جيوب الانقطاع وأفصح لسان الإحسان وسح عليها عنان الأفتنان فجاءت بالأغراب محفوفة ولاحت كالخريدة المزفوفة.

وسمعت السيئ الاعتقاد الغبي الفهم والانتقاد الكافر الملحد النافر لمن يعظم الله ويوحد الذي ما نطق متشرعا ورمق متورعا ولا أقر بباريه ولا قر عن جريه في ميدان الغي وتباريه بدعى مدحه ويقول: أنَّه إليه بعث نفحها وإنَّه الذي افتض عذرتها وقطف زهرتها. وحاشا لقائلها أنْ يمدح المذموم وينضح بكوثرها نفح سموم أو يشرف بها وضيعا ويرضع ثديها من غذا للؤم رضيعا وهي: أما إنَّه لولا الدموع الموامع ... لمّا بان مني ما تجن الأضالع وكم هتكت ستر الهوى أعين ألمها ... وهاجت لي الشوق الديار اللاقع خليلي مالي كلما لاح بارق ... تضلى الحشا وارفض مني المدامع هل الأفق في جبيني بالبرق لامع ... أم المزن في جفني بالودق هامع ففي القلب من نار الشجون مصايف ... وفي الخد من ماء الشئون مرابع وما هاج هذا الشوق إلاّ مهفهف ... هو البدر أو بدر الدجى منه طالع إذا غاب يوما فالقلوب مغارب ... وإنْ لاح يوما فالجيوب مطالع يضرج خديه الحياء كأنما ... بخديه من فتك الجفن وقائع رماني عن قوس المحاجر لحظه ... بسهم غدا من مهجتي وهو وادع وما زلت من ألأحاظه متوقيا ... ولكنه ما حم لا بد واقع يرق فتور اللحظ منه كأنه ... إلى قلبه من قسوة الهجر شافع كما رق بالآداب طبع محمّد ... فحاكت لمى الأحباب منه الطبائع رخيم حواشي الطرف حلو كأنه ... سجايا أيام السرور الرواجع

أبا بكر استوفيت زهر محاسن ... تنافسها زهر النجوم الطوالع قدحت زنادا من ذكائك لم يزل ... ينير فتعشى البارقات اللوامع وما ذلك عن نيل لذيك رجوته ... فيصدق ظن أو يكذب طامع ولا أنا ممن يرتضي الشعر خطه ... فتجذبه نحو الملوك المطالع ولكن قلبا بين جنبي قد غدا ... يجاذبني فيك الهوى وينازع طوى لك من محض الوداد كمائنا ... تبدت لها فوق اللسان طلائع أنَّ أزعم في نظم البديع ولم يزل ... لك السبق فيه والورى لك تابع وأي مقال لي وقولك سائر ... وأي بديع لي ومنك البدائع وقال يتغزل وتصرف فيه غيلات مي ووصف كل حواء وحي وذكر العشق وارتاد الإبداع حتى عدا به مصره فأجاد معانيه وأشاد مبانيه: تأوبه من همه ما تأوبا ... فبات على جمر الأسى متقلبا مرت مزن عينيه غداة تحملوا ... عواصف ريح الشوق حتى تصببا دموع هتكن الستر عن مضمر الجوى ... وأبدين من سر الهوى ما تغيبا حليلي مالي كلما لا بارق ... تذكرت برقا بالعقيق وزينبا أؤنس بالنائين نوما مشردا ... وأطمع بالثاوين قلبا معذبا ومن لي برد الخل إذ جدت النوى ... به وبوصل الحبل أنْ يتقضبا أفي كل حين أمترى غرب مقلة ... أبى الوجد إلاّ أنْ تجود فتغربا

إذا عن لي ظبي بوجرة شادن ... تذكرت من عنى الفؤاد وعذبا وأرتاح للأرواح من نحو أرضها ... وتثني عنان للصبا نفحة الصبا ولولا التهاب الشوق بين جوانحي ... لأمرع خدي بالدموع وأعشبا ألا قاتل الله الهوى كيف قادني ... إلى مصرعي طوعا وقد كنت مصعبا وما كنت أخشى أنْ أبيت معذبا ... بعذب رضاب من حمى الثغر أشنبا وخذ الاقي دون شم رياضه ... من اللحظ هنديا وللصدغ عقربا أجدك لم تبصر تألق بارق ... يجد نشاطا في ذرى الأفق أهدبا إذا ما بدا في الجو أحمر ساطعا ... حسبت الظلام ابنوسا مذهبا كأن رياض الحو غب سمائه ... تردين وشي العبقري المخلبا كأن الشقيق والفجر ساطع ... خدود زهاها الحسن أنْ تتنقبا تمتع بريعان الشباب وظله ... فلا بد يوما أنْ يبينا ويذهبا فما العيش إلاّ أنْ تروح وتغتدي ... محبا براه سقمه أو محببا وكتب إلى الكاتب أبي الحسن راشد يستدعيه إلى مجلس قد لاحت قد لاحت شموس مدامه وارتاحت نفوس ندامه وتأودت تأود الغصون قدود خدامه: عندي مشكود من الخمر مبق فيه مني مصطبح ومغتبق يحكي شذا المسك إذا المسك فتق كأنه من خلقك الحلو خلق

كأنما كئوسه تحت الغسق في راحة الساقي نجوم تأتلق تخالها وهي تلظي كالحرق أحشاء صب ملئت من الحرق ترى لدى المزج إذا الماء انفق فيها حبابا لاح كالدر النسق وأنت أنسي والمفدى بالحدق فاطلع طلوع القمر التم اتسق في يومنا هذا إذا الظهر نطق يا راشدا إذا دجى الغي غسق وماجدا حاز السبق السبق لله معنى طابق اسما لك حق توافقا فيك إذا الاسم اتفق فراجعه راشد: لبيك من داع إلى العيش الغدق في سجسج من ظله غض الورق ندير صفو الراح صرفا قد عتق وشبهها لونا وطعما وعبق وكان يجلى في ملاء من فلق تحسده من حسنه بيض السرق

ثم كساه السهد ثوبا من شفق بل من إياة الشمس من غير رنق كأنه من خد من أهوى استرق كأنه بريقه العذب فتق فجاء يشفي من جوى ومن حرق أحلى من الأمن أتى بعد الفرق رضيته مصطبا ومغتبق على رياض أدب ذات أنق أجين ما أهوى وأذهبن القلق عند فتى ندب عبير الخلق مؤتزر بالمكرمات منتطق إنْ قال قدسدت الورى قيل صدق وقال يصف مجلس أنس وتصرف في وصفه سقاته وإقبال الصبح لميفاته ومدح الراح بأحسن أسمائها وطلوع الفجر هازما لدجى ليلتهم وظلمائها وإيقاظ أصحابه من نومه وترغيبه لهم في اصطباح يومهم: صاح بنه كل صاح يصطبح ... فضلة الزق الذي كان اغتبق قهوة تحكي الذي في أضلعي ... من جوى الحب ومن لفح الحرق بيدي ساق ترى في طوقه ... بدر تم في تجلى في غسق

خلتها إذ غربت في قغره ... شمسها أبقت بخديه شفق أفرغ الماء عليها فحكت ... ذائب الإبريز أو ذوب ورق إنْ مسك الليل قد أعقبه ... من سنى الإصباح كافور عبق فكأن الفجر عين تفجرت ... وكأن الليل زنجي غرق وكأن الأنجم الزهر مها ... راعه السرحان صبحا فاقترق وقال في الزهد وهو غرض قد أكثر القول فيه والضارعة لباريه وراش أنواعه وبرى وجلب فنونه ومرى وذلك مما يدل على ورعه وصفاء منهله التقي ومشرعه فكثيرا ما يعلن به ويسر ويطلع على لسانه متمما ولا يستسر: إلهي إني شاكر لك حامد ... وإني لساع في رضاك وجاهد وإنك مهما زلت النعل بالفتى ... على العائد التواب بالعفو عائد تباعد مجدا وانيت تعطفا ... وحلما فأنت المدني المتباعد ومالي على شيء سواك معول ... إذا دهمتني المعضلات الشدائد أغيرك أدعو لي إلها وخالقا ... وقد أوضح البرهان أنك واحد وقدما دعا قوم سواك فلم يقم ... على ذاك برهان ولا لاح شاهد وبالفلك الدوار قد ضل معشر ... وللنيرات السبع داع وساجد وللعقل عباد وللنفس شيعة ... وكلهم عن منهج الحق حائد وكيف يضل القصد ذو العلم والنهى ... ونهج الهدى من كان نحوك قاصد

وهل في التي طاعوا لها وتعبدوا ... لأمرك عاص ولحقك جاحد وهل يوجد المعلول من غير علة ... إذا صح فكر أو رأى الرشد راشد وهل غبت عن شيء فينكر منكر ... وجودك أم لم تبد منك الشواهد وفي كل معبود سواك دلائل ... من الصنع تنبني أنَّه لك عابد وكل وجود عن وجودك كائن ... فواجد أصناف الورى لك واجد سرت منك فيها وحدة لو منعتها ... لأصبحت الأشياء وهي بوائد ومولك في خلق الورى من دلائل ... يراها الفتى في نفسه ويشاهد كفى مكذبا للجاحدين نفوسهم ... تخاصم إنْ أنكروا وتعاند وقال يمدح الظافر عبد الرحمن بن عبيد الله بن ذي النون وهو مدح طايق الممدوح ووصف شاكله كالروض والغمام السفوح فنظم الدر بأبهى جيد ولد الفخر أعلى مجيد ووضع العلق في يدي مميزه وأجرى الجواد في ميدان مجوزه لم يحمل إلى غير موضع نفاق ولا شام به مخيله ذات إخفاق فإنه كان أندى من الغيث وأمضى من الليث وأذكى من الجسام وأبهى من البدر ليلة التمام حتى خاض هولا لم يسر فيه إلى صبح وسلك شعبا لم ينش منه بريح فصافح المنايا وطلع له غير معهود الثنايا والشعر قوله: لعلكم بعد التجنب والهجر ... تديلون من بعد وتشفون من ضر فإن الذي غادرتم بين أضلعي ... يزيد مر الزمان ويسترشي ولم تنبكم عني النوى غير أنكم ... رحلتم من اللجفن القريح إلى الفكر ومن عجب أني أسائل عنكم ... ومنزلكم بين الجوانح والصدر

واستعطف الأيام فيكم لعلها ... تعيد الليالي السابقات كما أدري وأطمع منها في الوصال ولم أزل ... عليما بما يؤثر من شيم الغدر ويوحشني الزمان لنأيكم ... وإنْ كنت مأنوس الجوانح بالذكر ولم أنس إذ صدت كما صد شادن ... غرين من الربعي أوجس من ذعر تميس كما ماس القضيب على القنا ... وترنو كما أغضى الشريف من السكر وما زلت صبا بالغواني تصيدني ... ذوات الثنايا الغر والأوجه الزهر وعندي أحشاء ملئن صبابة ... كألحاط أجفان ملئن من السحر ولوعة وجد ما تفيق وظمأة ... لأشنب معسول اللمى طيب النشر وكم في كناس السمهرية من رشا ... أغن يقيم العذر في الخلع للعذر وأهيف يثنيه النسيم إذا جرى ... فلو شاء من لين تختم في الخصر وساحرة الألفاظ لو أنها دعت ... بنغمتها ميتا للبى من القبر حسرت القناع الستر فيها ولم يكن ... يطيب النوى يوما لمن دان بالستر ولله ليل باللوى أبعد الجوى ... وقرب نحرا من مشوق إلى نحر فما شئت من شكوى أرق من الهوى ... وما شئت من نجوى ألذ من الخمر سرت لم تمس الطيب عجبا بحسنها ... وقد أفعمت عرض البسيطة بالعطر فقلت: عبيد الله أو نجله سرى ... فذكرني ذارين أو بت بالشحر كأن ضياء الصبح في الليل إذ سرى ... بصيرة إيمان سرت في عمى كفر كأن مها في الأفق ريعت وقد بدا ... لها ذنوب السرحان من وضح الفجر كأن سنى الشمس المنيرة إذ بدا ... كسا ورق الإصباح ذؤبا من التبر وإلاّ فوجه الظافر الملك انجلى ... فجلى ظلام النقع في الجحفل المجر

عجبت لأيام تداعت خطبها ... لتثلم من غربي وتقدح في وفري ولم تدر أني في حمى الظافر الرضا ... أرد العدى عني بصمصامتي عمرو حللت جنايا منه مدينة ظلاله ... علي وأعطاني أمانا من الدهر جناب بكت فيه غمائم جوده ... فأضحكن روض المجد عن زهر الشكر وكم نلت مذ أصبحت ألثم كفه ... بيمناه من يمن ويسراه من يسر لدي ملك ما لاح ضوء جبينه ... بجنح الدجى إلاّ كفى مطلع البدر ومتقد الآراء جال في الوغى ... بخاطره أغنى عن البيض والسمر ولولا اضطرام البأس فيه غدا القنا ... براحته يهتز بالورق الخضر أرى عابد الحمن رخمة من قست ... عليه الليالي أمن من ريع بالفقر وكعبة آمال كثيرا حجيجها ... لها حرم فيه مشاعر للشعر له من حجاه بالسماحة آمر ... ومن حلمه ناه عن اللغو والهجر فتى لم يشمر قط إلاّ عنا له ... عاه وساق الحرب مسبلة الأزار ولم يعترك بخل بميدان عدله ... وجدواه إلاّ فاز جدواه بالنصر أبا عامر زلت للمجد عامرا ... فإنك وسطى العقد في عنق الفخر وقمت العدا عني برأفة ماجد ... وغمر نوال سر إذ ساء ذا الغمر وأوسعت نعمى ضقت ذرعا بحملها ... فإن خففت عمري لقد أثقلت ظهري ولمّا ارتقت بي في سمائك همتي ... غذا أخمصي فوق النعائم والنسر فحييت شمس الملك في فلك العلا ... وشمست سحاب الجود في بارق البشر أيرجو ضلالا أنْ يناويك حاسد ... وقد حزت خصل السبق وهو على الإثر وأرسى عبيد الله بيتك في العلا ... وطنبه بين السماكين والغفر

وأصبحت كالمأمون تقنو سبيله ... كأنك موسى تقتفي أثر الخضر وما علت صبرا حين قلدك العلا ... وجاء بأمر من بدائعه أمري فلله ما شادوا وشدت من العلا ... ولله ما حازوا وما حزت من ذكر نظمت شتيت الملك بالعدل والتقي ... وقمت بحق الله في السر والجهر وجاءك صوم إثر فطر قضيته ... بحظين من سعد جزيل ومن أجر وأدبر سقم عنك بشر جسمه ... بإقبال نعمى واتصال من العمر سيملا شكرى كل قطر تحله ... بنشر ثناء عنك أذكى من العطر وتبقى لكم بين الضلوع محبة ... ألاقي بها الرحمن في موقف الحشر وكتب إلى ذي الوزارتين أبي عيسى بن لبون: قم نصطبح من قهوة بكر ... حتى نرى صرعى من السكر أنف تنساها الورى حتى ... لم تجر في بال ولا ذكر فترى الدنان وما حوت منها ... كجوانح طويت على فكر نفحت فقلت المسك أو ما قد ... أحيا أبو عيسى من الذكر لا شيء يحكى طيبها إلاّ ... شيم عذاب منه أو شكري ما زلت أخبر من محاسنه ... قدما بعرف ليس بالنكر وأحن نحو لقائك طربا ... كالطير إذ جنت إلى وكر فالآن شاهدت الذي يحكى ... ولقيت فيه الفضل للشكر وكان أبو عيسى ممن رأس وما شف ووكف جوده وما كف وأعاد سوق البدائع نافقه ورفع الآمال راية من الندى خافقة وأوردهم منها جوده معينا وزف لهم من مبراته أبكار وعونا فلما بلغته قوله هذا وسمعه استنبله

واستبدعه؛ وأحضره إلى مجلس نام عنه الدهر وغفل، وقام لفرط أنسه واحتفل؛ قد بانت صروفه، ودنت في الزائرين قطوفه؛ وقال هلم بنا إلى الاجتماع بمذهبك، والاستماع بما شئته ببراعة أدبك؛ فأقاموا يعملون كأسهم، ويصلون إيناسهم؛ وباتوا ليليهم ما طرقهم نوم، ولا عداهم عن طيب اللذات سوم. ودخل سرقسطة أيام المستعين بالله وهي جنة الدنيا، وفتنة المحيا؛ ومنتهى الوصف وموقف السرور والقصف؛ ملك نمير البشاشة، كثير الهشاشة؛ وملك بهج الفناء، أرج الأرجاء؛ يروق المحتلى، ويفوق النجم المعتلى؛ وحضرة منسابة الماء، منجابة السماء؛ يبسم زهرها، وينساب نهرها؛ وتتفتح خمائلها، وتتوضع صباها وشمائلها؛ والحوادث لا تعترضها، والكوارث لا تقترضها؛ ونازلها من عرس إلى موسم، وآملها متصل بالأماني ومتسم؛ فنزل منها في مثل الخورنق والسدير، وتصرف فيها بين روضة وغدير؛ فلم يخف على المستعين اختلاله، ولم تخف لديه خلاله؛ فذكره معلماً به ومعرفاً، وأحضره منوها له ومشرفاً؛ وقد كان فر من ابن رزين، فرار للسرور من نفس الحزين؛ وخلص من اعتقاله، خلوص السيف من صقاله؛ فقال يمدحه: هم سلبوني خنس صبري إذ بانوا ... بأقمار أطواق مطالعها بان لئن غادروني باللوى إنَّ منجتي ... مسايرة أظغانهم حيثما كانوا يقى عهدهم بالخيف عهد غمائم ... ينازعها مزن من الدمع هتان أنَّ أحبابنا هل ذلك العهد راجع ... وهل لي عندكم آخر الدهر سلوان

ولي مقلة عبرى وبين جوانحي ... فؤاد إلى لقياكم الدهر حنان تنكرت الدنيا لنا بعد بعدكم ... وحفت بنا من معضل الخطب ألوان أناخت بنا في أرض شنت مريةٍ ... هواجس ظن خن والظن خوان وشمنا بروقا للمواعيد أتعبت ... نواظرها دهراً، ولم يهم هتان فسرنا وما نلوي على متعذر ... إذا وطن أقصاك آوتك أوطان ولا زاد إلاّ ما انتشته من الصبا ... أنوف وحازته من الماء أجفان رحلنا سوام الحمد عنها لغيرها ... فلا ماؤها صدا ولا النبت سعدان إلى ملك حاباه بالمجد يوسف ... وشاد له البيت الرفيع سليمان إلى مستعين بالإله مؤيد ... له النصر حزب والمقادير أعوان جفتنا بلا جرم كأن مودة ... ثنى نحوها منها الأعنة شنآن ولو لم تنفذ منا الشعر وحده ... لحق لنا بر عليه وإحسان فكيف ولم نجعل بها الشعر مكسبا ... فيوجب للمكدى جفاء وحرمان ولا نحن ممن يرتضى الشعر خطة ... وإنْ قصرت عن شأوها فيه أعيان ومن أوهمته غير ذاك ظنونه ... فثم مجال للمقال وميدان خليلي من يعدي على زمن له ... إذا ما قضى حيف علي وعدوان وهل راء من قبلي غريق مدامع ... يفيض بعينيه الحيا وهو حران وهل طرفت عين لمجد ولم تكن ... لها مقلة من آل هود وإنسان فوجه ابن هود كلما أعرض الورى ... صحيفة إقبال لها البشر عنوان فتى المجد في بردية بدر وضيغم ... وبحر وقدس ذو الهضاب وثلان

من النفر الشم الذي أكفهم ... غيوث ولكن الخواطر نيران ليوث شرى ما زال منهم لدى الوغى ... هزير بيمناه من السحر ثعبان وهل فوق ما فد شاد مقتدر لهم ... ومؤتمن بالله لقياه إيمان ألا ليس فخري في الورى غير فخرهم ... وإلاّ فإنَّ الآخر زور وبهتان فيا مستعينا مستعاناً لمن نبا ... به وطن يوما وعضته أزمان كسوتك من نظمي قلائد مفخر ... يباهى بها جيد المعالي ويزدان وإنْ قصرت عما لبس فربما ... تجاور در في النظام ومرجان معان حكت غنج الحسان كأني ... بهن حبيب أو بطليوس بغدان إذا غرست كفاك غرس مكارم ... بأرضي أجنتك الثنا منه أغصان وكان عند وصوله إلى ابن رزين قد رفعه أرفع محل وأنزله منزلة أهل العقد والحل؛ وأطلعه في سمائه، وأقطعه ما شاء من نعمائه، وأورده أصفى مناهل مائه، وأخضره مع خواص ندمائه؛ وكانت دولته موقف البيان، ومقذف الأعيان؛ ومحصب جمار الآمال، وأعذب موارد الاجمال؛ لولا سطوته الباطشه، ونكباته البارية لسهام الرزء الرائشة؛ فقلما سلم منها مفاد الأموال، ولا أحمد عقباه معه صاحب ولا وال؛ فأحمد هو أوّل أمره معه، واستحسن مذهبه في جانبه ومنزعه؛ ولم يدر أنَّ بعد ذلك الشهد شرب علقم، وأنَّ السم تحت لسان ذلك الأرقم؛ فقال رحمه الله يمدحه: عسى عطفة ممن جفاني يعيدها ... فتقضي لباناتي ويدنو بعيدها فقد تعتب الأيام بعد عتابها ... ويمحى بوصل الغانيات صدودها

وكم للصبا عندي يد لست جاحدا ... لها إنَّ كفران الأيادي جحودها ليالي أسرى في ليالي غدائر ... كواكبها حليي المها وخدودها وأهصر أغصان القدود فتنثني ... عليّ برمان النحور نهودها فلله ليل بت فيه كأنني ... بوجرة أغتال المها وأصيدها أبيح ثغورا كالثغور ودونها ... أسنة ألحاظ قناها قدودها تشابه منها ما حوته مباسم ... عذاب ولبات يروق فريدها فإن تك من تلك العقود ثغورها ... وإلاّ فمن تلك الثغور عقودها وحمراء حلاها المزاج فخلتها ... عقيلة خدر زين بالبدر جيدها بدت في دلاص من حباب وأشرعت ... سنان انسكاب والكئوس جنودها فما برحت حتى كأن شروبها ... من السكر صرعى أنعستها حدودها ترى شربها جنح الظلام كأنهم ... بها مصطلوا نار يشب وقودها إذا أنكحوا من فضة الماء تبرها ... أتى اللؤلؤ المكنون وهو وليدها كما أنكحوا البدلا استقامت سعوده ... هذيلا من الشمس استقامت سعودها فجاءا بعبد الملك للملوك كوكبا ... ليحمي سماء المجد ممن يكيدهل رمى جنة الأعداء لمّا سموا لها ... بشهب القنا حتى استشاط مريدها حلفت بعليا عابدا الملك ذي الها ... وأيد له كالقطر جم عديدها لئن كان قد أبلت هذيلا يد الدى ... فإن علاه ليس يبلى جديدها وإنْ رفعت كفاه قبة مفخر ... فإنَّ قنا عبد الملك عمودها فتى أحرز العليا، وحاز مدى الندى ... فما إنْ له من ريبة يستزيدها

سرى بارق من بشره غير خلب ... إلى أرض آمالي فأورق عودها وبوأني من مجده في مكانة ... سعود النجوم الزاهرات صعيدها فيا أيها الملى الذي أنا عبده ... وقدما رجا طول الموالي عبيدها أصخ نحو حر الشعر من عبد أنعم ... بدائعه ما زال منك يفيدها قوافً تروق السامعين كأنما ... تحلى سجاياك الحسان قصيدها ولولاك أضحت أرض شنت مريةٍ ... مناخ خطوب لا ينادى وليدها وما زلت يقظان الجفون لرعيلها ... إذا أعين الأملاك طال هجودها تكف الأذى عن أهلها وتحوطها ... وتبدي الأيادي فيهم وتعيدها وقال يرثي الوزير الأجل، أبا عبد الملك بن عبد العزيز، وبنو عبد العزيز بهذا الشرق، هم كانوا بدور غياهبه، وصدور مراتبه، وبحور مواهبه؛ نظمت فيهم المدائح، وعظمت منهم المنائح، ونفقت عندهم أقدار الأعلام، وتدفقت لديهم بحار الكلام؛ وخدمتهم الدنيا وبنوها، وأمنتهم الأيام ولم يأمنوها؛ فرقت جموعهم، وأخلت ربوعهم ونثرت ملكهم ومزقت ملكهم؛ وهدت مشيد بنائهم، واحتلت الحوادث في فنائهم؛ وبقي أبو عبد الملك هذا آخرهم، فأحيا مفاخرهم؛ وكان بدر الأفق وشمسه، وروح هذا القطر ونفسه؛ أبدى لذلك السنى لمعاً، وأعاد من تلك العلا جمعاً؛ إلى أنْ دب إليه الحمام واستسر بدره بعد التمام؛ والقصيدة: فؤادي قريح قد جفاه اصطباره ... ودمعي أبت إلاّ انسكابا غزاره

يسر الفتى بالعيش وهو مبيده ... ويغتر بالدنيا وما هي داره وفي عبر الأيام للمرء واعظ ... إذا صح فيها فكره واعتباره فلا تحسبن يا غافل الدهر صامتاً ... فأفصح شيء ليله ونهاره أصخ لمناجات الزمان فإنه ... سيغنيك عن جهر المقال سراره أدار على الماضين كأساً فكلهم ... أبيحت مغانيه وأقوت دياره ولم يحمهم من أنْ يسقوا بكأسهم ... تناوش أطراف القنا واشتجاره وغالت أبا عبد المليك صروفه ... وقد كان دهراً لا يباح ذماره فأصبح مجفوراً وقد كان واصلا ... وأمسى قصيا وهو دان مزاره ولم أنس إذ أودى الحمام بنفسه ... فلم يبق إلاّ فعله وادكاره إذا رقأت عيني استهلت شئونها ... لمأتم حزن قد أرن صواره تجاوب هذى تلك عند بكائها ... كترجيع شول حين حنت عشاره كأن لم يكن كالمزن يرهب صعقه ... عدو ويرجى في المحول انهاره ودوحة عزٍ يستظل بظلها ... وروضاً من الآداب تجنى ثماره أما وعلى مروان إنَّ مصابه ... أثار أسى تذكى على القلب ناره فلا شرب إلاّ قد تكدر صفوه ... ولا نوم إلاّ قد تجافى غراره فأي حياً للفضل أجلى غمامه ... ونظم العلياء حان انتثاره خوى المجد من مروان وانهد طوده ... وجد بجد المكرمات عثاره وما خلت أنْ الصبح يشرق بعده ... لعين وإنَّ الروض يبقى اخضراره فيا طود عز زلزل الأرض هده ... وبدر علا راع الأنام انكداره هنيئا للحد ضم شلوك أنْ غدا ... عميد الندى والمجد فيه قراره ولم أر دراً قط أصدافه الثرى ... ولا بدر ثم في التراب مغاره فيا بني عبد العزيز وإنْ خلا ... من المجد مغناه وهد مناره

ففيكم لهذا الصدع آس وجابر ... وإنْ كان صعباً أسوه وانجباره لكم شرف أرسى قواعد بيته ... أبو بكر السرى إليكم نجاره أجل وزير عطر الأرض ذكره ... وأخجل زهر النيرات فخاره فلو كان للعلياء جيد ومعصم ... لأصبح منكم عقده وسواره ومما يستغرب له ويستبدع، ويشاد بذكره ويسمع ويعد مما ابتكر معناه واخترع؛ قوله في وصف طول الليل عليه، كابد منه ما عظم لديه. ترى ليلنا شابت نواصيه كبرةً ... كما شبت أم في الجو روض بهارِ كأن الليالي السبع في الأفق جمعت ... ولا فصل فيها بينها لنهارِ وحضر عند الظافر عبد الرحمن بن عبيد الله بن ذي النون، رحمه الله، مجلساً رفعت فيه المنى لوائها، وخلعت عليه الشمس أضوائها، وزفت إليه المسرات أبكارها، وفارقت إليه الطير أوكارها؛ فقال يصفه: ومجلس جم الملاهي أزهارا ألذ في الأجفان من طعم الكرى لم تر عيني مثله ولا ترى أنفس في نفس وأبهى منظرا إذا تردى وشيه المصورا من حلوك صنعاء وحولك عبقرا ونسج قرقوب ونسج تسترا

خلت الربيع الطلق فيه نورا كأنما الإبريق حين قرقرا قد أم لثم الكاس حين فغرا وحشية ظلت تناغي جؤذرا ترضعه الدر ويرنو حذرا كأنما مج عقيقاً أحمرا أوفت من رياه مسكاً أذفرا أو عابد الرحمن يوماً ذكرا فنم مسكاً ذكره وعنبرا الظافر الملك الذي من ظفرا بقربه نال العلاء الأكبرا لو أنَّ كسرى راءه أو قيصرا هلل إكباراً له وكبرا تبدي سماء الملك منه قمرا إذا حجاب المجد عنه سفرا يا أيها المنضي المطايا بالسرى تبغي غمام المكرمات الممطرا وقال رحمه الله: يغلو لساني فيكم وما أفك

فاهزز به غضباً إذا هز فتك قائمه قلبي والغم الحنك وقال يتغزل أيام جرى في ميدان الصبا متهافتاً وأبدى له الجوى نفساً خافتاً؛ وهو من أبدع أنواع الاستعطاف، وأحسن من النور عند القطاف؛ خضع فيه لمحبوبه وذل، وهان له وابتذل؛ ورضى بما سامه من العذاب، وبذل نفسه في رشفة من ثناياه العذاب؛ وتشكى من جوره وحيفه، وبكى حتى من اجتناب طيفه؛ واستدعى رضاه، وخلع ثوب التناسك ونضاه؛ ونحا في استلطافه أرق منحى وتصام عن قول من عذل ولحى؛ وهذا غرض من كواه الغرام وسبيل من رام من الوصال ما رام؛ فما مع الهوى عز ولا صبر، وما هو إلاّ ذل أو قبر. والقطعة: أبا عامرٍ أنت الحبيب إلى قلبي ... وإنْ كنت دهراً من عتابك في حربِ أتعرض حتى بالخيال لدى الكرى ... وتبخل حتى بالسلام مع الركب كأني أخو ذنبٍ يجازي بذنبه ... وما كان لي غير المودة من ذنبِ فيا ساخطاً هل من رجوع إلى الرضا ... ويا نازحاً هل من سبيل إلى القرب ويا جنة الفردوس هل يقطع العدا ... بجريا لك المختوم أو مائك العذبِ ويا بائناً بان العزاء بينه ... فأصبحت مسلوب العزيمة والقلبِ أذقني بالعتبى جنى النحل منعماً ... فإنك قد جرعتني الصاب بالعتبِ وكنت أرى الهجران أعظم حادثٍ ... فقد صار عند البين من أصغر الخطب

أتتركني رهناً بأيدي حوادث ... غدوت لها نهبا وما كنت بالنهب سأجعل عيدا يوم عودك يغتدي ... محياك فيه قبلة الهائم الصب أقيم لواء الوصل في حلة الصبا ... به وأضحى بالصبابة والكرب لك القلب ما فيه لغيرك منزل ... منحتكه فانزله بالسهل والرحب وقال شاكيا مثل هذه الشكوى مخبرا بما يلقاه من البلوى: خليلي هل تقضي لبانة هائم ... أم الوجد والتبريح ضربة لازم فإني بما ألقى من الوجد مغرم ... كسال قلبي بائح مثل كاتم ولي عبرات يستهل غمامها ... بخدي إذا لاحت بروق المباسم كفى حزناً إني أذوب صبابةً ... وأشكو الذي ألقى إلى غير راحم وأرتع من خديه في جنة المنى ... ويصلى فؤادي من هواه بجاحم تقضي الصبا واللهو إلاّ حشاشة ... تجدد لي عهد الصبا المتقدم كأني لم أقطع بصبح وقهوةٍ ... زماني ولم أنعم بأحور ناعم ولابت في ليل الغواية لائماً ... له تحت أستار الدجى وهو لائمي إذا ما أدار الكأس وهنا حسبته ... يدير هلالاً طالعاً في غمائم أبا حسن إني بودك معصم ... فهل أنت يوماً من جفائك عاصمي جعلتك في نفسي وقلبي محكماً ... لترضى فقد أصبحت أجور حاكم أتظلمني ودي وما زال فيكم ... قريع علي يرجى لرد المظالم وقد كان فص الفجر في خنصر العلا ... أبوك ووسطى فوق جيد المكارم

وكم ضم ظهر الأرض منكم وبطنها ... بدور دجى من كل أشوس حازم وأبلج فضفاض القميص حلاحل ... طويل نجاد السيف ماضي العزائم وما أذهلني عن ودادك غيبة ... قدحت بها نار الأسى في حيازمي وكم لي فيها نحوكم من تحية ... أحملها مرضى الرياح النواسم إذا مر ذكر منك يوماً على فمي ... توهمته مسكاً سرى في خياشمي دعاني إليك الشوق فاهتاج طائري ... ضحى بخوافٍ للهوى وقوادم ولو إنني في ملحدي ودعمتني ... للبتك من تحت الصعيد رمائمي سأصفيك محض الود ما هبت الصبا ... وما سجعت في الأيك ورق الحمائم وقال أيضاً جاريا على عادته في التشبيب، وسالكاً جادته من الخضوع للحبيب، إلاّ أنَّه اعتذر من الهوى في المشيب، وأنكر أخلاق الشباب على الشيب: خليلي ما للريح أضحى نسيمها ... يذكرني ما قد مضى ونسيتُ أبعد نذير الشيب إذ حل عارضي ... صبوت بأحداق المها وسبيتُ ولي سكن أغرى بي الحزن حسنه ... جرئ على قتل المحب مقيتُ تلاحظني العينان منه برحمةٍ ... فأحيا ويقسو قلبه فأموتُ فيا قمراً أغرى بي النقص واكتسى ... كمالا ووافى سعده وشقيتُ وليت فرقي إذ وليت لهائمٍ ... سباه لمى كالشهد منك وليتُ وجودي ببرد الوصل يا جنة المنى ... فإني بحر الوجد منك صليتُ

وكتب إليه الكاتب أبو الحسن راشد بن عريب يستدعيه إلى معاطاة قهوة، ساعات سلوة: طرت إلى شمسية قد تروقت ... فأربت على الصهباء لوناً ورائحة فلو فيها نقطة هندسيةً ... لباتت بها في ظلمة الليل بائحة فكن مسعدي يا من سجاياه لم تزل ... وأخلاقه تغني عن المسك فائحة فأجابه رحمه الله: طربت فأطربت الخليل إلى الذي ... طربت له فالنفس نحوك جانحة وكم أكسرتنا منك من غير قهوةٍ ... شمائل تغنينا عن المسك فائحة فلله أيام بقربك أسعدت ... غوادٍ علينا بالسرور ورائحة فساني الطولي لديك قصيرة ... وصفقة كفي في التجارة رابحة وقد يصف كتابا ورد عليه من محبوب كان هجره، ووعده فيه باللقاء وبشرة: نفسي فداء كتاب حاز كل مني ... جاء الرسول به من عند محبوب مبشراً أنَّ ذاك السخط عاد رضاً ... وبدلت منه بعد بتقريب حبيته ناظراُ نحوي بناظره ... ومهديا لي ما في فيه من طيب ظلت أطويه من وجد وانشره ... وكاد يلبيه تقبيلي وتقليبي كم فيلةٍ لي في عنوانه عذبت ... وبردت بالتلظي حر تعذيب كأنه حين جلى الحزن عن خلدي ... " قميص يوسف في أجفان يعقوب " لو كل ما فيه من موعوده كذباً ... شفي فكيف بوعدٍ غير مكذوب وكتب إليه بعض إخوانه متمثلا بقول القائل: ودادكم كالورد ليس بدائم ... ولا خير فيمن لا يدوم له عهد

وودي لكم كالآس حسنا وبهجة ... له خضرة تبقى إذا ذهب الورد فراجعه بهذا الشعر: لعمري لقد شرفت ودي بثلبه ... وصيرت لي فضلا عليك ومفخراً صدقت: وداد الورد رطباً ويابساً ... وماء إذا عصر الأزاهر أدبراً وودك مثل الآس ليس بنافع ... ولا نافحٍ إلاّ إذا كان أخضراً ألم تر أنَّ الورد يكرم إنَّ ذوي ... ويطرح في الميضاة آس تغيرا أفضلت عبد السوء جهلا على الذي ... غدا في الأزاهير الأمير المؤمرا وكتاب إلى الكتاب أبي عبد الله بن أبي الخصال، يراجعه عن شعر خاطبه به: بماذا أكافي ندبا كساني ... حلى من علاه بها قد حباني وقلد جيدي من دره ... ما لم تقلد نحور الغواني محاسن أصبح لي لفظها ... معاراً وأضحت لديه المعاني فقل للذي حاز خصل المدى ... فليس يباريه في السبق ثاني ألهذي شمائلك الزاهرا ... ت أهديتها أم ثغور الحسان أم الأنجم الزهر أطلعتها ... على أفق بسماء البيان أم الوشى ما نمنمت راحتا ... ك أم الأعين الحور جاءت رواني أم الروض بات نديم الغمام ... يسقيه من غير بنت الدنان يضاحكه عن ثغور البروق ... ويشدوه من وعده بالأغاني تئن زف ودك نحوي لقد ... غدا من فؤادك بأعلى مكان

ومهما أساءت بطول البعاد ... خطوب فقد أحسنت بالتداني كأن الزمان أتي تائبا ... إلي وأنت اعتذار الزمان ومن شعره الذي يزري بزهر الرياض وغنج الأعين المراض قوله: أيا ممرضنا جسمي بأجفانه المرضى ... سلبت الكرى عني فهب منه لي البعضا ليهنك غمض العين عمن تركته ... سمير نجوم الليل ما يطعم الغمضا أتسخط من ذلي لعزك في الهوى ... وأرضى بخدي أنْ يكون لكم أرضا قضى الله أنْ أشقى وغيري بوصلكم ... سعيد ومن يستطيع ردا لمّا يقضى ومما أغرب به وأبدع قطعة تنفك منها ست قطع وهي: نفسي الفداء لجؤذر حلو اللمى ... مستحسن بصدوده أضناني في فيه سمطا جوهر يروي الظما ... لو علني ببروده أحياني ثم زاد في غرابة هذا المنزع بأن صنع قطعة تنفك منها تسع قطع وهي: طيف سرى من خاطر القلب الذوي ... فوفى لنا بعداته وقضى الوطر بذلك الكرى عن ناظر الصب الجوي ... وشفى الضنى بهباته ومضى حذر وقال يصف تينا أسودا مكتبا: أهلا بتين كالنهود حوالك ... ضمخن مسكا شيب بالكافور وكأن ما زرت عليه جيوبها ... شهد يشاب بسمسم مقشور

وكأنما لبست لجينا محرقا ... فيه بقايا من بياض معطر وقال يصف حماما: أرى الحمام موعظة وذكرى ... لكل فتى أريب ذي ذكاء يذكرنا عذاب ذوي المعاصي ... وأجيانا نعيم الأتقياء شقا هجر يشوب نعيم وصل ... وحر النار في برد الهواء إذا ما أرضه التهبت بنار ... تبادر سمكه هطلا بماء كصدر الصب جاش بما يلاقي ... فلج الطرف منه بالبكاء كأن له حبيبا بان عنه ... فبان وخانه حسن العزاء ومن شعره المطرب وتغزله المعجب قوله: أيا قمرا في وجنتيه نعيم ... وبين ضلوعي من هواه جحيم إلى كم أقاسي منك روعا وقسوة ... وصرما وسقما إنَّ ذا لعظيم وإني لأنهى النفس عنك تجلدا ... وأزعم أني بالسلو زعيم فإن خطرت بالقلب ذكراك خطرة ... ظللت بلا لب إليك أهيم ومن مديحه الذي أبدع فيه وأغرب وذهب فيه أحسن مذهب قوله يمدح القادر رحمه الله تعالى: ضمان على عينيك أني هائم ... تصدع قلبي حول وصلك حائم فؤادك قاس ليس لي في رحمة ... ويوهم منك اللحظ أنك راحم ظلمت ولم ترهب مغبة ما جنت ... جفون لها في العاشقين ملاحم

أظن عقاب الله نالك في الهوى ... فخصرك مظلوم وردفك ظالم ولحظك مضني ما يفيق من الضنى ... كما ضنيت فيك الجسوم النواعم وخدك بالألحاظ دائبا ... فكل له باللحظ مدم وكالم يقولون غصن ألبان ما حاز خصره ... ودعص النقا ما حاز منه المعاكم وفي طوقة بدر الدجنة طالع ... تجلله قطع من الليل فاحم وقالوا اللمى المحمر فص عقيقه ... بمبسمه المعسول والثغر خاتم لك المثل الأعلى وفي الجهل عاذر ... بتقصيرهم إنْ لامهم فيك لائم وما أنت إلاّ آية الله في الورى ... وحكمته إنْ قال بالعلم عالم لقد يخسوك الحق جهلا وأخطأت ... بما رجمت فيك الظنون الرواجم كما يخسوا يحيى بن ذي النون حقه ... فقالوا ابن سعدي في النوال وحاتم وقالوا حكى الضرغام في الروع بأسه ... وذلك ما لا تدعيه الضراغم وقالوا هو الدهر الذي ليس دونه ... حمى وهو المخدوم والدهر خادم وأني لليث الغاب في الروع بأسه ... إذا صال في الهيجاء والنقع قاتم ومن أين للسيف الحسام مضاؤه ... إذا انتضيت للحرب منه العزائم ومن أين للمزن الكنهور جوده ... إذا انهملت من راحتيه المكارم لنا بارق من بشره خلبا ... إذا شامه يوما من الناس شائم عليه من المأمون يحيى مشابه ... ترى ولإسماعيل فيه مياسم همامان شادا مجد له التقى ... أساس وأطراف الرماح دعائم أبا الحسن استنشق ثنائي فإنما ... فؤادي دارين وشعري لطائم

لبست حلي للفضل حائكها التقى ... ومعلمها الإفضال والمجد راقم وأورثك المأمون صارمه الذي ... به لم تزل تفري الطلى والجماجم فصمم ولا تحجم فإنك صارم ... حسام ومنه في يد الله قائم لك السرحة الغناء في المجد لم تزل ... تروضها من راحتيك الغمائم رياض لنا سجع بمدحك وسطها ... كأنا على أفنانهن حمائم ودونك بكرا من ثنائي زففتها ... إليك كما زف الغوالي الكرائم كستك بطليوس بها عبقرية ... كما انشق عن زهر الرياض كمائم وما أنت ذو فقر لمّا أنا واصف ... ولا أنا ذو إفك بما أنا زاعم سجاياك تملي الفخر والدهر كاتب ... وعلياك تعطي الدر والشعر ناظم فدم عامرا للمجد تعنو لك العدا ... وتحسدنا فيك النجوم النواجم قال أبو نصر: هذا ما سمح به خاطر لم تخطر عليه سلوة وذهن ناب لم ترهف له نبوة ووقت أضيق من المأزق المتداني ومقت للزمن شغلني عن كل شيء وعداني أتجرع به الصاب وأتدرع منه الأوصاب فما أتفرغ لإنشاء قول ولا أصحو من الانتشاء من هول وإلاّ فمحاسن هذا الرجل كانت أهلا أنْ يمتد عنانها ويسكب عنانها لكن عاق عن ذلك الدهر الذي شغل وأوغلنا في شعاب الأنكاد حيث وغل. انتهى التأليف البارع. ولابد أنْ نذكر ما لأبي نصر من القلائد في حق الرجال المذكور وأختصر ما جرى ذكره هنا من النظم.

قال في القلائد في حق الشيخ ابن السيد المذكور ما نصه: الفقيه الأستاذ أبو محمّد عبد الله بن محمّد بن السيد البطليوسي شيخ المعارف وإمامها ومن في يده زمامها لديه تنشد ضوال الأعراب وتوجد شوارد لغات الإعراب إلى مقطع دمث ومنزع في النفاسة غير منتكث وكان له في دولة ابن رزين مجال ممتد ومكان معتد لمّا رأى الأحوال واختلالها والأقوال واعتلالها وتلك الشموس قد هوت ونجوم الآمال قد خوت وأضرب عن مثواه ونكب عن نجواه واغترب بلوعة ابنرزين وجواه ونصب نفسه لإقراء علوم النحو وقنع بتغييم جوه بعد الصحو وله تحقيق بالعلوم الحديثة والقديمة وتصرف في طرقها القويمة ما خرج بمعرفتها عن مضمار مشرع ولا نكب عن أصل للسنة ولا فرع وتواليفه في الشروحات وغيرها صنوف وهي اليوم في الآذان شنوف وقد أثبت له يريك شنوفه وتجد على النفس خفوفه. فمن ذلك قوله في طول الليل: ترى ليلنا..... البيتين وقد سبقا. ثم قال الفتح: وأخبرني أنه حضر مع المأمون بن ذي النون في مجلس الناعور بالمنية التي تطمح إليها المنى ومرآها هو المقترح والمتمنى والمأمون قد احتبى

وأفاض الحبا والمجلس يروق كأنه الشمس في أفقه والبدر كالتاج في مفرقه والنور عبق وعلى ماء النهر مصطبح ومغتبق والدولاب يئن كناقة إثر الحوار أو كثكلى من حر الأوار والجو قد عنبرته أنواؤه والروض قد رشته أنداؤه والأسد قد فغرت أفواهها ومجت أمواهها فقال: يا منظرا إنْ نظرت بهجته..... الأبيات وقد تقدمت. ثم قال الفتح: وله رقعة يصف بها هذا التصنيف يعني قلائد العقيان: تأملت فسح الله لسيدي ووليي في أمد بقائه كتابه الذي شرع في إنشائه فرأيت كتابا سينجد ويغور ويبلغ حيث لا تبلغ البدور وتبين به الذرى والمناسم وتغتدي له غرر في أوجه ومواسم فقد أسجد الله الكلام لكلامك وجعل النيران طوع أقلامك فأنت تهدي بنجومها وتردي برجومها فالنثرة من نثرك والشعري من شعرك والبلغاء لك معترفون وبين يديك متصرفون وليس يبارك مبار ولا يجاريك إلى الغاية مجار إلاّ وقف حسيرا وسبقت ودعي أخيرا وتقدمت لا عدمت شفوفا ولا برح مكانك بالآمال محفوفا بعزة الله. وله يراجع الأستاذ أبا محمّد بن جوشن عن شعر كتب به إليه وتضمن عزلا في أول القصيدة فحذا حذوه: حلفت بثغر قد حمى ريقه العذبا ... وسل عليه من لواحظه عضبا وفرحة لقيا أذهبت ترحة النوى ... وعتبي حبيب هاجر أعقبت عتبا

لقد هز عطفي بالقريض ابن جوشن ... سرورا كما هزت صبا غصنا رطبا كساني ارتياح الراح حتى حسبتني ... حليف بعاد نال من حبه قربا وأطربني حتى دعاني الورى فتى ... وقالوا كبير بعد كبرته شبا كأن المثاني والمثالث هيجت ... سروري ولم أسمع غناء ولا ضربا فيا مزمع الترحال قل لابن جوشن ... مقال محب لم يشب جده لعبا أمهدي سجاياه إليَّ وناظما ... لي الشهب عقدا راقني نظمه عجبا وما خلت إهداء الشمائل ممكنا ... لمهد وأنَّ الدهر ينتظم الشهبا فهل نال عبد الله من سحر بابل ... نصيبا فأربي أو حوى الدهي والإربا ليهنك فضل حزت من خصله المدى ... ونظم بديع قد غدوت له ربا وهاك سلاما صادرا عن مودة ... عمرت به مني الجوانح والقلبا وله رحمه الله في الزهد من لزوم ما لا يلزم: أمرت إلهي بالمكارم كلها ... ولم ترضها إلاّ وأنت لها أهل فقلت اصفحوا عمن أساء إليكم ... وعودوا بحلم منكم إنْ بدا جهل فهل لجهول خاف صعب ذنوبه ... لديك أمان منك أو جانب سهل وله رحمه الله يجيب شاعرا قرطبيا مدحه: قل للذي غاص في بحر من الفكر ... بذهنه فحوى ما شاء من درر لله عذراء زفت منك رائحة ... تختال من حبرها المرقوم في حبر

صدقها الصدق من ودي ومنزلها ... بصيرتي وسواد القلب لا بصري كأنما خامرتني من بشاشتها ... راح وسكر بلا راح ولا سكر هزت بدائعها عطفي من طرب ... لحسنها هزة المشغوف للذكر ما كنت أحسب أنَّ النيرات غدت ... يصيدها شرك الأوهام والفكر ولا توهمت أيام الربيع ترى ... في تاجر غضة الأنوار والزهر أما الجزاء فشئ لست مذركه ... ولو بدرت إلى التوجيه بالبدر لكن جزائي صفاء الود أضمره ... إذا القلوب انطوت منه على كدر جاراك ذهني في مضمارها فكبا ... ذهني وفزت بخصل السبق والظفر وهل بطليوس في نظم مناظرة ... يوما لقرطبة في حكم ذي نظر وله أيضاً رحمه الله يصف زربطانة ملغزا: وذات عمى لها طرف بصير ... إذا رمدت فأبصر ما تكون لها من غيرها نفس معار ... وناظرها لذي الإبصار طين وتبطش باليمين إذا أردنا ... وليس لها إذا بطشت يمين وكتب إلى الأستاذ أبي الحسن بن الأخضر رحمه الله: يا سيدي الأعلى وعمادي وعمادي الأسنى وحسنة الزمان الحسني الذي جل قدره وسار مسير الشمس ذكره ومن أطال الله بقاءه لفضل يعلى مناره

وعلم يحيى آثاره نح أعزك الله نتدانى إخلاصا وإنْ كنا نتناءى أشخاصا ويجمعنا الأدب وإنْ فرقنا النسب فالأشكال أقارب والآداب مناسب وليس يضر تناثي الأشباح إذا تقاربت الأرواح وما مثلنا في هذا الانتظام إلاّ كما قال أبو تمام رحمه الله: نسيبي في رأيي وعلمي ومذهبي ... وإنْ بإعدتنا في الأصول المناسب ولو لم يكن لمآثرك ذاكر ولا لمفاخرك ناشر إلاّ ذو الوزارتين أبو فلان أبقاه الله لقام لك مقام سبحان وائل وأغناك عن قول قائل فإنه يمد في مضمار ذكراك باعا رحيبا ويقوم بفخرك في كل ناد خطيبا حتى تنثني إليه الأحداق وتلوى نحوه الأعناق فكيف وما يقول إلاّ بالذي علمت يعد وما تقرر في النفوس من قبل ومن بعد فذكرك قد أنجد وغار ولم يسر فلك حيث سار وإنْ ليل جهل أطلعت فيه فجر تبصيرك لجدير بأن يصير نهار وإنَّ نبع فكر قدحته بتذكيرك لجدير أنْ يعود مرخا فهنيئا لك الفضل الذي أنت فيه راسخ القدم شامخ العلم منشور اللواء مشهور الذكاء مليت الآداب عمرك ولا عدمت الألباب ذكرك ورقيت من مراتب أعلاها ولقيت من المآرب أقصاها بفضل الله. وكتب مراجعا إلى الوزير أبي محمّد بن سفيان رحمه الله: يا سيدي الأعلى وعمادي الأسنى ومشربي الأصفى ومن أدام الله عزه وحمى من النوائب حوزته وافاني لك كتاب سرى الموضع سنى

الموقع أطال على إيجازه وأطمع بعد إعجازه وقابلت الرغبة التي ضمنتها فيه بما تقتضيه جلاله مهديه ولئن تراخى الكتاب عن حسن في ذلك العتاب فإن المودة لم يقدح فيها من الملل قادح ولم يسنح لها من الخلل سانح بل كانت كالبرد طوى على غره إلى أوان جلائه ونشره وقد علم علام الضمائر والذي يظن غائبا وهو حاضر أني أعتقدك القدح المعلى وأضرب بك المثل الأعلى وأرى أنك تحجيل واضح في دهمة الزمان وعلق راجح في كفة الامتحان وبقية سنخ كريم ما عهدهم عنا بذميم. عليهم سلام الله ما ذر شارق ... ورحمة ما شاء أنْ يترحما وما أدعي لك جانبا من السيادة إلاّ لك عليه أعدل الشهادة ولكن قديما سفل ذو الرجحان وعاد الكمال على أهله بالنقصان وكبت الأعالي بارتفاع الأسافل حتى اقتضى ذلك قول القائل: فوا عجبا كم يدعى الفضل ناقص ... ووا أسفا كم يظهر النقص فاضل وقال المذمر للناتجين ... متى ذمرت قلبي الأرجل وقد جاريتك أعزك الله في ميدان من البلاغة أنا فيه كمن كاثر البحر والمطر وجلب التمر إلى هجر والذي حداني إليه أنه مر بي زمن ألهي خاطري عنك فيه وسن فقلت قد كان من العقوق ترك رعاية الحقوق فلأستمطرن مزن القول فقد كنت عهدتها تسجم فتغدق ولأستسقين

جابية الشيخ العراقي فقد كانت تطم فتفهق أيام كنت أسحب ذيل الشباب وأسلك مسلك الكتاب ويعجبني سلوك سهل الكلام وحوزته والتصرف بين أبكاره وعونه أستن استنان الطرف الجامح ولا أثنى عنان الطرف الطامح وأورى هامتي وأقول بما صبت على غمامتي إلى أنْ تعمم مفرقي بالقتير وعلتني أبهة الكبيرة وودعت زمني الزائل وعادت سهامي بين رث وناصل وعريت أفراس الصبا ورواحله وسددت على سوى قصد السبيل معادلة فلئن هريق ماء الشباب واستشن الأديم وأقشع السحاب وتجلت الغيوم فلعل في الأفق ربابه وفي الحوض صبابة وعسى أنْ يكون في أخلاف المقالة در يرضع في حقاق البلاغ در يرصع وزفنا عذراء لا ترضى إلاّ الأكفاء فليس يبين النجد إلاّ في مآزق الهيجاء ولا يحسن العقد إلاّ في عنق الحسناء ولأجعلن الشعر لها شعارا وفقر النثر لها دثارا فاهتصرها إليك ولهي عروبا قد رضيت

بك محبا ومحبوبا فتضمخك بمسكها وتؤمنك من فركها وتذر ذرور الشمس عليك وتهز في ندوة الحي عطفيك فإنَّ قضت من حقك فرضا ورتقت من فتق الإخلال ولو بعضا فذاك ما تضمنه الخاطر الذي نمنم بردها ونظم عقدها وإنْ أخلف الظن ما أوهم ووعد وقصر الذهن فيها أحكم وسدد فللخاطر عذر في أنه منصل أغفل شحده وجلاؤه حتى ذهب فرنده وماؤه ومنهل ضيع ورده فنضب عده: والشوال ما حلبت رسلها ... وتجف درتها إذا لم تحلب وله من قصيدة يمدح بها ذا الوزارتين أبا محمّد بن الفرج: نبه الليل بالوجيف ولا تو ... لع بدار الهوان بالإغماض واقر ضيف الهموم كل أمون ... عنتريس وبازل شرواض أنقذتني من الردى وطأتي البيد ... ونقض الهموم بالإنقاض شكلها كالقسي وهي سهام ... للفلا والرغاء كالإنباض

خلنا حين الليل سبحا ... غمست من دجاه في خضاض صدعت عرمض الدياجر حتى ... كرعت في كاء الصبح المفاض حين راع الظلام وخط مشيب ... قد سرى في سواده ببياض وقال في الزهد: تجوهدك الأدنى عنيت بحفظه ... وضيعت من جهل تجوهرك الأقصى لقد بعت ما يبقى بما هو هالك ... وآثرت لو تدري على فضلك النقصا وقال في ذلك أيضاً: وما دارانا إلاّ موات..... البيتين. وقد تمثلت بهما في خطبة هذا الكتاب فراجعهما. وله أيضاً يعزي ذا الوزارتين أبا عيسى بن لبون في أخيه: المرء في أيامه عبر ... والصفو يحدث بعده كدر خرس الزمان لمن تأمله ... نطق وخبر صروفه خبر نادي فأسمع لو وعت أذن ... وأرى العواقب لو أرى بصر كم قال هبوا طالما هجعت ... منكم عيون حقها السهر أبأذن من هو مبصري صمم ... أم قلب من هو سامعي حجر لولا عماكم عن هدى نذري ... ومواعظي ما جاءت النذر

هذي مصارع معشر هلكوا ... وعظتم بالصمت فاعتبروا ومنها: قالت أرى ليل الشباب بدت ... للشيب فيه أنجم زهر فأجبتها لا تكثري عجبا ... من شيبة لم يجنها كبر لكن طويت من الهموم لظى ... أضحى لها في عارضي شرر ومنها: حسنت شمائلكم وأوجهكم ... فتطابقا مر أي ومختبر والحسن في صور النفوس وإنْ ... راقتك من أجسامها الصور لا ضعضعت أيدي الخطوب لكم ... ركنا ولا راعتكم الغير وقال يخاطب مكة أعزها الله: أمكة النفوس الكرائم ... ولا برحت تنهل فيك الغمائم وكفت أكف السوء عنك وبلغت ... مناها قلوب كي تراك حوائم فإنك بيت الله والحرم الذي ... لعزته ذل الملوك الأعاظم وقد رفعت منك القواعد بالتقى ... وشادتك أيد برة ومعاصم وساويت في فضل المقام كلاكما ... تنال به الزلفى وتحمى المآثم ومن أين تعدوك الفضائل كلها ... وفيك مقامان: الهدى والمعالم ومبعث من ساد الورى وحوى العلا ... بمولده عبد الإله وهاشم نبي حوى فضل النبيين واغتدى ... لهم أول في فضله وهو خاتم وفيك يمين الله يلثمها الورى ... كما يلثم اليمني من الملك لاثم وفيك لإبراهيم إذا وطئ الثرى ... ضحى قدم برهانها متقادم

دعا دعوة الصفا فأجابه ... قطوف من الفج العميق وراسم فأعجب بدعوى لم تلج مسمعي فتى ... ولم يعها إلاّ ذكي وعالم ألهفي لاقدار عدت عنك همتي ... فلم تنهض مني إليك العزائم فيا ليت شعري هل أرى فيك داعيا ... إذا ما دعت لله فيك الغمائم وهل تمحون عني خطايا اقترفتها ... خطى فيك لي أو يعملان رواسم وهل لي من سقيا حجيجك شربة ... ومن زمزم يروى بها النفس حائم وهل لي في أجر الملبين مقسم ... إذا بذلت للناس فيك المقاسم وكم زار مغناك المعظم مجرم ... فحطت به عنه الخطايا العظائم ومن أين لا يضحى مرجيك آمنا ... وقد أمنت فيك المها والحمائم لئن فاتتني منك الذي أنا رائم ... فإن هوى نفسي عليك لدائم وإنْ يحمني حامي المقادير مقدما ... عليك فإني بالفؤاد لقادم عليك سلام الله ما طاف طائف ... بكعبتك العليا وما قام قائم إذا نسم لم تهد عني تحية ... إليك فهديها الرياح النواسم أعوذ بمن أسناك من شر خلقه ... ونفسي فما منها سوى الله عاصم وأهدي صلاتي والسلام لأحمد ... لعلي به من كبة النار سالم انتهى ما أوردة في القلائد دون ما قدمناه. ولنختم ترجمة ابن السيد بقوله: إليك أفر من ذلي وذنبي ... فأنت إذا لقيت الله حسبي وزورة أحمد المختار قدما ... مناي وبغيتي لو شاء رتبي فإن أحرم زيارته مجسمي ... فلم أحرم زيارته بقلبي

ومن أشياخ القاضي أبي الفضل عياض رحمه الله:

فدونك يا رسول الله مني ... تحية مؤمن وهدي محب سأجعل عروتي الوثقى يقيني ... لصحة ما أتيت به وحبي عسى ود ثوى لك في فؤادي ... على بعد سيوجب منك قربي شهدت بأن دينك خير دين ... بلا شك وصحبك خير صحب ولنمسك العنان. ومن أشياخ القاضي أبي الفضل عياض رحمه الله: الشيخ أبو علي الجياني وهو حسين بن محمّد بن أحمد الغساني بغين معجمة وسين مهملة مشددة الجياني بجيم ومثناة من أسفل مشددة رئيس المحدثين بقرطبة وليس هو منها وإنما نزلها أبوه في الفتنة وأصلهم من الزهراء. روى عن أبي العاصي حكم بن محمّد الجذامي وأبي عمر بن عبد البر وأي شاكر القبري وأبي عبد الله محمّد بن عتاب وأبي القاسم حاتم بن محمّد وأبي عمر بن الحذاء القاضي وأبي مروان الطبني والقاضي سراج بن عبد الله وابنه أبي مروان وأبي الوليد الباجي وأبي العباس العذري وجماعة غيرهم يطول تعدادهم سمع منهم وكتب الحديث عنهم. وكان من جهابذة المحدثين وكبار العلماء المستندين وعني بالحديث وكتبه وروايته وضبطه وكان حسن الحظ جيد الضبط وكان له بصر باللغة والأعراب ومعرفة بالغريب والشعر والأنساب وجميع من ذلك كله مالم يجمعه أحد في وقته ورحل الناس إليه وهولوا في رواية عليه وجلس لذلك بالمسجد

الجامع بقرطبة، وسمع منه أعلام قرطبة وكبارها، وفقهاؤها وجلتها. أخبر عنه واحد من الشيخ، ووصفوه بالجلالة، والحفظ والنباهة، والتواضع والصيانة. وذكره الشيخ أبو الحسن بن مغيث فقال: كان من أكمل من رأيت علماً بالحديث، ومعرفة بطرقه، وحفظاً لرجاله، عانى كتب اللغه، وأكثر من رواية الأشعار، وجمع من سعة الرواية ما لم يجمعة أحد أدركناه؛ وصحح من الكتب ما لم يصححه غيره من الحفاظ، كتبه حجة بالغة، وجمع كتاباً في الرجال الصحيحين، سماه " تقييد المهمل المشكل " وهو كتاب حسن مفيد، أخذه الناس عنه. قال أبو القاسم بن بشكوال: قرأت بخط أبي علي رحمه الله تعالى في كتابه: أنا حكم بن محمّد، قال أخبرنا أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن رزيق، قال: سمعت أبا بكر محمّد بن أحمد البغدادي الوراق، قال: سمعت ابن الأصم يقول: سمعت أبي يقول - إذا رأى أصحاب الحديث -: أهلاً وسهلاً بالذين أحبهم ... وأودهم في الله ذي الآلاءِ أهلاً بقوم صالحين ذوي تقى ... غر الوجوه وزين كل ملاء يا طالبي علم النبي محمدٍ ... ما أنتم وسواكم بسواء وأصابت الشيخ أبا علي زمانه عطلته، فأعمل الرحالة إلى المرية للاستشفاء، بماءٍ حمتها، حمة بجانة؛ فقدم عليها في صدر المحرم سنة ست وتسعين وأربع مائة؛ وكان نزوله بها على الشيخ الفقيه أبي الربيع سليمان السبائي وفي منزله وبقراءته وقراءة القاضي أبي القاسم بن ورد، وكان أكثر ما سمع عليه من بالمرية ويوجد السماع عليه بحمية بجانة؛ ثم قفل إلى قريته، وبها توفى رحمه الله ليلة

ومن أشياخ القاضي أبي الفضل عياض رحمه الله تعالى:

الجمعة لاثني عشرة ليلة خلت من شعبان وقال أبو جعفر بن الباذش لعشرة خلون منه سنة ثمان وتسعين وأربع مائة؛ ودفن يوم الجمعة بمقبرة الربض عند الشريعة القديمة؛ ومولده في المحرم سنة سبع وعشرين وأربع مائة؛ وكان لزم داره قبل موته لزمانته. ذكر ذلك كله ابن بشكوال؛ وفيه عن غيره، وهذا هو الصحيح الذي لا يلتفت إلى غيره، ممن قال إنْ وفاته سنة ست وتسعين وأربع مائة. والله أعلم. ومن أشياخ القاضي أبي الفضل عياض رحمه الله تعالى: القاضي الشهير الشهيد أبو علي الصدفي. وهو حسين بن محمّد بن فيره ابن حيون بن سكرة. وفيره " بكسر أوله، وياء مثناة في أسفل، وراء مضمومة مشددة، وهاء ساكنة ": قيل معناه الحديد بلغة العجم، وقد صرح بذلك صاحب الديباج المذهب. وحيون بحاء مهملة، وياء مثناة من أسفل مشددة. وسكرة: " بضم السين المهملة، وفتح الكاف المشددة، وآخره تاء تأنيث ": مؤنت سكر. والصدفي: بفتح أوله وثانيع. وهو من أهل سرقسطة، سكن مرسية، وروى بسرقسطة عن أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي، وأبي محمّد عبد الله بن محمّد بن إسماعيل وغيرهما، وسمع ببانسية من أبي العباس العذري، وسمع بالمرية من أبي عبد الله محمّد بن سعدون القروي، وأبي عبد الله بن المرابط، وغيرهما. ورحل إلى المشرق أول المحرم من سنة إحدى وثمانين وأربع مائة، وحج من عامه، ولقي بمكة أبا عبد الله الحسين بن عليّ الطبري: إمام الحرمين، وأبا بكر الطرطوشي، وغيرهما، ثم صار إلى البصرة، فلقي بها أبا يعلى المالكي، وأبا العباس الجرجاني، وأبا القاسم بن شعبة، وغيرهم؛ وخرج إلى بغداد،

فسمع بواسط من أبي المعالي محمّد بن عبد الله السلام الأصبهاني وغيره، ودخل بغداد يوم الأحد السادس عشر لجمادى الآخرة، سنة اثنتين وثمانين وأربع مائة، فأطال الإقامة بها خمس سنين كاملة، وسمع بها من أبي الفضل أحمد بن الحسن ابن خيرون مسند بغداد، ومن أبي الحسين بن البارك بن عبد الجبار الصيرفي، وأبي محمّد رزق الله بن عبد الوهاب التميمي، وأبي الفوارس طراد بن محمّد الزينبي، وأبي عبد الله الحميدي؛ وتفقه على الفقيه أبي بكر الشاشي وغيره، وسمع من جماعة سواهم من رجال بغداد ومن القاديمين عليها أيام كونه بها. ثم رحل عنها في جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وأربع ملئة، فسمع بدمشق من أبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي، وأبي الفرج سهل بن بشر السفرائني وغيرهما، وسمع بمصر من القاضي أبي الحسن عليّ بن الحسين الخلعي، وأبي العباس أحمد بن إبراهيم الرازي وأجازه له أبو إسحاق الحبال مسند مصر في وقته ومكثرها؛ وسمع بالإسكندرية من أبي القاسم مهدي بن يوسف الوراق، ومن أبي القاسم شعيب بن سعد وغيرهما. ووصل إلى الأندلس في صفر من سنة تسعين وأربع مائة؛ وقصد مرسية، فاستوطنها، وقعد يحدث الناس بجامعها؛ ورحل الناس من البلدان إليه، وكثر سماعهم عليه، وكان عالماً بالحديث وطرقه، عارفاً بعلله وأسماء رجاله ونقلته، بصيراً بالمعدلين؛ وكان حسن الخط، جيد الضبط وكتب بيده علماً مثيراً وقيده؛ وكان حافظاً لمصنفات الحديث، قائماً عليها، ذاكراً لمتونها وأسانيدها ورواتها، وكتب منها صحيح البخاري في سفر، وصحيح مسلم في سفر، وكان قائماً على الكتابين، مع مصنف أبي عيسى الترمذي. وكان فاضلاً ديناً، متواضعاً حليماً، وقوراً عالماً عاملاً؛ واستقضي بمرسية ثم

استعفي فأعفى؛ وأقبل على نشر العلم وبثه. قال ابن الأبار: وقد ذكره أبو القاسم بن عساكر في تاريخه، لدخوله الشام. قال: وبعد أنْ استقرت به النوى، واستمرت إفادته بما قيد وروى؛ رفعته ملوك أوانه، وشفعته في مطالب إخوانه؛ فأوسعته رعياً، وحسنت فيه رأياً؛ ومن ابنائهم من جعل يقصده، لسماع مسنده. وعلى وقاره الذي كان به يعرف، ندر له مع بعضهم ما يستظرف، وهو أنْ فتى منهم يسمى يوسف، لازم مجلسه، معطراً رائحته، ومنظفاً ملبسه، ثم غاب لمرض قطعه، أو شغل منعه؛ ولمّا فرغ أو أبل، عاود ذلك النادي المبارك والمحل؛ وقبل إفضائه إليه دل طيبه عليه؛ فقال الشيخ، على نزاهته من المجون، وسلامته من الفتون: " إني لأجد ريح يوسف لولا أنْ تفندون ". وهي من طرف نوادره، رحمة الله عليه. ولمّا قلد الشيخ أبو عليّ قضاء مرسية، وعزم عليه في توليه، ولم يوسعه عذراً في استعفائه مقدمه لذلك وموليه؛ خرج منها إلى المرية، فأقام بها، سنة خمس وبعض سنة وخمس مائة. وفي سنة ست قبل قضاءها على كره، إلى أنْ استعفى آخر سنة سبع، في قصة يطول إيرادها. ولطول مقامه بالمرية أخذ الناس عنه فيها، فلما كانت وقعة كتندة، ويقال قتندة بالقاف، من خيز دورقة، من عمل سرقسطة، من الثغر الأعلى، وذلك سنة أربع عشرة وخمس مائة وكان الشيخ أبو هلي ممن حضرها هو وقرينه في الفضل أبو عبد الله بن الفرج، خرجا مع الأمير إبراهيم بن يوسف بن تاشفين غازيين، فكانا فيمن فقد فيها واختلف فيها أصحابه، فجعلها أبو جعفر بن الباذش بعد العصر، من يوم الأربعاء السابع عشر من ربيع الآخر، من السنة المذكورة، وتابعه أبو عبد الله بن عبد الرحيم؛ وجعلها القاضي أبو الفضل عياض بن موسى يوم الخميس، لست

ومن أشياخ القاضي أبي الفضل عياض رحمه الله تعالى:

بقين منه. وقال أبو القاسم بن بشكوال: استشهد القاضي أبو عليّ في وقعة قتندة، بثغر الأندلس، يوم الخميس ووافق عياضاً إلاّ في الشهر، فانه قال من ربيع الأول. قال ابن الأبار: وهو الأصح. وقال أبو عمرو والخضر بن عبد الرحمن: توفي في الكائنة على المسلمين بكتندة، عشي يوم الخميس، الثامن عشر من شهر ربيع الأول، فتابع ابن بشكوال على الشهر. قال أبو عبد الله بن الأبار: وقرأت بخط أبي عبد الله بن مدرك بن الغساني المالقي: استشهد الفقيه أبو عليّ رحمه الله تعالى في وقعة كتندة، يوم الخميس، التاسع من ربيع الأول، وذكر السنة. قال: وكنت على المسلمين، جبرهم الله تعالى قتل فيها من المطوعة نحو عشرين ألفاً، ولم يقتل فيها من العسكر يعني الجند أحد، وحكي غيرهم أنْ العسكر انصرف مفلولاً إلى بلنسية، في الموفى عشرين من ربيع الأول أيضاً، وأنَّ القاضي أبا بكر بن العربي حضرها. قال: وسئل مخلصه منها عن حاله، فقال، حال من ترك الخبا والعبا. قال أبي بشكوال: وكان القاضي أبو عليّ يومئذ من ابناء الستين، وقد ذكره ابن بشكوال، وقال: وهو ممن كتب إلينا بإجازة ما رواه، ولم ألقه. وذكره ابن الأبار في معجم أصحابه، وقد ألف ابن الأبار هذا المعجم في أصحاب القاضي أبي عليّ، كما ألف القاضي أبو الفضل عياض بن موسى نعجم شيوخه، رحمة الله عليهم أجمعين. ومن أشياخ القاضي أبي الفضل عياض رحمه الله تعالى: أبو الوليد هشام بن أحمد بن هشام الهلالي، يعرف بابن بقوى، ويقال ابن بقوة، من أهل غرناطة، وسكن المرية وسمع من شيوخ المرية، مثل طاهر ابن هشام الأزدي، وأبي محمّد حجاج بن عليّ بن محمّد الرعيني، المعروف بابن

ومن أشياخ القاضي أبي الفضل عياض رحمه الله:

المأموني، وأبي القاسم خلف بن أحمد الجراوي، وأبي العباس أحمد بن عمر العذري، وغيرهم؛ ومن الطارئين عليها، مثل القاضي أبي الوليد الباجي، وأبي عبد الله محمّد بن سعدون القروي. وكان جروجه من المرية بعد سنة اثنتين وتسعين وأربع مائة، وسكن غرناطة مدة، وولي الأحكام بعدة جهات من كورة ألبيرة. وكان من حفظ الحديث المعتنين بالتنقير عن معانيه، واستخراج الفقه منه، مع التقدم في حفظ مسائل الرأي، والبصر بعقد الوثائق، والتقدم في معرفة أصول الدين. روى عنه جماعة. وولد في صفر سنة أربع وأربعين وأربع مائة، وتوفي بغرناطة في شهر ربيع الأول سنة ثلاثين وخمس مائة؛ ذكره ابن بشكوال. ومن أشياخ القاضي أبي الفضل عياض رحمه الله: القاضي أبو عبد الله محمّد بن عبد الرحمن بن عليّ بن سعيد بن عبد الله بن شبرين، بشين معجمة مكسورة، وباء موحدة ساكنة، وراء مكسورة، بعدها ياء، آخر الحروف، وآخره نون، الجذامي، من أهل مرجيق: حصن من حصون شلب، بينها أربعون ميلا من الغرب. أخذ عن القاضي أبي الوليد الباجي كثيراً من مروياته وتآليفه، وصحبه واختص به، وكان من أهل العلم، والمعرفة والفهم، عالماً بالأصول والفروع، واستقصى بإشبيلية، وحمدت سيرته، ولم يزل يتولى القضاء بها، إلى أنْ توفي ليلة الأربعاء لثلاثٍ خلون من رجب الفرد، سنة ثلاث وخمس مائة. قال ابن بشكوال: كتب إليَّ القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن

عياض بوفاته، وقال قيدتها حين وفاته. قلت: وهذا هو الصواب لا ما قله بعض من شرح الشفا: أنَّه توفي يوم الخميس رابع رجب المذكور، ولعله ظن أنَّ يوم دفنه يوم وفاته، على أنَّ مثل هذا قريب، لا سيما إن كانت وفاته آخر الليل، فلا يكون بين اليوم والليلة إلاّ مديدة قليلة جداً، فافهم. وحكي القاضي أبو الحسن عيسى بن حبيب: أنَّه رحل إلى أبي الوليد الباجي سنة تسع وستين وأربع مائة، وصحبه بسرقسطة، ثم سافر معه إلى الورية، حتى مات أبو الوليد، فكانت صحبته له نحو أربعة أعوام، ووصل من منفعته به في العلم في هذه المدة، ما لم يصل إليه غيره منه في المدة الطويلة، رحمهما الله تعالى؛وأجاز له جميع رواياته أبو العباس العذري، وأبو القاسم عبد الجليل الربعي القيرواني، مع تواليفه، وأجاز له أبو عبد الله بن المرابط روايته عن الطلمنكي وخلف البغوي، وصحب بعد وفاة القاضي أبي الوليد الباجي ابنه أبا القاسم، وأجاز له جميع ما رواه، وانصرف إلى حصن مرجيق، فولى الأحكام به، ثم نقل إلى قضاء شلب، فأقام بها قاضياً أعواماً، ثم نقله الأمير سير بن أبي بكر إلى قضاء إشبيلية، بعد صرف أبي القاسم بن منظور عن قضائها، فضبط الأمر، وجمع المتفرق من شئون القضاء، وكان صليباً في الحق، نافذاً في أحكامه، لا تأخذه في الله لومة لائم، وشنئه أقوام، فبغوا عليه، بغياً وحسداً، عند أمير المسلمين عليّ بن يوسف بن تاشفين، فصرفه عن القضاء، ثم لم يلبث إلاّ نحو خمسة عشر يوماً، حتى رده إليه أحسن رد. وكان الفقيه أبو مروان عبد الله بن شبزين. ولم يزل قاضياً بإشبيلية، مضطلعاً بأعباء القضاء، حسن السياسة فيه، ناشراً للعلم، إلى أنْ توفي بها، رحمه الله تعالى. ذكره ابن بشكوال.

فمنهم في حرف الهمزة:

وإذا تتبعنا أشياخ القاضي عياض بالتعريف، لم يسمع ذلك هذا الموضوع، وقد تقدم أنهم نحو المائة، ورتبهم ولده على الحروف، حسبما نقل من فهرسته. فمنهم في حرف الهمزة: الشيخ بن بقي وهو أحمد بن محمّد بن محمّد بن مخلد بن عبد الرحمن بن أحمد ابن بقي بن مخلد. ولد في شعبان سنة ست ة أربعين وأربع مائة. ومات منسلخ ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين وخمس مائة. وكف بصره بآخر عمره. رحمه الله. ومنهم في هذا الحرف: أبو جعفر بن المرخي، وهو أحمد بن محمّد بن عبد العزيز اللخمي توفي ليلة الجمعة لثمان بقين من ربيع الأول، سنة ثلاث وثلاثين وخمس مائة. ومنهم: الشيخ ابن غلبون، وهو أحمد بن محمّد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عثمان ابن غلبون، بفتح الغين المعجمة، وضم الباب الموحدة، وآخره نون. ولد سنة ثمان عشرة وأربع مائة، ومات في شعبان سنة ثمان وخمس مائة. ومنهم: أبو العباس أحمد بن محمّد بن عبد الرحمن الأنصاري الشارقي، توفي قرب خمس مائة. ومنهم: أبو إسحاق إبراهيم بن جعفر بن أحمد الفقيه اللواتي، بفتح اللام منسوب

ومنهم في حرف الحاء:

للواتة، مخففة الواو، مفتوحتها، ومفتوحة اللام أيضاً، وتاء مثناة من فوق، قبيلة. الفاسي، نسبة لفاس الحضرة المشهورة، حاط الله أرجاءها، وبلغها من الأمن والعافية رجاءها. مات في الثامن من جمادي الآخرة، سنة ثلاث عشرة وخمس مائة. ومنهم: أحمد بن سعيد بن بشتغير، وأحمد بن محمّد بن مكحول، إلى غيرهم من جملة سبعة عشر رجلاً في هذا الحرف، أعني حرف الهمزة. ومنهم في حرف الحاء: الحسين بن محمّد الصدفي، والحسين بن محمّد الغساني، وقد تقدم الكلام عليهما، والحسين بن عبد الأعلى السفاقسي، والحسين بن عليّ بن طريف. ومنهم في حرف الخاء: خلف بن إبراهيم أبو القاسم الخطيب المقري. وهو خلف بن إبراهيم بن خلف بن سعيد المعروف بابن النخاس، بخاء معجمة، وبابن الحصار. ولد سنة سبع وعشرين وأربع مائة، وتوفي بقرطبة يوم الثلاثاء، سادس عشر صفر سنة إحدى عشرة وخمس مائة. وخلف بن خلف الأنصاري بن الأنقر. وخلف ابن يوسف بن فرتون. ومنهم في حرف الميم: القاضي أبو الوليد بن رشد، والقاضي عبد الله بن حمدين، والقاضي أبو عبد الله بن الحاج، والقاضي ابن العربي، والقاضي ابن شبرين، وقد تقدم ذكرهم.

وأبو عبد الله التميمي، وهو محمّد بن عيسى بن حسين، ولد سنة تسع وعشرين وأربع مائة، ومات بسبتة صبيحة يوم السبت لتسع بقين من جمادى الأولى سنة خمس وخمس مائة. وأبو عامر محمّد بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن إسماعيل الطليطلي، بظم الطاءين. ولد سنة ست وخمسين وأربع مائة ومات بقرطبة، في ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين وخمس مائة. وأبو عمران موسى بن عبد الرحمن بن أبي تليد بمثناة من فوق مفتوحة، الشاطبي الرعيني، منسوب لذي رعين من حمير. ولد سنة أربع وأربعين وأربع مائة ومات في ربيع الآخر سنة سبع عشرة وخمس مائة. ومن شعره رحمه الله ورضى عنه: الليالي تسوء ثم تسر ... وصروف الزمان ما تستقرُ بينما المرء في حلاوة عيشٍ ... إذ أتاه على الحلاوة مرُ فالكريم المصاب يفزع فيه ... لكريم وينفع الحر حرُ وأبو عبد الله محمّد بن عبد الرحمن بن سعيد الأشقري المقري النحوي، مات سنة خمس وخمس مائة. ومحمّد بن عليّ الشاطي ابن الصيقل، ومحمّد بن سليمان النفزي بن أخت غانم، ومحمّد بن عيسى التجيبي القاضي، إلى غيرهم من جملة أحد وثلاثين شيخاً في هذا الحرف، منهم المازري والطرطوشي، لكن بالإجازة له، إذ لم يلقهما كما سيأتي قريباً.

ومنهم في حرف العين:

ومنهم في حرف العين: أبو محمّد عبد الله بن السيد البطليوسي، وقد تقدم ذكره. وأبو محمّد بن عتاب الجذامي، الإمام الشهير، فقيه قرطبة وإمامها، وشيخ زمانه في العلم الموروث كابر عن كابر، توفي سنة ثمان وخمس مائة. وأبو محمّد عبد الله بن أبي جعفر، وهو عبد الله بن محمّد بن عبد الله الخشني. وعبد الرحمن بن محمّد السبتي ابن العجوز، وعبد الله بن محمّد بن أيوب الفهري. وعبد الرحمن بن محمّد بن بقي. وعليّ بن أحمد الأنصاري بن الباذش. وأبو الحسن عليّ بن مشرف " اسم مفعول شرف بالتشديد " وهو ابن مسلم " مفعول، سلم مشدد " ابن أحمد بن عبد المنعم بن عبد الرحمن الأنماطي " بفتح الهمزة "، الإسكندراني. وأبو محمّد عبد الله بن أحمد العدل " بالفتح وسكون الدال " التميمي ومات بسبتة عام أحد وخمس مائة. وعلى بن عبد الرحمن التجيبي بن الأخضر؛ إلى غيرهم من جملة سبعة وعشرين في هذا الحرف. ومنهم في حرف الغين: غالب بن عطية المحاربي، وقد تقدم. ومنهم في حرف السين: سراج بن عبد الملك بن سراج أبو الحسن. وأبو بحر سيفان بن العاصي الأسدي، مات بقرطبة لثلاث بقين من جمادى الآخرة سنة عشرين وخمس مائة، وولد سنة تسع وثلاثين، وقيل لربعين وأربع مائة، وفي سنة وفاته المذكورة توفي القاضي أبو بكر الطرطوشي رحمه الله، وفيها أيضاً توفي الإمام المؤرخ الشيخ الراوية، أبو مروان حيان بن حيان رحمه الله. وشيوخ القاضي أبي الفضل في هذا الرف خمسة.

ومنهم في حرف الشين:

ومنهم في حرف الشين: شريح بن محمّد الرعيني الإشبيلي. ومنهم في حرف الهاء: أبو الوليد هشام بن أحمد بن العواد، الفقيه المشهور، ولد سنة اثنتين وخمسين وأربع مائة، وتوفي سنة تسع وخمس مائة. وهشام بن أحمد الهلالي الغرناطي، وقد تقدم ذكره. ومنهم في حرف الياء: يونس بن محمّد بن مغيث بن الصفار. ويوسف بن موسى الكلبي، سمع القاضي أبو الفضل منه أرجوزته. وهو الضرير الأديب النحوي المتكلم الزاهد. وأصله من سرقسطة، وسمن مراكش، وبها توفي سنة عشرين وخمس مائة. وهو من تلاميذ أبي بكر محمّد ابن الحسن المرادي الحضرمي. والمرادي هذا أوّل من أدخل علوم الاعتقاد إلى المغرب القصى، وسكن بأغمات؛ فلما توجه أبو بكر بن عمر إلى الصحراء حمله وولاه القضاء، فمات بأركر من صحراء المغرب سنة تسع وثمانين وأربع مائة؛ فخلفه أبو الحجاج يوسف في علوم الإعتقادات، وغلب عليه الزهد؛ وله أرجوزة صغرى في علم الاعتقاد، قرأها عليه القاضي أبو الفضل عياض، كما ذكرناه. قال عياض: وأجاز جميع تآليفه ورواياته وكتاب التحرير لشيخه المرادي أخذ أبي الحجاج، قال عياض رحمه الله المرادي رحمه الله تعالى:

وممن أجاز القاضي أبا عياض ولم يلقه:

علمي بقبح المعاصي حين اركبها ... يقضي بأني محمول على القدر لو كنت أملك نفسي أو أصرفها ... ما كنت أطرحها في لجة العذر كلفت فعلا ولم أقدر عليه ولم ... أكن لأفعل أفعالا بلا قدر وكان في عدل ربي أنْ يعذبني ... فلم أشاركه في نفع ولا ضرر إن شاء نعمني وإنْ شاء عذبني ... أو شاء صورني في أقبح الصور يا رب عفوك عن ذنب قضيت به ... عدلا على فهب لي صفح مقتدر ومن شيوخ القاضي عياض رحمه الله تعالى في حرف الياء: يوسف بن عبد العزيز بن عديس الطليطلي رحم الله جميعهم. وممن أجاز القاضي أبا عياض ولم يلقه: الشيخ الأستاذ أبو بكر محمّد بن الوليد الطرطوشي الطائر الصيت الشهير الذكر وقد تقدم ذكر وفاته. وهو محمّد بن الوليد بن محمّد بن خلف بن سليمان بن أيوب القرشي الفهري الطرطوشي بضم الطاءين المهملتين وقد تفتح الطاء الأولى أصله من طرطوشة بلاد الأندلس ويعرف بابن أبي رندقة براء مهملة مفتوحة ثم نون ساكنة ثم دال مهملة مفتوحة ثم قاف كنيته أبو بكر وهو المعنى بقول ابن الحاجب في مختصره الفقهي في باب العتق: " وقال الأستاذ: ومقتضاه إذا باعه قبل التقويم أنْ يقوم ". صحب القاضي أبا الوليد الباجي بسر قسطة وأخذ عنه مسائل الخلاف وسمع منه وأجازه وقرأ الفرائض والحساب بوطنة قرأ الأدب على أبي محمّد ابن حزم بمدينة إشبيلية.

ثم رحل إلى المشرق سنة ست وسبعين وأربع مائة وحج ودخل بغداد والبصرة فتفقه عند أبي بكر الشاشي وأبي أحمد الجرجاني وسمع في البصرة من أبي عليّ التستري وسكن الشام مدة ودرس بها وكان إماما عالما عاملا زاهدا متواضعا دينا ورعا متقشفا متقللا من الدنيا راضيا منها بالسير. ومن كلامه رضي الله عنه: إذا عرض لك أمران: أمر دنيا وأمر أخرى فبادر بأمر الأخرى يحصل لك أمر الدنيا والأخرى. وله عدة تآليف منها مختصر تفسير الثعالبي والكتاب الكبير في مسائل الخلاف وكتاب في تحريم جبن الروم وكتاب سراج الملوك وهو من أنفع الكتب في بابه وأشهرها وكتاب بدع الأمور ومحدثاتها وكتاب شرح رسالة ابن أبي زيد. ولد سنة إحدى وخمسين وأربع مائة تقريبا وتوفي في ثلث الليل الأخير من ليلة السبت لأربع بقين من جماد الأولى وقال ابن بشكوال في الصلة: في شعبان سنة عشرين وخمس مائة كما تقدم بثغر الإسكندرية وصلى عليه ولده محمّد ودفن قبلي الباب الأخضر. رحمه الله ورضي عنه. وقال ابن خلكان في حقه ما نصه: محمّد بن الوليد بن محمّد بن خلف ابن سليمان بن أيوب القريشي الفهري الأندلسي الطرطوشي المالكي المعروف بابن أبي رندقة بالراء المهملة المفتوحة وتسكين النون

إمام ورع وأديب متقلل. وكان يقول: إذا عرض لك أمران: أمر أخرى وأمر دنيا فبادر بأمر الأخرى يحصل لك أمر الدنيا والأخرى. وله طريقة في الخلاف وله أشعار منها: إذا كنت في حاجة مرسلا ... وأنت بأنجازها مغرم فأرسل بأبلة خلابة ... به صمم أغطش أبكم ودع عنك كل رسول سلوى ... رسول يقال له الدرهم قال الطرطوشي: كنت ليلة نائما في البيت المقدس إذ سمعت في الليل صوتا حزينا ينشد: أخوف ونوم ذا لعجيب ... ثكلتك من قلب فأنت كذوب أما وجلال الله لو كنت صادقا ... لمّا كان للإغماض فيك نصيب قال: فأيقظ النوم وأبكى العيون. وكان الطرطوشي ينشد: إنَّ لله عبادا فطنا ... طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا فكروا فيها فلما علموا ... أنها ليست لحي وطنا جعلوا لجة وأتخذوا ... صالح الأعمال فيها سفنا ودخل الطرطوشي على الأفضل بن أمير الجيوش فوعظه وقال: إنَّ الأمر الذي أصبحت فيه من الملك إنما صار إليك بموت من كان قبلك وهو خارج عن يدك بمثل ما صار إليك فاتق الله فيما خولك من هذه الأمة فإنَّ

وممن أجاز القاضي عياض ولم يلقه:

الله عز وجل سائلك عن النقير والقطمير والفتيل وأعلم أنَّ الله عز وجل آتي سليمان بن داود ملك الدنيا بحذافيرها فسخر له الإنس والجن والشياطين والطير والوحش والبهائم وسخر له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ورفع عنه حساب ذلك أجمع فقال عز من قائل:) هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب (فما عد ذلك نعمة كما عدد تموها ولا حسبها كرامة كما حسبتموها بل خاف أنْ يكون استدراجا من الله عز وجل فقال:) هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر (فافتح الباب وسهل الحجاب وانصر المظلوم وكان إلى جانب الأفضل رجل نصراني فأنشده: يا ذا الذي طاعته قربة ... وحقه مفترض واجب إنَّ الذي شرفت من أجله ... يزعم هذا أنه كاذب وأشار إلى ذلك النصراني فأقام الأفضل من موضعه. وتوفي الطرطوشي سنة عشرين وخمس مائة بالإسكندرية. انتهى كلام ابن خلكان. وذكرته برمته وإنْ كان بعضه قد تقدم تكميلا للغرض وقد يقع لي مثل هذا في هذا الموضع كثيرا والقصد به التقوية لمّا تكرر معه أو غير ذلك كارتباط الكلام بعضه ببعض وعلى الله قصد السبيل. وممن أجاز القاضي عياض ولم يلقه: الشيخ الإمام المجتهد أبو عبد الله المازري محمّد بن عليّ بن عمر بم محمّد التميمي المازري بفتح الزاي عند الأكثر وجوز كسرها جماعة نسبة إلى مازر بليدة بجزيرة صقلية أعادها ا. أخذ عن الشيخين أبي الحسن

اللخمي وأبي محمّد بن عبد الحميد القروي المعروف بالصائغ وكان إماما محدثا وهو أحد الأئمة الأعلام المشار إليهم في حفظ الحديث والكلام عليه عمدة النظار وتحفة الأمصار المشهور في الآفاق والأقطار حتى عد في المذهب إماما وملك من مسائله زماما. وله تآليف مفيدة عظيمة النفع منها كتاب المعلم بفوائد مسلم وكتاب التعليقة على المدونة وكتاب شرح التلقين وكتاب الرد على الإحياء للغزالي المسمى بكتاب الكشف والإنباء عن المترجم بالإحياء وكشف الغطا عن لمس الخطا وكتاب إيضاح المحصول من برهان الأصول وتعليقة على أحاديث الجوزقي وله أيضاً إملاء على شيء من رسائل إخوان الصفا سأله السلطان تميم عنه وكتاب النكت القطعية في الرد على الحشوية والذين بقدم الأصوات والحروف وفتاوى. توفي ثامن عشر ربيع الأول سنة ست وثلاثين وخمس مائة وقيل يوم الاثنين ثامن الشهر المذكور بالمهدية وعمره ثلاث وثمانون سنة رحمه الله ورضي عنه. وحكى أنَّ بعض طلبة الأندلس ورد على المهدية وكان يحضر مجلس المازري ودخل شعاع الشمس من كوة فوقع على رجل الشيخ المازري فقال الشيخ: هذا شعاع منعكس فذيل الطالب المذكور حين رآه متزنا فقال: هذا شعاع منعكس ... لعلة لا تلتبس لمّا رآك عنصرا ... من كل علم ينبجس أتى يمد ساعدا ... من نور علم يقتبس وأظن أني رأيت هذه الحكاية في نظم الدر والعيقان للشيخ الحافظ

أبي عبد الله التلمساني فلتراجع ثم لأني نقلتها بالمعنى. وممن أجاز القاضي عياض ولم يلقه: الشيخ الحافظ إمام المحدثين أبو الطاهر السلفي أحمد بن محمّد بن أحمد بن محمّد بن إبراهيم سلفة الأصبهاني الملقب صدر الدين. قال ابن خلكان: هو أحمد الحفاظ المكثرين. رحل في طلب الحديث ولقي أعيان المشايخ وكان شافعي المذهب. ورد بغداد واشتغل بها على الكيا أبي الحسن على الهراسي في الفقه وعلى الخطيب أبي زكريا يحيى بن عليّ التبريزي اللغوي باللغة وروى عن أبي محمّد جعفر بن السراج وغيره من الأئمة الأماثل وجاب البلاد وطاف الآفاق ودخل الإسكندرية سنة إحدى عشرة وخمس مائة في ذي القعدة وكان قدومه إليها في البحر من مدينة صور وأقام بها وقصده الناس من الأماكن البعيدة وسمعوا عليه وانتفعوا به ولم يكن في آخر عمره في عصره مثله. وبني له العادل أبو الحسن عليّ بن السلار وزير الظافر العبيدي صاحب مصر في سنة ست وأربعين وخمس مائة مدرسة بالثغر المذكور وفوضها إليه وهي معروفة به الآن. وأدركت جماعة من أصحابه بالشام والديار المصرية وسمعت عليهم وأجازوني وكان قد كتب الكثير ونفلت من خطة فوائد جمة ومن جملة ما نقلت من خطة لأبي عبد الله محمّد بن عبد الجبار الأندلسي في قصيدة:

لولا اشتغالي بالأمير ومدحه ... لأطلت في ذاك الغزال تغزلي لكن أوصاف الجلال عذبن لي ... فتركت أوصاف الجمال بمعزل ونقلت من خطه أيضاً لبثينة صاحبة جميل ترثيه: وإنَّ سلوى عن جميل لساعة ... من الدهر ما حانت ولا حان حينها سواء علينا يا جميل بن معمر ... إذا مت بأساء الحياة ولينها وكان كثيرا ما ينشد: قالوا نفوس الدار ساكنها ... وأنتم عندي نفوس النفوس وأماليه وتعاليقه كثيرة والاختصار بالمختصر أولى. وكانت ولادته اثنتين وسبعين وأربع مائة تقريبا بأصبهان وتوفي ضحوة نهار الجمعة وقيل ليلة الجمعة خامس شهر ربيع الآخر سنة ست وسبعين وخمس مائة بثغر الإسكندرية. ودفن في وعلة وهي مقبرة داخل السور عند الباب الأخضر فيها جماعة من الصالحين كالطرطوشي وغيره وهي بفتح الواو وسكون العين المهملة وبعدها لام ثم هاء. ويقال إنَّ هذه المقبرة منسوبة إلى عبد الرحمن بن وعلة السبئي المصري صاحب ابن عباس رضي الله عنهما. وقيل غير ذلك رحمه الله تعالى آمين. قلت: وجدت العلماء المحدثين بالديار المصرية من جملتهم الحافظ زكي الدين أبو محمّد عبد العظيم بن عبد القوي المنذري المحدث محدث مصر في زمانه يقولون في مولد الحافظ السفي هذه المقالة. ثم وجدت في كتاب: زهر الرياض المفصح عن المقاصد والأغراض تأليف الشيخ جمال الدين أبي القاسم عبد الرحمن ابن أبي الفضل عبد المجيد بن إسماعيل بن جفص الصفراوي الإسكندري وأنَّ

الحافظ السلفي المذكور وهو شيخه كان يقول: مولدي بالتخمين لا باليقين سنة ثمان وسبعين فيكون مبلغ عمره على مقتضى ذلك ثمانيا وتسعين سنة. هذا آخر كلام الصفراوي المذكور. ورأيت في تاريخ الحافظ محب الدين محمّد بن محمود المعروف بابن النجار البغدادي ما يدل على صحة ما قاله الصفراوي فإنه قال: قال عبد الغني المقدسي: سألت الحافظ السلفي عن مولده فقال: أنا أذكر قتل نظام الملك في سنة خمس وثمانين وأربع مائة وكان لي من العمر حدود عشر سنين. قلت: ولو كان مولده على ما يقوله أهل مصر إنَّه في سنة اثنتين وسبعين ما كان يقول أذكر قتل نظام الملك في سنة خمس وثمانين وأربع مائة فإنه على ما يقولونه قد كان عمره ثلاث عشرة سنة أو أربع عشرة سنة ولم تجر العادة أنْ من يكون في هذا السنة يقول: أنا أذكر القضية الفلانية وإنما يقول ذلك من يكون عمره تقديرا أربع أو خمس أو ست سنين. فقد ظهر بهذا أنَّ قول الفراوي تلميذه أقرب إلى الصحة وقد سمع منه أنَّه قال: مولدي في سنة ثمان وسبعين وليس الصفراوي ممن يشك في قوله ولا يرتاب في صحته مع أننا ما علمنا أنَّ أحدا منذ ثلاث مائة سنة إلى الآن بلغ المائة فضلا عن أنَّه زاد عليها سوى القاضي أبي الطيب طاهر بن عبد الله الطبري فإنه عاش مائة سنة وسنتين وكما سيأتي في ترجمته. ونسبة السلفي إلى جدة إبراهيم سلفة بكسر السين المهملة وفتح اللام والفاء وفي آخره الهاء وهو لفظ عجمي ومعناه بالعربي ثلاث شفاه لأن شفته الواحدة كانت مشقوقة فصارت مثل شفتين غير الأخرى الأصلية

والأصل فيه سلبة بالباء فأبدلت بالفاء. انتهى كلام ابن خلكان. قلت: ولا يخلو ما ذكره من بحث لأن السلفي قال: أنا أذكر قتل نظام الملك وأنا في حدود العشر سنين وبحث ابن خلكان يقتضي أنَّه ابن ست سنين ونحوها بل قد يقال: إنَّ قول السلفي وكان في حدود عشر سنين لا ينافي قول الآخرين لمّا جرت العادة به من العلماء من إلغاء الكسر الزائد. سلمنا عدم ذلك فلا ذليل فيه لواحد منهما فتأمله منصفا والله سبحانه أعلم. وكأن ابن قنفذ اعتمد في وفاته على قول المصريين في مولد أبي الطاهر السلفي فلذا قال ما نصه: " وتوفي القاضي بغرناطة أبو عبد الله بن محمّد بن القاضي عياض سنة خمس وسبعين وخمس مائة وعرف في تاريخه بأبيه وفي التي تليها توفي الشيخ أبو الطاهر السلفي وعمره مائة وأربع سنين وكان أجاز لكل أدركه حياته. وسلفة بكسر السين المهملة: قرية في المشرق ". انتهى. وما قاله في سلفة مخالف لمّا سبق قريبا لابن خلكان ولعل قول ابن خلكان هو الصواب والله تعالى اعلم. ومن المشهور نظم السلفي رحمه الله قوله: ليس على الأرض في زماني ... من شأن في الحديث شاني علما ونقدا ولا علوا ... فيه على رغم كل شاني ومن ذلك قوله رحمه الله: بالله يا معشر أصحابي ... اغتنموا علمي وآدابي

إنَّ نذير الموت جاء وقد ... حلف لا يرحل إلاّ بي ومن نظمه رحمه الله ما أجاب به القاضي عياضا حين استجازه بقصيدة على روى القاف أولها: أبا طاهر خذها على البعد والنوى ... تحية مشتاق لذكراك شيق فأجابه أبو الطاهر بقوله: أتاني نظم الألمعي الموفق ... يميس اختيالا بين غرب ومشرق وسيأتيان معال عند تعرضنا لذكر نظم عياض رحم الله الجميع. أقول: ولم يزل الفضلاء من الأئمة والنبهاء من أعلام هذه الأمة يستجيزون الأشياخ الأخيار عند تعذر اللقاء وبعد الديار ولو تتبعنا ذكر من قعل ذلك لضاق عنه هذا الموضوع ولمّا احتمله هذا المجموع. وقد استجاز الإمام الشهير الأديب الكبير الشيخ العلامة أبو الحسن حازم صاحب المقصورة وجيه الدين منصور فكتب إليه الوجيه رحمه الله بقوله: إني أجزت لحازم بن محمّد ... صدر الأفاضل والإمام السيد مجموع ما رويته فرويته ... عن ألف شيخ من رواة المسند في مصرها مع شامها وعراقها ... وحجازها من متهم أو منجد وجميع ما صنفته وجمعته ... في علم فقه الشافعي محمّد فليروا عني ما رويت رواية ... مشروطة بتوثيق وتشدد وليبق في روض العلوم منعما ... بسعادة وسيادة وتأيد وإذا جرى ذكر حازم فلا بد أنْ نورد بعض التعريف به فنقول:

قال السيوطي في الطبقات: حازم بن محمّد بن حسن بن محمّد بن خلف بن حازم الأنصاري القرطاجي النحوي أبو الحسن شيخ البلاغة والأدب. قال أبو حيان: كان أوحد زمانه في النظم والنثر والنحو واللغة والعروض وعلم البيان. روى عن جماعة يقاربون الألف وروى عنه أبو حيان وابن رشد وذكره في رحلته فقال: حبر البلغاء وبحر الأدباء ذو اختيارات فائقة واختراقات رائقة لا نعلم أحد ممن لقيناه جمع من علم اللسان ما جمع ولا أحكم من معاقد علم البيان ما أحكم من منقول ومبتدع وأما البلاغة فهو بحرها العذب والمتفرد بحمل راياتها أميرا في الشرق والغرب وأما حفظ لغات العرب وأشعارها وأخبارها فهو حماد روايتها أوقارها يجمع إلى ذلك جودة التصنيف وبراعة الخط ويضرب بسهم في العقليات والدراية أغلب عليه من الرواية. صنف سراج البلغاء في البلاغة وكتاب في القوافي وقصيدة في النحو على روى الميم ذكر منها ابن هشام في المغني أبياتا في المسألة الزنبورية وقد ذكرناها في الطبقات الكبرى مع أبيات أخر. مولده سنة ثمان وست مائة ومات ليلة السبت الرابع والعشرين من رمضان سنة أربع وثمانين وست مائة. ومن شعره: من قال حسبي من الورى بشر ... فحسبي الله حسبي الله كم آية للإله شاهدة ... بأنه لا إله إلاّ هو انتهى كلام السيوطي.

ولنرد نحن ما أمكننا، حيث لم يوف السيوطي بحقه في الطبقات الصغرى، لأنها مبنية على الاختصار، وليس نقف على الطبقات الكبرى التي أحال عليها؛ فنقول: قال بعض المؤرخين: هو حازم بن محمّد بن الحسن بن حازم الأنصاري، فجعل والد الحسن حازماً، وجعله السيوطي محمداً، فلا ندري هل هذا من النسبة إلى الجد، فيرجع مع ما عند السيوطي إلى وفاق، أو هما مختلفان؟ القرطاجني: منسوب إلى قرطاجنة من سواحل كورة تدمير، من شرقي الأندلس. وهو خاتمة شعراء الأندلس الفحول، مع تقدمه في معرفة لسان العرب وأخبارها، ونزل إفريقية بعد خروجه من بلده فطار بها صيت، وعمر إلى أنْ مات بتونس، حضره ملوكها، ليلة الرابع والعشرين من رمضان، من سنة أربع وثمانين وست مائة. وفي بعض المجاميع الأدبية من تأليف ابن المرابط نزل تونس، أنَّه كان في حضرة مراكش أيام الرشيد، انتهى. قلت: وله في الرشيد أمداح كثيرة، أنشدها في الإشادة، ومدح الأمير أبا زكريا صاحب إفريقية، وولده أبا عبد الله المتنصر، وله ألف المقصورة المشهورة، وقصر محاسنها على مدحه، ومدح أخاه أبا يحيى. ومطلعها: لله ما قد هجت يا يوم النوى ... على فؤادي من تباريح الجوى قلت: قد كنت ضمنت مطلعها باكتفاء وتورية فقات: لم أنس يمواً للنوى عيوبه ... في نهر فارس شجن هاج الجوى

فقلت إذ ذكرني معاهاً ... " لله ما قد هجت يا يوم النوى " ومقصورته تدل على اطلاعه، وصدرها بخطبة بليغة جداً، وتولى شرح هذه المقصورة الشيخ أبو القاسم الشريف الحسني القاضي كان بغرناطة، وسمي شرحه هذا رفع الحجب المستورة عن محاسن المقصورة، وملأه بكل غريبة، وقد طالعته غير مرة. وقد ألف الإمام المكودى شارح الألفية، مقصورة بديعة نبوية؛ وعاب على ابن دريد وحازم جعلهما مقصورتيهما مدحاً في بني الدنيا، فكان من جملة أبياتها: فحازم قد عد غير حازمٍ ... وابن دريد لم يفده ما درى وقد تولى شرح مقصورة المكودي بعض أصحابه وهو الكاتب الأديب أبو عبد الله المكلاني أعانه الله تعالى. ومن بديع نظمه رحمه الله قصيدة جيمية، غريبة المنزع، لها صيت عظيم عند الحذاق من أهل الأدب، والنجارين من الفضلاء، عارض بها في المعنى رائية ابن عمار الوزير؛ للمعتمد بن عباد. وفضل غير واحد هذه الجيمية الحازمية، على تلك الرائة العمارية: أدر المدامة فالنسيم مؤرج ... والروض مرقوم البرود مدبجُ والأرض قد لبست برود جمالها ... فكأنما هي كاعب تتبرجُ والنهر مما ارتاح معطفه الللى ... لقيا النسيم عبابه متموجُ يمسي الأصيل بعسجدي شعاعه ... ابداً يوشي صفحه ويدبجُ وتروم أيدي الريح تسلب ما اكتسى ... فتزيده حسناً بما هي تنسجُ

فارتح لشرب كؤس راح نورها ... بل نارها في مائها تتوهجُ واسكر بنشوة لحظ من أحببته ... أو كأس خمر من لماه تمزجُ وايمع إلى نغمات عود تطبى ... قلب الخلي إلى الهوى وتهيجُ بم وزير يسعدان مثانياً ... ومثالثاً طبقاتها تتدرجُ من لم يهيج قلبه هذا فما ... للقلب منه محرك ومهيجُ فأجب فقد نادى بألس حاله ... للأنس دهر للهموم مفرجُ طربت جمادات وأفصح أعجم ... فرحاً وأصبح من سرور يهزجُ أفيفضل الحي الجماد مسرة ... والحي للسراء منه أحوجُ ما العيش إلاّ نعمت به وما ... عاطاك فيه الكأس ظبي أدعجُ ممن يروقك منه ردف مردف ... عبل وخصر ذو اختصار مدمجُ فإذا نظرت لطرة ولغرة ... ولصفحة منه بدت تتأججُ أبقيت أنْ ثلاثهن وما غدا ... من تحتها ينآد أو يتموجُ ليل على صبح على بدر على ... غضن تحمله مثيب رجرجُ كأس ومحبوب يظل بلحظه ... قلب الخلي إلى الهوى يستدرجُ يا صاح ما قلبي بصاح عن هوى ... شيئين بينهما المنى تستنتجُ وبمهجتي الظبي الذي في أضلعي ... قد حل وهو يشبها ويؤججُ ناديت حادي عيسه يوم النوى ... والعيس تحدي والمطايا تحدجُ قف أيها لاحادي أودع مهجة ... قد حازها دون الجوانح هودجُ لمّا تواقفنا وفي أحداجها ... قمر منير بالهلال متوجُ ناديتهم قولوا لبدركم الذي ... بضيائه تسري الركاب وتدلجُ يحيا العليل بلفظةٍ أو لحظةٍ ... تطفي غليلاً في الحشا يتأججُ

قالوا نخاف يزيد قلبك لاعجاً ... فأجبتهم خلوا اللواعج تلعجُ وبكيت واستبكيت حتى ظل من ... عبراتنا بحر ببحر يمزجُ وبقيت أفتح بعدهم باب المنى ... ما بيننا طورا وطورا يرتجُ وأقول يا نفس اصبري فعسى النوى ... بصباح قرب ليلها يتبلجُ فترقب السراء من دهر شجا ... والدهر من ضد لضد يخرجُ وترج فرجة كل هم طارقٍ ... فلكل هم في الزمان تفرجُ وتذكرت بهذه الجيمية قصيدة ابن قلاقس الإسكندري رحمه الله تعالى: عرضت لمعترض الصباح الأبلج ... حوراء في طرف الظلام الأدلجِ فتمزقت شية الدجا عن غرتي ... شمسين في أفق وكلة هودجِ ووراء أستار الحمول لواحظ ... غزلان معتدل الوشيج الأعوجِ من كل مبتسم السنان إذا جرى ... دمع النجيع من الكمى الأهوجِ ولقد صحبت الليل قلص برده ... لعباب بحر صاحبه المتموجِ وكأن منتثر النجوم الآلي ... نظمت على صرح من الفيروزجِ وسهرت أرقب من سهيل خافقاً ... متفرداً وكأنه قلب الشجي واستعبرت مقل السحاب فأضحكت ... منها ثعور مفوف ومدبجِ وابن قلاقس هذا له في النظم البارع المديد؛ ومن محاسنه قوله رحمه الله تعالى: سددها من القلوب رمحا ... وانتضوها من الجفون صفاحا

يا لها حالة من السلم حالت ... فاستحالت ولا كفاح كفاحا صح إذ أذرت العيون دماءً ... انهم أثحنوا القلوب جراحا يا فؤادي وقد أخذت أسيراً ... أتفطرت أم وضعت سلاحا قل لأعتادك التي أقسموها ... ضربوا فيك بالعيون قداحا عجبا للجفون وهي مراض ... كيف تستأسر القلوب الصحاحا آه من موقف يود به المغرم ... لو مات قبله فاستراحا حيث يخشى أنَّ ينظم اللثم عقداً ... فيه أو يعقد العناق وشاحا رجع إلى قول حازم رحمه الله تعالى: فمن قوله من قصيدة: فتق النسيم لطائم الظلماء ... عن مسكةٍ قطرت مع الأنداء وغدا الصباح يفض خاتم عنبر ... بالشرق عن كافورةٍ بيضاء والكوكب الدري يزهو سابحا ... في مائه كالدرة الزهراء وكأنما ابن ذكاء مجمراً ... منه يفيد الريح طيب ذكاء وقال سامحه الله من قصيدة في المستنصر: أمن بارق أورى بجنح الدجى سقطا ... تذكرت من حل الأبارق فالسقطا وبان ولكن لم يبن عنك ذكره ... وشط ولكن طيفه عنك ما شطا حبيب لو أنَّ البدر جاراه في مدى ... من الحسن لأستدني من البدر واستبطا سقى الله عيشا قد سقانا من الهوى ... كئوسا بمعسول اللمى خلطت خلطا

وله مطلع قصيدة: سلطان حسن عليه للصبا علم ... إذا رأته جيوش الصبر تنهزم وقال رحمه الله يصف وردة بيضاء: ومبيضة الأثواب بوردةٍ ... تقل لها الأشباه عند التماسها أنافت على ساق لتشرب عندما ... أشارت لها كف البروق بكاسها كجاريةٍ قامت ببيض غلائلٍ ... مرفعةٍ أذيالها حول رأسها ومن بديع نظمه رحمه الله تعالى تضمينه قصيدة امرئ القيس، وصرف معناها إلى مدح المصطفى) ، وهي من غر القصائد: لعينيك قل إنَّ زرت أفضل مرسل ... " قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل " وفي طيبة فانزل ولا تغش منزلا ... " بسقط اللوى بين الدخول فحومل " وزر قد طالما طاب نشرها ... " لمّا نسجتها من جنوب وشمأل " وأثوابك أخلع محرما ومصدقا ... " لدى الستر إلاّ لبسة المتفضل " لدى كعبة قد فاض دمعي لبعدها ... " على النحر حتى بل دمعي محملي " فحيا حادي الآبال سربي ولا تقل ... " عقرت بعيري يامرأ القيس فانزل " فقد حلفت نفسي بذاك وأقسمت ... " على وآلت حلفة لم تحلل " فقلت لها لا شك أني طائع ... " وأنك مهما تأمري القلب يفعل " وكم حملت في أظهر العزم وحلها ... " فيا عجبا من كورها المتحتل " وعاتبت العجز الذي عاق عزمها ... " فقالت لك الويلات إنك مرجلي "

نبي هدى قد قال للكفر نوره ... " إلاّ أيّها الليل الطويل ألا انجل " تلا سوراً ما قولها بمعارضٍ ... " إذا هي نصته ولا بعطل " لقد نزلت في الأرض ملة هديه ... " نزول اليماني ذي العياب المحمل " أتت مغربا من مشرق وتعرضت ... " تعرضت أثناء الوشاح المفضل " ففازت بلاد الشرق من زينة بها ... " بشيق وشق عندنا لم يحول " فصلى عليه الله ما لاح بارق ... " كلمع اليدين في حبي مكلل " نبي غزا الأعداء بين تلائح ... " وبين إكام بعد ما نتأمل " فكم ملك وفاه في منجدٍ ... " بمنجرد قيد الأوابد هياكل " وكم من يمان واضح جاءه اكتسى ... " بضاف فويق الأرض ليس بأعزل " ومن أبطحي نيط منه نجاده ... " بجيد معم في العشيرة مخول " ومن أبطاحي نيط منه نجاده ... " بجيد معمم في العشيرة مخول " أوالوا ببدر عن سروجهم العدا ... " كما زالت الصفواء بالمتنزل " ونادوا ظباهم لا يفتك فتى ولا ... " كبير أناس في بجادٍ مزمل وفض جموعا قد غدا جامعاً بها ... " لنا بطن ذي قفاف عفنقل " وأحموا وطيساً في حنين كأنه ... " إذا جاش فيه حمية غلي مرجل " ونادوا بنات النبع بالنصر أثمري ... " ولا تبعدينا من جناك المعلل " وممن له سددت سهمين فاضربي ... " بسهميك في أعشار قلبٍ مقتل " فما أغنت الأبدان بها أكتست ... " ترائبها مصقولة كالسجنجل " وأضحت لواليها ومالكها العدا ... " ويقولون لا تهتك أسى وتجمل " وقد فر منصاع كما فر خاضب ... " لدى سمرات الحي ناقف حنظل " وكم قال يا ليل الوغى طلت فانبلج ... " بصبح وما الإصباح منك بأمثل " فليت جوادي لم يسر بي إلى الوغى ... " وبات بعيني قائما غير مرسل "

وكم مرتق أوطاس منهم بمسرجٍ ... " متى ما ترق فيه تسهل وقرطه خرصا كمصباح مسرج ... " أهان السليط في الذبال المفتل " فيزهو لهاد فوق هاديه طرفه ... " بناظرة من وحش وجرة مطفل " ويسمع من كافورتين بجانبي ... " أثنيت كقنو النخلة المتعثكل " ترفع أنَّ يعزى له شد شدان ... " وإرزاخه سرحان وتقريب تتفل " ولكنه يمضي كما مر مزبد ... " يكب على الأذقان دوح الكنهبل " ويغشى العدا كالسهم أو كالشهاب أو ... " كجلمود صخرٍ حطه السيل من عل جياد أعادت رسم رستم دارسا ... " وهل عند رسم دارس من معول " وريعت بها خيل القياصر فاختفت ... " جواهر في صرة لم تزيل " سبت عربا من نسوة العرب تستبي ... " إذا ما اسبكرت بين درع ومجول " وكم من سجايا الفرس والصفر أسهرت ... " نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل " والحزن بدوراً من ليالي شعورها ... " تضل المداري في مثنى ومرسل " وأبقت بأرض الشام هاما كأنها ... " بأرجائها القصوى أنابيش عنصل " لخضراء ما دبت ولا نبتت بها ... " أساريع ظبي أو مساويك إسحل شدا طيرها في مثمري ذي أرومة ... " وساق مغار الفتل شد بيذبل " وكم هجرت في القيظ تحكى دوارعاً ... " عذاري دوار في الملاء المذيل "

وكم أدلجت والقطر يهفو هزيرة ... " ويلوى بأثواب العنيف المثقل " وخضن سيولا فضن بالبيد بعد ما ... " أثرن غباراً بالكديد المركل " وكم ركزوا ومحا بدعص كأنه ... " من السيل والغثاء فلكة مغزل " فلم تبن حصنا خوف حصنهم العدا ... " ولا أطماً إلاّ مشيد بجندل " فهدت بغضب شد بعد صقاله ... " بأمراس كتان إلى صم جندل " وجيش بأقصى الأرض ألقى جرانه ... " وأردف أعجازا وناء بكلكل " يداك الصفا دكا ولو مر بعضه ... " وأيسره على الستار فيذبل " دعا النصر والتأبيد راياته اسحبي ... " على أثرينا ذيل مرطٍ مرحل " لواء منير النصل طاوٍ كأنه ... " منارة ممسي راهب متبتل " كأن دما الأعداء في عذباته ... " عصارة حناء بشيب مرجل " صحاب بروا هام العداة وكم قروا ... " صفيف شواة قدير معجل " وكم أكثروا ما طاب من لحم جفرةٍ ... " وشحم كهذاب الدمقس المفتل " وكم جبن من غبراء لم يسق نبتها ... " دراكا ولم ينضح بماء فيغسل " حكى طيب ذكراهم ومر كفاحهم ... " مداك عروس أو صلابة حنظل " لأمداح خير الخلق قلبي قد صبا ... " وليس صباي عن هواها بمنسل " فدع من لأيام صلحن له صبا ... " ولا سيما يوم بدارة جلجل " وأصبح عن أم الحويرث ما سلا ... " وجارتها أم الرباب بمأسل " وكن في مديح المصطفى كمديح ... " يقلب كفيه بخيط موصل " وأمل به الأخرى ودنياك دع فقد ... " تمتعت من لهو بها غير معجل "

وكم لنبيث للفؤاد منابثٍ ... " نصيح على تعذاله غير مؤتل " ينادي إلهي إنَّ ذنبي قد عدا ... " على بأنواع الهموم ليبتلى " فكن لي مجيرا من شياطين شهوةٍ ... " على حراص لو يشرون مقتلي " وينشد دنياه إذا ما تدللت ... " أفاطم مهلا بعض هذا التدلل " فإنَّ تصلي حبلى بخير وصلته ... " وإنَّ كنت قد أزمعت صرمي فأجملي " وأحسن بقطع الحبل منك وبته ... " فسلى ثيابي من ثيابك تنسل " أيا سامعي مدح الرسول تنشقوا ... " نسيم الصبا بريا القرنفل " وروضة حمد للنبي محمّد ... " غذاها نمير الماء غير المحلل " ويا من أبي الإصغاء ما أنت مهتدٍ ... " وما إنَّ أرى عنك العماية تنجلي " فلو مطفلا انشدتها لفظها أرعوت ... " فألهيتها عن ذي تمائم محول " ولو سمعته عصم طود أمالها ... " فأنزل منها العصم من كل منزل " وقال رحمه الله في مثل هذا الغرض، مؤديا من مدح رسول الله) المفترض، مضمناً قصيدة أخرى لامرئ القيس: أقول لعزمي أو لصالح أعمالي ... " ألا عم صباحا أيّها الطال البالي " أما وأعظى شيب سما فوق لمتي ... " سمو حباب الماء حالا على حال " انار به ليل الشباب كأنه ... " مصابيح رهبان تشب لقفال " نهاني عن غي وقال منها ... " ألست ترى السمار والناس أحوالي " يقولون غيره لتنعم برهة ... " وهل يمعن من كان في العصر الخالي "

أغالط دهري وهو يعلم إنني ... " كبرت وإلاّ يحسن اللهو أمثالي " ومؤنس نار الشيب يقبح لهوه ... " بآنسة كأنها خط تمثال " أشيخا وتأتى فعل من كان عمره ... " ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال " وتشغفك الدنيا وما إنَّ شغفتها ... " كما شغف المهنوءة الرجل الطالي " ألا إنها الدنيا ما أعتبرتها ... " ديار لسلمى عافيات بذي خال " فأين الذين استأثروا قبلنا بها ... " لناموا فما إنَّ من حديث ولا صال " ذهلت بها غيا فكيف الخلاص من ... " لعوب تنسيني إذا قمت سربالي " وقد علمت مني مواعيد توبتي ... " بأن الفتى يهذي وليس بفعال " ومذ وثقت نفسي بحب محمّد ... " هصرت بغصن ذي شماريخ ميال " وأصبح شيطان الغواية خاسئا ... " عليه القتام سيئ الطن والبال " ألا ليت شعري هل تقول عزائمي ... " لخيلي كرى كرة بعد إجفال فأنزل داراً للرسول نزيلها ... " قليل الهموم ما يبيت بأوجال " فطوبى لنفس جاورت خير مرسلٍ ... " بيثرب أدنى دارها نظر عالي " ومن ذكره عند القبول تعطرت ... " صبا وشمائل في منازل قفال " جوار رسول الله مجد مؤثل ... " وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي " ومن ذا الذي يثني عنان السرى وقد ... " كفاني ولم أطلب قليل من المال " ألم تر أنَّ الظبية استشفعت به ... " تميل عليه هونة غير مجفال " وقال لها عودي فقالت له نعم ... " ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي " فعادت إليه والهوى قائل لها ... " وكان عدائي الوحش مني عليّ بالي " ويا لبعير قال أزمع مالكي ... " ليقتلني والمرء ليس يقتال " وثور ذبيح بالرسالة شاهدٍ ... " طويل القوا والروق أخنس ذيال "

وحن إليه الجذع حنة عاطش ... " لغيث من الوسمى رائدة خال " وأصلين من نخل قد التأما له ... " بما احتسبا من لين وتسهال " وقبضة ترب منه ذلت لها الظبا ... " ومسنونة زرق كأنياب أغوال " وأضحى ابن جحش بالعسيب مقاتلا ... " وليس بذي رمح وليس بنبال " وبذت به العجفاء كل مطهم ... " له حجبات مشرفات على الفال " ويا خسف أرض تحت باغيه علا ... " على يكل نهد الجزارة جوال " وقد أخمدت نار لفارس طالما ... " أصابت غضى جز لا وكف بأجزال " أبان سبيل الرشد إذ سبل الهدى ... " يقلن لأهل الحلم ضلا بتضلال " لأحمد خير المرسلين انتقيتها ... " ورضت فذلت صعبة أي إذلال " وإنَّ رجائي أنَّ ألاقيه غداً ... " ولست بمقلي الخلال ولا قالي " فأدرك آمالي وما كل آمل ... " بمقدرك أطراف الخطوب ولا آلي " قلت: هكذا وجدت بخط بعض أعلام مراكش نسبة هذه القصيدة لأبي الحسن حازم المذكور، واعتمدت على هذه النسبة، ثم بان لي خطؤها، وإنّما هذه القصيدة من نظم العلامة أبي بكر بن جزي الكلبي الغرناطي، حسبما نص على ذلك غير واحد. ولنورد كلام بعض الأئمة في حقه، لأن فيه المطلوب وزيادة، ونصه: محمّد بن أحمد عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن يوسف بن جزي الكلبي،

يكنا أبا القاسم، من أهل غرناطة، وذوي الأصالة والنباهة فيها، وأصل سلفه من ولبه، من حصن البراجلة، نزل بها أولهم عند الفتح، صحبة قريبهم أبي الخطار حسام بن ضرار الكلبي، وعند خلع دعوة المرابطين كان لجدهم يحيى بجيان، رياسة وانفراد بالتدبير. وكان رحمه الله على طريقة مثلى، من العكوف على العلم، والاقتيات من حر النشب، والاشتغال بالنظر والتقييد والتدوين، فقيها حافظا، قائما على التدريس، مشاركاً في فنون من العربية والفقه والأصول والقراءات والحديث والأدب، حافظا للتفسير للأقوال جماعة للكتب، موكلي الخزانة، حسن المجلس، ممتع المحاضرة، قريب الغور، صحيح الباطن؛ تقدم خطيباً بالمسجد الأعظم من بلده، على حداثة سنه، فاتفق على فضله، وجرى على سنن أصالته. ومن شيوخه الأستاذ أبو جعفر بن الزبير وابن الكماد وابن رشيد والحضرمي وابن أبي الأحوص وابن برطال، وأبو عامر بن ربيع الأشعري والوالي أبو عبد الله الطنجالي، وابن الشاط. تواليفه: كتاب " وسيلة المسلم في تهذيب صحيح مسلم "؛ و " الأنوار السنية في الكلمات السنية "؛ وكتاب " الدعوات والأذكار "؛ وكتاب " القوانين الفقهية "؛ وكتاب " تقريب الوصول إلى علو الأصول "؛ وكتاب " النور المبين في قواعد عقائد الدين "؛ إلى غير ذلك مما قيده في التفسير والقراءات. شعره: قال في الأبيات الغنية، ذاهبا مذهب الجماعة، كأبي العلاء المعري والرئيس ابن المظفر، وأبي الطاهر السلفي، وأبي الحجاج بن الشيخ، وأبي الربيع

ابن سالم، وأبي عليّ بن أبي الأحوص، وغيرهم: لكل بني الدنيا مراد ومقصد ... وإنَّ مرادي صحة وفراغ لأبلغ في علم الشريعة مبلغا ... يكون به لي للجنان بلاغ ففي مثل هذا فلينافس ذوو النهى ... وحسبي من دار الغرور بلاغ فما الفوز إلاّ في النعيم مؤبد ... به رغد والشرب يساغ وقال في مذهب الفخر: وكم من صفحة كالشمس تبدو ... فيسلى حسنها قلب الحزين غضضت الطرف عن نظري إليها ... محافظة على عرضي وديني انتهى. ومن مشهور نظمه رحمه الله: أروم امتداح المصطفى فيردني ... قصوري عن إدراك تلك المناقب ومن لي بحضر البحر والبحر زاخر ... ومن لي بإحصاء الحصى والكواكب ولو أنَّ أعضائي غدت وهي ألسن ... لمّا بلغت في القول بعض مآربي ولو أنَّ كل العالمين تألفوا ... على مدحه لم يبلغوا بعض واجب فأقصرت عنه كان فيه بلاغة ... ورب كلام فيه عبي لعائب ورأيت بخط الإمام ابن داود أنَّ قوله وكم من صفحة البيتين، ليس

من كلامه، بل من كلام ابنه أبي بكر وهو خطأ لابن ابن الخطيب ذكر في الكتيبة أنَّ البيتين للشيخ أبي القاسم لا لابنه أبي بكر والله الموفق. ثم قال هذا المعرف بابن جزي: مولده: يوم الخميس التاسع لربيع الثاني من عام ثلاثة وتسعين وست مائة. وفاته: فقد وهو يحرض الناس ويشحذ بصائرهم ويثبتهم يوم الكائنة بطريف ضحوة يوم الاثنين السابع لجمادى الأولى عام واحد وأربعين وسبع مائة. تقبل الله شهادته. انتهى. ولنختم ترجمته بقوله رحمه الله تعالى وعفا عنا وعنه بمنه: يا رب إنَّ ذنوبي اليوم قد عظمت ... فما أطيق لها حصرا ولا عددا وليس لي بعذاب النار من قبل ... ولا أطيق لها صبرا ولا جلدا فانظر إلهي إلى ضعفي ومسكنتي ... ولا تذيقنني حر الجحيم غدا ثم قال في التعريف بولده أبي بكر المقصود ذكره هنا وهو الذي ألف له أبوه الأنوار السنية ما نصه: هو أحمد بن محمّد بن أحمد بن جزي الكلبي يكنى أبا بكر من أهل الفضل والنزاهة والهمة وحسن السمت واستقامة الطريق غرب في الوقار ومال إلى الانقباض وله مشاركة حسنة في فنون من فقه وعربية وخط ورواية وأدب وشعر وتسمو بعظمة الإجادة إلى غاية بعيدة وقرأ على والده ولازمه واستظهر ببعض تأليفه وتفقه وتأدب به وقرأ على بعض معاصري أبيه ثم ارتسم في

الكتابة السلطانية لأول دولة السلطان أبي الحجاج بن نصر وولى القضاء ببرجة وبأندرش ثم بوادي آش مشكور السيرة معروف النزاهة. ومن شعره: أرى الناس يولون الغنى كرامة ... وإنْ لم يكن أهلا لرفعة مقدار ويلوون عن وجه الفقير وجوههم ... وإنْ كان أهلا أنْ يلاقي بإكبار بنو الدهر جاءتهم أحاديث جمة ... فما صححوا إلاّ حديث ابن دينار ومن بديع ما صدر عنه تصدير أعجاز قصيدة امرئ القيس بقوله: أقول لعزمي أو لصالح أعمالي ... " ألا عم صباحا أيّها الطلل البالي " ثم سرد منها أحد عشر بيتا إلى قوله: فأين الذين استأثروا قبلنا بها ... " لناموا فما إنْ من حديث ولا صال " ثم قال ما نصه: وهي ثمانية وأربعون بيتا ولا خفاء ببراعة هذا النظم وإحكام هذا النسيج وشدة هذه المعارضة. وله تقييد على كتاب والده المسمى بالقوانين الفقهية ورجز في الفرائض وإحسان كثير. وتقدم قاضيا للجماعة بحضرة غرناطة ثامن شوال عام ستين وسبع مائة ثم صرف عنها. ثم لمّا توفي الأستاذ الخطيب العالم الشهير أبو سعيد فرج بن لب رحمه الله تعالى وكان خطيب الجامع الأعظم بغرناطة ولي عوضا منه أستاذا وخطيبا عام اثنين وثمانين وسبع مائة فبقي في الخطابة ثلاثة أعوام ثم توفي. وأظن أنَّ وفاته إنما كانت في أواخر عام خمسة وثمانين وسبع مائة رحمه الله تعالى. انتهى.

ولا شك أنَّ ما ذكره هذا الإمام في حق والده إنما هو من كلام ابن الخطيب في الإحاطة والله أعلم. ولأبي بكر بن جزي هذا أخ كتاب مجيد من عجائب الزمن وهو الفقيه الكاتب محمّد بن محمّد بن أحمد بن عبد الله بن يحيى بن الأمير أبي بكر عبد الرحمن الثائر بجيان ابن يوسف بن سعيد الغرناطي المتوفى بفاس في عام ثمانية وخمسين وسبع مائة رحمه الله وقيل بل توفي آخر شوال من السنة قبلها مبطونا رحمه الله. قلت: وهذا هو الصواب في وفاته فإني رأيت بخط من يوثق به من الأعلام الذين عرفوا حاله أنه بداره من البيضاء قرب المغرب من يوم الثلاثاء التاسع والعشرين لشوال من عام سبعة وخمسين وسبع مائة وكان دفنه يوم الأربعاء بعد صلاة العصر وراء الحائط الشرقي الذي بالجامع الأعظم من المدينة البيضاء وكان مولده في شوال من عام واحد وعشرين وسبع مائة. انتهى. يكنى أبا عبد الله. قال ابن الأحمر في نثير الجمان: أدركته ورأيته وهو من أهل بلدنا غرناطة وكان أبوه أبو القاسم محمّد أحد المفتين بها عالم الأندلس الطائرة فتياه منها إلى طرابلس وقتل شهيدا في المعترك في الوقيعة التي كانت للنصارى دمرهم الله بطريف على المسلمين في سنة إحدى وأربعين وسبع مائة بعد أنْ أبى بلاء حسنا. وأبو عبد الله محمّد هذا كتب بالأندلس في حضرة ابن عم أبينا أمير المسلمين أبي الحجاج يوسف وله فيه أمداح عجيبة ولم يزل كاتبا في الحضرة الأحمرية

النصرية إلى أنْ امتحنه أمير المسلمين أبو الحجاج ابن عم أبينا. قلت: كان هذا الامتحان الذي ذكره ابن الأحمر هو أنَّه ضربه بالسياط من غير ذنب اقترفه بل ظلمه ظلما بينا. هكذا ألفيته في بعض المقيدات والله أعلم. ثم قال ابن الأحمر: فقوض الرحال عن الأندلس، واستقر بالعدوة، فكتب بالحضرة المرينية، لأمير المؤمنين المتوكل على الله أبي عنان، إلى أنْ توفي بها رحمه الله. حاله رحمه الله: طلع في السماء العلوم بدراً مشرقاً وسارت براعته غرباً ومشرقاً، وسما بشعره فوق الفرقدين، كما أربى بنثره على الشعري والبطين، له باع مديد في التاريخ، واللخة، والحساب، والفقه والنحو والبيان والآداب بصيراً بالأصول والفروع والحديث عارفاً بالماضي من الشعر والحديث؛ إنْ نظم أنساك أبا ذؤيب برقته، ونصيباً بمنصبه ونخوته؛ وإنْ كتب أربى على ابن مقلة بخطه، وإنْ أنشأ رسالة أنساك العماد بحسن مساقها وضبطه؛ وهو رب هذا الشان، وفارس هذا الميدان؛ ومع تفقه في العلوم فهو في الشعر قد نبغ، وما بلغ أحد من الشعر عصره منه ما بلغ؛ بل سلموا التقدم فيه إليه، وألقوا زمام الاعتراف بذلك في يديه؛ ودخلوا تحت راية الأدب التي حمل، إذ ظهر ساطع براعته ظهور الشمس بالحمل. أنشدني لنفسه يمدح أمير المسلمين أبا الحجاج يوسف بن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل عم أبينا ابن جدنا الرئيس الأمير سعيد فرح، ابن جدنا

الأمير أبي الوليد إسماعيل ابن جدنا الأمير أبي الحجاج يوسف الشهير بالأحمر، ابن جدنا أمير المؤمنين المنصور بالله أبي بكر، محمّد بن أحمد بن محمّد بن خميس بن نصر الخزرجي، هذه القصيدة البارعة، وحذف منها الراء المهملة: قسماً بوضاح السنى وهاج ... من تحت مسبول الذوائب داجِ وبأبلج بالمسلك خطت نوره ... من فوق وسنان اللواحظ ساجِ وبحسن خد دبجت صفحاته ... فغدت تحاكي مذهب الديباجِ وبمبسم كالعقد نظم سلكه ... ولمى حكى الصهباء دون مزاجِ وبمنطق نصبو القلوب لحسنه ... أنسى المسامع نغمة الأهزاجِ وبمائس الأعطاف تثنيه الصبا ... فيميس كالخطى يوم هياجِ ومنعم مثل الثيب يقله ... متضعف يشكو من الإدماجِ وبموعد للوصول أنجز فجأة ... من بعد طول تمنع ولجاجِ ويا كؤوس أطلعن في جنح الدجى ... شمس السلافة في سماء زجاجِ وحدائق سحب السحاب ذيوله ... فيما وبات لها النسيم يناجي وجداول سلت سيوفاً عند ما ... فجئت بجيش للصبا عجاجِ وبأقحوان قد تضاحك إذ بكت ... عين الغمام بمدمع ثجاحِ وقدود أغصان يملن كأنها ... تخفي حديثها بينها وتناجي وحمائم يهتفن شجواً بالضحى ... فهديلهن لذي الصبابة شاجي إنَّ المعالي والعوالي والندى ... والبأس طوع يدي أبي الحجاجِ ملك تتوج بالمهابة عندما ... لم يستجر في الدين لبس التاجِ وأفاض حكم العدل في أيامه ... فالحق أبلج وأوضح المنهاجِ هو منقذ العاني ومغنى المعتفي ... ومذلل العاتي وغوث اللاجي

ماضي العزيمة والسيوف كليلة ... طلق المحيا والخطوب دواجي علم الهدى والناس في عمياء قد ... ضلوا لوقع الحادث المهتاجِ غيث الندى والسحب تبخل بالحيا ... والمحل يبدي فاقة المحتاجِ ليث الوغى والخيل تزججى بالقنا ... والبيض تنهل في دم الأوداجِ يتقشع الإظلام إذ يبدو له ... وجه كمثل الكوكب الوهاجِ من آل قيلة من ذؤابة سعدها ... أعلى بني قحطان دون خلاجِ حيث العلا ممدوحة الأطناب لم ... تخلق معالمها يد الإنهاجِ والأعوجيات السوابق تمتطي ... فتظلل الآفاق سحب عجاجِ والبيض والأسل العوامل تقضي ... مهج الكماة بأبلغ الإزعاجِ مجد ليوسف جمعت أشتاته ... أعيا سواه بعد طول علاجِ مولاي هاك عقيلة تزهو على ... أخواتها كالغادة المغناجِ إنشاء عبد خالص لك حبه ... ومن العبيد مداهن ومداجي أوى إلى أكناف نعماك التي ... ليست إليه صلاتها بخداجِ سباق ميدان البلاغة والوغى ... لشعاب كل منها ولاجِ جانبت أخت الزاي فيها عامداً ... فأتت من الإحسان في أفواجِ فافتح لها باب القبول وأوّل من ... أهداكما ما ينبغي من حاجِ قال ابن الأحمر: وأنشدني أيضاً لنفسه، يمدح أمير المؤمنين المتوكل على الله أبا عنان فارساً ملك المغرب، رحمه الله: إنَّ قلبي لعهدة الصبر ناكث ... عن غزال في عقدة السحر نافث أضرم النار في فؤادي وولى ... قلائد لا تخف فإني عابث

ورماني من مقلته بسهمٍ ... ثم قال اصطبر لثان وثالث كم عذول أتى يناظر فيه ... كان تعذاله على الحب باعث ويمين آليتها بالتسلي ... فقضى حسنه بأني حانث جبر الله صدع قلب عميد ... صدعت شمله صروف الحوادث فهو يهفو إلى البروق ويروى ... عن نسيم الصبا ضعاف الأحادث سلبته الأشجان إلاّ بقايا ... من أمان حبالهن رثائث وبكاء على عهود مواض ... ملأت صدره هموما حدائث لست وحدي أشكو بليه وجدي ... إنَّ داء الغرام ليس بحادث يا مضيع العهود والله يعفو ... عنك إني ارتضيت خطة ناكث غرني منك الجمال غرور ... وظبا اللحظ في القلوب عوابث مقل يقتسمن أعشار قلبي ... بالرضا مني اقتسام الموارث كيف غيرت بانتزاحك حالي ... وتغيرت لي وليس بحارث فرط حبي وفرط حبك إلاّ ... أنَّ عينيك بالفتور نوافث وندى فارس وحسنك ردا ... قول من قال سد باب البواعث ملك البأس والندى فهو بالسي ... فِ وبالسيب عابث أو غائث محرز المجد والثناء فهذا ... سائر في الورى وذلك لابث أوطأ الشهب رجله وترقى ... صاعدا في سموه غير ماكث فدرار تسري وما لحقه ... ونجوم خلف القصور لوابث وله المقربات لا بل هي العق ... بان من فوقها الليوث الدلاهث مطلعات من كل نعل هلالا ... فلهذا تجلو دجى كل حادث إنْ توافقن فالجبال الرواسي ... أو تسابقن فالغيوث الحثائث

والمواضي كأنها قد أعيرت ... حدة الذهن منه عند المباحث هي نار محرقات الأعادي ... وهي ماء مطهرات الخبائث فبردن بالوغى ذكورا عطاشا ... ثم يصدرن ناهلات طوامث من معاليه قد رأينا عيانا ... كل فضل ينصه من يحادث خلق كالنسيم مر سحيرا ... بالأزاهير في البطاح الدمائث في سبيل الإله يقضى ويدنى ... ويوالي في ذاته ويناكث شرف الملك منه سام وحام ... فقدته سام وحام ويافث حاكها من بنات كسرى بكرا ... ليس يسموها من الناس طامث ذات لفظ لا يعتريه اختلال ... ومعان لا تنتحيها المباحث ذوو فريض أبقوا بقايا ... كنت دون الورى لهن الوارث من تقتادها فهي هذي ... عرضة البحث فليكن جد باحث إنْ السلطان أبا عنان أطل من برج يشاهد الحرب على ما جرت به عادة الملوك فقال ابن جزي هذا في وصف

الحال ما يكاد تعد معارضته من قبيل المحال وهو: لله يوم بدار الملك مر به ... من العجائب ما لم يجر في خلد لاح الخليفة في برج العلا قمرا ... يشاهد الحرب بين الثور والأسد ومن بارع نظمه رحمه الله تعالى: أبا حسن إنْ شتت الدهر شملنا ... فليس لود بالفؤاد شتات وإنْ حلت عن عهد الإخاء فلم أزل ... لقلبي على حفظ العهود ثبات وهبني سرت مني إليك إساءة ... ألم تتقدم قبلها حسنات وهو الذي ألف رحلة ابن بطوطة حسبما هو معلوم. قال ابن الأحمر: ومن بارع نظمه رحمه الله تعالى قوله وهو بحال مرض: إنْ يأخذ السقم من جسمي مآخذه ... وأصبح القوم من أمري على خطر فإنَّ قلبي بحمد الله مرتبط ... بالصبر والشكر والتسليم للقدر فالمرء في قبضة الأقدار مصرفه ... للبرء والسقم أو للنفع والضرر وحكى لي غير واحد أنَّ الفقيه الكاتب القاضي الحاج الرحال إسحاق ابن الحاج النميري بقي في خلوته جميع شهر رمضان المعظم من عام سبعة وخمسين وسبع مائة فلما خرج يوم عيد الفطر أنشده سيدي أبو عبد الله بن جزي المذكور لنفسه يخاطبه: ما سرار البدور إلاّ ثلاث ... فلماذا أرى سرارك شهرا أتعجلته سرورا لعام ... ثم تبقي في سائر العام بدرا

وحكى أنَّه كتب رحمه الله للرئيس الكاتب أبي القاسم بن رضوان يطلب منه شراب سكنجبين وقصد التصحيف بقوله: أحسن زان بيتك نجيب تسر به برء مرضى. تصحيفه: أحب شراب سكنجبين شربه برء مرضى. قال فجاوبه ابن رضوان بقوله: إنَّ برء نفيس تصحيفه مقلوبا: يشفيك ربنا. وتذكرت بهذا ما وقع للرئيس ابن الجياب فإنه أهدى له الفقيه ابن قطبة رمانا ثم دخل عليه عائدا فلما رآه قال له: يا فقيه نعم بالهدنة زمانك أراد: نعمت الهدية رمانك. وكان هذا قبل موته من مرضه بيسير وهو مما يدل على ثقوب ذهنه حتى قرب الموت سامحه الله وغفر له. ومن نظم أبي عبد الله بن جزي المذكور قوله: رعي الله عهدا بالمرية لا أرى ... له أبدا ما عشت في الناس بالناسي وكيف ترى بالله صحبة معشر ... مجاهد بعض منهم وابن عباس ومن ذلك قوله رحمه الله في الزاوية التي أنشأها أبو عنان وهو مكتوب عليها إلى قرب هذا التاريخ: هذا محل الفضل والإيثار ... والرفق بالسكان والزوار دار على الإحسان شيدت والتقى ... فجزاؤها الحسنى وعقبى الدار

هي ملجأ للواردين ومورد ... لابن السبيل وكل ركب ساري آثار مولانا الخليفة فارس ... أكرم بها في المجد من آثار لا زال منصورا اللواء مظفرا ... ماضي العزائم سامي المقدار بنيت على يد عبدهم وخديم باَ ... بهم العلي محمّد بن جدار في عام أربعة وخمسين انقضت ... من بعد سبع مئين في الأعصار ومن بديع نظمه رحمه الله قوله: وما أنسى الأحبة حين بانوا ... تخوض مطيهم بحر الدموع وقالوا اليوم منزلنا الحنايا ... فقلت نعم ولكن من ضلوعي وقوله رحمه الله: ورب يهودي أتى متطببا ... ليأخذ ثارات اليهود من الناس إذا جس نبض المرء أودي بنفسه ... سريعا ألم تسمع بفتكة جساس وقوله رحمه الله: من أي أشجان التي جنت الهوى ... أشكو العذاب وهن في تنويع؟ من وصلي الموقوف أومن هجري ال ... موصول أو من نومي المقطوع؟

وقوله رحمه الله: فخدي وجسمي والفؤاد وأدمعي ... شهود بهم دعوى الغرام تصحح ومن عجب أنْ رجع الناس نقلهم ... وكلهم ذو جرحة فيه تقدح جسمي ضعيف والفؤاد مخلط ... ودمعي مطروح وخدي مجرح وقوله رحمه الله: يا محيا كتب الحسن به ... أحرفا أبدع فيها وبرع ميم ثغر ثم نون حاجب ... ثم عين هي تتميم البدع أنا لا أطمع في وصلك لي ... وعلى وجهك مكتوب منع قال ابن الأحمر: ومن إنشاء البارع موريا بالكتب ورفعها لأمير المؤمنين المتوكل على الله أبي عنان فارس رحمه الله يهنئه بإبلال ولده وولي عهده الأمير أبي زيان محمّد بن مرض: ماذا عسى أدب الكتاب يوضح من ... خصال مجدك وهو الزاهر الزاهي وما الفصيح بكليات موعبا ... كاف فيأتي بإنباء وإنباه أبقى الله مولانا الخليفة ولسعادته القدح المعلى ولزاهر كماله التاج المحلى تجلى من حلاه نزهة الناظر ويسير بعلاه المثل السائر ويتسق من ثناه العقد المنظم ويتضح بهداه القصد الأمم ولا زالت مقدمات النصر له مبسوطة

ومعونة السعد بإرشاته منوطة وهدايته متكفلة بإحياء علوم الدين وإيضاح منهاج العابدين وإرشاده يتولى تنبيه الغافلين ويأتي من شفاء الصدور بالنور المبين وميقات الخدمة ببابه مطمح الأنفس وملخص الجود من كفة بغية المتلمس قد حكم أدب الدين والدنيا بأنك سراج الملوك لمّا أتته عوارفك بالمشرع السلسل ومعارفك بنظم السلوك ووضحت معالم مجدك وضوح أنوار الفجر وزهت بعدلك المسالك والممالك زهو خريدة القصر فلك في جمهرة الشرف النسب الوسيط ومن جمل المآثر الخلاصة والبسيط وسبل الخيرات لها برعايتك تيسير ومحاسن الشريعة لها بتحصيلك تحبير وأنت حجة العلماء الذي تقصر عن قصي مآثره فطن الأذكياء إنْ أنبههم التفسير ففي يديك ملاك التأويل أو اعتاص تفريع الفقه فعندك فضل البيان له والتحصيل وإنْ تشعب التاريخ فلديك استيعابه أو تطاول الأدب ففي إيجاز بيانك اقتضابه وإنْ ذكر الكلام ففي انتقائك من برهانه المحصول أو المنطق ففي موجز أماليك لبابه المنخول وليس أساس البلاغة إلاّ ما تأتي به من فصل المقال ولا جامع الخير إلاّ ما حزته في تهذيب الكمال ولذلك صارت خدمتك غاية المطلوب وحبك قوت القلوب وغزو أنْ كنت من العلياء درتها المكنونة فأسلافك الكرام هم جواهرها الثمينة بحمامتهم أصيب مقاتل الفرسان وبجود جودهم تسني ري الظمآن وبتسهيل عدلهم وضحت شعب الإيمان وأنت المنتقى من سمط جمانها والواسطة في قلائد عقيانها عنك تؤثر سيرة الاكتفاء وعن فروعك السعداء تروى أخبار نجباء الأنباء فهم لمملكتك العلية بهجة مجالسها وانس مجالسها وقطب سرورها ومطالع نورها وولي عهدك درتهم الخطيرة وذخيرتهم الأثيرة

لا زال كمال سعادته بطول مقامك محكما وحرز أمانيه بالجمع بين الصحيحين: حبك ورضاك معلما وقد وجبت التهنئة بما كان في حيلة برئه من التيسير وما تهيأ في استقامه قانون صحته من نجح التدبير ولم يكن إلاّ أنْ بعدت به عنك المسالك وأعوز نور طرفه تقريب المدارك وتذكر ما عهده من الإيناس الموطأ جناية عند فضل مالك فوري من شوقه سقط الزند والتهب في جوانح القبس الوجد فأمددته من دعائك الصالح بحلية الأولياء فظفر لمّا شارف مشارق الأنوار من حضرتك بالشفاء وقد حاز إكمال الأجر بذلك العارض الوجيز وكان كتشبيب الإبريز وهاهو قادم بالطالع السعيد آئب بالمقصد الأسنى من الفتح والتمهيد يطلع بين يديك طلوع الشهاب ويبسم عن مفصل الثناء في الهناء بذلك زهر الآداب فأعد له تخفة القادم من إحسانك الكامل واخصصه بالتكملة من إيناسك الشامل فهو الكواكب الدرى المستمد من أنوارك السنية وفي تهذيب شمائله أيضاح للخلق الكريمة الفارسية لا زالت تزدان بصحاح مآثرك عيون الأخبار وتتعطر بنفحة الزهر من ثنائك روضة الأزهار وتتلى من محامدك الآيات البينات وتتولى عليك الألطاف الإلهيات بمن الله وفضله. والسلام عليكم يعتمد المقام العلي ورحمة الله وبركاته. انتهى. وقد قال أبو عبد الله بن جزي المذكور رحمه الله عدة قطع يوري فيها بأسماء الكتب منها قوله:

ظبي وهو الكامل في حسنه ... وثغره أبهى من العقد جماله المشرق لكنها ... أخلاقه تحكي صبا نجد وقوله رحمه الله: لك الله من خل حباني برقعة ... حبتني من آياتها بالنوادر رسالة رمز في الجمال نهاية ... ذخيرة نظم أتحفت بالجواهر وقوله رحمه الله: قصتي في الهوى المدونة الكب ... رى وأخبار عشقي المبسوطة حجتي في الغرام واضحة إذ ... لم تزل مهجتي بوجد منوطة أقول: ما أبدع هذا الفصل الذي حبره هذا الحبر في فن التورية وشاهده على استحقاق مبرز عدل لا يحتاج إلى تركية. وتذكرت بهذه التورية بأسماء الكتب قول بعض الأكابر وأظنه الشيخ الكاتب أبا محمّد عبد المهيمن الحضرمي لأن الكاتب أبا إسحاق بن الحاج النميري رحمه الله قال حسبما وجدت بخطه ما نصه: أنشدني شيخنا الإمام أبو محمّد لنفسه: من أغتدي موطأ أكنافه ... صح له التمهيد في أحواله وقابل استذكاره بالمنتقي ... من رأيه المختار من أعماله وأضحت المسالك الحسنى له ... تدني تقصيا قصي آماله وسار من مشارق الأنوار في ... أدنى المدارك أو إلى إكماله

ثم قال أبو إسحاق بن الحاج المذكور: ولمّا وقف على ذلك صاحبنا الفاضل العالم أبو عليّ حُسَين بن صالح بن أبي دلامة أنشدني له هذه الأبيات وزاد ذكر القبس والمعلم: قل للموطأ للورى أكنافه ... بشرى بالتمهيد في الأحوال وإذا اكتفى بالمنتقي استذكاره ... وفي له المختار في الأعمال ومسالك الحسنى تؤديه إلى ... أقصى التقصي من قصي الآمال ويلوح من قبس الهداية رشده ... من معلم التفصيل والإجمال انتهى كلام ابن الحاج. ومن هذا المعنى قول الوزير أبي عبد الله بن الخطيب: وظبي لأوضاع الجمال مدرس ... عليم بأسرار المحاسن ماهر أرى جيده نص المحلى وقررت ... ثناياه ما ضمت صحاح الجواهر وقول ابن خاتمة: ومعطر الأنفاس يبسم دائما ... عن در ثغر زانه ترتيب من لم يشاهد منه عقد جواهر ... لم يعر ما التنقيح والتهذيب ومن قول ابن خاتمة أيضاً: سفهني عاذلي عليه ... وقال لي وده عليل فقلت معتل أو صحيح ... يودعه عينه الخليل

وقال بعضهم: حاز الجمال بصورة قمرية ... تجلو عليك مشارق الأنوار وحوى الكمال بسيرة عمرية ... تتلو عليك مناقب الأبرار ولنرجع إلى نظم ابن جزي فنقول: وانشد في الإحاطة لأبي عبد الله بن جزي المذكور: تلك الذؤابة ذبت من شوقي لها ... واللحظ يحميها بأي سلاح يا قلب فانج يوما إخالك ناجيا ... من فتنة الجعدي والسفاح وقوله رحمه الله تعالى: وعاشق صلى ومحرابه ... وجه غزال ظل يهواه قالوا تعبدت فقلت نعم ... تعبدا يفهم معناه وقوله رحمه الله: نصب الحبائل للورى بالحسن إذ ... رفع اللثام وذيله مجرور وأماله عني العواذل ضلة ... فهو المحال وقلبي المكسور وقوله رحمه الله: لا تعد صنفك إنْ ذهبت لصاحب ... تعتده لكن تخير وانتق أوما ترى الأشجار مهما ركبت ... إنْ خوالفت أصنافها لم تعلق انتهى.

ولنختم ما أوردنا من نظمه بقوله: أيتها النفس قفي عندما ... ألزمت فعلا كان أو قولا فمن يكن يرضى بما ساءه ... أو سره فهو له الأولى لا يترك العبد وما شاءه ... إلاّ إذا أهمله المولى وقوله رحمه الله: لولا ثلاث قد شغفت بحبها ... ما عفت في حوض المنية موردي وهي الرواية للحديث وكتبه ... والفقه فيه وذاك حسب المهتدي ولنعد إلى ذكر حازم فنقول: كان أبو حسن حازم والكاتب الفقيه المحدث أبو عبد الله بن الأبار فرسا رهان في ميدان الآداب وقد جمعها الزمان وتعلقهما من الدولة الحفصية بأهداب. وإذ قدمنا نبذة من أخبار أبي الحسن حازم فلا بأس أنْ نتبعها بمثلها من أخبار الإمام ابن الأبار. وهو الفقيه الأجل الكاتب الحافل الراوية المحدث الفاضل الناقد البارع الحافظ الكامل أبو عبد الله محمّد بن عبد الله القضاعي البلنهسي المعروف بابن الآبار. قال قاضي القضاة ولي الدين بن خلدون في تاريخه الكبير الموسوم بديوان العبر وكتاب المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي لسلطان الأكبر ما نصه:

الخبر عن مقتل ابن الأبار

الخبر عن مقتل ابن الأبار وسياقته الأولية: كان هذا الحافظ أبو عبد الله بن الأبار من مشيخة أهل بلنسية وكان علامة في الحديث ولسان العرب وبليغا في الترسيل والشعر وكتب عن السيد أبي عبد الله بن حفص بن عبد المؤمن ببلنسية ثم عن ابنه ثم دخل معه دار الحرب حين نزع به ثم كتب عن ابن مردنيش. ولما زحف الطاغية إلى بلنسية ونازلها، بعث زيان بوفد بلنسية وبيعتهم، إلى الأمير أبي زكريا، وكان فيهم ابن الأبار هذا الحافظ، فحضر مجلس السلطان، وأنشد قصيدته على روى السين يستصرخه، فبادر السلطان بإغاثتهم، وشحن الأساطيل بالمدد إليهم، من المال والأقوات والكسا، فوجدهم في عسرة الحصار، إلى أن تغلب الطاغية على بلنسية، ورجع ابن الأبار بأهله إلى تونس، غبطة بإقبال السلطان عليه، فنزل منه بخير مكان، ورشحه لكتب علامته في صدور رسائله ومكتوباته، فكتبها مدة، ثم إن السلطان أراد صرفها لأبى العباس الغسانى، لما كان يحسن كتابتها بالخط المشرقي، وكان آثر عنده من الخط المغربي، فسخط بن الأبار، أنفة من إيثار غيره عليه، وافتات على السلطان في وضعها في كتاب أمر بإنشائه، لقصور الترسيل يومئذ في الحضرة عليه، وأن يبقى مكان العلامة منه لواضعها. فجاهز بالرد، ووضعها استبدادا وأنفة؛ وعوتب على ذلك، فاستشاط غضبا، ورمى بالقلم، وأنشد متمثلا: اطلب العز في لظى وذر الذل ولو كان في جنان الخلود

فنمى ذلك إلى السلطان فأمر بلزومه بيته ثم استعتب السلطان بتأليف رفعه إليه عد فيه من عوتب من الكتاب وأنّب وسماه إعتاب الكتاب واستشفع المستنسر بالله فغفر السلطان له وأقل عثرته وأعاده إلى الكتابة ولمّا الأمير أبو زكريا رفعه المستنصر إلى حضور مجلسه مع الطبقة الذين كانوا الأندلس وأهل تونس. وكان في ابن الأبار أنفة وبأو وضيق خلق وكان يزرى على المستنصر في مباحثه ويستقصر مداركه فخشن له صدره مع ما كان يسخط به السلطان من تفضيل الأندلس وولاتها عليه. وكانت لابن أبى الحسين فيها سعاية لحقد قديم سببه أن ابن الأبار لما قدم في الأسطول من بلنسية نزل ببنزرت وخاطب ابن أبى الحسين بغرض رسالته ووصف أباه في عنوان مكتوبة بالمرحوم ونبه على ذلك فاستضحك وقال إن أبًا لا تعرف حياته من موته لأب خامل ونميت إلى ابن أبى الحسين فأسرها في نفسه ونصب له إلى أن حمل السلطان على إشخاصه إلى بجاية ثم رضى عنه واستقدمه ورجعه إلى مكانه من المجلس وعاد هو إلى مساءة السلطان بنزعاته إلى أن جرى في بعض الأيام ذكر مولد الواثق وساءل عنه السلطان بعض من حضره فاستبهم فغدا عليه ابن الأبار بتاريخ الولادة وطالعها فاتهم بتوقع المكروه للدولة والتربص بها كما كان أعداؤه يشيعون عنه بما كان ينظر في النجوم فتقبض عليه وبعث السلطان إلى داره فرفعت إليه كتبه أجمع وألفى في أثنائها -فيما زعموا- رقعة بأبيات أولها: طغا بتونس خلف ... سموه ظلما خليفه فاستشاط لها السلطان وأمر بامتحانه ثم بقتله فقتل قعصا بالرماح وسط محرم

من سنة ثمان وخمسون، يعني وست مائة. ثم أحرق شاوه، وسيقت مجلدات كتبه، وأوراق سماية ودواوينه، فأحرقت معه. انتهى كلام ابن خلدون. والقصيدة السينية التي أشار إليها ابن خلدون، كنت عزمت على ذكرها أوّل تراجم هذا الكتاب، حين ذكرت أمر الجزيرة، وأتيت بقصيدة صالح ابن شريف، فنسيت ذلك، حتى قضى الله به الآن؛ وهي من غرر القصائد الطنانة، وهذا نصها: أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إنَّ السبيل إلى منجاتها درسا وهب لها من عزيز النصر ما التمست ... فلم يزل منك عز النصر ملتمسا وحاش مما نعانيه حشاشتها ... فطالما ذاقت البلوى صباح مسا يا للجزيرة أضحى أهلها جزاراً ... للحوادث وأمسى جدها تعسا في كل شارقة إلمام بائقة ... يعود مأتمها عند العدا عرسا وكل غاربةٍ إجحاف نائبة ... تثنى الأمان حذار والسرور أسا تقاسم الروم لا نالت مقاسمهم ... ولا عقائلها المحجوبة الأنسا وفي بلنسة منها وقرطبة ... ما ينسف النفس أو ما ينزف النفسا مدائن حلها الإشراك مبتسما ... جذلان وارتحل الإيمان مبتئسا وصيرتها العوادي العابثات بها ... يستوحش الطرف منها ضعف فمن دساكر كانت دونها حرما ... ومن كنائس كانت يا للمساجد عادت للعدا بيعا ... وللنداء غدا لهفي عليها إلى استرجاع فائتها ... مدارساً للمثاني

وأربعا نمنمت أيدي الربيع لها ... ما شئت من ... موشيةٍ وكسا كانت حدائق للأحداق مونقةً ... فصوح النضر من أدواحها وكسا وحال ما حولها من منظر عجب ... يستجلس الركب أو يستركب الجُلسا سرعان ما عاث جيش الكفر واحربا ... عيث البا في مغانيها التي كبسا وابتز بزتها مما تحيفها ... تحيف الأسد الضاري لمّا افترسا فأين عيش جنيناه بها خضراً ... وأين غصن جنيناه بها سلسا حمى محاسنها طاغٍ أتيح لها ... ما نام عن هضمها حينا ولا نعسا ورج أرجاءها لمّا أجاط بها ... فغادر الشم من أعلامها خنسا خلا له الجو فامتدت يداه إلى ... إدراك ما لم تطأ رجلاه مختلسا وأكثر الزعم بالتثليث منفردا ... ولو رأى راية التوحيد ما نبسا صل حبلها أيها الملى الرحيم فما ... أبقى المراس لها حبلا ولا مرسا وأحي ما طمست منها العداة كما ... أحييت من دعوة المهدي ما طمسا أيام سرت لنصر الحق مستبقا ... وبت من نور ذاك الهدى مقتبسا وقمت فيها بأمر الله منتصرا ... كالصارم اهتز أو كالعارض انبجسا تمحو الذي كتب التجسيم من ظلم ... والصبح ماحية أنواره الغلسا وتقضي الملك الجبار مهجته ... يوم الوغى جهرة لا ترقب الخلسا هذي رسائلها تدعوك من كثبٍ ... وأنت أفضل مرجو لمن يئسا فتك جارية بالنجح راجيةً ... منك الأمير الرضا والسيد الندسا ..سبحت والريح عاتية ... كما طلبت بأقصى شدة الفرسا ... عبد الله الواحد بن أبي ... حفص مقبلة من تربة القدسا

ملك تقلدت الأملاك طاعته ... ديناً ودنيا فغشها الرضا لبسا من كل غادٍ على يمناه متسلما ... وكل صادٍ إلى نعماه ماتمسا مؤيد لو رمى نجمها لأثبته ... ولو دعا أفقا لبى وما احتبسا تالله إنَّ الذي ترجى السعود له ... ما جال في خلد يوما ولا هجسا إمارة يحمل المقدار رايتها ... ودوللة عزها يستصحب القعسا يبدي النهار بها من ضوئه شنباً ... ويطلع الليل من ظلماته لعسا ماضي العزيمة والأيام قد نكلت ... طلق المحيا ووجه الدهر قد عبسا كأنه البدر والعلياء هالته ... تحف من حوله شهب القنا حرسا تدبيره وضع الدنيا وما وسعت ... وعرف معروفه واسى الورى وأسا قامت على العدل والإحسان دولته ... وأنشرت من وجود الجود ما رمسا مبارك هديته بادٍ سكينته ... ما قام إلاّ إلى حسنى ولا جلسا قد نور الله بالتقوى بصيرته ... فما يبالي طروق الخطب ملتبسا برى العصاة وراش الطائعين فقل ... في الليث مفترسا والغيث مرتجسا ولم يغادر على سهل ولا جبل ... حيا لقاحاً إذا وفيته بخسا ... أصيد لا تلقي به صيداً ... ورب أشوس لا تلقي له شوسا ..... والملوك معاً ... في نبعة أثمرت للمجد ما غرسا ........ وصان صيغته أنْ......

فظل يوطن من أرجائها حرما ... وبات يوقد من أضوائها قبسا بشرى لعبد إلى الباب الكريم حدا ... آماله ومن العذب المعين حسا كأنما يمتطي واليمين يصحبه ... من البحار طريقا نحوه يبسا فاستقبل السعد وضاحا اسرته ... من صفحة فاض منها النور وانعكسا وقبل الجود طفاحا غواربه ... من راحة غاص فيها البحر وانغمسا يا أيها الملك المنصور أنت لها ... علياء توسع أعداء الهدى تعسا وقد تواترت الأنباء أنك من ... يحيى بقتل ملوك الصفر أندلسا طهر بلادك منهم إنهم نجس ... ولا طهارة ما لم نغسل النجسا تنبيه: " نغسل النجسا " هكذا ثبت بالنون كما رأيته في بعض النسخ العتيقة وهو أصوب مما وقع بخط بعضهم بالتاء لأن مثله لا يصلح للمخاطبات السلطانية ولم يشتهر عند أكثر الناس إلاّ بالتاء والصواب ما قدمته من أنه بالنون والله اعلم. وأوطئ الفليق الجرار أرضهم ... حتى يطأطئ رأسا كل من رأسا وانصر عبيد بأقصى شرقها شرقت ... عيونهم أدمعا تهمي هم شيعة الأمر وهي الدار قد نهكت ... داء

وذكر غير واحد أنَّه دخل مرة على المستنصر بالله الحفصي فلما مثل بين يديه آنسه بإقباله أو سؤاله فأنشده الحافظ رحمه الله: بشرى باشرت الهدى والنورا ... بلقاني المستنصر المنصورا فإذا أمير المؤمنين لقيته ... لم ألق إلاّ نضرة وسرورا ومن بديع نثره رحمه الله رسالته الحافلة التي كتب بها للمستنصرو هي الرسالة الغريبة مساقا المتلألئة نظما واتساقا التي لم ينسج على منوالها ولم يأت أحد بمثالها يصف وصول الماء إلى تونس ويشير في ذلك إلى إشارات عجيبة تدل على أنَّ قريحته الوقادة لداعي الإجابة مجيبه وهي: الحمد لله حمدا لا نقلله. هذا الزمان الذي كنا نؤمله " بلدة طيبة ورب غفور " ودولة مباركة لمحاسنها سفور. إلى أبي حفص آلوا فهل جالت النجوم حيث جالوا أو نالت الملوك بعض ما نالوا ملك يشتمل الإقبال وعز يقلقل الأجيال وكرم صريح الانتماء في النماء وشرف سمت ذوائبه على السماء إلى عدل وإحسان هما قوام نوع الإنسان مع رفق واسجاح ضمنا كل فوز ونجاح فقد آضت الظلماء أنوارا وفاضت البركات أنجادا وأغوارا أليس العام ربيعا والعالم جميعا والسعود طالعة والعصور طائلة مصالح الأعمال تحليها وعلى منصات الكمال تجليها فمن ذا أيّها المولى يجاريك إلى مدى أو يباريك في إقدام صادق وندى وآياتك للأبصار هدى وحياتك للكفر ردى بسيرتك عدل الدهر وما جار ولولا نور غرتك ما أنار لقد حسنت بك الأوقات حتى كأنك في فم الزمن ابتسام أعرقت في المجد والعليا وعنيت بالدين فعنت لك الدنيا

أي عنيد أو عميد ما ألقى باليد واتقى في اليوم عاقبة الغد إصفاقا على التعوض بصفحك واسعادك وإشفاقا من التعرض لصفاحك وصعادك تعمر بالحسنات آناءك وتتبع في القربات آباءك بانيا كما بنوا بل زائدا على ما أتوا وباديا من حيث انتهوا: أناس من التوحيد صيغت نفوسهم ... فزرهم تر التوحيد شخصا مركبا ومن ساكبات المزن فيض أكفهم ... فردهم ترى ماء الغمام وأعذبا أمجاد أجواد في الحباء بحار وفي الحبا أطواد تقيل أبو زكريا نهج أبي محمّد وأيدا جميعا بأبي حفص المؤيد: نسب كأن عليه من شمس الضحى ... نورا ومن فلق الصباح عمودا أولئك صفوة الأئمة وحفظة الأذمة والقائمون دون الأمة في الحوادث الدلهمة وهذه الدولة المحمدية الخالدية بمكانها الدعوة المهدية إليها انتهت المراشد وعليها التفت المحامد وبها اعتزت حين اعتزت العناصر والمحاتد ومن خصائصها انفعال الوجود ومن مراسمها الإيثار بالموجود والبدار إلى إغاثة الملهوف وإعانة المنجود ما برحت للخيرات إيضاعها وخبها وبالصالحات غرامها وحبها حتى لقد فهمت أسرارها وأودعت أنوارها وكلفت أو كفلت إفشاءها وإظهارها يمينا أنْ يمين الحق به طولي وللآخرة خير لها من الأولى بمولانا أيده الله عز مكانها وخلدت سديدة آثارها شديدة أركانها لا جرم أنَّه الطاهر كالماء الذي جلبه للطهارة والظاهر ولاء ولواء في مصعد الخلافة ومقعد الإمارة بالسعادة الأبدية وجدة وكلفة وما همة إلاّ تجاوز ما أسلفه سلفه فجر من الأرض ينبوعا وجدد للجدوى رسوما عافية وربوعا ساحتها الحرم وهو زمزم قصاده وحجاجه وراحته البحر الخضم غير

رجع إلى كلام ابن الآبار

طعمه وارتجاجه ما أظهره خلالا وأبهره جلالا " هكذا هكذا وإلاّ فلا لا " غابت كماة المعارك وشهد ونامت ولاة الممالك وسهد فمتى قسطوا أقسط وإذا غورا أنبط ولذلك ما أبطل عمله أعمالهم غلبهم على صفتي الندى والباس وسلبهم منقبتي حمزة والعباس. قال جامع هذا المصنف: أشار الإمام ابن الأبار بقوله: " منقبتي حمزة والعباس " إلى شجالعة حمزة الشهير الذكر وثباته الذي يجعل عن الفكر وإلى استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما فأتى من الحيا ما عم بالحيا وهمر من الماء ما شفي بعميم الإرواء نفوس الظماء الله اعلم. رجع إلى كلام ابن الآبار فلا غزو أنَّ من أمن ووقي ثم لمّا كسا وأطعم سقي آية نعمتي وفت بالميعاد وحسني مثلها يعود للمعاد وأتت بماء معين قد أصبح غورا وملأت ما بين لابتيها جنانا ترف ظلا وترق نورا فيا بشرى لتونس أخصب جديبها وأحسن وصف الروض والغدير أديبها وطالما أطلعت صحراء بل بغضاء فكم للإمارة قبلها من يد بيضاء غشيت حبر الحبور والسرور وعوضت برد الظل من وهج الحرور خمائل وجداول تزاول منها العين ما تزاول تلك يضل من أحصاها وهذه يصل بها حصاها ويا لقصرها السعيد نعمت أدواحه وهبت على خضر الأغصان وزرق الغدران أرواحها هذا وإنْ بات السماح المفاض يسقيه والجود الفضفاض ينقع فؤاده ويشفيه وهنيئا للمسجد الجامع أنْ رويت جوانحه الصاديه وجمعت في شرعته السارية والغادية

فها هو فجره بادي الغرر والأوضاح وصخره منبجس بالزلال القراح وللجمهور بصفوه المنساب لهج الغياب بالإياب وطرد الشيب لذكر الشباب أمسوا قد سوغوا مآربهم وأضحوا قد علم كل أناس مشربهم فهم يردون على العذب النمير ويجدون بركة رأي الأمير مكرمة ذخرها لسلطانه الزمانو كرامة هنأها به الإيمان وقضية إنْ حجبت عن داود فما حجب عنها سليمان: جمعت للناس بين الري والشبع ... فهم بأخصب مصطاف ومرتبع ولم تدع كرما إلاّ أتيت به ... تضيف مبتدعا لمبتدع لمّا وليت خلعت الخير أجمعه ... عليهم فبدوا في أجمل الخلع لله أيامك استوفت محاسنها ... فلا فضيلة للأعياد والجمع ذامت مساعيك والأقدار تسعدها ... تولي المساجد إنصافا من البيع اللهم إنَّ الإيالة الحفصية قد أعليت مظاهرها نصرت معاشرها وقصرت على المصالح الدينية والدنيوية مواردها ومصادرها ثم اصطفيت من شرف بيتها الصراح ومعدن سوددها الوضاح مولانا الأمير الأجل المؤيد البارك أبا عبد الله فانتضيته حساما في يدك قائمه وارتضيته إماما لا تلين في ذاتك صرائمه ولا يلحق شأوه في النيل من عداتك رائمه يمضي بأساحين لامضاء للحسام العضب ويهمي جودا والسماء في أزر من نجيع الجدب ينتدب سعيا لكل حسنى أعيت على القريع الندب. فاقض اللهم لسلطانه بتأييد وأدم بأيامه المباركة نعمة التمهيد وضاعف عزة جانبه بأعزازه كملة التوحيد. واجزه اللهم أفضل الجزاء عن

إفاضة النعماء وإنارة الظلماء وكافئه عن نقل الغلل والأظماء بما فجر من ينابيع الماء وكما شرفته فعله في الأفعال واسمه في الأسماء فاجعله في الدنيا داعيا إلى سبيلك وفي الأخرة هاديا إلى حوض رسولك صلى الله عليه وسلم الذي آتيته بعدد نجوم السماء. آمينَ آمين والسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. ومن بديع ما كتب به مخاطبا رئيس منورقة سعيد بن حكم القرشي رحمه الله تعالى: إنَّ سعيد بن حكم ... صنو العلا نجل الكرام رآسة بمثلها ... يفاخر السيف القلم وسودد مجموعة ... فيه محاسن الشيم معتمد من شأنه ... رعي العهود والذمم فاتحني ممهدا ... إلى جوابه القلم عادة ندب أروع ... خص ببره وعم فشكره في كل حا ... لٍ ومنال ملتزم حيا الحيا حضرته ... وجادها ثر الديم اقتضيتها أيّها السيد الأعظم والسند الأعصم أبقاه الله وجنابه محفود ومنابه محمود وجزبه مودود وشربه مورود ورواق السعادة والنضرة المفادة فوقه ممدود من دانيه كلأها الله تعالى والوقت مضايق والرعب ملازم لا يفارق وأنا بسيادته الأصيلة دائم الاعتداد وعلى عنايته الجميلة قاصر الاعتماد والله

يبقيه كاسمه سعيدا ويسميه مبدئا في المعلوات ومعيدا بمنه. ووصلني وصل الله حراسته وكلا من الغير والغيل رياسته مخاطبته الكريمة الخطيرة مشرفة بالسؤال عن خاص الأحوال ومنفيه بما تضمنت من الاعتناء والبر المتوافر الأجزاء على الأماني البعيدة والآمال فلثمت سطورها قياما بحقه الأكبر ولزمت من شكره ما لا أقصر عنه بمشيئة الله تعالى ولا أقصر وكان الظن بناديه الأشرف جميلا فقد عاد يقينا والأمل فيه متينا فعاد مبينا ويعلم الله سبحانه أني أعطر بذكره الأمكنة وأزكي بشكره الأزمنة وبودي لو ركبت ثبج هذا البحر حتى أوفيه بعض واجبه وأشافهه بما أجنح إليه وأنطوى عليه من اعتماد جانبه واحماد مقاصده الرياسية ومذاهبه وقد حملت فلانا عصمه الله ويسر مرامه وأدام حفظه وإكرامه من جمل الإعظام ما يؤديه مفسرا وأفهمته أني كاتبت معتقدا خالصا ومضمرا وإنْ تفضل سيدي الأعلى حرسه الله بتكليف بعض أعراضه الكريمة شفع يده البيضاء بمثلها واستزاد معلوة لم يزل من أهلها وما يصدر عن الجانب الرياسي أسماه الله من الألتفات إليه والاعتماد عليه فإنه معدود بره الجسيم ويد من أياديه التي أعيت على التعديد والتقسيم والله يعلى محله ويسعد عقده وحله ويسوغه من مورد الإسعاد في حالتي الإصدار والإيراد أعلاه وأجله ويصل حراسته ويؤيد رياسته بمنه وكرمه. والسلام الكريم المبارك العميم يخص به مقامه الأظهر ملتزم إكباره وإجلاله المعتد بتمامه في السيادة وكماله محمّد بن عبد الله بن أبي بكر من الأبار ورحمة الله تعالى وبركاته.

وكتب له أيضاً شافعا ومعتنيا. تعتمد رياستكم المؤملة وسيادتكم المؤثلة تحية الشاكر لاعتنائها المباهي بسناها الوضاح وسنائها المستديم للأحرار والممتطين إليها أثباج البحار شرف عنائها وكرم غنائها محمّد بن الآبار ولا مزيد على ما عنده من إعظام يؤدي وظائفه واعتداد يشفع بتالده طارفه وثناء يعاطيه أولياء جلالكم ومعارفه والله يصعد مكانكم ويسعد زمانكم بمنه وكرمه. وتتأدى إلى رياستكم حفظها الله في جانب أبي فلان أعزه الله وبلغه أبعد أمله وأقصاه وهو من علمتم مكان بيته النبيه من حيه وسبب نزوحه عن وطنه المحبب ونأيه واستحقاقه بالمزايا المعلومة والسجايا الكريمة لإجزال حفظه ورعيه وما زال لكمالكم واصفا وعلى تعظيم جانبكم والإفصاح بواجبكم عاكفا إمضاء لمّا أكد بينكم وبينه سالف الأيام وتمييزا بحفظ الود الذي يحفظه غير الكرام. ومن مطالبي به حمله من التكرمة والتقدمة على النهج الأقوم وإنزاله من جلالكم هنا وهنالكم منزلة المحب المكرم وتوصيته المخصوص بالفارة في أشغالكم المباركة بأن يستصحبه عند الإياب ويورده محفوظ الجانب على ذلكم الجانب واختصاصه مع ذلكم بمخاطبة كريمة ترفعه مكانا عليا ويكون لمّا يرد عليه ويخلص بمشيئة الله إليه عنوانا جليا ومجدكم حرسه الله يغتفر جناية الإذلال ويبلغ نهاية الآمال والله يبقى رياستكم تجبر الكسير وتيسر المرام والعسير وهو سبحانه يؤيد مقامكم ويكافئ إنعامكم بمنه.

رجع إلى كلام ابن الآبار

والسلام الكريم المبارك العميم يعتمد محلكم الرياسي بدءا وعودا ورحمة الله تعالى وبركاته. وكتب يهنئ الفقيه الأجل القاضي أبا المطرف بن عمير بولايته قضاء شاطبة: بأي بنان أم بأي بيان ... تخط وتملى شكرها الملوان لولاية عقد لواءها الوجوب وأسفر وجه محاسنها المحجوب فأشرق لألاء محيها وتعاطى الأولياء حميها فما شئت من جذلان يحبر شكرا ونشوان يجهر سكرا يترنم كالشادي الباغم ويترنح كالغصن الناعم وكلا أصلح الله قاضينا الأعلى لا نكر على من يصف حالة السكر وإنْ تناهى طربا وقضى من رفض الأناء أربا فالمرتاح لا يتماسك ولا يتمالك والارتياح لا يهلك أحدا على راحه يتهاك لا جرم أنه تسمو به الجدود وتدرأ عنه بالشبهات الحدود ويا أيها المولى أشرف الخطط الضيق من عادي جلاله وخالدي جلاله أرحب الخطط. قال جامع هذا الموضوع أحمد بن محمّد المقري وفقه الله: أشار ابن الآبار بقوله: " وخالدي خلاله " إلى إنَّ أبا المطرف من ولد خالد بن الوليد رضي الله عنه فاعلم ذلك. رجع إلى كلام ابن الآبار ما نبأ تهاداه النجد الغور واقتسم الحياة والموت به العدل والجور سوغ المجد المنيف نطافه وهز له الدين الحنيف أعطافه حين قر الحكم الشرعي في نصابه وشفي من آلامه وأوصابه وأرغم المناصب لذلك بنصبه

وانتصابه وسر معلم العلم فأساريره متهلله وسل حسام الحق فأبطال الباطل متسللة سنان الشرع فكل معتد بالجهالة معتدل وهب نسيم المهابة فكل معتز للسفاهة معتزل أما وخطة خطبت منك أكفى أكفائها وأقرت عين الهدى بتعيينها لك وهدائها لقد عصبت بقاض يسعى للقوم ويسعد ونيطت بماض ينهض في ذات الله وينهد ولا عجب أنْ آثرت جلاله واعتمدت خلاله فلم تك تصلح إلاّ له فهنيئا لها ما ألبست من شرف خالد وأنْ حرست بأقلام ابن سيف الله الخالد ويقال لبلدة وطئ تربتها وبوئ رتبتها ما أخصب عيشتها وأرغدها وأسعد يومها وغدها وماذا بها من دين ودنيا ومجد وعليا إذ جمعت المهاجرين إلى الأنصار وأطلعت محامدها ومحاسنها ملء الأسماع والأبصار لا زالت حوزتها تحوز الأكابر وإمرتها تعز عزتها المكابر ودام عمادنا المفضل وعهادنا المخضل بين ولي شاكر حامد وعدو كاشر حاقد ينزل الرتب المنيفة ويطول به مالك أبا حنيفة والله ينهضه بما تقلد ويخلد مجده الأولى بأن يخلد. والسلام الأتم الأكمل يخصه كثيرا ورحمة الله تعالى وبركاته. وكتب رحمه الله تعالى إلى رئيس شاطبة أبي الحسين بن عيسى شافعا في فكان أسير وتيسير عسير: كتبته إلى سيدي حرس الله شرفه العبادي وكلأ كنفه السيادي ولا مزيد على ما عندي من الإعظام لرفيع جانبه والقيام بكبير واجبه والله يحفظ شرف بيته العتيق وحديث قديمه الفائت بطيبه المسك الفتيت الفتيق ومؤديه فلان أدام الله حفظه وعصمته وأتم عليه إحسانه ونعمته والمذكور

يمت إليكم بقديم الإخلاص، ويرغب أنْ ينظم لديكم في أهل الإخلاص؛ وقد بلغكم ما نابه من غير الدهر وبوبه، وكيف نشب في حبالة الأشرار الذي أتى على نشبه؛ وعلمكم بنباهة بيته أغنى عن التنبيه عليه، وفضلكم كفيل بتسيب الإحسان إليه؛ وقد وثق بسعيكم الكريم في جبر كسره، وأمل سيادتكم للتهممبأمره، والتصرف فيما يصرف عليه بعض ما بذل في خلاصه من أسره؛ ومثلكم اصطنع أمثاله، وآثر فيما يليق بنباهته استعماله؛ والله يعلي شأنكم، ويحرس مكانكم والسلام. وكتب أيضاً شافعا بما نصه: تلك السجايا العذاب، والكرم اللباب، والساحة التي ألبسها جدته الشباب؛ مخصوصة بتحية التوقير والتكبير المعبرة أنفاسها العبقة عن العبير. ومنهيها من زان قومه الأمر والنهي وحسم قضاؤهم وعطاؤهم الوهن والوهي؛ فلان، جمع الله له بين الأوطار والأوطان، وأعاده إلى عادته من عزة الجوانب وشدة الأركان؛ وهو كريمة كرام، آلت بعدهم الأيام، وشكا فقدهم الأنام، والبست الحداد عليهن الأسياف الحداد والأقلام؛ وما بانوا إلاّ وأياديهم أطواق في الرقاب، وتشريفهم باق في الأعقاب، على مر الأحقاب. وهذا فلان عرفه الله إسعاد الأقدار، وأعفى مشاربه ومشاعره من الأكدار؛ يروق وقاره ويكرم سباره وعينه فراره؛ وأدنى حلاه الطلب، وبعض خصائصه الأدب؛ ثم شأنه الأخطر شانه ومكانه من حيه الذي يتقدم الأحياء مكانه؛ ورأى عند أخذه في النقلة، وعزمه على الرحلة؛ أنْ يستصحب إلى

مجدكم هذه الحروف، ويستدفع بمعلوم جدكم الصروف؛ وإنْ تأملتم ماله من سمت وسيما، أقبلتموه وجه الإقبال وسيما؛ وأوليتموه من رعي الحق الواجب، ما يراه ضرباؤكم ضربة لازب؛ والله يبقيكم للمكارم تشيدون رسومها الدائرة، وتنظمون عقودها المتناثرة؛ وهو تعالي يكلأ محلكم الرحيب، ولا يعدمكم من الزمان وأهله الترجيب والترحيب، والسلام. ومن نظمه رح قوله في المجبنات: بنفسي مثلجات للصدور ... لها سمتان من نار ونورِ حوامل وهي أبكار عذارى ... تزف على الأكف مع البكورِ كبرد الطل حين تذلق طعماً ... وفي أحشائها وهج الحرورِ لها حالان بين قم وكفٍ ... إذا وافتك رائعة السفورِ فتغرب كالأهلة في لهاة ... وتطلع في يمين كالبدورِ وقوله يشكو الزمان: تحيف حالتي حيف الزمان ... وصدق اليأس من كذب الأماني وبرت في أليتها الليالي ... بترويعي فإني بالأمانِ أما قنعت وقد كلفت بهضمي ... وضيمي دون ابناء البيانِ أحاول أنْ أقوم لمّا يواتي ... فتقعدني الخطوب بلا تواني وأطباق الثرى بالحر أحرى ... إذا ألفى الثراء من الهوانِ فهل من آخذ بيدي أخيذٍ ... بعين الله شدة ما يعاني

أيا يا أشتكيه من أيامي ... عوار في يد البلوى عواني وما أبلغي على تلفي دليلا ... كفاني إنني حي كفاني وقوله أيضاً: يعيرني قومي بجفوة سلطاني ... ويشفيهم شكوى بنبوة أوطاني يرون خمولا عطلتي لتوقفي ... وتلك محض النباهة برهاني وقالوا خفوف قلت لا بل رجاحة ... كفتني إلقاء بكفي لإذعان إذا عهدوني للنزاهة راكبا ... فصعب الأسى وإنَّ هدأركاني وقوله أيضاً رحمه الله: علت سني وقدري في انخفاض ... وحكم الرب في المربوب ماض إلى كم اسخط الأقدار حتى ... كأني لم أكن يوما براضي وقال أيضاً في معنى التسليم للمقدور: أما إنَّه قد خط في اللوح ما خطا ... فلا تعتقد للدهر جوراً ولا قسطا ولا تسخط المقدور وأرض بما جرى ... عليك به إنَّ الرضا يفضل السخطا وقال أيضاً رحمه الله في معناه: إلام في حل وفي ربط ... تخبط جهلا أيما خبط! دع الورى وارج إله الورى ... فأنه ذو القبض والبسط ليس لمّا يعطيه من مانع ... ولا لمّا بمنع من معطي

وقال رحمه الله معارضا للرصافي في أبياته التي أولها: " ومهذب الشطين تحسب أنَّه " بقوله: ونهر كما ذابت سبائك فضة ... حكى بمحانيه انعطاف الأراقم إذا الشفق استولى عليه احمراره ... تبدى خضيبا مثل دامي الصوارم وتحسبه سنت عليه مفاضة ... لإرهاب هبت الرياح النواسم وتطلعه في دكنة بعد زرقه ... ظلال لأدواح عليه نواعم كما انفجرت المطل على الدجى ... ومن دونه في الأفق سحم الغمائم وقال أيضاً في معناه: سقيا لروض ردته رأد الضحا ... وحمامه طربا يناغي البلبلا شتى محاسنه فمن زهر على ... نهر يسيل كالحباب تسلسلا وكأنما حمى الربيع لقطفه ... واستل منه يذود عنه منصلا غربت به شمس الظهيرة لا تني ... إحراق صفحته لهيبا مشعلا حتى كساه الدوح من أفيائه ... بردا تمزق بالأصائل هلهلا وكأنما لمع الظلال بمتنه ... قطع الدماء جمدن حين تخللا وقال في معناه أيضاً: لله نهر كالحباب ... ترقيشه سامي الحباب يصف السماء صفاؤه ... فحصاه بذي احتجاب وكأنما هو رقة ... من خالص الورق المذاب

غازلت في شطيه أبكار المنى عصر الشباب والظل يبدو فوقه ... كالخال في خد الكعاب لا بل أدار عليه خو ... ف الشمس منه كالنقاب مثل المجرة جر فيها ... ذيله جر السحاب وقال في تمثال نعل النبي صلى الله عليه وسلم من قصيدة: سجام لعمري أدمع وسجال ... لأن عز من نعل الرسول مثال وهل يملك العينين في مثلها سوى ... خلى عداه عن هداه ضلال ومنها: مثال إلى نعل المطهر يعتزى ... فإعزازه للحسنين منال أقبله شوقا تملكي لمّا ... حكي وشهيدي لو يفوه قبال وإلى اشتراك مما عقدت به الهوة فلا صح عزمي إنَّ صحا لي بال مرادي من تمويغ شيبي عليه أنَّ ... تسح من الرحمى على سجال ومن وضعه بحظى من جوار محمّد ... وهل بعد تنويل الجوار نوال وله في ذلك المعنى أيضاً رحمه الله: لمثال نعل المصطفى أصفي الهوى ... وأرى السلو خطيئة لن تغفرا وإذا أصافحه وأمسح لائما ... أركانه فمعززا وموقرا سرى أعتزازي في جهاز تذللي ... لجلاله أثراً بقلبي أثرا

إنَّ شاقني ذاك المثال فطالما ... شاق المحب الطيف يطرق في الكرى لي أسوة في العاشقين وقصدهم ... لثم الطلول لأهلهن تذكرا وبكائهم تلك المعاهد ضلة ... تحت الظلام على الغرام توفرا أفلا أمرغ فيه شيبي راشدا ... وأريق دمعي وسطه مستبصرا ثقة بإثرائي من الخيرات في ... شغفي بنعلي خير من وطي الثرى وقال في التشوق إلى الضريح الشريف على الدفين به صلوات الله وسلامه: وحللت أطيب طينة من طيبة ... جارا لمن أوصي بحفظ الجار حيث استبان الحق للأبصار ... لمّا استثار حفائظ الأنصار يا زائرين القبر قبر محمّد ... بشرى لكم بالسبق في الزوار أوضعتم لنجاتكم فوضعتم ... ما آدكم من فادح من فادح الأوزار فوزوا بسبقكم وفوهوا بالذي حملتكم شوقا إلى المختار أودا السلام سلمتم وبرده ... أرجو الإجارة من ورود النار استطراد لمّا قيل في نعل النبي صلى الله عليه وسلم: قلت: وإذ جرى ذكر النعل النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، فلا بد أنَّ نورد جملة مما قيل في مثالها على جهة التبرك، والتوصل بصاحبها إلى الله سبحانه، أنَّ يفرج عنا بجاهه كرب الدنيا والآخرة، وأنَّ يجعلنا من الذين حازوا الرتب الفاخرة، وظفروا بالمقام الأسني، وفازوا بالزيادة والحسنى.

فمن ذلك قول الشيخ أبي عبد الله محمّد بن فرج، مخمسا لأبيات الإمام الشهير أبي الربيع بن سالم الكلاعي، رحمه الله، التي على رويها وقافيتها سلك ابن الآبار، رحمه الله، في الأبيات المذكورة آنفاً: خبال عرا ما إنَّ جناه سوى النوى نوى من نوى من كشف بلوى ما نوى فيا منكر ما قد عراني في الهوى خواطر ذي البلوى عوامر بالجوى ... ففي كل يوم يعتريه خبال سمعت اسمه الأعلى الشريف المشرفا فحيلتنني يعقوب ذكر يوسفا ومن شيم الصب المتيم ذي الوفا متى يدع داعٍ باسم محبوبه هفا ... فيهتاج بلبال ويكسف بال رعى الله صبا بالهوى نفسه سمت له آية في الحب بالكتم أحكمت فما لم ير من آثاره أثراً همت ... له من غروب المقتلين سحال فيا نفسي الجالي دجاها هلالها أما أنَّه نور البدور كمالها ألا فاعذري نفسا تحن فحالها كحاكي وقد أبصرت نعلا مثالها ... لنعل الرسول الهاشمي مثال ويا أيها الراني إلى مفندا وقد كدت لولا نهى حبي لأسجدا

هوى وجدي إنْ يبل دهر تجددا " عراني ما يعرو المحب إذا بدا ... لعينيه من مغنى الأحبة آل " ذكرت به عصراً مضى ومعاهدا فنوديت من نفس نداءً مساعدا وحدت فعاود لثمه تدع واجدا " فقبلت في ذاك المثال معاودا ... أرى أنَّ ذلي في هواه جلال " وشبهته صفحا ونفحا حديقةً مفتحة الأزهار غنا أنيقة شقتها غوادٍ قد غدون غديقة " ومثلته نعل الرسول حقيقة ... وإني لأدري أنَّ ذاك محال " فيا جاهلا داء المحبين والدوا غويت ولا تدري فلا كان من غوى أتنكر لثم المثل في حالة النوى " ومن سنة العشاق أنْ يبعث الهوى ... مثال ويقتاد الغرام خيال " تساوت معاني الحب في كل مقصد فمن مقلة عبرى وجفن مسهد وبرح وتهيام وشوق مجدد " فلا فرق إلاّ أنَّ حب محمّد ... هدى والهوى فبمن عداه ضلال " انتهى.

قافية الهمزة

ولمحمد بن فرج المذكور عفا الله عنه، وتقبل بكرمه ورحمته منه؛ قطع على حروف المعجم، في لزوم؛ وسماها بالقطع المخمسة، في مدح النعال المقدسة. قال رحمه الله حسبما نقلت من خطه: وآثرت التخميس على التعشير، ليكون أسرع لحفظها، وأبرع للفظها؛ وأيضاً فوجود خمس من القوافي في نظم لزومي أو نثر، أهون على الفكر من وجود عشر. هذا وإنْ كان اللسان العربي فصيحاً فسيحاً لا يضيق، ولا يكاد يخرج عنه لسان كل فريق؛ ليس من شرط المطالعة، أنْ يحفظ الغريب من الكلام كل من طالعه؛ والله سبحانه أسأل أنْ يجعلها من القربات التي تنفع، والوسائل التي تشفع، والتمائم التي تذود كل سوء في الدارين وتدفع، وصلى الله على الشفيع المشفع؛ وسلم تسليماً، من آفة الانفصال سليما. قافية الهمزة أتمثال نعل كان يلبسها الذي ... إذا عدت الأرسال ليس له كفء أبو القاسم الأسمى الذي وطى السما ... بأخمصه ليلا فشرفها الوطء أقبل في طرسٍ حواك كأنني ... عليل وفي تقبيل شكلك لي البرء أنا المرء بالآثار ممن هويته ... قنعت وقد يخطي إذا قنع المرء أأحمد لا يهوى الفؤاد سواك ما ... تقدم عود الشيء في الرتبة البدء قافية الباء بنفسي مثال النعل محمدٍ ... نبي الهدى المخصوص بالقرب والحب

قافية التاء

بدا لي فكان البدر جاي بنوره ... غياهب أشجان تاكمن في قلبي بكت مقلتي شوقاً للابسها وهل ... بمطمئنةٍ نار الأسى دمعه الصبِ بعثت به شخصاً من الأنس ميتاً ... فبشرني بالقرب منه على قربِ بموطئها قد شرف الله تربة ... عليها مشت فالتبر يحسد للتربِ قافية التاء تلوت وقد أبصر مثلاً لنعل من ... تميز بالوصف الشريف وبالنعتِ ترفعت من نعلٍ بأخمص مرسلٍ ... قد انقذ من شر الطواغيت والجبتِ تقدست الأرض التي قد مشى بها ... عليها فصار الفوق يغبط للتحتِ تمنيت لو إني ظفرت بتربها ... فمرغت فيه الخد للحين والوقتِ تمنى صبٍ عاشق دنفٍ جوٍ ... معنى كئيبٍ حفظ ذى الستِ قافية الثاء ثمار الأماني قد جنى الطرف إذا رأى ... مثال نعال المصطفى من أولى البعثِ ثراها ومن أعلاه طاب نسيمه ... وما أنا في هذي اليمين بذي حنثِ ثريا السما ودت لتنقل بالثرى ... إليك فلم تنقل فهاهن في بثِ ثويت به يا طيب فهو كمسكةٍ يفرق ... شذاها المسك في الطيب والمكثِ ثوابي يا من شرفت بلباسه ... على مدحها تأمين خوفي في البعثِ قافية الجيم جللت أيا نعلاً بأخمص سيدٍ ... إلى حضرة لاقدس العلية عاجِ

قافية الحاء

جبلت على حبٍ له فمتى بدا ... من آثاره شيء تنور لواعجي جنى الأنف منهت زهر روض إذا انبرى ... نسيم شذاه بذلك عرف النوافجِ جبرت به صدعاً جناه الهوى وما ... شفيت بغنج الخود ذات الدمالجِ جزى الله عني القلب خيراً فانه ... تعلق بالهادي لأهدى المناهجِ قافية الحاء حظيت أيا نعلاً بأخمص مرسلٍ ... قد انزل رب العرش فيه ألم نشرحْ حللت بساط القدس حين عروجه ... ليوضح في المسرى له الله ما أوضحْ حلفت: لأرض قد وطئت ترابها ... لكالمسك مفضوضاً أما أنَّه أفوحْ حللت نطاق الكتم لمّا رايتها ... فصرح من حبي اللسان بما صرحْ حبيبي الرسول المصطفى ومن اجله ... مدحت لنعليه وحق بأن أمدحْ قافية الخاء خذيها أيا نفسي المشوقة كلما ... سرى نفس ممن هواي به بذخْ خميلة شِعرٍ أودعت مدح نعل من ... بشرعته كل الشرائع قد نسخْ خضبت نصال الشيب لمّا رأيتها ... بدمع محب عقد كتمانه فسخْ خطاها أفاد الأرض زهوا فأنفها ... على قمم الشهب المنيفة قد شمخْ خصصت أيا نعلاً بأجلى مزية ... تبين لمن في العلم أخمصه رسخْ قافية الدال دع الطرف يسرح في رياضٍ تزينت ... بمدح نعاليْ المصطفى الرسول أحمدا دعي فمشى فوق السماء فلم يطأ ... بها موضعاٍ إلاّ وأصبح مسجدا

قافية الذال

دنا فتدلى قاب قوسين إذ دنا ... فأوحى الذي أوحى إليه من الهدى دنوَّ حبيب من حبيبٍ لأجله ... لآدم أملاك السموات أسجدا درى فضله من في السماء فكلهم ... يرون وجيه المرسلين محمدا قافية الذال ذر الأنف يستنشق خمائل روضةٍ ... تبذُّ نسيم المسك أنفاسها بذا ذكرت به نعلاً لأكرم مرسلٍ ... براه الذي أعلاه في رسله فذا ذرور ثراها المسك فاق فإن تسل ... عن أذكى من المسك الفتيق شذاً فذا ذكاء تمنت أنْ تكون سحاءةً ... تعي مدحها أو جلدة مثلها تحذى ذوو حبه التذوا برؤيتها كما ... بثوب ابن يعقوب أبوه قد التذا قافية الراء رأيت مثال النعل الذي به ... إلى حضرة القدس العلية قد أسري رعى الله منها نعل أي كريمة ... برجلٍ علت فخراً على قمة النسرِ روى أنه نوى وقد رام خلعها ... وماء الحيا في وجنتيه معاً يجري رسولي لا تخلع تشرف بوطئها ... بساطي يا معنى وجودي يا سري رفعت لواء المكرمات جميعها ... بيمنى العلا والناس في قبضة الذر قافية الزاي وهي متجانسة زفير اشتياقي إذ بدا معتقي ... مخاطبتي كتمي وعزمي قد عزا

قافية الطاء

زكت شفة قد قبلت نعل سيدٍ ... به عالم الإنسان أجمعه عزا زعيم به هنا السرور لنا وفي ... مصائبنا العظمى المصاب به عزى زهو سناه ظلمة الشرك قد جلا ... ولولاه كنا نعبد اللات والعزى زماني لا أنفك لاثمها أرى ... هوان هونا يا أخلاءنا عزا قافية الطاء طوت بعض ما من وحشةٍ نشر النوى ... نعال خطاها في المكارم لا تخطا طفقت أنادي حين لاحت لناظري ... وزند الهوى بالسقط قد وصل السقطا طب انعم تنزه يا فؤادي فهذه ... نعال الذي جاوزت في حبه الفرطا طبعنا على حبٍ له فمتى يلح ... لنا أثر ننثر من ادمعنا سمطا طلعنا نجوماً في هواه فأفقنا ... قد اخلد عنه النجم للارض وانحطا قافية الظاء ظللت أنادي إذ رأيت نعال من قد أنقذني والحمد لله لظى ظهرت لنا في شكل بدرٍ فلم نكن ... لبدر الدجى من بعد ذاك لنلحظا ظمئنا فكنت الماء مقلوب همزةٍ ... نقعت وميم جيء في إثرها بظا ظهيري رسول الله أنت لحظتني ... بهذي وفي الأخرى ترى لمن الحظا ظلالكم من كل سوء حفظنني ... وما كنت لولا الفضل منكم لأحفظا قافية الكاف كرمت أيا نعلا لأكرم مرسلٍ ... به وهو وسطى السلك قد ختم السلكُ كأنك في عيني نافحة خلت ... وأبقى بها للأنف من نفحه المسكُ

قافية الميم

كتمت فلما لحت لي باح محجري ... بسر معنى قلبه بالنوى يشكو كفاني كفاني أنْ بدا أثر لمن ... به من إسار الشرك قلبي مفتكُ كريم كرام الرسل أحمدها الذي ... بتوحيده الإشراك أودى فلا شركُ قافية اللام لمثلك يا نعلا بلابسه نعلو ... ويا طيب قلبي كلما قلت يا نعلُ لثمت وما أبغيه باللثم لا ولا ... سواه فما قصدي النعال بلا الرجلُ لها الله من رجلٍ مشت بأجل من ... شأى رسل الله الكرام وأنْ جلوا لنا قد أتى منا عزيز عليه ما ... عنتنا رءوف راحم ما له مثلُ لعمري لولاه لمّا سحت السما ... ولا دحيت أرض ولا برئ الكلُ قافية الميم وفيها وفيما بعدها لزوم زائد لم يهد الله إليه ولا ألهم، إلاّ بعد الفراغ من نظم ما تقدم، وإلاّ فجناب مجده فسيح، ولسان الألكن في مدحه عليه السلام فصيح، وصلى الله على سيدنا محمّد النبي المليح: مثالك نعل المصطفى هاج لي جوى ... جناه هوى قلبي السعيد به سما مددت له عيني مشوق به على ... صبابته ألا تحل قد اقسما مشيت به فوق السماء فكلما ... وطئت سماء فاخرت فوقها سما موكئه قسمن فيها مناسكاً ... فأسمى الذي أدناه ذاك المقسما محمّد أبكيت الثرى إذ عرجتم ... وعدتم إليه بعد ذا فتبسما قافية النون نظرتُ بعيني هائم القلب مذنفٍ ... شجي أبى إلاّ البكا طرفه خدنا

قافية الصاد

نعال حبيبٍ مصطفى من حبيبه ... دنا فتدلى قاب قوسين أو أدنى نبيٍ جميع الرسل ساد حليً كما ... بمبعثه فينا جميع الورى سدنا نجيٍ لرب العرش ناجٍ محبه ... غدا من لظى ذات اللظى وارثاً عدنا نزعنا إلى التوحيد من ملك شركنا ... ولولاه ما والله لله وحدنا قافية الصاد صبرت فلما لاح لي مثل نعل من ... حلاه نعالت أنْ تعد وتستقصى صببت دموعاً من جفونٍ كأنها ... عزالى سحابٍ نؤيها النأي قد أقصى صبوت هوى في السيد العلم الذي ... قد اسرى به ليلاً إلى المسجد الأقصى صميمٌ صميم الجلة القمر الذي ... وقاه الإله المحق والكشف والنقصا صراطي هواه للجنان وأنَّه ... يقي ووقى جيد اعتصامي به الوقصا قافية الضاد ضلوعي لا تهدا ودمعي لا يرقا ... وليس سوى حاليهما منهما أرضى ضلالي هدى في ذا الهوى عند أهله ... ذوى النظر الأقوى ذوى السنن الأرضى ضعوا قلبي الشاكي بحيث نعالهم ... فآثارهم تشفي أحبتها المرضى ضممت نعال المصطفى رجله التي ... بها شرف الله السموات والأرضا ضعوها كمثلي فوق أرؤسكم فقد ... زكا من رأى تعظيم مقدارها فرضا قافية العين على وجنتي فاضت دموعي فصرحت ... بسر فؤادٍ بالتكتم أولعا عشى بدت نعل الحبيب كأنها ... هلال بآفاق القلوب قد اطلعا

قافية الغين

عجبت لقلبي أنْ رآها ولم يطر ... ويخرق شغافاً قد حواه وأضلعا عراه خيال فاستقر ولم يطر ... إليها وشيكاً حين بالأمر طولعا عسى من أراني نعله أو مثلها ... يرني ضريحاً للمكارم مطلعا قافية الغين غليلي لا يطفا وشجوي لا يفنى ... ودمعي لغير المزن ليس بمنبغي غسلت به رين الجوى وهو نكتة ... بخدي وقلت اسفك نجيعك واصبغِ غداة بدت نعل لأكرم مرسلٍ ... رفيع شفيعٍ ذي مكارم سبعِ غيور شكور راحمٍ متلطفٍ ... كريمٍ منيلٍ واسع السيب مسبغِ غلامك يا مولاي يبغي شفاعةً ... وذلك أمر ما لغيرك ينبغي قافية الفاء فؤادي لا تشك البعاد فهذه ... نعالهم فاستشفين بها تشفى فمن قبلها مثل نعل كريمةٍ ... بتقبيلها يشفي سقام من استشفى فليت يميني والشمال ومسمعي ... قلبن شفاهاً تحسن اللثم والرشفا فأصطفي بالتقبيل والرشف جمرةً ... قد أشعلها شوق على الهلك بي أشفى فأقسم يا نعل الحبيب لأنت من ... شراب بطون النحل للمشتكي أشفى قافية القاف قلبي لا تقنط فهذي نعال من ... علقت به من قبل مرتبة العلقْ قد أبصرتها في أفق كفي كأنها ... هلال منير للعيون قد ائتلقْ قفا في السنى آثاره القمر الذي ... للابسه كالبردة انشق وانفلقْ

قافية السين

قرأت حذار العين لمّا رايته ... بأفق يميني طالعاً سورة الفلق قست مهجة قد أبصرته وما جرت ... مسابقةً شهب المدامع في طلق قافية السين سموت أيا نعل الرسول برجله ... على قمم الشهبان والبدر والشمسِ سرى ليلة المعراج فوق براقه ... ليسمى أقطار السموات باللمسِ سماء به فلتفخري بدر سؤددٍ ... سليم السنى يضحى منيراً مكا يمسي سراج به طلنا الذين تقدموا ... ولا عجب أنْ يفضل اليوم للأمسِ سلمنا بفضل الله لكننا وهم ... حروف ومت الإطباق في الحرف كالهمسِ قافية الشين شمخت أيا نعلا لأكرم سيدٍ ... رسولٍ على السبع السموات قد مشى شريفٍ له قد أسجد البدر والتفت ... إليه تجده بالترب منمشا شغى مبصري القلب والطرف نوره ... وقد منت أعشى القلب والطرف أعمشا شفاعته نرجو امتداد ظلالها ... إذا ما الرجا فيما سواها تكمشا شققت جيوب الكتم وجداً وقلت يا ... يدي وهى حبل التصبر فاخمشا قافية الهاء هي النعل قد كانت سماء ورجله ... هلالاً غما أسنى وأضوأ أفقها هيا منكراً تقبيلها بعد بدرها ... على دنف ما أنت منه بأفقها هل القصد إلاّ رجل لابسها الذي ... سيسمعني يوم القيامة خفقها

هلالي وشمسي في دجى الحشر سيدي ... مبلغ نفسي ما يوافق وفقها همت عبرتي شوقاً له إذ رأيتها ... فما ترجى الأجفان من بعد رفقها انتهى ما ألفته من هذه القطع ولم أجد تكملة الحروف؛ وقد كمل ما بقي منها على نمطها، صاحبنا الفقيه الأصيل أبو الحسن الشامي، حفظه الله، وسيأتي ذلك قريباً. وألفيت أيضاً بخط هذا الشيخ محمّد بن الفرج السبتي، رحمه الله عدة قصائد ومقاطع في هذا الغرض، منها قوله رحمه الله: ولق رأيت مثال نعل محمدٍ ... فاشتد شوقي عند ذاك وهاجا فظللت أمسح وجنتي بشسعه ... مسحاً وأجله برأسي تاجا يا نعل أكرم مرسل لمّا أني ... دخل الورى في دينه أفواجا كرمت من نعلٍ حوت رجلاً مشت ... بأجل بادٍ في الظلام سرجا شرفت بموطي نعله السبع العلا ... لمّا ارتقاها عارجاً ليناجى ومنها قوله رحمه الله: نثرت محاجر مقلتي من سلكها ... دراً وشذاً مفرغاً من سلكها شوقاً لمبعوثٍ أتي فاستبشرت ... مهج الورى بنجاتها من هلكها عاينت مثل نعاله ومحمّد ... هو خاتم الأرسال وسطى سلكها فوجدت فيها ريحه ولربما ... فاح النوافج بعد فرقة مسكها أشرف بها نعلاً عمائم كل ذي ... شرفٍ تقر بأنها من ملكها فلق وعت قدماً سعت في فلكها ... من راحتي كفرانها أو شركها

جعلت موطئها الملائك عندما ... أسرى به ليلاً مواضع نسكها يا ليت أعضائي شفاه كلها ... فمتى تقبلها شفاهي تحكها قد كنت ذا خوفٍ ووحشةٍ أبدلا ... رغد المسرة للفؤاد بضنكها فكأنها صك أتى عبداً وقد ... تعطى المولى أمنها في صكها وهلال أطلع فانجلى من وحشتي ... ما قد تراكم من سحائب حلكها فأنا العتيق وأنْ تشك النفس في ... عتقي يمط للحين عارض شكها يا منجي الحوباء من بحر الردى ... ولقد غدا لولاك معصب فلكها شكوى غريق ذنوبه مهما شكت ... حوباؤه لسواك لم يشكها ولقد أمرت بترك أسباب بها ... تقوى الذنوب فما أخذت بتركها ولئن هدمت مبانياً مستورةً ... بستور لطف لا سبيل لهلكها فلقد بنيت من الرجاء مبانياً ... ردت فواتك خيفتي عن فتكها وجعلت حبك يا محمّد أسها ... علما بأن الأس ممسك سمكها صلى عليك إلهنا ما طل ان ... فٌ ذكرك العطر الشذا مستنكها ومن ذلك قوله رحمه الله: أقول وهجراني سيعقبه الوصل ... فعقد الهوى الشرعي ما أنْ له حلُ غداة رأت عيني مثال نعال من ... بدا فهدى أهل السعادة إذ ضلوا تمنيت لو أني ظفرت بتربةٍ ... عليها مشت نعل بلابسها نعلو فأكحل عيناً أرمدت ببعاده ... وليس سوى ذاك التراب لها كحلُ هو الكحل يجلو ما بعيني من قذى ... وكم كحل أنْ تكحل به العين لا يجلو فطوباك طوبى ثم طوبى وحق أنْ ... أردد طوبى ثم طوبى أيا نعلُ

فإنك قد أودعت رجلاً علت على ... بساط عُلا لم تعله قبلها رجل فأقسم لو تؤتي العمائم سؤلها ... لمّا كان غير النعل كان لها سؤل وناهيك من رجل مشت بمحمدٍ ... مفضل رسل الله إنَّ عدت الرسل أبو القاسم الأسمى وطئ السما ... فنودي من فيها ألا خلقه صلوا ولو لم تطأها رجله كان للثرى ... على الفلك الأعلى بموطئها الفضل فيا مرسلا ما في النبيين مثله ... رسولا وهل للشمس من جنسها مثل أثرت ظلام الجهل فالقلب نير ... محا العلم منه أحرفا خطها الجهل فكان كمثل السيف أصبح صادئاً ... وأمسى وقد جلى مضاربه الصقل يلوح به الإيمان شكلا لناظرٍ ... ولولاك لم يطلع به ذلك الشكل فحق لذي عقل بأن يقطع المدى ... مدى غمره ما دام يصحبه العقل وما شغله إلاّ امتداح جلالكم ... فتعم الفتى من شغله ذلك الشغل أمولاي يا مولاي ألفا وبعده ... كذلك ألف ثم ألف له قبل عديد الحصى والرمل بل عد ما إذا ... بدا فالحصى جزء بدا منه والرمل فحبكم كهفي الذي مذ حللته ... إذا اشتد بي الكرب على الفور ينحل وسيفي السريجي الذي مذ سللته ... رأيت خطوب الجهل عني تنسل ورمحي الرديني الذي مذ شرعته ... صرعت به ثكلى فلا نعش الثكل وقوسي التي مذ سدد الصدق نبلها ... أصابت أسى ما خاب له نبل فها أنا في ظل من الأمن قاطعٍ ... على الأمن أنَّ يتدلى ذلك الظل ومن يدري ما أدري من افضالك الذي ... هو الباب والأفضال أجمعه فصل أو الأصل والإفضال بعض فروعه ... وما يستوي في الرتبة الفرع والأصل

ينم آمنا من جور دهر صروفه ... سواهر واستقضى وليس له عدل محمّد يا غوثي وغيثي كلما ... تجهمت الأيام أو أحجف المحل محمّد يا حزري وعزي كلما ... تفاقمت الأهوال أو طرق الذل أكرر في أحوالي اسمك أنَّه ... كالشهد ما كررته في فمي يحلو أما أنَّه أحلى وأيمن مجتنى ... فكم مجتن للشهد تلسعه النحل وإنَّ كان في الشهد الشفاء لمشتكٍ ... بعلة جسم أصلها الشرب والأكل فباسمك يشفي كل قلب إذا اشتكى ... إليك بداء جره القول والفعل وما جسد الإنسان مثل فؤاده ... فمنزل ذا علو ومنزل ذا سفل فبالفضل يا ذا الفضل والبذل إنَّ عدت ... خطوب ولمّا يلف فضل ولا بذل أجرى من نار ضريع طعامها ... ومهل وما يغني ضريع ولا مهل ومن أهلها العاصي أوامر ربه ... وإني لها أو يغفر الله لي أهل أما إنني أرجو النجاة وإنَّ تكن ... ذنوبي حملا لا يطاق لها حمل فإني قد أعددت أي ذخيرةٍ ... تخفف من ثقل الذنوب فلا ثقل هواك الذي للمعضلات خبأته ... فمن مهجتي حق ومن غيرتي قفل ألا هكذا فليخبإ الحب مدنف ... إذا ما سلا أهل المحبة لا يسلو وإنَّ يعتلل وقتا غرام فيختلل ... فما حبه يعتل وقتا فيختل فكم بين من قد تيم الفضل والعلا ... وبين الذي قد تيم الغنج والدل لبينهما ما بين وصل وقطعة ... وهيهات ما بالقطع يشتبه الوصل وإنَّ غرست كفهما شجر الهوى ... فمغروس ذا شرى ومغروس ذا نخل فيا قلبي أحلل من هواك بجنةٍ ... بها أحتل قلب حبه ليس يعتل

وناد الورى إني احتللت بجنة ... بها كل من يهوى هواي سيحتل أدير بها كأسا دهاقاً وما سوى ... سروري بمحبوبي مدام ولا نقل هي الخمر لم يتلف بها عقل شاربٍ ... وتلك حرام في الكتاب وذي حل ويا فكري الرامي المصيب بنبله ... مقاتل أغراض أراها له النبل وفي قتلها عند اللبيب حياتها ... ومن أعجب الأشياء أنَّ يحيي القتل بتأليف شمل المدح في المصطفى اشتغل ... يعنك على تأليفه ذلك الشمل فذاك محل المدائح قابل ... إذا انحصرت فيه مدائح من قبل محل يسمى في علاه مقصراً ... أديب وفي الأمداح من طبعه يغلو محل علا فوق السماء ولم يكن ... لأعلى محل ذلك العلو إنَّ يعلو فقل للأديب المكثر القول في حلى ... علاه: كثير القول في مجده قل فضائله بحر وسجل كلامنا ... وليس يغيض البحر دلو ولا سجل وتالله ما البحر الغطامط مشبها ... فضائله أو يشبه الوابل الطل ولكنها الأمثال تضرب للورى وليس من المشروط أنَّ يفعل الكل وقد ضرب الله الأقل لنوره ... فقال كمشكاةٍ وليس له مثل أخير رسول جاء للخلق هادياً ... وقد درست سبل النجاة فلا سبل وكلهم نشوان من خمرة الهوى ... فمعبودهم نسر ومدعوهم بعل فما منهم إلاّ أمير ضلالةٍ ... ففي جيده غل وفي رجله كبل فدلوا على سبل النجاة بنوره ... جميعا ولولا ذلك النور ما دلوا فأعقب ذلك النور مدلوله حلى ... ففي جيده عقد وفي رجله حجل وقفت بباب الجود والكرم الذي ... غمامته وطفا وعارضه وبل فما كرم يروق عن الجود واهبا ... مواهبه تترى ونائله جزل

وقيس بذا إلاّ وقال أولو النهى ... ألا إنَّ ذاك الجود في جنب ذا بخل ولي حاجة عنت إليك، قضاؤها ... عليك بفضل الله يا سيدي سهل زيارة أرض طيب الله تربها ... فما المسك مفضوض الختام لها شكل هي البلدة الغراء طيبة التي ... بها ديم الرحمى مدى الدهر تنهل فمن حل مثوى أنت فيه مخيم ... ويا طيب أقوام بطيبة قد حلوا يكن آمنا من كل حزن وخيفة ... ويعظم له جاه ويكرم له نزل فما داخل عدنا يخاف مثال الردى ... وتشهد آيات الكتاب الذي نتلو ولا فرق ما بين الجنان وبينها ... لدى من له عقل من الناس أو نقل وصلى عليك الله ما هبت الصبا ... وما كان للزمن التي أعصرت هطل ومما له أيضاً رحمه، ملتزما تشبيه النعل المختصة بالشرف والرفعة، وقد أبصرها مرسومة بالحبر في رقعة: أشفي برؤيتها يا نفسي الدنفه ... نعلا لرجل رسول الله مكتنفه كأنَّ طرسا به بالحبر قد رسمت ... برد من الحبرات البيض ذو صنفه ومما له أيضاً نفعه الله بها، ورسم مثال النعل الكريمة إثرها: يا سائلا أفتيه إثر سؤاله ... عما يرى إنَّ يشك من إشكاله تراه سواد القلب والعينين في ... شكل هلال الأفق من أشكاله أخطأت لست بعائد ولكم مصيب مخطي في البعض من أقواله فالبدر يكسف في منازل سعده ... ويصيبه النقصان إثر كماله وكلاهما شين وهذا قد وفى ... من كل شين يدر سر جماله

أو ليس تمثال النعال نعال من ... وطئ السموات العلى بنعاله نعل بلابسها بأت ويحق أنَّ ... تبأى به لجلاله وخلاله فلقد حوت رجلاً مشت بالصفوة المختار عند الله من أرساله فالثمه تمثالا لها لثم أمرئ ... باللثم يروى من صدى بلباله فلرب مشتاق رأى آثار من ... يشتاقه فشفته من أوجاله أو ما ترى يعقوب عاد بثوب من ... يهودي سنى عينيه بعد زواله وهوى في مولاي يفضل حب يعقوب على المروى من أحواله فمحمد هو معتقي من ملك شر ... كٍ كنت طوع يمينه وشماله قطعت هدايته حبال ضالتي ... بحسامها الجالي الردى بصقاله فغدوت معتقلا ورحت مسرحاً ... متمسكا من هديه بحباله يرتاح في عدن الهدى قلبي ولا ... يخشى الإعادة من جحيم ضلاله أصل النداء معرفا بعوارفٍ ... بلغ الفؤاد بها مدى آماله يا قوم إقرار أمري بفضائلٍ ... عظمت على لأحمد ولآله كنت الذليل فمذ تملك مجده ... نفسي بما قد كان من إفضاله ما زال يسعى في عزازة عبده ... حتى محا بالعز نقطة ذاله فأنا الدليل لأعبدٍ ذلوا على ... أنَّ يصبحوا مثلي عبيد جلاله مولاي يا مولاي ألفا مردفا ... بمثاله ومثاله ومثاله أضعاف أضعافِ الذي في البحر من ... نقطٍ: أجاج الماء أو سلساله أنا عبدك القن الذي أطلقته ... من جهل أوثق مهجتي بعقاله فبما على لكم من الفضل الذي ... ضعفت قوي شكري عن استقلاله إلاّ حملت إليَّ الأساة بطيبة ... جسما سكا بفراق قلب واله

وأظنه والظن يصدق هاهنا ... عندي وإني للخبير بحاله قد حل من فلك العلى الحلى ... شهب تحف بشمسه وهلاله بلداً يذود المارقين جلاله ... بسيوفه ولدانه ونباله فكأنه كير نفي خبشا وأبقى من رضي الرحمن باستعماله أربي على أمثاله ووحقه ... لأفنكت في قولي على أمثاله فالأرض مثل ذبالة وهو السنى ... منها وكم بين السنى وذباله هو طيبة الغراء أشرف موطن ... حث النهى شرعا على إجلاله حرم متى ما حله ذو خيفةٍ ... يأمن به في حاله ومآله أمر الملائك بالدعاء لأهله ... أهل الفخار نسائه ورجاله وأرى ثراه من لأجل سناه خر ... الملك للمخلوق من صلصاله ونجا ابن لأمك في السفين إذا استوى ... ماء الدرى بسهوله وجباله ونجا ابن آرز من لظى الإشراك إذ ... نال الذي قد نال من تمثاله وفدى ابن هاجر حين تل وإنَّه ... لمسلم لأبيه في أفعاله وأحتل إدريس مكاناً في السما ... أسمى، منال النجم دون مناله والمرء يخلق من ثرى القبر الذي ... سيكون منطبقا على أوصاله هذا حديث صح عنه لدى الألى ... نظموا عقود مقاله وفعاله ولذلك قال بفضل طيبة مالك ... وهو الإمام المقتدي بمقاله إذ لا تراب اجل من تراب نشا ... منه حبيب الله من أرساله فنهاك ينحى الجسم متصلا بمن ... أشجاه وهو القلب يوم فصاله أسعد بمجتمعين في دار بها ... شخص الذي قنعا بطيف خياله مولاي إنَّ لم تؤب عبدك سؤله ... ورددت خائبةً يمين سؤاله

لا عتب بل عتبي فما هو صالح ... بك للذي قد ساء من أعماله لكن سنة سيدي في عبده ... إسعافه ما دام من سؤاله والصفح عن زلاته ولو أنها ... كالرمل عدا في جميع رماله ومتى يجد فالغيث إلاّ أنه ... عم الخليقة كلها بنواله ومتى يجر فالليث إلاّ إنّه ... يضحى المجار لديه من أشباله فالخائفون المعسرون مؤمنو ... ن وموسرون بجاهه وبماله هذى خصال من خصال جمة ... ومن الذي يحصى شريف خصاله صلي عليه إلهنا من مرسل ... وجد الوجود الخير في إرساله ومما له أيضاً تقبل الله منه، ولا صرف وجه وقايته بمنه وكرمه عنه: خذه أيا صاح خذ ... تمثال نعل قد حذى على نعال أحمدٍ ... منجى الأنام المنقذ السيد المختار من ... قبيلة وفخذ ذي الطول ذي الفضل الذي ... حلاه لا تحصى بذي وانظر إليه نظرة ... يجلى بها طرف قذى وقبلنه دائما ... تقبيل ذي تلذذ وقل إذا قبلته ... ذي قبل تلذذ وناده يا سيداً ... بغيره لم ألذ شكوى محب ما درى ... غير الهوى من مأخذ رمى بنبل للنوى ... صوائب لم تشحذ لكنها مهما رمى ... بها فليس تنفذ

فقلبه من رشقها ... كمثل جلد القنفذ وقد رجوت والرجا ... نهجي الذي قد أحتذى إدالتي بالقرب من ... هذا النوى المستحوذ وبالجلال النبوي ... الهاشمي تعوذي من أنْ يضيع لي هوى ... به فؤادي يغتذي فيا فؤادي بالعرا ... أفعى المخافة أنبذ وإنْ تسر للسع من ... زمرد الدجى خذ وأره لمقلتي ... ها كي تسيل ذي وذي فذاك من الأفاعي من ... عوائد الزمرذ ومما له أيضاً رحمه الله تعالى: يا مغرما برسول ... لك يخلق الله مثله هذا مثال نعال ... شراكها ضم رجله أشرف بها ثم أشرف ... نعلا تماثل نعله فقلبن فيه مثلي ... تقبيل صب موله لرب شاكي اشتياقي ... نال الشفاء بقبله يا رب أشكوك شوقي ... والشوق أعضل عله فقرب الدار ممن ... ابنت في الرسل فضله فهو الذي بنواه ... فؤاد عبدك وله صلى الإله عليه ... من شارع خير قبله

وفاسخ كل حكم ... وناسخ كل ملة ما حرك الوجد قلبا ... وأرق البعد مقلة ومما له أيضاً تقبل الله عمله وبلغه أمله: انظر إلى هلالا ... فاق البدور جمالا أستغفر الله ربي ... فقد أفكت مقالا فالمحق ليس مصيبي ... وقد يصيب الهلالا لكن حكيت نعالا ... لسيد قد تعالى شأى النبيين جاها ... وحظوة وخلالا فإن شكوت بشوق ... فؤادك الصب نالا فلتلثمني فلثمي ... يشق اشتياقا توالى نعم لثمتك شوقا ... لمّا حكيت النعالا ومن يظن بنعل ... شغفت ظن المحالا بلابس النعل همنا ... ومنه نبغي الوصالا يا رب يشكوك قلبي ... يشكوك صادا ودالا فقرب الدار ممن ... برأت فاء وذالا فما لأحمد ندري ... في المرسلين مثالا هذا وإنْ كان منهم ... والكل حاز الكمالا ففي السما نيراب ... وكلها يتلالا وليس منها مضاه ... للشمس في النور لالا

صلى عليه إله ... به أزال الضلالا ما لحق الجزم فعلا ... أو لزم النصب حالا ثم سلام عبيد ... ما إنْ عن الرق حالا يخص مولى كريما ... عم العبيد نوالا وآله خير آل ... إنْ عدد الخلق آلا ما أطلع الأفق شمسا ... وأنشأ الجو آلا ومن قوله أيضاً رحمه الله وهي من أول ما قاله: بكيت وقد رأيت مثال نعله ... بكاء هو عن الأحباب وله وما حب النعال أسال دمعي ... ولكن حب من كرمت برجله محمّدا الرفيع القدر أعني ... حبيب الله أحمد خير رسله عليه السلام ذي مقة مشوق ... إليه ظل معتصما بحبله مدى افتخرت سموات وأرض ... على حر الخدود بوطء نعله وله رحمه الله قصيدة مطولة نحا منحى رائية أبي الربيع بن سالم وهي: تبدت لنا والشوق يقدح زنده ... بقلب شج لا وجد يشبه وجده نعال رسول الله أشرف بنعل من ... قد اختص بين الرسل بالسر وحده وإلاّ تكن نعل الرسول فإنها ... مثال وكم ند يذكر نده فيا ناظرا منها حديقا تعاهدت ... عهدا الحيا تروي رباه ووهده فلله ما أذكى وأطيب نفحه ... إذا حركت ريح الصبابة رنده

وأطلق شوق الحب بدرا بهاره ... وشمسا تروم الغروب في الصيف ورده على الفور قبل فيه تقبيل فاخر ... بمولى أعز الله في الخلق عبده ونزه به طرفا جفا النوم جفنه ... ومرغ به خدا دم الجفن خده فربت ذي وجد رأي أثرا لمن ... له وجده يوما فأطفأ وجده أمولاي يا أعلى النبيين منزلا ... لدى الله والمختص بالفضل عنده نداء عبيد أضرم الشوق وجده ... فباح بحب أبرم الصدق عقده وإنْ الهوى مالم يبن لكخمرة ... بعنقود والسقط لازم زنده بحق هواي المحض فيك الذي متى ... يقس بهوى في الدهر ألفي وحده أنلي ما أبغيه منك وإنَّه ... زيارة قبر شرف الله لحده بأشرف جثمان لأشرف روح من ... وقي الله مما يوهن المجد مجده هو المجد لا مجد يماثله وهل ... يماثل صفح السيف في القطع حده سكرت وما خمري سوى حبه ومن ... حسا خمر هذا الحب لم يخش حده فيا طيبة الغراء أسعد منزل ... تود النجوم الزهر تنزل وهده إلاّ فاحملي بند الفخار وحققي ... بأنك قد شرفت بالحمل بنده ونوطي على جيد العلا عقده ترى ... مشرفة أيضاً بذلك عقده بأعضاء مختار من الخلق مرسل ... إليهم بدين أوثق الله عهده به نسخت أديان من كان قبله ... ولا دين يأتي الخلق للحشر بعده به شاد أبراج العلا الله ربه ... وثل به عرش الضلال وهده ورد به عنا الردى وهو مقبل ... وما كان لولا جاهه ليرده رسول على الأرسال فضله الذي ... حباه بما لا يبلغ النطق عده

وإنْ كان رسل الله صلى عليهم ... وسلم ما ضد ينافر ضده حكوا سور القرأن نورا وحكمة ... فأحمد قد أضحى من الرسل حمده وفي الحمده ما فيها من الشرف الذي ... يبين لمهدي من الناس رشده وحسبك أنْ يبدا ويختم قارئ ... بها ومصل فرضه ثم ورده كذاك رسول الله أول آخر ... له المنزل الأعلى الذي لن نحده أمولاي ذا قصدي إليك وأنت من ... يبلغ ذا الشوق المبرح قصده فيا طيب عبد واصل أرض طيبة ... يمرغ في تلك المعاهد خده معاهد أمسنى الأنس منها بظهرها ... لذي وحشة قد قرب الله بعده وأصبح منقولا إلى بطنها فيا ... وجاهة بطن قد وعاه وسعده سعيد صعيد منه أنشى أحمد ... وفيه الذي أنشا به الفضل رده فكان كمثل الورد فارق ورده ... لمنفعة ما ثم عاود ورده أخيرا كريم ليس تطرق آفة ... فتى حبه للطارقات أعده عليك وأنت السيد العلم الذي ... أفاد الثنا بهر السنى ومعده بل العالم الإنسى عموما ومنهم ... خصوصا فريق أكمل الله جده هي الأمة العليا التي هديت ومن ... أريد به خير من الخلق يهده صلاة وتسليم ورحمة مدى انتمى ... لك الفضل يا فذلك الوجود وفرده عديد صنوف الخلق علوا وأسفلا ... صموتا وذا نطاق جمادا وضده ولست مجيزا أنْ أضيف إلى كذا ... بعدى فيأتي ما لساني حده كشمس الضحى كالمسك كالقطر لم ينط ... به برقه الأفق الصقيل ورعده أجاعل تشبيهي حقيقة التفت ... غلطت فللباب المجازي رده فشمس الضحى المسك والقطر عابها ... أخو النقد والبرهان يعضد نقده

بكسف وإمساك وهذا دليله ... على ذاك الإيضاح لم يتعده وتلك التي شبهتها سلمت سنى ... فجاءت كما شاء الكمال ووده صلاة وتسليما ورحمى على الذي ... سنى وحي ذي العرش المجيد أمده على العورة الوثقى على القمر الذي ... على الخلق ظل الأمن والمن مده على منقذ الإنسان من حفر الردى ... ولولا سناه كان فيها يدهده على من له الخلق العظيم على الذي ... أبان جميع الرسل والكتب جده على من له المجد الصميم على الذي ... به شرف الرحمن آدم جده على أحمد المعروف في ظهر آدم ... بترديده شكر الإله وحمده على مجتبى قد نور الله قلبه ... على مصطفى قد طهر الله برده له المعجزات اللإء لحن لطرف من ... نفى نومه سعد وأثبت سهده فمنها انشقاق البدر ثم نزوله ... رآه الذي التوفيق وافق رصده ومنها حنين الجذع بالمسجد الذي ... بطيبة لمّا آنس الجذع فقده ومنها طلوع القرص بعد غروبه ... وما بسوى دعوى دعاها استرده ومنها سقوط السيف من كف غورث ... وقد كان مقدام الضلال ونجده ومنها انفجار الماء من بين أنمل ... تقسم في ابناء آدم رفده إلى أنْ روى منه الخميس فيا له ... خميسا أطاب الله ذو الفضل ورده ومنها نماء التمر حتى قضى به ... ديون أبيه جابر حين جده ومنها كلام الشاة تنهى عن أكلها ... فلم يبلغ السمام بالسم قصده ومنها كلام الضب والجمل الذي ... شكا كده الموهى قواه وجلده وكيف مواليه يريدون نخوة ... ولمّا يرعوا فيه بالأمس كده

ومنها البعير المبطئ السير ساطعه ... فما وخدت من بعد ذا النجب وخده إلى غيرها من معجزات بواهر ... فضحن عدوا باغيا رام جحده تكاثر رمل الأرض عدا ونبتها ... وتفضل سلك الدر حسنا وعقده وتزري سنى بالنيرين توصلا ... من الفلك المجلو بالصحو كبده ومما به قد خصه الله رحمة ... وفضلا وفخرا قد قضى الله خلده صحابته الغر الألي سعدوا ففي ... قلوبهم قد أسكن الله وده هم نصروا دين الهدى بسيوفهم ... كما خذلوا نسر الضلال ووده وأولهم سبقا وحيدهم حلى ... وأوجههم عند الإله وعنده مقربه محبوب مصطفاه من ... جميعهم لا خلق يعلم نده خليفته في المسلمين الذي له ... مناقب عود الطيب تنسى ونده ميمم ضلال اليمامة غازيا ... ليروى دما قضب الحديد وملده فما سلم الكذاب منها رئيسهم ... مسيلم خنزير الضلال وقرده أقاويله الزورية اللاء قد دجت ... ورأس الدجى لا شك بالنور يشده مقاتل أهل الردة الرجس الألى ... نحو سد باب حرم الله سده أبو بكر الصديق أصدق صاحب ... وأبدلهم في نصرة الدين جهده الموصوف بالشدة التي ... بها دينه قوي الإله وشده ........الدهر منه بعزة ... تحل من الخطب الكرية أشده .........................بالقنا ... مددن بالعود يظهر زهده

مواصل أسباب الهدى الندس الذي ... عن الحق ما شيء من الدهر صده أميرهم فاروقهم عمر الذي ... مدى العمر لم يفرق من الأمر آده وثالثهم ذو الهجرتين الفتى الذي ... شكا هجره شخص النعيم وصده مجمع ما في الذكر من سور ومن ... متى رد داع قد دعا يرده مجهز جيش العسرة الفاضل الذي ... تردى رداء غيره لم يرده فذلك عثمان الشهيد بداره ... بسيف شقي في لظى يتدهده أبو عمرو المعمور قلبا بذكر من ... له من ضروب الصخر أنطق صلده فسبحت الحصباء من كفه كما ... أتى في حديث أكثر الناس سرده ورابعهم من ألبسته يد العلا ... أجل قميص للعلا وأجده ووشحه إيمانه وجنانه ... أجذ حسام للطلى وأحده تسمى لتفريق الفقار به بذي الْ ... فقار فما أفرى وأقطع حده هو السيف لم تجل الصياقل صفحه ... ولا رقمت أيدي القوين فرنده تزوج بنت الموت بكرا صداقها ... أجل صداق أحكم الحب عقده وليس سوى الأرواح أشركن بالذي ... براهن ما أكلا وعجل نقده ومن جنة الفردوس كان خروجه ... لهذي وتلك الدار كانت مرده فيا عظم ما أبلى به في مواطن ... تشيب رأس الطفل لم يعد مهده إمام همام قاسر كل قسور ... ومدركه لو كانت الريح نهده به فتح الرحمن خبير عنوة ... وسد به ما قبله لم يسده

وكان رسول الله قال لأعطين ... غدا راية الفتح المبين وبنده فتى وده خلاقه وأوده ... كما ودنا والله ينصر وده فلم يك يعطاها سواه كرامة ... بها اختصه من شد بالعضد عضده وقد كان مشدود المحاجر أرمدا ... ففتح ريق الحب ما الداء سده فهب هبوب الريح قسور جحفل ... تولى به رب البرية عضده وبالباب باب الحصن يسراه ترست ... فلله منه قسور ما أشده هو الآية العظمى التي طفئت به ... من الكفر ما قد أضرم الجهل وقده ومن كان مولاه الرسول فإنه ... كذلك مولاه فطوباك عبده أبوه الذي ربي النبي ولم يزل ... له حاميا في السر والجهر جهده متى خاصمت فيه قريش تلقهم ... خصم اللسان الهاشمي ملده ومن قوله فيه يعظم شأنه ... وينشر ما الرحمن أودع مجده وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ثمال يتيم كدر اليتيم ورده فياحسرتا إنْ مات لم يجن زهرة ... قد أبرزها الإيمان بالله وحده ولكنها الأقدار تنفذ بالذي ... نود وقد تجرى بما لن نوده فينأى الذي أدنى ويدنى الذي نآى ... وكل بعلم يجهل العبد قصده ونجلاه سبطا المصطفى السيدان من ... بني المجد لا ضيم ينال معده جبيباه في الدارين ريحانتاه لم ... يزل منهما يستنشق الورد ورده وأمهما من أحمد بضعة ومن ... يكن من رسول الله جزءا يمده أفاطم لم يبلغ نصيفك فاضل ... من الخلق لم يبلغ أولو الفضل مده فيا صاح قل لا مجد يشبه مجده ... وصوتك مهما قلت لا فلتمده أبو الحسن الأسمي على العلا الذي ... مو البحر لم يدرك يد الجزر مده

وخامسهم بحر الندى الأسد الذي ... يبذ ليوث الباس أيدا وأسده مفدى رسول الله بالوالدين إذ ... ملا قلبه المغسول بردا وكبده وبشر من قد حز بالسيف رأسه ... لئم زمان كان فيه ووغده بنار لها غيض على كل قاتل ... فما أردى وأشأم عمده حواريه من قد حوى زينه سنى ... سنى العلم بالرحمن كان ممده أبو عابد الله الزبير الذي امتطى ... مطهمة المجد الأثيل وجرده وسادسهم ذو الجود والسودد الذي ... يعد الصدى اللهفان للغوث عده موقي رسول الله بالكف جودها ... يحل من العيش المهنا رغده فشلت وقد سلت من الهند مرهفا ... محلى صقيلا أكسب الفخر هنده فطوبى لها يمنى جنت ثمر المنى ... وقد حليت قلب النعيم وقلده فقل طلحة ذو المجد طلح ثقاية ... لسان بيان الشرع أحكم نضده وسابعهم ذو الفضل أقصد سالك ... أدل طريق للهدى وأسده ومفرغ قطر الزهد يجعل بينه ... وما بين يأجوج الزخارف سده أمير أولى الإيمان عامرهم أبو ... عبيدة ذو الخير الذي لن نعده وثامنهم ذو المجد في المال والتقى ... فلله ما أجدى وأبرك وجده ملا ذكره بطن السماء وماله ... ملا بطن هذي الأرض غورا ونجدة وكم بات لم يطعم وأطعم غيره ... وقام ولم يترك من الجوع ورده ومعمم خير الرسل فاتح دومة ... كما ود خير المرسلين ووده

فذاك ابن عوف مقلة المجد طرفة ... أجل فتى يثني عليه ويمده وتاسعهم ذو الرمي بالنبل والدعا ... فمن يرم من قوس وفيه يوده له السيرة الحسنى له النجدة التي ... رمت فارس الكفر الصراح وكرده فعوضهم من عيشهم واعتزازهم ... بموت وذل يعذب الموت عنده فكم فرس قد راح أشهب واغتدى ... من الدم يحكى أشقر اللون ورده وكم فارس من فارس بشماله ... عنان فقدت منه يمناه قده فيا بن أبي العاص انك واقص ... من الكفر جيلا أوجب الله طرده ويا سعد يا خال النبي لقد سمت ... فروع نجار ثابت كنت سعده وعاشرهم ذو النسك كالمسك ذكره ... سعيد ولا سعد يماثل سعده فتى المكرمات الأكارم الماجد الذي ... يزيزن جمع المجد طرا ووفده سلالة زيد الفجر أرشد مهتد ... عن الشرك جد سابق قد أصده قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يبعث زيد بن عمرو بن نفيل أمة وحده. ومما به أيضاً حبا الله أحمدا ... وعزز ذا الدين العزيز وجنده ذوو المجد عماه وجعفر الذي ... ملائكة الرضوان وارته لحده فحمزة ليث الله لا ليث غابة ... يصادره إنْ هاجت الحرب جرده له الفتكات البيض سودت العدا ... وزادت سنى بدر الجهاد وأحده

وكان إذا ما قارب الطرف وامتطى ... قراه بريش الرأل يعلم برده ولا برد إلاّ نثرة عربية ... لأمثالها داود قدر سدره فيرعد منه القرن حتى كأنما ... به نافض قد قرب الروع ورده إلى أنْ أراد الله منه شهادة ... تبوئه عدن الجزاء وخلده على يد أشقى الزنج راميه قدرة ... بحربته شل المهيمن زنده فنادى الذي قد ألحف قلبه ... بأسود مما ألحف الرب جلده بقتلك يا وحشي سامي سامها ... أصاب سواد الجلد حاما وولده وعباس العم الأعم مكارما ... تقصر من فخر الكرام أمده أبو الخلفا ساي الحجيج أجل من ... به يصرف الصرف الجليل وينده وجعفر الطيار ذو المشهد الذي ... ملائكة الرحمى غدت فيه شهده محمرا رايات الهدى بدم العدا ... بني الأصفر الأسد الألي لم يدهدهوا مقدم يمناه ويسراه قربة ... إلى منزل في دار عدن أعده وأمسك بالعضدين بعدهما اللوا ... لواء الهدى يبغي من الله عضده وبعدهم الأنصار والكل أنجم ... قد أطلعها مولاه تكلأ مجده بهم خضد الإشراك شرقا ومغربا ... ولولاه ما كان أعوض خضده

ذوابلهم قضبان بان نواعم ... قد انبتن سوسان الحديد وورده تصيب قلوب الشرك طعنا كأنها ... يحب القضا الجاري فتقصد قصده وإلاّ فبين الشرك حقد وبينها ... فتطلب منه موضعا ضم حقده وأسيافهم زرق رقاق كأنها ... نطاف بها قد عين الموت ورده ذكور ويعروها المحيض كأنها ... إناث ولا غسل عليهن بعده فيا معشر السادات والكل منكم ... يرى الصبر في نصر الهدى هو شهده كأن عداة الدين زرع محطم ... توليتهم بالبيض والسمر حصده فأقررتم عين الرسول وحسبكم ... بذا قرة تهدي إلى الطرف برده ولله من أزواجه أمهاتنا ... فرائد علاء قد أسر بن وده وأكرمهن الدرة الفذة التي ... بها زين المجد المؤثل عقده خديجة ذات الجاه إنْ ينشد أمرؤ ... به الله في أمر تقبل نشده لها الأثر المحمود والأثر التي ... متى مر عرف الطيب عنه ترده بنو المصطفى ما دون إبراهيم الذي ... رداه رداء الصبر بالثكل قده بنوها وكل أشمس وأهلة ... كوامل رسم الفخر حازوا وحده وفيها رسول الله قال مكرما ... خليتها والدمع يخضل خده إلاّ إنها كانت تزور خديجة ... ومن خلق ذي الإيمان يحفظ عهده فبشرها جبريل عن ربها بما ... لها الله في دار النعيم أعده

وعائشة بنت الحبيب عتيق ال ... مصدق إيعاد الرسول ووعده فريدة بسوان الوجود مناقبا ... متى يبل ذكر صالح تستجده هليمة أهل العلم التي ... جلت سدف الجهل المضل وسده وجفصة ذات الصيت والمنصب الذي ... هو الطود لا ترفي السوابق مهده مواصلة الأرواد والصوم دائما ... مواصلة القلب الموحد عقده وفذة مخزوم جلالا مبلغا ... قصي المنى في المنزلين معده وزينب ذات الطول والطول أنملا ... مواهبها تنسي الغمام وعهده وزينب ذات الفضلى بنت خزيمة ... لقد وصلت بالجود ما البخل جده وسودة ذات السودد العد والتقي ... متى صد عن قلب تقي لم يصدهو وميمونة الميومونة البرة التي ... لها الفضل لم ترق الفواضل نجده وبنت حيي ربة الصون والحيا ... صفية من أصفى لها السعد وده ورملة رمل الأرض يمكن عده ... لنا والذي خصت به لن نعده

وجارية العليا جورية التي ... تقد سناما أختها لم تقده هنا منتهى الأزواج والكل أشمس ... سناها أسداف الجهالة يشده وما رئ من ترب لمّارية التي ... هوها له لا صرد يشبه صرده سرية سرياته أي منزل ... يرقى من الطود الفخاري فنده فسرية الإنسان تسمو بمن لها ... تسري وهذا المجد تعلم جده وإنْ لم تكن أما لنا فهي أم من ... لفقدانه أيدي حبيبك وحده حبيبي حبيبي فطرة وشريعة ... قد احكمتا من حبل حبي مسده مدحتك والأزواج والصحب والألي ... بقربك شهب الفخر أكروا وورده فعاد مجلى كل فخر قدامس ... سكيتا تولى القرد بالسوط جلده هو المدح ما كررته زاد طيبه ... فينسي مشور الأري طعما وقنده فصله أيا فكري لعلك بالغ ... من البحر ذي الماء الروي العذب ثمده ولازم جناب المجد ذا المجد مادحا ... ودع جانبا هند الجمال ودعده ولا تطلبي يا نفس غير شفاعة ... ووصل كريم لا أحاذر صده وعافية شهبانها كلما عرا ... بلاء تولت عن جنابي لهده

وقمع عداة لم يخافوا إلههم ... فباروا ذئاب الفقر ضرا وعقده مذاهبهم ظلم العباد فإن يقل ... لهم ناصح كفوا عن الظلم يزدهوا وعبدك بالإيثار دان فلم يكن ... ليختص دون الغير بالخير وحده فعم بهذا الخير كل موحد ... هواك لديه علق أعده وسلم رب العرش بدءا وعودة ... عليك أيا فذلك الوجود وفرده سلاما أيضاً هي هدى من قد ذكرته ... وتصلية جاءت كذلك بعده انتهى ما أردت جلبه من كلام هذا الإمام في تمثال نعل المصطفى عليه الصلاة السلام. قلت: وقد اعتنى الناس والأئمة بتمثال النعل الكريمة وكيف لا وحتى على كل مؤمن أنْ فلى لمشاهدته الفلا فإذا شاهدها قبلها ألفا وألفا وتوسل بصاحبها إلى الله الكريم زلفى ولثم ثراها لثما وأزاح به عن نفسه حوبا وإمثا وجعلها فوق رأسه تاجا واستغنى بالتوسل بمن لبسها فلم يك إلى غابر الدهر محتاجا. وقد أفردها أبو اليمن بن عساكر بالتأليف وصنف فيها جزءا مفردا وكذلك أفردا بالتأليف أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن خلف السلمي الشهير بابن الحاج من أهل المرية وكذا غيرهما.

ومن بعض ما ذكر في فضلها وجرب من نفعها وبركتها ما ذكره أبو جعفر أحمد بن عبد المجيد وكان شيخا صالحا ورعا قال: حذوت هذا المثال لبعض الطلبة فجاءني يوما فقال لي: رأيت البارحة من بركة هذه النعل عجبا أصاب زوجي وجع شديد كاد يهلكها فجعلت النعل في موضع الوجع وقلت اللهم أرني بركة هذا النعل فشفاها الله للحين. وقال أبو إسحاق: قال محمّد أبو القاسم بن محمّد: ومما جرب من بركته أنَّ من أمسكه عنده متبركا به كان له أمانا من بغي البغاة وغلبة العداة وحرز من كل شيطان مارد وعين كل حاسد وإنْ أمسكته المرأة الحامل بيمينها وقد اشتد عليها الطلق تيسر عليها أمرها بحول الله وقوته. ولله در الأمام الشيخ أبي اليمن بن عساكر رحمه الله حيث قال: يا منشدا في رسم ربع خالي ... ومناشدا لدوارس الأطلال دع ندب آثار وذكر مآثر ... لأحبة بانوا وعصر خالي والثم ثرى الأثر الكريم فحبذا ... أنْ فزت منه بلثم ذا التمثال أثر له بقلوبنا أثر لها ... شغل الخلى بحب ذات الخال قبل لك الإقبال نعلي أخمص ... حل الهلال بها محل قبال ألصق بها قلبا يقلبه الهوى ... وجلا على الأوصاب والأوجال صافح بها خدا وعفر وجنة ... في تربها وجدا وفرط تغال تشفيك حر جوى ثوى بجوانح ... في الحب ما جنحت إلى الإبلال يا شبه نعل المصطفى روحي الفدا ... لمحلك الأسمى الشريف العالي هملت لمرآك العيون وقد نأى ... مرآي العيان بغير ما إهمال وتذكرت عهد العقيق فناثرت ... شوقا عقيق المدمع الهطال

وصبت فواصل الحنين إلى الذي ... ما زال بالي منه في بلبال أذكرتني قدما لها قدم العلا ... والجود والمعروف والإفضال أذكرتني من لم يزل ذكري له ... يعتاد في الأبكار والآصال لو أنْ خدي يحتذي لمثالها ... لبلغت من نيل المنى آمالي ولها المفاخر والمآثر في الدنا ... والدين في الأقوال والأفعال أو أنَّ أجفاني لوطء نعالها ... أرض سمت عزا بذا الإذلال وما أحسن قصيدة نسبها الشيخ أبو إسحاق بن الحاج للأديب العلامة أبي الحكم مالك بن المرحل رحمه الله تعالى وهي قوله: بوصف حبيبي طرز الشعر ناظمه ... ونمنم خد الطرس بالنقش راقمه رؤوف عطوف أوسع الناس رحمة ... وجادت عليهم بالنوال غمائمة له الحسن والإحسان في كل مذهب ... فآثاره محبوبة ومعالمه بخ ختم الله النبيين كلهم ... وكل فعال صالح فهو خاتمه أحب رسول الله حبا لو أنه ... تقاسمه قومي كفتهم مقاسمه كأن فؤادي كلما مر ذكره ... من الورق خفاق أصيبت قوادمه أهيم إذا هبت نواسم أرضه ... ومن لفؤادي أنْ تهب نواسمه فأنشق مسكا طيبا فكأنما ... نوافجه جاءت به ولطائمه ومما دناني والدواعي كثيرة ... إلى الشوق أنَّ الشوق مما أكاتمه مثال لنعلي من أحب حديثه ... فها أنا في يومي وليلي لاثمه أجر على رأسي ووجهي أديمه ... وألثمه طورا وطورا ألازمه

أمثله في رجل أكرم من مشي ... فتبصره عيني وما أنا حالمه أحرك من خدي أحسب رفعه ... على وجنتي خطوا هناك يداومه ومن لي بوقع النعل في حر وجنتي ... لماش فوق النجوم براجمه سأجعل فوق الترائب عودة ... لقلبي لعل القلب يبرد جامحه وأربطه فوق الشئون تميمة ... لجفني لعل الجفن يرقا ساجمه إلاّ بأبي تمثال نعل محمّد ... لطاب محاذي وقدس خادمه يود هلال الأفق لو أنه هوى ... يزاحمنا في لثمة ونزاحمه وما ذاك إلاّ أنْ حب نبيينا ... يقوم بأجسام الخليفة لازمه سلام عليه كلما هبت الصبا ... وغنت بأغصان الأراك حمائمه وللشيخ أبي بكر أحمد بن الإمام أبي محمّد عبد الله القرطبي في ذلك: ونعل خضعنا هيبة لهائها ... وأنا متى نخضع لها أبدا نعل فضعنا على أعلى المفارق إنها ... حقيقتها تاج وصورتها نعل بأخمص خير الخلق حازت مرية ... على التاج حتى باهت المفرق الرجل معاني الهدى عنها استنارت لمبصر ... وإنَّ بحار الجود من فيضها تحلو سلونا ولكن عن سواها وإنما ... يهيم بمغناها الغريب وما يسلو فما شاقنا مذ راقنا رسم عزها ... حميم ولا مال كريم ولا أهل شفاء لذي سقم رجاء لبائس ... أمان لذي خوف كذا يحسب الفضل

ورأيت في بعض تماثيل النعل الكريمة مكتوبا بطرفها الشريف ما نصه: مثال نعل الرسول ... خذه بحن القبول ففضله ليس يحصى ... لدفع كل مهول وفي وسطها ما نصه: أمرغ في المثال بياض وجهي ... فقد عقد النبي لها قبولا وما حب المثال شغفن قلبي ... ولكن حب من لبس المثالا ورأيت مكتوبا بدائرتها ما نصه: ما كان هذا المثال الكريم في دار فسرقت ولا في سفينة فغرقت وفيه خواص عجيبة. انتهى. وقد حكى غير واحد أنَّ سراج الدين سيدي عمر الفاكهاني شارح العمدة والرسالة لمّا أبصر تمثال النعال المطهرة أغمي عليه ساعة ثم أنشد حين أفاق متمثلا: ولو قيل لمجنون ليلى ووصلها ... تريد أم الدنيا وما في زواياها لقال غبار من تراب نعالها ... أحب إلى نفسي وأشفى لبلواها وقد ذكر أنَّ السراج الفاكهاني أما أحتضر أغمي عليه ساعة فلقنه بعض من حضره ففتح عينيه وأنشد: وغدا يذكرني عهودا بالحمى ... ومتى نسيت العهد حتى أذكره

ثم أدخل عليه تمثال النعل الطيبة فحين شاهدها أغمي عليه ساعة ثم أنشد البيتين المذكورين حين أفاق. وقال الشيخ الرحال أبو عبد الله بن رشيد الفهري: لمّا دخلت دار الحديث الأشرفية برسم رؤية النعل الكريمة للمصطفى صلى الله عليه وسلم ولثمتها حضرتني هذه الأبيات فقلت: هنيئا لعيني أنْ رأت نعل أحمد ... فيا سعد جدي قد ظفرت بمقصدي وقبلتها أشفي الغليل فزادني ... فيا عجبا زاد الظما عند موردي فلله ذاك اللثم لهو ألذ من ... لمى شفة لميا وخد مورد ولله ذاك اليوم عيدا ومعلما ... بتاريخه أرخت مولدا أسعد عليه صلاة نشرها طيب كما يحب ويرضى ربنا لمحمد ولا بد أنْ نرسم تمثال النعل الكريمة تبركا بصاحبها عليه الصلاة والسلام:

رسم النعل ص267 تمثال النعل النبوية في دار الحديث الأشرفية بدمشق كما رسمته النسخة التيمورية.

ما كتب في المثال الأيمن

ما كتب في المثال الأيمن وكتبت في داخله ما نصه من نظم المؤلف رحمه الله تعالى: يا ناظرا تمثال نع ... لْ المصطفى سر الوجود عظم علاه ففضله ... ملأ التهائم والنجود واجعله خير وسيلة ... فالله ذو كرم وجود صلى عليه الله ما ... أحيا الحيا الروض المجود ولغيره: يا مبصرا تمثال نعل نبيه ... قبل مثال نعاله متذللا واذكر به قدما علت في ليلة الْ ... إسراء به فوق السموات العلا واخضع له وامسح جبينك ولتكن ... متبركا أبدا به متوسلا وللمؤلف رحمه الله تعالى: يا مبصرا تمثال نعل قد علا ... طالع محاسنه وكن متوسلا واخضع له وامسح جبينك ولتكن ... متبركا أبدا به متوسلا واسأل به متضرعا مستمطرا ... ألطاف رب لم يزل متفضلا فهو الوسيلة والملاذ إذا عرا ... خطب وأضحى الكرب أمرا مذهلا فلكم أغاث بجاهه ... أناله أقصى المرام مسهلا

يا خير خلق الله دعوة حائر ... لم يتخذ إلاّ جنابك موئلا صلى عليك الله يا نور الهدى ... والآل والصحب الكرام ومن تلا ما حن مشتاق لذكرك أو غدا ... لمثال نعلك لازما ومقبلا وللشامي الفقيه منن أهل العصر: أيا ناظرا متع جفونك ساعة ... بأزهار هذا الروض من حيث ما تخطو وقف الإذلال لله واطلبن ... بها نعمة الرضوان إنْ راعك السخط فلو لم تكن مقبولة عند ربنا ... لمّا كان من هذا النعال بها وخط وللمؤلف: يا ناظرا تمثال نع ... لْ المصطفى قبله ألفا واجعله خير وسيلة ... تدني إلى الحمن زلفى واحفظه فهو ذخيرة ... ما مثلها في الدهر يلفى وللشامي أيضاً: أيا نعل الرسول سموت قدرا ... وفخري غير خفي للبيب أقول لمن بحبي ذات شوقا ... وأعيا داؤه طب الطبيب تنشق مسك أنفاسي لتشفي ... بهذا الطيب من عرف الحبيب وللمؤلف أيضاً: بشرف المختار قد شرفت ... نعاله حتى سما ذا المثال فاسأل له الرحمن جل أسمه ... فما به يسأل إلاّ أنال وكيف لا يدرك مستمسك ... بالعروة الوثقى المنى بالسؤال

ما كتب في المثال الأيسر

وجاه خير الخلق أعظم به ... ملاذنا في حالنا والمآل صلى عليه الله مع صحبه ... وآله أجل صحب وآل انتهى ما كتب في المثال الأيمن. ما كتب في المثال الأيسر وفي الآخر ما نصه: وللمؤلف: يا ناظرا تمثال نع ... لْ المصطفى في ذا الكتاب قبله ألف ثم زد ... ما شئت لا تخش العتاب واسأل به رب الورى ... سبحانه حسن المآب وله أيضاً مما قاله بديهة: حاز هذا المثال كل المزايا ... إذا حكى نعل رجل خير البرايا أحمد المصطفى الملاذ إذا ما ... طرق الدهر أهله بالبلايا فلجإ العالمين طرا إذا ما ... جمع الناس يوم تخشى الرزايا خيرة الله مجتباه ومن حا ... ز خلالا حميدة وعطايا فعليه الصلاة ما قبل النعل ... مشوق يروم محو الخطايا وللكاتب المكلاتي من أهل العصر يشير إلى هذا المثال الكريم: انظر إلى البدر وتكليفه ... بين شراك يا لها من قبال ما صار كالعرجون من تمة ... إلاّ محاكاة لهذا المثال

وللمؤلف أيضاً في ذلك: يا ناظرا في مثال ... أضحى هنا ذا ارتسام يحكى نعال تناهت ... في الحسن دون مسامي قبله تقبيل صب ... موله مستهام وضعه من فوق راس ... تاجا لمفرق هام وابسط له حر وجه ... ولا تخف من ملام ففضله ليس يحصى ... بنثر أو بنظم واحفظ علاه وصنه ... وكن له ذا احترام أمان حرف وخوف ... تيسير كل مرام لا يطرق الدهر دارا ... غدت به في اتسام والفلك إنْ كان فيها ... لم يخش من هول طامي فيا لها بركات ... شهيرة في الأنام وكيف لا وهو ينمي ... للهاشمي التهامي خير البرية طرا ... إمام كل إمام أسخى الخليفة كفا ... أرعاهم لذمام إنسان عين النعالي ... وذو السجايا الجسام عليه صلاة ... بطيبة وسلام والصحب والآل طرا ... والتابعين الكرام ما استنشقت نسمات ... من عرف مسك الختام انتهى ما في النعل الكريمة واتصل به ما نصه:

ومما قيل في النعل الكريمة قول الإمام المحدث الرحال أبي عبد الله محمّد بن جابر الوادي آش ونظمها بدار الحديث الأشرقية من دمشق وقد رأى فيها تمثال نعل النبي صلى الله عليه وسلم فقبله وقال: دار الحديث الأشرفية للشفا ... فيها رأت عيناي نعل المصطفى ولثمته قنعت وقلت يا ... نفس أنعمي أكفاك قال لي: كفى لله أوقات وصلت بها المنى ... من بعد طيبة ما أجل وأشرفا لك يا دمشق على البلاد فضيلة ... أيامك الأعياد لازمها الصفا ولكم بجيرون جررت ولم أخف ... ذيلا وبرح هواى فيها ما اختفى قلت ومما أنشدني الفقيه الأريب العلامة الأديب الحاج الرحال أبو الحسن صاحبنا سيدي عليّ بن أحمد الشامي الخزرجي لنفسه في تمثال النعل الكريمة قوله نفعه الله بقصده وكتبه لي بخطه وكنت طلبت منه ذلك لأثبته في هذا الموضوع: دعوا شفة المشتاق من سقمها تشفي ... وترشف من آثار ترب الهدى رشفا وتلثم تمثلا لنعل كريمة ... بها الدهر يستسقي الغمام ويستشفى ولا تصرفوها عن هواها وسؤالها ... بعدلكم فالعدل يمنعها الصرفا ولا تعتبوها فالعتاب يزيدها ... هياما ويسقيها مدام الهوى صرفا جفتها بكتم الدمع بخلا جفونها ... فمن لامها في اللثم فهم لها أجفى

لئن حجبت بالبعد عنهم فهذه ... مكارمهم لم يبق ستراً ولا سجفا وإنْ كان ذاك الخيف موعد وصلهم ... فها نفحة الإفضال قربت الخيفا واغنت بفضل عن مشقة شقةٍ ... نكابد مسراها شتاء يلي صيفا فحركت الأشواق منا لروضةٍ ... أباح لنا الإسعاد من زهرها قطفا تولى كمثل الطيف إذ زار في الكرى ... وإلاّ كمثل البرق إذ سارع الخطفا تقضي وما قضى بلبنى لبانةً ... لقيس الهوى والحب منا وما استوفى فزلنا وما زلنا نعلل باللقا ... نفوساً وما تجدي لعل ولا سوفا كأنا وما كنا نجوب منازلاً ... يود بها المشتاق لو راهق الحتفا ولم تبصر الأبصار منها محاسناً ... ولم تسمع الآذان من ذكرها هتفا كذاك الليالي لم تحل عن طباعها ... متى واصلت يوماً تصل قطعها ألفا فلا عسش لي أرجوه من بعد بعدهم ... وهيهات يرجى العيش من فارق الإلفا ويا حبذا قتل إذ العيش لم تزل ... سيوف الهوى تفري به القلب والجوفا ومن لي بقتل في سبيل الهوى التي ... وعنا عليها بالجنان ومن أوفى أيا من نأت عنه ديار أحبةٍ ... فمن بعدهم مثلي على الهلك قد أشفى لئن فاتنا وصل بخيف مناهم ... فها نفحة من عرفهم للحشا أشفى وهاتيك أزهار الرياض تنفست ... بأنفاسهم فاستشفين بها تشفى وقل للألي هاموا اشتياقاً لبانهم ... هلموا لعرق ألبان نستنشق العرفا فصفخة هذا الطرس أبدت نعالهم ... وصارت لها ظرفا فيا حسنه ظرفا تعالوا تغالوا في مديح علائها ... فرب غلوٍلم يعب ربه عرفا ولله قوم في هواها تنافسوا ... وقد غرفوا من بحر أمدادها غرفا

وإنا وإنْ كنا على الكل لم نطق ... نحاول بعض البعض من بعض ما يلفي لئن قبلوا ألفا نزد نحن بعدهم ... على الألف ما يستغرق العد والألفا وإنَّ وصفوا واستغرقوا الوصف حسبنا ... نجيل بروض الحسن من وصفهم طرفا ونقبس من أنوارهم وسعنا ... ونركض في مضمار آثارهم طرفا فمن قال بدر ألتم أو طلعة الضحى ... أو الروض يحكيها فما انصف الوصفا فما الشمس إلاّ من محاسن ضوئها استنارت ولولاها للازمت الكسفا وما البدر إلاّ من مشارق نورها استمد ولولاها لمّا فارق الخسفا وما طاب نشر الروض إلاّ لأنه ... يمد مدى الأيام من نشرها عرفا وما أخضر ترب الأرض إلاّ لأنها ... تخطته فاختط النبات به حرفا فحلوا بها أعلى المفارق واكحلوا ... بها مقلة العينين أو عطروا الأنفا فآثارها تبرى الجوى وترابها ... لسقم الحشا انفع أو أنفى لها الفخر أنَّ سارت بها رجل من سرى ... إلى حضرة التقديس والقرب والزلفى وودي لا تخلع نعالك واقربن ... وألفي بها من نفحة الحب ما ألفي وأدناه قرباً قاب قوسين ربه ... وناداه قل تسمع وسل تعط عد تكفي نبي به نلنا المنى وتوا كفت ... علينا من الرحمن سحب الرضا وكفا تعلى على العلياء حتى أنار من ... علاه العلا والغور والنجد والخيفا وقاتل في إظهار أنوار دينه ... جميع العدى حتى زوى الضيم والحيفا وكان إلى الهيجاء أوّل سابق ... وما فارق الغضب المنهد والسيفا هواه هدى الهادين منه إلى الهدى ... وحبه أهدى الوارد المورد الأصفي وآياته كالزهر والزهر نفحة ... وعدا فمن ذا يستطيع لها وصفا كفت كفه الجيش اللهام عن الحيا ... وكفت جيوش الكفر عن غيها كفا

وردت له الشمس المنير شعاعها ... كذا البدر بعد التم صار له نصفا وجوده أجدى من رياح عواصف ... ومن ذا يباري الريح إنَّ رامت العصفا أمولاي يا مولاي يا خير سيد ... تسامى على الأشباه طرا مع الأكفا نأت بي عنكم موبقات جنيتها ... وعفوكم من كل كلف بها أكفى وهأنا عند الباب راج وخائف ... دموعي لا ترقا وشجوى لا يطفا أناديك يا خير البرية كلها ... نداء عبيد يرتجى العفو والعطفا وإني محق في هوى حبك الذي ... يفل جيوش الهم إنَّ أقبلت زحفا وما أنا فيه كالذي قال هازلاً ... " أليلتنا إذ أرسلت واردا وحفا " فآها لنفسي ثم آها إذا أنا ... طردت ويا لهفا ارددها لهفا وواحسرتا يا حسرتا ثم حسرتا ... إذا لم تكن في موقف الحشر لي كهفا ولعلكن لي ظنا جميلا بنسبتي ... لأنصاركم يا خير من راقب الحلفا كما أنَّ لي أيضاً متاتاً بمدحي ... نعالا بها نيل العلى والمنى يلفي أبي النظم يستوفي حلاها وهل يفي ... روى بآثارها الهدى ألف أوفا عليك صلاة ما بدا بدر تمكم ... وما اشتاق مشتاق إليَّ وعدك الأوفى ومما أنشدنيه أيضاً لنفسه في ذلك قوله: مثال النعل في القرطاس خطا ... بسمر الشوق في الأحشاء خطا ولمّا أنَّ لثمت ندى ثراه ... وغشي نوره جفني وغطى شممت الورد من رياه يندى ... وشمت البدر من علياه حطا ففجر لي من العينين بحرا ... ونثر من لآلي الدمع سمطا

وروى من جماد الجفن جسمي ... وأروى من زناد الشوق سقطا وهز من أهوى غطف ارتياحي ... لأرض لم تزل تزداد شخطا وذكراني معاهد لست انسى المزار بها ولو بالبعد شطا معاهد خير من ركب المطايا ... واكرم من خطا نعلا وأوطا بأخمص رجله الحسناء حازت ... مفاخر لم يطقها الوصف ضبطا سمت فسعت لها زهر الدراري ... لتلثم وتطوف شوطا فكلت دونها وسط عليها ... ولا بدعا بذاك الفخر يسطى فمن قال الهلال لها مثال ... لعمر الله في التمثيل أخطا ولكن البدور لها نعال ... تود بها تدارس علا وتخطى وما طلعت عيون الشمس إلاّ ... لطلعتها تروم بها محطا وما رقصت غصون النبت إلاّ ... لعلياء تحط الراس حطا وما غنت طيور الأيك إلاّ ... عليها تعتلى الأغصان حوطا وما حنت حداة العيس إلاّ ... إليها تبتغي أثلا وخمطا وما هبت نسيم المسك إلاّ ... لريها تنال بذاك خلطا ولو يوما تخطت أرض جدب ... لمّا ألفت بها في الدهر قحطا يحق لنا نعظمها جلالا ... ونربط طرسها بالقلب ربطا وننتعل الوجوه بها جمالا ... ونجعلها على الآذان قرطا وتعتصب المفارق من ثراها ... وتكتحل العيون بذاك شرطا نعفر وجنة فيها وخدا ... ونخضب من سواد الرأس شمطا وننشد من يعاتب في هواها ... " إليك خبط من عشواء خبطا " ودعنا والهوى أنا أناس ... يزيد غرامنا بالعتب فرطا

وأنا معشر العشاق ممن يرى جور النوى والبعد قسطا ونقنع بالجيال مدى الليالي ... وإنَّ طال التباعد أو تشطا ولا سيما المثال وقد تبدى ... يجر على علا الجوزاء مرطا وما نعلا نريد ولا مثالا ... ولكن من بها العلياء تخطى نبي إنَّ أتيت إلى حماه ... وجدت سماحة في الخلق بسطا أتى والدين أصبح في انقباضٍ ... فعاناه إلى أنَّ نال بسطا وقاتل في سبيل الله حتى ... أزال عن الورى قنطا وضغطا وعمت دعوة منه وغمت ... بآبيات الهدى فرسا وقبطا فطوبى للذي لبى سريعا ... ويا ويل الذي عن ذاك أبطا سما لسما العلاء فنال قربا ... وهم بنعله نزعا وكشطا ونودى طأ ولا تخلع نعالا ... وأبدل من مقام الروع بسطا وأيده الإله بروح قدسٍ ... ومد له من التقديس بسطا وعظمه على الأرسال طرا ... ونظمه بذاك العقد وسطى هناك حباه فرضا من صلاة ... بها عنا الذنوب تصيب حبطا وسدده إلى إنَّ جاء موسى ... وردده إليه يروم حطا إلى أنَّ يصير الخمسين خمسا ... وأبقى أجرها والإضر حطا وأعطاه الشفاعة يوم حشر ... يقول أنا لها والناس قنطى وتعجز دونها الأرسال طرا ... وتأتى الناس سبطا ثم سبطا إذ الجبار يبرز بانتقام ... ويبدي للورى غضبا وسخطا فيدنيه ويلهمه بفضل ... محامد مثلها ما قط أعطى ومهما رام يشرع في سجود ويضرع بالدعا ويخر هبطا

قافية الواو

يناد ارفع تطلع وأشفع تشفع ... وقل يسمع وسل ما شئت تعطى فيحظى بالمراد قرير عينٍ ... بما أولاه تكرمة وغبطا ويصدر شافعا في كل عاصٍ ... مصر دنس الأعمال وخطا ويخرج من له أدنى نواةٍ ... من الأيمان والنيران فرطا جزاه الله عنا كل خير ... وحاط به ديار الدين حوطا ولا زالت صلاة الله تترى ... عليه ما بدا بدر وغطى تفوح وختمها مسك عبيق ... يعم عبيره آلا ورهطا وأنشدني أيضاً لنفسه في ذلك، مكملا ما سقط من الحروف من كلام ابن فرج السبتي المتقدم الذكر قوله جاريا على طريقته: قافية الواو وقفت على تمثال نعل كريمةٍ ... فأحييت برسم الشوق مني ما أقوى وأيقنت إني إذ ظفرت بلثمها ... تمسكت في أخرى بالسبب الأقوى وناديتها يا نعل عذراً فإنني ... على مدح بعض من معاليك لا أقوى وطئت ربوعا للهدى ومغنيا ... علاها على الرضوان أسس والتقوى ولامست وجلا لو يطاوع تربها ... ثريا السما شدت لتقبيله حقوا قافية لام الألف لآلي نعال المجد أهلا بها أهلا ... وشكرا لأن كنا لتقبيلها أهلا لآلى رسول مسها جلد رجله ... بها ورد فخر مذب العل والنهلا لآدم هذا الفخر أيضاً لأننا ... بذي النعل أنقذنا الغواية والجهلا

قافيه الياء

لأقسم يا من لآم فيها عليك لا ... تعذب بتعاذلي ومهلا به مهلا لأني غريق في هوى حبها وكم ... محب يرى التعذيب في حبها سهلا قافيه الياء يود لساني أنَّ يؤدي مدحها ... نعالا فيعينني علاها وحرف اليا يؤدي ولكن لا يطيق كمالها ... ولو أنَّه يفعل بيان الورى فليا يمينا وإني في يميني صادق ... لحليتها صيغت من الجنة العليا يواقيت سر الكون والجود رصت ... بها وطأة التقديس فانتظمت حليا يواري علا رجل على من مشى بها ... سلام مدى ما ازداد من ربه وليا وأنشدني أيضاً لنفسه في ذلك قوله: هذى نعال أحمد ... مولى المقام الأحمد فاشكر أخي إذ شمت من ... برق سناها وأحمد واكتحلن بتبرها ... فهو شفاء الأرمد وارشف ثراها أنَّه ... يجلى صدا القلب الصدي وألمس بها طرسها ... تنل كمال المقصد واقبس سنى من نورها ... فهي سراج المهتدي وضمها لصدره ... ضمة ذي تودد من لم تزل في بيته ... يحظى بعيش رغد

يضحى ويمسي آمنا ... في كل يوم أو غد لا يمترى في فضلها ... سوى غبيٍ أو غد أو جاهلٍ بقدرها ... أو جاحد أو ملحد كم أبرأت من علة ... من كل داء مجهد وكم أبانت من هدى ... بنورها المؤيد وكم أبادت من عدي ... بسيفها المهند وكم أجارت من حمى ... بركانها المشيد فهي أمان خائف ... وهي رجاء القاصد وهي عماد الملتجي ... وهي مراد الرود بالغ أخي في مدحها ... واشدد بأزري وأعضد وانسب لها ما شئت من ... فخر ولا تفند وقف هنا هنيهة ... وقفة صبٍ مسعد وانهض إلى نقبيلها ... نهضة خلٍ منجد وقل إذا قبلتها ... مقالة المستنجد يا أكرم الخلق الذي ... قد حاز كل سودد يا مصطفى آثاره ... بها الأنام تهتدي ويا مجير خائفٍ ... من كل سوء يعتدي ويا محب سائل ... إذا أتاه يجتدي عبيدكم ببابكم ... حيران ذا تردد وافي علاك تائبا ... من ذنبه المعدد

يرفع من مديحه ... إلى علاك الأمجد عقائلا تنسق من ... در ومن زبرجد تحكي عقود جوهر ... أقسامها من عسجد فامنن له بعطفه ... من فضلك الممجد ونهلة من حوضظ الْ ... عذب اللذيذ المورد ووقفة بروضك ... الغض الندى المورد وزورة لقبرك ... المرضي الزكي الملحد وأوبة له عسى ... يكون ثم مرقدى صلى عليك الله ما ... بدا ضياء الفرقد والآل والصحب الألى ... فازوا بكل الأسعد ومن أتى من بعدهم ... من كل حبر أوحد ومن تلا جميعهم ... ما زم ركب أو حدى ورددت من منشد ... هذي نعال أحمد وأنشد أيضاً لنفسه في ذلك الغرض: نعال بها يشفى العليل من الجوى ... وتجلي بها عنه المصائب والبلوى هي البرء إلاّ أنَّ شرب دوائها ... لذائقه أحلى من المن والسلوى هلموا نقبل تربها فعسى به ... نخمد جمرا من لظاها الحشي تكوى فرب عليل جاءه من طبيبه ... بشير فخفت عنه من حينه الشكوى

بين القاضي عياض والزمخشري

وأنشد أيضاً لنفسه في ذلك الغرض: أتت شمس السماء تحط راسا ... لهذي النعل من دون النعال وتلثم تربها ذلا لتحظى ... بما رامته من رتب المعالي فقال لها الهلال وقد رآها ... أنخضع لا محالة للنعال؟ فنادته أبتدرها لا تؤخر ... فيفتضح المعالي بالمعالي وخاطبني في هذا الغرض مشيرا إلى إثبات هذه المنظومات التي سمحت بها ريحته في هذا الموضوع: أمفتي فاس زند شوقي قد ورى ... بخير الورى فانقاد طوع عنان وهبت صبا نجد فهاجت صبابتي ... وساعد بلبالي بيان بناني وصالت على أوصال فكري فأقلعت ... عرائس غرس من جنان جناني وقد ذوت الأغصان وانتثرت بها ... أزهارها تحكي نثير جمان وهذا أوان الغرس جودوا بنقلها ... لروضكم تحظى بنيل أمان ولنرجع بعد هذا المقدار إلى ما كنا بصدده فإن مثل هذا الغرض لا سبيل لحصر عدده فنقول: بين القاضي عياض والزمخشري وممن استجاره القاضي أبو الفضل عياض رحمه الله ولم يجزه الزمخشري صاحب الكشاف سامحه الله.

بين الحافظ السلفي والزمخشري

وسمعت غير واحد ممن لقيته يخبر أنَّ القاضي عياض لمّا بلغه امتناع الزمخشري من إجازته قال: الحمد لله الذي لم يجعل علي يدا لمبتدع أو فاسق أو نحو هذا من العبارات والله اعلم. وإمامة الزمخشري في العلوم معروفة ولكن أعنة القلوب إلى من بيده التوفيق وضده مصروفة. ولا بد من الإلمام ببعض أحوال هذا الرجل الذي اختلفت في أمره الآراء وآنس من جانب البيان والنحو نارا وأنكر الحق وقد وضح النهار وذكر يعضهم أنه تاب ويأبى ذلك تصريحه في كشافه بما خالف السنة جهارا فإنه لو صح ذلك لمحاه أو أشهد على نفسه بالرجوع عما قصده فيه وانتحاه وكثير من الأئمة أغضى عن اعتزاله وانتفع بكشافه مع قطر النظر عن موضع التهمة واختزاله. بين الحافظ السلفي والزمخشري وممن استجاره فأجازه الإمام الحافظ أبو الطاره السلفي الأصبهاني المتقدم الذكر رحمه الله فإنه خاطبه في ذلك بما نصه بعد البسملة: إنَّ رأي الشيخ الأجل العالم العلامة أدام الله توفيقه أنْ يجبز جميع سماعاته ورواياته وما ألفه في فنون العلم وأنشأه من المقامات والرسائل والشعر لأحمد بن محمّد بن أحمد السلفي الأصبهاني يذكر مولده ونسبه إلى أعلى أب يعرف ويثبت كل ذلك بخطه تحت هذا الاستدعاء مضافا إليه ذكر ما صنفه وذكر شيوخه الذين أخذ عنهم وما سمع عليهم من أمهات المهمات حديثا كان أو لغة فعل مثاب وإنْ تمم إنعامه بإثبات أبيات قصار ومقطوعات في الحكم والأمثال والزهد وغير ذلك

من نظمه ومما أنشده شيوخه من قلبهم أو من قبل شيوخهم بعد تسمية كل منهم وإضافة شعره إليه والشرط في كل هذا أنْ يكون بالإسناد المتصل إلى قائله كان له الفضل وكذلك إنْ صحبه أصحبه بشيء من رواياته أنعم بكتب أحاديث عاليه والله تعالى يوفقه ويحسن جزاءه ويطيل لنشر العلم والإفادة بقاءه. ويعلم وقه الله أنَّه قد وقع إلينا كتاب من يعقوب بن شرين الجندي رحمه الله وفيه قصيدة يرثي بها البرهان البخاري والحاجة داعية إلى معرفة اسمه ونسبه وضبطه هل هو ابن شرين بالسين المهملة أو المعجمة وكذلك الجندي بفتح الجيم والنون أو ضم الجيم وإسكان النون بعدها. والحمد لله حق حمده وصلواته على سيدنا محمّد نبيه وعبده وعلى آله وصحبه أجمعين من بعده. فكتب إليه الزمخشري ما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم. أسأل الله أنْ يطيل بقاء الشيخ العالم ويديمه لعلم يغوص على جواهره ويفتق الأصداف عن ذخائره ويوفقه للعمل الصالح الذي هو مرى أغراض أولى العقل ومطمح أبصار المرتكضين إلى غاية الفضل ولقد عثرت من مقاطر قلمه على جملة تنادي على غزارة بحره وتطبي القلوب إليَّ التزين بسموط دره. وأما ما طلب عندي وخطب إلي من العلوم والدرايات والسماعات والروايات فبنات خلعت على تربيتهن الشباب ثن دفنهن وحثوت عليهن التراب وذلك حين آثرت الطريقة الأويسية على بنيات الطرائق وأخذت الحجب والعوائق ونقلت كتبي كلها

إلى مشهد أبي حنيفة رحمه الله وأصفرت منها يدي إلاّ دفترا واحدا قد تركته تميمة في عضدي وهو كتاب الله المبين والحبل المتين والصراط المستقيم لأهب لمّا قعدت بصدده كلي وألقى عليه وده كلي لا يشغلني عنه بعض مثال يجعل الرأي مشتركا ويرد القلب مقتسما ولذت بحرم الله المعظم وبيته المحرم وطلقت ما وزرني بتا وكفت ذيلي عنه كفتا ما بي هم إلاّ خويصت وما يلهيني إلاّ النظر في قصتي أنتظر داعي الله صباح مساء وكأني به وقد امتطيت الآلة الحدباء قد وهنت العظام ووهنت القوى وقلت الصحة وكثر الجوى وما أنا ذماء يتردد في جسد هو هامة اليوم أو غد فما لمثلي وليس له من الآخرة شيء. ولقد أجزت له يروى. محمود الخوارزمي ثم الزمخشري منسوب إلى قرية منها هي مسقط رأسي ولبعض أفاضل المشرق: فلو وازن الدنيا تراب زمخشر ... لأنك منها زاده الله رجحانا وللشريف الأجل الإمام عليّ بن عيسى ببن حمزة بن وهاس الحسني: جميع قرى الدنيا سوى القرية التي ... تبوأها دارا فداء زمخشرا وأحر بأن تزهي زمخشر بامرئ ... إذا عد في أسد الشرى زمخ الشرى فلولا ما طن البلاد بذكرها ... ولا ظار فيها منجدا ومغمورا فليس ثناها بالعراق وأهله ... بأعرف منه في الحجاز وأشهر ومن المقطوعات التي اخترعتها من فبلي: ومروعة بمشيب رأسي أقبلت ... تبكي فقلت لها ودمعي جاري

هذا المشيب لهيب نار أوقدت ... في القلب موقدها حذار النار أخرى: إليك إلهي المشتكى نفس مشته ... إلى الشر تدعوني عن الخير تنهاني وما يشتكي الشيطان إلاّ مغفل ... إلاّ إنْ نفس المشتهى ألف شيطان أخرى: شكوت إلى الأيام سوء صنيعها ... ومن عجب باك تشكي إلى المبكى فما زادت الأيام إلاّ شكاية ... ومازالت الأيام تشكي ولا تشكى أخرى: مسرة أحقاب تلقيت بعدها ... مساءة يوم أريها شبة الصاب وكيف بأن تلقي مسرة ساعة ... وراء تقضيها مساءة أحقائب أخرى: الخوض في دول الدنيا يلج بكم ... كأنها لجج خواضها لجج كم خلصت لجج البحر الرجال وما ... أقل من خلصته هذه اللجج أخرى: مبالاة مثلى بالرزايا غضاضة ... أباها وثيق العقدين حصيف إذا أقبلت يوما على صروفها ... لأنيابها في مسمعي صريف عتاب لها حتى أشقى نحورها ... أسنة عزم حدهن رهيف يمسحن أركاني وهن قوافل ... صفا صادرات النبل عنه مصيف

والقاضي أديب الملوك أبو إسماعيل يعقوب بن شرين الجندي أفضل الفتيان في عصره وأعقلهم وأذكاهم وأدهاهم وكان كاتب سلطان خوارزم فاستعفى وهو يكتب باللسانين العربية والفارسية ويحسن وهو ممن رببت وخرجت وبلغت تلك الذروة وهو أوثق سهم من كنانتي. والحمد لله أولا وآخرا والصلاة على نبينا محمّد وآله والطيبين. ثم غن الشيخ السلفي عاوده الاستجازة في السنة الثانية من إسكندرية كأنه ما وصلته إجازته فقال: بسم الله الرحمن الرحيم. المسئول من كرم الشيخ الأجل العلامة أدام الله بهجته وحرس مهجته أنْ يجيز لأحمد بن محمّد السلفي الأصبهاني جميع مسموعاته ومجموعاته في جميع الفنون ويثبت بخطه أساميها تحت هذا الخط ويضيف إلى ذلك ذكر شيوخه الأعلام الذين أخذ عنهم الحديث واللغة ويذكر جملا مما سمعه عليهم ويتمم تفضيله بإثبات أحاديث قصار من رواياته عنهم وكتب شيء من شعر من رآه وأنشده من قبله بعد المبالغة في التعريف به ولا يذكر من الأبيات إلاّ القصار التي تصلح لأصاب الحديث ويتصور إخراجها في الأمالي وأواخر الفوائد ويذكر متفضلا مولده والسنة التي ولد فيها فالحاجة داعية إلى كل ذلك ويبين ذكر الموتلف والمختلف الذي ألفه في أي فن هو وعلى أي شيء يجوز؟ أعلى ذكر الفقهاء أو الأدباء

أم أهل الحديث؟ ولا يحوج أدام الله توفيقه إلى المراجعة فالمسافة بعيدة وقد كتب في السنة الماضية ولم يجبه بما يشفي الغليل وله في ذلك الثواب الجزيل إنْ شاء الله تعالى وبه الثقة. فأجاب فجر خوارزم بما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم ما مثلي مع أعلام العلماء إلاّ كمثل السها مع مصابيح السماء والجهام الصفر والرهام مع الغوادي الغامرة للقيان والإكام والسكيت المخلف مع خيل السباق والبغاث مع الطير العتاق وما التلقيب بالعلامة إلاّ شبه الرقم بالعلامة كما قال العرب وقيل له لم سميت نعامة: الأسماء علامة وليست بكرامة ولو كانت كرامة لاشتراك الناس في اسم واحد. والعلم مدينة أحد بابيها الرواية والثاني الدراية وأنا في كلا البابين ذو بضاعة مزجاه ظلي فيه أقلص من ظل حصاه وأما الرواية فحديثة الميلاد قريبة الإسناد لم تستند إلى علماء نحارير ولا إلى أعلام مشاهير وأما الدراية فثمد لا يبلغ أفواها وبرض لا يبل شفاها ولا يغرنكم قول الوزير مجير الدولة: وجولت فكرى في البلاد فلم يقع ... على رجل في علمه غير راجل إلى أنْ جرى الطير السنيح فدلني ... على فخر خوارزم ورأس الأفاضل ولا قول المنتخب محمّد بن أرسلان: وما ناصر الإسلام إلاّ ابن بجدة ... يحيط بعلم لا يحيط به الورى

أبو القاسم المحمود محمود الذي ... به تفخر الدنيا وناهيك مفخرا ولا قول الشريف الأجل ذي المناقب أبي الحسن عليّ بن حمزة بن وهاس الحسني المدني. قال أحمد المقري وفقه الله: هو عليّ بضم أوله وفتح ثانيه ابن عيسى ابن حمزة بن وهاس الحسني العلوي وقيل إنَّ الكشاف برسمه صنعه الزمخشري رحم الله الجميع. رجع إلى قول الزمخشري: وكم للإمام الفرد عندي من يد ... وهانيك مما قد أطاب وأكثر أخي العزمة البيضاء والهمة التي ... أنافت به علامة العصر والورى جميع قرى الدنيا سوى القرية التي ... تبوأها دارا فداء زمخشرا وأحر بأن تزهي زمخشر بامرئ ... إذا عد أسد الشر زمخ الشرى فلولا ما ظن البلاد بذكرها ... ولا طار فيها منجدا ومغمورا فليس ثناها بالعراق وأهله ... بأعرف من في الحجاز وأشهرا إمام فلينا من فلينا وكلما ... طبعناه سبكا كان أنضر جوهرا ومكة راووق الرجال فهاكه ... مصفى وخذ من شئت منهم مكدرا رسا طود تقوى فاض بحر فضائل ... فكم أذل أطوادا وغيض أبحرا وتحت علاق الصدق سر مطهر ... يمدان دينا كالمجرة نيرا

فلولا سماء أشمست ثم أقمرت ... كفى بمعاليه شموسا وأقمرا ولا قوله رحمه الله: لقد شجى في أم رأسي عزمه ... فأصبحت من عزم الإمام أمما تمنيت لو لم ألقه وجهلته ... ولم يخشى قلبي بالفراق كلوما فديت أمرا يحشو الفؤاد فراقه ... كلوما ولقياه حشته علوما وكائن رأينا من أولى العلم والتقى ... رجالا أناخوا بالحجاز قروما فأخمد أستاذ الزمان ضياءهم ... وكان وكانوا شارقا ونجوما ولا قوله رحمه الله: أتى حرم الله العظيم مجاورا ... فلله ما أدنت جمال وأينق فمن حوضه عنت ظماء ذوي النهى ... فآبت رواء وهو ملآن يفهق ولا قول العميدي رحمه الله: ولو وازن الدنيا تراب زمخشر ... لأنك منها زاده الله رجحانا ولا قول بعض فتيانها المجيدين: دعوك بحار الله والله عالم ... بأنك جار الله حقا كما وجب لعمري لقد فاضت وأنت مفيضها ... على حرم الله الصنائع والقرب رقبت ذمام الله من كل مؤمن ... وواسيتهم بالعلم طرا وبالنشب وأنت الإمام الزاهد الورع الذي ... أبيت أغترارا باللجين وبالذهب وإنك للعلامة الجامع الذي ... جمعت أفنين العلوم إلى الأدب وما نصر الإسلام غيرك أهله ... وإنْ طار أعلى المنازل والرتب ومن طالع التفسير أيقن أنه ... من الفلك الأعلى أتى اللقب

وإنك أستاذ الزمان وكلهم ... تلامذة جاثون ضغرا على الركب وسمتك إذ فرقت في كل بلدة ... جواهر علم شيخها العجم والعرب فما لخوارزم التي أنت فخرها ... علتها الثريا إنَّ ذاك من العجب ولا قول ابن القرطبي: قسما بلغ تحياتي إلى ... شيخنا العلامة الحبر العلم ليس قس عنده قسا ولا ... سيبويه الشهم يدري ما الكلم أي آداب وعلم وتقى ... منه فارقت وحلم وحكم قل إذا ما الدهر أمسى عابسا ... إنَّ محمودا لك ابن يبتسم لو جعلت اليم حبرا والفيلا ... مهرقا كانت معاليه أطم إنْ من جراه لولا المصطفى ... كنت فضلت على العرب العجم كل موجود سواه حيث لم ... أر ذاك الفضل في عيني عدم ولا قول الخطيب الموفق: لسانك غواص ولفظك لؤلؤ ... وفكرك بحر للفضائل طامي لسان يود الحاسدون لو أنه ... سنان قناة أو غرار حسام ولا قوله أيضاً: أفخر خوارزم مالي عنك منحرف ... ما دام يختلف الأنوار والسدف ألست أنت الذي خولتني نعما ... تطوي وتنشر في تعدادها الصحف ألست أنت الذي أوليتني رتبا ... بفضل رفعتها الإيوان يعترف ألست أنت الذي من ورد نعمته ... وورد حكمته أجنى وأغترف أعداؤك استنشر فوني من جهالتهم ... في وصفها وهي عندي فوق ما أصف

ولا قول أديب الملوك يعقوب بن شرين الجندي: فتى سار الآفاق ركبان ذكره ... مغربة طورا وطورا مشرقة إذا حل في أرض أتاه فحولها ... تفيد علوما حوله متحلقة وإنْ خاض في شرح العلوم رأيتها ... لفرط احتشام من معاليه مطرقة فليس له في كل شرق ومغرب ... نظير بنو الدنيا على ذاك مطبقة ولا قول البديع الخوارزمي: أمكة هل تدرين ماذا تضمنت ... يمقدم جار الله منك الأباطح به وإليه العلم ينمي وينتمي ... وفيه لأرباب العلوم المناجح محاط رحال الفاضلين فلم يزل ... يحط إليه الرحال غاد ورائح إذا انتابه الوطاب رأيته ... تحول عنه وهو ملآن طافح بمته الكرام الغر من خير أسرة ... هم قدوة الدنيا الكهول الجحاجح أدلاء ضلال البرايا جباههم ... مصابيح رهبان فدتها المصابح فإن ذلك اغترار منهم بالظاهر المموه وجهل بالباطن المشوه. ولعل الذي غرهم مني ما رأوا من النصح للمسلمين وبليغ الشفقة على المستفيد وقطع المطامع عنهم وإفادة المبار والصنائع عليهم وعزة النفس والرب بها عن الإسفاف للدنيات والإقبال على خويصتي والإعراض عمالا يعنيني فجللت في عيونهم وغلطوا فيّ ونسبوني إلى ما لست في قبيل ولا دبير.

وما أنا فيما أقول بهاضم لنفسي كما قال الحسن رحمه الله في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقوله: " وليتكم ولست بخيركم " إنَّ المؤمن ليهضم نفسه وإنما صدقت الفاحص عني وعن كنه روايتي ودرايتي ومن لقيت وأخذت عنه وما مبلغ علمي وقصاري فضلي وأطلعته طلع أمري وأفضيت إليه بخبيئة وألقيت إليه عجزي وبجرئ وأعلمته نجمي وشجري. وأما المولد فقرية مجهولة من قرى خوارزم تسمى زمخشر وسمعت أبي رحمه الله يقول: اجتاز بها أعرابي فسأل عن أسمها واسم كبيرها فقيل له مخشر والرداد. فقال: لا خير في شر ورد ولم يلمم بها. ووقت الميلاد شهر الله الأصم في عام سبع وستين وأربع مائة. والحمد لله المحمود والمصلى عليه محمّد صلى الله عليه وسلم. انتهى. قلت: وإنما أوردت ذلك مع ما في بعضه من الغلو وعد التأدب مع الشرع في بعض الألفاظ كي تعلم فضل أهل السنة رضي الله عنهم حيث انتصروا على من هذه صفته على زعمه بالحجج البالغة وكسروا أم رأسه ورأس شيعته بالحجارة الدامغة ولم يغن عنه شيء من اعتقاد هؤلاء الغلاة فيه ولمتنفعه ألستنهم التي تأتي بالباطل في صور الحق وتستفضي مطلوبها وتستوفيه اللهم إلاّ أنْ يكونوا غير عالمين باعتقاده فلهم عذر عند اعتراض المعارض وانتقاده وأيا ما كان فقد هدم أهل السنة رضي الله عنهم له ولأحزابه أساسا وكلما حمى حوزته البدعية كليب من شيعته قيض الله له جساسا فظهر الحق وأهله وارتفع غي البتدع وجهله.

ومن بديع نظم الزمخشري المذكور قوله: هو النفس الصعاد عن كبد حرى ... إلى أنْ أرى أم القرى مرة أخرى سريت بشخصي لا بنفسي وهمتي ... وهيهات ما للأخشبين وللمسرى مقيمان عند البيت ما ذر شارق ... منيخان بالبطحاء ما ذكت الشعرى وله من قصيدة: مليح ولكن عند كل جفوة ... ولم أر في الدنيا صفاء بلا كدر ولم أنس إذ غازلته قرب روضة ... إلى جنب حوض فيه للماء منحدر فقلت له جئني بورد وإنما ... أردت به ورد الخدود وما شعر فقال انتظر رجع طرف أجئ به ... فقلت له: هيهات ما لي منتظر فقال ولا ورد سوى الخد حاضر ... قلت له إني قنعت بما حضر وقوله: إذا التصقت بالبحث في العلم ركبتي ... بركة نحري على الجد دأب فإن دام لي عون الإله على الذي ... أعانيه من فضل وبر وأداب وإنْ نظرت عيني على الد والصفا ... مع البر والتقوى نواظر أحباب فقل لملوك الأرض يلهوا ويلعبوا ... فذلك أهوى ما حييت وتلعابي وقوله أيضاً: أربعة للدين أركان ... حبهم يمن وإيمان أربعة أول أسمائهم ... عين وهم في الناس أعيان عتيق والفاروق والجتبى ... منهم ذو النورين عثمان

وقال السيوطي في لطبقات الصغرى ما نصه: محمود بن عمر بن محمّد بن أحمد الزمخشري أبو القاسم جار الله كان واسع العلم كثير الفضل غاية في الذكاء وجودة القريحة متفننا يقال كل علم معتزليا قويا في مذهبه مجاهرا به حنفيا. ولد في رجب سنة سبع وستين وأرب مائة وور بغداد غير مرة وأخذ الأدب عن أبي الحسن عليّ بن المظفر النيسابوري وأبي مضر الأصبهاني وسمع من أبي سعد الشقاني وشيخ الإسلام أبي منصور الحارثي وجماعة وجاور بمكة وتلقب بجار الله وفخر خوارزم أيضاً. وكتب إليه الحافظ السلفي يستجيزه وأصابه خراج في رجله فقطعها وصنع عوضا عنها رجلاً من خشب وكان إذا مشى ألقى عليها ثيابا الطوال فيظن من يراه أنَّه أعرج. وله من التصانيف: الكشاف في التفسير الفائقد في غري الحديث المفصل في النحو المقامات المستقضي في الأمثال ربيع الأبار أطواق الذهب صميم العربية شرح أبيات الكتاب الأنموذج في النجو الرائض في الفرائض شرح بعض مشكلات المفصل الكلم النوابغ القسطاس في العروض الأحاجي النحوية وغير ذلك. مات يوم عرفة سنة ثمان وثلاثين وخمس مائة. أسندنا حديثه في الطبقات الكبرى وتكرر في جمع الجوامع.

وله: إنَّ التفاسير في الدنيا بلا عدد ... وليس فيها لعمري مثل كشافي إنْ كنت تبغي الهدى فالزم قارءته ... فجهل كالداء والكشاف كالشافي انتهى كلام السيوطي. وقال ابن خلكان فيه ما نصه: محمود بن عمر بن حتى الخوارزمي الزمخشري أبو القاسم الإمام له الكتب في التفسير والحديث والنحو واللغة وعلم البيان. إمام عصره غير مدافع تشد إليه الرحال في فنونه وصنف التصانيف الشريفة منا الكشاف لم يصنف قبله مثله والمفضل في النحو وغير ذلك. وسافر إلى مكة وأقام مجاورا زمانا فصار يقال له جار الله لذلك وكان هذا الاسم علما عليه وكانت إحدى رجليه ساقطة وكان يمشي في جارن خشب وسبب سقوطها أنَّه أصابه في بعض أسفاره ببلاد خوارزم ثلج وبرد شديد فسقطت رجله وكان بيده محضر فيه شهادة خلق كثير ممن أطلعوا على حقيقة ذلك خوفا من أنْ يظن به أنها قطعت لريبة وقيل إنَّه سئل عن قطع سبب رجله فقال: دعاء الوالدة وذلك أني في صباي أمسكت عصفورا وربطت خيطا في رجله فأفلت من يدي فأركته وقد دخل في خرق فجذبته فانقطعت رجله في الخيط فتألمت والدتي لذلك وقالت قطع الله رجل الأبعد كما قطعت رجله. فلما دخلت إلى بخارى لطلب العلم سقطت من الدابة وانكسرت الرجل وعملت على عملا أوجب قطعها. وكان الزمخشري معتزلي الاعتقاد متظاهرا به وكان إذا قصد صاحبا

له واستأذن عليه في الدخول يقول له: أبو القاسم العتزلي بالباب. وأول من صنف الكشاف كتب استفتاح الخطبة: " الحمد لله الذي خلق القرآن " فقيل له: متى تركته على هذه الهيئة هجره الناس ولا يرغب أحد فيه فغيره وقال: " الحمد لله الذي جعل القرآن " وجعل عندهم: بمعنى خلق. ورئي في كثير من النسخ: " الحمد لله الذي أنزل القرآن " وهذا إصلاح الناس لا إصلاح المصنف. ومن شعره يرثي شيخه أبا مضر محمودا: وقائلة ما هذه الدرر التي ... تساقط من عينيك سمطين سمطين فقلت لها الدر الذي كان قد حشا ... أبو مضر أذنى تساقط من عيني وأنشد في كتابه الكشاف لبعضهم: يا من يرى مدينة البعوض جناحها ... في ظلمة الليل البهيم الأليل ويرى عروق نياطها في نحرها ... والمخ في تلك العظام النحل اغفر لعبد تاب من فرطته ... ما كان منه في الزمان الأول ويروى أنَّ الزمخشري أوصى أنْ تكتب هذه الأبيات على لوح قبره. وقال غير ابن خلكان في البيت الأخير: أمنن على بتوبة أمحو بها ... ما كان مني في الزمان الأول وهذا لا يناسب الكتب على لوح القبر وإنما يناسبه ما روي ابن خلكان فتأمله.

بين الزمخشري وأهل السنة

ثم قال ابن خلكان: وحدث بعض الأصحاب أنه رأى بجزيرة سواكن تربة ملكها عزيز الدولة ريحان وعلى قبره مكتوب: يا أيها الناس كان لي أمل ... قصر بي عن بلوغه الأجل فليتق الله ربه رجل ... أكنه قبل موته العمل ما أنا وحدي نقلت حيث ترى ... كل إلى ما نقلت ينتقل توفي الزمخشري ليلة عرفة سنة ثمان وثلاثين وخمس مائة. انتهى كلام ابن خلكان. وقد تقدم في التأليف الذي نقلناه عن الشيخ ابن غازي رحمه الله بعض إلمام بحال الزمخشري سامحه الله. ومن نظم الزمخشري قوله يمدح كتاب سيبويه رحمه الله: ألا صلى الإله صلاة حق ... على عمرو بن عثمان بن قنبر فإنَّ كتابه لم يغن عنه ... بنو قلم ولا ابناء منبر بين الزمخشري وأهل السنة وأنشد الزمخشري في كشافه لبعض العدلية يعرض بأهل السنة والجماعة المفلحين وينصر مذهبه الفاسد: لجماعة سموا هواهم سنة ... وجماعة حمر لعمري موكفة

قد شبهوه بخلقه وتخوفوا ... شنع الورى فتستروا بالبلكفة ود تصدى للرد عليه من أهل السنة رضي الله عنهم جم وافر وأبدوا ما يؤيد مذهبهم الظافر وتركوا المبتدع يحك رأسه بغير أظافر. ولنذكر الآن ما حضرنا من ذلك كقول صاحب الانتصاف من لكشاف وهو ناصر الدين بن المنير الإسكندراني رحمه الله تعالى: وجماعة كفروا برؤية ربهم ... هذا ووعد الله ما أنْ يخلفه وتلقبوا عدلية قلنا أجل ... عدلوا بربهم فحسبهم سفه وتلقبوا الناجين كلا انهم ... إنْ لم يكونوا في لظى فعلى شفه وكقوله أيضاً أعني أصحاب الانتصاف: عجبا لقوم ظالمين تلقبوا ... بالعدل ما فيهم لعمري معرفة قد جاءهم من حيث لا يدرونه ... تعطيل ذات الله مع نفي الصفة وكقول الشيخ الإمام أبي عليّ عمر بن محمّد خليل السكوني الأصولي رحمه الله: سميت جهلا صدر أمة أحمد ... وذوي البصائر بالحمير المؤكفة ورميتهم عن نبعة سويتها ... رمي الوليد غدا يمزق مصحفة وزعمت إنْ قد شيهوه بخلقه ... وتخوفوا فتستروا بالبلكفة نطق الكتاب وأنت تنطق بالهوى ... فهو الهوى بك في المهاوي المتلفة وجب الجسار عليك فانظر منصفا ... في آية الأعراف فهي المنصفة

أترى الكليم أتى بجهل ما أتى ... وأتى شيوخك ما أتوا عن معرفة وقول القاضي أبي عمر بن عبد الرفيع: جورية وتلقبت عدلية ... وعن الصواب عدولها للسفسفه نفوا الصفات وعطلوا وتمجسوا ... ويكابرون وشأنهم جلب السفه هكذا وجد بخط الإمام أبي عبد الله بن مرزوق ورأيته بخط بعض الأصحاب: وشأنهم حال السفه، والأمر في ذلك قريب. وقول الإمام القاضي أبي عبد الله محمّد بن عليّ الأجمي التونسي قاضي الأنكحة رحمه الله تعالى: لهواتف هتفوا وظنوا هتفهم ... عدلا لقد بلغوا النهاية في السفه زعموا بأن الذات قام بغيرها ... صفة وفيها أوجبوا حكم الصفة خرقوا سياجا شاده سلف الهدى ... وتمذهبوا بمذاهب مستنكفة وأتى الأخير الغمر من أتباعهم ... يبغي الحجاج معرضا بالبلكفة أعني الخوارزمي ذا الصلفال ... لم يتئد من جهله بالمعرفة بل تاه في بيدا الجهالة معرضا ... كحمار وحش في مهامة متلفة وقول الفقيه أبي زكريا يحيى بن منصور التونسي قال الشيخ ابن مرزوق رحمه الله: وفي جوابه تعريض بجواب الأجمي فوقه: عجبا لحبر في البلاغو ذائق ... علم الفصاحة فرده ومؤلفه جمع المعاني والبيان مكشفا ... أسرار قرآن بأكمل معرفة وأضل الله العظيم فراغ عن ... سنن الصواب وحاد عنه وحرفه فأحق قدرة حادث وأحال رؤ ... ية واجب أو أنْ تكون له صفة ما ذاك إلاّ فعل قهار به ... قوم ذوو رشد وقوم في سفه

والله أسأل رحمة لجميعنا ... ودخولنا فيمن حباه وشرفه متوسلين بأحمد خير الورى ... صلى عليه الله ما نطقت شفة وقوله الفقيه أبي محمّد عبد الواحد اليفرني: قل للذي جمع النظام وخلفه ... من بعده لك موعد لن تخلفه أثبت عدل جماعة في جورهم ... والجور أثبته لهم نفي الصفة ستكون من تلك الجماعة يوم هم ... حمر لغي أو لكي موقفه وقوله شيخ الإسلام أبي عبد الله بن عرفة رحمه الله: لحثالة سموا هواهم معدلا ... وحثالة حمر لكي موقفه قد شهوه بالمحال وعطلوا ... وتستروا باللذات عن نفي الصفة قوله: " قد شبهوه بالمحال " أي لقولهم: " عالم لا بعلم " ونفي العلم يستلزم أنْ يكون محالا. هكذا ألفي في بعض المقيدات والله اعلم. وقول خطيب الخطباء الرئيس الحاجب الفيه المحدث الرحال سيدي أبي عبد الله بن مرزوق التلمساني رحمه الله تعالى: وجماعة عرفت لعمري بالسفه ... وتمسك بظلال أهل الفلسفة عدلت عن النهج القويم فلقبت ... عدلية وعدولها عن معرفة ضلت وقالت لن يرى ربي الورى ... يوم الجزاء فألزت نفي الصفة هذا وكم من زلة زلت وكم ... من مذهب ذهبت به في متلفه وكذاك أسلمت الأمور لنفسها ... هيهات تنقذ نفسها من متلفه كيف السبيل لصرفها عن غيها ... والعدل يمنع صرفها والمعرفة وقال سعد الدين الالتفتزاني رحمه الله عند ذكر البيتين اللذين أنشدهما

الزمخشري ما نصه: ولقد عورض ما أنشده وأنشأه من الهذيان. قال الإمام المحقق محي السنة قامع البديعة كامل الدين المظفر ردا عليهم: لجماعة كفروا برؤية ربهم ... ولقائه حمر لعمري موكفة هم عطلوه عن الصفات وعطلوا ... عنه الفعال فيها لها من منكفة هم نازعوا الخلق حتى أشركوا ... بالله زمرة حاكة وأساكفه هذا غلقوا أبواب رحمته التي ... هي لا تزال على العصاة موكفة ولهم قواعد في العقائد رذلة ... ومذاهب مجهولة مستنكفة يبكي كتاب الله من تأويلهم ... بدموعهم المنهلة المستوكفة وكذا أحاديث النبي دموعها ... منهم على الخدين غير مكفكفه فالله أمطر في سحاب عذابه ... وعقابه أبدا عليهم أوكفه انتهى لكلام السعد رحمه الله. وقال الطيبي رحمه الله: وأجابه بعض أهل السنة بقوله: عبا لقوم ظالمين تستروا ... بالعدل ما فيهم لعمري معرفة البيتين وقد تقدم أنهما لصاحب الانتصاف حسبما صرح بذلك الإمام ابن مرزوق فبان أنه المعنى بقول الطيبي: أجاب بعض أهل السنة والله اعلم. قلت: وقد رأيت بتلمستان بخط الفقيه أبي عبد الله محمّد بن الحداد الوادي آشي ثم الغرناطي نزيل تلمستان رحمه الله جوابا بديعا جدا للشيخ الإمام ابن الجبير اليحصبي أحد أعلام المناخرين بالأندلس ونقلته ن خطه الحسن وهو: وجماعة منشوءة بدعية ... مصروفة عن رشدها متعسفة حاروا وسموا قومهم عدلية ... عدلوا ولكن عن طريق المعرفة

قوم نفوا عن ربهم أحكامه ... في خلقه لمّا نفوا عنه الصفة غطوا على التعطيل بالتنزيه إذ ... ضلوا ضلال الأسرة المتفلسفة فطريقهم أس الضلال وقولهم ... عين المحال محض السفه الحق جب سنام جبائيهم ... وقناة نجل عبيدهم متقصفة وتناثرت خرزات نظام لهم ... والكودن العلاف بل المعلفة والشيخ محمود هو الفيل الذي ... كادوا به المعنى الذي في البلكفة ما منهم إلاّ حمار صوتت ... في فيه جحفلة ويحسبها شفة قال وكتب بخطه الرائق تحت قوله إلاّ حمار ما نصه: البادي أظلم. انتهى. ولا خفاء ببراعة هذا النظم وحسن مساه وتوطئته للتورية البديعة التي هي قوله: " والشيخ محمود " الخ فإنَّ هذا التلميح لقصة الفيل المذكورة في القرآن في قوله تعالى:) ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل (وقد صرح غير واحد من أهل التفسير والسير أنْ اسم ذلك الفيل الذي جاء به أبرهة لهدم الكعبة محمود فجبر بذلك ابن الجبير ما ضاع ن الاتفاق الغريب والله تعالى يجازيه أفضل جزائه وجميع أهل السنة بما أتوا به ن الحجج التي جدعت أنف كل مستريب. وبعد أنْ كتب ما ذكرته من حفظي راجعت مقيداتي فألفيت بها مما نقلته من خط الوادي آشي المذكور ما نصه: أنشدنا شيخنا وبركتنا العالم الجليل الخطيب المصقع البليغ المفيد إمام

وقته في العلوم والتحصيل والفهوم قاضي الجماعة سيدنا أبو عبد الله محمّد بن عليّ بن الازرق رضي الله عنه وأمتع ببقائه وإفادته ووصل أسباب سعادته. قال: أنشدني شيخ الأدباء وحجة البلغاء الكاتب المجيد الأبرع أبو عبد الله محمّد بن الجبير اليحصبي معارضا للبيتين الشهيرين اللذين أنشدهما الزمخشري فعارضهما ابن الجبير بقوله: وجماعة منشوءة بدعية ... مصروفة عن رشدها متعسفة الأبيات. قال شيخنا: ولمّا أنشده الأبيات ناظمها كتبها له بخطه الحسن وكتب تحت قول إلاّ حمار البادي أظلم انتهى. ثم قال الوادي آشي المذكور: ولسيدي ابن الجبير المذكور ومن خطه قيدت: كلما رمت أنْ أقدم خيرا ... لمعادي ورمت أني أتوب صرفتني بواعث النفس قسرا ... فتقاعست والذنوب ذنوب رُبَّ قلب قلبي لعزة خير ... بمتاب ففي يديك القلوب وله أيضاً وقد أشار عليه الرئيس الكاتب أبو عبد الله الشران بإنشاء صدر لمكاتبات سلطانية: ذرعي وصدري بالصدور ... هذا يضيق وذا يدور أنت الملئ بكتبها ... ما للصدور سوى الصدور فأجابه الشران بقوله: تجر اجتهادك لن يبور ... فدع الكلام وكن صبور

إنَّ الصدور بك ازدهت ... بالدر تزدان الصدور نقلت هذا كله من خط الفقيه أبي عبد الله محمّد الوادي آشي المذكور آنفا رحمه الله تعالى. ثم قال الوادي آشي المذكور: سمعت شيخنا الإمام سيدي بن الازرق اصبحي رحمه الله بمجلس تدريسه من الجامع الأعظم بغرناطة يقول: كان أبو محمّد عوف بن يوسف الخزاعي من أهل القيران يقول: الخلائق كلهم أعداء بني آدم وبنو آدم كلهم أعداء المسلمين وجميعهم أعداء أهل السنة. انتهى. وذكر الرشاطي بسند متصل إلى أنس بن مال رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى:) وإنَّ جندنا لهم الغالبون (قال: هم أهل السنة والجماعة. انتهى ما قيدته من خط الوادي آشي المذكور رحمه الله. وكان رحمه الله ممن حل بتلمستان بعد أخذ غرناطة أعادها الله وحصلت له بها مصاهرة مع أعيانها بني مرزوق ثم آلت إلى مقاطعة حسبما ذكر ذلك في بعض ما له من النظم وكان له نظم لا بأس به فمن ذلك قوله رحمه الله بعد بيت سقط من حفظي مضمنه أنَّ الناس لاموه عندما طلق بنت ابن مرزوق أظنه هكذا: يلومني الأقوام من بعد مثال سطا ... عليّ ابن مرزوق ومن بإنفاق

فقلت لهم كفوا الملام فإنني ... تركت ابن مرزوق وأممت رزاقي ومن ذلك قوله يرثي الشيخ الإمام الحافظ بل حافظ الإسلام سيدي أحمد بن يحيى الونشريشي الأصل التلمساني نزيل فاس صاحب المعيار وغيره: لد أظلمت فاس بل الغرب كله ... بموت الفقيه الونشريشي أحمد رئيس ذوي الفتوى بغير منازع ... وعارف أحكام النوازل الاوحد له دربه فيها ورأى مسدد ... بإرشاده الأعلام في ذاك تهتدي وتالله ما في غربنا اليوم مثله ... ولا من يدانيه بطول تردد عليه من الرحمن أفضل رحمة ... تروح على مثواه وتغتدي وقوله في رثائه أيضاً: أبعد ابن يحيى اليوم في الغرب عالم ... يطبق بالفتيا المفاصل مثله ويعرف من فقه النوازل غاية ... يوقع منها ما به بان نبله وإنْ جئت للإنصاف لم يبق مثله ... وهذا الجليل ليس ينكر فضله فإذ كان جاء الموت فالصبر والرضا ... على ما قضي فالحول حوله وقوله في ذلك: رأيت نجوم الدين تبكي حزينة ... على فقد حبر كان قطب أولي العليا فقلت ومن هذا فقال مجيببة ... على الونشريشي رئيس ذوي الفتيا فصحنا وقلنا: ويلنا ثم ويلنا ... على فقده مذ غاب أظلمت الدنيا

عليه من الرحمن أفضل رحمة ... تعاهد مثواه مع لجود والسقيا وقوله وقد بدل القافية: رأيت نجوم الدين تبكي حزينة ... على فقد من قد كان قطب زمانه فقلت ومن فقالت مجيبة ... على الوانشريشي وحيد أوانه إليه أنتهت في الفقه كل رياسة ... ومعرفة زينت بحسن بيانه ومذ غاب عنا أظلم الكون كله ... وصار الضحى ليلا لفقد عيانه وإنَّ عزائي فيه للخلق كلهم ... خصوصا ذوي فقه لعز مكانه وكانت وفاة الإمام الوانشريشي المذكور يوم الثلاثاء موفى عشرين من صفر من عام أربعة عشر وتسع مائة بمدينة فاس رحمه الله ونجب ولده شيخ شيخنا القاضي سيدي عبد الواحد رحمه الله. ومن نظمه أعني الوادي آشي المذكور رحمه الله يمدح الفقيه أحمد العبادي يقول: ومن مثله في العلم فنونه ... مع الدين والتقوى على صغر السن فأثبته المولى وأثبت أمره ... وزكى علوما حاز في غير ما فن ومن نظم الوادي آشي المذكور قوله: يلمسان أرض لا تليق بحالنا ... ولكن لطف الله نسأل في القضا وكيف يحب المرء أرضا يسوسها ... يهود وفجار ومن ليس يرتضى

وقوله رحمه الله: غريب في تلمسان وحيد ... من الأحباب ليس له مشاكل وكم فيها من الأصحاب ولكن ... عدمت بها المناسب والمماثل وكان رحمه الله كثير النسخ والتقليد آية الله في ذلك حتى أني رأيت في خزائن أهل تلمسان بخطه نحو المائة سفر ورأيت بفاس نحو المثان مائة. وأخبرني مولانا شيخ الإسلام عمنا مفتي تلمسان سيدي سعيد بن أحمد المقري رحمه الله أنَّه نسخ بخطه نحو العشرين نسخة من توضيح خليل وكان يحترف بالنسخ رحمه الله ونظمه نظم فقيه وربما يقع له النادر ولولا الإطالة لجلبت أشياء من ذلك زيادة على ما سبق. ورأيت بخطه رحمه الله ما نصه: ولسيدي محمّد العربي أبقاه الله عند محاصرة النصارى للحضرة: بالطبل في كل يوم ... وبالنقير نراع وليس من بعد هذا ... وذاك إلاّ القراع يا رب جبرك يرجو ... من هيض منه الدراع لا تسلبني صبرا ... به لقلبي أدراع وله أيضاً وقد ظفر ببعض المرتدين ممن صار والعياذ بالله غبيا يجره الناس بالحضرة حيا:

إلاّ رب مغمور تنصر ضلة ... فحاق به شؤم الضلال وشره فإنَّ يرتفع عند النصارى بالعتنا ... فكم عندنا من حرف حبل يجره وله أيضاً: صور أنْ كنت نبيلا صورة ... دام في تصويرها البحث وطالا زوجة إنْ دخلت بيتا فقد ... حرمت من بعد ما كانت حلالا جوابه: هي إنْ لم تلتبس زوج امرئ ... بنسا بيت قد أعجزن الرجالا حيث قد أنكرن طرا عصمة ... منه قد ضمن دعواها المقالا وله أيضاً ملغزا: ما رجل يعجب من أمره ... من لم يحقق نفسه أمره حللت له وحرمت زوجته ... في اليوم تثني عشرة مرة انتهى. قلت: وهذا أبو عبد الله المذكور هو صاحب الكتاب الذي بحث به سلطان الأندلس أبو عبد الله المخلوع آخر ملوك الأندلس إلى السلطان الشيخ الوطاسي صاحب فاس وقد تقدم ذكره في أول هذا الموضوع فراجعه إنْ شئت. وقد حلاه الوادي آشي بقوله:

" بليغ العصر بل الدنيا وكالك زمامي النظم والنثر بلا ثنيا سيدي محمّد العربي أنسأ الله أجله وبلغه الله أمله ". انتهى. ورأيت بخط الوادي آشي المذكور ما نصه: من الوثائق المجموعة: إنْ ذكر الموصي في تابه أنْ تنفذ وصيته من سكة كانت تجري في حين الوصية ثم توفي الموصي وقد انقطعت تلك السكة فإن وصيته إنما تنفذ من تلك السكة التي كانت تجري يوم الوصية إلاّ أنْ يكون نص في وصيته أنْ تكون وصيته من النقد الجاري يوم تنفذ الوصية فيكون الله عهد فإن وقعت وصيته مطلقة ولم يشترط صفة فإما يكون ذلك مما يجري يوم التنفيذ وذلك بخلاف الكوالي والديون. انتهى. قال محمّد الوادي آشي قوله: " إنما تخرج مما يجري يوم التنفيذ إنْ لم يشترط الصفة " والذي في الكافئ لابي عمر خلافه وعلى ما في الكافي في ذلك العمل وبه شاهدت شيخنا المواق يفتي وشيخنا قاضي الجماعة ابن منظور رحمه الله يحكم. انتهى. ورأيت بخطه رحمه الله ما نصه: وجد الرئيس القاضي أبي يحيى بن عاصم رحمه الله تعالى: الحمد لله. إنما تستقل العقود الصحيحة وتتم الموجبات الصريحة بثبوتها لدى الحاكم المنعقد ولايته عند تحصيل شروطها صحة وكمالا وذلك بأداء نصاب

شهادتها العادلة استتماماً واستكمالاً، فإذا كان أحد شهدائها السلطان الأعظم أو من أقامه السلطان مقامه، وهو قيوم الشرعة الذي ارتضاه الإمام لإنفاذ أحكامها عوضاً منه؛ فإنَّ العمل الجاري بهذه الحضرة عند أهل كتب الأحكام، وهو اللازم اقتفاؤه، إذا أريد ثبوت العقد فيه هذه الشهادة واكتفاؤه؛ أنْ يشهد القاضي الذي به نصاب هذه الشهادة عليها اثنين من شهداء العدالة أنها شهادته، ثم يؤدي عنده هذان العدلان، ويخطب هذا الرسم على ما مرت به شهادته، ويعلم للشهادة من شهد معه أداء وقبولاً، خطاباً عند غيره من القضاة مقبولاً، فإذا كان الفقه هكذا مقرراً، والعمل على هذه السنة محرراً؛ فمن أشهده الآن قاضي الجماعة بحضرة غرناطة فلان بن فلان الأول من شهيدي الرسم فوقه، على أنْ الشهادة الموضوعة فيه أولاً هي شهادته التي بها أشهد، وأنها مكتوبة بخط يده الذي منه تعود وأنَّه تحملها مسؤلة منه تحقيقياً ويؤدي عليها مطلقاً إيجاباً لها وتصديقاً في كذا. قال الوادي أشي ومن خطه أيضاً: الحمد لله. القول الظاهر الأدله، الدارج على ارتكاب القضاة الأجلة؛ الجاري لدينا به العمل فيما تقبل به العقود المستقلة، قبول خطاب الحكم العدل مطلقاً وإنْ عزل أو توفى، وخط القاضي المعلوم العدالة إذا ثبت أنَّه خطه بكفي. والقول الآخر هو الذي رجحه غير واحد، وأكثروا على صحته من الحجج والشواهد. وللخروج من الخلاف وصون موعده من الاختلاف؛ أشهد الآن قاضي الجماعة، وقيوم أحكامها المطاعة، فلان بن فلان وصل الله توفيقه، وكافأ

تثبته في النظر وتقيقه، بثبوت الرسم فوقه لديه، واستقلاله عنده الاستقلال الكافي المعتمد عليه، لثبوت الرسم فوقه، لصحة الشهادة الأولى، ولإعلامه المعرب عن صحة ثانية الشاهدتين هنالك أداء وقبولاً، فما كان كذلك لمن يرد عليه من القضاة أنْ يقبله على ثاني القولين اتفاقاً، هو الذي أشهد به الآن برهاناً لمّا ثبت لديه من ذلك ومصداقاً؛ تسجيلاً بإشهاده لصحة عقده، وذخيرة لليوم وما يأتي من بعده، وعمدة تقي الحكم على أمل الاحتمالين وأولاهما من إجازته أو رده؛ شهد على قاضي الجماعة المسمى بما فيه عنه من ثبوت وتسجيل وقبول وتعديل؛ وهو في مجلس أحكامه، ومظهر نقضه وإبرامه؛ في كذا. انتهى. قال محمّد الوادي آشي رحمه الله: هذه المسألة فوق هذا تليه، قد صنف فيها الشيخ الفقيه القاضي الجليل سيدي الحاج أحمد بن عبد الجليل اللخمي - ممن أدركناه بغرناطة مدرساً ونائباً عن قاضي الجماعة بها، وأدينا مراراً شهادات، وحضرنا جنازته رحمه الله - تصنيفاً مفيدا، لخص فيه المسألة وأستظهر بالنقول، ولم يبق لأحد ما يقول. وأما من كان شاهدا في رسم ثم صادف أنْ صار قاضياً، وطولب بخطابه، فقد نزلت بي هذه بالمنكب، وأنا أنوب بها لضرورة بعض أيام، لمنيب قاضيها إذ ذاك بالحضرة، أواخر شعبان وأوائل رمضان عام سبعة وتسعين وثمان مائة، فصنعت طريقة مختصرة، كنت تلقيتها من شيخنا ابن منظور وأخبرني أنها طريقة شيخه البدوي: أشهدت عدلين على شهادتي، وأديا لدي بذلك فقبلتهما، وشهد على خط

دعاء مبارك لتفريج الأزمات

الآخر لمغيبه بالحضرة، وكتبت على الغائب: عرف بها عدلان لمغيبه، وعلى شهادتي: أشهدت بها عدلين، وأديا لدي بذلك فقبلتهما، وكتبت أسفله: ثبت بواجبه، وأعلم بذلك فلان، وفقه الله تعالى على من يقف عليه. ونقلت من خط الوادي آشي المذكور ما نصه: وجدت بخط سيدي وشيخي الكاتب الإمام الأعرف، سيدي محمّد بن الجبير، رحمه الله تعالى وعفا عنا وعنه، ما نصه: دعاء مبارك لتفريج الأزمات اللهم إني تبرأت من حولي وقوتي، واستوثقت بحولك وقوتك، أرني عجائب لطفك، وغرائب حكمتك وقدرتك، وأتني بفرج من عندك كما فرجت على يوسف الصديق نبيك، يا ارحم الراحمين. هذا الدعاء إنْ ذكره أسير أو مسجون أو مكروب تسعين ألف مرة، يقول آخر كل ألف: يا لطيف يا لطيف يا لطيف، بعد البسملة، عاجله الفرج في حين، ونفس الله سبحانه عنه، انتهى. ومن خطه أيضاً رحمه الله ما نصه: من كلام بعض العلماء، وينسب إلى الأستاذ أبي سعيد بن لب، رحمه الله: قد يأمر بما يريد فلا يكون وقد ينهى عما أراد فيكون، كلف العباد وأراد منهم ما علم أنهم بع عاملون، كلف بما شرع، وجعل له عاقبة،

وأراد ما وقع، وقطع الارتباط بين المشرع والواقع، فلا يقتضي أحدهما الآخر. انتهى. ومن خطه أيضاً ما نصه: ومن شرح خليل لسيدي أبي القاسم بن سراج: يحتاج إذا بيع الفدان وفيه زرع لم ينبت، أنْ يقول عاقد الوثيقة: " وفي الأرض زرع لم ينبت، فهو للمشتري بالعقد على مقتضى الشرع " لأنه إنْ لم يذكر هذا فقد يتنازع المتبايعان بعد ذلك: هل كان الزرع قد نبت أو لم ينبت، فيؤدي إلى اختلاف المتبايعين، انتهى. ومن خطه أيضاً: وفي شرح عقيدة النسفي للتفتزاني ما نصه: وفي فتاوى قاضي خان: أجمعوا على أنه إذا ارتشى - يعني القاضي - لا ينفذ قضاؤه فيما ارتشى، وأنَّه إذا أخذ القاضي القضاء بالرشوة لا يصير قاضياً ولو قضى لا ينفذ قضاؤه، انتهى. ومن خطه أيضاً رحمه الله: ولبعضهم وكان شيخنا ابن منظور يستحسنهما غاية هذان البيتان: لمّا أسر الماء في أذن الحصى ... وقف النسيم ليسمع الأخبارا فوشى به غرد فخاف فضيحة ... فبكى الغمام فأضحك الأنهارا ومن خطه أيضاً رحمه الله: حدثني الفقيه العدل سيدي حسن بن القائد الزعيم الأفضل سيدي إبراهيم العراف، أنَّه حضر مرة لإنزال الطلسم

تنبيه

المعروف بفروج الرواح، من العلية بالقصبة القديمة من غرناطة بسبب البناء والإصلاح؛ وأنَّه عاينه من سبعة معادن، مكتوباً فيه: إيوان غرناطة الغراء معتبر ... طلسمه بولاة الحال دوار وفارس روحه ريح تدبره ... من الجماد ولكن فيه أسرار فسوف يبقى قليلاً ثم تطرقه ... دهماء يخرب منها الملك والدار ومن خطه أيضاً رحمه الله: أنشدنا شيخنا القاضي ابن منظور بمجلس إقانه قائلاً: إنْ فقيهاً من رندة كان كثيراً ما يتمثل بهذين البيتين: أرى الكساد في صنعة الكتبة ... ما إنْ يباع بها شقص ولا عتبة تباً لصنعة قومٍ رأس مالهم ... حبر تبدده في صفحةٍ قصبة ومن خطه أيضاً رحمه الله ما نصه: ألفيت بخط شيخ شيوخنا قاضي الجماعة، الحافظ أبي القاسم بن سراج، رحمه الله، ما نصه: تنبيه جاءت الرواية في العتبية فيمن اشترى ثمرة على ألا يقوم بالجائحة: أنَّ البيع صحيح والشرط باطل. فلما نزل ما أرى الله به من مجيء النصارى إلى فحص غرناطة، وأفسدوا الزرع، غرم المكترون الكراء، لأن الجيش ليس من الجوائح التي تحط من الكراء، فامتنع الناس بعد ذلك من اكتراء الأرض خوفاً من مجيء النصارى، وأدى ذلك إلى خسارة على الأحباس، فرأيت أنْ تكرى الأرض بشرط أنَّه إنْ جاء النصارى وأفسدوا، أنْ يحط الكراء. فاعتمدت في صحة العقد على قياس العكس، وهو أنَّه لا تفسخ

المعاملة بشرط القيام بالجائحة، فيما لا يشرع فيه القيام بالجائحة، ويبقى النظر في الوفاء بالشرط في مسألة الكراء، لمّا في ذلك من عموم المصلحة. انتهى. ومن خط الوادي آشي المذكور أيضاً ما نصه: قال محمّد بن الحداد الوادي آشي، رحمه الله: وقعت مسألة وهي: رجل رهن بيد آخر داراً له، وحوره أياها، وشرطالمرتهن المنفعة لنفسه، ثم إنَّ الراهن دخل الدار وسكنها، وعادت بيده، واتصل الأمر كذلك إلى تمام الأمد، وحلول الدين، فطلب المرتهن الرهان بكراء المثل، فظهر لي بقصوري وتقصيري، وجهلي المركب وعدم مقدوري، أنَّه لا كراء له، بدليل ظاهر الأقوال والروايات، ومنها ما حكاه في المقرب عن ابن القاسم ونصه: ومن ارتهن دار ثم أذن للراهن أنْ يسكنها، أو يكريها فقد خرجت من الرهن، وإنْ لم يسكن ولم يكر، ومنها ما هو مقرر معلوم أنَّ المتهن إذا ترك كراء الدار ولها خطب وقدر، فمذهب ابن الماجشون أنَّه يضمن كراء مثلها، لأنه تعمد إبطالها، ما لم يكن الراهن عالماً، فإنه لا يضمن حينئذ لأن سكوت الراهن عن ذلك رضاً منه. وكان شيخنا وإمامنا قاضي الجماعة سيدي محمّد بن الأزرق، ابقى الله بركته، وهو الذي وقعت النازلة بين يديه؛ لا يوافق على ما ظهرلي؛ وينازع في ذلك ويرى إلزام الكراء؛ ونسيت الآن ما كان يستدل به، ولست على تحقيق بما حكم بهفيها آخر الأمر، وذلك في عام تسعين وثمان مائة، بيد أنَّه تكلم فيها مع طلبته بمجلس درسه، وحضرت لذلك وأنا أعطلهم وأقلهم علماً، وأسوئهم فهماً، وأقلهم تحصيلاً ونبلاً، وهلم جرا؛ فأجبت بما قيدت

هنا، مستدلاً بما نقلته، فلم يوافقني هو ولا غيره، فضل الله يؤتيه من يشاء، فقد قدر الله أنَّ بضاعتي في العلم مزجاة، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم. انتهى ما حضرني الآن من كلام الوادي آشي؛ ومقيداته وإفاداته وإنشاداته كثيرة جداً. وشيخه ابن الأزرق، المشار إليه في كلامه: هو الإمام العلامة الخطيب الحجة، الأعرف المؤرخ، الناظم الناثر الراوية، قاضي الجماعة بحضرة غرناطة، أعادها الله دار إسلام، سيدي أبو عبد الله محمّد بن عليّ بن محمّد، الشهير بابن الأزرق الغرناطي. قال السخاوي: لازم الأستاذ إبراهيم بن أحمد بن فتوح، مفتي غرناطة، في النحو والأصلين والمنطق، بحيث أنَّه كان جل انتفاعه به، وحضر مجالس أبي عبد الله محمّد بن محمّد السرقسطي، العالم الزاهد مفتيها أيضاً في الفقه، ومجالس الخطيب أبي الفرج عبد الله بن أحمد البقني، والشهاب قاضي الجماعة أحمد بن أبي يحيى الشريف التلمساني. انتهى. وله تآليف عظيمة النغع وقفت عليها بتلمسان منها شرحه اللحافل على مختصر خليل، وسماه شفاء الغليل، وقد توارد مع ابن غازي على هذه التلسية، فالله أعلم بالسابق منها إليها. على أني أعتقد أنَّ كل واحد منها لم يسمع بتسمية الآخر. وقد كان مولانا العم، سقى الله ثراه، يقول: لعل تسمية ابن الأزرق شفاء العليل " بالعين ". قلت: ويبعده إني رأيت الخطبة بخط تلميذه الوادي آشي، السابق أنفاً:

الغليل " بالغين "، ومثله بخط عم أبينا الفقيه العلامة، آية الله في معرفة الأحكام، سيدي محمّد المقري رحمه الله. وهذا الشرح لم يؤلف على مختصر خليل مثله: إقناعاً ونقلاً وفيها، وقد رأيت منه نحو الثلاثة أسفار، ولا أدري هل أتمه أم لا؟ وتمامه يكون في نحو العشرين سفراً، وقد كتبت بتلمسان خطبته في كراسة، وقد أتى فيها بالعجب العجاب، وهي أدل دليل على غزارة علمه، واتساعه في الفروع والأصول، رحمه الله تعالى. ومن جملة تآليفه: روضة الإعلام، بمنزلة العربية من علوم الإسلام؛ غاية في بابه، سفر ضخم فيه فوائد وحكايات. وكتاب بدائع السلك، وطبائع الملك؛ كتاب بديع في موضوعه لخص فيه مقدمة تاريخ ابن خلدون المسمى بكتاب العبر، وزاد عليه زيادات كثيرة نافعة، وهو في سفر ضخم وقد نقل عنه صاحب المعيار، أعني عن ابن الأزرق، وأظن أنه نقل عنه في الجامع الذي ختم بع المعيار. وقد ارتحل رحمه الله إلى تلمسان، عند غلبة العدو الكفار على هضم ما بقى بيد المسلمين بلأندلس، ثم ارتحل منها إلى المشرق ولم أقف على وقت وفاته، إلاّ أنَّه كان ارتحاله لتلمسان بعد التسعين وثمان مائة بلا شك، وغالب ظني أنَّ ذلك في أواخر العشرة التي كملت بها تسع مائة سنة للهجرة النبوية، والله اعلم. ولم أتحقق الآن هل دخلها، أعني تلمسان بعد أخذ غرناطة أو قبله، وقد قدمنا أوّل هذا الموضوع وقت أخذها.

ومن شعره رحمه الله عند نزوله طاغية النصارى دمرهم الله بموج غرناطة، أعادها الله للإسلام بجاه النبي عليه الصلاة والسلام: مشوق بخيمات الأحبة مولع ... تذكره نجد وتغريه لعلعُ مواضعكم يا لائمين على الهوى ... فلم يبق للسلوان في القلب موصعُ ومن لي بقلب تلظى فيه زفرة ... ومن لي بجفن تنهى منه أدمعُ رويدك فارقب للطائف موقعاً ... وخل الذي من شره يتوقعُ وصبراً فإنَّ الصبر خير تميمةٍ ... ويا فوز من قد كان للصبر يرجعُ وبت واثقاً باللطف من خير راحمٍ ... فألطافه من لمحة العين أسرعُ وإنْ جل خطب فانتظر فرجاً له ... فسوف تراه في غدٍ عنك يرفعُ وكن راجعاً لله في كل حالةٍ ... فليس لنا إلاّ إلى الله مرجعُ ومنه قوله عند وفاة والدته رحمها الله تعالى: تقول لي ودموع العين واكفة ... ما أفظع البين والترحال يا ولدي فقلت أين السرى قالت لرحمة من ... قد عز في الملك لم يولد ولم يلدِ ومن بارع نظمه رحمه الله قوله في المجبنات: ورب محبوبة تبدت ... كأنها الشمس في حلاها فاعجب لحال الأنام: من قد ... أحبها منهم قلاها ومن بديع نظمه رحمه الله قصيدة مدح فيها شيخه الإمام العلامة الجليل

أبا يحيى بن عاصم وهي من غرر النظام وحر الكلام وأثبتها لغرابتها: خضعت لمعطفه الغصون الميس ... وزنا فهام بمقلتيه النرجسُ ذو مبسم زهر الربا في كسبه ... متنافس عن طيبه متنفس وموردٍ من ورده أو ناره ... يتنعم القلبالعميد وييأس فالورد فيه من دموعي يرتوي ... والنار فيه من ضلوعي تقبس كملت محاسنه فقد ناصر ... ولواحظ نجل وثغر العس صعب التعطف بالغرام حبيته ... فالحب يحيى والعطف يحبس غرس التشوق ثم أغرى الوجد بي ... فالوجد يغري والتشوق يغرس ما كنت أشقى لو حللت بجنةٍ ... من وصله تحيا اديها الأنفس ألحاظه ورضابه وعذاره ... حور بها أو كوثر أو سندس وليالي أنس قد أمنت بهن من ... واشٍ ومن رقيب يحرس أطلعت شمس الراح فيها فاهتدى ... عاش إلينا في الدجى ومغلس صفراء كالعقيان في الألوان للن ... دمان كالشهبان منها أكؤس صبت شقيقاً فاستحالت نرجساً ... في مزجها فمورد ومورس وحبابها يقني بأسنى جوهرٍ ... أنفى لغم المعدمين وأنفس يجلى بها للغم منها حندساٍ ... قمر عليه من الذؤابة حندس حتى إذا عمشت مراة البدر من ... صبحٍ بدا تلقاءه يتنفس ناديته وسنى الصباح محصحص ... ينجاب عنه من الظلام معسعس يا مطلع الأنوار زهراً يجتنى ... ومشعشع الصهباء ناراً تلمس بك مجلس الأنس اطمأن وبابن عا ... صم اطمأن من الرياسة مجلس

بدر بانوار الهدى متطلع ... غيث بأشتات الندى متبجس حامى فلم نرتع لخطب يعترى ... ووفى فلم نحفل بدهر ينحس شيم مهذبة وعلم راسخ ... ومكارم هتن ومجد أقعس لو كان شخصاً ذكره لبدا على ... أعطافه من كل حمد ملبس ذاكم أبو يحيى به تحمى العلا ... وبه خلال الفخر طرا تحرس بيت على عمد الفخار مطنب ... مجد على متن السماك مؤسس خيم وعرس في حماه فكم حوى ... فيه المراد مخيم ومعرس إنا لنغدو هيما فينيلنا ... ريا ويوحشنا النوى فيؤنس حتى أقمنا والأماني منهضا ... تعالى وابتسمنا والزمان معبس لم ندر قبل يراعه وبنانه ... أنَّ الذوابل بالغمائم تحبس هن اليراع بها يؤمن خائف ... ويحاط مذعور ويغني مفلس مهما انبرت فهي السهام يزي لها ... وقع لأغراض البيان نقرطس تشفى بمأمله التشكي المعترى ... تحبي بمأمنه الحمام المؤيس فتقص حين تشق منها ألسن ... وتسير حين تقط منها أرؤس من كأنَّ وشاء بأسرار النهى ... درب بإظهار السرائر يهجس قد جمع الأضداد في حركاته ... فلذا اطراد فخاره لا يعكس عطشان ذو ري يبيس مثمر ... عضبان ذو صفحٍ فصيح أخرس لله من تلك اليراع جواذب ... للسحر منك كأنها النغنبطس رضنا شماس القول في اوصافها ... فهي التي راضت لنا ما يشمس وإليكما حللاً تنساب نسجها ... مثلي يفصلها ومثلك يلبس واهنأ بعيد باسم مبتهل ... وافاك يجهر بالسرور ويهمس

واحبس لواء الفجر موقوفا فإنَّ ... الحمد موقوف عليك محبس وبعد أنْ كتبت هذه القصيدة حدث لي شك: هل هي من نظم القاضي أبي غب بن الأزرق المذكور أو من نظم ابن الأزرق الآخر الذي جرى ذكره في روضة الأعلام وأنشد له مما يكتب في سيف قوله: إنْ عمت الأفق من نقع الوغى سحب ... فشم بها بارقاً من لمع إيماض وإنْ نوت حركات النصر أرض عدى ... فليس للفتح إلاّ فعلي الماضي قلت: ولق صدق رحمه الله في كل ما وصف به قلم الرئيس أبي يحيى بن عاصم الذي تحلت بجواهره لدولة بني نصر نحور ومعاصم فإنه كان آية الله في النظم والنثر وقد تقدم في هذا الموضوع بعض كلامه، وهو قل من كثر؛ ولولا أني أطلت النجعة في هذا الباب، لأتيت بما حصل عندي من كلامه الذي يسحر الألباب؛ وقد أخذ من الفقه ومعرفة الأحكام بحظ بذلك فيه نظراءه، والنفرد في عصره بطريق الأدب، فكان كل أنداده لا يدركه بل يسير وراءه حتى قال الوادي آشي: إنَّ ابن عاصم أبا يحيى، هو ابن الخطيب الثاني، على أنَّ الدولة النصرانية في زمانه وهت منها المباني؛ ومع ذلك فكان رحمه الله يجبر صدع الواقع، ثم اتسع بعده الخرق على الرقع؛ وقد ألمنا فيما سلف من هذا الكتاب بالتعريف به، وذكرنا جملة من كلامه، فراجع ذلك فيما تقدم. ومن بديع نظمه رحمه الله قوله قاصداً مخاطبة شيخه الحافظ قاضي الجماعة أبي القاسم بن سراج وقد طلب منه الاجتماع به زمان فتنة، فظن أنَّه يستخبره عن سر من أسرار السلطان، فباعده معتذراً ولم يصدق الظن:

عود إلى الرد على بيتي الزمخشري

فديتك لا تسأل عن السر كاتباً ... فتلقاه في حال من الرشد عاطل ونضطره إما لحالة خائن ... أمانته أو خائض في الأباطل فلا فرق عندي بين قاض وكاتبٍ ... وشى ذا بحق أو قضى ذا بباطل عود إلى الرد على بيتي الزمخشري ولنرجع إلى ما كنا فيه من ذكر الرد على البيتين اللذين أنشد الزمخشري فنقول: ومن ذلك قول الإمام ابن عاصم، حسبما نقله عنه العبدري رحمهما الله: قل للذي سمى الهداة أولى النهى ... حمراً لأن سلب الهدى والمعرفة فغدا يرجع الاعتزال جهالةً ... ويروقه زور وشاة وزخرفه الحق أبلج واضح لكنه ... يعشى عيون أولى الضلالة والسفه اخسأ فقولك طائح كهباءةٍ ... طاحت بها هوج الرياح المعصفه سوغت ذم جماعة سنيةٍ ... قد أحرزوا من كل فضل أشرفه قطفوا أزهار كل علم نافعٍ ... وأتوا بكل بديعةٍ مستطرفة قوم هم قمعوا الضلال وحزبه ... بمعاولٍ حكت المواضي المرهفة هم شيعة الحق الذي ما بعده ... إلاّ مهاوٍ في الضلالة متلفه آراؤهم يجلو البصائر نورها ... ويميط أدواء القلوب المدنفه أقصر فإن شقاقهم كفر فلا ... تدع الرشاد لعصبةٍ متعسفة من شذ عن سنن الجماعة قد غوى ... جاءت بذا الكتب الصحاح معروفة

قال العبدري وقد نظم في مثل هذا القاضي أبو حفص بن عمر، فقال: أجعلتم العلماء حمراً موكفه ... هذا لأنكم أو لو تلك الصفة أجعلتم صفة الأله وفعله ... ونسبتموه لغيره بالزخرفه وأردتم تنزيهه فوقعتم ... في الشرك والإلحاد والأمر السفه خالفتم سنن النبي وصحبه ... وتبعتم في الزيغ أهل الفلسفة انتهى. ومما سلك هذا السبيل في الرد على هذين البيتين المتقلصي الظلال، الشيخ الإمام العالم النظار المتبحر، سيدي إبراهيم بن هلال، فقال: عجبا لقوم عادلين عن الهدى ... ودعوا أولي الحق الحمير الموكفة وتقبلوا عدليته لمّا رأوا ... بمقالة شنعاء رأى الفلسفة ما ذاك إلاّ من عمى لبصيرةٍ ... وهوى هووا من أجله في متلفة وأتوا بما دان المجوس وانهم ... حقا مجوس الأمة المتشرفة هذا وكم من بدعة وضلالةٍ ... من رد حق بالمحال وبالسفة ردوا القرآن وما تواتر نقله ... من رؤية الباري وهم نفوا الصفة فالعدل مع هذي المخازي منتفٍ ... والجور معها مثبت والسفسفة ولقاضي الجماعة الفقيه العلامة المفسر، الدراكة البياني، سيدي الرئيس

أبي القاسم بن أبي النعيم قاضي حضرة فاس المحوطة بالله، في هذا التاريخ، أبقي الله جلاله: فيه المجوسية بشرك كفرت ... وصلاح إيجاب ونفي للصفة وبرؤية الباري تجلى غيهم ... في نفيها وتستروا بالفلسفة وأنشدني الفقيه الأديب الحاج الرحال الحسيب الأصيل، سيدي عليّ بن أحمد الشامي الخزرجي، حفظه الله لنفسه، سالكا سنن هؤلاء الأعلام، ومتشبثا بأذيال حزبهم، ومتمسكاً بوثقى عروتهم السنية وقربهم، وكتب لي ذلك بخطه أيضاً، حفظه الله تعالى آمين: يا من أقام على الضلالة معكفه ... ولوى عن الحق الجلى واستنكفه لا بد من يوم تهل من ... رب العباد مواهب مستو كفه ويرى به رب العلا رغما على ... انف العداة العائبين البلكفه وتقول إذ تمسي طريدا ليتني ... أمسيت فيه مع الحمير الموكفه

وقد آن لنا أنْ نمسك عنان القلم الذي جمح، فقد طال بن الكلام في هذه الترجمة، ومن نظر ما أوردنا بعين الرضا ولمح، التمس لنا أحسن الأعذار وأغضى وسمح، والحديث ذو شجون، وكما قيل في الامثال، وربما تكثر المناسبات وتنثال؛ ومقصودنا الفائدة، وهذه الأشياء المجلوبة بها غاية، والله يوفقنا إلى عمل يرضي به عنا، ويدفع كل خطب أتعب وعسى يقبل منا، ويعاملنا بمحض كرمه تطولا ومنا، فليس لنا رب سواه، لا اله إلاّ هو. وصلى الله على سيدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً؛ ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم، وهو حسبنا.

§1/1