أذكار الطهارة والصلاة

عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

آداب الخلاء وأذكاره

آداب الخلاء وأذكاره ... أذكار الطهارة والصلاة تأليف: عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين نبيِّنا محمد وآله وصحبه أجمعين. أمَّا بعد: فإنَّ الأذكار المتعلِّقة بالطهارة والصلاة تصحبُ المسلمين كلَّ يوم وليلة، فهي على ألسنتهم تتردَّد وفي أوقاتهم تتكرَّر، إلاَّ أنَّه قد يخفى على كثير منهم معاني تلك الأذكار ودلالاتها وحِكَمِها وغاياتها، وقد سبق لي بتوفيق الله عزَّ وجلَّ أن كتبتُ شرحاً مختصراً لجملة مباركة من أذكار الطهارة والصلاة ضمن كتابي "فقه الأدعية والأذكار" فرغب بعضُ الإخوة الأفاضل أن يُفردَ في رسالة مستقلة ليكون سهلَ التناول قريبَ المأخذ، وليسهل كذلك تداوله ونشره، وهو هذا الذي بين يديك. وأسأل الله الكريم أن ينفع به وأن يجزي مَن أعان على نشره خير الجزاء، وأن يجعلني وإخواني المسلمين من المقيمين الصلاة وذريَّاتنا، إنَّ ربِّي لسميع الدعاء.

آداب الخلاء وأذكاره لقد جاء في السُّنّة الغَرَّاء بيانُ الأدب الذي ينبغي أن يكون عليه المسلمُ عند دخولِه الخلاءَ وحال قضائه للحاجة وعند خروجه منه، وهي آدابٌ عديدة تدلُّ على كمال هذه الشريعة المباركة وتمامها، وما مِن ريبٍ في أنَّ المسلمَ يفرحُ غايةَ الفرح بتلك الآداب لِما فيها من كمال الحسن في التطهير والنظافة والتنقية والتزكية، بل إنَّها مفخرةٌ للمسلم وأكْرِم بها من مفخرة. روى الإمام مسلم في صحيحه عن سَلمان الفارسي رضي الله عنه قال: "قيل له: قد علَّمكم نبيّكم كلَّ شيءٍ حتى الخِراءَةَ [أي: حتى كيفية قضاء الحاجة] فقال: أجَل، لقد نهانا أن نستقبلَ القبلةَ لغائطٍ أو بول، أو أن نستَنجِيَ باليمين، أو أن نستنجِيَ بأقلَّ من ثلاثةِ أحجارٍ، أو أن نستَنجِيَ برَجيعٍ أو عظمٍ" 1.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:262) .

وفي لفظ آخر للحديث عند مسلم عن سَلمان رضي الله عنه قال: "قال لنا المشركون: إنِّي أرى صاحبَكم يُعلّمكم حتى يُعلِّمكم الخراءةَ، فقال: أجل، إنَّه نهانا أن يستنجيَ أحدُنا بيمينه، أو يستقبلَ القبلةَ، ونهى عن الرَّوث والعَظم، وقال: لا يستنجي أحدُكم بدون ثلاثة أحجار" 1. فهؤلاء المشركون أرادوا عيبَ الصحابة رضي الله عنهم بما اشتمل عليه دينهم من تعاليم متعلِّقة بكيفية قضاء الحاجة، فقالوا على وجه السُّخريَّة: قد علَّمكم نبيُّكم كلَّ شيء حتى الخِراءةَ، فانبرى لهم سلمان الفارسيُّ رضي الله عنه مُبطلاً انتقادَهم محطِّماً تهكُّمَهم، وقال بكلِّ افتخارٍ واعتزازٍ "أجل" أي: نعم، لقد علَّمنا هذا الأمرَ ونحن نفخر بذلك، ثم أخذ رضي الله عنه يُعدِّدُ لهم ـ مفتخراً ـ شيئاً من الآداب الكريمة والتعاليم المباركة

_ 1 صحيح مسلم (رقم:262) .

التي جاءت بها السُّنَّةُ في هذا الشأن، وهي بحقٍّ تعاليم مباركة لا يعرفها هؤلاء ونظراؤهم من أشباه الأنعام، وإنَّما يعرفها مَن منحه الله التوفيق وهداه لهذا الدِّين الحنيف، فالحمد لله على ما هدانا والشكر له على ما أولانا. وفيما يلي وقفةٌ في بيان شيء من هذه الآداب. يُستحبُّ أوَّلاً للمسلم عند دخول الخلاء أن يقول: بسم الله اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذ بكَ مِنَ الخُبُثِ وَالخَبَائِثِ؛ لِما ثبت في الصحيحين عن أَنَسٍ بن مالك رضي الله عنه قال: "كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الخَلاَءَ قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذ بكَ مِنَ الخُبُثِ وَالخَبَائِثِ" 1. والخُبث جمع خبيث، والخبائث جمع خبيثة، وقد جاء في بعض طرق الحديث ذِكر البسملة في أوَّله، قال ابن حجر رحمه الله: "وقد روى العُمري هذا الحديثَ

_ 1 صحيح البخاري (رقم:142) ، وصحيح مسلم (رقم:375) .

من طريق عبد العزيز بن المختار، عن عبد العزيز بن صُهيب بلفظ الأمر: إذا دخلتم الخلاءَ فقولوا بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث، وإسنادُه على شرط مسلم"1. ويشهد لهذا ما رواه ابنُ ماجه وغيرُه عن عليٍّ رضي الله عنه مرفوعاً: "سِترُ ما بين الجِنِّ وعورات بَنِي آدم إذا دخل الخلاءَ أن يقول: "بسم الله"، وهو حديث صحيح بمجموع طرقه2. ومن الأدب إذا كان في سفرٍ وذهب لقضاء الحاجة أن ينطلق حتى يَتَوَارى عن أصحابه؛ لِما رواه أبو داود عن المغيرة بن شعبة: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد البَرازَ انطلق حتى لا يراه أحد" 3.

_ 1 فتح الباري (1/244) . 2 سنن ابن ماجه (رقم:297) ، وانظر: إرواء الغليل للألباني (1/87 ـ 90) . 3 سنن أبي داود (رقم:2) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (رقم:2) .

ومن السُّنّة أن لا يرفع ثوبَه حتى يدنو من الأرض؛ لِما روى أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد حاجة لا يرفعُ ثوبَه حتى يدنو من الأرض" 1. ومن السُّنَّة أن يستترَ عن الناس؛ لِما في صحيح مسلم عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: "كان أحبَّ ما استَتَر به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لحاجَته هَدَفٌ أو حائِشُ نَخل" 2. ومن الأدب ألاَّ يبول في طريق الناس، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اتَّقوا اللَّعَّانَيْن، قالوا: وما اللَّعَّانان يا رسولَ الله؟ قال: الَّذي يَتَخَلَّى في طَريق النَّاس أو ظِلِّهم" 3.

_ 1 سنن أبي داود (رقم:14) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في السلسلة الصحيحة (رقم:1071) . 2 صحيح مسلم (رقم:342) . 3 صحيح مسلم (رقم:269) .

وروى أبو داود في سننه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتَّقوا الملاعِنَ الثلاثة: البَرازَ في الموارد، وقارعةَ الطريق، والظِّلَّ" 1. والمواردُ: طرقُ الماء. ومن آداب قضاء الحاجة ألاَّ يستقبلَ المسلمُ القبلةَ بغائطٍ ولا بولٍ احتراماً لها، ولا يستَدْبرْها، وألاَّ يستنجي بيده اليمنى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّما أنا لكم بمَنْزلة الوالد أعلِّمكم، فإذا أتى أحدُكم الغائطَ فلاَ يستقبل القبلةَ ولا يستدبرها، ولا يستطِب بيمينه، وكان يأمر بثلاثة أحجار، وينهى عن الرَّوث" 2.

_ 1 سنن أبي داود (رقم:26) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (رقم:21) . 2 سنن أبي داود (رقم:8) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:2346) .

وتأمَّل ما في قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّما أنا لكم بمنْزلة الوالد أعلِّمكم" من تَمام الرعاية وحسن العناية وكمال النصح. ومن الأدب إذا استجمر المسلمُ بعد قضائه الحاجة ألاَّ يستجمر بأقلَّ من ثلاث؛ لِما في ذلك من تمام الإنقاء، ولا بأس أن يستعمل ما يقوم مقام الأحجار كالمناديل ونحوها، وله أن يستنجي بالماء وهو أفضل، ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج لحاجته أجيء أنا وغلام معنا إدواةٌ من ماء، يعني يستنجي به" 1. وعلى المسلم عند قضاء الحاجة أن يحذر من رَشاش البول أن يُصيب بدنَه أو ثيابَه؛ لِما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على قَبْرَين، فقال: "أمَا إنَّهما ليُعذَّبان، وما يُعذَّبان في كَبير،

_ 1 صحيح البخاري (رقم:150) ، صحيح مسلم (رقم:271) .

أمَّا أحدُهما فكان يمشي بالنميمة، وأمَّا الآخر فكان لا يستترُ من بوله"، وفي رواية: "لا يَسْتَنْزه عن البول أو من البول" 1. ولا يجوز للمسلم أن يتكلَّم وقت قضائه الحاجة، ولا يشتغل بشيء من الذِّكر والدعاء، ففي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "أنَّ رجلاً مرَّ ورسول الله يبول، فسلَّم عليه، فلَم يردَّ عليه" 2، وفي الحديث دلالةٌ على أنَّ المسلمَ لا ينبغي له أن يتكلَّم وقت قضاء الحاجة؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لَم يردَّ عليه بشيء، ولا ينبغي له كذلك أن يشتغل بشيء من الذِّكر والدعاء، والسلامُ ذِكرٌ ودعاء، والنبيِّ صلى الله عليه وسلم لَم يردَّ السلام على هذا المسلِّم. فهذه جملةٌ من الآداب العظيمة لقضاء الحاجة ندب

_ 1 صحيح البخاري (رقم:1361) ، صحيح مسلم (رقم:292) . 2 صحيح مسلم (رقم:370) .

إليها الإسلامُ وحثَّت عليها الشريعة، وهي تدلَّ على كمال هذا الدِّين وحسنه وجماله. ثمَّ إنَّ المسلمَ يُستحبُّ له إذا خرج من الخلاء أن يقول: غفرانك؛ لما رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ مِنَ الخَلاَءِ قَالَ: غُفْرَانَكَ" 1. وقوله: "غُفْرَانَكَ" في هذا المقام قيل في معناه: أي "خوفاً من تقصيره في أداء شكر هذه النعمة الجليلة أن أطعمه ثم هضمه ثم سهَّل خروجه، فرأى شكره قاصراً عن بلوغ حقِّ هذه النعمة، فتداركه بالاستغفار"2. اللَّهمَّ اغفر ذنوبنا وأعنَّا على طاعتك يا ذا الجلال والإكرام.

_ 1 المسند (6/155) ، سنن أبي داود (رقم:30) ، وسنن الترمذي (رقم:7) ، وسنن ابن ماجه (رقم:300) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:4707) . 2 انظر: الفتوحات الربانية لابن علاَّن (1/401) .

أذكار الوضوء

أذكار الوضوء روى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرُهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لاَ وُضُوءَ لَهُ، وَلاَ وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ" 1، وهو حديث حسن بشواهده، وقد حسَّنه غيرُ واحد من أهل العلم، وهو دالٌّ على مشروعية التسمية في أوَّل الوضوء. وقد اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ في حكمها، فذهب الجمهور إلى أنَّها مستحبَّة، وذهب بعضُ أهل العلم إلى القول بوجوبها، إذا كان عالماً بالحكم ذاكراً لها، فإن جهل حكمها أو نسيها فلا حرج عليه ولا يلزمُه إعادة الوضوء.

_ 1 المسند (2/418) ، سنن أبي داود (رقم:101) ، وابن ماجه (رقم:399) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في الإرواء (1/122) .

وقد سئل الإمام الشيخُ عبد العزيز بنُ باز ـ رحمه الله ـ عن حكمِ مَن ترك التسمية في الوضوء ناسياً، فقال: "قد ذهب جمهورُ أهل العلم إلى صحَّة الوضوء بدون تسمية، وذهب بعضُ أهل العلم إلى وجوب التسمية مع العلم والذِّكر، لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "لا وضوء لمن لَم يذكر اسمَ الله عليه"، لكنْ مَن تركها ناسياً أو جاهلاً فوضوءه صحيح، وليس عليه إعادتُه ولو قلنا بوجوب التسمية؛ لأنَّه معذورٌ بالجهل والنسيان، والحُجَّة في ذلك قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} 1، وقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ الله سبحانه قد استجاب هذا الدعاءَ، وبذلك تعلم أنَّك إذا نسيتَ التسميةَ في أولِ الوضوء، ثم ذكرتها في أثنائه فإنَّك تُسَمِّي، وليس

_ 1 سورة: البقرة، الآية (286) .

عليك أن تعيد أوَّلاً؛ لأنَّك معذورٌ بالنسيان"1، اهـ كلامه رحمه الله. وأمَّا الدعاء على أعضاء الوضوء في أثناء الوضوء، كلُّ عضوٍ بدعاء مخصوص بأن يجعلَ لغسل اليدِ دعاءً ولغسل الوجه دعاءً ولغسل القَدم دعاءً ونحو ذلك، فهذا لَم يثبت فيه شيءٌ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وليس للمسلم أن يعملَ بشيء من ذلك، ومن ذلك قول بعضِهم عند المضمضة: اللَّهمَّ اسقِنِي من حوض نبيِّك كأساً لا أظمأ بعده أبداً، وعند الاستنشاق: اللَّهمَّ لا تحرمنِي رائحةَ نعيمك وجنّاتك، وعند غسل الوجه: اللَّهمَّ بيِّض وجهي يوم تبيَّض وجوه وتسودُّ وجوه، وعند غسل اليدين: اللَّهمَّ أعطنِي كتابي بيميني، اللَّهمَّ لا تُعطنِي كتابي بشمالي، وعند مسح الرأس: اللَّهمَّ حرِّم شعري وبَشَرِي على النار، وعند مسح الأذن: اللَّهمَّ

_ 1 مجموع فتاواه ومقالاته رحمه الله (7/100) .

اجعلنِي من الذين يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنه، وعند غسل الرِّجلين: اللَّهمَّ ثبّت قدمي على الصراط، فكلُّ ذلك مِمَّا لا أصل له عن النَّبيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم. والواجبُ على المسلم الاقتصارُ على ما جاءت به السُّنَّة، والبُعدُ عمَّا أحدثه الناسُ بعد ذلك، قال ابن القيم رحمه الله: "وأمَّا الأذكار التي يقولها العامةُ على الوضوء عند كلِّ عُضوٍ فلا أصل لها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحدٍ من الصحابة والتابعين ولا الأئمَّة الأربعة، وفيها حديث كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم" اهـ1. ويُستحبُّ للمسلمِ أن يقول عقب فراغه من الوضوء: أَشْهَدُ أن لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ؛ لِما ثبت في صحيح مسلم عن عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قال: "كَانَتْ عَلَيْنَا رِعَايَةُ الإِبلِ، فَجَاءَتْ نَوْبَتِي، فَرَوَّحْتُهَا بَعَشِيٍّ، [أَيْ: رَدَدْتُهَا إِلَى مَكَان رَاحَتِهَا فِي

_ 1 الوابل الصيب (ص:316) .

آخِرِ النَّهَارِ] فَأَدْرَكْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِماً يُحَدِّثُ النَّاسَ، فَأَدْرَكْتُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مُقْبلٌ عَلَيْهَا بقَلْبهِ وَوَجْهِهِ إِلاَّ وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، قَالَ: فَقُلْتُ: مَا أَجْوَدَ هَذِهِ! فَإِذَا قَائِلٌ بَيْنَ يَدَيَّ يَقُولُ: الَّتِي قَبْلَهَا أَجْوَدُ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ رضي الله عنه قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُكَ حَينَ جِئْتَ آنِفاً، قَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُبْلِغُ ـ أَوْ فَيُسْبغُ ـ الوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أن لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ إِلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ"1. ورواه الترمذي وزاد: "اللَّهمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابين واجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَّهِّرين" 2، وهي زيادةٌ ثابتةُ كما بيَّن أهل العلم.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:234) . 2 سنن الترمذي (رقم:55) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترمذي (رقم:48) .

وفي هذا الحديث يذكر عُقبة بن عامر رضي الله عنه حِرصَ الصحابةِ رضي الله عنهم على أوقاتِهم وتعاونَهم بينهم التعاون الذي يُحقِّق الفائدةَ للجميع، ومِن ذلك أنَّهم كانوا يتناوبون رعيَ إبلِهم، فيجتمع الجماعةُ ويَضمُّون إبلَهم بعضَها إلى بعض، فيرعاها كلَّ يوم واحدٌ منهم، ليكون ذلك أرفقَ بهم، ولينصرفَ الباقون في مصالِحهم وحاجاتهم، وليتهيَّأ لهم فرصةٌ أكبرُ للاستفادة من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وحضور مجالِسه، ولَمَّا كانت نوبةُ عقبة رضي الله عنه، وعندما عاد بالإبل إلى مراحها في آخر النهار وفرغ من أمرها، جاء إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدرك شيئاً من فوائده ولينهل من معينه المبارك، فأدرك فائدة عظيمةً فرح بها، وهي قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مُقْبلٌ عَلَيْهَا بقَلْبهِ وَوَجْهِهِ إِلاَّ وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ"، فقال رضي الله عنه مُبدياً إعجابه بهذه الفائدة العظيمة:

"ما أجودَ هذه"، فسمعه عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه وكان قد رآه حين دخل، فقال له: "الَّتِي قَبْلَهَا أَجْوَدُ" يُشير إلى فائدة قالها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قبل دخول عقبة رضي الله عنه، وفي هذا دلالةٌ على ما كان عليه الصحابةُ رضي الله عنهم من الحِرصِ على الخير والتعاون في الدلالة على أبواب العلم وأمور الإيمان، فذكر له عمرُ رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُبْلِغُ ـ أَوْ فَيُسْبغُ ـ الوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أن لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ إِلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ". وفي هذا فضلُ إسباغ الوضوء بإكمالِه وإتمامه على الوجه المسنون، وفضل المحافظةِ على هذا الذِّكر العظيمِ عقِب الوضوء، وأنَّ مَن فعل ذلك فُتحت له أبواب الجنَّة الثمانية ليدخل من أيِّها شاء. ويُستحبُّ أن يضمَّ إليه: "اللَّهمَّ اجْعَلْنِي مِنَ

التَّوَّابين واجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَّهِّرين"؛ لثبوت هذه الزيادة عند الترمذي كما تقدَّم، وله أن يقول كذلك: "سُبْحَانَك اللَّهمَّ وبحَمْدِكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أنتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إليك"؛ لِما رواه النسائي في عمل اليوم والليلة والحاكم في مستدركه وغيرُهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن توضَّأ ثم قال: سُبْحَانَك اللَّهمَّ وبحَمْدِكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أنتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إليك، كُتب في رَقٍّ ثم طُبع بطَابَعٍ، فلَم يكسر إلى يوم القيامة" 1، والطَابَع: الخاتم، يريد أنَّه يُختم عليه، ولا يُفتح إلى يوم القيامة. فهذا جملةُ ما ثبت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من الذِّكر المتعلَّقِ بالوضوء، قال ابن القيم رحمه الله: "ولم يُحفظ عنه [أي رسول الله صلى الله عليه وسلم] أنَّه كان يقول على وضوئه شيئاً

_ 1 المستدرك (1/564) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في السلسلة الصحيحة (رقم:2333) .

غير التسمية، وكلُّ حديث في أذكار الوضوء الذي يُقال عليه فكذبٌ مختلق لَم يقلْ رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً منه"1، ثم استثنى رحمه الله حديثَ التسمية وحديثَي عمر وأبي سعيد المتقدِّمين. والله وحده الموفِّق والهادي إلى سواء السبيل.

_ 1 زاد المعاد (1/195) .

أذكار الخروج إلى الصلاة ودخول المسجد والخروج منه

أذكار الخروج إلى الصلاة، ودخول المسجد والخروج منه ثبت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ وَهُوَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبي نُوراً، وَفِي لِسَانِي نُوراً، وَاجْعَلْ فِي سَمْعِي نُوراً، وَاجْعَلْ فِي بَصَرِي نُوراً، وَاجْعَلْ مِنْ خَلْفِي نُوراً، وَمِنْ أَمَامِي نُوراً، وَاجْعَلْ مِنْ فَوْقِي نُوراً، وَمِنْ تَحْتِي نُوراً، اللَّهُمَّ اعْطِنِي نُوراً" 1. وهذا الحديثُ يدلَّ على مشروعية قولِ هذا الدعاء عند التوجُّه إلى المسجد، وكلُّه سؤالٌ لله تبارك وتعالى بأن يجعلَ النورَ في كلِّ ذرَّاته الظاهرة والباطنة، وأن يجعله محيطاً به من جميع جهاته، وأن يجعلَ ذاتَه وجملته

_ 1 صحيح مسلم (رقم:763) .

نوراً، وهذا مناسبٌ غاية المناسبة مع ما ثبت في صحيح مسلم أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: "والصَّلاةُ نُورٌ" 1، فالصلاة نورٌ للمؤمن في دنياه وفي قبره وفي الآخرة، وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: "مَن حافظَ عليها كانت له نوراً وبُرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لَم يُحافظ عليها لَم يكن له نور ولا بُرهان ولا نجاةٌ يوم القيامة" رواه أحمد2، فكان في غاية المناسبة وتمام الحسن والمسلمُ متَّجهٌ إلى المسجد لأداء هذه الصلاة التي هي نور للمؤمن أن يسأل اللهَ أن يُعظِمَ حظَّه من النور في جسمه كلِّه، وأن يجعله محيطاً به من جميع جوانبه. ثم إنَّ المسلمَ يُستحبُّ له إذا دخل المسجد أن يقول: بسم الله، والصلاةُ والسلام على رسول الله،

_ 1 صحيح مسلم (رقم:223) . 2 المسند (2/169) ، قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "بإسناد حسن". مجموع فتاواه (10/278) .

اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ"، وأن يقول كذلك: "أَعُوذ باللهِ العَظِيمِ وَبوَجْهِهِ الكِرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ القَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ". وإذا خرج أن يقول: بسم الله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ، اللَّهمَّ اعْصِمْنِي مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وقد دلَّ على ذلك مجموع أحاديث: فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجدَ قال: بسْمِ اللهِ، اللَّهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد، وَإذا خَرَجَ قال: بسْمِ اللهِ، اللَّهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ" رواه ابن السُّني في عمل اليوم والليلة1.

_ 1 عمل اليوم والليلة (رقم:89) ، وسنده ضعيف، وقال الألباني رحمه الله: "لكن للحديث شاهد من حديث فاطمة عند ابن السني والترمذي، وقال: حديث حسن". تخريج الكلم الطيب (ص:51) .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إِذا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ فليُسلِّم على النَّبيِّ وَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ فليُسلِّم على النَّبيِّ وَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ اعْصِمْنِي مِنَ الشَّيْطَانِ" رواه النسائي وابن ماجه والحاكم1، وجاء في بعض ألفاظه: "اللَّهمَّ باعدني من الشيطان". وعن أَبي حُمَيْدٍ أو عن أَبي أُسَيْدٍ رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ" رواه مسلم2. وعن عبد الله بن عَمروٍ بنِ العَاصِ رضي الله عنهما، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ المَسْجِدَ قَالَ:

_ 1 السنن الكبرى (6/27) ، وسنن ابن ماجه (رقم:773) ، والمستدرك (1/207) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:514) . 2 صحيح مسلم (رقم:713) .

"أَعُوذ باللهِ العَظِيمِ وَبوَجْهِهِ الكِرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ القَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ قَالَ الشَّيْطَانُ: حُفِظَ مِنِّي سَائِرَ اليَوْمِ". رواه أبو داود1. وهذا مجموع ما ورد مِمَّا يُستحبُّ للمسلم أن يقولَه عند دخول المسجد وعند الخروج منه، وإن طال عليه ذلك اقتصر على ما في صحيح مسلم، وهو أن يقول عند الدخول: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وعند الخروج: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ. قوله: "إذا دخل المسجد" أي حال دخوله المسجد، وقوله: "إذا خرج" أي حال خروجه منه. قوله: "بسم الله" عند الدخول وعند الخروج، الباء للاستعانة، وكلُّ فاعل يقدر الفعل المناسب لحاله عند البسملة، والتقدير هنا بسم الله أدخل أي: طالباً

_ 1 سنن أبي داود (رقم:466) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:1606) .

عونَه سبحانه وتوفيقه، وهكذا الشأن في الخروج. قوله: "والصلاة والسلام على رسول الله" فيه فضل الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد وعند الخروج منه، وهو من المواطن التي يُستحبُّ الصلاةُ فيها والسلامُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد فصَّلها ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ في كتابه: جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام. وفي قوله: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، عند الدخول، واللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ، عند الخروج حكمة، فقيل: لعلَّ ذلك لأنَّ الداخلَ طالبٌ للآخرة، والرَّحمةُ أخصُّ مطلوبٍ له، والخارجُ طالبٌ للمعاش في الدنيا وهو المراد بالفضل، وقد أشار إلى ذلك قولُه تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} 1، وقيل: لأنَّ مَن دخل

_ 1 سورة: الجمعة، الآية (10) .

المسجد فإنَّه ينشغل بما يقربه إلى الله ونيل ثوابه وجنَّته فناسبَ ذكرُ الرحمة، وإذا خرج من المسجد انتشر في الأرض ابتغاء فضل الله لرزقه الطيب والحلال فناسب ذكرُ الفضل1، والله أعلم. وقد دلَّت النصوصُ المتقدِّمة على أهميَّة التعوُّذ بالله من الشيطان الرجيم والالتجاء إلى الله عزَّ وجلَّ منه سواء عند دخول المسجد أو عند الخروج منه، وفي الدخول يقول ـ كما في حديث عبد الله بن عَمرو المتقدّم ـ: "أَعُوذ باللهِ العَظِيمِ وَبوَجْهِهِ الكِرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ القَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ"، وأنَّ العبدَ إذا قال ذلك قال الشيطان: حُفظ منِّي سائر اليوم، أي جميعه. وفي الخروج يقول ـ كما في حديث أبي هريرة المتقدِّم ـ: "اللَّهمَّ اعصمني من الشيطان".

_ 1 انظر: شرح الأذكار لابن علاَّن (2/42) .

وما مِن شكٍّ أنَّ الشيطان حريصٌ على الإنسان غاية الحرص عند دخول المسجد ليَصدّه عن صلاته، وليفوت عليه خيرها، وليقلل حظّه ونصيبه من الرحمة التي تنال بها، وحريص غاية الحرص على الإنسان عند خروجه من المسجد ليسوقه إلى أماكن الحرام وليوقعه في مواطن الريب، وقد صحَّ في الحديث أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الشيطان قاعدٌ لابن آدم بأطرقه" 1، أي: في كلِّ طريق يسلكه الإنسان سواء كان طريق خير أو طريق شرٍّ، فإن كان طريق خير قعد له فيه ليُثبطه عنه وليُثنه عن المُضِيِّ فيه، وإن كان بخلاف ذلك قعد له فيه ليشجعه على المضيِّ فيه، وليدفعه على الاستمرار والمواصلة، نسأل الله أن يعيذنا وإيَّاكم وجميع المسلمين منه.

_ 1 سنن النسائي (6/21) ، والمسند (3/483) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:1652) .

وقوله: "أَعُوذ باللهِ العَظِيمِ وَبوَجْهِهِ الكِرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ القَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" فيه تعوُّذٌ بالله وأسمائه وصفاته، ومن صفاته سبحانه وجهُهُ الموصوف بالكرم وهو الحسن والبهاء، ومن صفاته السلطانُ الموصوف بالقِدم وهو الأوليَّةُ التي ليس قبلها شيء، وفي هذا دلالة على عظمة الله سبحانه وجلاله وكماله، وكمال قدرته وكفايته لعبده المستعيذ به الملتجئ إليه سبحانه.

ما يقوله من سمع الأذان

ما يقوله مَن سمع الأذان لقد ورد في شأن الأذان ـ وهو النِّداءُ إلى الصلاة والإعلام بدخول وقتِها بألفاظ مخصوصة ـ نصوصٌ كثيرة في سنَّة النَّبيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم تدلُّ على فضلِه وعظَم شأنه وكثرةِ منافعه وفوائده، سواء على المؤذن نفسِه أو على من يسمع نداءه. فمن فضائل الأذان ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ المُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ إِلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ" 1، ومدى صوتِه: أي غايتُه ومنتهاه. وفي الحديث دلالة على أنَّ كلَّ مَن سمع صوتَ المؤذِّن من الإنس أو الجنِّ أو الشجر أو الحجر أو

_ 1 صحيح البخاري (رقم:609) .

الحيوانات يشهد له بذلك يوم القيامة، وفي هذا دلالة على استحباب رفع الصوت بالأذان لِيَكثُرَ مَن يشهد له، ما لَم يُجْهِدْه أو يتأذى به. ومن فضائل الأذان ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو يَعلم الناسُ ما في النّداء والصَّف الأول ثم لَم يجدوا إلاَّ أن يستهموا عليه لاستَهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العَتمة والصبح لأتوهما ولو حَبْواً" 1. والاستهامُ: الاقتراعُ، والتَّهجيرُ: التبكير إلى صلاة الظهر، وقيل: إلى كلِّ صلاة، والعتمة: صلاة العِشاء. ومن فضائل الأذان ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نُوديَ للصلاة أدْبَرَ الشيطانُ له ضُراط، حتى لا يسمع

_ 1 صحيح البخاري (رقم:615) ، وصحيح مسلم (رقم:427) .

التأذين، فإذا قُضي التأذين أَقْبَلَ، فإذا ثُوِّب بالصلاة أَدْبَر [أي: إذا أقيمت الصلاة] فإذا قُضي التَّثويبُ أَقْبَلَ، حتى يَخطرَ بين المَرء ونفسه، يقول: اذْكُر كذا، اذكُر كذا لِمَا لَم يكن يَذْكُر، حتى يَظلَّ الرَّجلُ لا يَدري كم صلَّى" 1. وقد دلّ الحديث على أنَّ الأذان يطردُ الشيطان، وأنَّه إذا سمعه ولَّى هارباً حتى لا يسمع التأذين، فهو حينما يسمعه يهرب نفوراً عن سماعه، فإذا قضي يرجع موسوساً ليُفسد على المصلِّي صلاته. والنصوص في فضل الأذان كثيرة. ثم إنَّ المسلمَ إذا سمع النِّداء يُستحبُّ له أن يقول مثلَ ما يقول المؤذِّن؛ لِما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا سَمِعْتُم النِّدَاءَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ المُؤَذِّنُ" 2.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:608) ، وصحيح مسلم (رقم:389) . 2 صحيح البخاري (رقم:611) ، وصحيح مسلم (رقم:383) .

وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذا قَالَ المُؤَذِّنُ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ أَحَدُكُمْ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، قَالَ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللهِ، ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الفَلاَحِ، قَالَ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللهِ، ثُمَّ قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ مِنْ قَلْبهِ، دَخَلَ الجَنَّةَ" 1. وهذا فيه فضلُ سماع النِّداء وترديد كلماته مع المؤذن، بأن يقول مثلَ قوله في جميع الكلمات إلاَّ قوله: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، فيقول بدلهما: لا حول ولا قوة إلاَّ بالله؛ لأنَّ قوله: حيَّ على الصلاة

_ 1 صحيح مسلم (رقم:385) .

دعوةٌ للناس للمجيء لأداء الصلاة، وقوله: حيَّ على الفلاح دعوةٌ لهم للمجيء لتحصيل ثوابها، وفي قول المسلم عند سماع ذلك "لا حول ولا قوة إلاَّ بالله" طلب للعون من الله في تحقيق ذلك. ثم قوله صلى الله عليه وسلم: "من قلبه" فيه دلالة على اشتراط الإخلاص؛ لأنَّه أصلٌ لا بدَّ منه في قبول الأعمال والأقوال. ومن السُّنَّة أن يقول المسلم عقِب سماعه للشهادتين: وأنا أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، رَضِيتُ باللهِ رَبًّا وَبمُحَمَّدٍ رَسُولاً، وَبالإِسْلاَمِ دِيناً؛ لِما روى مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ المُؤَذِّنَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، رَضِيتُ باللهِ رَبًّا وَبمُحَمَّدٍ

رَسُولاً، وَبالإِسْلاَمِ دِيناً، غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ" 1. ورواه أبو عوانة في مستخرجه بلفظ: "مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ المُؤَذِّنَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، قال: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ رَضِيتُ باللهِ ... " الحديث، وهو صريحٌ في أنَّ السَّامعَ يقول ذلك بعد جواب المؤذِّن على الشهادتين، يقوله مرَّة واحدة2. ويُستحبُّ للمسلم بعد انتهاء الأذان أن يُصلِّي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يسأل اللهَ له الوسيلة، ومن سأل له الوسيلة حلَّت له الشفاعة، ففي صحيح مسلم عن عبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنَّه سمع النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إِذا سَمِعْتُمُ المُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بهَا عَشْراً، ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِيَ

_ 1 صحيح مسلم (رقم:386) . 2 انظر: تصحيح الدعاء للشيخ بكر أبو زيد (ص:371) .

الوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الجَنَّةِ لاَ تَنْبَغِي إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ" 1. وأفضلُ صيغ الصلاة عليه هي الصلاةُ الإبراهيميَّة التي علّمها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أمَّته بأن يقول: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ". وروى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلاَةِ القَائِمَةِ آتِ مُحَمَّداً الوَسِيلَةَ وَالفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَاماً مَحْمُوداً الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ" 2.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:384) . 2 صحيح البخاري (رقم:614) .

ثمَّ إنَّ للمسلم بعد ذلك أن يدعو اللَه لنفسه بما شاء من خيري الدنيا والآخرة، فإنَّ هذا الموطن من مواطن إجابة الدعاء، فقد روى أبو داود في سننه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله، إنَّ المؤذِّنين يفضلونَنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قُلْ كما يَقولونَ، فإذا انتهيتَ فسَلْ تُعْطَه" 1. وروى أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يُرَدُّ الدُّعَاءُ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ" 2. فهذا جملةُ ما ورد في هذا الباب، وليحذر المسلمُ أشدَّ الحذر مِمَّا أحدثه الناسُ مِمَّا لَم تثبت به سُنَّة ولم يقُم عليه دليل، والله تعالى أعلم.

_ 1 سنن أبي داود (رقم:524) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:4403) . 2 سنن أبي داود (رقم:521) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:3408) .

أذكار استفتاح الصلاة

أذكار استفتاح الصلاة لقد ثبت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنواعٌ من الأذكار والأدعيَّة يستفتحُ بها المسلمُ صلاتَه فرضَها ونفلَها، ولم يكن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُداومُ على استفتاحٍ واحد، بل كان يستفتحُ بأنواعٍ من الاستفتاحات، وهي في الجملة مشتملة على تعظيم الله وتمجيدِه وحُسن الثناء عليه تبارك وتعالى بما هو أهله، وسؤاله مغفرة الذنوب، ولا يلزم المسلمَ نوعٌ معيَّن من هذه الأنواع، بل بأيٍّ منها أخذ لا حرج عليه، والأوْلَى أن يفعل بعضَها تارة وبعضَها تارة؛ لأنَّ ذلك أكملُ في الاتِّباع. ومن هذه الاستفتاحات ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذا اسْتَفْتَحَ الصَّلاَةَ سَكَتَ هُنَيَّةً قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ! بأَبي وَأُمِّي، أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبيرِ

وَالقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِب، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بالثَّلْجِ وَالمَاءِ وَالبَرَدِ" 1. وفي هذا الاستفتاح سؤالٌ لله تبارك وتعالى أن يُباعِدَ بين العبد وبين خطاياه وهي الذنوب كما باعد بين المشرق والمغرب، وذلك بمَحو الذنوب وعدم المؤاخذة عليها والتوفيق للبُعد عنها، وأن ينقيه من خطاياه أي: ينظفه منها كما ينظف الثوب الأبيض من الدَّنَس بحيث لا يبقى فيه أيُّ أثَر، وأن يغسلَه من خطاياه بالثلج والماء والبَرَد، وفي هذا إشارةٌ إلى شدِّة حاجة القلب والبَدن إلى ما يطهِّرهما ويبردهما ويقويهما. ومن استفتاحاته صلى الله عليه وسلم ما رواه أبو داود وغيرُه عن عائشة وأبي سعيد رضي الله عنهما وغيرِهما: أنَّ النَّبيَّ

_ 1 صحيح البخاري (رقم:744) ، وصحيح مسلم (رقم:598) .

صلى الله عليه وسلم كان إِذا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ قَالَ: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ" 1. وهذا الاستفتاح أُخلِص للثناء على الله سبحانه وتنزيهه عن كلِّ ما لا يليق به، وأنَّه تبارك وتعالى منزَّهٌ عن كلِّ عيب، سالمٌ من كلِّ نقص، محمودٌ بكلِّ حمد. ومعنى قوله: "تَعَالَى جَدُّكَ" أي: ارتفعت وعلَت عظمتُك، وجلت فوق كلِّ عظمة، وعلا شأنُك على كلِّ شأن، وقهر سلطانُك على كلِّ سلطان، فتعالى جدُّه تبارك وتعالى أن يكون معه شريك في المُلك أو الربوبية أو الألوهية، أو في شيء من أسمائه وصفاته، كما قال مؤمنو الجنِّ: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} 2، أي: تعالت عظمتُه وتقدَّست أسماؤه

_ 1 سنن أبي داود (رقم:775) ، و (رقم:776) ، ورواه مسلم (رقم:399) عن عمر بن الخَطَّاب رضي الله عنه موقوفاً عليه. 2 سورة: الجن، الآية (3) .

من أن يكون له صاحبة أو ولد. وقوله: "ولا إله غيرك" أي: لا معبود بحقٍّ سواك. فاشتمل هذا الاستفتاح العظيم على أنواع التوحيد الثلاثة؛ توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. ومن الاستفتاحات الثابتة ما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "بينما نحن نُصَلِّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال رجلٌ من القوم: الله أكبرُ كبيراً، والحمدُ لله كثيراً، وسبحان اللهِ بُكرةً وأصيلاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن القائل كلمة كذا وكذا؟ قال رجلٌ من القوم: أنا يا رسول الله، قال: عجبتُ لها، فُتحت لها أبواب السماء". قال ابن عمر: فما تركتُهنَّ منذ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك1.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:601) .

وهذا كلُّه ذِكرٌ لله وثناءٌ عليه سبحانه بهذه الكلمات العظيمة: "الله أكبرُ كبيراً، والحمدُ لله كثيراً، وسبحان اللهِ بُكرةً وأصيلاً"، فكلُّه تكبيرٌ وتحميدٌ وتسبيحٌ لله، فهو مُخلصٌ في الثناء على الله عزَّ وجلَّ. ومن الاستفتاحات الواردة ما رواه مسلم في صحيحه عن عليٍّ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ كَانَ إِذا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ المَلِكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بذَنْبي فَاغْفِرْ لِي ذنُوبي جَمِيعاً، إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، واهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ، لاَ يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لاَ يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ، لَبَّيْكَ

وَسَعْدَيْكَ، وَالخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ" 1. وهذا كلُّه خبر من العبد عمّا ينبغي أن يكون عليه من ذلٍّ وخضوع وانكسار بين يدي فاطر السموات والأرض. وقوله: "وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ" أي: أخلصتُ دينِي وعملي، وقصدتُك وحدك بعبادتِي وتوجُّهي، وقوله: "حنيفاً" أي مائلاً عن الشِّرك إلى التوحيد. وقوله: "إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ" خصَّ هاتَين العبادَتَين الصلاة والنُّسُكَ ـ وهو الذبح ـ بالذِّكر؛ لشرفهما وعِظَم فضلهما، ومَن أخلص في صلاته ونُسُكِه استلزم إخلاصه لله في سائر

_ 1 صحيح مسلم (رقم:771) .

أعمالِه، وقوله: "مَحْيَايَ وَمَمَاتِي" أي: ما آتيه في حياتِي، وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح كلُّه لله ربِّ العالمين، لا شريك له في شيء من ذلك. وقوله: "اللَّهُمَّ أَنْتَ المَلِكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بذَنْبي فَاغْفِرْ لِي ذنُوبي جَمِيعاً، إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ" فيه التوسُّل إلى الله بملكه وألوهيته وربوبيته، واعترافُ العبد بأنَّه عبدٌ له ظالِمٌ لنفسه معترف بذنبه، وأنَّه سبحانه غافرُ الذنوب ولا يغفرها إلاَّ هو، وهو بهذا يطمع من ربِّه أن يغفر له ذنبَه. وقوله: "واهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ، لاَ يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لاَ يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ" فيه سؤال الله الهدايةَ إلى الخُلُق الحسن، واعترافه بأنّه لا يهدي إليه إلاَّ الله، وأن يصرف عنه الخُلُقَ السيِّئ الرديء، واعترافه بأنَّه لا

يصرفه عنه إلاَّ الله. وقوله: "لبَّيْك" استجابة لنداء الله وامتثال أمره سبحانه، وقوله: "وسعديك" أي: إسعاداً بعد إسعاد، والمراد: طاعة بعد طاعة. وقوله: "والخيرُ كلُّه في يَدَيْك" أي: خزائنه عندك، وأنت المانُّ به المتفضِّل وحدك. وقوله: "والشَّرُّ ليس إليك" فيه تنزيه الله عن الشرِّ أن يُنسب إليه، فالشرُّ لا يُنسب إلى الله بوجه من الوجوه، لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله، وإنَّما الشرُّ يدخل في مخلوقاته ومفعولاته، فالشرُّ في المقضي لا في القضاء، فتبارك وتعالى عن نسبة الشرِّ إليه، بل كلُّ ما نُسب إليه فهو خير. وقوله: "وأنا بكَ وإليكَ" أي: بك أستجير وإليك ألتجئ، أو بك أحيا وأموت وإليك المرجع والمصير.

وقوله: "تباركتَ وتعاليتَ" فيه إثبات استحقاقه سبحانه الثناء والتعظيم. ثم ختم هذا الاستفتاح بالاستغفار والتوبة، وللحديث صلة، والله تعالى أعلم.

أنواع استفتاحات الصلاة

أنواع استفتاحات الصلاة سبق أن مرَّ معنا ذكرُ أنواع استفتاحات النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم للصلاة، وبيانُ شيء من معانيها ودلالتها، وسبق الإشارةُ إلى أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لَم يكن يداومُ على نوعٍ من تلك الأنواع، بل يستفتح بهذا تارةً وبهذا تارة، ومَن يتأمَّل في هذه الاستفتاحات المأثورة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يجدُ أنَّها على ثلاثة أنواع: نوعٌ فيه الثناءُ على الله، ونوعٌ فيه إخبارٌ من العبد عن عبادة الله، ونوعٌ فيه دعاءٌ وطلب. وقد قرَّر شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ أصلاً عظيماً في هذا الباب وأطال في ذِكر شواهده ودلائله، ألا وهو أنَّ أعلى الذِّكر ما كان ثناءً على الله، ويليه ما كان خبراً من العبد عن عبادة الله، ويليه ما كان دعاءً من العبد، ثم قال ـ رحمه الله ـ عقب ذلك: "إذا تبيَّن هذا الأصل، فأفضلُ أنواع الاستفتاح ما كان

ثناءً محضاً، مثل (سبحانك اللَّهمَّ وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدُّك، ولا إله غيرك) ، وقوله: (الله أكبرُ كبيراً، والحمدُ لله كثيراً، وسبحان اللهِ بُكرةً وأصيلاً) ، ولكنْ ذاك فيه من الثناء ما ليس في هذا، فإنَّه تضمَّن ذِكرَ الباقيات الصالحات التي هي أفضلُ الكلام بعد القرآن، وتضمّن قوله: (تبارك اسمك وتعالى جدُّك) وهما من القرآن أيضاً، ولهذا كان أكثرُ السلف يستفتحون به، وكان عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه يجهر به يُعلِّمُه الناسَ. وبعده النوعُ الثاني وهو الخبر عن عبادة العبد، كقوله: "وجَّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض.. الخ"، وهو يتضمَّن الدعاء، وإن استفتح العبدُ بهذا بعد ذلك فقد جمع بين الأنواع الثلاثة، وهو أفضلُ الاستفتاحات كما جاء ذلك في حديثٍ مُصرَّحاً به، وهو اختيار أبي يوسف وابن هُبيرة الوزير، ومن

أصحاب أحمد صاحب الإفصاح، وهكذا أستفتحُ أنا. وبعده النوعُ الثالث، كقوله: "اللَّهمَّ باعِد بينِي وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ... الخ) ... ". اهـ كلامه رحمه الله1. وكان ـ رحمه الله ـ قد قرَّر في مواضع من مؤلفاته قاعدةً نافعةً تتعلَّق بالعبادات التي جاءت في الشريعة على أنواع، وهي أنَّها تُفعل على جميع تلك الأنواع الواردة، قال رحمه الله: "قد تقدَّم القولُ في مواضعَ أنَّ العبادات التي فعلها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على أنواعٍ يُشرَع فعلُها على جميع تلك الأنواع، لا يكره منها شيء، وذلك مثلُ أنواع التشهدات، وأنواع الاستفتاح، ومثل الوتر أول الليل وآخرَه، ومثلُ الجهر بالقراءة في قيام الليل والمخافتة، وأنواع القراءات التي أُنزل القرآن عليها، والتكبير في العيد، ومثلُ الترجيع في الأذان وتركه،

_ 1 مجموع الفتاوى (22/394 ـ 395) .

ومثلُ إفراد الإقامة وتثنيتها ... "، ثم ذكر ـ رحمه الله ـ أنَّ الكلامَ في هذه المسألة من مقامَين: أحدهما: في جواز تلك الوجوه كلِّها بلا كراهة، والمقامُ الثاني: هو أنَّ ما فعله النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من أنواعٍ متنوِّعة، وإنْ قيل إنَّ بعضَ تلك الأنواع أفضلُ، فالاقتداءُ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في أن يُفعل هذا تارةً وهذا تارة أفضلُ من لزوم أحد الأمرين وهجر الآخر، وذلك أنَّ أفضلَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يُداومُ على استفتاح واحد قطعاً"1. وقال رحمه الله: "ونحن إذا قلنا التنوُّعُ في هذه الأذكار أفضلُ، فهو أيضاً تفضيلٌ لجِنس التنوُّع، والمفضولُ قد يكون أنفعَ لبعض الناس لمناسبته له ... لأنَّ انتفاعَه به أتمُّ، وهذه حالُ أكثر الناس، قد ينتفعون بالمفضول لمناسبته لأحوالِهم الناقصة ما لا ينتفعون

_ 1 انظر: مجموع الفتاوى (22/336 ـ 343) .

بالفاضل، فالعبادة التي ينتفعُ بها فيحضر لها قلبُه ويرغبُ فيها أفضلُ من عبادة يفعلها مع الغفلة وعدم الرغبة، وعلى هذا قد تكون مداومتُه على النوع المفضول أنفعَ لمحبَّته وشهودِ قلبه وفهمِه ذلك الذِّكر"1. ثم إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنواعٌ أخرى من الاستفتاح كان يستفتح بها صلاةَ الليل، منها ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إِذا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: "اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ، لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الحَمْدُ، أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ الحَقُّ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ،

_ 1 انظر: مجموع الفتاوى (22/348) .

وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ" 1. وهذا الذِّكر تضمَّن الأنواعَ الثلاثة المتقدّمة: الثناءَ على الله، والإخبارَ من العبد عن عبادة الله، والسؤالَ والطلب، وقدَّم ما هو خبرٌ عن الله واليوم الآخر ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر ما هو خبرٌ عن توحيد العبد وإيمانه، ثم ختمه بالسؤال والطلب2. وهو في الجملة ذكرٌ عظيمٌ ودعاءٌ مبارَكٌ مشتملٌ على أصول الإيمان وأُسُسِ الدِّين وحقائق الإسلام، وفيه التوسُّلُ إلى الله بحمده والثناء عليه والإقرار

_ 1 صحيح البخاري (رقم:1120) ، وصحيح مسلم (رقم:769) . 2 انظر: مجموع الفتاوى (22/390) .

بعبوديته، ثم سؤالُه تبارك وتعالى مغفرةَ الذنوب. ومن استفتحاته صلى الله عليه وسلم لصلاة الليل ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ الصَّلاَةَ: اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الغَيْب وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" 1. وهذا فيه التوسُّل إليه سبحانه بربوبيته العامة والخاصّة لهؤلاء الثلاثة من الملائكة الموكلين بالحياة؛ فجبريل موكَّلٌ بالوحي الذي به حياةُ القلوب والأرواح، وميكائيل موكَّلٌ بالقَطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان، وإسرافيل موكَّلٌ بالنفخ في

_ 1 صحيح مسلم (رقم:770) .

الصُّور الذي به حياة الخلق بعد مماتِهم1، وتوسُّلٌ إليه سبحانه بكونه فاطر السموات والأرض، أي: خالقهما ومبدعهما، وبعلمه سبحانه الغيب والشهادة، أي: السِّرَّ والعلانيةَ، وبأنَّه سبحانه هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، أن يهديه لِما اختلف فيه من الحقِّ بإذنه، والهدايةُ هي العلمُ بالحقِّ مع قصده وإيثاره على غيره، والمهتدي هو العاملُ بالحقِّ المريد له، وهي أعظم نعمة لله على العبد، نسأل الله أن يهديَنا جميعاً إليه صراطاً مستقيماً، وأن يوفِّقنا لكلِّ خير.

_ 1 انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (2/172) .

أذكار الركوع والقيام منه والسجود والجلسة بين السجدتين

أذكار الركوع والقيام منه والسجود والجلسة بين السجدتين ورد في هذا أنواع من الأذكار والأدعية، وفيما يلي عرض لجملة من النصوص الواردة في هذا الباب مع إيضاح شيء من معانيها ودلالتها. روى مسلم في صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه قال: "صَلَّيْتُ مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ البَقَرَةَ، فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ المِائَةِ، ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ يُصَلِّي بهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى، فَقُلْتُ يَرْكَعُ بهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ، فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ، فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً، إِذا مَرَّ بآيَةٍ فِيهَا تَسْبيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ العَظِيم، فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْواً مِنْ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ثُمَّ قَامَ طَوِيلاً قَرِيباً مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ

فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى، فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيباً مِنْ قِيَامِهِ" 1. ففي هذا الحديث مشروعية أن يقولَ المسلمُ في ركوعه (سبحان ربي العظيم) وفي سجوده (سبحان ربي الأعلى) ، قال ابن القيم رحمه الله: "فشُرعَ للرَّاكع أن يَذكرَ عَظمة ربِّه في حال انخفاضه هو وتطامنه وخضوعه، وأنه سبحانه يوصف بوصف عظمته عما يضاد كبرياءه وجلاله وعظمته، فأفضل ما يقول الراكع على الإطلاق: (سبحان ربي العظيم) فإن الله سبحانه أمر العباد بذلك، وعين المبلغُ عنه السفيرُ بينه وبين عباده هذا المحل لهذا الذكر لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} 2 قال: (اجعلوها في ركوعكم) ... "3.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:772) . 2 سورة: الواقعة، الآية (74) . 3 كتاب الصلاة لابن القيم (ص:176) .

وقال عن السجود: "وشرع فيه من الثناء على الله ما يناسبه، وهو قول العبد (سبحان ربي الأعلى) ، فهذا أفضل ما يقال فيه، ولم يرد عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أمره في السجود بغيره حيث قال: (اجعلوها في سجودكم) ... وكان وصف الرب بالعلو في هذه الحال في غاية المناسبة لحال الساجد الذي قد انحط إلى السفل على وجهه، فذكر علو ربه في حال سقوطه، وهو كما ذكر عظمته في حال خضوعه في ركوعه، ونزه ربه عما لا يليق به مما يضاد عظمته وعلوه"1. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولُ فِي رُكُوعِه وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، يَتَأَوَّلُ القُرْآنَ" 2.

_ 1 كتاب الصلاة لابن القيم (ص:181) . 2 صحيح البخاري (رقم:794) ، وصحيح مسلم (رقم:484) .

والمراد بقولها رضي الله عنها يتأول القرآن؛ أي: يتأول قول الله عز وجل في سورة النصر: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} 1، فكان يُكثر أن يقولَ في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللَّهمَّ ربنا وبحمدك اللَّهمَّ اغفرلي". وروى مسلم في صحيحه عنها رضي الله عنها: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِه وَسُجُودِهِ: سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ المَلاَئِكَةِ وَالرُّوحِ" 2. وقوله: "سُبُّوح قُدُّوس" هما اسمان لله دالان على تعظيم الله وتنْزيهه سبحانه عن كلِّ ما لا يليق به من النقائص والعيوب، وعن أن يشبههُ أحدٌ من خلقه في شيء من خصائصه ونعوت كماله، وقوله: "ربُّ الملائكة والروح" فيه ذكر ربوبية الله للملائكة عموماً،

_ 1 سورة: النصر، الآية (3) . 2 صحيح مسلم (رقم:487) .

ثم خَصَّ بالذِّكر جبريل عليه السلام الروح الأمين؛ لكونه أفضلَ الملائكة ومقدّمَهم، وهو الذي كان يَنْزل بالوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 1، وقد سُمِّي جبريل عليه السلام روحاً؛ لأنَّه كان يَنْزل بالوحي الذي به حياة القلوب. وروى أبو داود والنسائي وغيرهما عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: "قُمْتُ مَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً، فَقَامَ فَقَرَأَ سُورَةَ البَقَرَةِ، لاَ يَمُرُّ بآيَةِ رَحْمَةٍ إِلاَّ وَقَفَ فَسَأَلَ، وَلاَ يَمُرُّ بآيَةِ عَذَابٍ إِلاَّ وَقَفَ فَتَعَوَّذَ، قَالَ: ثُمَّ رَكَعَ بقَدْرِ قِيَامِهِ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ ذِي الجَبَرُوتِ وَالمَلَكُوتِ وَالكِبْرِيَاءِ وَالعَظَمَةِ، ثُمَّ سَجَدَ بقَدْرِ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ فِي سُجُودِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ

_ 1 سورة: الشعراء، الآيات (192 ـ 195) .

بآلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَرَأَ سُورَةً سُورَةً"1. وقوله: "سبحان ذي الجبروت والملكوت" أي: تَنَزَّه وتقدَّس، "والجبروت والملكوت" فَعَلُوت من الجبر والملك، كالرَّحَموت والرَّغَبوت والرَّهَبوت فَعَلُوتٌ من الرحمة والرغبة والرهبة، والعرب تقول: "رهبوت خير من رحموت" أي: أن ترهب خير من أن ترحم، فالجبروت والملكوت يتضمن من معاني أسماء الله وصفاته ما دل عليه معنى الملك الجبار2، قال الله تعالى في آخر سورة يس {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3. وقوله: "والكبرياء والعظمة" أي: وذي الكبرياء والعظمة، وهما وصفان متقاربان خاصَّان بالله تعالى،

_ 1 سنن أبي داود (رقم:873) ، وسنن النسائي (رقم:1120) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (رقم:776) . 2 انظر الرد على المنطقيين لابن تيمية (ص:196) . 3 سورة: يس، الآية (83) .

لا يستحقهما أحدٌ سواه، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: "قال الله عزَّ وجلَّ: الكبْرياءُ ردَائِي، والعظَمةُ إزاري، فمَن نازعَنِي واحداً منهما قَذَفْته في النار" 1. فجعل العظَمةَ بمنْزلة الإزار، والكبرياء بمنْزلة الرداء، إشارة إلى اختصاص الرَّبِّ سبحانه بهما، وتنْزيهه سبحانه عن الشريك في شيء من ذلك. وروى مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في حديث طويل: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذا رَكَعَ قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبي، وَإِذَا رَفَعَ قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ، وَمِلْءَ الأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ

_ 1 سنن أبي داود (رقم:4090) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في الصحيحة (رقم:541) .

شَيْءٍ بَعْدُ، وَإِذَا سَجَدَ قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَبكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ" 1. قوله: "اللَّهمَّ لك ركعت" تأخيرُ الفعل يَدلُّ على الاختصاص؛ أي: لك ركوعي لا لسواك. وقوله: "وبك آمنت" أي: أقرَرْتُ وصدَّقت. وقوله: "ولك أسلمت" أي: انقدت وأطعت. وقوله: "خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي" أي: أن هذه الأشياء مني كلها خضعت لك وذلت بين يديك وانكسرت لجَنَابك. وقوله إذا رفع من الركوع: "سمع الله لمن حمده" أي: استجاب الله لمن حمده فالسمع هنا سمع إجابة.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:771) .

وقوله: "ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد"، سيأتي الكلام عن معناه إن شاء الله. وقوله: "سجد وجهي للذي خلَقَه وصوَّره وشَقَّ سمعَه وبصرَه، تبارك الله أحسن الخالقين" فيه استحضارُ العبد لعظمة الله سبحانه، وكمال خلقه للإنسان في أكمل صورة وأحسن تقويم، فتبارك الله أحسن الخالقين.

ومن أذكار الصلاة

ومن أذكار الصلاة لا يزال الحديث عن الأذكار المتعلقة بالصلاة، لقد ثبت عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أنواعٌ من الأذكار يُشرع للمسلم أن يَقولَها عند الرفع من الركوع، وهي في الجملة حمدٌ لله وثناءٌ عليه وتمجيد له سبحانه. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذا قَالَ الإِمَامُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهَ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ المَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ" 1. وفي لفظ: "اللَّهُمَّ ربَّنا وَلَكَ الحَمْدُ" بزيادة "الواو" وهو في الصحيحين، قال ابن القيم رحمه الله: "ولا يُهمل أمرَ هذه الواو في قوله (ربنا ولك الحمد) ،

_ 1 صحيح البخاري (رقم:795، 796) ، وصحيح مسلم (رقم:409) .

فإنَّه قد ندب الأمر بها في الصحيحين، وهي تجعل الكلامَ في تقدير جملتين قائمتين بأنفسهما، فإنَّ قوله: (ربَّنا) متضمن في المعنى أنت الرب والمَلِك القيُّوم الذي بيديه أزِمَّة الأمور وإليه مرجعها، فعطف على هذا المعنى المفهوم من قوله: (ربنا) قوله (ولك الحمد) فتضمَّن ذلك معنى قول الموحِّد: له الملك وله الحمد"1. وفي صحيح مسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع من الركوع قال: اللَّهمَّ ربَّنا لكَ الحمدُ مِلءَ السموات، ومِلءَ الأرض، ومِلءَ ما بينهما، ومِلءَ ما شئتَ من شيء بعد" 2. وقوله: "ملء السماوات …" إلخ أي: حمداً وصفه وقدره أنَّه يملأ العالم العلوي والسفلي والفضاء

_ 1 كتاب الصلاة (ص:177) بتصرف يسير. 2 صحيح مسلم (رقم:477) .

الذي بينهما، فهذا الحمد بهذه الصفة يملأ جميع الخلق الموجود. وقوله: "وملء ما شئت من شيء بعد" أي: حمداً يَملأ ما يخلقُه الرَّبُّ تبارك وتعالى بعد ذلك وما يشاؤه سبحانه. وعلى هذا فحمده سبحانه مَلأَ كلَّ موجود، ومَلأَ ما سيوجد1. وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ مِلَءَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ العَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ" 2.

_ 1 انظر: كتاب الصلاة لابن القيم (ص:177) . 2 صحيح مسلم (رقم:771) .

قوله: "رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ مِلَءَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ" تقدم بيان معناه، وقوله: "أهل الثناء والمجد" أي أنت يا الله أهلٌ أن يُثنَى عليك وتُمَجَّد لعظمة صفاتك وكمال نعوتك وتوالي نعمك وكثرة آلائك. وقوله: "أحقُّ ما قال العبد": أي: إنَّ هذا الثناء عليك والتمجيد هو أحق شيء قاله العبد وتلفظ به، فقوله: "أحقُّ" خبَرٌ لمبتدأ محذوف تقديره هذا الثناء والتمجيد، وقد جاءت هذه الجملة تقريراً لحمده وتمجيده والثناء عليه، ولبيان أنَّ ذلك أحقُّ شيء نَطق به العبدُ، وأفضلُ أمر تكلَّم به. وقوله: "وكُلُّنا لك عبد" فيه اعتراف بالعبودية، وأنَّ ذلك حكم لجميع الناس، فكلُّهم معبدون مُذَلَّلُون لله سبحانه، هو ربُّهم وخالقُهم، لا ربَّ لهم ولا خالقَ سواه.

وقوله: "لا مانع لِما أعطيت ولا معطي لِمَا مَنعت" فيه الاعتراف بتفرُّد الله تعالى بالعَطاء والمنع، والقبض والبسط، والخفض والرفع، لا شريك له في شيء من ذلك، فما يكتبه سبحانه لعبده من خير ونعمة، أو بلاء ونقمة فلا رادَّ له ولا مانع لوقوعه، وما يَمنعه سبحانه عن عبده من الخير والنعمة أو البلاء والنقمة فلا سبيل لوقوعه، كما قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} 1، وكما قال سبحانه: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2، فهو سبحانه المتفرِّدُ بالعطاء والمنع، وإذا أعطى سبحانه لَم يطق أحد منع من أعطاه، وإذا منع

_ 1 سورة: يونس، الآية (107) . 2 سورة: فاطر، الآية (2) .

لَم يطق أحد إعطاء من منعه. وقوله: "ولا ينفع ذا الجد منك الجد" أي: لا ينفع عنده، ولا يخلص من عذابه، ولا يدني من كرامته جدود بني آدم، أي: حظوظهم من الملك والرئاسة والغنى وطيب العيش وغير ذلك، وإنما ينفعهم عنده التقرب إليه بطاعته وإيثار مرضاته1. وروى البخاري في صحيحه عن رفاعة بن رافع الزُّرَقي رضي الله عنه قال: "كُنَّا يَوْماً نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ حَمْداً كَثِيراً طَيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: مَنِ المُتَكَلِّمُ؟ قَالَ: أَنَا. قَالَ: رَأَيْتُ بضْعَةً وَثَلاَثِينَ مَلَكاً يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ" 2.

_ 1 انظر: كتاب الصلاة لابن القيم (ص:177 ـ 187) . 2 صحيح البخاري (رقم:799) .

قوله: "حمداً كثيراً طيِّباً مُباركاً فيه" أي: أحمده حمداً، "وحمداً" مفعول مطلق مؤكد لعامله، وقوله: "كثيراً طيباً مباركاً فيه" هذه صفات للحمد، أي: أحمدك حمداً موصوفاً بالكثرة والطيب والبركة. وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن المتكلِّم" أي من القائل لهذه الكلمة: "ربَّنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيِّباً مُباركاً فيه". قوله: "لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها" البضعة: قطعة من العدد، قيل: ما بين الثلاث إلى التسع، وقيل: ما بين الواحد إلى العشرة، قوله: "يبتدرونها" من الابتدار، وهو السبق، أي يتسابقون إلى كتابتها في صحائف الحسنات. ومن فوائد هذا الحديث أنَّ على المأموم المبادرة إلى قول (ربنا ولك الحمد) عقيب تسميع الإمام، وهذا مستفادٌ من حرف الفاء من قوله: "فقال رجلٌ وراءه" فإنَّ الفاء تفيد التعقيب.

ومن فوائد الحديث كثرةُ الملائكة الكاتبين، ومحبَّةُ الملائكة للخير وأهله، وتسابقُهم وتنافسُهم فيه. وفي الحديث خصوصية النَّبيّ صلى الله عليه وسلم برؤيته هؤلاء الملائكة: حيث رآهم صلوات الله وسلامه عليه، ولم يرهم من حوله من الصحابة. ثمَّ هل هؤلاء الملائكة الذين يبتدرون إلى كتابة هذه الكلمة من الحفظَة أو من غيرهم، قولان لأهل العلم، والأقرب ـ والله تعالى أعلم ـ أنَّهم غير الحفظة، ومِمَّا يؤيِّد هذا ما جاء في صحيح البخاري عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إنَّ لله ملائكةً يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذِّكر" إلى آخر الحديث، وفي لفظ: "فُضُلاً عن كتَّاب الناس" 1، وقد استدل به أهلُ العلم على أنَّ بعض الطاعات قد يكتبها غير الحفظة، والله أعلم.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:6408) ، والمسند (2/251) .

ومن الأذكار المتعلقة بالصلاة

ومن الأذكار المتعلقة بالصلاة لا نزال في الحديث عن الأذكار المتعلقة بالصلاة، خرج الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ في كتابه الصحيح عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: "كَشَفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم السِّتَارَةَ والنَّاسُ صفوفٌ خلفَ أبي بكر رضي الله عنه فقال: أيُّها الناس إنَّه لَم يَبْقَ من مُبَشِّرات النُّبُوَة إلاَّ الرؤيا الصالحَة يراها المسلمُ أو تُرَى له، ألاَ وإنِّي نُهيتُ أن أقرأَ القرآنَ راكعاً، فأمَّا الركوع فعظِّموا فيه الرَّبَّ عز وجل، وأمَّا السُّجُود فاجْتَهدوا في الدُّعاء فقَمِنٌ أن يُستجابَ لَكم" 1. فقد أوضح النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ما يَختَصُّ به هذان الرُّكنان العظيمان؛ الركوع والسجود من ذكر يُناسب هيئتَهما بعد ذكره للنهي عن قراءة القرآن

_ 1 صحيح مسلم (رقم:479) .

فيهما؛ لأنَّهما حالتَا ذلٍّ وخضوع وتطامن وانخفاض، فأمَّا الركوعُ وهو حال انخفاض وتطامن وخضوع، فيُشرع للمسلم فيه أن يَذكر عظمةَ ربِّه، وأنَّه سبحانه العظيم الذي له جميع معاني العظمة والجلال، كالقوَّة والعزَّة وكمال القدرة وسعة العلم وكمال المجد وغيرها من أوصاف العظمة والكبرياء، وأنَّه لا يَستحق أحدٌ التعظيمَ والتكبيرَ والإجلالَ والتمجيدَ غيره، فيَستحق على العباد أن يُعظِّموه بقلوبهم وألسنتِهم وأعمالهم. قال ابن القيم رحمه الله: "فأفضل ما يقول الراكع على الإطلاق سبحان ربي العظيم، فإن الله سبحانه أمر العباد بذلك وعين المبلغ عنه السفير بينه وبين عباده هذا المحل لهذا الذكر لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} 1، قال: (اجعلوها في ركوعكم) … وبالجملة فسِرُّ الركوع تعظيمُ الرب ـ جل جلاله ـ

_ 1 سورة: الواقعة، الآية (74) .

بالقلب والقالب والقول؛ ولهذا قال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: (أما الركوع فعظِّموا فيه الرب") 1. اهـ كلامه رحمه الله. وأما السجود ـ وهو حال قرب من الله، وخضوع له، وتذلل بين يديه، وانكسار له سبحانه ـ فيُشرع للمسلم فيه أن يُكثرَ من الدعاء، والدعاءُ في هذا المحل أقربُ إلى الإجابة، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَقرَبُ ما يكون العبد من ربِّه وهو ساجدٌ، فأكثروا الدُّعاء"، وفي الحديث المتقدم قال عليه الصلاة والسلام: " وأما السُّجود فاجتهدوا في الدعاء فقَمِنٌ أن يُسْتجابَ لكم"، أي: حَريٌّ وجَدير أن يُستجاب لكم؛ لأنَّ العبدَ أقربُ ما يكون من ربِّه وهو ساجد، وأفضلُ الأحوال له حالٌ يكون فيها أقربَ إلى الله، ولهذا كان الدعاء في هذا المحلِّ أقربَ إلى الإجابة، ومن الأدعيةِ

_ 1 كتاب الصلاة (ص:176) .

المأثورة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في السجود ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "فَقَدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً مِنَ الفِرَاشِ، فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي المَسْجِدِ، وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعُوذ برِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذ بكَ مِنْكَ، لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ" 1. وقد دلَّ هذا الحديثُ العظيمُ على أنَّه لا مَفَرَّ إلاَّ إلى الله، ولا مَلجَأَ منه إلاَّ إليه، فأزمَّةُ الأمور كلُّها بيده، ونواصي العباد معقودةٌ بقضائه وقدَره، الأمرُ كلُّه له، والحمدُ كلُّه له، والمُلك كلُّه له، والخيرُ كلُّه في يديه، فمنه تعالى المَنْجَى، وإليه المَلْجَأ، وبها الاستعاذة من شر ما هو كائن بمشيئته وقدرته، فالإعاذة فعله والمستعاذ منه فعله أو مفعوله الذي خلقه بمشيئته، وهذا كلُّه

_ 1 صحيح مسلم (رقم:486) .

تحقيقٌ للتوحيد والقدر، وأنه لا ربَّ غيره، ولا خالق سواه، ولا يملك المخلوق لنفسه ولا لغيره ضرًّا ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، بل الأمر كلُّه لله، ليس لأحد سواه منه شيء. وقوله في ختام هذا الدعاء: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" فيه الاعترافُ بأنَّ شأنَ الله سبحانه وعظمتَه وكمالَ أسمائه وصفاته أعظمُ وأجَلُّ من أن يُحصيها أحدٌ من الخلق، أو يبلغ أحد حقيقةَ الثناء عليه غيره سبحانه. ومن أدعية السجود كذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبي كُلَّهُ، دِقَّهُ وَجِلَّهُ، أَوَّلَهَ وَآخِرَهُ، وَعَلاَنِيَتَهُ وَسِرَّهُ" 1.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:483) .

وقوله: "ذنبي كله" أي: ذنوبي جميعَها، فإنَّ المُفرد إذا أضيف يَعُمُّ، ثم إنَّ هذا التعميم والشمولَ في هذا الدعاء ليأتي طلب الغفران على جميع ذنوب العبد ما علمه منها وما لَم يعلمه، لا سيما والمقامُ مقام دعاء وتضرع وإظهار العبودية والافتقار، فناسب ذكرَ الأنواع التي يتوب العبد منها تفصيلاً؛ ولهذا قال: "دقَّه وجلَّه، أوَّلَه وآخرَه، وعلانيتَه وسرَّه" وهذا أبلغُ وأحسنُ من الإيجاز والاختصار. ثمَّ إنَّ بين السَّجدَتين ركناً لا بدَّ منه في الصلاة، وهو الجلسة بين السجدتين، وقد شُرع فيه من الدعاء ما يليق به ويُناسبه، وهو سؤالُ العبد المغفرةَ والرحمةَ والهدايةَ والعافيةَ والرِّزقَ؛ فإنَّ هذه الأمور تتضمَّن جلب خيري الدنيا والآخرة، ودفع الشرور فيهما. فعن حذيفة رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: "رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي" رواه

أبو داود1. أي: أنَّه صلى الله عليه وسلم يُكرِّرُ هذا الدعاء بين السجدتين، لا أنَّه يقوله مرتين فقط. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كَانَ النَبيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاجْبُرْنِي وَعَافِنِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي" رواه أبو داود والترمذي2. وسؤالُ المغفرة فيه الوقاية من شَرِّ الذنوب، وسؤالُ الرَّحمة فيه تَحصيلُ الخير والبرِّ والإحسان، وسؤال الله أن يَجْبُرَه فيه سدُّ حاجته، وجَبْرُ كسره، وأن يرد عليه ما ذهب من الخير وأن يعوضه، وسؤال

_ 1 سنن أبي داود (رقم:874) ، وصحَّحه العلاَّمة الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (رقم:777) . 2 سنن أبي داود (رقم:850) ، وسنن الترمذي (رقم:284) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (رقم:756) .

العافية فيه السلامة من الآفات والفتن والنجاة من البلايا والمحن، وسؤال الهداية فيه التوصل إلى أبواب السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، وسؤال الرزق فيه نيل ما به قَوام البدن من الطعام والشراب، وما به قوام الروح من العلم والإيمان. فجاء هذا الدعاء العظيم المشروع في هذه الجلسة جامعاً لأصول السعادة محيطاً بأبواب الخير، مشتملاً على سُبُل الفلاح في الدنيا والآخرة، فما أعظمَه من دعاء، وما أحسنَ إحاطته وجمعه.

أذكار التشهد

أذكار التشهُّد إنَّ من الأذكار المتعلقة بالصلاة أذكار التشهد، وقد ثبت فيه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أحاديثُ عدّة فيها صيَغ متقاربة للتشهد، كلُّها جائزةٌ ومشروعة، منها: ما ثبت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلِّمُنا التشهدَ كما يعلِّمنا السورة من القرآن، فكان يقول: التَّحِيَّاتُ المُبَارَكَاتُ الطيِّبات لله، السَّلامُ عليكَ أيُّها النَّبيُّ ورحمة الله وبركاته، السَّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهَدُ أن لا إله إلاَّ الله، وأشهد أنَّ محمَّداً رسولُ الله" 1. وثبت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "كُنَّا إِذا صَلَّينَا خَلْفَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قُلْنَا: السَّلاَمُ عَلَى

_ 1 صحيح مسلم (رقم:403) .

جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، السَّلاَمُ عَلَى فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ السَّلاَمُ، فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: التَّحِيَاتُ للهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّكُمْ إِذا قُلْتُمُوهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ" 1. وثبت في هذا أحاديث أخرى. وأكملُ هذه الصيغ الصيغةُ الواردة في حديث ابن مسعود المتقدم، فهي أكملُ من الصيغة الواردة في حديث ابن عباس وغيره من الأحاديث الواردة في هذا الباب؛ وذلك كما يقول ابن القيم رحمه الله: "لأنَّ تشهد ابن مسعود يتضمَّن جُملاً متغايرة، وتشهُّد ابن

_ 1 صحيح البخاري (رقم:831) ، وصحيح مسلم (رقم:402) .

عباس جملةٌ واحدة"1، فتكون كلُّ جملة في حديث ابن مسعود ثناءً مستقلاًّ لوجود الواو في قوله: "التحيَّات لله والصلوات والطيبات" بخلاف ما إذا حذفت فإنَّها تكون صفة لما قبلها، فتعدُّد الثناء في حديث ابن مسعود صريحٌ، فهو أولى وأكمل. ثم إنَّه هو المشهور بين كثير من أهل العلم، ومن حيث الإسناد هو أصحُّ ما ورد في هذا الباب، يقول الترمذي رحمه الله: "حديث ابن مسعود قد روي عنه من غير وجه، وهو أصح حديث روي عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في التشهد، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ومَن بعدهم من التابعين"2. وعلى كلٍّ فإنَّ العمل به أو بغيره من التشهدات الواردة كلُّ ذلك حقٌّ وسائغ.

_ 1 كتاب الصلاة (ص:211) . 2 سنن الترمذي (2/82) .

قوله: "التحيات" جمع تحية والمراد التعظيمات بكافة صِيَغها وجميع هيئاتها من ركوع وسجود وذلِّ وخضوع، وخشوع وانكسار، كلُّ ذلك لله وحده لا شريك له، وهي له سبحانه ملكاً واستحقاقاً. وقوله: "والصلوات" قيل المراد به الصلاة الشرعية ذات الركوع والسجود، وقيل المراد الدعاء؛ فإنَّ معنى الصلاة لغة الدعاء، وكلُّ ذلك لله فالصلاة كلُّها لله، فلا يُصرف شيء منها لغيره، والدعاء لله فلا يصرف شيء منه لأحد سواه. وقوله: "والطيبات" جمع طيبة، والمراد الأقوال الطيبات والأعمال الطيبات كلها لله، يُتقرب بها إليه، ولا يُتقرَّب بشيء منها لأحد سواه، فهو سبحانه يُتَقرَّبُ إليه بكلِّ طيب من قول أو فعل. وقوله: "السلام عليك أيها النَّبيّ ورحمة الله وبركاته" هذا دعاءٌ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بالسلام والرحمة

والبركة، والذي يُدعى له لا يُدعى مع الله. وقوله: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" فيه دعاءٌ للنفس ولعموم المؤمنين بالسلامة من كلِّ آفة وعيب ونقص وسوء، وهو مِن جوامع كَلِمِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. قال بعض أهل العلم: "عَلَّمَهم أن يُفردوه صلى الله عليه وسلم بالذِّكر؛ لشَرَفِه ومزيد حقِّه عليهم، ثم علَّمهم أن يُخَصِّصوا أنفسَهم أوَّلاً؛ لأنَّ الاهتمامَ بها أهم، ثم أمرَهم بتعميم السَّلام على الصالحين إعلاماً منه بأنَّ الدعاء للمؤمنين ينبغي أن يكون شاملاً لهم"1. وقوله: "أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله" فيه الشهادة لله تبارك وتعالى بالوحدانية، ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالعبودية والرسالة، فهو صلوات الله وسلامه عليه عَبدٌ لا يُعبد؛ بل رسول يُطَاع ويُتَّبع.

_ 1 فتح الباري لابن حجر (2/313) نقلاً عن البيضاوي.

ثم إنَّ المسلمَ يُشرع له بعد التشهد أن يصلي على النَّبيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم بالصلاة الإبراهيمية الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، وقد وَرَدَ فيها غيرُ حديث، منها: ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "لَقِيَنِي كَعْبُ بنُ عُجْرَةَ رضي الله عنه فَقَالَ: ألاَ أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً سَمِعْتُهَا مِنَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: بَلَى، فَأَهْدِهَا لِي، فَقَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ الصَّلاَةُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ، فَإِنَّ اللهَ قَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ" 1. وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي حميد

_ 1 صحيح البخاري (رقم:3370) ، وصحيح مسلم (رقم:406) .

الساعدي رضي الله عنه: "أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذرِيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذرِيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آل إِبْرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ" 1. وقول كعب صلى الله عليه وسلم: "ألاَ أُهدي لك هديَّةً سمعتُها من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم" فيه عظَمُ عناية السلف رحمهم الله بسُّنَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وشدَّة فرَحِهم بها، بل كانوا يعدُّونها من نفائس الأمور وثَمين الأشياء، وهي عندهم هدية ثمينة يَفرحون بها ويُسَرُّون بسمعاها، ويَهْنَأون بتهاديها. والصلاة على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم هي من الله ثناؤُه عليه في الملأ الأعلى وتعظيمه، وصلاة الملائكة والمؤمنين عليه هي طلب ذلك له صلى الله عليه وسلم من الله تعالى، والمراد طلب الزيادة لا طلب أصل الصلاة.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:3369) ، وصحيح مسلم (رقم:407) .

ومعنى قوله: "اللَّهمَّ بارك على محمد وعلى آل محمد" البركة النماء والزيادة، والتبريك الدعاء بذلك، يقول: باركه الله وبارك فيه وبارك عليه وبارك له، فهو دعاءٌ يتضمن إعطاءَه صلى الله عليه وسلم من الخير وإدامته له، ومضاعفته له وزيادته. ثم إنَّ المسلم له بعد ذلك أن يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به إلى أن يسلِّم، وقد ثبت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع أنواعٌ من الأدعية سيكون الحديث الآتي عنها إن شاء الله تعالى.

الدعاء الوارد ما بين التشهد والتسليم

الدعاء الوارد ما بين التشهد والتسليم إنَّ من المواطن التي يُستحب للمسلم أن يَتحرى فيها الدعاء في الصلاة ما بين التشهد والتسليم، فقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم علمه التشهد ثم قال في آخره: "ثم ليتَخيَّر من الدعاء أعجبه إليه، فيدعو" 1، وفي رواية لمسلم: "ثم ليتخير من المسألة ما شاء" 2. والأولى بالمسلم في هذا المقام أن يأتي بالأدعية المأثورة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وإن دعا بأدعية غيرها لا محذور فيها فلا بأس بذلك. وفيما يلي ذكر لبعض الأدعية المأثورة في هذا المقام، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال

_ 1 صحيح البخاري (رقم:835) ، وصحيح مسلم (رقم:402) . 2 صحيح مسلم (رقم:402) .

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ باللهِ مِنْ أَرْبَعٍ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذ بكَ مِنْ عَذَاب جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَاب القَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَجَّالِ" 1، وقد ذهب بعضُ أهل العلم إلى القول بوجوب هذه الاستعاذة قبيل السلام، وجمهور العلماء على أنَّها مستحبة وليست بواجبة. قوله: "من عذاب جهنم" قدَّم التعوذ من عذاب جهنم؛ لأنَّّه الغايةُ التي لا أعظم في الهلاك منها، وجهنَّم اسم للنار التي أعدها الله للكفار يوم القيامة. وقوله: "ومن عذاب القبر" فيه أنَّ عذاب القبر حق، وأنَّ المسلم ينبغي عليه أن يتعوذ بالله منه. وقوله: "ومن فتنة المحيا والممات" أي الحياة والموت، والمراد التعوذ من جميع فتن الدارين؛ في الحياة من كلِّ ما يَضُرُّ بدين الإنسان أو بدنه أو دنياه، وفي

_ 1 صحيح البخاري (رقم:1377) ، وصحيح مسلم (رقم:588) .

الموت من شدائده وما يكون بعده من أهوال. وقوله: "ومن فتنة المسيح الدجال" المسيح الدجَّال هو منبع من منابع الكفر والضلال، ومصدر من مصادر الفتن والأوجال، يكون خروجه على الناس آخر الزمان، وهو شرط من أشراط الساعة، سُمِّي مسيحاً؛ لأنَّ إحدى عينيه مَمسوحة، فهو أعور عينه اليمنى، وسُمِّيَ دجَّالاً من الدَّجل وهو الكذب، وفتنة خروجه من أعظم الفتن، وما من نَبيٍّ بعثه الله إلاَّ حذَّر منه قومه وأنذر. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاَةِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذ بكَ مِنْ عَذَاب القَبْرِ، وَأَعُوذ بكَ مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَجَّالِ، وَأَعُوذ بكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا، وَفِتْنَةِ المَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذ بكَ مِنَ المَأْثَمِ وَالمَغْرَمِ. فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذ مِنَ المَغْرَمِ؟ فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذا غَرِمَ

حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ" 1. والمأثم: هو الأمر الذي يأثم به الإنسان من جميع المعاصي والذنوب، والمغرَم: ما يلزم الإنسان أداؤه بسبب جناية أو معاملة أو نحو ذلك، فالمأثم إشارة إلى حقِّ الله، والمغرم: إشارة إلى حق العباد. ومن الأدعية في هذا المقام ما رواه مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في حديث طويل: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ مِنْ آخَرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بهِ مِنِّي، أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ" 2. قوله: "ما قدَّمت" أي من خطأ وتقصير، " وما

_ 1 صحيح البخاري (رقم:833) وصحيح مسلم (رقم:589) . 2 صحيح مسلم (رقم:771) .

أخَّرت" أي ما سيقع منِّي من ذلك في الزمن المستقبل، "وما أسررت وما أعلنت" أي ما وقع مني منها في السِّرِّ أو العلانية، "وما أسرفت" أي على نفسي بارتكاب المعاصي القاصرة أو المظالم المتعدية. وقوله: "أنت المقدِّم" أي لمن تشاء بالمعونة والتوفيق والسداد، و"أنت المؤخِّر" أي لِمَن تشاء بالخذلان والحرمان وعدم المعونة. وقوله: "لا إله إلاَّ أنت" أي لا معبود بحقٍّ سواك. ومن الأدعية المأثورة في هذا المقام ما رواه أبو داود وابن ماجه وغيرهما عن أبي صالح، عن بعض أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لرجل: "كَيَفَ تَقُولُ فِي الصَّلاَةِ؟ قَالَ: أَتَشَهَّدُ وَأَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الجَنَّةَ، وَأَعُوذ بكَ مِنَ النَّارِ، أَمَا إِنِّي لاَ أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلاَ دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ. فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: حَوْلَهَا

نُدَنْدِنُ" 1، أي: حول طلب دخول الجنَّة والنجاة من النار نُدَنْدن، والدَّنْدَنَة أن يتكلَّم الرجلُ بالكلام، فتُسمَع نغمتُه ولا يُفهم كلامُه. وقد جاء في السُّنَّة أحاديث مشتملة على أدعية تُقال في الصلاة، ولم يُبَيَّن محلُّها، والأولى أن تكون في أحد موطنين؛ إما في السجود أو بعد التشهد؛ لأنَّ السُّنَّة جاءت بتحرِّي الدعاء فيهما، ومن هذه الأدعية ما رواه البخاري ومسلم عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بهِ فِي صَلاَتِي؟ قَالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْماً كَثِيراً، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ فاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ" 2.

_ 1 سنن أبي داود (رقم:792) ، وسنن ابن ماجه (رقم:910) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح ابن ماجه (رقم:742) . 2 صحيح البخاري (رقم:834) ، وصحيح مسلم (رقم:2705) .

ومنها ما رواه النسائيُّ عن عطاء بن السائب، عن أبيه رضي الله عنه قال: "صَلَّى بنَا عَمَّارُ بنُ يَاسِرٍ رضي الله عنه صَلاَةً فَأَوْجَزَ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ القَوْمِ: لَقْدْ خَفَّفْتَ أَوْ أَوْجَزْتَ الصَّلاَةَ؟ فَقَالَ: أَمَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ دَعَوْتُ فِيهَا بدَعَوَاتٍ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَامَ تَبعَهُ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ ـ هُوَ أبي غَيْرَ أَنَّهُ كَنَّى عَنْ نَفْسِهِ ـ فَسَأَلَهُ عَن الدُّعَاءِ ثُمَّ جَاءَ فَأَخْبَرَ بهِ القَوْمَ: اللَّهُمَّ بعِلْمِكَ الغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الخَلْقِ أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الحَيَاةَ خَيْراً لِي، وَتَوَفَّنِي إِذا عَلِمْتَ الوَفَاةَ خَيْراً لِي، اللَّهُمَّ وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الغَيْب وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الحَقِّ فِي الرِّضَا وَالغَضَب، وَأَسْأَلُكَ القَصْدَ فِي الفَقْرِ وَالغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيماً لاَ يَنْفَدُ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لاَ تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ القَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ العَيْشِ بَعْدَ المَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ،

وَلاَ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَا بزِينَةِ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ" 1. وهو حديثٌ عظيمٌ ثابتٌ عن النَّبيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم، مشتملٌ على فوائد عظيمة، ومقاصد كريمة، وغايات مباركة. وقد أفرد الحافظ ابن رجب ـ رحمه الله ـ رسالةً لطيفةً في شرح هذا الحديث وبيان معانيه، وهي رسالة نافعة، ولعلي أقف مع بعض دلالات هذا الحديث ومعانيه العظيمة، ليكون ذلك عوناً لنا ـ بإذن الله ـ على العناية به والمواظبة عليه، والله الموفِّق.

_ 1 سنن النسائي (رقم:1305) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:1301) .

شرح حديث عمار في الذكر بين التشهد والتسليم

شرح حديث عمار في الذِّكر بين التشهد والتسليم لقد مرَّ معنا حديثُ عمار بن ياسر رضي الله عنه المشتمل على ذلكم الدعاء العظيم الذي كان يدعو به النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في صلاته، وهو ما رواه النسائي وغيره عن عطاء بن السائب عن أبيه رضي الله عنه قال: "صَلَّى بنَا عَمَّارُ بنُ يَاسِرٍ رضي الله عنه صَلاَةً فَأَوْجَزَ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ القَوْمِ: لَقْدْ خَفَّفْتَ أَوْ أَوْجَزْتَ الصَّلاَةَ؟ فَقَالَ: أَمَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ دَعَوْتُ فِيهَا بدَعَوَاتٍ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَامَ تَبعَهُ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ ـ هُوَ أبي غَيْرَ أَنَّهُ كَنَّى عَنْ نَفْسِهِ ـ فَسَأَلَهُ عَن الدُّعَاءِ ثُمَّ جَاءَ فَأَخْبَرَ بهِ القَوْمَ: اللَّهُمَّ بعِلْمِكَ الغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الخَلْقِ أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الحَيَاةَ خَيْراً لِي، وَتَوَفَّنِي إِذا عَلِمْتَ الوَفَاةَ خَيْراً لِي، اللَّهُمَّ وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الغَيْب وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الحَقِّ فِي الرِّضَا وَالغَضَب، وَأَسْأَلُكَ

القَصْدَ فِي الفَقْرِ وَالغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيماً لاَ يَنْفَدُ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لاَ تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ القَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ العَيْشِ بَعْدَ المَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلاَ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَا بزِينَةِ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ" 1. وهو حديثٌ عظيمُ النفع كبيرُ الفائدة، مشتملٌ على معان عظيمة ودلالات نافعة متعلقة بالعقيدة والعبادة والأخلاق، وإنَّما تعظم فائدةُ المسلم من مثل هذه الدعوات المباركة بوقوفه على معانيها وفهمه لدلالاتها ومراميها ومجاهدته لنفسه على تحقيقها، وفيما يلي وقفةٌ في بيان بعض معاني هذه الحديث2.

_ 1 سبق تخريجه. 2 ينظر للاستزادة كتاب "شرح حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه" لابن رجب.

قوله: "اللَّهمَّ بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفَّنِي إذا علمت الوفاة خيراً لي" فيه تفويضُ العبد أموره إلى الله، وطلب الخيرة في أحواله منه سبحانه، متوسِّلاً إليه سبحانه بعلمه الذي أحاط بكلِّ شيء، وأنَّه سبحانه يعلم خفايا الأمور وبواطنَها، كما يعلم ظاهَرها وعَلَنَها، وبقدرته النافذة في جميع الخلق، فلا مُعَقِّب لحكمه ولا رادَّ لقضائه، ومن المعلوم أنَّ العبدَ لا يعلم عواقب الأمور ومآلاتها، وهو مع هذا عاجزٌ عن تحصيل مصالحه ودفع مضارِّه، إلاَّ بما أعانه الله عليه ويسَّرَه له، فتبقى حاجة العبد ماسة إلى العليم القدير سبحانه، بأن يصلحَ له شأنَه كلَّه، ويختار له الخير حيث كان، ولهذا قال: أحينِي ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي، ولهذا جاء النهيُ في السُّنَّة عن تَمَنِّي الموت لضُرٍّ نزل بالعبد لجهل العبد

بالعواقب، ففي البخاري عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "لا يتمَنَّى أحدكم الموت، إمَّا مُحسناً فلعلَّه يزداد، وإما مُسيئاً فلعلَّه يستعتب" أي: يسترضى الله بالإقلاع عن الذنوب وطلب المغفرة. وقوله: "وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة" أي: أن أخشاك يا الله في السِّرِّ والعلانية، والظاهر والباطن، وفي حال كوني مع الناس أو غائباً عنهم، فإنَّ من الناس مَن يرى نفسه يَخشى الله في العلانية والشهادة، ولكن الشأن خشية الله في الغيب، إذا غاب عن أعين الناس وأنظارهم، وقد مدح الله من خافه بالغيب، قال تعالى: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} 1، وقال تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} 2.

_ 1 سورة: الأنبياء، الآية (49) . 2 سورة: ق، الآية (33) .

وقوله: "وأسألُك كلمةَ الحقِّ في الرِّضَا والغضب"، فيه سؤالُ الله قولَ الحقِّ حال رضا الإنسان وحال غضبه، وقول الحق في الناس حال الغضب عزيز؛ لأنَّ الغضبَ يحمل صاحبه على أن يقول خلافَ الحق ويفعل غير العدل، وقد مدح الله من عباده من يغفر إذا غضب، دون أن يحمله غضبه على البغي والعدوان، قال تعالى: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} 1، ومَن كان لا يقول إلاَّ الحقَّ في الغضب والرضا، فهذا دليلٌ على شدة إيمانه وأنَّه يملك زمام نفسه، وفي الحديث: "ليس الشديد بالصرعة، إنَّما الشَّديد الذي يملك نفسه عند الغضب" 2. وقوله: "وأسألك القصد في الفقر والغنى" أي أن يكون مقتصداً في حال فقره وغناه، والقصد هو

_ 1 سورة: الشورى، الآية (37) . 2 صحيح البخاري (رقم:6114) .

التوسط والاعتدال، فإن كان فقيراً لَم يقتر خوفاً من نفاد الرِّزق ولم يُسرف بتحميل نفسه ما لا طاقة له به، كما قال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} 1، وإن كان غنيًّا لَم يحمله غناه على السَّرف والطغيان، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} 2، والقوام: القصد والتوسط، وهو في كلِّ الأمور حسن. وقوله: "وأسألك نعيماً لا ينفد" النَّعيم الذي لا ينفد هو نعيم الآخرة، كما قال الله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} 3، وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} 4.

_ 1 سورة: الإسراء، الآية (29) . 2 سورة: الفرقان، الآية (67) . 3 سورة: النحل، الآية (96) . 4 سورة: ص، الآية (54) .

وقوله: "وأسألك قرَّة عين لا تنقطع" قرة العين من جملة النعيم، والنعيم منه ما هو منقطع ومنه ما لا ينقطع، ومن قرَّت عينه بالدنيا فقرة عينه منقطعة وسروره فيها زائلٌ، وهو مع ذلك مَشُوبٌ بالخوف من الفواجع والمنغِّصات، ولهذا فإنَّ المؤمن لا تقرُّ عينُه في الدنيا إلاَّ بمحبة الله وذكره والمحافظة على طاعته، كما قال صلى الله عليه وسلم: "وجُعلَت قرَّةُ عينِي في الصلاة" 1 ومَن حصلت له قرَّة العين بهذا فقد حصلت له قرَّةُ العين التي لا تنقطع في الدنيا ولا في البرزخ ولا في الآخرة. وقوله: "وأسألك الرِّضا بعد القضاء" سأل الرضا بعد القضاء؛ لأنَّه حينئذ تبيَّن حقيقة الرِّضا، وأما الرِّضا قبل القضاء فإنَّه عزمٌ من العبد على الرضا، وإنَّما يتحقَّق الرضا إذا وقع القضاء.

_ 1 سنن النسائي (رقم:3879) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:3098) .

وقوله: "وأسألك بَردَ العيش بعد الموت" وهذا يدلُّ على أنَّ العيشَ وطيبَه وبرده إنَّما يكون بعد الموت، فإنَّ العيش قبل الموت منغِّصٌ، ولو لَم يكن له منغِّصٌ غير الموت لكفى، فكيف وله منغِّصات كثيرة من الهموم والغموم والأسقام والهرم ومفارقة الأحبة وغير ذلك. وقوله: "وأسألك لذَّةَ النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضرَّاء مضرة ولا فتنة مضلة" وهذا قد جمع فيه بين أطيب شيء في الدنيا وهو الشوق إلى لقاء الله سبحانه، وأطيب شيء في الآخرة وهو النَّظر إلى وجهه الكريم، ولَمَّا كان تَمامُ ذلك موقوفاً على عدم وجود ما يضُرُّه في الدنيا أو يفتنه في الدين، قال في غير ضراء مضرَّة ولا فتنة مضلة. ورؤية المؤمنين لربِّهم يوم القيامة أمر تظافرت فيه النصوص، وتكاثرت فيه الأدلة، ولا يُنكره إلاَّ مَن

ضل عن سواء السبيل، بل إنَّه أعلى نعيم أهل الجنة وأعظمُ ملاذهم، يقول صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهلُ الجنَّة الجنَّةَ، يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألَم تبيِّض وجوهَنا؟ ألَم تدخلنا الجنَّة وتنْجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أُعْطُوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربِّهم عز وجل"، رواه مسلم1، نسأل الله الكريم من فضله. وقوله: "اللَّهمَّ زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين" زينة الإيمان تشمل زينة القلب بالاعتقاد الصحيح والأعمال القلبية الفاضلة، وزينة اللِّسان بالذِّكر وتلاوة القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك، وزينة الجوارح بالأعمال الصالحة والطاعات المقربة إلى الله. وقوله: "واجعلنا هداة مهتدين" أي بأن نَهدي

_ 1 صحيح مسلم (رقم:181) .

أنفسنَا ونهديَ غيرَنا، وهذا أفضل الدرجات، أن يكون العبد عالماً بالحقِّ متَّبعاً له، معلِّماً لغيره مرشداً له، فبهذا يكون هادياً مهدياً، نسأل الله أن يهدينا إليه جميعاً، وأن يجعلنا هُداةً مُهتدين.

الأذكار بعد السلام

الأَذْكَارُ بَعْدَ السَّلاَمِ الحديث هنا سيكون عن الأذكار التي يقولها المسلم إذا انصرف من صلاته بعد السلام، وقد جاء في هذا أحاديث عديدة. منها ما رواه مسلم في صحيحه عن ثوبان رضي الله عنه قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذا انْصَرَفَ مِنَ صَلاَتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلاَثاً، وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ، تَبَارَكْتَ ذَا الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ". قَالَ الوَلِيدُ ـ أحد رواة الحديث ـ: فَقُلْتُ لِلأَوْزَاعِيِّ: كَيْفَ الاسْتِغْفَارُ؟ قَالَ: تَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ، أَسْتَغْفِرُ اللهَ أَسْتَغْفِرُ اللهَ1. قوله: "اللَّهمَّ أنت السلام" السلام اسم من أسماء الله الحسنى التي أمرنا الله بدعائه بها في قوله:

_ 1 صحيح مسلم (رقم:591) .

{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} 1، ومعناه: أي المنَزَّه عن كلِّ عيب وآفة ونقص، وهو سبحانه منَزَّهٌ عن كلِّ ما ينافي صفات كماله، ومنزه عن مماثلة أحد من خلقه، أو أن يكون له ند بوجه من الوجوه. وقوله: "ومنك السلام" أي: أنَّ السلامة من المهالك إنما ترجى وتستوهب منك وحدك، ولا ترجى من أحد سواك، وهذا مستفاد من أسلوب الحصر في قوله: "ومنك السلام" أي: وحدك دون غيرك. وقوله: "تباركت ذا الجلال والإكرام" تباركت: أي تعاليت وتعاظمت، وذا الجلال والإكرام، أي: يا صاحب الجلال والإكرام، وهما وصفان عظيمان للرب سبحانه دالان على كمال عظمته وكبريائه ومجده، وعلى كثرة صفاته الجليلة وتعدد عطاياه الجميلة، مما يستوجب على العباد أن تمتلئ قلوبُهم محبة

_ 1 سورة: الأعراف، الآية (180) .

وتعظيماً وإجلالاً له. والحكمةُ من الإتيان بالاستغفار بعد الصلاةِ هي إظهارُ هَضْم النَّفس، وأنَّ العبدَ لَم يَقُم بحقِّ الصلاة، ولَم يأت بما ينبغي لها على التَّمام والكمال، بل لا بدَّ أن يكونَ قد وَقَعَ في شيء من النَّقص والتقصير، والمقصِّرُ يستغفرُ لعلَّه أن يُتجاوَزَ عن تقصيره، ويكونَ في استغفاره جَبْرٌ لِمَا فيه من نقص أو تقصير. ثم يشتغل المصلِّي بعد ذلك بالتهليل، فعن وراد مولى المغيرة بن شعبة قال: كتب المغيرة إلى معاوية بن أبي سفيان: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا فَرَغَ مِنَ الصَلاَةِ وَسَلَّمَ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ" رواه البخاري ومسلم1.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:844) ، وصحيح مسلم (رقم:593) .

وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ حِينَ يُسَلِّمُ: "لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللهِ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَلاَ نَعْبُدُ إِلاَّ إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الحَسَنُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ وَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُهَلِّلُ بهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ". رواه مسلم1. قوله: "ولا ينفَعُ ذا الجَدِّ منك الجَدُّ" أي: لا ينفع صاحب الغنى منك غناه وإنَّما ينفعُه طاعته لك وإيمانه بك وامتثاله لأمرك. وقوله: "لا إله إلاَّ الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون" أي: نحن على هذا التوحيد والإخلاص ولو كره الكفار ذلك.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:594) .

ثمَّ يَشرَعُ المسلمُ بعد ذلك في التسبيحات الواردة التي كان يقولها صلى الله عليه وسلم أدبار الصلوات. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ سَبَّحَ اللهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ، وَحَمِدَ اللهَ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ، وَكَبَّرَ اللهَ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ، فَتِلْكَ تِسْعَةٌ وَتْسْعُونَ، وَقَالَ تَمَامَ المِائَةِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرْتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبدِ البَحْرِ" 1. وعنه رضي الله عنه قال: "جَاءَ الفُقَرَاءُ إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنَ الأَمْوَالِ بالدَّرَجَاتِ العُلَى وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ؛ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بهَا وَيَعْتَمِرُونَ وَيُجَاهِدُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ. قَالَ: ألاَ أُحَدِّثُكُمْ بأَمْرٍ إِنْ أَخَذْتُمْ بهِ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ

_ 1 صحيح مسلم (رقم:597) .

أَحَدٌ بَعْدَكُمْ، وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ، إِلاَّ مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ؛ تُسَبِّحُونَ، وَتَحْمَدُونَ، وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ" 1. قال أبو صالح ـ راوي الحديث عن أبي هريرة ـ: "يقول: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر حتى يكون منهنَّ كلُّهن ثلاثاً وثلاثاً" لكن هذا فهم منه للحديث، والأظهر أنَّ المجموعَ لكلِّ كلمة من هؤلاء الكلمات بأن يسبح ثلاثاً وثلاثين ويحمد ثلاثاً وثلاثين، ويكبر ثلاثاً وثلاثين كما في حديث أبي هريرة السابق2. وعن عبد الله عمرو رضي الله عنهما عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "خَصْلَتَانِ ـ أَوْ خَلَّتَانِ ـ لاَ يُحَافِظُ عَلَيْهِمَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ إِلاَّ دَخَلَ الجَنَّةَ، هُمَا يَسِيرٌ وَمَنْ يَعْمَلُ بهِمَا

_ 1 صحيح البخاري (رقم:843) ، وصحيح مسلم (رقم:595) . 2 انظر: فتح الباري لابن حجر (2/328) .

قَلِيلٌ؛ يُسَبِّحُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ عَشْراً، وَيَحْمَدُ عَشْراً، وَيُكَبِّرُ عَشْراً، فَذَلِكَ خَمْسُونَ وَمَائَةٍ باللِّسَانِ، وَأَلْفٌ وَخَمْسِمِائَةٍ فِي المِيزَانِ، وَيُكَبِّرُ أَرْبَعاً وَثَلاَثِينَ إِذا أَخَذَ مَضْجِعَهُ، وَيَحْمَدُ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ، وَيُسَبِّحُ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ، فَذَلِكَ مِائَةٌ باللِّسَانِ، وَأَلْفٌ فِي المِيزَانِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْقِدُهَا بيَدِهِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ هُمَا يَسِيرٌ وَمَنْ يَعْمَلُ بهِمَا قَلِيلٌ؟ قَالَ: يَأْتِي أَحَدَكُمُ الشَّيْطَانُ فِي مَنَامِهِ فَيُنَوِّمُهُ قَبْلَ أَنْ يَقُولَهُ، وَيَأْتِيهِ فِي صَلاَتِهِ فَيُذَكِّرُهُ حَاجَةً قَبْلَ أَنْ يَقُولَهَا" رَواه أبو داود، والترمذي1. ويُستحب للمسلم أن يقرأ أدبار الصلوات {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال:

_ 1 سنن أبي داود (رقم:565) ، وسنن الترمذي (رقم:3410) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:606) .

"أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقْرَأ المُعَوِّذَاتِ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ". رواه أبو داود، والنسائي1، والمراد بالمعوذات هذه السُّوَر الثلاث، وقد أطلق عليه المعوذات تغليباً2. وأن يقرأ كذلك آية الكرسي لحديث أبي أمامة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ قَرَأَ آيَةَ الكُرْسِيِّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الجَنَّةِ إِلاَّ أَنْ يَمُوتَ". رواه النسائي فِي عمل اليوم والليلة3. والمراد بقوله "لَم يمنعه من دخول الجنة إلاَّ أن يموت" أي: لَم يكن بينه وبين دخول الجنة إلاَّ الموت.

_ 1 سنن أبي داود (رقم:1523) ، وسنن النسائي (رقم:1336) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (رقم:1348) . 2 انظر: فتح الباري لابن حجر (8/132) . 3 عمل اليوم والليلة (رقم:100) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:6464) .

قال ابن القيم رحمه الله: "بلغني عن شيخنا أبي العباس ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ أنه قال: ما تركتها عقيب كلِّ صلاة"1. ومن المشروع للمسلم أن يقول أدبار الصلوات ما أوصى به النَّبيّ صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه، ففي سنن أبي داود والنسائي وغيرهما عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بيَدِهِ يَوْماً وَقَالَ: يَا مُعَاذٍ، وَاللهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ، أُوصِيكَ يَا مُعَاذٍ، لاَ تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ أَنْ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ" 2، وهذا الدعاء هل يقال قبل السلام أو بعده، قولان لأهل العلم واختار شيخ الإسلام أن يقال قبل السلام، والله تعالى أعلم.

_ 1 زاد المعاد (1/304) . 2 سنن أبي داود (رقم:1522) ، وسنن النسائي (رقم:1303) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (رقم:1347) .

دعاء القنوت في صلاة الوتر

دُعَاءُ القُنُوتِ فِي صَلاَةِ الوِتْرِ الحديث هنا عن دعاء القنوت في صلاة الوتر، ففي أبي داود والنسائي وغيرهما عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: "عَلَّمَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الوِتْرِ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إِنَّكَ تَقْضِي وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَلاَ يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ" 1. وهذا دعاءٌ عظيمٌ مشتملٌ على مطالب جليلة ومقاصد عظيمة، ففيه سؤال الله الهدايةَ والعافيةَ، والتوَلِّي والبركة والوقاية، مع الإقرار بأنَّ الأمورَ كلَّها

_ 1 سنن أبي داود (رقم:1425) ، وسنن النسائي (رقم:1745) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (رقم:1263) .

بيده وتحت تدبيره، فما شاء كان وما لَم يشأ لَم يكن1. وقوله في أوَّل هذا الدعاء: "اللَّهمَّ اهدني فيمن هديت" فيه سؤالُ الله الهداية التامَّة النافعة الجامعة لعلم العبد بالحقِّ وعمله به، فليست الهدايةُ أن يعلمَ العبدُ الحقَّ بلا عمل به، وليست كذلك أن يعمل بلا علمٍ نافعٍ يهتدي به، فالهدايةُ النافعةُ هي التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح. وقوله: "فيمَن هَدَيت" فيه فوائد: أحدها: أنَّه سؤال له أن يدخلَه في جملة المهديين وزُمرتِهم ورفقتهم وحسن أولئك رفيقاً. الثانية: أنَّ فيه توسلاً إليه بإحسانه وإنعامه، أي: يا

_ 1 انظر في شرح هذا الدعاء: شفاء العليل لابن القيم (ص:111) ، ودروس وفتاوى في الحرم المكي للشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله ـ (ص:131 ـ 137) .

رب قد هَديتَ من عبادك بشراً كثيراً فضلاً منك وإحساناً فأحسن إليَّ كما أحسنتَ إليهم واهدني كما هَدَيتَهم. الثالثة: أنَّ ما حصل لأولئك من الهدى لَم يكن منهم ولا بأنفسهم وإنَّما كان منك فأنت الذي هَدَيتَهم. وقوله: "وعافنِي فيمَن عافيت" فيه سؤالُ الله العافية المطلقة وهي العافية من الكفر والفسوق والعصيان والغفلة والأمراض والأسقام والفتن، وفعل ما لا يحبُّه وترك ما يحبه، فهذه حقيقةُ العافية، ولهذا ما سُئل الرَّبُّ شيئاً أحبَّ إليه من العافية، لأنَّها كلمةٌ جامعةٌ للتخلُّص من الشَّرِّ كلِّه وأسبابه، ومِمَّا يدل على هذا ما رواه البخاري في الأدب المفرد وغيرُه عن شَكَل بن حُميد رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله! علِّمني دعاءً أنتفعُ به، قال: "قل اللَّهمَّ عافنِي من شَرِّ سَمعي

وبصري ولساني وقلبي وشَرِّ مَنِيِّي" 1. فهي دعوةٌ جامعةٌ وشاملةٌ للوقاية من الشرور كلِّها في الدنيا والآخرة، وفي الأدب المفرد وغيره عن العباس عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: قلت يا رسول الله! علِّمنِي شيئاً أسأل الله به، فقال: "يا عباس! سلِ اللهَ العافيةَ، ثمَّ مكثتُ قليلاً ثم جئت فقلت: علِّمني شيئاً أسأل اللهَ به يا رسول الله! فقال: يا عباس! يا عمَّ رسول الله! سَلِ اللهَ العافيةَ في الدنيا والآخرة" 2. وقوله: "وتولَّنِي فيمَن تولَّيتَ" فيه سؤالُ الله التَّوَلِّي الكامل الذي يقتضي التوفيقَ والإعانةَ والنصرَ والتسديدَ والإبعادَ عن كلِّ ما يغضب الله، ومنه قوله

_ 1 الأدب المفرد (رقم:663) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الأدب المفرد (رقم:515) . 2 الأدب المفرد (رقم:726) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الأدب المفرد (رقم:558) .

تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} 1، وقوله: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} 2، وقوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} 3، وقوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} 4، وهي ولايةٌ خاصة بهم تقتضي حفظهم ونصرهم وتأييدهم ومعونتهم ووقايتهم من الشرور، ويدلُّ على هذا قولُه في هذا الدعاء: "إنَّه لا يَذلُّ من واليت" أي أنَّه منصورٌ عزيزٌ غالب بسبب توليك له، وفي هذا تنبيه على أنَّ مَن حَصَل له ذلٌّ في الناس فهو بنقصان ما فاته من تولي الله، وإلاَّ فمع الولاية الكاملة ينتفي الذُّلُّ كلُّه، ولو سلط عليه من في

_ 1 سورة: البقرة، الآية (256) . 2 سورة: الأعراف، الآية (196) . 3 سورة: آل عمران، الآية (68) . 4 سورة: الجاثية، الآية (19) .

أقطار الأرض فهو العزيز غير الذليل. وقوله: "وبارك لي فيما أعطيت" البركةُ هي الخير الكثير الثابت، ففي هذا سؤال الله البركة في كلِّ ما أعطاه من علم أو مال أو ولد أو مسكن أو غير ذلك؛ بأن يثبِّتَه له ويوسِّعَ له فيه، ويحفظه ويسلمَه من الآفات. وقوله: "وقني شر ما قضيت" أي شرَّ الذي قضيتَه، فإنَّ الله تعالى قد يقضي بالشر لحكمة بالغة، والشرُّ واقعٌ في بعض مخلوقاته لا في خلقه وفعله، فإنَّ فعلَه وخلقَه خيرٌ كلُّه، وهذا الدعاء يتضمن سؤال الله الوقاية من الشرور والسلامة من الآفات والحفظ عن البلايا والفتن. وقوله: "إنَّك تقضي ولا يقضى عليك" فيه التوسل إلى الله سبحانه بأنَّه يقضي على كلِّ شيء، لأنَّ له الحكمَ التامَّ والمشيئةَ النافذةَ والقدرة الشاملة، فهو

سبحانه يقضي في عباده بما يشاء ويحكم فيهم بما يريد، لا رادَّ لحُكمه ولا معقب لقضائه، وقوله: "ولا يقضى عليك" أي: أنَّه سبحانه لا يقضي عليه أحدٌ من العباد بشيء، فالعباد لا يحكمون على الله، بل الله سبحانه هو الذي يحكم عليهم بما يشاء ويقضي فيهم بما يريد. وقوله: "إنَّه لا يذل من والَيت ولا يعز من عاديت" هذا كالتعليل لما سبق في قوله: "وتولَّني فيمن توليت"، فإنَّ الله سبحانه إذا تولَّى العبدَ فإنَّه لا يَذِلُّ، وإذا عادى العبدَ فإنَّه لا يَعِزُّ، ولا يُطلب نيلُ العز، والوقايةُ من الذل إلاَّ منه سبحانه، {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1. وقوله: "تباركت ربنا وتعاليت" معنى تباركت

_ 1 سورة: آل عمران، الآية (26) .

أي تعاظمتَ يا الله، فلك العظمةُ الكاملة والكبرياء التام، وعظُمَت أوصافُك وكثرت خيراتُك وعمَّ إحسانُك. وقوله: "وتعالَيت" أي: أنَّ لك العلوِّ المطلق ذاتاً وقدراً وقهراً، فهو سبحانه العَليُّ بذاته، قد استوى على عرشه استواءً يليق بجلاله وكماله، والعليُّ بقَدْره، وهو علوُّ صفاته وعظمتُها، فإنَّ صفاته عظيمةٌ، لا يماثلها ولا يقاربها صفةُ أحد، والعليُّ بقهره حيث قَهَرَ كلَّ شيء، ودانت له الكائناتُ بأسرها، فجميع الخلق نواصيهم بيده فلا يتحرك منهم متحرِّك ولا يسكن ساكن إلاَّ بإذنه. وعلى كلٍّ فهذا دعاءٌ عظيم جامع لأبواب الخير وأصول السعادة في الدنيا والآخرة، فعلى المسلم أن يعتني به في هذه الصلاة ـ صلاة الوتر ـ التي يختم بها صلاة الليل، ولا بأس لو زاد المسلمُ على ذلك الدعاءَ

لعموم المؤمنين بما استطاع من خير، والاستغفارَ لهم، والدعاءَ على أعدائهم والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله الموفِّق. وصلَّى الله على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

§1/1