أدلة تحريم حلق اللحية

محمد إسماعيل المقدم

أدلة تحريم حلق اللحية بحث أعده محمد بن أحمد بن إسماعيل عفا الله عنه

الطبعة الرابعة 1405 - 1985 م نشر وتوزيع مكتبة دار الأرقم للكويت- ص. ب 43231 حولى هاتف 561913 حقوق الطبع محفوظة

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله هادي الورى طرق الهدى، وزاجرهم عن أسباب التهلكة والردى، وصلاته وسلامه على عباده الذين اصطفى من ملك ونبي مرتضى، وعبد صالح اتبع ما شرعه فاهتدى، وإياه نسأل بمنه وفضله أن ينفعنا بالعلم، وأن يجعلنا من طلابه الصادقين، وأن يوفقنا للعمل بما علمنا وتعلم ما جهلنا، واليه نرغب في أن يعيذنا من إتباع الهوى، وركوب ما لا يرتضى، وأن يعصمنا في الأقوال والأفعال من تزيين الشيطان لنا سوء الأفعال. وأن يرشدنا لقبول نصح الناصح، وسلوك الطريق الواضح، فما أسعد من ذكر فتذكر، وبصر بعيونه فتبصر. وصلى الله على من بعثه بالدين القويم والصراط المستقيم، فأكمل به الدين وأوضح به الحق المستبن، محمد بن عبد الله أبي القاسم المصطفى الأمين، صلاة الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. ورضي الله عن الأئمة التابعين والعلماء من بعدهم العاملين، الذين بلغوا إلينا سنته، وشرحوا لنا هديه وطريقته. اعلموا رحمكم الله، أن الواجب على الناصح فيما يرد عليه من الوقائع، وما يسأل عنه من الشرائع الرجوع إلى ما دل عليه كتاب الله المنزل، وما صح عن نبيه المرسل وما كان عليه الصحابة ومن بعدهم من الصدر الأول، الذين عليهم دون في سواهم ممن خالفهم المعول، فما وافق ذلك أذن فيه وأمر، وما خالفه نهى عنه وزجر، فيكون قد آمن بذلك واتبع، ولا يستحسن فإن من استحسن شرع.

قال أحمد بن يحيى حدثني عبيد بن ميمون، قال حدثني عبد الله بن الجعفري، قال: كان عبد الله بن الحسن يكثر الجلوس إلى ربيعة، (قال): فتذاكروا يوماً السنن، فقال رجل كان في المجلس: "ليس العمل على هذا"، فقال عبد الله: "أرأيت ان كثر الجهال حتى يكونوا هم الحكام فهم الحجة على السنة"؟! فقال ربيعة: "أشهد أن هذا لكلام أبناء الأنبياء". (وبعد). فهذا بحث جامع في "مسائل اللحية" أقدمه ممتثلا قول رب العالمين {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}، بعد أن مست الحاجة اليه، وقد كادت السنن تطفىء نورها المحدثات والبدع، وتكاثرت المخالفات الشرعية وعم ضررها واستطار شررها ودام الانكباب على العمل بها مع السكوت على الإنكار لها حتى صارت كأنها سنن مقررات، وشرائع من صاحب الشرع محررات، يفنى عليها الكبير، ويكبر عليها الصغير. والسعيد الموفق من أحيا السنة، ودعا إلى الله عز وجل واستوى عنده مادحه في الحق وذامه، وخالف ما اعتاد الناس وإن أدعوا أنهم على الجادة، غير مبال بما يرمونه به من التنطع في العمل والتشدد في الدين، فذلك قليل من كثير كان يقاسيه الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، المتمسكون بدين الله من التشنيع والتقبيح وضروب الأذى والتعنيف. وقد روى عن خير التابعين أويس القرني رحمه الله أنه قال: "إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يدعا للمؤمن صديقاً، نأمرهم بالمعروف فيشتمون أعراضنا، ويجدون على ذلك أعوانا من الفاسقين، حتى- والله- لقد رموني بالعظائم، وأيم الله لا أع أن أقوم فيهم بحقه". واليوم ونحن نقدم هذه الرسالة نصيحة للمسلمين، نؤكد أن قضية اللحية حكم فرعي، لكنه يندرج تحت أصل كلي غفل عنه الكثيرون، ألا وهو طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم طاعة مطلقة بامتثال كل ما به أمر، والانتهاء عن كل ما عنه زجر.

ومما يؤكد بإلحاح ضرورة نشر مثل هذا المبحث -وإن كان هناك قضايا عامة هي أخطر منه في واقع المسلمين اليوم- ما يقع من بعض المثبطين من استخفاف واستهزاء بهذه الشعيرة الإسلامية، ووصفها بما لا يليق أن يوصف به أمر تكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أمر به وأوجبه • وما يقع من بعض المتفرنجين من استحسان هدى المشركين فى حلق اللحى واستقباح سنة من هديه خير الهدى صلى الله عليه وسلم • وما يقع من شبهات عقلية سقيمة أو علمية واهية يتذرع بها من ينتسبون إلى العلم الشريف، ويذيعونها في الناس ليبرروا واقعهم المخالف لشرع الله تبارك وتعالى، وهؤلاء ينظر لهم العوام على أنهم القدوة، فيقلدونهم ويحتجون بسلوكهم. • وما يقع من ضغوط يمارسها بعض الآباء على أبنائهم الذين يحرصون على طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وامتثال أمره، بدلًا من أن يعينوهم على التقوى والنجاة. • وما يقع من اضطهاد لمن يحي هذه السنة الواجبة في كثير من الهيئات خاصة القوات المسلحة، حيث يقدس المسئولون فيها أوامر كبرائهم بحلق لحى المجندين، ويحاكمون من يخالفها، ويعاقبونه بالسجن والاضطهاد والأذى في حين لا تصغى منهم أذن لأمر سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحى، غير مبالين بما ورد في اضطهاد المسلم لأجل تدينه من التهديد الأكيد، والوعيد الشديد في الدنيا والآخرة. وإن تعجب فعجب قولهم: "أنت حر ما لم تضر" وأعجب منه أنهم ينقضون هذا المبدأ ويتدخلون في حرية الغير، وإن كانت لا تضرهم .. وهذه "الأكذوبة" المسماة "بالحرية الشخصية" لماذا تمنح للفتاة المتهتكة المتبرجة التي هي في الحقيقة جرثومة ضارة بكل مجتمع تمر به، وتمنح للشباب الضائع الذي يتشبه تارة بالنساء وتارة بالكفار، ليس في مظهره فحسب لكن في فكره وأخلاقه وجوهره.

كل هؤلاء تحترم وتقدس حريتهم الشخصية، إلا طائفة واحدة تحرم من هذا الحق ويضطهدون إذا مارسوه. وهم أهل الحق أهل الكتاب والسنة أتباع سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وإذا كان هؤلاء يدعون إلى الاهتمام بالجوهر وعدم التركيز على المظهر، فلماذا يشغلون أنفسهم بمظهر هؤلاء المتمسكين بدينهم ويعرضون عن جوهرهم؟ ويستغلون سلطتهم ويكملون نقصهم ويفرغون انهزامهم الداخلي عن طريق الأوامر واللوائح التي ما أنزل الله بها من سلطان بدل أن يتوبوا إلى ربهم ويقلعوا عن غيهم: اتقوا الله يا غواة قليلا .... واخلعوا العار عنكم والشنارا ورحم الله عبداً بلغه الحق فانصاع، ولم يعده إلى التكذيب والابتداع، قال عز وجل: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. وقد سبق أن طبعت هذه الرسالة مرات أربعاً كانت الأولى منها في ذي الحجة 1396هـ، وقد أعيد النظر فيها، فزيدت، وهذبت، وصححت، ورتبت، ثم ألحق بها -تتميمًا لفائدتها- بحث في دحض بدعة تقسم الدين إلى قشر ولباب التي يتخذها الجهال ذريعة إلى إهدار الظاهر، احتجاجًا بصلاح الباطن، وكذبوا لو صلحت قلوبهم لصلحت ظواهرهم، والله الموفق. هذا وقد سألت جامع الناس ليوم لا ريب فيه، أن يجمع أهواءنا المتفرقة في أودية الدنيا على ما يزلف لديه ويرضيه، ويخلص أعمالنا لوجهه، وما لم يكن منها له فيصرفه لذلك بلطفه وتلافيه، وأن يختم لي ولسائر إخواني المسلمين بالخاتمة الحسنى قبل انخرام الأجل وفراق الدنيا، وأن يستعملنا بما علمنا ما دام العمل يمكننا، وصلى الله على رسوله وآله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

تعريفات أصولية

تعريفات أصولية (¬1) 1 - الحكم الشرعي: هو خطاب الشارع المتعلق بفعل المكلف من حيث إنه مكلف به بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع. والمراد من "خطاب الشارع" الوصف الذي يعطيه الشارع لما يتعلق بأفعال المكلفين، كأن يقال: إنه حرام أو مكروه أو مطلوب أو مباح أو صحيح أو باطل، أو هو شرط أو سبب أو مانع ... الخ. ومعنى كلمة "اقتضاء" أي طلب سواء كان الطلب فعل أو طلب منع، فالحرام فيه طلب منع لازم، والوجوب فيه طلب فعل لازم. "والتخيير" هو أن الشارع أجاز للمكلف أن يفعل أو لا يفعل مثل الأكل أو النوم في وقت معين، ونحو ذلك من الأفعال المعتادة التي لا يتعين عليه واحد منها، وإن كانت جملتها مطلوبة. "والوضع" هو ربط الشارع بين أمرين مما يتعلق بالمكلفين مثل الربط بين الوراثة ووفاة شخص فتكون وفاته سببًا لوراثة آخر، أو يربط بين أمرين بحيث يكون أحدهما شرطا شرعيًا لتحقق الآخر وترتيب آثاره كالوضوء للصلاة وكاشتراط الشهود للنكاح، وأقسام خطاب الوضع أربعة: العلل، والأسباب، والشروط، والموانع. ويسمى الحكم الشرعي إذا كان فيه اقتضاء أو تخيير حكمًا تكليفيًا، وإذا كان فيه ربط بين أمرين حكمًا وضعيًا. 2 - الواجب: مرادف للفرض عند الجمهور، وهو ما طلب على وجه اللزوم فعله بحيث يأثم تاركه، وقال الآمدي: الوجوب الشرعي عبارة عن خطاب الشارع بما ينتهض تركه سببًا للذم شرعًا. 3 - المندوب: هو ما طلب الشارع فعله طلبًا غير لازم، أو ما يثاب فاعله، ولا يعاقب تاركه، أو هو ما يمدح فاعله، ولا يذم الشارع تاركه، أو ¬

_ (¬1) مستفادة من "أصول الفقه" لأبي زهرة، ومذكرة الشنقيطي على "روضة الناظر لابن قدامة".

4 - الحرام

هو الراجح فعله مع جواز تركه، وقد يسمى النافلة والسنة (¬1)، والتطوع والمستحب والإحسان. 4 - الحرام: وهو ضد الواجب، وهو ما في تركه الثواب وفي فعله العقاب، أو هو ما طلب الشارع الكف عن فعله على وجه الحتم واللزوم. 5 - المكروه: هو ما تركه خير من فعله، أو هو ما طلب الشارع الكف عنه طلبًا غير ملزم، وقد يطلق "المكروه" على المحظور، وعلى ما نهي عنه نهي تنزيه، فلا يتعلق بفعله عقاب، وعند الجمهور: لا يذم فاعله ويمدح تاركه. ¬

_ (¬1) السنة: تعنى في اللغة الطريقة ولو غير مرضية، أما في الشرع فهي تقال في مقابلة البدعة، على الطريقة المسلوكة في الدين بأن سلكها النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح من بعده، مثال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ" الحديث رواه أبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح، وهي على هذا المعنى شاملة للواجب والمندوب والمباح، سواء في الأعمال أو الأقوال أو الاعتقادات، أما تخصيص الفقهاء لها بما طلب طلبًا غير جازم، فهو اصطلاح طارئ قصدوا به التمييز بينها وبين الفرض، فعلى ذلك إذا وصف إعفاء اللحية بأنه سنة فالمقصود من ذلك المعنى الشرعي وهو الطريقة المحمودة، أي طريقة ونهج الرسول صلى الله عليه وسلم، أما صفته من الناحية الفقهية فهو واجب ليس بسنة، وراجع تحقيق هذا المعنى في "العدة" حاشية الصنعاني على "أحكام الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 353 - 357) وكذا "تحفة المودود بأحكام المولود" لابن القيم (ص-176 - 177).

المبحث الأول أدلة تحريم حلق اللحية

المبحث الأول أدلة تحريم حلق اللحية فصل الأمر حقيقة في الوجوب (¬1) ذهب الجمهور إلى أن صيغة الأمر حقيقة في الوجوب لغة وشرعًا ومن حيث العقل والنقل، فإذا ورد الأمر متجردًا عن القرائن اقتضى الوجوب. أما العقل: فما علم أهل اللغة قبل ورود الشرع أنهم أطبقوا على ذم عبد لم يمتثل أمر سيده، وأنهم يصفونه بالعصيان ولا يذم ولا يوصف بالعصيان إلا من كان تاركًا لواجب عليه. وأما النقل: فقت تكرر استدلال السلف بصيغة الأمر مع تجردها عن القرائن على الوجوب، وشاع ذلك وذاع بلا نكير، فأوجب العلم العادي باتفاقهم عليه، وبالتتبع يعلم أن فهم الوجوب لا يحتاج إلى قرينة لتبادره إلى الذهن، بخلاف فهم الندب فإنه يحتاج اليه، واستدلوا بالأدلة الآتية: ا- قوله تعالى لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}؟ (¬2). وليس المراد منه الاستفهام بالاتفاق، بل الذم، وأنه لا عذر له في الإخلال بالسجود بعد ورود الأمر به له في ضمن قوله تعالى للملائكة: {اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} (¬3). دل ذلك على أن معنى الأمر المجرد عن القرائن الوجوب، ولو لم يكن دالًا ¬

_ (¬1) مستفاد من إرشاد الفحول (94 - 97)، مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر للشنقيطي (191 - 192). تفسير النصوص لمحمد أديب صالح (2/ 241 - 283). (¬2) الأعراف: 12. (¬3) البقرة: 34.

على الوجوب لما ذمه الله سبحانه وتعالى على الترك، ولكان لإبليس أن يقول: "إنك ما ألزمتني بالسجود". 2 - واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} (¬1). فذمهم على ترك فعل ما قيل لهم افعلوه، ولو كان الأمر يفيد الندب لما حسن هذا الكلام، كما لو أنه قال لهم: الأولى أن تفعلوا، ويجوز لكم تركه، فإنه ليس له أن يذمهم على تركه. 3 - واستدلوا أيضًا بقوله عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي يعرضون عنه بترك مقتضاه {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬2). لأنه رتب على ترك مقتضى أمره إصابة الفتنة في الدنيا أو العذاب الأليم في الآخرة، فأفادت الآية بما تقتضيه إضافة الجنس في قوله "أمره" من العموم أن لفظ الأمر يفيد الوجوب شرعًا مع تجريده عن القرائن، اذ لولا ذلك لقبح التحذير. 4 - واستدلوا أيضًا بقوله تبارك وتعالى على لسان موسى عليه السلام: مخاطبًا أخاه هارون عليه السلام {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} (¬3). أي تركت مقتضاه، فدل على أن تارك المأمور به عاص، وكل عاص متوعد، وهو دليل الوجوب لهذه الآية. ولقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} (¬4)، والأمر الذي أمره به موسى عليه السلام هو قوله: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} (¬5). وهو أمر مجرد عن القرائن. ¬

_ (¬1) المرسلات: 48. (¬2) النور: 63. (¬3) طه: 92 - 93. (¬4) الجن: 23. (¬5) الأعراف: 142.

5 - واستدلوا أيضًا بقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬1). والقضاء هنا بمعنى الحكم، و (أمرًا) مصدر من غير لفظه أو حال أو تمييز ولا يصح أن يكون المراد بالقضاء ما هو المراد في قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} (¬2). لأن عطف الرسول عليه يمنع ذلك، فتعين أن المراد الحكم، والمراد من الأمر القول لا الفعل. 6 - واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬3). والمراد منه الأمر حقيقة، وليس بمجاز عن سرعة الإيجاد كما قيل، وعلى هذا يكون الوجود مرادًا بهذا الأمر، أي أراد الله كلما وجد الأمر يوجد المأمور به، فكذا في كل أمر من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وسلم. 7 - واستدلوا أيضًا بما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» (¬4). وكلمة لولا تفيد انتفاء الشئ لوجود غيره، فهنا تفيد انتفاء الأمر لوجود المشقة، فهذا يدل على أنه لم يوجد الأمر بالسواك عند كل صلاة، والإجماع قائم على أنه مندوب، فلو كان المندوب مأمورا به لكان الأمر قائما عند كل صلاة، فلما لم يوجد الأمر علمنا أن المندوب غير مأمور به. 8 - واستدلوا أيضا بما وقع في قصة بريرة لما رغبها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجوع إلى زوجها فقالت: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: «إِنَّمَا ¬

_ (¬1) الأحزاب: 36. (¬2) فصلت: 11. (¬3) النحل: 40. (¬4) أخرجه البخاري ومسلم ومالك في موطئه وأحمد في مسنده والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي عن زيد بن خالد الجهنى رضي الله عنه.

فصل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحى

أَشْفَعُ»، قَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ (¬1) فنفى صلى الله عليه وسلم الأمر منه مع ثبوت الشفاعة الدالة على الندب، وذلك يدل على أن المندوب غير مأمور به، وإذا كان كذلك وجب أن يتناول الأمر الندب. 9 - واستدلوا أيضًا بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستدلون بالأوامر على الوجوب، ولم يظهر مخالف منهم ولا من غيرهم فكان إجماعًا. فصل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحى وقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عدة من الصحابة رضوان الله عليهم منهم أبو هريرة رضي الله عنه وابن عمر رضي الله عنهما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحى. وقد روى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قوله "أمرنا بإعفاء اللحية". وورد هذا الأمر بألفاظ مختلفة عدها النووي رحمه الله فبلغت خمسة، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (اعفوا)، (أوفوا)، (أرخوا)، (ارجوا)، (وفروا) والأمر بهذا يفيد وجوب المأمورية بحيث يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وليست هناك قرينة تصرفه إلى الندب، ومنه يعلم أن حلق اللحية مخالفة صريحة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. واعلم أن شبهة القائلين بكراهة حلق اللحية اعتقادهم أن الأمر لغير الوجوب وقد علمت ما فيه (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه وابن ماجة. قال الحافظ في الفتح (409/ 9): (وعند ابن مسعود من مرسل ابن سيرين بسند صحيح. فقالت: يا رسول الله أشيء واجب علي؟ قال: لا) أهـ. (¬2) وأنظر تحقيق هذه المسالة في "تفسير النصوص" للدكتور محمد أديب صالح (264/ 2 - 275).

(فائدة)

(فائدة) ويمكن الاستدلال على الوجوب أيضًا بالنهي الوارد بصيغة الأمر، فإن النهى هو طلب الكف عن الفعل، وقد ورد النهي بصيغة الأمر، فقوله صلى الله عليه وسلم: "اعفوا" معناه: اتركوها وافية لا تقصوها كما قال الإمام النووي رحمه الله (¬1) في تفسير "اعفوا"، ونقل ابن حجر عن ابن دقيق العيد قوله: "حقيقة الإعفاء الترك" (¬2). فالإعفاء طلب للترك فهو نهى، والنهي يلزم اجتنابه قال تعالى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم: "مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ" (¬4). وقد ذهب الجمهور من أهل الأصول ومن الحنفية والشافعية والمحدثين إلى أن الشيء المعين إذا أمر به كان ذلك الأمر نهيًا عن الشيء المعين المضاد له (¬5) سواء كان الضد واحدًا -كما إذا أمره بالإيمان فإنه يكون نهيًا عن الكفر، وإذا أمره بالحركة فإنه يكون نهيًا عن السكون- أو كان الضد متعددا كما إذا أمره بالقيام فإنه يكون نهيا عن القعود والاضطجاع والسجود وغير ذلك، فالكف عن الضد لازم للأمر لزوما لا ينفك، إذ لا يصلح الأمر بحال إلا مع الكف عن ضده، فالأمر مستلزم ضرورة النهي عن ضده لاستحالة اجتماع الضدين. والحاصل أن الأمر بإعفاء اللحية يفهم منه النهي عن حلقها واستئصالها أو تقصيرها بحيث تكون قريبة إلى الحلق، والعلم عند الله تعالى. وإذا كان النهي عن إزالة اللحية مأخوذا هنا بطريق الالتزام، إلا أنه ورد ما يشعر بالنهي الصريح في حديث أبي ريحانة رضي الله عنه قال: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَشْرَةٍ: عَنِ الْوَشْرِ، وَالْوَشْمِ، وَالنَّتْفِ" الحديث (¬6). ¬

_ (¬1) شرح النووي لصحيح مسلم (151/ 3). (¬2) فتح الباري (10/ 351). (¬3) الحشر: 7. (¬4) متفق عليه وهذا اللفظ لمسلم. (¬5) إرشاد الفحول (101 - 105). (¬6) رواه أبو داود والنسائي.

قال القارئ في مرقاة المفاتيح (¬1): ("والنتف" أي وعن نتف النساء لشعورهن من وجوههن أو نتف اللحية أو الحاجب بأن ينتف البياض منهما أو نتف الشعر عند المصيبة) اهـ. وإذا صح القول بأن حلق اللحية مثله -كما يفهم من قول الإمام مالك وغيره- فإن النهى الصريح عن الحلق يستفاد من حديث عبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه قال: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النُّهْبَى وَالْمُثْلَةِ" (¬2). وفي حديث سمرة بن جندب وعمران بن حصين قالا: "مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً، إِلَّا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ، وَنَهَانَا عَنِ الْمُثْلَةِ" (¬3). وروى ابن عساكر عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه قال: "إن حلق اللحية مثله، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة" اهـ. ¬

_ (¬1) مرقاة المفاتيح (2/ 433). (¬2) أخرجه البخاري وأحمد، وابن أبي شيبة بدون ذكر "النهي". (¬3) أخرجه الإمام أحمد وقال الألباني (إسناده جيد).

فصل تحريم تشبه المسلمين بالكفار

فصل تحريم تشبه المسلمين بالكفار (¬1) تقرر في الشرع أنه لا يجوز للمسلمين رجالًا ونساء التشبه بالكفار سواء في عبادتهم أو أعيادهم أو أزيائهم الخاصة بهم، وهذه قاعدة عظيمة في الشريعة الإسلامية خرج عنها اليوم -مع الأسف- كثير من المسلمن جهلا بدينهم، أو تبعا لأهوائهم، أو انحرافا مع عادات العصر الحاضر وتقاليد أوروبا الكافرة، حتى كان ذلك من أسباب ذل المسلمين وضعفهم وسيطرة الأجانب عليهم واستعمارهم: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (¬2). ومما ينبغي أن يعلم أن أدلة هذه القاعدة المهمة كثيرة في الكتاب والسنة، ومن أدلة الكتاب قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬3). ومنها قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (¬4). يخبر تعالى أنه جعل رسوله صلى الله عليه وسلم على شريعة من الأمر شرعها له، وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وقد دخل في "الذين لا يعلمون" كل من خالف شريعته، و"أهواؤهم" ما يهوونه، وما عليه المشركون من هديهم الظاهر الذي هو من موجبات دينهم الباطل وتوابع ¬

_ (¬1) هذا الباب مستفاد باختصار من (الحجاب) للشيخ ناصر الدين الألباني. (¬2) الرعد: 11. (¬3) الحشر:19. (¬4) الجاثية: 18.

ذلك فهم يهوونه، وموافقتهم فيه: اتباع لما يهوونه، ولذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين لهم في بعض أمورهم، ويسرون بذلك، ويودون أن لو بذلوا مالا عظيما ليحصل ذلك. وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (¬1). قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى (¬2): (فقوله "ولا يكونوا" نهي مطلق عن مشابهتهم، وهو خاص أيضا في النهى عن مشابهتهم في قسوة قلوبهم، وقسوة القلوب من ثمرات المعاصي) اهـ. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية (¬3): "ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية، اهـ. وفي الباب آيات أخر كثيرة وفيما ذكرنا كفاية. فتبين من هذه الآيات أن ترك هدي الكفار والتشبه بهم في أعمالهم وأقوالهم وأهوائهم من المقاصد والغايات التي أسسها، وجاء بها القرآن الكريم، وقد قام صلى الله عليه وسلم ببيان ذلك وتفصيله للأمة، وحققه في أمور كثيرة من فروع الشريعة. قال صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ عَمِلَ بِسُنَّةِ غَيْرِنَا" (¬4). حتى عرف ذلك اليهود الذين كانوا في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وشعروا أنه صلى الله عليه وسلم يتحرى أن يخالفهم في كل شئونهم الخاصة بهم فقالوا: "مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلَّا خَالَفَنَا ¬

_ (¬1) الحديد: 16. (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ص43، وهذا الكتاب من نفائس شيخ الإسلام الذي يجدر بكل مؤمن قرائته في مثل هذا الزمان. (¬3) تفسير القرآن العظيم (4/ 310). (¬4) رواه الديلمي في "مسند الفردوس" وحسنه الألباني.

فِيهِ؟ " (¬1). وهذا لا ينحصر في باب واحد من أبواب الشريعة المطهرة كالصلاة مثلًا، بل قد تعداها إلى غيرها من العبادات والآداب والعادات، وهذا بعضها مسوق بين يديك لتكون على بصيرة وتقف على أهمية هذا الأمر: (أ) (من الصلاة): عَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: اهْتَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّلَاةِ كَيْفَ يَجْمَعُ النَّاسَ لَهَا، فَقِيلَ لَهُ: انْصِبْ رَايَةً عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ فَإِذَا رَأَوْهَا آذَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ، قَالَ: فَذُكِرَ لَهُ الْقُنْعُ - يَعْنِي الشَّبُّورَ وَقَالَ زِيَادٌ: شَبُّورُ الْيَهُودِ (¬2) - فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ، وَقَالَ: «هُوَ مِنْ أَمْرِ الْيَهُودِ» قَالَ: فَذُكِرَ لَهُ النَّاقُوسُ، فَقَالَ: «هُوَ مِنْ أَمْرِ النَّصَارَى» فَانْصَرَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ وَهُوَ مُهْتَمٌّ لِهَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُرِيَ الْأَذَانَ فِي مَنَامِهِ" (¬3) الحديث. ومن هذا الباب ما ثبت عن عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ وَأَجْهَلُهُ أَخْبِرْنِي عَنِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: «صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَتَرْتَفِعَ؛ فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ، ثُمَّ صَلِّ فَالصَّلَاةُ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ؛ فَإِنِّ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمَ، فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ؛ فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ" (¬4). ومن ذلك ما رواه جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: " ... ألا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم وأبو عوانة في صحيحهما وقال الترمذي: حسن صحيح وأخرجه غيرهم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬2) هو البوق. (¬3) أخرجه أبو داود وأنظر تلخيص الحبير (209/ 1). (¬4) أخرجه مسلم وأبو عوانة في "صحيحهما".

وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ، عَنْ ذَلِكَ" (¬1). ومن ذلك ما رواه يَعْلَى بْنِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَالِفُوا الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ، وَلَا خِفَافِهِمْ" (¬2). ومن ذلك ما رواه جابر بن عبد الله عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِنْ كِدْتُمْ لَتَفْعَلُوا فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ، يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ، فَلَا تَفْعَلُوا" (¬3). الحديث، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى رجلا وهو جالس معتمد على يده اليسرى في الصلاة فقال: "إِنَّهَا صَلَاةُ الْيَهُودِ" (¬4). وفي رواية: "لَا تَجْلِسْ هَكَذَا، إِنَّمَا هَذِهِ جِلْسَةُ الَّذِينَ يُعَذَّبُونَ" (¬5). (ب) (ومن الجنائز): ما رواه جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّحْدُ لَنَا، وَالشَّقُّ لِأَهْلِ الْكِتَابِ" (¬6). (ج) (ومن الصوم): ما رواه عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فَصْلَ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَكْلَةُ السَّحَرِ» (¬7). وما رواه أبو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم وأبو عوانة في "صحيحهما" وابن سعد. (¬2) أخرجه أبو داود والحاكم في مستدركه والبيهقي في سننه. (¬3) حديث مستفيض عن جابر رضي الله عنه أخرجه مسلم وأبو عوانة في "صحيحهما". (¬4) أخرجه الحاكم وغيره. (¬5) أخرجه الإمام أحمد. (¬6) أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" وأحمد وغيرهما. (¬7) أخرجه مسلم وأصحاب السنن وأحمد.

يَزَالُ الدِّينُ ظَاهِرًا مَا عَجَّلَ النَّاسُ الْفِطْرَ، لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤَخِّرُونَ" (¬1). وعَنْ لَيْلَى، امْرَأَةِ بَشِيرٍ قَالَتْ: أَرَدْتُ أَنْ أَصُومَ يَوْمَيْنِ مُوَاصِلَةً، فَمَنَعَنِي بَشِيرٌ، وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهُ وَقَالَ: " يَفْعَلُ ذَلِكَ النَّصَارَى، وَقَالَ عَفَّانُ: يَفْعَلُ ذَلِكَ النَّصَارَى، وَلَكِنْ صُومُوا كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ، وَأَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ فَأَفْطِرُوا" (¬2). وعن بْنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ صُمْنَا يَوْمَ التَّاسِعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى» قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" (¬3). وعن أُمَّ سَلَمَةَ، تَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ يَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الْأَحَدِ أَكْثَرَ مِمَّا يَصُومُ مِنَ الْأَيَّامِ، وَيَقُولُ: «إِنَّهُمَا يَوْمَا عِيدِ الْمُشْرِكِينَ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ» (¬4). (د) (ومن الأطعمة): ما رواه عدى بن حاتم قال: "قلت: يا رسول الله، إِنِّي أَسْأَلُكَ عَنْ طَعَامٍ لَا أَدَعُهُ إِلَّا تَحَرُّجًا، قَالَ: «لَا تَدَعْ شَيْئًا ضَارَعْتَ فِيهِ نَصْرَانِيَّةً» (¬5) والمعنى: لا تتحرج فإنك إن فعلت ذلك، شابهت فيه النصرانية، فإنه من دأب النصارى وترهبهم. (هـ) (ومن اللباس والزينة): ¬

_ (¬1) رواه الترمذي والإمام احمد، وأبو داو والحاكم وابن ماجة وحسنة الألباني. (¬2) أخرجه الإمام أحمد وكذا سعيد بن منصور، وعزاه الحافظ في "الفتح" للطبراني أيضا، وعبد بن حميد وابن ابي حاتم في تفسيرهما. (¬3) أخرجه مسلم والبيهقي وغيرهما. (¬4) أخرجه الإمام أحمد والحاكم والبيهقى، وقال الحاكم "صحيح", ووافقه الذهبي، وصححه ابن خزيمة. (¬5) أخرجه الإمام أحمد والبيهقي والترمذي.

ما رواه عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو حَدَّثَهُ قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ فَقَالَ: «يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، إِنَّ هَذِهِ ثِيَابُ الْكُفَّارِ فَلَا تَلْبَسْهَا» (¬1). وفي كتاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عتبة بن فرقد رضي الله عنه: " ... وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّمَ، وَزِيَّ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَلَبُوسَ الْحَرِيرَ ... " (¬2). وعن علي رضي الله عنه رفعه: «إِيَّاكُمْ وَلِباسَ الرُّهْبَانِ، فَإِنَّهُ مَنْ تَرَهَّبَ أَوْ تَشَبَّهَ فَلَيْسَ مِنِّي» (¬3). وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: "خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَشْيَخَةٍ مِنَ الْأَنْصَارٍ بِيضٌ لِحَاهُمْ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ حَمِّرُوا وَصَفِّرُوا، وَخَالِفُوا أَهْلَ الْكِتَابِ». قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَتَسَرْوَلَونَ وَلْا يَأْتَزِرُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَسَرْوَلُوا وَائْتَزِرُوا وَخَالِفُوا أَهْلَ الْكِتَابِ». قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَتَخَفَّفُونَ وَلَا يَنْتَعِلُونَ. قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَتَخَفَّفُوا وَانْتَعِلُوا وَخَالِفُوا أَهْلَ الْكِتَابِ». قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَقُصُّونَ عَثَانِينَهُمْ (¬4) وَيُوَفِّرُونَ سِبَالَهُمْ (¬5). قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُصُّوا سِبَالَكُمْ وَوَفِّرُوا عَثَانِينَكُمْ وَخَالِفُوا أَهْلَ الْكِتَابِ» (¬6). وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ أَحْفُوا الشَّوَارِبَ، وَأَوْفُوا اللِّحَى» (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم والنسائي والحاكم وأحمد. (¬2) متفق عليه. (¬3) أخرجه الطبراني في الأوسط. (¬4) العثانين: جمع عثنون وهي اللحية. (¬5) السبال: جمع "سبلة" بالتحريك وهي الشارب. (¬6) أخرجه الإمام أحمد، وحسنه الحافظ في الفتح، وقد ذكر الهيثمي له شاهدا من رواية جابر بن عبد الله عند الطبراني قال في آخره: "وخالفوا أولياء الشيطان بكل ما استطعتم". (¬7) أخرجه البخاري ومسلم وأبو عوانه والبيهقي.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جُزُّوا الشَّوَارِبَ، وَأَرْخُوا اللِّحَى خَالِفُوا الْمَجُوسَ» (¬1). وعنه صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ» (¬2). وعنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غَيِّرُوا الشَّيْبَ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَلَا بِالنَّصَارَى» (¬3). (و) (ومن الآداب والعادات): عن جابر بن عبد الله مرفوعا: «لَا تُسَلِّمُوا تَسْلِيمَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَإِنَّ تَسْلِيمَهُمْ بِالْأَكُفِّ وَالرُّؤوسِ وَالْإِشَارَةِ» (¬4). وعن الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَ: مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا جَالِسٌ هَكَذَا، وَقَدْ وَضَعْتُ يَدِيَ الْيُسْرَى خَلْفَ ظَهْرِي وَاتَّكَأْتُ عَلَى أَلْيَةِ يَدِي، فَقَالَ: «أَتَقْعُدُ قِعْدَةَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ؟» (¬5). وأخيرا فقد ثبت عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» (¬6). وعن الحسن قال: "قلما تشبه رجل بقوم إلا لحق بهم". يعني في الدنيا والآخرة، فثبت من كل ما تقدم أن مخالفة الكفار وترك التشبه بهم من مقاصد ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم وأبو عوانة والبيهقي وأحمد. (¬2) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد. (¬3) أخرجه الإمام أحمد وابن حبان والترمذي. (¬4) قال الحافظ في "الفتح" (أخرجه النسائي جيد) وقال الهيثمي، (رواه أبو يعلى والطبراني في "الأوسط" ورجال أبي يعلى رجال الصحيح). (¬5) أخرجه أبو داود والحاكم وأحمد- وقال الحاكم: "صحيح الإسناد", ووافقه الذهبي. (¬6) أخرجه الإمام أحمد وأبو يعلى في "مسنده" والطبراني في "الكبير" وعبد بن حميد، وابن أبي شيبة في "مصنفه" وابن عساكر، وأخرج الجملة الأخيرة منه أبو داود، وقال شيخ الإسلام: (وهذا إسناد جيد)، وقال الحافظ العراقى في تخريج الأحياء: (سنده صحيح) وقال الحافظ في الفتح (سنده حسن).

الشريعة الإسلامية العليا التي بني على أساسها هذا الدين، فالواجب على كل المسلمين رجالا ونساء أن يراعوا ذلك في كافة شئونهم، والله وحده المستعان. شبهه: زعم بعض الناس أن مخالفة الكفار مستحبة لا واجبة، وأن الصحيح هو كراهة التشبه بالكفار لا تحريمه، واستدل على دعواه بورود نصوص تبنى أحكاما شرعية معللة بمخالفة الكفار وهذه المخالفة مستحبة لا واجبة، فمسلك الجمع بينها وبين النصوص الدالة على الوجوب إنما هو القول بكراهة التشبه فقط، لأن هذا الجمع يقدم على النسخ والترجيح، وجواب ذلك من وجوه. الأول: أن المقرر عند جمهور الأصوليين والفقهاء أنه إذا وردت نصوص تدل على تحريم شيء وردت نصوص أخرى تدل على جوازه، وجب العمل بالنصوص الدالة على التحريم لأنها ناقلة عن البراءة والإباحة التي كان الناس عليها أول الأمر، قبل ورود الخطر. الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" صريح الدلالة على تحريم التشبه بالكفار، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: "أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلاَثَةٌ" وذكر منهم "وَمُبْتَغٍ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةَ الجَاهِلِيَّةِ" (¬1). وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثوبين معصفرين، فقال: "إن هذا من لباس الكفار فلا تلبسهما"، قلت: أغسلهما؟ قال: لا، بل أحرقهما"، والإحراق فيه إتلاف مال متقوم، وهذا ينافي القول باستحباب المخالفة. الثالث: أن الجمع لا يصار اليه عندما تكون النصوص محتملة غير صريحة، وفيما عدا ذلك يصار إلى النسخ أو الترجيح. الرابع: أن ما تقتضي الأدلة رجحانه هو تحريم التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم، وقد يرد في بعض المسائل ما يصرف هذا الحكم إلى الكراهة فلا يلغي ذلك الأصل بل يخصص في هذه المسائل بعينها، والعلم عند الله تعالى. ¬

_ (¬1) رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما.

تنبيهات الأول: مخالفة الكفار إنما تجب فيما ابتدعوه، وكان خاصا بهم لا فيما يشترك فيه الناس كلهم مما هو من لوازم الحياة، كأكل الخبز والنوم والاستضاءة بالكهرباء، إلخ ... الثاني: المذموم من التشبه بالكفار هو ما يخالف الكتاب والسنة، أو ما يكون سببا في اندثار الدين ودروس شرائعه وفساد أهله، أما ما لم يكن كذلك كالأنظمة الإدارية والمشاريع التي تعود بالخير على المسلمين والمنجزات العلمية التي تقوي شوكة المسلمين أو تيسر المعايش فليس بمذموم، بل قد يستحب أو يجب حسب المقاصد التي تؤدي إليها هذه الوسائل فإن الذرائع لها أحكام الغايات وقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (¬1)، وقد ورد (¬2) أن النبي صلى الله عليه وسلم "تحصن من الأحزاب في الخندق حينما أخبره سلمان الفارسي رضي الله عنه أن الفرس يتحصنون به، وورد (¬3) أنه أمر زيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود ليكون ترجمانا له صلى الله عليه وسلم، وقد هم صلى الله عليه وسلم بأن يمنع وطء النساء المراضع خوفا على أولادهن، لأن العرب كانوا يظنون أن الغيلة (وهي وطء المرضع) تضعف ولدها وتضره، فأخبرته صلى الله عليه وسلم فارس والروم بأنهم يفعلون ذلك ولا يضر أولادهم، فأخذ صلى الله عليه وسلم منهم تلك الخطة الطيبة، ولم يمنعه من ذلك أن أصلها من الكفار، وقد انتفع صلى الله عليه وسلم بدلالة ابن الأريقط الدؤلي له في سفر الهجرة على الطريق مع أنه كافر، وعَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى كِسْرَى، وَقَيْصَرَ، وَالنَّجَاشِيِّ، فَقِيلَ: إِنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ كِتَابًا إِلَّا بِخَاتَمٍ، «فَصَاغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا حَلْقَتُهُ فِضَّةً، وَنَقَشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ» (¬4). ¬

_ (¬1) الأنفال: 60. (¬2) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (ذكره أصحاب المغازي منهم أبو مشعر) فتح الباري (7/ 393). (¬3) أخرجه أبو يعلى وابن عساكر وأنظر "حياة الصحابة" (3/ 142 - 143). (¬4) رواه مسلم.

دعاة التفرنج دعاة على أبواب جهنم

والمقصود أن الانتفاع بالمخترعات الحديثة التي لا تنافي مقاصد الشريعة (¬1)، لا دخل له في التشبه المذموم والله أعلم. الثالث: قال أمير البيان شكيب أرسلان (¬2) رحمه الله: "إن الواجب على المسلمين لينهضوا ويتقدموا ويترقوا كما ترقى غيرهم من الأمم هو الجهاد بالمال والنفس الذي أمر به الله في القرآن مرارا عديدة، وهو ما يسمونه اليوم بالتضحية، وإن الجهاد بالنفس والمال هو العلم الأعلى، فإذا تعلمت الأمة هذا العلم وعملت به دانت سائر العلوم ودنت منها جميع القطوف" اهـ. وصدق- رحمه الله- فإن مصدر قوة المسلمين ورقيهم هو ليس مدى تشبههم بالفرنج كما يزعم المبددون، ولكن هو مدى تمسكهم بالإسلام الذي ذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، و"ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا" كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. ولن تقيم يد الباني وإن جهدت ... دنيا الشعوب وركن الدين مهدود وقال شكيب أرسلان أيضا: "أضاع الإسلام جاحد وجامد" أما الجاحد فهو الذي يأبي إلا أن يفرنج المسلمين، ويخرجهم عن ذاتيتهم ومقوماتهم، ويحملهم على التنكر لماضيهم، وأما الجامد فهو الذي يضع السدود المنيعة في وجه الرقي الحضاري الذي يقوي شوكة المسلمن، ولا يمس عقيدتهم، ولا شريعتهم، والله وحده المستعان. دعاة التفرنج دعاة على أبواب جهنم لا شك أن واقع المسلمن اليوم، قد صار كثير منهم بل أكثرهم أوروبيين في مظهرهم وعاداتهم بل وأفكارهم - مما تتقطع القلوب منه حسرة، ولكن مما يزيد هذه الحسرة أن هذا الذوبان ما طرأ عليهم إلا خلال حقبة يسيرة من ¬

_ (¬1) أنظر "أضواء البيان" للشنقيطي (4/ 381 - 383). (¬2) في كتابه: (لماذا تأخر المسلمون؟).

الزمان وتم - ويا أسفاه - على يد أعداء الإسلام من الصليبيين الحاقدين الموتورين والزنادقة الملحدين، وما رأينا عالما ولا داعية إسلاميا مخلصا قط قد قرأ هذه البلية الخطيرة، وفيما يلي نسوق عبارات لأبرز هؤلاء المفكرين الذين بذروا بذرة التفرنج ونبذ الإسلام ظهريا. فأولهم عميل الفكر الغربي الذي قال يوما: (لو وقف الدين الإسلامي حاجزا بيننا وبين فرعونيتنا لنبذناه) فقد طالب صراحة في بعض كتبه ب (أن نسير سيرة الأوروبيين، ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، وما يحمد وما يعاب) (¬1) اهـ. فلا جرم أن قال أحد أساتذته "ماسينيون": (لو قرأنا كلام طه حسين لقلنا: هذه بضاعتنا ردت إلينا) اهـ. وهذا صليبي حقود يذكر في التاريخ على أنه أحد المجددين وهو أبو المبددين يقول في كتابه (اليوم والغد) وهو من الكتب التي غذت فكرة التفرنج وسنت أسوأ السنن للمسلمين المخدوعين: (يجب علينا أن نخرج من آسيا ونلتحق بأوروبا، فإني كلما زادت معرفتي بأوروبا زاد حبي لها وتعلقي بها، وزاد شعوري بأنها مني وأنا منها، وهذا هو مذهبي الذي أعمل له طول حياتي سرا وجهرا، فأنا كافر بالشرق، مؤمن بالغرب) اهـ. ويقول أيضا: (أريد من التعليم أن يكون أوروبيا لا سلطان للدين عليه، ولا دخول له فيه) ويريد أيضا: (أن تكون الحكومة ديمقراطية برلمانية كما هي في أوروبا، وأن يعاقب كل من يحاول أن يجعلها مثل حكومة هارون الرشيد أو المأمون أوتوقراطية دينية). ¬

_ (¬1) من "مستقبل الثقافة في مصر" لطه حسين الفقرة9 ص41، وهذا القول شبيه بما حكاه الشيخ مصطفى صبري رحمه الله في كتابه "موقف العقل والعلم والعالم" (1/ 369) عن أغا أو غلى أحمد أحد غلاة الكماليين الأتراك في أحد كتبه: (إننا عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين، حتى الالتهابات التي في رئيهم، والنجاسات التي في أمعائهم). اهـ، فالحمد الله على نعمة الإسلام وأعظم بها نعمة.

ويعدد مناقب الخديوي إسماعيل فيذكر منها أنه (جعلنا نلبس الملابس الأوروبية)، ويريد أن يبطل شريعة الإسلام في تعدد الزوجات وفي الطلاق (بحيث يعاقب بالسجن كل من يتزوج أكثر من واحدة ويمنع الطلاق إلا بحكم محكمة) وهو يريد أن يقتلع من أدبنا كل طابع شرقي مما يسميه (آثار العبودية والذل والتوكل على الآلهة) ثم يمتدح نابليون ويشيد "ببركاته" التي عمت مصر من بعده، ويقول: (آن الأوان لكي نعتاد عادات الأوروبيين، ونلبس لباسهم، ونأكل طعامهم، ونصطنع أساليبهم، في الحكومة والعائلة والاجتماع والزراعة والصناعة) ويقول: (نحن في حاجة إلى ثقافة حرة أبعد ما تكون عن الأديان) وهو يرى أن (اصطناع القبعة أكبر ما يقرب بيننا وبين الأجانب ويجعلنا أمة واحدة، فهو يعد القبعة "رمز الحضارة" يلبسها كل رجل متحضر) (¬1). ثم تبلغ جرأته أقصاها حين يسخر من الإسلام وأهله قائلا: (وها نحن أولاء نجد أنفسنا الآن مترددين بين الشرق والغرب، لنا حكومة منظمة على الأساليب الأوروبية، ولكن في وسط الحكومة أجساما شرقية مثل وزارة الأوقاف والمحاكم الشرعية تؤخر تقدم البلاد، ولنا جامعة تبعث بيننا ثقافة العالم المتمدنين، ولكن كلية جامعة الأزهر تقف إلى جانبها تبث بيننا ثقافة القرون المظلمة، ولنا أفندية قد تفرنجوا، لهم بيوت نظيفة، ويقرؤن كتبا سليمة، ولكن إلى جانبهم شيوخا لا يزالون يلبسون الجبب والقفاطين، ولا يتورعون من التوضؤ على قوارع الطريق في الأرياف، ولا يزالون يسمون ¬

_ (¬1) ولما حمل أتاتورك - عليه من الله ما يستحقه - مسلمي تركيا على ارتداء القبعة كرمز لهذا التحضير كتب بعض علماء تركيا في حق من يرتدي القبعة تشبها بالكفار واستحسانا لطريقهم، وقد حكى شاب تركي أزهري أن عالما من هؤلاء قبض عليه وحوكم بسبب تأليفه رسالة في مرتدي القبعة، ولما مثل أمام القاضي قال له: إنكم أيها الشيوخ مغرقون في السفسطة الفارغة، رجل يرتدي عمامة يكون بها مسلما، فإذا ما ارتدى قبعة صار مثل الكافر، وهذه قماش وتلك قماش! فرد عليه هذا العالم قائلا: (أنظر أيها القاضي إلى هذا العلم المرفوع خلفك - أي علم تركيا - استبدله بعلم انكلترا أو ألمانيا مثلا فإن قبلت، وإلا فهي سفسطة لأن هذا قماش وذاك قماش) فبهت القاضي، ولكنه حكم على هذا العالم بالإعدام رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

الأقباط واليهود كفارا، كما كان يسميهم عمر بن الخطاب (¬1) قبل 1300 سنة) اهـ، ثم يقول ذلك الصليبي الحقود في جرأة ووقاحة: (إذا كانت الرابطة الشرقية سخافة لأنها تقوم على أصل كاذب فإن الرابطة الدينية وقاحة، فإننا أبناء القرن العشرين أكبر من أن نعتمد على الدين جامعة تربطنا) اهـ. فإلى الله عز وجل وحده المشتكي من تسلط هذا الصليبي على عقول ناشئة ينتسبون إلى الإسلام، وتسلط أمثاله على وسائل التوجيه والإعلام في بلادنا إلى يومنا هذا، وكأنهم. هم الأمناء على الدين الحفيظون للإل والذمة: بأبي وأمي ضاعت الأحلام أم ضاعت الأذهان والأفهام من حاد عن دين النبي محمد أله بأمر المسلمن قيام إن لا تكن أسيافهم مشهورة فينا فتلك سيوفهم أقلام وصدق الله العظيم إذ قال سبحانه: (كليف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة). وقال عز وجل: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}. وصدق رسولنا وأسوتنا الحسنة التي لا نرضى بها بديلا صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم - حيث ذكر أن من علامات زمان الفتنة ظهور (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها) ... ¬

_ (¬1) رضي الله عنه وأرضاه.

فصل حلق اللحية تشبه بالكفار

فصل حلق اللحية تشبه بالكفار والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ أَحْفُوا الشَّوَارِبَ، وَأَوْفُوا اللِّحَى» (¬1). قال شيخ الإسلام (¬2): (فأمر صلى الله عليه وسلم بمخالفة المشركين مطلقا، ثم قال: "احفوا الشوارب، وأوفوا اللحى") وهذه الجملة الثانية بدل من الأصلي، فإن الإبدال يقع في الجمل كما يقع في المفردات). قال: (فلفظ مخالفة المشركين دليل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع، وإن عينت في هذا الفعل فإن تقديم المخالفة علة تقديم العام على الخاص كما يقال: أكرم ضيفك: أطعمه وحادثه، فأمرك بالإكرام ولا دليل على أن إكرام الضيف مقصود ثم عينت الفعل الذي يكون إكراما في ذلك الوقت، والتقرير في هذا الحديث شبيه بالتقرير من قوله: "لا يصبغون فخالفوهم") اهـ كلامه رحمه الله، وفيه رد على من ادعى عدم الربط بين الأفعال الثلاثة، على أن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري ومسلم وأبو عوانة والبيهقي من طريق نافع عن ابن عمر، إلا أن أبا عوانة قال: "المجوس" بدل "المشركون" ويشهد له ما أخرجه البيهقي من طريق ميمون بن مهران عن عبد الله بن عمر قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس فقال: "إنهم يوفرون سبالهم ويحلقون لحاهم فخالفوهم". ويشهد له أيضا حديث أبي هريرة الآتي بعده وفيه "خالفوا المجوس" ولهذا قال الحافظ في "الفتح": (وهو المراد في حديث ابن عمر فإنهما كانوا يقصون لحاهم، ومنهم من كان يحلقها) وظاهر قوله "يقصون" يدل على أنهم كانوا لا يحلقونها كلهم بدليل قوله في آخر النص "ومنهم من كان يحلقها" فالعطف هنا يقتضي المغايرة، فيفهم من ذلك أن تقصير اللحية بحيث تكون قريبة من الحلق هو من هديهم الذي لا يتحقق مخالفتهم فيه إلا بالتوفير والإعفاء كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم. (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم ص58 - 59.

افتراض ذلك لا يضر إذ صيغة الأمر الواردة في كل فعل على حدة حقيقة في وجوب امتثاله كما مر آنفا، والله أعلم. ومن الأدلة الواردة في ذلك أيضا ما رواه أبو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جُزُّوا الشَّوَارِبَ، وَأَرْخُوا اللِّحَى خَالِفُوا الْمَجُوسَ» (¬1). قال شيخ الإسلام رحمه الله (¬2): (فعقب الأمر بالوصف المشتق المناسب، وذلك دليل على أن مخالفة المجوس أمر مقصود للشارع، وهو العلة في هذا الحكم أو علة أخرى أو بعض علة، وإن كان الأظهر عند الإطلاق أنه علة تامة) وفي حديث أبي إمامة رضي الله عنه قول بعض مشيخة الأنصار رضي الله عنهم: ( .. يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَقُصُّونَ عَثَانِينَهُمْ وَيُوَفِّرُونَ سِبَالَهُمْ. قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُصُّوا سِبَالَكُمْ وَوَفِّرُوا عَثَانِينَكُمْ وَخَالِفُوا أَهْلَ الْكِتَابِ» (¬3). وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أهل الشرك يعفون شواربهم ويحفون لحاهم فخالفوهم فاعفوا اللحى وأحفوا الشوارب" (¬4) والحاصل أن حلق اللحية مرتبط بهذا الأصل العظيم الذي ذهل عنه المسلمون وأضاعوه، فقد حذر الإسلام من موافقة هؤلاء الكفار في زيهم وأعمالهم وهديهم، ونحن نرى المسلمين اليوم يلهثون وراء أعدائهم، فقد أولعوا بمحاكاتهم وأشربوا في قلوبهم الافتتان بسبيلهم. وقد كان المسلمون إلى عهد قريب يوفرون لحاهم، ويرون حلقها عيبا ومنقصة، فأصبحوا يعدون الحلق زينة وكمالا، وقال الشيخ على محفوظ رحمه ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم وأبو عوانة والبيهقي والإمام أحمد. (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم. (¬3) قطعة من حديث أخرجه الإمام أحمد، وقد حسنه الحافظ في الفتح وقال (وأخرج الطبراني نحوه من حديث أنس). (¬4) رواه البزار بسند حسن.

الله (ومن أقبح العادات ما اعتاده الناس اليوم من حلق اللحية وتوفير الشارب، وهذه بدعة سرت إلى المصريين من مخالطة الأجانب واستحسان عوائدهم، حتى استقبحوا محاسن دينهم وهجروا سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم) اهـ. وقال محدث الشام الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله في بعض محاضراته (يخطئ الذين يفتون الناس اليوم بإباحة التشبه بالكفار بصورة عامة، وبصورة خاصة فيما نحن فيه هذا (¬1)، والتشبه بالكفار له ارتباط وثيق جدا بقاعدة ارتباط الظاهر بالباطن فمن تشبه بالكفار معناه أنه استحسن ما هم عليه، واستقبح ما كان عليه نبيه صلى الله عليه وسلم من الهدى والنور، ولا يكاد يحس بصدى قول الرسول عليه السلام الذي نفتتح به خطبنا وأحاديثنا: "وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم" (¬2)، ومحمد صلى الله عليه وسلم كان له لحية جليلة عظيمة وكذلك الصحابة وكذلك السلف وكذلك الأئمة لم يوجد فيهم من حلق لحيته في حياته مرة واحدة وهذا مستحيل، بل بعض الأمراء ممن لم يكونوا متفقهين في الدين كانوا إذا رأوا أن يؤدبوا فردا من أفراد الرعية لخطأ ارتكبه يحلقون لحيته ويركبونه على دابة ويجولونه بين الناس تعييرا له، كان هذا تعييرا في الزمن الأول، وهو تعيير أي تعيير، وبخلاف الفطرة خلاف الرجولة) اهـ. ولا شك أن ذوبان المسلمين في غيرهم من المشركين بالتشبه بهم لا تتحقق معه ملامح الشخصية الإسلامية المتميزة، وبالتالي لا يتحقق المجتمع المسلم، ومن مظاهر عزة المسلمين رجالا ونساء إظهار ملامح الشخصية الإسلامية وفرضها على المجتمع خاصة إذا خالطوا كفارا هم أحرص ما يكونون على المجاهرة بكل ما من شأنه إظهار كيانهم وفرض معالم دينهم الباطل {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} الآية (¬3). شبهة: ¬

_ (¬1) يقصد الكلام على حكم حلق اللحية. (¬2) من حديث أخرجه مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه. (¬3) المنافقون: 8

شبهة: قال بعضهم: الأمر الوارد في اللحية أمر بإعفائها مخالفة للمجوس، والمخالفة علة معقولة المعنى، ومن الممكن أن تزول العلة فيزول المعلول، وبعبارة أخرى يقولون: إن كثيرا من المشركين اليوم يعفون لحاهم فينبغي لكي نخالفهم ما دام المطلوب هو المخالفة. والجواب من وجوه: الأول: ورد الأمر بإعفاء اللحية في بعض الأحاديث غير معلل بعلة المخالفة، ففي صحيح مسلم: (أمر بإعفاء الشوارب وإعفاء اللحى) ولم يذكر له علة. الثاني: لا نسلم أن العلة الوحيدة في الأمر بإعفاء اللحى هي مخالفة المجوس بل ذلك بعض العلة، ومن العلل أيضا أن حلقها تغيير لخلق الله كما ذهب إليه بعض العلماء، وتشبه بالنساء وكلاهما منهي عنه متوعد فاعله باللعن. الثالث: أن إعفاء اللحية من خصال الفطرة كما نص عليه الحديث، وهي طريقة الأنبياء وسننهم، وهذه الفطرة لا تتبدل بتبدل الأزمان وانحراف البعض عنها. قال السيوطي رحمه الله (¬1): (وأحسن ما قيل في الفطرة أنها السنة القديمة التي اختارها الأنبياء وانفقت عليها الشرائع فكأنها أمر جبلي فطروا عليها) اهـ. فإن أعفى المشركون لحاهم فقد سلمت فطرتهم في هذه الجزئية من سنن الفطرة ووافقوا فيها شرائع الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام وحينئذ تأتي المخالفة في وصف الفعل لا في أصله كما يأتي إن شاء الله وعلى أي حال فإنه لا يسوغ لنا رفض ما شرعه الله لنا وفطرنا عليه لمجرد أن يتلبس به بعض المخالفين لنا في الدين. الرابع: إن حلق المشركين لحاهم مع إطالتهم شواربهم، أو توفيرهما ¬

_ (¬1) تنوير الحوالك شرح موطأ الإمام مالك (2/ 219).

معا (¬1). من هديهم الخاص بهم، وقد أفصح الحديث النبوي عن بعض علة هذا الحكم ألا وهي تحريم التشبه بهم في خصائصهم فليس في وسع أحد أن يصرف النظر عن هذه العلة الصريحة بمجرد رأيه، وقد ذكر الإمام السندي في حاشيته على شرح السيوطي لسنن النسائي أن كثيرا من السلف فهم أن حلقها شعار كثير من الكفرة (¬2)، وهذا هو حال أكثرهم في هذا الزمان خلافا لما يدعيه المعترض، بل ما نقلت، إلينا هذه السنة السيئة إلا من طريقهم (¬3). الخامس: ومما ينبغي أن ننتبه اليه أن كثيرا من المشركين الذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم بإعفاء اللحى وحف الشوارب كانوا. يوفرون لحاهم كما قد عرف عنهم، ومع ذلك أمرنا بمخالفتهم، أما إعفاؤهم لحاهم فهو من بقايا الدين الذي ورثوه عن إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كما ورثوا عنه الختان أيضا، فقد صح (¬4) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} قال: هي خصال الفطرة وهذا يرشدنا إلى أصل مهم وهو أن مخالفة المشركين تارة تكون ¬

_ (¬1) قال القاضي أبو بكر ابن العربي رحمه الله عند كلامه على خصال الفطرة: (وقد اتفقت الأمة على أنها من الملة، فأما قص الشارب وإعفاء اللحية فمخالفة للأعاجم، فإنهم يقصون لحاهم أو يوفرون شواربهم، أو يوفرونهما معا، وذلك عكس الجمال والنظافة) اهـ، من أحكام القرآن (1/ 37). (¬2) وفي هذا رد على من أدعى أن مخالفة المسلمين غيرهم في شعائر دينهم فقط، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن لبس الثياب المعصفرة بل وأمره بإحراقها وعلل ذلك بأنها من ثياب الكفار وهي ليست من شعائر دينهم في رأيكم فكيف بموافقتهم في حلق اللحية؟! (¬3) وذكر ف. م. هلير في "تاريخ العالم" أن أول من أشاع حلق اللحية في أوروبا الملك بطرس ملك روسيا في أول القرن السابع عشر. (¬4) فتح الباري (10/ 335).

في أصل الحكم وتارة في وصفه (¬1) فإذا كانوا يستأصلون لحاهم وشواربهم خالفناهم في أصل ذلك الفعل بإعفاء اللحى وقص الشوارب، وإن كانوا يوفرون لحاهم وشواربهم وافقناهم في أصل إعفاء اللحى، وخالفناهم في صفة توفير الشوارب بقصها، وأخذ ما طال عن الشفة، كما بينته سنة سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم في الآخرة والأولى. السادس: وإذا سلمنا أن علة هذا الحكم هو مخالفة المجوس فمخالفة المسلمين للمشركين على وجهين كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام رحمه الله في "الاقتضاء". الوجه الأول: تخالفهم لمجرد المخالفة كما خالف الرسول صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب في فرق الشعر بعد أن وافقهم أولا إذ كان يسدل تاليفا ¬

_ (¬1) نظير ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه "إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبى صل الله عليه وسلم فانزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} إلى آخر الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصنعوا كل شيء إلا النكاح"، فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظنا أن قد وجد عليهما فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أن لم يجد عليهما) أخرجه مسلم وأبو عوانة والترمذي. قال شيخ الإسلام في الاقتضاء (فهذا الحديث يدل على كثرة ما شرعه الله لنبيه من مخالفة اليهود بل على أنه خالفهم في عامة أمورهم حتى قالوا: "ما يريد أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، ثم إن المخالفة كما سنبينه تارة تكون في أصل الحكم وتارة في وصفه، ومجانبة الحائض لم يخالفوا في أصله بل خولفوا في وصفه حيث شرع الله مقاربة الحائض في غير محل الأذى، فلما أراد بعض الصحابة أن يتعدى في المخالفة إلى ترك ما شرعه الله تغير وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا الباب باب الطهارة كان على اليهود فيه أغلال عظيمة، فابتدع النصارى ترك ذلك كله حتى أنهم لا ينجسون شيئا بلا شرع من الله، فهدى الله الأمة الوسط بما شرعه لها إلى الوسط من ذلك، وإن كان ما كان عليه اليهود كان أيضا مشروعا، فاجتناب ما لم يشرع الله اجتنابه مقاربة لليهود، وملابسة ما شرع الله اجتنابه مقاربة للنصارى، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم) اهـ.

لهم، فلما أصروا على الكفر خالفهم، ومثل ذلك صوم عاشوراء أمر بالمخالفة بصوم يوم قبله أو بعده مخالفة لهم لا غير (¬1). الوجه الثاني: أن يكون الأمر الذي أمرنا بمخالفتهم فيه مضرا في ذاته منقصا، ومخالفتهم فيه كمال ومصلحة، وهذا هو الشأن في حرمة حلق اللحية ووجوب إعفائها إذ هدى المجوس فيه نقص وإضرار، ومخالفتهم كمال وصلاح لأن إعفاء اللحية من سنن الأنبياء التي اتفقت عليها الشرائع، ومما ينطبق عليه الوجه الثاني نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشرب والأكل في آنية الذهب والفضة الثابت في البخاري ومسلم فمع كونه من هدى الكفار إلا أن هديهم في ذلك منقصة وتركه كمال ومصلحة، والله أعلم. شبهة: قال بعضهم: مما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفة للكفار الصلاة في النعال وخضاب الشيب، وكلاهما ليس بواجب، وبناء عليه تتمائل الأدلة الواردة في الخضاب والصلاة بالنعال وإعفاء اللحية بجامع أن كلا منها قصد به مخالفة الكفار. الجواب: أن هذا القياس فاسد من وجوه: الأول: أنه قياس منصوص على منصوص، وشرط القياس أن يكون الفرع غير منصوص عليه. الثاني: أن علة الأمر بالصلاة في النعال وتغيير الشيب بالخضاب إنما هي مجرد المخالفة لا غير في حين أن علة الأمر بإعفاء اللحية ليست المخالفة وحدها كما تقدم. الثالث: أن الأمر بالصلاة في النعال وردت أدلة -أشهر من أن تذكر- تصرفه من الوجوب إلى الندب عند من يقول به فقد صلى الرسول صلى الله ¬

_ (¬1) وهذه المخالفة المقصودة هي في حد ذاتها مصلحة ومنفعة للمؤمنين لما في مخالفتهم من المجانبة والمباينة التي توجب المباعدة عن أعمال أهل الجحيم، قال: وهذا لا يحس به إلا من نور الله قلبه حتى رأى ما اتصف به المغضوب عليهم والضالون من المرض الذي ضرره أشد من ضرر أمراض الأبدان.

عليه وسلم حافيا وكذلك الصحابة رضوان الله عليهم، بخلاف الأمر بإعفاء اللحية حيث لم يأت صارف يصرفه عن الوجوب إلى الندب، والمعروف أن شرط الحكم في القياس أن يكون حكم الفرع مساويا لحكم الأصل، فلا يصح قياس واجب على مندوب والعكس لعدم مساواتهما في الحكم (¬1). الرابع: وقد أشار اليه شيخ الإسلام في "الاقتضاء" (¬2) معلقا على حديث «غَيِّرُوا الشَّيْبَ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَلَا بِالنَّصَارَى" (¬3)، حيث قال رحمه الله: (وهذا اللفظ أدل على الأمر بمخالفتهم والنهى عن مشابهتهم فإنه إذا نهى عن التشبه بهم في بقاء بياض الشيب الذي ليس من فعلنا فلأن ينهى عن إحداث التشبه بهم أولى، ولهذا كان هدا التشبه بهم يكون حراما بخلاف الأول) اهـ. وبعبارة أخرى: الأمر بالخضاب أمر بتغيير الشيب الذي نتفق مع الكفار فيه اذ نبقيه بدون صبغ، وفي هذه الحال يوافق المسلم الكافر في شيء ليس من فعله بل هو مقتضى السنن الكونية التي تسري على المسلم والكافر ومع هذا استحب له الخضاب، أما إذا وافق المسلم الكفار في حلق اللحية فقد شابههم في شيء تسبب هو في فعله وأحدثه من نفسه فإدى إلى موافقتهم فيما يصادم الفطرة والشرع معا، والعلم عند الله تعالى. وقد نبه الإمام ابن العربي إلى نحو هذا المعنى حيث قال -فيما نقله عنه القاري في المرقاة (¬4) - ما نصه: (وإنما نهى عن النتف -أي نتف الشيب- دون الخضب لأن فيه تغيير الخلقة من أصلها، بخلاف الخضب فإنه لا يغير الخلقة على الناظر اليه والله الموفق) اهـ. ¬

_ (¬1) أما خضاب الشيب فقد ذهب بعض الفقهاء إلى أنه واجب منهم الإمام أحمد في رواية عنه، أنظر فتح الباري (10/ 355). (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم ص58. (¬3) أخرجه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) مرقاة المفاتيح (2/ 469).

فصل تحريم تشبه الرجال بالنساء

فصل تحريم تشبه الرجال بالنساء عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِالرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ، وَلَا مَنْ تَشَبَّهَ بِالنِّسَاءِ مِنَ الرِّجَالِ» (¬1) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَعَنَ الرَّجُلَ يَلْبَسُ لُبْسَةَ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةَ تَلْبَسُ لُبْسَةَ الرَّجُلِ» (¬2). وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالمُتَرَجِّلاَتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَقَالَ: «أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ» قَالَ: فَأَخْرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُلاَنًا، وَأَخْرَجَ عُمَرُ فُلاَنًا (¬3). وفي لفظ: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال" وقال ابن حجر الهيثمي ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد بسنده عن رجل من هذيل قال: رأبت عبد الله بن عمرو بن العاص ومنزله في الحل ومسجده في الحرم، قال فبينما أنا عنده رأى أم سعيد ابنة أبي جهل متقلدة قوسا وهي تمشي مشية الرجل فقال عبد الله: من هذه؟ قال الهذيلي: فقلت هذه أم سعيد بنت أبي جهل، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ..... فذكر الحديث ..... والحديث وصله البخاري في التاريخ. (¬2) أخرجه أبو داود وابن ماجة والحاكم وأحمد، وقال الحاكم "صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي. (¬3) أخرجه البخاري وأبو داود والدارمي وأحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما.

تنبيه

الشافعي في "الزواجر" (¬1): (الكبيرة السابعة بعد المائة: تشبه الرجال بالنساء فيما يختصصن به عرفا غالبا من لباس أو كلام أو حركة أو نحوها وعكسه. تنبيه عد هذا من الكبائر واضح لما عرفت من هذه الأحاديث الصحيحة وما فيها من الوعيد الشديد، والذي رأيته لأئمتنا أن ذلك التشبه فيه قولان: أحدهما: أنه حرام، وصححه النووي بل صوبه، وثانيهما: أنه مكروه، وصححه الرافعي في موضع، والصحيح بل الصواب ما قاله النووي من الحرمة، بل ما قدمته من أن ذلك كبيرة، ثم رأيت بعض المتكلمين عن الكبائر عدة منها وهو ظاهر اهـ. وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (¬2) عند شرح حديث ابن عباس: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال". قال الطبري: لا يجوز للرجال التشبه بالنساء في اللباس والزينة التي تختص بالنساء ولا العكس، وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: ظاهر اللفظ الزجر عن التشبه في كل شيء، لكن عرف من الأدلة الأخرى أن المراد التشبه في الزي وبعض الصفات والحركات ونحوها، لا التشبه في أمور الخير، قال: والحكمة في لعن من تشبه إخراجه الشيء عن الصفة التي وضعها عليه أحكم الحكماء، وقد أشار إلى ذلك في لعن الواصلات بقوله: "الْمُغَيِّرَاتِ لِخَلْقِ اللَّهِ" (¬3) اهـ. ¬

_ (¬1) الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/ 155). (¬2) فتح الباري (10/ 333). (¬3) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود مرفوعا: "لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله".

فصل حلق اللحية تشبه بالنساء

فصل حلق اللحية تشبه بالنساء قال الشيخ أبو حامد الغزالي فِى "الإحياء": (وبها -أي اللحية- يتميز الرجال من النساء) اهـ (¬1). وقال المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله (¬2): (وأما شعر اللحية (¬3) ففيه منافع: منها: الزينة والوقار والهيبة، ولهذا لا يرى على الصبيان والنساء من الهيبة والوقار ما يرى على ذوي اللحى، ومنها: التمييز بين الرجال والنساء) اهـ. وقال محدث الشام ناصر الدين الألباني حفظه الله (¬4): (ولا يخفى أن في حلق الرجل لحيته -التي ميزه الله بها على المرأة- أكبر تشبه بها) اهـ. وقال الشيخ أحمد بن محمد بن الصديق: (ومن عجيب ما ظهر في الوقت تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال، فالشاب يتخنث ويحلق وجهه كل صباح، ويدلكه ويلمعه بالأدهان والسوائل المعدة لذلك كلما يفعل النساء ... ) (¬5) اهـ. ¬

_ (¬1) إحياء علوم الدين (2/ 257). (¬2) التبيان في أقسام القرآن ص231. (¬3) اللحية إسم للشعر النابت على الخدين والذقن (فتح الباري 10/ 350). (¬4) آداب الزفاف في السنة المطهرة (ص122). (¬5) كتاب مطابقة الاختراعات العصرية لما أخبر به سيد البرية للشيخ أحمد بن محمد بن الصديق (ص127).

شبهات وجوابها (ا) إن حلق اللحية لا تشبه فيه بالنساء، لأن المابهة تقتضي وجود وجه يتفق فيه المتشابهان، والمرأة لا لحية لها تحلقها حتى يقال إن الرجل إذا حلقها كان متشبها بها، ولا يطلق على وجه المرأة أنه محلوق بخلاف وجه الرجل. وجوابه: أن كل ذي بصر وبصيرة يشهد بأن عارضي حالق لحيته كعارضي المرأة في كونهما لا شعر عليهما، والعبرة بالغاية الواقعة المشاهدة لا بالوسيلة الموصلة إليها، وهذه الغاية هي كون وجه الرجل كوجه المرأة، وأما الوسيلة الموصلة إليها فإنها تحرم تبعا لا استقلالا، وإلا فأجيبونا: ما تقولون في المرأة لو اتخذت لحية مصنوعة من شعر وجعلتها في مجهها أمتشبهة هي بالرجال أم تقولون إنها ليست متشبهة لأن اللحية في وجه الرجل ليست مصنوعة فانتفى الشبه؟ هذا ما لا يقوله منصف، والمقصود أن الشبه مبني على وجود اللحية وعدم وجودها لا على الوسيلة الموصلة إلى ذلك. قال المخالف: (ب) لو سلمنا أن من حلق لحيته تشبه بالنساء، فإن هذا الشبه ينتفي إذا أعفى شاربه لأنه يخالف آنذاك وجه المرأة. وجوابه: إن المحرم هو التشبه بالنساء في أي شيء تثبت به المشابهة ولو كان ذلك في أي عضو من جسده دون سائره، فمن صبغ أطرافه بالحناء كان متشبها بالنساء ولو كان ذا لحية وشارب وقميص وعمامة، ودل عيله ما روى من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفى المخنث الذي تشبه بالنساء بخضاب يديه ورجليه بالحناء (¬1). قال المخالف: علة الأمر بإعفاء اللحى منصوص عليها حيث قرن الأمر للإعفاء بالأمر بمخالفة المشركين، والحكم الواحد لا يجوز أن يعلل بعلتين، وعليه فلا يصح تعليل الأمر بإعفاء اللحى بعلة عدم مشابهة النساء. ¬

_ (¬1) قال النووي في المجموع: وإسناده ضعيف.

والجواب: لو سلمنا أن الحكم الواحد لا يعلل بعلتين فإن تعليل تحريم حلق اللحية بالتشبه بالنساء والتشبه بالكفار تعليل بعلة واحدة وهي التشبه بالغير، لكن قال ابن السبكي في "جمع الجوامع": (وجوز الجمهور التعليل للحكم الواحد بعلتين وادعوا وقوعه، كما في اللمس والمس والبول المانع كل منها من الصلاة مثلا) اهـ ممزوجا بشرح المحلى، وأنت إذا سألت عامة المسلمين من أهل السنة عن وجه الحليق من يشبه؟ لقالوا: وجه المرأة ووجه النصراني لأن كلاهما لا لحية له، والعلة متعددة، وتعدد العلة هو الكثير الواقع في الشرع، فالخمر والقمار معلل تحريمهما بإيقاع العداوة والبغضاء، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وفساد العقل، وأكل مال الغير بالباطل، وتحريم الزنا معلل بفساد الأنساب وهتك الأعراض، ولكن الشارع قد يعلل الحكم بعلة ويسكت عن تعليله بأخرى لحكمة تقتضي ذلك، فمثلا قوله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ، فَتُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ» (¬1)، يصح تعليله بعلة أخرى وهي كونه غيبة محرمة، وأذا قال صلى الله عليه وسلم: «لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا» (¬2)، لكن اقتضى المقام ذكر علة إذابة الأحياء بسب الأموات مثلا دون غيرها لأن ذكر تلك العلة يحمل كل من يسمعها على اعتبارها ولو كان كافرا فاسقا لأن إذاية الأحياء الحاضرين مما يورط في الشر والفتنة، وكذا هنا علل الشارع الحلق بمخالفة الكفار لأجل التنفير من حلقها، حيث إن القرآن ذم الكفار وأحوالهم فأورث ذلك في قلوب الصحابة نفورا عظيمًا وكراهية شديدة لأمورهم، فكانوا إذا علموا بالشيء أنه من فعل الكفار بادروا إلى تركه ونفروا منه وكرهوه، ألا ترى كيف نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن خديج عن الذبح بالظفر ثم علل نهيه بأنه من فعل الكفار فقال: "أَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الحَبَشَةِ" (¬3). (ح) قال المخالف: تشبه الرجل بالمرأة خاص بالزي واللباس ولا دخل للحية فيه بدليل قوله ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد والترمذي عن المغيرة وصححه الألباني. (¬2) رواه البخاري والإمام أحمد والنسائي من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة والبيهقي وأحمد.

صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ الرَّجُلَ يَلْبَسُ لُبْسَةَ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةَ تَلْبَسُ لُبْسَةَ الرَّجُلِ» (¬1) وأما النص العام في التشبه فيجب حمله على الخاص. وهذه الدعوى منقوضة على وجهين: الأول: قد تقدم الحديث الصريح في لعن المتشبه بالنساء في كل شيء في ذاته ولباسه، وقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال"، قال الحافظ: (المخنث من يشبه خلقة النساء في حركاته وكلامه وغير ذلك) اهـ. وقال ابن علان في "شرح رياض الصالحين" في صفة المتشبه بالنساء: (إنه المحاكي لهن في أفعالهن وأقوالهن وأحوالهن) اهـ. وقال الحافظ المنذري في "الترغيب" ما نصه: (الترهيب من تشبه الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل في لباس، أو كلام أو حركة أو نحو ذلك) اهـ. وقال القاري في المرقاة (¬2) في شرح حديث ابن عباس رضي الله عنهما "لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثي" بفتح النون المشددة وكسرها. والأول أشهر أي: المتشبهين بالنساء (من الرجال) في الزي واللباس والخضاب والصوت والصورة والتكلم وسائر الحركات والسكنات، من خنث يخنث كعلم يعلم إذا لان وتكسر فهذا الفعل منهي عنه لأنه تغيير خلق الله. وقد ثبت في الحديث أن الحناء في اليدين والرجلين تشبه بالنساء كما في قصة نفي المخنث في المدينة (¬3). ونقل القاري في المرقاة عن "شرح السنة ". (ففي شرعة الإسلام الحناء سنة للنساء، ويكره لغيرهن من الرجال إلا أن يكون لعذر لأنه تشبه بهن) (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود والحاكم وقال: على شرط مسلم، وأقره الذهبي. (¬2) مرقاة المفاتيح: (2/ 459). (¬3) رواه أبو داود في كتاب الأدب من سننه من حديث أبي هريرة، وقال النووي رحمه الله في "المجموع" (لكن إسناده فيه مجهول). (¬4) مرقاة المفاتيح: (2/ 460).

وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المرأة مرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم متقلدة قوسا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله المتشبهات بالرجال) ومشابهة حالق اللحية للمرأة أوضح من مشابهة من تقلدت القوس بالرجال. الثاني: التخصيص عند الأصوليين من الضرورات التي لا يصار إليها إلا عند الاضطرار وتعذر العمل بالنصين اللذين يخص أحدهما الأخر، أما إذا كان العمل بالنصين معا ممكنا فلا يجوز تخصيص أحدهما بالآخر لأن التخصيص نوع من النسخ، وابطال لبعض ما يدل عليه النص من المعنى، وعليه فتخصيص التشبه بأنه في اللباس فقط تحكم وإبطال لبعض مدلول النص، ولا يصح لكل من ضاق ذرعا بنص أن يدعى تخصيصه بغير ضابط. قال المخالف: (د) الأعمال بالنيات، ومن يحلق لحيته لا يقصد التشبه بالنساء، فكيف يستوي بمن يقصده؟ وجوابه: أن هذا مما لا يقوله عالم بل هو من التأويل المغرض، إذ أن مدار التشبه على الصورة الظاهرة بغض النظر عن قصد صاحبها لأن التشبه من الأعمال التي لا يتوقف الاتصاف بها على القصد والنية كالإتلاف والقتل والضرب، فمن فعل ذلك اتصف به وإن لم يقصده، وكذلك من صبغ يده بالحناء فهو متشبه بالنساء وإن لم يقصده، لكن الشرع رفع الإثم عن المتلف والقاتل والضارب الذين لم يتعمدوا لعدم قصدهم، وألزمهم الغرامة لأجل فعلهم، وأما المتشبه فلم يرفع عنه الإثم لعدم قصده، لأن المفسدة التي يقصد الشارع درءها بالنهى موجودة في فعله وإن لم يكن لة قصد فيها، ولذا نهي عن الأعمال التي لم يقصد عاملها التشبه ولا خطر على باله، وروى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قياما فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعودا، فلما سلم قال: إن كدتم لتفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتموا

بأئمتكم، إن صلى قائما فصلوا قياما وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا" زاد في رواية: "ولا تفعلوا كما يفعل أهل فارس بعظمائها". قال شيخ الإسلام معلقا: "ومعلوم أن المأموم إنما نوى أن يقوم لله لا لإمامه، وهذا تشديد عظيم في النهي عن القيام للرجل القاعد، ونهى أيضا عما يشبه ذلك، وإن لم يقصد به ذلك، ولهذا نهى عن السجود لله بين يدي الرجل، وعن الصلاة إلى ما عبد من دون الله كالنار ونحوها، وفي الحديث أيضا نهى عما يشبه فعل فارس والروم وإن كانت نيتنا غير نيتهم، لقوله "فلا تفعلوا" فهل بعد هذا في النهي عن مشابهتهم في مجرد الصورة غاية؟! ثم هذا الحديث سواء كان محكما في قعود الإمام أو منسوخا فالحجة منه قائمة لأن نسخ القعود لا يدل على فساد تلك العلة وإنما يقتضي أنه قد عارضها ما ترجح عليها" اهـ. ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت الغروب معللا بأنها "تطلع وتغرب بين قرني الشيطان وإنه حينئذ يسجد لها الكفار"، ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله تعالى، وأكثر الناس لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان، ولا أن الكفار يسجدون لها, ومع ذلك نهينا عن مجرد مشابهتهم حسما للمادة وسدا للذريعة وإن لم نقصد ذلك وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "وَنَهَانِي عَنْ نَقْرَةٍ كَنَقْرَةِ الدِّيكِ، وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ، وَالْتِفَاتٍ كَالْتِفَاتِ الثَّعْلَبِ» (¬1)، ولا يخفى أن المصلي الذي يفعل هذا لا يقصد التشبه بالحيوانات المذكورة، وأمثلة هذا أكثر من أن تحصر ففيما ذكرناه كفاية، وقد نص الحافظ في "الفتح" على أن (من كان مخنثا بطبعه في كلامه ومشيه يجب عليه أن يتكلف ترك ذلك لئلا يكون متشبها بالنساء وإلا كان مذموما) (¬2) أهـ. منه بمعناه. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد. (¬2) فتح الباري (10/ 332).

فصل اللحية من نعم الله على الرجال وحلقها كفر بهذه النعمة

فصل اللحية من نعم الله على الرجال وحلقها كفر بهذه النعمة قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} الآية (¬1). قال الشنقيطي رحمه الله: (قال بعض أهل العلم: من تكريمه لبني آدم خلقه لهم على أكمل الهيئات وأحسنها (¬2) اهـ. وذكر أهل التفسير أشياء من وجوه هذا التكريم على سبيل المثال لا الحصر، ومنها ما قاله محيي السنة البغوي رحمه الله: (قيل: الرجال باللحى، والنساء بالذوائب) اهـ. قال أبو حيان رحمه الله: (وقيل باللحية للرجل، والذؤابة للمرأة) اهـ. قال القرطبي رحمه الله: (وقيل: أكرم الرجال باللحى والنساء بالذوائب) اهـ. وقد قال تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} (¬3). وقال عز وجل: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} (¬4). وقال جل وعلا: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (¬5). وقال تبارك وتعالى: {يا أيها ¬

_ (¬1) الإسراء:70 (¬2) أضواء البيان: (3/ 560). (¬3) البقرة: 138 (¬4) التغابن: 3 (¬5) التين: 4

يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} (¬1). وكان الأحنف بن قيس رجلا عاقلا حليما يضرب به المثل في الحلم، وكان لا تنبت له لحية، وذكر عن شريح القاضي أنه قال: (وددت أن لي لحية بعشرة آلاف درهم) ووصفه بعض قومه فقال: (وددت أنا اشترينا للأحنف لحية بعشرين ألفا فلم يذكر حنفه ولا عوره، وذكر كراهية عدم اللحية لأن اللحية عند العقلاء من الكمال والجمال والرجولة، فلا شك أن اللحية نعمة جليلة تفضل الله بها على الرجال. ولا شك أيضا أن حلقها كفر بهذه النعمة العظيمة، وانتكاس عن سنة من هديه خير الهدى صلى الله عليه وسلم وانحطاط إلى مستوى الأوروبيين الكفرة الذين زين لهم سوء أعمالهم، فحسبوا أن التمدن والكمال في القضاء على أكبر الفوارق الظاهرة بين الرجل والمرأة: يقضي على المرء في أيام محنته حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن ¬

_ (¬1) الإنفطار: 6

فصل أمر القدوة أمر لأتباعه

فصل أمر القدوة أمر لأتباعه (¬1) لما ذكر الله تعالى من ذكر من الأنبياء في سورة الأنعام، قال لنبينا صلى الله عليه وسلم، {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}، وأمره صلى الله عليه وسلم أمر لنا لأنه قدوتنا، ولأن الله تعالى يقول {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الآية (¬2)، ويقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية (¬3) ويقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (¬4). ويقول {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬5) ومن طاعته اتباعه فيما أمر به كله، إلا ما قام فيه دليل على الخصوص به صلى الله عليه وسلم، وباستقراء القرآن العظيم تعلم صحة ذلك حيث يعبر فيه دائما بالصيغة الخاصة به صلى الله عليه وسلم، ثم يشير إلى أن المراد عموم حكم الخطاب للأمة، كقوله في أول سورة الطلاق: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} ثم قال: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية، فدل على دخول الكل حكما تحت قوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}، وقال في سورة التحريم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} الآية ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} فدل على عموم حكم الخطاب بقوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} الآية، ونظير ذلك أيضا في سورة الأحزاب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}، فقوله (بما تعملون) يدل على عموم الخطاب بقوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}، وكلقوله {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ}، ثم قال: {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} (¬6) ¬

_ (¬1) هذا البحث مستفاد من أضواء البيان للشنقيطي رحمه الله (2/ 58 - 60) بتصرف. (¬2) الأحزاب: 21 (¬3) آل عمران: 31 (¬4) الحشر: 7 (¬5) النساء:80 (¬6) يونس: 61

ومن أصرح الأدلة في ذلك آية الروم، وآية الأحزاب، أما آية الروم فقوله تعالى، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} ثم قال {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} وهو حال من ضمير الفاعل المستتر المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} الآية، وتقرير المعنى: فأقم وجهك يا نبي الله، في حال كونكم منيبين، فلو لم تدخل الأمة حكما في الخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم لقال: منيبا إليه بالإفراد لإجماع أهل اللسان العربي علي أن الحال الحقيقية أعنى التي لم تكن سببية تلزم مطابقتها لصاحبها إفرادا وجمعا وتثنية، وتأنيثا وتذكيرا، فلا يجوز أن تقول: جاء زيد ضاحكين، ولا جاءت هند ضاحكات. وأما آية الأحزاب فقوله تعالى في قصة زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} فإن هذا الخطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد صرح تعالى بشمول حكمه لجميع المؤمنين في قوله {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} الآية وأشار إلى هذا أيضا في الأحزاب بقوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}، لأن الخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} (¬2) الآية، لو كان حكمه خاصا به صلى الله عليه وسلم لأغنى ذلك عن قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} كما هو ظاهر، وقد ردت عائشة رضي الله عنها على من زعم أن تخيير الزوجة طلاق، بإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير نساءه فاخترنه، فلم يعده طلاقا مع أن الخطاب في ذلك خاص به صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ} الآيتين (¬3)، وأخذ الإمام مالك رحمه الله بينونة الزوجة بالردة من قوله {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (¬4)، وهو خطاب خاص به صلى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬2) الأحزاب: 50 (¬3) الأحزاب: 28 - 29 (¬4) الزمر: 65

فصل الدليل القرآني على أن إعفاء اللحية من سمت الأنبياء عليهم السلام

فصل الدليل القرآني على أن إعفاء اللحية من سمت الأنبياء عليهم السلام قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} (¬1)، ما نصه: تنبيه هذه الآية الكريمة بضميمة آية (الأنعام) إليها تدل على لزوم (¬2) إعفاء اللحية، فهي دليل قرآني على إعفاء اللحية وعدم حلقها، وآية الأنعام المذكورة هي قوله تعالى {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ} الآية، ثم إنه تعالى قال بعد أن عد الأنبياء الكرام المذكورين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فدل ذلك على أن هارون من الأنبياء الذين أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم، وأمره صلى الله عليه وسلم بذلك أمر لنا، لأن أمر القدوة أمر لأتباعه كما بينا إيضاحه بالأدلة القرآنية في هذا الكتاب المبارك في سورة المائدة، وقد قدمنا هناك أنه ثبت في صحيح البخاري أن مجاهدا سأل ابن عباس رضي الله عنهما: من أين أخذت السجدة في (ص) قال ما تقرأ ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده، فسجدها داود فسجدها ¬

_ (¬1) طه: 94 (¬2) الاستدلال بالآيتين على الوجوب فيه نظر، وسيأتي قريبا إن شاء الله.

رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1)، فإذا علمت بذلك أن هارون كان موفرا شعر لحيته بدليل قوله لأخيه "لا تاخذ بلحيتي" لأنه لو كان حالقا لما أراد أخوه الأخذ بلحيته تبين لك من ذلك بإيضاح أن إعفاء اللحية سمت من السمت الذي أمرنا به القرآن العظيم، وأنه كان سمت الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم، والعجب من الذين مسخت ضمائرهم، واضمحل ذوقهم، حتى صاروا يفرون من صفات الذكورية، وشرف الرجولة، إلى خنوثة الأنوثة، ويمثلون بوجوههم بحلق أذقانهم، ويتشبهون بالنساء حيث يحاولون القضاء على أعظم الفوارق الحسية بين الذكر والأنثى وهو اللحية، وقد كان صلى الله عليه وسلم كث اللحية، وهو أجمل الخلق وأحسنهم صورة، والرجال الذين أخذوا كنوز كسرى وقيصر، ودانت لهم مشارق الأرض ومغاربها: ليس فيهم حالق، نرجو الله أن يرينا، وإخواننا المؤمنين الحق حقا، ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلا، ويرزقنا اجتنابه (¬2) اهـ. ¬

_ (¬1) ونص رواية البخاري: عن العوام قال: سألت مجاهدا عن سجدة "ص" فقال سألت ابن عباس من أين سجدت؟ فقال: أو ما تقرأ: "ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده"، فكان داود ممن أمر نبيكم صل الله عليه وسلم أن يقتدي به، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬2) أضواء البيان (4/ 506 - 507)، وما ذكره الشيخ رحمه الله لا يلزم منه حكم الوجوب، إلا إن ثبت أن هارون عليه السلام فعله على سبيل الوجوب فإنه يمكن أن يقول قائل: من الجائز أنه فعله على سبيل الندب، فيحصل امتثال الأمر باتباعه على وفق ما فعل، وقد قال تعالى في حق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم (واتبعوه لعلكم تهتدون) وقد تقرر في الأصول أن أفعاله بمجردها لا تدل على الوجوب، والغرض أن الاستدلال بالآيتين المذكورتين متوقف على أنه كان في حق هارون عليه السلام واجبا، فإن ثبت ذلك استقام الاستدلال به وإلا فالنظر باق، وهذه المناقشة في نفس الاستدلال لا في صحة الدعوى، وبالجملة فهذا الاستدلال لا يدل على ثبوت الوجوب ولا على عدمه فيطلب الدليل من غيره- وأنظر فتح الباري (10/ 342)

فصل حلق اللحية رغبة عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم

فصل حلق اللحية رغبة عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم قال تعالى في حق نبيه صلى الله عليه وسلم: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬1) وقال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬2) وقال تبارك وتعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (¬3). وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬4) الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ» (¬5) وقال صلى الله عليه وسلم "فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" (¬6). ومن سنته الشريفة صلى الله عليه وسلم إعفاء اللحية فعن أنس رضي الله عنه قال: "كانت لحيته صلى الله عليه وسلم قد ملأت من هاهنا إلى هاهنا، وأمر يده على عارضيه" (¬7)، وروى الإمام أحمد في زوائد المسند بأسانيد جيدة عن علي رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم اللحية" وهذا يدل على أنه كان يعفيها، ولا يأخذ منها شيئا. ¬

_ (¬1) النور: 63 (¬2) الحشر: 7 (¬3) النساء: 80 (¬4) الأحزاب: 21 (¬5) رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬6) جزء من حديث رواه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه. (¬7) رواه ابن عساكر في تاريخه.

وروى مسلم عن جابر بن أبي سمرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير شعر اللحية". وللترمذي عن عمر: (كث اللحية) وفي رواية (كثيف اللحية) وفي رواية (عظيم اللحية). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كث اللحية تملأ صدره" (¬1). وقال أبو معمر: "قُلْنَا لِخَبَّابٍ أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالعَصْرِ؟، قَالَ: نَعَمْ، قُلْنَا: بِمَ كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ ذَاكَ؟ قَالَ: «بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ» (¬2). وعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ» (¬3) فهذا يدل على عظمها وطولها. وعَنْ أَنَسٍ يَعْنِي ابْنَ مَالِكٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ، أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَأَدْخَلَهُ تَحْتَ حَنَكِهِ فَخَلَّلَ بِهِ لِحْيَتَهُ»، وَقَالَ: «هَكَذَا أَمَرَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ» (¬4). فهذه هي الأدلة من سنته الفعلية صلى الله عليه وسلم وقد مضى بيان أدلة السنة القولية. وكان أبو بكر رضي الله عنه كث اللحية، وكذلك عثمان رضي الله عنه رقيق اللحية طويلها، وكان علي رضي الله عنه عريض اللحية، وقد ملأت ما بين منكبيه رضي الله عنه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي ¬

_ (¬1) رواه الترمذي. (¬2) رواه البخاري. (¬3) رواه ابن ماجة والترمذي وصححه. (¬4) رواه أبو داود وعنه البيهقي وصححه الألباني لشواهده (رواء الغليل 1/ 13) وأنظر (جامع الأصول) (7/ 184 - 185) بتحقيق الأرناؤوط.

وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ (¬1)، فَتَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ،» (¬2). وقد قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} الآية (¬3): (وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم: هو بدعة، لأنه لو كان خيرا لسبقونا اليه، لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها) اهـ. ¬

_ (¬1) وكان السلف يطلقون (السنة على ما يشمل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم من الاعتقادات والأعمال والأقوال) "جامع العلوم والحكم" ص249. (¬2) أخرجه الإمام احمد وأبو داود الترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحافظ أبو نعيم: هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين- أنظر (جامع العلوم والحكم) لابن رجب (ص 243 - 244). (¬3) الأحقاف: 11

فصل

فصل روى عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَنْتِفُوا الشَّيْبَ، فَإِنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ، مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً، وَكَفَّرَ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً، وَرَفَعَهُ بِهَا دَرَجَةً» (¬1) قال النووي رحمه الله: (يكره نتف الشيب)، ونقل عن الغزالي والبغوى وآخرين كراهته ثم قال: (ولو قيل: يحرم، للنهي الصريح الصحيح لم يبعد، ولا فرق بين نتفه من اللحية والرأس) اهـ (¬2). وعَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: " يُكْرَهُ أَنْ يَنْتِفَ الرَّجُلُ الشَّعْرَةَ الْبَيْضَاءَ مِنْ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ (¬3). والذي يحلق لحيته قد كره الشعر الأسود فضلا عن الأبيض الذي هو نور المسلم. فائدة ذكر بعض العلماء (¬4) أن اللحية إذا جنى عليها فازيلت بالكلية ولم ينبت شعرها فعلى الجاني دية كاملة كما لو قتل صاحبها، قال ابن مفلح: (واحتمل ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وقال حسن, والنسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه وقال النووي في المجموع (1/ 323): حديث حسن. (¬2) المجموع (1/ 323). (¬3) أخرجه مسلم. (¬4) أنظر الأم (6/ 109).

أن يلزمه كمال الدية، قدمه في "الرعاية" و "الفروع"، لأنه أذهب المقصود، أشبه ما لو أذهب ضوء العين) (¬1). ¬

_ (¬1) أنطر التفضيل في (المبدع في شرح المقنع) طبع المكتب الإسلامي للإمام ابن مفلح الحنبلي (8/ 389)

فصل إعفاء اللحية من خصال الفطرة

فصل إعفاء اللحية من خصال الفطرة عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ، عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ (¬1): قَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ " قَالَ زَكَرِيَّا: قَالَ مُصْعَبٌ: وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ. (¬2). أما الفطرة، فقد قال الراغب: أصل الفطرة الشق طولا، ويطلق على الوهى وعلى الاختراع. وقال أبو شامة: أصل الفطرة الخلقة المبتدأة، ومنه "فاطر السموات والأرض" أي مبتدئ خلقهن، والمراد بقوله صلي الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة" أي على ما ابتدأ الله خلقه عليه، وفيه إشارة إلى قوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} والمعنى أن كل أحد لو ترك وقت ولادته وما يؤديه اليه نظره لأداه إلى الدين والحق وهو التوحيد، ويؤيده أيضا ¬

_ (¬1) قوله "عشرة من الفطرة" يدل على عدم انحصارها فيها، والله أعلم. (¬2) رواه مسلم وأحمد والنسائي والترمذي. قال لشوكاني: (الحديث أخرجه أيضا أبو داود من حديث عمار، وصححه ابن السكن، قال الحافظ: وهو معلول، ورواه الحاكم والبيهقي من حديث ابن عباس موقوفا في تفسير قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} قال: خمس في الرأس، وخمس في الجسد فذكره) اهـ، وأنظر تحقيقه في المجموع شرح المهذب للنووي (1/ 316).

قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ} وإليه يشير في بقية الحديث حيث عقبه بقولها فأبواه يهودانه أو ينصرانه") (¬1). وفي "النهاية" الفطرة: أي السنة، يعني سنن الأنبياء عليهم السلام التي أمرنا أن نقتدي بهم فيها، وقال الإمام أبو بكر ابن العربي رحمه الله في شرح الموطأ: عندي أن الخصال المذكورة في هذا الحديث كلها واجبة، فإن المرء لو تركها لم تبق صورته على صورة الآدميين فكيف من جملة المسلمين؟ (¬2). وقد تعقبه أبو شامة: بأن الأشياء التي مقصودها مطلوب لتحسين الخلق وهى النظافة لا تحتاج إلى ورود أمر إيجاب للشارع فيها اكتفاء بدواعي الأنفس، فمجرد الندب إليها كاف، والحديث الذي يقصده هو قوله صلى الله عليه وسلم: «الْفِطْرَةُ خَمْسٌ الِاخْتِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ» (¬3). وقال أبو سليمان: ذهب أكثر العلماء إلى أنها -أي الفطرة- السنة، وكذا ذكره جماعة غير الخطابي، قالوا: ومعناه أنها من سنن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وقيل هي الدين. وقال السيوطي رحمه الله: وأحسن ما قيل في تفسير الفطرة أنها السنة القديمة التي اختارها الأنبياء، واتفقت عليها الشرائع فكأنها أمر جبلي فطروا عليه اهـ (¬4). وقال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله بعد أن ذكر الخلاف في معنى الفطرة: وأول الوجوه بما ذكرنا: أن تكون الفطرة ما جبل الله الخلق عليه، وجبل طباعهم على فعله، وهي كراهة ما في جسده مما هو ليس من زينته (¬5) اهـ. وقال الإمام المحقق شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية رحمه الله في تحفة المودود بأحكام المولود عند كلامه على حديث (الفطرة خمس): ¬

_ (¬1) نيل الأوطار (1/ 123 - 124). (¬2) فتح الباري (10/ 339 - 340). (¬3) أخرجه مسلم. (¬4) تنوير الحوالك شرح موطأ الإمام مالك (2/ 219). (¬5) إحكام الأحكام بحاشية العدة (1/ 339).

والفطرة فطرتان: فطرة تتعلق بالقلب، وهي معرفة الله ومحبته وإيثاره على ما سواه، وفطرة عملية: وهي هذه الخصال، فالأولى تزكي الروح وتطهر القلب، والثانية: تطهر البدن، وكل منهما تمد الأخرى وتقويها، وكان رأس فطرة البدن: الختان اهـ (¬1). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ويتعلق بهذه الخصال أي خصال الفطرة مصالح دينية ودنيوية تدرك بالتتبع، منها: تحسين الهيئة، وتنظيف البدن جملة وتفصيلا، والاحتياط للطهارتين والإحسان إلى المخالط والمقارن. بكف ما بتأذى به من رائحة كريهة، ومخالفة شعار الكفار من المجوس واليهود والنصارى وعباد الأوثان، وامتثال أمر الشارع، والمحافظة على ما أشار إليه قوله تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} لما في المحافظة على هذه الخصال من مناسبة ذلك، وكأنه قيل قد حسنت صوركم فلا تشوهوها بما يقبحها، أو حافظوا على ما يستمر به حسنها، وفي المحافظة عليها محافظة على المروءة وعلى التآليف المطلوب، لأن الإنسان إذا بدا في الهيئة الجميلة كان أدعى لانبساط النفس اليه، فيقبل قوله، ويحمد رأيه، والعكس بالعكس اهـ (¬2). شبهة: كون إعفاء اللحية من خصال الفطرة يدل على عدم وجوبها بدلالة اقترانه بما هو مستحب. الجواب: الصحيح أن يقال: إن كون إعفاء اللحية أحد خصال الفطرة لا يدل بذاته على الوجوب، وإنما يستفاد الوجوب من أدلة أخرى ودلالة الاقتران هنا لا تقوى على معارضة أدلة الوجوب، أما الاستدلال باقتران الإعفاء بغيره من خصال الفطرة الغير الواجبة فمردود بأنه لا يمتنع قرن الواجب بغيره. قال الإمام النووي رحمه الله: قد يقرن المختلفان كقول الله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬3). ¬

_ (¬1) تحفة المودود بأحكام المولود ص161. (¬2) فتح الباري (10/ 339). (¬3) الأنعام: 141

تنبيه

والأكل مباح، والإيتاء واجب، وقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ} (¬1)، والايتاء واجب، والكتابة سنة، ونظائره في الكتاب والسنة كثيرة مشهورة اهـ (¬2). قال الحافظ: نقل ابن دقيق العيد عن بعض العلماء أنه قال: "دل الخبر على أن الفطرة بمعنى الدين، والأصل فيما أضيف إلى الشيء أن يكون من أركانه لا من زوائده حتى يقوم دليل عل خلافه، وقد سرد الأمر بإتباع إبراهيم عليه السلام، وثبت أن هذه الخصال -يعني خصال الفطرة- أمر بها إبراهيم عليه السلام، وكل شيء أمر الله باتباعه فهو على الوجوب لمن أمر به" قال الحافظ: وتعقب بأن وجوب الإتباع لا يقتضي وجوب كل متبوع فيه، بل يتم الأمر بالامتثال، فإن كان واجبا على المتبوع كان واجبا على التابع أو ندبا فندب، فيتوقف ثبوت وجوب هذه الخصال على الأمة على ثبوت كونها واجبة على الخليل عليه السلام اهـ (¬3). تنبيه ذهب كثير من العلماء إلى إيجاب بعض خصال الفطرة منهم الإمام الشافعي رحمه الله فقد أوجب الختان، وكذا أوجب إعفاء اللحية وكذلك جمهور أصحابه، وقال به من الأقدمين عطاء (وهو الذي ورد عنه القول بكراهية حلق اللحية)، قال: لو أسلم الكبير لم يتم إسلامه حتى يختتن. وعن زيد بن أرقم قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ، فَلَيْسَ مِنَّا" (¬4) واستدل بهذا على وجوب الأخذ من الشارب (¬5). وقد سبق ذكر أن القاضي ابن العربي أوجب الختان والاستحداد ونتف الإبط وتقليم الأظافر، والخلاف في المضمضة والاستنشاق معروف مشهور أهي واجبة أم لا. ¬

_ (¬1) النور: 33 وبعدها "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" الآية. (¬2) المجموع شرح المهذب (1/ 317 - 318). (¬3) فتح الباري (10/ 340). (¬4) رواه الترمذي وأحمد والنسائي قال الترمذي: صحيح, وقال الحافظ: سنده قوي. (¬5) فتح الباري (1/ 340).

وقال ابن القيم رحمه الله (¬1): ثم إن الخصال المذكورة في الحديث منها ما هو واجب كالمضمضة والإستنشاق (¬2)، والإستنجاء، ومنها ما هو مستحب كالسواك، وأما تقليم الأظافر، فإن الظفر إذا طال جدا بحيث يجتمع تحته الوسخ، وجب تقليمه لصحة الطهارة، وأما قص الشارب فالدليل يقتضي وجوبه إذا طال، وهذا الذي يتعين القول به لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "من لم يأخذ من شاربه فليس منا" (¬3) اهـ. وقد روى الإمام أحمد وأصحاب السنن "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لهم في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة" واستدل به على وجوب هذه الخصال. وهذه الأحاديث مبينة لما أجمل في حديث (عشر من الفطرة) والمبين مقدم على المجمل كما هو معلوم. ¬

_ (¬1) تحفة المودود ص177 (¬2) أنظر تلخيص الحبير للحافظ ابن حجر (1/ 88 - 89) (¬3) رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي والضياء عن زيد بن أرقم رضي الله عنه وصححه الألباني

فصل تحريم تغيير خلق الله بدون إذن من الشرع

فصل تحريم تغيير خلق الله بدون إذن من الشرع قال تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} (¬1) وقال سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (¬2) وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} (¬3) وقال سبحانه: {فطرة الله فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (¬4) وقال عز وجل: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} (¬5). قوله: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}: جاء الشرع الحنيف بتحريم تغيير خلق الله تعالى بغير إذن من الشارع (¬6) ومن ذلك نتف النساء لحواجبهن حتى تكون كالقوس أو الهلال يفعلن ذلك تجملا بزعمهن وهذا مما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ¬

_ (¬1) التغابن: 3 (¬2) التين:4 (¬3) الإنفطار: 6 - 8 (¬4) الروم: 30 (¬5) النساء: 117 - 119 (¬6) وفائدة هذا القيد دفع ما قد يتوهمه البعض من أنه يدخل في هذا التغيير المذكور الإستحداد ونتف الإبط وتقليم الأظافر والختان وقص الشارب والخضاب ونحوه مما استحبه الشارع أو أوجبه.

ولعن فاعله بقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الواشمات (¬1)، والمستوشمات (¬2)، والنامصات (¬3)، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن (¬4)، المغيرات خلق الله" (¬5). ثم قال ابن مسعود راوي الحديث رضي الله عنه: ألا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله عز وجل- يعني قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬6). قال الطبري رحمه الله: لا يجوز للمرأة أن تغير شيئا من خلقتها التي خلقها الله عليها، بزيادة أو نقص التماس الحسن لا لزوج ولا لغيره، كمن تكون مقرونة الحاجبن فتزيل ما بينهما توهم البلج أو عكسه، ومن يكون شعرها قصيرا أو حقيرا فتطوله أو تغزره بشعر غيرها فكل ذلك داخل في النهي, وهو من تغيير خلق الله، ويستثني من ذلك ما يحصل به الضرر والأذية، ومن تغيير خلق الله الخصاء وفقء العين وقطع الآذان، أفاد معناه ابن عباس وأنس وعكرمة وأبو صالح، وذلك كله تعذيب للحيوان، وتحريم وتحليل بالطنيان، وقول بغير حجة ولا برهان، والآذان في الأنعام جمال ومنفعة، وكذلك غيرها ¬

_ (¬1) الواشمات: جمع واشمة اسم فاعل من الوشم، والمشهور في تعريفها غرز الإبرة ونحوها في الجلد حتى يسيل الدم، ثم حشوه بالكحل أو النيل فيخضر، وقال أبو داود الواشمة التي تجعل الخيلان في وجهها بكحل أو مداد. (¬2) المستوشمات: جمع مستوشمة وهي التي تطلب الوشم. (¬3) النامصات: جمع نامصة، وهي التي تفعل النماص، و (النماص) إزالة شعر الوجه بالمنقاش، وذكر الوجه للغالب لا للتقييد. (¬4) أي لأجل الحسن، و"المتفلجات" جمع متفلجة وهي التي تطلب الفلج وهو فرجة ما بين الثنايا والرباعيات، والتفلج أن يفرج بين المتلاصقين بالمبرد ونحوه. (¬5) صفة للمذكورات جميعا، وهو كالتعليل لوجوب اللعن المستدل به على الحرمة، أفاد معناه الطيبي أنظر المرقاة (2/ 460). واختلف في المعنى الذي نهى عنها لأجله فقيل: لأنها من باب التدليس، وقبل من باب تغيير خلق الله تعالى كما قاله ابن مسعود وهو أصح، وهو يتضممن المعنى الأول، ثم فيل: هذا النهي إنما هو فيما يكون باقيا، فأما ما لا يكون باقيا كالكحل والتزين به للنساء، فقد أجاز العلماء ذلك: مالك وغيره. (¬6) الحشر: 7

فوائد متفرقة تتعلق بالأصل السابق

من الأعضاء، فلذلك رأى الشيطان أن يغير بها خلق الله تعالى، وفي حديث عياض بن حمار المجاشعي: "وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ (¬1) عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا" (¬2)، ولم يختلفوا أن خصاء بني آدم لا يحل ولا يجوز لأنه مثله وتغيير لخلق الله تعالي، وكذلك قطع سائر أعضائهم في غير حد ولا قود: قاله أبو عمر. فوائد متفرقة تتعلق بالأصل السابق وتمس الحاجة إليها الأولى: حكم لبس ما يسمى بالباروكة: سئلت لجنة الإفتاء بالسعودية التي يرأسها الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله: ما حكم لبس المرأة ما يسمى بالباروكة لتتزين بها لزوجها؟ فأجابت اللجنة بما يلي: ينبغي لكل من الزوجين أن يتجمل للآخر بما يحببه فيه ويقوي العلاقة بينهما، لكن في حدود ما أباحته شريعة الإسلام دون ما حرمته، ولبس ما يسمى بالباروكة بدأ في غير المسلمات، واشتهرن بلبسه والتزين به حتى صار من سيمتهن، فلبس المرأة المسلمة إياها وتزينها بها ولو لزوجها فيه تشبه بالكافرات، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: "من تشبه بقوم فهو منهم" ولأنه في حكم وصل الشعر بل أشد منه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولعن فاعله، اهـ. الثانية: نص الحديث على لعن النامصة والمتنمصة. قال ابن الأثير: النامصة: التي تنتف الشعر من وجهها، والمتنمصة هي التي تأمر من يفعل بها ذلك، ومنه قيل للمنقاش: وقال أبو داود: النامصة التي تنقش الشعر من الحاجب، أي ترققه: وتزججه. ¬

_ (¬1) اجتالتهم: استخفتهم، فجالوا معهم في الضلال. (¬2) أخرجه مسلم والقاضي ابن إسماعيل.

قال النووي رحمه الله: المراد إزالة الشعر من أطراف الوجه، وترقيق الحواجب وهو المحرم المنهي عنه، وقال السيوطي في الإكليل: النمص: هو نتف الشعر من الوجه اهـ. أما إذا ظهر للمرأة شعر في لحيتها أو أسفل شفتها أو نبت لها شارب فالمختار عند الجمهور عدم تحريم إزالته، وقالت الشافعية: إزالته مستحبة، ويرى الحنابلة: أنه لا بأس بحف الوجه، وأن التحريم خاص بالحواجب، والخلاف مبني على تعريف النمص كما سبق. الثالثة: عد بعض العلماء من تغيير خلق الله سبحانه تدميم الأظفار وإطالتها، وهي عادة قبيحة تسربت من فاجرات أوروبة إلى كثير من المسلمات (¬1)، وهي تدميم أظفارهن بالطلاء الأحمر المعروف ب (المانيكير) مما يحول دون وصول الماء إلى أعضاء الوضوء ولا يصح مع وجوده وضوء ولا غسل ولا صلاة، وقد يطلن بعض أظفارهن -ويفعله بعض الشباب أيضا- وفي هذا أيضا معاكسة للفطرة السوية التي من خصالها تقليم الأظفار: قل للجهولة أرسلت أظفارها إني لخوف كدت أمضي هاربا إن المخالب للوحوش نخالها فمتى رأينا للظباء مخالبا بالأمس أنت قصصت شعرك غيلة ونقلت عن وضع الطبيعة حاجبا وغدا نراك نقلت ثغرك للقفا وأزحت أنفك رغم أنفك جانبا من علم الجهلاء أن جمالها في أن تخالف خلقها وتجانبا (¬2) الرابعة: كيف التوبة من الوشم؟ قال النووي رحمه الله (¬3): التوبة منه بإزالته على الفور، إلا إذا خاف تلف العضو، أو كانت إزالته تسبب شيئا فاحشا في العضو اهـ. الخامسة: ¬

_ (¬1) آداب الزفاف للألباني. (¬2) من رسالة "التبرج" للسيدة نعمت صدقي رحمها الله بتصرف. (¬3) هذا حلال وهذا حرام ص131 - 133

الخامسة: قال الحافظ في الفتح: كما يحرم على المرأة الزيادة في شعر رأسها يحرم عليها حلق شعر رأسها بغير ضرورة اهـ (¬1). وعن علي رضي الله عنه: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَحْلِقَ المَرْأَةُ رَأْسَهَا» (¬2). وعن قتادة عن عكرمة قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها" (¬3) وقال الحسن: هي مثلة. وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسال عن المرأة تعجز عن شعرها وعن معالجته، أتأخذ على حديث ميمونة، قال: "لأي شيء تأخذه" قيل له: لا تقدر على الدهن وما يصلحه، وتقع فيه الدواب، قال: إن كان لضرورة فأرجو ألا يكون به بأس" اهـ. وقال أبو داود في مسائل الإمام أحمد: أنه سئل يجز شعرها؟ قال: لا. قال الألباني حفظه الله: الظاهر أن مراد الإمام رضي الله عنه ب الجز هنا الحلق والإستئصال، لأن الجز-وهو بالجيم والزاي الثقيلة-: قص الشعر والصوف إلى أن يبلغ الجلد، كما في الفتح (10/ 285)، وقد جاء النهي الصريح في ذلك وذكر حديث علي رضي الله عنه السابق إلى أن قال: وهذا بخلاف أخذها من شعر رأسها فإنه جائز لما رواه مسلم (¬4) عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ أَنَا وَأَخُوهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ. فَسَأَلَهَا عَنْ غُسْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْجَنَابَةِ؟ ... قال: «وَكَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذْنَ مِنْ رُءُوسِهِنَّ حَتَّى تَكُونَ كَالْوَفْرَةِ» (¬5) ¬

_ (¬1) (10/ 375) (¬2) رواه الترمذي والنسائي. راجع تحقيقه في أضواء البيان (5/ 596 - 597). (¬3) رواه الخلال بإسناده عن قتادة عن عكرمة. (¬4) رواه مسلم (1/ 176) (¬5) قال النووي رحمه الله: وفيه دليل على جواز تخفيف الشعور للنساء اهـ. وتعقبه الشنقيطي بأن هذا إنما كان بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وخص الجواز بنساء النبي صلى الله عليه وسلم بأنظر أضواء البيان (5/ 599 - 602).

هي من الشعر ما كان إلى الأذنين ولا يجاوزهما، وإنما يجوز لهن ذلك إذا لم يقصدن التشبه بالأجنبيات، وإلا فلا يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" اهـ. وقال الشنقيطي رحمه الله: ( .. حلق المرأة شعر رأسها نقص في جمالها وتشويه لها، فهو مثلة، وبه تعلم أن العرف الذي صار جاريا في كثير من البلاد بقطع المرأة شعر رأسها إلى قرب أصوله سنة إفرنجية مخالفة لما كان عليه نساء المسلمين ونساء العرب قبل الإسلام، فهو من جملة الإنحرافات التي عمت البلوى بها في الدين والخلق والسمت وغير ذلك) اهـ (¬1). ¬

_ (¬1) أضواء البيان (5/ 598 - 599).

فصل هل حلق اللحية من تغيير خلق الله؟

فصل هل حلق اللحية من تغيير خلق الله؟ دليل من قال إن حلق اللحية تغيير لخلق الله: قوله تعالى حاكيا عن إبليس لعنه الله: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} قالوا: هذا نص صريح في أن تغيير خلق الله بدون إذن منه تعالى إطاعة لأمر الشيطان، وعصيان للرحمن جل جلاله، فلا جرم أن لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرات خلق الله للحسن، ولا شك في دخول حلق اللحية للحسن في اللعن المذكور بجامع الإشتراك في العلة كما لا يخفي اهـ، فإذا فعل الرجال النمص أو الوشم أو الفلج فهم داخلون في اللعنة، والذي يحلق لحيته قد غير خلق الله، فالتماثل إذن موجود لا ينكر بين هذه المذكورات في الحديث وبين حلق اللحية، ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة المغيرة لخلق الله مع كونه شرع لها التزين أكثر من الرجل يدل بالأولوية على تحريم هذا الفعل على الرجل وأنه داخل في تغيير الخلق وفي استحقاق اللعن اهـ. واستدلوا بما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ مَثَّلَ بِالشَّعْرِ، فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللهِ خَلَاقٌ» (¬1). قال الزمخشري: معناه صيره مثله بأن نتفه أو حلقه من الخدود أو غيره بسواد. ¬

_ (¬1) رواه الطبراني: ثنا حجاج بن نصير، محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة عن طاووس عن ابن عباس مرفوعا، وحجاج بن نصير قال الحافظ في التقريب: ضعيف، كان يقبل التلقين، والحديث قال في المجمع (8/ 121): رواه الطبراني وفيه حجاج بن نصير، وقد ضعفه الجمهور، ووثقه ابن حبان، وقال: يخطئ وبقية رجاله ثقات.

وقال في النهاية: مثل بالشعر حلقه من الخدود، وقيل: نتفه أو تغييره بسواد. وقد روى ابن عساكر عن عمر بن عبد العزيز قال: إن حلق اللحية مثلة، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة اهـ. وقال شاه ولي الله الدهلوي في الحجة البالغة: وقصها -أي اللحية- سنة المجوس، وفيه تغيير خلق الله اهـ (¬1). وإذا كان بعض العلماء عد المبالغة في قص اللحية مثلة، وبعضهم عد استئصال الشارب من الوجه بالحلق مثلة، فماذا يكون استئصال اللحية كلها أفلا ينبغي تكريم الوجه وصيانته عن المثلة والإهانة؟ أفلا يستشعر من يستبيح ذلك صدى قوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ» (¬2). وفي لفظ "فلا يلطمن الوجه" وما ذاك إلا لأنه مجمع المحاسن، وأعضاؤه لطيفة نفيسة فما كان هكذا فحقه التكريم والصيانة لا المثلة والإهانة والله أعلم. شبهة: قال المعترض: لا يصح إلحاق اللحية بالنمص لعلة تغيير خلق الله لاختلاف حقيقتهما لغة، فالنمص هو نتف الشعر، أما الحلق فهو قطعه بالموس، وقد نص الحديث على تعليل النمص بتغيير خلق الله ولم ينص على ذلك في اللحية، وإنما علل إعفاء اللحية بمخالفة المشركي فقط. وجواب هذا من وجوه: أحدها: أن العبرة هنا بالغاية لا بالوسيلة، وقد لعن الشارع النامصة، والنمص هو إزالة الشعر بالنتف، وعده من تغيير خلق الله، وإن كان هذا الشعر يعود للإنبات ولو بعد حين، فإزالة الشعر تغيير لخلق الله سواء تم ذلك ¬

_ (¬1) حجة الله البالغة (1/ 182). (¬2) متفق عليه.

تنبيه

بالنتف أم بالحلق أم بالزرنيخ أم بالكهرباء، ولا يعقل أن يباح العمل المحرم لأجل الوسيلة التي حصل بها فالقتل حرام سواء كان بالسحر أو بالسم أو بالكهرباء، والأمر بالقتل آثم لا يشفع له أنه لا يسمى لغة قاتلا، ومتلف مال اليتيم بالإغراق أو بالإحراق عاص لا يشفع له أنه لا يسمى لغة آكلا له، ويلزم من قولكم هذا: - أن المرأة التي تزيل شعر حاجبها بالحلق بالموس مثلا ليست مغيرة لخلق الله - وأن المحرم الذي يزيل شعره بالكهرباء أو الزرنيخ مثلا لا يكون عليه إثم ولا فدية. - وأن صناعة التماثيل المجسمة بطريق الضغط على زر في آلة ما جائز لأن الصانع لم يباشر ذلك بيده. - وأنه يجوز أن يبول الرجل في إناء ثم يصبه في الماء الراكد ولو كمية كبيرة في حين أنه لا يجوز له أن يبول فيه مباشرة ولو قطرات قليلة. ولا شك أن هذه ظاهرية جامدة، وتأويل بارد غير مقبول. الوجه الثاني: أنه يجوز أن تتعدد علة الحكم فينص على أحدها مثلا وتكون له علة أخرى مثال ذلك قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} الآية فقد علل سبحانه خلقها بالركوب والزينة في حين أن بعضها خلق بجانب ذلك للأكل مثلا كالخيل، وبعضها لجر الأثقال وحملها والحرث مثلا. تنبيه حلق الرأس عند التحلل من الإحرام مثلا والعانة والإبط تغييرا لخلق الله لأن الله سبحانه تعبدنا به، وتغيير خلق الله هو استعمال الشيء في غير ما خلقه الله له، فما دام الله قد شرعه دل على أنه ليس من التغيير المنهي في شيء، ولو كان كل تغيير يعد تغييرا لخلق الله من غير التفات إلى ما أمر به الشارع أو نهى

عنه لكان الانتقال من الكفر إلى الإسلام، وقطع يد السارق وإزالة الأسنان وذبح الحيوان تغييرا لخلق الله. شبهة: زعم بعضهم أن تغيير خلق الله الذي ورد في قوله تعالى حكاية عن إبليس لعنه الله: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} الآية. إنما يختص بالدين فقط، وأن دليل ذلك قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} الآية. واستدل أيضا بحديث عياض المجاشعي السابق وفيه: "وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم" الحديث. والجواب: من أربعة أوجه: أولها: أن تغيير خلق الله عام يشمل أمور الدين سواء في ذلك العقيدة وأحكام الحلال والحرام، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} الآية, فيدخل فيه الوشم وقطع آذان الأنعام وحلق اللحية وغيرها، فلا يصح تخصيصه إلا بدليل. الثاني: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، واختلاف المفسرين في مثل هذا هو من باب اختلاف التنوع وليس اختلاف التضاد، كان يذكر بعضهم من الإسم العام بعض أنواعه تنبيها إلى النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود. الثالث: ومما يتأيد به عموم خلق الله للعقيدة والفروع العملية قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله" فقوله: "المغيرات خلق الله" هو كالتعليل لاستحقاقهن اللعن، والأمور المذكورة من الفروع العملية لا الإعتقادية.

الرابع: أن حديث عياض رضي الله عنه حجة عليهم، فهو يدل على عدم تخصيص الدين بالإعتقاد، ودليل ذلك القرينة التي في آخر الحديث وهي قوله تعالي في هذا الحديث القدسي: "وإن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم فحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وأمرتهم أن يغيروا خلقي، أخرجه مسلم وغيره.

كيفية إعفاء اللحية وحف الشارب

كيفية إعفاء اللحية وحف الشارب قال صلى الله عليه وسلم: «انْهَكُوا الشَّوَارِبَ، وَأَعْفُوا اللِّحَى» (¬1) قوله (أنهكوا) أي: بالغوا في القص، ومثله (جزوا) والمراد للمبالغة في قص ما طال على الشفة لا حلق الشارب كله، فإنه خلاف السنة العملية الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُصُّ أَوْ يَأْخُذُ مِنْ شَارِبِهِ، قَالَ: وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ يَفْعَلُهُ " (¬2). قال القارئ معلقا: فالإقتداء بالحبيب بعد الخليل يورث الأجر الجميل والثواب الجزيل (¬3) اهـ. وقال الشيخ أحمد الدهلوي في مسائل اللحية: قال الشيخ ولي الدين العراقي في شرح أبي داود: الحكمة في قص الشارب أمر حنيفي -أي إبراهيمي- وهو تحسين الهيئة والتنظيف، وقد يرجع تحسين الهيئة إلى الدين، ولعل في قوله تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} إشارة إليها كأنه قال: فلا تغيروها بما يزيل حسنها ومنظرها، كما قال تعالى حكاية عن إبليس: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} (¬4) اهـ. ولهذا لما سئل الإمام مالك رحمه الله عمن يحفى شاربه؟ ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم وأبو عوانة وغيربم عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأنظر فتح الباري (10/ 285 - 286) (¬2) أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب، وأقره الحافظ على تحسينه في الفتح. (¬3) مرقاة المفاتيح (2/ 462). (¬4) مسائل اللحية ص 11

قال: ينبغي أن يضرب من صنع ذلك، فليس حديث النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، ولكن يبدي حرف الشفة والفم. وقال لمن يحلق شاربه: هذه بدعة ظهرت في الناس (¬1)، ولهذا كان الإمام مالك رحمه الله وافر الشارب، ولما سئل عن ذلك قال: حدثني زيد بن أسلم عن عامر بن عبد الله بن الزبير «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إِذَا غَضِبَ فَتَلَ شَارِبَهُ، وَنَفَخَ» (¬2). وقال الحافظ في الفتح: المعروف عن عمر أنه كان يوفر شاربه (¬3) اهـ. وروى الطبراني في الكبير وأبو زرعة في تاريخه والبيهقي: "أن خمسة من الصحابة كانوا يقمون (¬4) شواربهم مع طرف الشفة" ونحوه في "ابن عساكر". وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ، فَلَيْسَ مِنَّا» (¬5). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جُزُّوا الشَّوَارِبَ، وَأَرْخُوا اللِّحَى خَالِفُوا الْمَجُوسَ» (¬6). ¬

_ (¬1) رواه البيهقي وانظر المجموع (1/ 320) (¬2) رواه الطبراني في المعجم الكبير. (¬3) (10/ 335) (¬4) أي: يستأصلون. (¬5) رواه أحمد والنسائي والترمذي وقال حديث صحيح وقال الحافظ في الفتح وسنده قوي (10/ 337). ومعناه: اي ليس من العاملين بسنتنا. قال الألباني: هذا الحديث يدل على أن المشروع في الشارب أن يؤخذ منه بعضه، وهو ما طال على الشفة، وأما أخذه كله كما يفعله بعض الصوفية وغيرهم، فهو كما قال مالك وغيره: مثله، وقد وجدت له شاهدا أن حجاما أخذ من شارب النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه ابن سعد (1/ 433)، وله عنده (1/ 449) شاهد آخر اهـ. من صحيح الجامع الصغير (5/ 355). (¬6) رواه أحمد ومسلم.

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ أَحْفُوا الشَّوَارِبَ، وَأَوْفُوا اللِّحَى» (¬1). وقال البخاري رحمه الله: "وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، يُحْفِي شَارِبَهُ حَتَّى يُنْظَرَ إِلَى بَيَاضِ الجِلْدِ، وَيَأْخُذُ هَذَيْنِ، يَعْنِي بَيْنَ الشَّارِبِ وَاللِّحْيَةِ" اهـ (¬2). وقال النووي رحمه الله: "قال الغزالي: ولا بأس بترك سباليه، وهما طرفا الشارب فعل ذلك عمر رضي الله عنه وغيره، قلت: لا بأس أيضا بتقصيره، روى ذلك البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما (¬3) اهـ. قال لشوكاني رحمه الله: اختلف الناس في حد ما يقص من الشارب، وقد ذهب كثير من السلف إلى استئصاله وحلقه لظاهر قوله: "أحفوا وانهكوا" وهو قول الكوفيين. وذهب كثير منهم إلى منع الحلق والإستئصال، وإليه ذهب مالك، وكان يرى تأديب من حلقه، وروى عنه ابن القاسم أنه قال: إحفاء الشارب مثلة. قال النووي رحمه الله (¬4): المختار أنه يقص حتى يبدو طرف الشفة، ولا يحفيه من أصله، قال: وأما رواية: أحفوا الشوارب فمعناه أحفوا ما طال على الشفتين اهـ. وفي موطأ الإمام مالك رحمه الله: قال يحيى: وسمعت مالكا يقول: يؤخذ من الشارب حتى يبدو طرف الشفة وهو الإطار، ولا يجزه فيمثل بنفسه اهـ. وقال القرطبي رحمه الله: القص: أن يأخذ ما طال على الشفة، بحيث لا يؤذي عند الطعام ولا يجتمع فيه الوسخ اهـ. ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) فتح الباري (10/ 334). (¬3) المجموع (1/ 320). (¬4) أنظر المجموع شرح المهذب (1/ 319).

قال ابن القيم رحمه الله: وأما أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد فكان مذهبهم في شعر الرأس والشوارب أن الإحفاء أفضل من التقصير، وذكر بعض المالكية عن الشافعي أن مذهبه كمذهب أبي حنيفة في حلق الشارب، قال الطحاوي: ولم أجد عن الشافعي شيئا منصوصا في ذلك، وأصحابه الذين رأيناهم المزني والربيع كانا يحفيان شواربهما، ويدل ذلك أنهما أخذاه عن الشافعي، وروى الأثرم عن الإمام أحمد أنه كان يحفي شاربه إحفاء شديدا، وسمعته يسأل عن السنة في إحفاء الشارب، فقال: يحفى، وقال حنبل: قيل لأبي عبد الله: ترى للرجل يأخذ شاربه ويحفيه أم كيف يأخذه؟ قال: إن أحفاه فلا بأس، وإن أخذه قصا فلا بأس، وقال أبو محمد في المغنى: هو مخير بين أن يحفيه وبين أن يقصه، وقد روى النووي في شرح مسلم عن بعض العلماء أنه ذهب إلى التخيير بين الأمرين الإحفاء وعدمه، وروى الطحاوي الإحفاء عن جماعة من الصحابة أبي سعيد وأبي أسيد ورافع بن خديج وسهل بن سعد، وعبد الله بن عمر، وجابر وأبي هريرة رضي الله عنهم. قال ابن القيم رحمه الله: واحتج من لم ير إحفاء الشارب بحديث عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما المرفوعين: "عشر من الفطرة" فذكر منها: قص الشارب، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن الفطرة خمس, وذكر منها: قص الشارب، واحتج المحفون بأحاديث الأمر بالإحفاء وهي صحيحة، وبحديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحفى شاربه" اهـ. قال لشوكاني: والإحفاء ليس كما ذكره النووي في أن معناه أحفوا ما طال عن الشفتين، بل الإحفاء: الاستئصال كلما في الصحاح والقاموس والكشاف وسائر كتب اللغة، ورواية القص لا تنافيه، لأن القص قد يكون على جهة الإحفاء وقد لا يكون، ورواية الإحفاء معينة للمراد، وكذلك حديث الباب الذي فيه "من لم يأخذ من شاربه فليس منا" لا يعارض رواية الإحفاء لأن فيها زيادة يتعين المصير إليها، ولو فرض التعارض من كل وجه لكانت رواية

الإحفاء أرجح لأنها في الصحيحين وروى الطحاوي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ من شارب المغيرة على سواكه" (¬1). قال -أي الطحاوي- وهذا لا يكون معه إحفاء، ويجاب عنه بأنه محتمل، ودعوى أنه لا يكون معه إحفاء ممنوعة (¬2)، وهو -وإن صح- كما ذكر لا يعارض تلك الأقوال منه صلى الله عليه وسلم اهـ. وذهب الطبري إلى التخيير بين الإحفاء والقص، وقال: دلت السنة على الأمرين ولا تعارض، فإن القص يدل على أخذ البعض، والإحفاء يدل على أخذ الكل، وكلاهما ثابت فيتخير فيما شاء اهـ. قال الحافظ: ويرجح قول الطبري ثبوت الأمرين معا في الأحاديث المرفوعة اهـ. قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: قلت: ما ذهب اليه الطبري هو الظاهر (¬3). وقال لشوكاني رحمه الله معلقا على حديث (عشر من الفطرة) الحديث: قوله وإعفاء اللحية, إعفاء اللحية: توفيرها، كما في القاموس، وفي رواية للبخاري: "وفروا اللحى" وفي رواية أخرى لمسلم: "أوفوا اللحى" وهو بمعناه. وكان من عادة الفرس قص اللحية، فنهى الشارع عن ذلك، وأمر بإعفائها. ¬

_ (¬1) وأخرجه أيضا أبو داود والبيهقي ولفظ أبو داود "ضفت النبي صلى الله عليه وسلم وكان شاربي وفي، فقصه على سواك. وقال الحافظ: واختلف في المراد بقوله على سواك فالراجح أنه وضع سواكا عند الشفة تحت الشعر وأخذ الشعر بالمقص. قيل المعنى: قصه على أثر سواك أي بعد ما تسوك، ويؤيد الأول ما أخرجه البيهقي في هذا الحديث قال فيه: فوضع السواك تحت الشارب وقص عليه، وأخرج البزار من حديث عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلا وشاربه طويل، فقال: ائتوني بمقص وسواك، فجعل السواك على طرفه، ثم أخذ ما جاوره" اهـ. (¬2) بل الظاهر هو قول الطحاوي أن هذا لا يكون معه إحفاء الأحوذى (8/ 43). (¬3) تحفة الأحوذي (8/ 43).

قال القاضي عياض: يكره حلق اللحية وقصها وتحذيفها، وأما الأخذ من طولها فحسن، وتكره الشهرة في تعظيمها كما تكره في قصها وحزها. وقد اختلف السلف في ذلك، فمنهم من لم يحد بحد بل قال: لا يتركها إلى حد الشهرة ويأخذ منها، وكره مالك طولها جدا، ومنهم من حد بما زاد على القبضة فيزال، ومنهم من كره الأخذ منها إلا في حج أو عمرة اهـ. وقال النووي رحمه الله: قال الخطابي وغيره هو توفيرها وتركها بلا قص، كره لنا قصها كفعل الأعاجم، قال: وكان من زي كسرى قص اللحى وتوفير الشوارب (¬1) اهـ. قال النووي رحمه الله: وأما إعفاء اللحية فمعناه توفيرها، وهي معنى "أوفوا" في الرواية الأخرى، وكان من عادة الفرس قص اللحية فنهى الشرع عن ذلك. إلى أن قال: فحصل خمس روايات: أعفوا وأوفوا وأرخوا وأرجوا ووفروا، ومعناها كلها تركها على حالها، هذا هو الظاهر من الحديث الذي تقتضيه ألفاظه (¬2) اهـ. وقال الحافظ رحمه الله: وقال عياض: يكره حلق اللحية وقصها وتحذيفها، وأما الأخذ من طولها وعرضها إذا عظمت فحسن، بل تكره الشهرة في تعظيمها كما يكره في تقصيرها. كذا قال، وتعقبه النووي بأنه خلاف ظاهر الخبر في الأمر بتوفيرها قال: والمختار تركها على حالها وأن لا يتعرض لها بتقصير ولا غيره، وكأن مراده بذلك في غير النسك لأن الشافعي نص على استحبابه فيه اهـ. وقال القاري رحمه الله في معنى قوله صلى الله عليه وسلم وفروا والمعنى: اتركوا اللحى كثيرا بحالها، ولا تتعرضوا لها، واتركوها لتكثر أهـ (¬3). ¬

_ (¬1) المجموع (1/ 321). (¬2) شرح النووي (3/ 194). (¬3) مرقاة المفاتيح (457/ 2).

وقال النووي رحمه الله: وقد ذكر العلماء في اللحية عشر (¬1) خصال مكروهة (¬2) بعضها أشد قبحا من بعض: وإحداها: خضابها بالسواد لا لغرض الجهاد. الثانية: خضابها الصفرة تشبها بالصالحين لا لأتباع السنة. الثالثة: تبيضها بالكبريت أو غيره استعجالا للشيخوخة لأجل الرياسة والتعظيم وإيهام أنه من المشايخ. الرابعة: نتفها أو حلقها أول طلوعها إيثارا للمرودة وحسن الصورة (¬3). الخامسة: نتف الشيب (¬4). السادسة: تصفيفها طاقة فوق طاقة تصنعا ليستحسنه النساء وغيرهن. السابعة: الزيادة فيها والنقص منها بالزيادة في شعر العذار من الصدغين، أو أخذ بعض العذار في حلق الرأس ونتف جانبي العنفقة وغير ذلك. الثامنة: تسريحها تصنعا لأجل الناس. التاسعة: تركها شعثة ملبدة إظهارا للزهادة وقلة المبالاة بنفسه. العاشرة: النظرة إلى سوادها وبياضها إعجابا وخيلاء وغرة بالشباب وفخرا بالمشيب وتطاولا على الشباب. الحادية عشرة: عقدها، وضفرها. ¬

_ (¬1) كذا قال - والذكور هنا اثنتا عشرة خصلة. (¬2) قال ابن علان في دليل الفالحين بعد نقل هذه العبارة للنووي رحمه الله ما نصه: وظاهر أن مراده بالكراهة ما يشمل التحريم كالخضاب بالسواد لغير الجهاد اهـ (4/ 495). (¬3) وقال أبو حامد الغزالي في الإحياء: وأما نتفها -أي اللحية- في أول النبات تشبها بالمرد فمن المنكرات الكبار، فإن اللحية زينة الرجال ج هـ (2/ 257). (¬4) قال الحافظ: ورجح النووي تحريمه -أي نتف الشيب- لثبوت الزجر عنه (فتح الباري 10/ 351)

الثانية عشرة: حلقها إلا إذا نبت للمرأة لحية فيستحب لها حلقها والله أعلم. وعن الحسن البصري قال: يؤخذ من طولها وعرضها ما لم يفحش، وعن عطاء نحوه، قال الطبري: وحمل هؤلاء النهي على منع ما كانت الأعاجم تفعله من قصها وتخفيفها، ثم اختار الطبري قول عطاء وقال: إن الرجل لو ترك لحيته لا يتعرض لها حتى أفحش طولها وعرضها يعرض نفسه لمن يسخر به. وقال المناوي في الفيض: الاعتدال محبوب والطول المفرط قد يشوه الخلقة ويطلق ألسنة المنتابين اهـ، وقال ابن الملك: تسوية شعر اللحية سنة، وهي أن يقص كل شعرة أطول من غيرها ليستوي جميعها اهـ. نقله عنه القاري في المرقاة (¬1). وقال الغزالي في الإحياء (¬2): وقد اختلفوا فيما طال منها -أي اللحية- فقيل: عن قبض الرجل على لحيته وأخذ ما فضل عن القبض فلا باس، فقد فعله ابن عمر وجماعة من التابعين، واستحسنه الشعبي وابن سيرين، وكرهه الحسن وقتادة، قالا: تركها عافية أحب، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أعفوا اللحى" والأمر في هذا قريب إن لم ينته إلى تقصيص اللحية وتدويرها من الجوانب، فإن الطول المفرط قد يشوه الخلقة ويطلق ألسنة المغتابين بالنبذ إليه، فلا باس بالاحتراز عنه على هذه النية اهـ. ونقله عنه النووي رحمه الله (¬3) ثم قال: هذا كلام الغزالي، والصحيح كراهة الأخذ منها مطلقا، بل يتركها على حالها كيف كانت للحديث الصحيح "وأعفوا اللحى" اهـ. وروى البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خَالِفُوا المُشْرِكِينَ: وَفِّرُوا اللِّحَى، وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ " ¬

_ (¬1) مرقاة المفاتح (2/ 462). (¬2) الإحياء (2/ 254). (¬3) المجموع (1/ 321).

وزاد البخاري: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ: «إِذَا حَجَّ أَوِ اعْتَمَرَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَمَا فَضَلَ أَخَذَهُ» (¬1). وقال المباركفوري رحمه الله: وأما قول من قال: إنه إذا زاد على القبضة يؤخذ الزائد، واستدل بآثار ابن عمر وعمر وأبي هريرة رضي الله عنهم فهو ضعيف. لأن أحاديث الإعفاء المرفوعة الصحيحة تنفي هذه الآثار، فهذه الآثار لا تصلح للاستدلال بها مع وجود هذه الأحاديث المرفوعة الصحيحة، فأسلم الأقوال هو قول من قال بظاهر أحاديث الإعفاء، وكره أن يؤخذ شيء من طول اللحية وعرضها، والله تعالي أعلم. ثم قال رحمه الله: قال الكرماني: لعل ابن عمر أراد الجمع بين الحلق والتقصير في النسك فحلق رأسه كله وقصر من لحيته ليدخل في عموم قوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} وخص ذلك من عموم قوله: ووفروا اللحى فحمله على حالة غير حالة النسك، قال الحافظ: الذي يظهر أن ابن عمر كان لا يخص هذا التخصيص بالنسك، بل كان يحمل الأمر بالإعفاء على غير الحالة التي تتشوه فيها الصورة بإفراط طول شعر اللحية أو عرضه اهـ. قال لشوكاني (¬2) أيضا معلقا على أثر ابن عمر رضي الله عنهما: "أنه كان إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه". وقد استدل بذلك أهل العلم، والروايات المرفوعة ترده اهـ. ¬

_ (¬1) ومما يؤيده ما أخرجه أبو داود من حديث جابر بسند حسن قال: "كنا نعفى السبال إلا في حج أو عمرة" أي نتركه وافرا، والسبال: ما طال من شعر اللحية، فأشار جابر رضي الله عنه إلى أنهم يقصرون منها في النسك. (¬2) وحجة من قال هذا أن الحديث الصحيح المعصوم لا يترك لمخالفة رواية وهو غير معصوم، إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث أو أنه لا يحضره الحديث وقت الفتيا، أولا يتفطن لدلالته على المسألة التي خالفه فيها أو يتأول فيها تأويلا مرجوحا، أو يقوم في ظنة ما يعارضه ولا يكون معارضا له في الواقع، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لثقته به واعتقاد أنه إنما خالفه لدليل أقوى منه، وعلى هذا الأصل بين المالكية والشافعية والحنابلة فروع كثيرة حيث قدموا العمل برواية الراوي على فتواه (مجلة البحوث الإسلامية). المجلد الأول -العدد الثالث- ص157.

قال الشيخ إسماعيل الأنصاري معلقا على أثر ابن عمر: "الحجة في روايته لا في رأيه واحد، ولا شك أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله أحق وأولي بالاتباع من قوله غيره كائنا من كان" (¬1) اهـ. وقال الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي الحنبلي: ورخص بعض أهل العلم في أخذ ما زاد على القبضة لفعل ابن عمر، وأكثر العلماء يكرهه، وهو أظهر لما تقدم، وقال النووي: والمختار تركها على حالها، وألا يتعرض لها بتقصير شيء أصلا، وأخرج الخطيب عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَأْخُذُ الرَّجُلُ مِنْ طُولِ لِحْيَتِهِ" اهـ (¬2). وقال شاه ولي الله (¬3) الدهلوي: واللحية هي الفارقة بين الصغير والكبير، وهي جمال الفحول وتمام هيأتهم فلا بد من إعفائها، وقصها سنة المجوس، وفيه تغيير خلق الله ولحوق أهل السؤدد والكبرياء بالرعاع اهـ. وبهذا كله يتضح بطلان ما ذهب إليه العلامة الأبي في شرح صحيح مسلم من التنصيص على جواز الاكتفاء في اللحية بالشيء القليل لمخالفته للأحاديث المرفوعة التي مر ذكرها. والعلم عند الله تعالى. ¬

_ (¬1) تحريم حلق اللحى للعاصمي هامش ص6. (¬2) تحريم حلق اللحى للعاصمي. (¬3) حجة الله البالغة (1/ 182).

فصل تحقيق حديث "كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها"

فصل تحقيق حديث "كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها" أخرج الترمذي والعقيلي في الضعفاء, وابن عدى وأبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم, من طريق عُمَرُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ مِنْ عَرْضِهَا وَطُولِهَا». وقال الترمذي: هذا حديث غريب، سمعت محمد بن إسماعيل يقول: عمر بن هارون مقارب الحديث، لا أعرف له حديثا ليس له أصل, أو قال: يتفرد به, إلا هذا الحديث. وقال ابن الجوزي حديث لا يثبت، وقال النووي: رواه الترمذي بإسناد ضعيف لا يحتج به (¬1). وضعفه الحافظ في الفتح، ونسب تضعيفه إلى البخاري أيضا. وقال المباركفوري: حديث ضعيف جدا, وقال لشوكاني: لا تقوم به حجة فقد انفرد به عمر بن هارون قال فيه الحافظ في تقريب التهذيب: متروك, وكذا قال النسائي، وقال في الميزان: قال ابن معين: كذاب خبيث. وقال صالح جزرة: كذاب، ثم ساق له هذا الحديث، ولكن قال ابن عدى عقبه: وقد روى هذا عن أسامة غير عمر بن هارون وهذا خلاف ما قاله البخاري والعقيلي: إنه تفرد به عمر. ¬

_ (¬1) المجموع (1/ 321).

وفي ترجمته رواه العقيلي ثم قال: ولا يعرف إلا به، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد جياد أنه قال: «أَعْفُوا اللِّحَى، وَحُفُّوا الشَّوَارِبَ»، وهذه الرواية أولى اهـ.

فصل حد اللحية لغة وشرعا

فصل حد اللحية لغة وشرعا قال الشيخ أحمد الدهلوي (¬1): حد اللحية طولا: من العنفقة -أي من الشعر النابت على الشفة السفلى مع شعر الذقن- إلى الشعر النابت تحت الذقن، وعرضا: من شعر الخدين -وهما العارضان- أي من جانبي الوجه مع شعر الصدغين إلى ما تحت الحنك الأسفل من الشعر، هذا كله لحية، قال في لسان العرب: قال ابن سيد: اللحية إسم يجمع من الشعر ما نبت على الخدين والذقن اهـ وقال في تاج العروس, والقاموس: اللحية ما نبتت على الخدين والذقن، وهي اسم لما نبت من الشعر على العارضين والذقن اهـ. فالخد هو ما يبدأ من أنف الإنسان عن اليمين والشمال إلى جانبي عارض الوجه، وأما العارض فقال في مجمع البحار وفي النهاية: العارض من اللحية ما ينبت على عرض اللحية فوق الذقن اهـ. وزاد في مجمع البحار: ومنه: فمسمحت عارضيها، أي جانبي وجهها فوق الذقن إلى ما تحت الأذن اهـ. قال النووي رحمه الله تعالى: أما شعر العارضين ففيه وجهان: الصحيح الذي قطع به الجمهور أن له حكم اللحية اهـ. وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: "كانت لحية النبي. صلى الله عليه وسلم قد ملأت من هاهنا إلى هاهنا فأمر يديه على عارضيه" رواه ابن عساكر في تاريخه. ¬

_ (¬1) مسائل اللحية ص35 - 39

تنبيه

وأما الذقن فقال فى القاموس, وفي لسان العرب: (الذقن مجمع اللحيين من أسفلهما)، وقال في تاج العروس: (الذقن ما ينبت على مجمع اللحيين من الشعر، وقال أبو عبيدة، الذقن مجمع أطراف اللحيين)، وأما الحنك، فقال في تاج العروس: (الحنك هو الأسفل من طرفي مقدم اللحيين من أسفلهما). فثبت بذلك حد اللحية عرضا وطولا، فعرضها من شعر الخدين العارضين، والصدغين إلى الشعر النابت تحت الحنك من طرف أسفل اللحيين، وطولها من شعر العنفقة مع شعر الذقن إلى الشعر النابت تحت الذقن كل ذلك لحية لغة، وقد جاء الشرع موافقا للغة في حد اللحية، ولم يأت بتغيير شيء من حدها بل أمر في قوله: "وفروا اللحى" بتوفيرها وببقائها على حالها كما نبتت من غير إزالة لشيء من ذلك كله، إذ يحرم تغيير شيء من خلقتها اهـ. تنبيه عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَضَبَ؟ فَقَالَ: «لَمْ يَبْلُغِ الْخِضَابَ كَانَ فِي لِحْيَتِهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ» [رواه مسلم]. وعنه رضي الله عنه قال: «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَأَى مِنَ الشَّيْبِ إِلَّا» - قَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ كَأَنَّهُ يُقَلِّلُهُ -. [رواه مسلم]، وفي رواية: «إِنَّهُ لَمْ يَرَ مِنَ الشَّيْبِ إِلَّا قَلِيلًا» [رواه مسلم]. وفي رواية: "سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ خِضَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: «لَوْ شِئْتُ أَنْ أَعُدَّ شَمَطَاتٍ (¬1) كُنَّ فِي رَأْسِهِ فَعَلْتُ» [رواه مسلم]. وروى مسلم أيضا عنه رضي الله عنه قال: " يُكْرَهُ أَنْ يَنْتِفَ الرَّجُلُ الشَّعْرَةَ الْبَيْضَاءَ مِنْ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، قَالَ: وَلَمْ يَخْتَضِبْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ¬

_ (¬1) الشمط: اختلاط بياض الشعر بسواده، والمراد به هنا ابتداء الشيب.

إنما كان البياض في عنفقته (¬1) وفي الصدغين (¬2) وفي الرأس نبذ (¬3) وروى مسلم عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «هَذِهِ مِنْهُ بَيْضَاءَ، وَوَضَعَ زُهَيْرٌ بَعْضَ أَصَابِعِهِ عَلَى عَنْفَقَتِهِ». وروى مسلم أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كَانَ فِي لِحْيَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَعَرَاتٌ بِيضٌ". وفي رواية للبخاري عنه رضي الله عنه قال: "وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعَرَةً بَيْضَاءَ» معناه أنها كانت أقل من عشرين وأنها متفرقة بعضها في الرأس وبعضها في صدغيه وبعضها في عنفقته، وشعر الصدغ وشعر العنفقة قد أطلق عليهما أنس بن مالك رضي الله عنه "اللحية"، فثبت بهذه الأحاديث كلها دخول شعر الصدغ والعنفقة في اللحية. أما الشعر النابت تحت الذقن وتحت الحنك، فاستدل على دخوله في اللحية بما رواه أبو نعيم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان أكثر شيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في لحيته حول الذقن" ذكره المناوي في حاشيته على شمائل الترمذي. ¬

_ (¬1) العنفقة: هي ما بين الذقن والشفة السفلى، سواء كان عليها شعر أم لا، ويطلق على الشعر أيضا. (¬2) الصدغين: ما بين أصل الأذن ولحظ العين، ويقال ذلك أيضا للشعر المتدلي من الرأس في ذلك المكان. (¬3) نبذ: بضم النون وفتح الباء، أو بفتح النون وإسكان الباء، ومعناه شعرات متفرقة.

تنبيه

قال الشيخ محمود خطاب السبكي في شرح سنن أبي داود: فيفهم منه أنه لا يجوز حلق ما تحت الذقن وتحت الحنك من الشعر، وهو كذلك، فقد نقل عن الإمام مالك كراهيته حتى قال: غنه من فعل المجوس اهـ. تنبيه ذكر الشيخ أحمد الدهلوي أن الإمام أحمد يبيح تحليق شعر الحلق (1) وهو الذي يبدأ من الحلقوم إلى حد النحر، لا ما كان تحت الذقن وتحت الحنك. استحباب تسريح اللحية وتطييبها عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: «كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَطْيَبِ مَا يَجِدُ، حَتَّى أَجِدَ وَبِيصَ الطِّيبِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ» (2). وعن عطاء بن يسار مرسلا: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، فَدَخَلَ رَجُلٌ ثَائِرَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ أَنِ اخْرُجْ - كَأَنَّهُ يَعْنِي إِصْلَاحَ شَعَرِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ - فَفَعَلَ الرَّجُلُ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدُكُمْ ثَائِرَ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ شَيْطَانٌ» (3). وعن ابن المسيب أنه سُمع (4) يقول: «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ، كَرِيمٌ يُحِبُّ الكَرَمَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الجُودَ، فَنَظِّفُوا - أُرَاهُ (5) قَالَ - أَفْنِيَتَكُمْ وَلَا تَشَبَّهُوا بِاليَهُودِ» قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ

_ (1) مسائل اللحية ص39. (2) متفق عليه, ونقل الحافظ في شرحه عن ابن بطال قوله: يؤخذ منه أن طيب الرجال لا يجعل في الوجه بخلاف طيب النساء، لأنهن يطيبن وجوههن، ويتزين بذلك بخلاف الرجال، فإن تطييب الرجل في وجهه لا يشرع لمنعه من التشبه بالنساء أهـ فتح الباري (10/ 366). (3) رواه الإمام مالك في موطئه. (4) بالبناء للمجهول وضميره راجع إلى ابن المسيب (مرقاة المفاتيح 2/ 481). (5) بضم الهمزة أي أظنه، والقائل هو السامع من ابن المسيب (المرجع السابق).

لِمُهَاجِرِ بْنِ مِسْمَارٍ، فَقَالَ: حَدَّثَنِيهِ عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: «نَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ» رواه الترمذي (¬1). تنبيهان ا- أما شعر الرأس فلا يواظب على دهنه وتسريحه حتى يكون شغله وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإرفاه -أي كثرة التدهن والتنعم، ونَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّرَجُّلِ إِلاَّ غِبًّا - أخرجه الإمام أحمد. 2 - منع الخضاب بالسواد: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَكُونُ قَوْمٌ يَخْضِبُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بِالسَّوَادِ، كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ، لَا يَرِيحُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» (¬2). وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث أنس بن مالك قوله صلى الله عليه وسلم "غيروا -أي الشيب- وإياي والسواد" قال الهيثمي فيه ابن لهيعة وبقية رجاله ثقات وهو حديث حسن (¬3). ¬

_ (¬1) حسنة الألباني. (¬2) رواه أبو داود والنسائي وقال الحافظ العراقي: إسناده جيد. (¬3) مجمع الزوائد (5/ 160).

فصل أقوال علماء المذاهب الأربعة رحمهم الله في حكم حلق اللحية

فصل أقوال علماء المذاهب الأربعة رحمهم الله في حكم حلق اللحية صرح جمهور الفقهاء بالتحريم، ونص البعض على الكراهة، وهي حكم قد يطلق على المحظور لأن المتقدمين يعبرون بالكراهة عن التحريم كما نقل ابن عبد البر ذلك في "جامع بيان العلم وفضله" عن الإمام مالك وغيره. أما إن أريد به كراهة التنزيه فيكون هذا قولا ضعيفا كما يدل عليه تصريح جمهور الفقهاء بالتحريم، والمعتبر من الأقوال في حكاية الخلاف وأقوال المذاهب هو القول الصحيح الراجح في المذهب، أما القول الضعيف فلا يعتبر في الخلاف، ولا يصح أن يحكى إلا مقرونا ببيان ضعفه، ولهذا لما تعرض العلماء الذين كتبوا الفقه على المذاهب الأربعة لمسالة حلق اللحية، لم يحكوا عن المذاهب إلا تحريمه، ولم يلتفتوا إلى ما سواه لعدم صحة نسبته إلى المذاهب. وقال في حاشية الدردير: والفتوى إنما تكون بالقول المشهور أو الراجح من المذهب، وأما القول الشاذ والمرجوح فلا يفتي بهما، ولا يجوز العمل بهما أهـ. ولا شك أن اعتماد الأقوال الضعيفة في المذاهب رغم مخالفتها للدليل الصحيح احتجاجا بأن الخلاف في الفروع يتسامح فيه مطلقا, لا شك أن هذا يفتح باب شر وفتنة على المسلمن يتعسر إغلاقه: وليس كل خلاف جاء معتبرا إلا خلاف له حظ من النظر أولا: المذهب الحنفي:

قال في الدر المختار. ويحرم على الرجل قطع لحيته، وصرح في النهاية بوجوب قطع ما زاد عن القبضة، وأما الأخذ منها وهي دون ذلك كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال فلم يبحه أحد، وأخذ كلها فعل يهود الهند ومجوس الأعاجم أهـ. من كتاب الصيام منه، ومثل ذلك في أكثر كتب الحنفية كفتح القدير وشرح الزيلعي على الكنز. ثانيا: المذهب المالكي: قال في التمهيد: ويحرم حلق اللحية، ولا يفعله إلا المخنثون من الرجال أهـ. وقال العلامة الدسوقي في حاشيته على شرح خليل: يحرم على الرجل حلق لحيته أو شاربه، ويؤدب فاعل ذلك أهـ. وقال القرطبي: لا يجوز حلق اللحية ولا نتفها ولا قصها وقال الخطاب في شرح المختصر: وحلق اللحية لا يجوز. وكذا قال أبو الحسن في شرح الرسالة، والصعيدي في حاشيته على شرح أبي الحسن. وقال النفراوي في شرحه على رسالة ابن أبي زيد ما نصه: وفي قص الشارب لإعفاء اللحى مخالفة لفعل الأعاجم فإنهم كانوا يحلقون لحاهم، ويعفون الشوارب، وآل كسرى أيضا كانت تحلق لحاهم وتبقى الشوارب، فما عليه الجند في زماننا من أمر الخدم بحلق لحاهم لا شك في حرمته عند جميع الأئمة لمخالفته لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولموافقته لفعل الأعاجم والمجوس، والعوائد لا يجوز العمل بها إلا عند عدم نص للشرع مخالف لها، وإلا كانت فاسدة يحرم العمل بها، ألا ترى لو اعتاد الناس فعل الزنا أو شرب الخمر لم يقل أحد بجواز العمل بها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم كما في الموطأ: أن تعفى اللحية، أي يوفر شعرها، أو تبقى من غير إزالة لشيء منها أهـ. وقال الشيخ علي محفوظ رحمه الله في الإبداع عند نقله لمذهب المالكية في المسالة: مذهبهم حرمة حلق اللحية، وكذا قصها إذا كان يحصل به مثلة،

وأما إذا طالت قليلا، وكان القص لا يحصل به مثلة فهو خلاف الأصلي أو مكروه، كما يؤخذ عن شرح الرسالة لأبى الحسن وحاشيته للعلامة العدوى رحمهما الله اهـ. وقال الشيخ محمد حبيب الله بن عبد الله بن أحمد المالكي (ت 1363 هـ). (ووفروا اللحى) أي اتركوها، وفي رواية: (واعفوا اللحى)، ورواية المتن هنا تفسرها، المراد بتوفيرها تركها إلى أن تطول طولا معتادا شرعا، وقد حده بعضهم بالقبضة، وبعضهم بالقبضتين، والأنسب كونها لا تزاد على القبضة لأن تطويلها جدا من المغالاة، وأقبح منه حلقها، إذ لا يجوز للرجل إلا لعذر كالتداوي، ويجب -أي الحلق- على المرأة إذا نبتت لها لحية، وحكم الشارب والعنفقة حكم اللحية، وفي الميسر على خليل: أن من تعمد حلقها يؤدب وترد به شهادته، وقد نظمت ذلك في زمن من قراءتي لمختصر خليل بقولي: يمنع للرجل حلق لحيته على الذي اعتمد مع عنفقته إلا لعذر كتداو، ووجب ذاك على المرأة فيما ينتخب والحكم في الشارب حكم ما ذكر ذكر ذا المعنى جميعا فادكر وفي الميسر الشهادة ترد به وتأديب ذوي العمد ورد -ومقابل المنع قول بالكراهة التنزيهية لبعض المالكية، وللمتأخرين من الشافعية، وقد نسبه ابن حجر في فتح الباري للقاضي عياض رحمه الله تعالى (¬1). ثالثا: المذهب الشافعي: قال الشيخ أحمد بن قاسم العبادي في آخر فصل العقيقة من حاشيته على تحفة المحتاج بشرح المنهاج للسادة الشافعية. قال ابن رفعة في حاشية الكافية: إن الإمام الشافعي قد نص في "الأم" على تحريم حلق اللحية: وكذلك نص الزركشي والحليمي في شعب الإيمان وأستاذه القفال الشاشي في محاسن الشريعة على تحريم حلق ¬

_ (¬1) فتح المنعم بيان ما احتيج لبيانه من زاد المسلم (1/ 178 - 179).

فائدة

اللحية، وقال الأذرعي: الصواب تحريم حلقها جملة لغير علة بها أهـ. ونحوه في حاشية الشرواني على الكتاب المذكور. وقال في شرح العباب. فائدة قال الشيخان (¬1) يكره حلق اللحية، واعترضه ابن الرفعة بأن الشافعي رضي الله عنه نص في الأم على التحريم، وقال الأذرعي: الصواب تحريم حلقها جملة لغير علة بها أهـ. وقد نقل الشيخ إسماعيل الأنصاري عن الغزالي والنووي رحمهما الله وغيرهما أنهم قالوا: ونتفها في أول نباتها تشبه بالمرد، ومن المنكرات الكبار (¬2) اهـ. وقال العلامة أبو شامة رحمه الله: وقد حدث قوم يحلقون لحاهم، وهو أشد مما نقل عن المجوس من أنهم كانوا يقصونها (¬3). رابعا: المذهب الحنبلي: نص فقهاء المذهب الحنبلي على تحريم حلق اللحية، ومنهم من صرح بأن المعتمد حرمة حلقها كما قال السفاريني في غذاء الألباب: المعتمد في المذهب حرمة حلق اللحية (¬4) اهـ. ومنهم من صرح بالحرمة ولم يحك خلافا كصاحب الإنصاف. ¬

_ (¬1) أي: النووي والرافعي رحمهما الله. (¬2) رسالة تحريم حلق اللحى (ص7). (¬3) فح الباري (15/ 351). (¬4) غذاء الألباب (1/ 376).

فتاوى بعض العلماء المعاصرين

وقال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى رحمة واسعة: ويحرم حلق لحيته اهـ (¬1). وقال أيضا: يحرم حلق اللحية للأحاديث الصحيحة، ولم يبحه أحد اهـ. وقال في الفروع، بعد أن ذكر حديث ابن عمر: "خالفوا المشركين .. " الحديث: هذه الصيغة عند أصحابنا تقتضي التحريم، وقال صاحب شرح المنتهى: يحرم حلق اللحية اهـ. وممن نص على تحريم حلقها أيضا: صاحب دليل الطالب وصاحب الروض المربع وصاحب كشاف القناع. المذهب الظاهري: قال الإمام ابن حزم رحمه الله في مراتب الإجماع (¬2): واتفقوا أن حلق جميع اللحية مثلة لا تجوز اهـ. وقال أيضا في المحلى (¬3): وَأَمَّا فَرْضُ قَصِّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يُوسُفَ ثنا قَالَ ثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ ثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ ثنا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ ثنا نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ، أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَعْفُوا اللِّحَى».اهـ. فتاوى بعض العلماء المعاصرين ا- قال الشيخ عبد الجليل عيسى في كتابه ما لا يجوز فيه الخلاف بين المسلمين: حلق اللحية حرام عند الجمهور، مكروه عند غيرهم اهـ. ¬

_ (¬1) الاختيارات العلمية (ص6). (¬2) مراتب الإجماع (157). (¬3) المحلي (2/ 220).

2 - وقال الشيخ علي محفوظ رحمه الله في الإبداع في مضار الابتداع: اتفقت المذاهب الأربعة على وجوب توفير اللحية وحرمة حلقها والأخذ القريب منه. وقال بعد أن نقل نصوص المذاهب الأربعة على التحريم: ومما تقدم تعلم أن حرمة حلق اللحية هي دين الله وشرعه الذي لم يشرع لخلقه سواه وأن العمل على غير ذلك سفه وضلالة، أو فسق وجهالة، أو غفلة عن هدى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم اهـ. 3 - وقال الشيخ محمد سلطان المعصومي الخجندي في عقد الجوهر الثمن (¬1): إن حلق اللحية واستئصالها يكره تحريما كما يفعله الإفرنج والمتفرنجة ممن ينتسب إلى الإسلام, وقال بعد سوق أدلته: وذلك مذهب الأئمة الأربعة اهـ. 4 - وقال الشيخ أحمد بن عبد الرحمن البنا الشهير (¬2) بالساعاتي رحمه الله في تعليقه على كتابه: الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد بن حنبل الشيباني: وأما إزالتها بالحلق فهو حرام، وإلى ذلك ذهبت الظاهرية والحنابلة والجمهور اهـ. 5 - وقال محدث الشام الشيخ ناصر الدين الألباني في آداب الزفاف بعد أن ساق أدلة تحريم حلق اللحية: مما لا ريب فيه عند من سلمت فطرته، وحسنت طويته أن كلا من الأدلة السالفة الذكر كاف لإثبات وجوب إعفاء اللحية وحرمة حلقها، فكيف بها مجتمعة اهـ. 6 - وقال الشيخ أبو بكر الجزائري (¬3): وأما اللحية فيوفرها حتى تملأ وجهه وترويه لقوله صلى الله عليه وسلم، «جُزُّوا الشَّوَارِبَ، وَأَرْخُوا اللِّحَى خَالِفُوا الْمَجُوسَ» ¬

_ (¬1) عقد الجور الثمين (ص167). (¬2) هو والد الشيخ حسن البنا رحمه الله. (¬3) منهاج المسلم (ص129).

فتوى في إمامة الحليق للصلاة

وقوله: "خالفوا المشركين, أحفوا الشوارب, واعفوا اللحى" بمعنى وفروها وكثروها، فيحرم بهذا حلقها اهـ. فتوى في إمامة الحليق للصلاة صادرة برقم1640 وتاريخ 7/ 8/1397هـ عن رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية وفيما يلي نص الفتوى: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه وبعد: فقد أطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على السؤال المقدم من .... إلى سماحة الرئيس العام والمحال إليها من الأمانة العامة برقم 257/ 2 وتاريخ 24/ 6/1397هـ. ونصه: رجل حالق لحيته خطيب في الجامع، هل ترون أن نصلي وراءه؟ بينوا تؤجروا. وقد أجابت اللجنة بما يلي: حلق اللحية حرام لما رواه أحمد والبخاري ومسلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ أَحْفُوا الشَّوَارِبَ، وَأَوْفُوا اللِّحَى». ولما رواه أحمد ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جُزُّوا الشَّوَارِبَ، وَأَرْخُوا اللِّحَى خَالِفُوا الْمَجُوسَ». والإصرار على حلقها من الكبائر (¬1) , فيجب نصح حالقها، والإنكار ¬

_ (¬1) لعل وجهه ما رواه ابن جرير والترمذي والنسائي وابن ماجة من طرق عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ، صُقِلَ قَلْبُهُ، فَإِنْ زَادَ، زَادَتْ، فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] ". وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحسن البصري: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب فيموت وكذا قال مجاهد بن جبر وقتادة وابن زيد وغيرهم.

عليه، ويتأكد ذلك إذا كان في مركز قيادي ديني (¬1)، وعلى هذا إذا كان إماما لمسجد ولم ينتصح وجب عزله (¬2) إن تيسر ذلك، ولم تحدث فتنة، وإلا وجبت الصلاة وراء غيره من أهل الصلاح على من تيسر له ذلك زجرا له وانكارا ¬

_ (¬1) لأن الإمامة من الأمانة، ومرتكب معصية حلق اللحية المجاهر بها المصر عليها يدخل حتى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقد أطلق عليه بعض العلماء صفة الفسق لخروجه عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا سيما إذا كان لا يبالي بهذه المعصية، بل ويستصوبها ويستحسنها، ومن لا يتأدب بآداب الشريعة ولا يهتم لأمر دينه كيف يؤتمن على أعظم شعائر الدين؟ وفي تقديمه للإمامة تعظيم له وليس هو من أهل التعظيم، وتقديمه يحمل الناس على الاستهانة بالمعصية والمقصود أن الأولى بالإمامة- مع الشروط المنصوص عليها في السنة- الخيار المتصفون بالهيئة الشرعية ظاهرا، والإمام المصر على هذه المعصية أحرى به أن يتنحى لمن هو أقوم بحدود الشريعة كيلا يقع تحت قوله صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُمْ صَلَاةً، مَنْ تَقَدَّمَ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ" الحديث رواه أبو داود. والاعتبار بالكراهة الدينية الناشئة عن مذموم شرعي قام بالإمام. وقال صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثَةٌ لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ آذَانَهُمْ" وذكر منهم "وَإِمَامُ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ" أخرجه الترمذي. (¬2) ولعل دليله ما رواه أبو داود وسكت عنه هو والمنذري عن السائب بن خلاد: "قَالَ أَحْمَدُ: مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ رَجُلًا أَمَّ قَوْمًا، فَبَصَقَ فِي الْقِبْلَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَرَغَ: «لَا يُصَلِّي لَكُمْ»، فَأَرَادَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُصَلِّيَ لَهُمْ فَمَنَعُوهُ وَأَخْبَرُوهُ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «نَعَمْ»، وَحَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّكَ آذَيْتَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ». أنظر عون المعبود (2/ 149 - 150)

عليه، إن لم يترتب على ذلك فتنة، وان لم يتيسر الصلاة وراء غيره شرعت الصلاة وراءه تحقيقا لمصلحة الجماعة (¬1). وان خيف من الصلاة وراء غيره حدوث فتنة -صلى وراءه درءا للفتنة وارتكابا لأخف الضررين- وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. عضو: عبد الله بن قعود, عبد الله بن غديان نائب رئيس اللجنة: عبدالرزاق عفيفي. الرئيس: عبد العزيز بن عبد الله بن باز ¬

_ (¬1) لأن صلاة الجماعة من أعظم شعائر الإسلام، وضرر هجرة المساجد وتخريب بيوت الله أشد من ضرر الائتمام بمن هذا حاله قال شيخ الإسلام: ليس لهم ترك الجمعة، ونحوها لأجل فسق الإمام، بل عليهم فعل ذلك خلف الإمام وإن كان فاسقا أو مبتدعا، وإن عطلوها لأجل فسق الإمام كانوا من أهل البدع اهـ. قال العلماء: والأصل عدم اشتراط العدالة، وأن كل من صحت صلاته لنفسه صحت إمامته لغيره، وقد تأيد ذلك بفعل الصحابة رضي الله عنهم فقد أخرج البخاري في التاريخ عن عبد الكريم أنه قال: أدركت عشرة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصلون خلف أئمة الجور، ومما يدل على ذلك أيضا حديث مسلم وفيه إذن النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة خلف من يؤخرون الصلاة نافلة بعد أن يصليها لوقتها، لأنهم يؤخرونها عن وقتها، وظاهرة أنهم لو صلوها في وقتها لكان مأمورا بصلاتهم خلفهم فريضة والله أعلم. وقال لشوكاني رحمه الله تعالى: واعلم أن محل النزاع إنما هو في صحة الجماعة خلف من لا عدالة له. وأما أنها مكروهة فلا خلاف في ذلك منا في البحر، وقد أخرج الحاكم في ترجمة مرثد الغنوي عنه صلى الله عليه وسلم «إِنْ سَرَّكُمْ أَنْ تُقْبَلَ صَلَاتُكُمْ، فَلْيَؤُمَّكُمْ خِيَارُكُمْ، فَإِنَّهُمْ وَفْدُكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ» اهـ. من نيل الأوطار (3/ 186 - 187). وهذا الحديث علق عليه الزيلعي في نصب الراية قائلا: رواه الحاكم في المستدرك في كتاب الفضائل (3/ 222) عن يحيى بن يعلى به سندا ومتنا إلا أنه قال: "فليؤمكم خياركم" وسكت عنه، وروى الدارقطني ثم البيهقي في سننهما بسندهما إلى ابْنِ عُمَرَ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْعَلُوا أَئِمَّتَكُمْ خِيَارَكُمْ , فَإِنَّهُمْ وَفْدُكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» اهـ. قال البيهقي: إسناده ضعيف اهـ (2/ 26).

فصل هل ترد شهادة من يحلق لحيته

فصل هل ترد شهادة من يحلق لحيته قال أبو حامد الغزالي في الأحياء: وَرَدَّ عمر بن الخطاب وضي الله عنه، وابن أبي يعلى قاضي المدينة شهادة من كان ينتف لحيته (¬1). وفي الميسر على خليل في الفقه المالكي: أن من تعمد حلقها يؤدب وترد به شهادته. وقد نظمه الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي فقال (¬2) وفي الميسر الشهادة ترد به وتأديب ذوي العمد ورد وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله: وأما فتيا الفاسق فإن أفتى غيره لم تقبل فتواه، وليس للمستفتى أن يستفتيه، وله أن يعمل بفتوى نفسه، ولا يجب عليه أن يفتي غيره، وفي جواز استفتاء مستور الحال وجهان، والصواب جواز استفتائه وإفتائه. قلت: كذلك الفاسق إلا أن يكون معلنا بفسقه داعيا إلى بدعته، فحكم إستفتائه حكم إمامته وشهادته، وهذا يختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة والقدرة والعجز، فالواجب شيء، والواقع شيء، والفقيه من يطبق بين الواقع والواجب، وينفذ الواجب بحسب استطاعته، لا من يلقى العداوة بين الواقع والواجب، فلكل زمان حكم، والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم، وإذا عم الفسوق وغلب على أهل الأرض فلو منعت إمامة الفساق وشهاداتهم وأحكامهم وفتاويهم وولاياتهم لعطلت الأحكام، وفسد نظام ¬

_ (¬1) الأحياء (2/ 257). (¬2) زاد المسلم بحاشيه فتح المنعم (1/ 178).

فتوى في حكم مهنة حلق اللحى

الخلق، وبطلت أكثر الحقوق، ومع هذا فالواجب اعتبار الأصلح فالأصلح، وهذا عند القدرة والاختيار، وأما عند الضرورة والغلبة بالباطل فليس إلا الاصطبار، والقيام بأضعف مراتب الإنكار (¬1) اهـ. فتوى في حكم مهنة حلق اللحى صادرة عن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية: فتوى رقم 3021 وتاريخ 1400/ 6/5 هـ. الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد: فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على السؤال المقدم من ... إلى سماحة الرئيس العام والمحال إليها برقم 446 في 3/ 4/1400هـ ونصه: اسمي ......... مسلم ملتزم مطلق لحيتي أملك صالون حلاقة للرجال، وهذه مهنتي منذ صغري، وليس لي أي مهنة أخرى أستطيع أن أعيش منها، ثم إنني في هذه المهنة أحلق اللحية للزبائن فهل أنا أرتكب وزرا، وما حكم الدين في ذلك؟ وفي هذه المهنة أعمل بالاستشوار لكي أفرد شعر بعض الزبائن فما حكم الدين في ذلك؟ وأجابت بما يلي: أولا: يحرم على المسلم أن يحلق لحيته للأدلة الصحيحة على تحريم حلقها، ويحرم على غيره أن يحلقها له لما في ذلك من التعاون على الإثم، وقد نهى الله عن ذلك بقوله: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وقد صدرت ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين عن رب العالمن (4/ 280).

فتوى من الجنة الدئمة في تحريم حلق اللحية (¬1) فنرسل لك صورتها زيادة في الفائدة. ثانيا: يجوز لك أن تمشط شعر الرجل وتبسطه وتدهنه وتعطره، ولا يجوز لك ذلك بالنسبة للنساء غير محارمك، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإرشاد عضو: عبد الله بن قعود, عبد الله بن غديان نائب رئيس اللجنة: عبد الرزاق عفيفي الرئيس: عبد العزيز بن عبد الله بن باز فتويان للشيخ أبي بكر الجزائري في سؤال مماثل للسابق بسم الله الرحمن الرحيم المدينة المنورة في 3ا/5/ 1400هـ الأولى: أما عن مهنة الحلاقة فالمهنة لا باس بها، وقد حلق أبو طلحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاه أجرا، غير أن حلق لحى الرجال المسلمين منكر، فإن أمكن أن تذكر بحرمة الحلق من ياتيك لذلك ويجلس على كرسي الحلاقة فافعل، ولكن في لطف وبعيدا عن القذف، كما أنه ينبغي أن تسعى من الآن في تغيير العمل واستبداله بآخر لا شبهة فيه، فإن يسر الله لك فافعل ولا تتردد، فإن الورع ترك ما فيه شبهة. ¬

_ (¬1) وهي الفتوى المقدمة ص101.

الثانية: بسم الله الرحمن الرحيم, من أبي بكر الجزائري إلى الابن الصالح المحترم سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد. إعلم أن حلق لحى الرجال المسلمين حرام بلا شك لأن حلق اللحية حرام, والذي يباشر ذلك يباشر محرما، وعليه فإن أمكنك أن تترك هذا العمل فسارع استجابة دلله ورسوله، والله يعوضك خيرا وهو على ذلك قدير، أما ما ذكرت من تسريح الشعر بآلة كذا فذلك أمر لا محذور منه وليس بالممنوع فيما أعلم والله أعلم. إعلم يا بني أن حب الله ورسوله يكلف، وقد أحببت فاعلم أنك ستبتلي فاصبر, جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: إني أحبك قال له: "إذًا فإعد للفقر تجفافا (¬1) -يعني ثوبا غليظا". هذا وأسال لك التوفيق والعافية والخير. آمين في 11/ 4/1400هـ. ¬

_ (¬1) وأصل الحديث عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إني أحبك، قال: أنظر ما تقول، فقال: والله إني لأحبك, ثلاث مرات، قال: إن كنت صادقا فأعد للفقر تجفافا، للفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه" رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب. وقال الألباني في تحقيق المشكاة (رقم 5252). (3/ 145). (واسناده ضعيف، والمتن منكر).

فصل حكم المستهزئ بإعفاء اللحية

فصل حكم المستهزئ بإعفاء اللحية قال الشيخ أبو الفيض أحمد بن الصديق (¬1) وهو يعدد منكرات الممثلين: وكذلك يمثلون ذوي اللحى بإلصاق الشعر واللحى المصطنعة وذلك من حيث وصل الشعر كبيرة ملعون فاعلها كما سبق، ومن حيث السخرية من أهل اللحى كفر وارتداد عن الدين، لأنه ازدراء راجع إلى الشريعة الآمرة بإعفاء اللحى ولمخالفة الكفار في حلقها، إذ الملتحون متمسكون بدينهم وأوامر نبيهم صلى الله عليه وسلم، فالمزدرى بهم لذلك كفر باتفاق أهل الإسلام اهـ. وقال النسفي في متن العقائد: والاستهانة بمسائل الدين كفر، والاستهزاء بمسائل الشريعة أيضا كفر اهـ. وقال الشيخ فالح محمد المالكي في أنجح المساعي: من استخف عامدا بنص ما عن النبي جاء كفرته العلما فليحذر المغرور بالتعصب من فتنته برده قول النبي وقال الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق: الاستهزاء بإعفاء اللحية أو الصلاة أو الحجاب الشرعي للمرأة أو المسجد أو الكعبة أو الرسول هو كفر بالله تبارك وتعالى، فكل ما ينسب إلى الله من أمر ونهي وذات الاستهزاء به والاعتراض عليه كفر ونقص للإيمان، وأعني بالذات ما ينسب إلى الله من شرع كالكعبة والمسجد والمصحف، فالاستهزاء بالمسلم لإسلامه كفر، ولا يتأتى هذا من ¬

_ (¬1) إقامة الدليل على حرمة التمثيل (ص20).

مسلم أبدا (¬1)، قال الله تعالى عن الكفار: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} (¬2) اهـ. والاستهزاء بالمسلم قد يكون لصفة خلقية أو خلقية فهذه معصية ليست كفرا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} (¬3). فإن كان هذا الاستهزاء موجها إلى خلق الله تبارك وتعالى وصنعه فهذا كفر، لأنه من آيات الله عز وجل، وقد يكون الاستهزاء بالمسلم من أجل إسلامه فيستهزأ به لتمسكه بشعيرة من شعائر الإسلام، أو لعمله عملا من أعمال الإيمان، فهنا يتوجه الإستهزاء إلى الدين ويكون هذا العمل كفرا -قال رجل في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء- يقصد بذلك الصحابة- فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم القول، ذهب الرجل يعتذر إليه قائلا: إنما كنا نخوض ونلعب، فنزل قول الله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} (¬4). والاستهزاء بالمسلم لإسلامه كفر لأنه في حقيقته استهزاء بالإسلام وطعن في شرعه وقد قال تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} (¬5) فسماهم كفارا وقال عز وجل: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} (¬6). ¬

_ (¬1) الحد الفاصل بين الإيمان والكفر (ص43). (¬2) المطففين: (29 - 30). (¬3) الحجرات: 11. (¬4) التوية: 64 - 66. (¬5) المطففين: 34. (¬6) البقرة: 212.

ومن هذا القبيل قول مجرمي زماننا هذا عن المؤمنين: إنهم معقدون، رجعيون متزمتون, نسوا حياتهم وضيعوا شبابهم, إلخ. وبهذه المنزلة معاداة المؤمن بسبب تدينه، فإن العداوة إن كانت في أعراض الدنيا بحق فلا شيء فيها وإن كانت بباطل فهي معصية، أما عداوة المسلم ومحاربته بسبب تدينه وتمسكه بالإسلام فهي كفر وصد عن سبيل الله ومحاربة لله تبارك وتعالى، وفي الحديث القدسي: "مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْحَرْبِ" وهذه رواية أبي أمامة وغيره، أما رواية عائشة فهي "فَقَدْ اسْتَحَلَّ مُحَارَبَتِي". ورواية أبي هريرة "مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ"، ومما يستأنس به في هذا المقام ما أخرجه الإمام أحمد في كتاب "الزهد" بإسناده عن وهب بن منبه قال: إن الله تعالى قال لموسى عليه السلام حين كلمه: "اعلم أن من أهان لي وليا أو أخافه فقد بارزني بالمحاربة، وعاداني، وعرض نفسه ودعاني إليها، وإن أسرع شيء إلى نصرة أوليائي، أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي، أو يظن الذي يعاديني أنه يعجزني، أم يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني، وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة، فلا أكل نصرتهم إلى غيري" ذهب العصر الذي شيبنا ... أتى عصر الشباب الملحدين عيرونا أن عبدنا ربنا ... وحفظنا عهده في الحافظين وعدوها لنا رجعية ... جعلوها سبة للمؤمنين للمصلين إذا ما سجدوا ... من حديث السوء ما للصائمين نسخ الأخلاق في شرعتهم ... أنها من ترهات الجامدين إن نقل دين يقولوا فتنة ... هاجها في مصر بعض المفسدين فسد الأمر فهل من مصلح ... أصلحوه يا شباب المسلمن (¬1) ¬

_ (¬1) الاتجاهات الوطنية (2/ 314).

فصل التنبيه على بعض البدع المتعلقة باللحية

فصل التنبيه على بعض البدع المتعلقة باللحية 1 - في أحكام الجنائز وبدعها للألباني ما معناه أن من البدع: إعفاء بعض الرجال لحاهم. أياما قليلة حزنا على ميتهم لا طاعة لله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا مضت عادوا إلى حلقها. وهذا بدعة وضلالة، بجانب أنه في معنى نشر الشعر الوارد في حديث أمرأة ممن بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: كَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَعْرُوفِ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْنَا: أَنْ لَا نَعْصِيَهُ فِيهِ أَنْ لَا نَخْمِشَ وَجْهًا وَلَا نَدْعُوَ وَيْلًا وَلَا نَشُقَّ جَيْبًا وَلَا نَنْشُرَ شَعْرًا " (¬1). 2 - وقال الشيخ محمد عبد السلام الشقيري رحمه الله في السنن والمبتدعات: ومن الجهالة الفاضحة اعتقادهن أن النفساء إذا دخل عليها حالق رأسه أو لحيته أو من يحمل لحما أو بلحا أحمر أو باذنجانا، أو من أتى من الجبانة فإنها (تشاهر بذلك) أي لا ينزل لبنها لولدها، وتتأخر عن مواعيد الحمل, إلى آخر كلامه ص26. 3 - حلق بعضهم شعر العارضين والإبقاء فقط على بعض شعر الذقن حتى لا ترد شهادتهم، زعموا، وهذه سنة سيئة منتشرة في بعض البلاد الإسلامية. 4 - حلق بعضهم لحيته أول نباتها إستعجالا لنموها وإكتمالها وتغزيرا لها. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود ومن طريقه البيهقي وصححه الألباني

5 - تقصيصها وتقصيرها جدا بحيث تكون شريطا رفيعا قريبا من الحلق. 6 - تزين بعضهم بحلقها في الجمع والأعياد والمناسبات. 7 - قال الغزالي في الإحياء: ونتف الفنيكين بدعة، وهما جانبا العنفقة، شهد عند عمر بن عبد العزيز رجل كان ينتف فنيكيه فرد شهادته (¬1) اهـ. ¬

_ (¬1) الإحياء (2/ 257).

لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق

لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ جَيْشًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا (¬1)، فَأَوْقَدَ نَارًا، وَقَالَ (¬2): ادْخُلُوهَا، فَأَرَادَ نَاسٌ أَنْ يَدْخُلُوهَا، وَقَالَ الْآخَرُونَ: إِنَّا قَدْ فَرَرْنَا مِنْهَا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِلَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا: «لَوْ دَخَلْتُمُوهَا لَمْ تَزَالُوا فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، وَقَالَ لِلْآخَرِينَ قَوْلًا حَسَنًا، وَقَالَ: «لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ». أخرجه البخاري ومسلم والسياق له وأبو داود والنسائي وأحمد. وقال إمام المحدثين البخاري رحمه الله: وقال الحسن: إن منعته أمه عن العشاء في الجماعة شفقة لم يطعها (¬3). وقال في الأدب المفرد: باب بر الوالدين ما لم يكن معصية (¬4). وجاء في تفسير قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} (¬5). الإحسان بالوالدين وجب بأمر الله تعالى، فلو ترك العبد عبادة الله تعالى لقول الوالدين لترك طاعة الله تعالى ¬

_ (¬1) وفي رواية: "واستعمل عليهم رجلا من الأنصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا" متفق عليه. (¬2) وفي رواية: "ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا وتطيعوا قالوا بلى. قال فادخلوها" متفق عليه. (¬3) أنظر فتح الباري (2/ 125). (¬4) فضل الله الصمد (1/ 77). (¬5) العنكبوت: 8

فلا ينقاد لما وصاه به فلا يحسن إلى الوالدين- فاتباع العبد أبويه في مخالفة الشرع لأجل الإحسان اليهما يقضي إلى ترك الإحسان إليهما، فترك هذا الإحسان صورة يفضي إلى الإحسان حقيقة (¬1). ثم قال تعالى: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬2) يعني عاقبتكم ومآلكم إلي، وإن كان اليوم مخالطتكم ومجالستكم مع الآباء والأولاد والأقارب والعشائر، ولا شك أن من يعلم أن مجالسته مع واحد خالية منقطعه وحضوره بين يدي غيره دائم غير منقطع لا يترك مراضى من تدوم صحبته لرضا من يتركه في زمان آخر (¬3) اهـ. وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله: إن من أسباب استقامة القلب أن تكون محبة الله تعالى تتقدم عنده على جميع المحاب، فإذا تعارض حب الله تعالى وحب غيره سبق حب الله تعالى حب ما سواه، فرتب على ذلك مقتضاه، وما أسهل هذا بالدعوى، وما أصعبه بالفعل، فعند الإمتحان يكرم المرء أو يهان، وما أكثر ما يقدم العبد ما يحبه هو ويهواه أو يحبه كبيره وأميره وشيخه وأهله على ما يحبه الله تعالى، فهذا لم تتقدم محبة الله تعالى في قلبه جميع المحاب، ولا كانت هي الملكة المؤمرة عليها، وسنة الله تعالى فيمن هذا شأنه أن ينكد عليه محابه وينغصها عليه ولا ينال شيئا منها إلا بنكد وتنغيص، جزاء له على إيثار هواه وهوى من يعظمه من الخلق أو يحبه على محبة الله تعالى، وقد قضى الله تعالى قضاء لا يرد ولا يدفع: أن من أحب شيئا سواه عذب به ولا بد، وأن من خاف غيره سلط عليه، وأن من اشتغل بشيء كان شؤما عليه، ومن آثر عليه غيره لم يبارك فيه، ومن أرضى غيره بسخطه أسخطه عليه ولابد (¬4) اهـ. ¬

_ (¬1) التفسير الكبير (6/ 472) بمعناه. (¬2) لقمان: 15 (¬3) التفسير الكبير. (¬4) الوابل الصيب ص6.

فائدة

فائدة تتعلق بالإكراه على حلق اللحى تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية في الإكراه هل يبيح القول والفعل أو الفعل فقط فانظر الفتاوى الكبرى (1/ 116 - 117) فتوى رقم (104)، وكذا مجموع الفتاوى (1/ 372 - 373). تنبيه طاعة العلماء آكد من طاعة الوالدين قال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى (¬1) في كلامه عن العلماء: هم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض من طاعة الأمهات والأباء بنص الكتاب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء59]. قال ابن عباس في إحدى الروايتين عنه وجابر بن عبد الله والحسن البصري وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح والضحاك ومجاهد في إحدى الروايتن عنه: أولو الأمر: هم العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد (¬2) اهـ. ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين (1/ 9). (¬2) أنظر تفسير الطبري (6/ 149)، تفسير ابن كثير (1/ 518).

المبحث الثاني تبصير أولي الألباب ببدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب

المبحث الثاني تبصير أولي الألباب ببدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب فصل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} الآية [البقرة 208] قال ابن كثير رحمه الله (¬1): يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين به المصدقين برسوله- أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك اهـ. ثم نقل عن ابن عباس وغيره أنهم قالوا (ادخلوا في السلم) يعني: الإسلام، (كافة) يعني: جميعا، وقال مجاهد: أي اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر. وقال الألوسي رحمه الله (¬2): والمعنى: أدخلوا في الإسلام بكليتكم، ولا تدعوا شيئا من ظاهركم وباطنكم إلا والإسلام يستوعبه بحيث لا يبقى مكان لغيره اهـ. وقال أيضا: وقيل: الخطاب للمسلمين الخلص، والمراد من (السلم) شعب الإسلام، و (كافة) حال منه، والمعنى (أدخلوا) أيها المسلمون المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم في شعب الإيمان كلها، ولا تخلوا بشيء من أحكامه اهـ. ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم (1/ 361). (¬2) روح المعاني (2/ 97).

فصل الإرتباط بين الظاهر والباطن

فصل الإرتباط بين الظاهر والباطن وقد تقرر عند العلماء المحققين أن هناك ارتباطا وثيقا بين الظاهر والباطن، وأن للأول تأثيرا في الآخر، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وإن كان ذلك مما قد لا يشعر به الإنسان في نفسه، ولكن قد يراه في غيره. قال شيخ الإسلام رحمه الله وجزاه عن الإسلام وأهله خير الجزاء: وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة، حتى إن الرجلين إذا كانا من بلد واحد ثم اجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودة والمولاة والائتلاف أمر عظيم، وإن كانا في مصرهما لم يكونا متعارفين، أو كانا متهاجرين، وذلك لأن الاشتراك في البلد نوع وصف اختصا به عن بلد الغربة، بل لو اجتمع رجلان في سفر أو بلد غريب، وكانت بينهما مشابهة في العمامة أو الثياب أو الشعر أو المركوب ونحو ذلك من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما، كذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضا لا يألفون غيرهم، حتى إن ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة، إما على الملك وإما على الدين، وتجد الملوك ونحوهم من الرؤساء -وإن تباعدت ديارهم وممالكهم- بينهم مناسبة تورث مشابهة ورعاية من بعضهم لبعض، وهذا كله بموجب الطباع ومقتضاها، إلا أن يمنع من ذلك دين أو غرض خاص، فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة، فكيف بالمشابهة في أمور دينية؟ فإن إفضائها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد، والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان. قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ

اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (¬1). فاخبر سبحانه وتعالى أن لا يوجد مؤمن يود كافرا، فمن واد الكفار فليس بمؤمن، فالمشابهة الظاهرة مظنة المودة فتكون محرمة اهـ. وهذا كله يؤيد أن مخالفة الكفار ليست أمرا تعبديا محضا، بل هو معقول المعنى واضح الحكمة التي وضحها شيخ الإسلام رحمه الله- وقال شيخ الإسلام في موضع آخر: وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ولا بد ارتباط ومناسبة، فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أمورا ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعورا وأحوالا، وقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحكمة التي هي سنته وهي الشرع والمنهاج الذي شرعه له، فكان من هذه الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين، وأمر بمخالفتهم في الهدى الظاهر، وإن لم يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة لأمور: -منها أن المشاركة في الهدى الظاهر تورث تناسبا وتشاكلا بين المتشابهن يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس، فإن اللابس ثياب أهل العلم مثلا يجد من نفسه نوع انضمام إليهم، واللابس لثياب الجند المقاتلة مثلا- يجد من نفسه نوع تخلق باخلاقهم، ويصير طبعه مقتضيا لذلك إلا أن يمنعه من ذلك مانع. - ومنها أن المخالفة في الهدى الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضلال، والانعطاف إلى أهل الهدى والرضوان، وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين، وكلما كان القلب أتم حياة وأعرف بالاسلام الذي هو الإسلام- لست أعني مجرد التوسم به ظاهرا أو باطنا بمجرد الاعتقادات التقليدية من حيث الجملة- كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطنا أو ظاهرا أتم، وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد. ¬

_ (¬1) المجادلة: 22.

تقسيم الدين إلى قشر ولب بدعة عصرية

ومنها: أن مشاركتهم في الهدى الظاهر توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التمييز ظاهرا بين المهديين المرضيين، وبين المغضوب عليهم والضالين، إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية، هذا إذا لم يكن ذلك الهدى الظاهر إلا مباحا محضا لو تجرد عن مشابهتهم، فأما إن كان من موجبات كفرهم فإنه يكون شعبة من شعب الكفر، فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع معاصيهم، فهذا أصل ينبغي أن يتفطن له اهـ. تقسيم الدين إلى قشر ولب بدعة عصرية نبغ في هذا العصر أقوام تلقوا هدى الإسلام من واقع حياتهم أولا، ولم يحيوا في جو علمي يتأثرون به في حكمهم على الأمور، فراحوا يحتجون ببعض النصوص لإثبات عكس ما وضعت له، ويسمون الأشياء بغير اسمها. ويتضح هذا جليا فيمن لا يهتمون ببعض الشرائع الظاهرة التي يسمونها شكليات, أو قشورا, ويدندنون فقط حول التمسك باللباب. وتقسيم الدين إلى قشر ولب تقسيم غير مستساغ، بل هو محدث ودخيل على الفهم الصحيح للكتاب والسنة، ولم يعرفه سلفنا الصالح الذين كل الخير والنجاة في اتباعهم واقتفاء آثارهم {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} (¬1) وهذه القسمة إلى قشر ولب، وظاهر باطن يتبعها المناداة بإهمال الظاهر احتجاجا بصلاح الباطن تلقى رواجا عند المستهترين والمخدوعين. حينما يرون علمائهم يسمون المعاصي بغير اسمها فيقولون لهم -مثلا- إن إعفاء اللحية من سنن العادة، وقد عد بعضهم (عفا الله عنه) إعفاء اللحية وقص الشارب من الأمور العادية التي لا صلة لها بتبليغ الرسالة وبيان الشرع، وعد ذلك من قبيل المندوب بل في ثالث مراتبه بعد السنن المؤكدة وغير المؤكدة، بل قال: ومن أخذ به على أنه جزء من ¬

_ (¬1) النجم: 23.

الدين، أو على أنه أمر مطلوب على وجه الجزم فإنه يبتدع في الدين ما ليس منه (¬1) اهـ. وهؤلاء يكتفون بمثل هذه الدعاوى دون أن يطرقوا الأدلة السابقة، ومن عادة أهل العلم أنه إذا كان في المسالة خلاف بين العلماء فإنهم يقيمون الأدلة الصحيحة على فتواهم، ويجيبون عن أدلة مخالفيهم، وهؤلاء أئمة المذاهب الأربعة وأتباعهم القدامى متفقون على وجوب إعفاء اللحية، وهذا المستهتر الذي يطيح بلحيته مذكور حتى اليوم في كتب الفقه وموصوف بأنه فاسق لا تقبل شهادته، وذلك أن الفاسق هو الذي يعلن على الملأ ارتكابه لأمر حرام. وممن أفتى برد شهادته الشيخ محمد حبيب الله رحمه الله ونص في كتابه فتح المنعم: على منع حلق اللحية، ثم لم يلبث أن حاد عن المنهج العلمي في التحقيق حين قال عقيب ذلك مباشرة: ولما عمت البلوى بحلقها في البلاد المشرقية حتى إن كثيرا من أهل الديانة قلد فيه غيره خوفا من ضحك العامة منه لاعتيادهم (¬2) حلقها في عرفهم (¬3) بحثت غاية البحث عن أصل أخرج عليه جواز حلقها حتى يكون ¬

_ (¬1) أصول الفقه للشيخ محمد أبي زهرة ص (39 - 40) والقول بأن إعفاء اللحية من العادات التي قد تجري بها أعراف الناس باطل، لأن ما تجرى به العادة قسمان: قسم سكت عنه الشارع ولم يتعرض له بوجوب ولا تحريم فهذا مباح لا لوم على فاعله، والثاني: ما أوجبه الشارع وأمر به أو حرمه ونهى عنه. فهذا القسم لما تعرض له الشارع بالإيجاب أو التحريم صار من الدين، وما أكثر الأعمال التي كانت تجرى مجرى العادات قبل البعثة، ثم دخلت في حدود المناهي التي حرمها الشارع فأصبح اجتنابها من الدين كالوشم والتنميص ووصل الشعر والنياحة والميسر وغير ذلك. (¬2) في الأصل: لأعيادهم. (¬3) هذا عرف كاذب يصادم الأدلة الشرعية فلا عبرة به وكان الأولى بالشيخ أن يحث هؤلاء الخواص من الأفاضل فضلا عن غيرهم على الصبر على الدين والقبض على الجمر إظهارا للشرائع، وطاعة الله ورسوله، وإلا فأين تقع النصوص التي تصف غربة الإسلام في آخر الزمان، كقوله صلى الله عليه وسلم: "طوبي للغرباء أناس صالحون في أناس سؤ كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم" رواه الإمام أحمد وابن المبارك بسند صحيح فأين تقع هذه النصوص موقعها من الترغيب إن لم يكن الاستمساك بالنصوص هو التمعين.

لبعض الأفاضل مندوحة عن ارتكاب المحرم باتفاق، فأجريته على القاعدة الأصولية وهي أن صيغة "أفعل" في قول الأكثرين للوجوب، وقيل: للندب، وقيل: للقدر المشترك بين الندب والوجوب، وقيل: بالتفصيل، فإن كانت من الله تعالى في القرآن فهي للوجوب، وإن كانت من النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث هنا على الروايتين وهما رواية: وفروا، ورواية: إعفوا- فهي للندب، وقد أشار إلى هذه الأقوال في صيغة افعل صاحب مراقي السعود في علم الأصول بقوله: وافعل لدى الأكثر للوجوب ... وقيل للندب أو المطلوب وقيل للوجوب أمر الرب ... وأمر من أرسله للندب وهذا القول الأخير هو الذي ينبغي حمل العامة عليه لما عمت البلوى بهذه البدعة الشنيعة وهي في حق العلماء أقبح وأقبح. وغيرهم أولى بالعذر، نسأل الله تعالى التوفيق لاتباع السنة والمحجة البيضاء (¬1) اهـ. وإن تعجب فعجب قول بعضهم (¬2): صحيح أنه لم يقل عن أحد من السلف حلق اللحية، ولعل ذلك لأنه لم تكن بهم حاجة لحلقها وهي عادتهم اهـ. وهذا تعليل ساقط يكفي سقوطه عن رده، وكان الأولي به أن يستدل بعدم حلق أحدهم اللحية على عدم جوازه عندهم، قال الإمام ابن حزم رحمه الله في مراتب الإجماع: واتفقوا أن حلق جميع اللحية مثلة لا تجوز اهـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: يحرم حلق اللحية للأحاديث الصحيحة، ولم يبحه أحد اهـ. بل كان السلف يعظمون اللحية، ويعلون من شأنها كما في قصة قيس بن سعد رضي الله عنهما فقد كان أثطا (أي أمرد لا لحية له) فقالت الأنصار: ¬

_ (¬1) فتح المنعم (1/ 178 - 179). (¬2) الحلال والحرام في الإسلام للقرضاوي.

نعم السيد قيس لبطولته وشهامته ولكن لا لحية له، فوالله لو كانت اللحية تشتري بالدراهم لاشترينا له لحية ليكمل رجلا. وقسمة الدين إلى قشر ولب تؤثر في قلوب العوام أسوأ تأثير، وتورثهم الاستخفاف بالأحكام الظاهرة، وينتج عنها الإخلال بهذه الأمور التي سميت قشورا، فلا تلتفت قلوبهم إليها، فتخلو من أضعف الإيمان ألا وهو الإنكار القلبي الذي هو فرض عين على كل مسلم تجاه المنكرات. ونحن إذا تسامحنا معهم في هذه القسمة إلى قشر ولب، فإننا نلفت أنظارهم إلى أن قياس أمور الدين على الثمار من حيث إن لكل منهما قشرا ولبا، وظاهرا وباطنا، لا يعني أن القشرة التي أوجدها الله للثمرة إنما خلقت عبثا، حاشا وكلا بل لحكمة عظيمة وهي المحافظة على ما دونها وهو اللب نفسه، وهذا يحملنا على أن لا نستهين بالقشر من حيث كونه حارسا أمينا على اللب، وهكذا الشأن في أمور الدين الظاهرة على التفصيل الذي تقدم قريبا من كلام شيخ الإسلام رحمه الله. ومن هذا القبيل تقسيم الدين إلى أصول وفروع، فإن العلماء الذين فعلوا ذلك لا يظن بهم أنهم قصدوا بذلك التقسيم إيجاب الاتفاق على الأصول، ثم التسامح مطلقا في الفروع، كما يظن بعض متفقهة هذا الزمان، فتراهم يميعون كل قضية فرعية بدعوى أن اختلاف الأمة ما دام في الفروع فهو رحمة، وهذا أصل قولهم: (من قلد عالما لقي الله سالما). وهذا بدوره قد أدى ببعضهم إلى اتباع الهوى والترخص دون تحري الدليل، ويلزم من ذلك القول بأن الاتفاق سخط، وهذا ما لا يقوله مسلم، ولو أنهم كانوا يرون أن الخلاف شرا كما قال ابن مسعود رضي الله عنه وغيره بل كما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، لسعوا إلى الاتفاق، ولأمكنهم ذلك في كثير من هذه المسائل المتناقضة التي لا يمكن التوفيق بينها، إلا برر بعضها المخالف للدليل وقبول البعض الآخر الموافق له، وإلا فقد نسبوا إلى الشريعة للتناقص والله عز وجل يقول:

{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (¬1). فإذا كان الاختلاف ليس من الله فكيف يصح جعله شريعة متبعة ورحمة منزلة؟ فالواجب التخلص من الخلاف ما أمكن أو تضييق دائرته عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: "سددوا وقاربوا"، وهذا ممكن في كثير من المسائل بما نصب الله تعالى عليها من الأدلة التي يعرف بها الصواب من الخطأ والحق من الباطل، ثم بعد تحري الدليل والعجز عن التخلص من الخلاف يعذر بعضهم بعضا فيما قد يختلفون فيه (¬2). والذين قسموا الدين إلى قشر ولب استدلوا ببعض النصوص لتبرير ما ذهبوا إليه: منها ما رواه أمير المؤمنين عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى،" [الحديث أخرجه البخاري ومسلم]. ومنها ما رواه النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ " [رواه البخاري ومسلم]. ومنها ما رواه أبو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ». [رواه مسلم]. ¬

_ (¬1) النساء: 82. (¬2) الأحكام في أصول الأحكام لابن حزم. (5/ 64، 67 - 68).

قالوا: فهذه النصوص وأمثالها كثير تدل على أن العبرة بصلاح الباطن وصفاء النية وسلامة القلب. وجواب ذلك أن يقال: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنا ألتزم أنه لا يحتج مبطل بآية أو حديث صحيح على باطله، إلا وفي ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله. وهذه من حكم الله الباهرة وآياته الظاهرة التي تبطل عمل المفسدين. فقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى" لا يدل بأي وجه من وجوه الدلالات على إهدار العمل الظاهر، وعدم اعتباره، ولكنه يرشدنا إلى أحد شرطي العبادة الصحيحة، وهما شرط في الظاهر وشرط في الباطن، فأما شرط الظاهر فأن يكون العمل موافقا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم منافيا للبدع، ودليل هذا الشرط قوله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ " وفي رواية: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»، وأما شرط الباطن فهو إخلاص النية لله عز وجل المنافى للرياء ودليله قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات". وقد جمعها الله تبارك وتعالى في قوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}. وقال الفضيل بن عياض رحمه الله في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} قال أخلصه وأصويه، وقال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا وصوابا، قال: والخالص إذا كان لله عز وجل، والصواب إذا كان على السنة. فالحديث دليل على خطر النية وعظم شأنها، ولا يدل بحال على إسقاط شعائر الإسلام الظاهرة، وقوله صلى الله عليه وسلم "الأعمال بالنيات" تقديره الأعمال الواقعة بالنيات, أو الأعمال حاصلة بالنيات (¬1) , أي الأعمال ¬

_ (¬1) وفي رواية إنما العمل بالنية، (ال) للعهد وليست للاستغراق والشمول يراد منها الأعمال الصالحة.

الاختيارية لا تقع إلا عن قصد من العامل هو سبب وجودها وعملها، ثم يكون قوله: "وإنما لكل أمرئ ما نوى" إخبارا عن حكم الشرع، وهو أن حظ العامل من عمله بنيته فإن كانت صالحة فله أجره، وإن كانت فاسدة فعمله فاسد فعليه وزره. بل في الحديث ما يدل على خطورتها أيضا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك "فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ». فهذا مثل من الأمثال والأعمال التي صورتها في الخارج واحدة ويشترك فيها المؤمنون والمنافقون، ويختلف صلاحها وفسادها باختلاف النيات، فهل يستقيم أن يستنبط إنسان من هذا ذم الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام اعتمادا على صدق النية، ألا يكون تخاذله عن هذه الهجرة من باب أولى أعظم دليل على فساد قلبه وسوء نيته؟! مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: "أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، "أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ "". وما قيمة هذه النية المزعومة إذا لم ينبثق عنها امتثال الأوامر واجتناب المناهي ونظير ذلك نصوص كثيرة تربط بين كافة الشرائع الظاهرة وبين النية وتعلق الفلاح على صلاح النية وصلاح العمل. قال مطرف بن عبد الله: صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاح العمل بصلاح النية. من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ» رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. فقوله صلى الله عليه وسلم "وحسابهم على الله عز وجل يعني أن الشهادتين مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وهي أعمال ظاهرة تعصم دم صاحبها وماله في الدنيا إلا بأن يأتي ما يبيح دمه، وأما في الآخرة فحسابه على الله عز وجل فإن كان صادقا أدخله الله بذلك الجنة، وإن كان كاذبا فإنه من

جملة المنافقين في الدرك الأسفل من النار، وفي بعض روايات مسلم: "ثم تلا: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)}. ومن ذلك ما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن خالد بن الوليد إستاذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل رجل، فقال: " «لَا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي» قَالَ خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ». ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ غَزَا فِي سَبِيلِ اللهِ وَهُوَ لَا يَنْوِي فِي غَزَاتِهِ إِلَّا عِقَالًا فَلَهُ مَا نَوَى" أخرجه الإمام أحمد والنسائي من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ طَلَبَ العِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ العُلَمَاءَ أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ». أخرجه الترمذي من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه. فهذه كلها وأمثالها كثير نصوص تنبه على خطورة الإخلاص واشتراطه في الأعمال الصالحة، وإن القول بإهدار الأعمال الظاهرة قول ساقط يؤدي إلى ضياع الدين واستحلال المحرمات احتجاجا بالنية الصالحة المزعومة، وكذبوا، لو حسنت نياتهم لحسنت أعمالهم وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ" فيه إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه واجتنابه للحرمات وانتقائه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه، فإن كان قلبه سليما ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقى الشبهات حذرا من الوقوع في المحرمات، وإن كان القلب فاسدا قد استولى عليه اتباع الهوى وطلب ما يحبه ولو كرهه الله فسدت

حركات الجوارح كلها وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب، ولهذا يقال: القلب ملك الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، وهم مع هذا جنود طائعون له منبعثون في طاعته وتنفيذ أوامره. لا يخالفونه في شيء من ذلك. والحاصل أنه يمكن الاستدلال على صلاح القلب أو فساده بمدى ما تظهره جنوده من الانقياد لشرائع الإسلام، فلا يتصور قلب صالح عامر بالعلم والإيمان ينضح منه معاندة الشرع، إذ أن الظاهر عنوان الباطن ودليل صلاحه أو فساده. فاللحية مثلا من الجسد الذي هو مرآة القلب فمن استأصلها محتجا بصلاح قلبه كذبه ظاهره، ومن امتثل أوامر الشرع بإعفائها كانت قرينة ظاهرة في الدنيا على امتثاله لشرع الله في الظاهر وحسابه على الله في الآخرة. والله نسال أن يجعل سرائرنا أصلح من ظواهرنا وهو وحده ولي التوفيق. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ". فهو حجة عليهم لا لهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقل "ولكن ينظر إلى قلوبكم" حتى عطف عليها "وأعمالكم" يعني التي تنبثق من تلك القلوب، والتي لا بد أن تكون صالحة موافقة لمرضاة الله عز وجل مرجوا بها وجهه سبحانه. وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (¬1). ولا شك أن هذا الأسلوب في فهم النصوص هو وحده الكفيل بأن يسد الباب في وجه الزنادقة والملاحدة الذين يتحصنون وراء دعوى حسن النية ويرتكبون المخالفات الشرعية {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} (¬2) ويضربون ¬

_ (¬1) الأ نفال: 2 - 4. (¬2) البقرة: 11 - 12.

بالأحكام الظاهرة التي هي شعائر الإسلام وأعظم أركانه كالصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها عرض الحائط دون أن ينكر عليهم منكر وإلا لزم أيضا نسبة التناقض إلى الشرع المنزه حيث تنبني أحكامه على ما يظهره الناس في دار الدنيا ثم تهدر هذه الشرائع بحجة حسن نية ممن أهدروها, وهذا ما لم يفعله المنافقون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا يصلون معه ويحجون معه ويجاهدون معه، وكانوا يتناكحون ويتوارثون مع المسلمين وكان المسلمون يصلون عليهم ويدفنوهم معهم أخذا بما يظهرونه. ثم نقول: أليس الذي نطق بالنصوص التي تدل على أهمية النية هو الذي نطق بالنصوص التي فيها اعتبار الظاهر {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} صلى الله عليه وسلم, وصدق الله تعالى إذ قال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (¬1). وإذا كانت النصوص السابقة قد أسست فكرة الارتباط بين الظاهر والباطن فإن هناك جملة من النصوص قد فصلت هذه الفكرة وأثبتت تاثير كل منهما في الآخر: منها ما رواه النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَوِّي صُفُوفَنَا حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ حَتَّى رَأَى أَنَّا قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ، ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا فَقَامَ، حَتَّى كَادَ يُكَبِّرُ فَرَأَى رَجُلًا بَادِيًا صَدْرُهُ مِنَ الصَّفِّ، فَقَالَ: «عِبَادَ اللهِ لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ». وفي رواية: قلوبكم" أخرجه مسلم وأبو عوانة والراوية الأخرى لأبي داود. فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أن الاختلاف في الظاهر ولو في تسوية الصف مما يوصل إلى اختلاف القلوب، فدل على أن الظاهر له تاثير في الباطن ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن التفرق حتى في جلوس الجماعة، فقد قال جابر بن سمرة رضي الله عنه. ¬

_ (¬1) النساء: 82.

دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ وَهُمْ حِلَقٌ فَقَالَ: «مَالِي أَرَاكُمْ عِزِينَ» (¬1). رواه مسلم وأبو داود. وعن أبي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ، قَالَ: كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلًا - قَالَ عَمْرٌو: كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلًا - تَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ، إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ». فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْزِلًا إِلَّا انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، حَتَّى يُقَالَ: لَوْ بُسِطَ عَلَيْهِمْ ثَوْبٌ لَعَمَّهُمْ. أخرجه أبو داود وابن حبان والحاكم وغيرهم, وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. ومما يقوى اعتبار الظاهر ما تقرر في الشريعة من وجوب مخالفة الكفار وتحريم التشبه بهم وقد مرت أدلته، وما تقرر أيضا من تحريم تشبه الرجال بالنساء والعكس بل توعد فاعل ذلك باللعن وهي من الكبائر، ولا شك أن المشاركة في الظاهر توجب الاختلاط الظاهر بين المؤمنين والكافرين، وهذا مما حرص السلف على تجنبه، وهو واضح من سلوكهم مع أهل الملل من البلاد التي فتحوها، حتى كانوا يشترطون في عقد الذمة ألا يتزيا المشركون بزي المسلمين. وطريق الهدى أن تصلح الظاهر والباطن: نصلح ظاهرنا بإتباع السنة وباطننا بدوام مراقبة الله تعالى ولا ندع العمل الصالح حذر الرياء، ولا نعمله رئاء الناس. والله الموفق. ¬

_ (¬1) عزين: أي متفرقين، جماعة جماعة- ومعناه النهي عن التفرق والأمر بالإجماع.

فصل دعوا السنة تمضي، لا تعرضوا لها بالرأي

فصل دعوا السنة تمضي، لا تعرضوا لها بالرأي يحلو لبعض الناس ممن يتقنون صناعة الشبهات وضرب الأمثال أن يتصدوا لكل داع يبين حكم الشرع في قضايا الفروع سواء تكلم بها ابتداء أو جاءت إجابة لسائل يسال، فيثيرون الاعتراضات العقلية الجدلية معرضين عن الأدلة الشرعية، فيقولون مئلا: المسلمون ينبغي أن تتجه همتهم إلى الأمور الخطيرة التي تهدد كيانهم، ولا ينبغي تضييع الوقت في الدعوة إلى هذه الشكليات، وهل تم تطبيق الإسلام كله حتى لم يبق إلا إعفاء الناس لحاهم حتى يعود مجد الإسلام؟ وهل زالت المنكرات الكبرى التي عمت المجتمع حتى لم يبق إلا حلق اللحية منكرا يجب تغييره؟ والحق أن هذه الشبهات لا تصدر عن صاحب فقه وشرع، وهي شبهات فارغة ساقطة يكفي سقوطها في ردها، ولولا أنها تلبس على بعض الناس أمور دينهم لما التفتنا إليها، ولما تجشمنا الرد عليها: لأن هذا المنطق الكاسد والرأي الفاسد سوف ينسحب بلا قيد على كثير من أحكام الشريعة التي لا توافق الأهواء، بحيث لا يبقى بعد ذلك مجال للدعوة إلى اجتناب المحارم وتعظيم الشعائر، وتصبح الشريعة ألعوبة في يد المنحرفين عن أحكامها، يعظم أحدهم ما يحتقره الأخر والعكس بالعكس، فماذا يبقى من الإسلام بعد تمييع هذا كله؟ هذا وإن أخطار هذا المنهج العليل غير محدودة إذ لا يلبث أصحابه أن ينقلوا التمييع إلى الخلاف في الأصول فماذا يبقى من الإسلام حين يصبح الإنكار في مسائل التوحيد والشرك مثلا أيضا مما يفرق المسلمين؟

ويقولون أيضا: هؤلاء المسلمون المستضعفون يذبحون في بلادهم، والكنيسة الشرقية تتحد مع الكنيسة الغربية للفتك بالمسلمين، واليهود يخططون لاستئصالنا وأنتم تتكلمون في هذه الفرعيات وتثيرون الفرقة والفتنة. والجواب: أن ترك الواجب الشرعي مخافة الفتنة الظنية هو في حد ذاته فتنة {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} (¬1) ولا تكون الفتنة حادثة بسبب التناصح بين المؤمنين بالتي هي أحسن وإنما تحدث من الجدل والعناد مع وضوح الحق وبيان الحجة. إن ما ذكرتموه من إضطهاد المسلمين وضعفهم وتآمر أعدائهم إلخ كل هذا حق ولكنكم أتيتم من خلطكم بين الأمور، فكلامكم قد يكون حقا إذا سلمنا لكم أن التمسك بالفرعيات يتعارض مع مواجهة تآمر الأعداء وجهادهم، والحق أنه لا يلزم التعارض بينهما، إذ إن بيان الحق في الأمور الفرعية لا يتعارض مع جهاد الأعداء إذا كان الهدف هو حقا بيان الحق مع البعيد عن الجدل العقيم وقد واجه الرعيل الأول أخطارا تهدد كيانهم، ولم يحملهم ذلك على ترك الفرعيات وتقرير الحق فيها والزام أنفسهم باللازم منها، ومع ذلك سادوا الأمم، وأسقطوا عروش الكفرة وأقاموا صرح الإيمان شامخا، والذي يفت في عضد المسلمين هو من يجادل في الحق بعدما تبين، ويصر على عدم الانقياد له، ويثير الجدال بشبهات سقيمة، وليس من يدعوهم إلى التمسك بالكتاب والسنة، وإذا كان الكفار مخاطبين بفروع الشريعة على الأرجح (¬2) فكيف بالمسلمين الذين قال الله تعالى في حقهم: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا ¬

_ (¬1) التوية: 49. (¬2) ومن أدلة هذا الترجيح قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} وقوله سبحانه تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}. ومنها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} إلى قوله: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} الآيات. لأن الآية نص في مضاعفة العذاب في حق من جمع بين المحظورات.

دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬1) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} (¬2) دون تفريق بين فروع وأصول, وبين ظاهر وباطن, وبين قشر ولب, وربنا جل وعلا قد أمر المؤمنين بالقيام بما شرعه من دينه -ولو كان من القضايا العلمية التي يسمونها فروعا- في أشد أوقات الكفاح وهو وقت الالتحام المسلح مع الأعداء، في قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} (¬3) الآية. وما يتوهمه هؤلاء المخالفون ما هو إلا نتبجة لتخيلهم أن النسبة بين مواجهة الأعداء والانتصار عليهم, وبين تعلم المسائل الفرعية والتمسك بها وإن دقت؛ إنما هي تباين المقابلة، كتباين النقيضين: كالعدم والوجود، والنفي والإثبات، أو تباين الضدين: كالسواد والبياض، والحركة والسكون، أو تباين المتضائفين: (كالأبوة والبنوة) والفوق والتحت، أو العدم والملكة كالبصر والعمى. فإن الوجود والعدم لا يجتمعان في شيء واحد في وقت واحد من جهة واحدة كذلك الحركة والسكون مثلا، وكذلك الأبوة والبنوة، فكل ذات تثبتت لها الأبوة لذات استحالت عليها البنوة لها، بحيث يكون شسخص أبا وابنا لشخص واحد، كاستحالة اجتماع السواد والبياض في نقطة بسيطة، أو الحركة والسكون في جرم، وكذلك البصر والعمى لا يجتمعان. فتخيل هؤلاء أن مواجهة الأعداء والتمسك بالفروع متباينان تباين مقابلة بحيث يستحيل اجتماعهما، فكان من نتائج ذلك هذه المعارضة المتهافتة. والتحقيق أن النسبة بين الأمرين بالنظر إلى العقل وحده، وقطع النظر عن النصوص النقلية؛ إنما هي تباين المخالفة. ¬

_ (¬1) النور: 51. (¬2) البقرة:208. (¬3) النساء:102.

وضابط المتباينين تباين المخالفة أن تكون حقيقة كل منهما في حد ذاتها تباين حقيقة الآخر ولكنهما يمكن اجتماعهما عقلا في ذات أخرى: كالبياض والبرودة، والكلام والقعود، والسواد والحلاوة. فحقيقة البياض في حد ذاتها تباين حقيقة البرودة، ولكن البياض والبرودة يمكن إجتماعهما في ذات واحدة كالثلج، وكذلك الكلام والقعود، فإن حقيقة الكلام تباين حقيقة القعود، مع إمكان أن يكون الشخص الواحد قاعدا متكلما في وقت واحد، وهكذا فالنسبة بين (جهاد الأعداء. ومواجهة تآمرهم) وبين (الدعوة إلى الفروع والتمسك بها وتعليم الناس) من هذا القبيل، فكما أن الجرم الأبيض يجوز عقلا أن يكون باردا كالثلج، والإنسان القاعد يجوز عقلا أن يكون متكلما، والتمرة السوداء يجوز عقلا أن يكون مذاقها حلوا، فكذلك المتمسك بالفروع يجوز عقلا أن يواجه أعداءه ويجاهدهم إذ لا مانع في حكم العقل من كون المحافظ على أوامر الله واجتناب مناهيه مشتغلا بجهاد أعدائه بكل ما في طاقته كما لا يخفي، وكما عرفه التاريخ لنبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم بإحسان. أما بالنظر إلى أدلة الكتاب والسنة كقوله تعالى {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} (¬1) وقوله عز وجل: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} (¬2) وغير ذلك من النصوص فإن النسبة بين التمسك بالشعائر الإسلامية وبين تنزيل النصر من الله جل وعلا كالنسبة بين الملزوم ولازمه، لأن التمسك بالدين هو ملزوم النصر، بمعنى أن يلزم عليه الانتصار كما صرحت الآيات. وهؤلاء المخالفون أظهروا الناس أن الربط بين الملزوم ولازمه كالتنافي الذي بين النقيضين والضدين، وهؤلاء بدورهم أذعنوا لهم لسذاجتهم وجهلهم، وأنتج ذلك نفرة في قلويهم بمجرد سماع من يتكلم في الفروع إيهاما له بأنه يبطل بذلك الجهاد. هذا وإن من البديهي أن فاقد الشيء لا يعطيه، ولا يستقيم الظل والعود أعوج. والدولة المسلمة لن تقوم إلا على أكتاف أولي العزم الذين يلتزمون بكافة ¬

_ (¬1) الحج:40. (¬2) محمد:7.

أحكام الشرع، ويوافقونها في ظاهرهم هم وباطنهم لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (¬1). والدولة المسلمة ما هي إلا ثمرة حتمية لتمسك جنود الإسلام بكل شرائع دينهم، والدعوة الإسلامية الأمينة على الإسلام لا تساوم على شيء من أحكامه ولكنها تحفظها كلها آداء للأمانة وإعذارا لنفسها أمام الله تبارك وتعالى. ولا شك أن إنكار المنكرات المتعلقة بالنفس -مع فقدان المانع من تغييرها- من أيسر الأمور، فإذا تساهلنا في هذا مختارين، فكيف ننكر على غيرنا؟ وقد أخبرنا الله عز وجل أن مصدر الخيرية لهذه الأمة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (¬2) وأخبر أن من أسباب ضعف المجتمع ترك التناهي عن المنكرات والأمر بالمعروف فقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (¬3) وتوعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصيبنا ما أصابهم إذا فعلنا مثل فعلهم وقد عاقب الله من ضيع حظا من شريعته في قوله تعالى: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (¬4)، ودلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المخرج من فتنة الافتراق بقوله: "فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَهٌ ". فالمسلمون إذا نزلت بهم مخمصة وشدة فإن من أسباب جلاء الغمة عنهم ¬

_ (¬1) الرعد: 11. (¬2) آل عمران: 110. (¬3) المائدة: 78، 79. (¬4) المائدة: 14.

المزيد من التمسك بالسنن والبراءة من البدع وليس مهادنة أهل البدع، وتثبيط الدعاة إلى السنن. قياس فاسد ومن أقيستهم العقلية الفاسدة التي يلبسون بها على العوام قولهم: إنما مثل من يتكلم في هذه الفرعيات والأعداء محدقون بنا كمثل رجل قائم على الشاطىء، وشخص يعالج الأمواج يوشك أن يغرق وقد بدا شيء من عورته، فيهتف الأول بالثاني منكرا عليه ما ظهر من عورته غير مبال بالخطر المحدق به والذي يودي بحياته. وجواب هذا أن يقال: أنتم تقيسون فرعا على أصل ليس بينهما أي تماثل والأصل المقيس عليه حالة ضرورة فلا شك يقدم دفع الضرر الأكبر الذي هو تلف النفس على المنكر الأصغر الذي هو بدو شيء من العورة، فكذا إذا دهمنا الأعداء ننفر جميعا لمواجهتهم دون التفات إلى خلافات فرعية إنشغالا بالمنكر الأكبر. أما الفرع المقيس وهو وضع مجتمعاتنا في هذا الزمان فلا شك أنه في بلادنا -على الأقل- دون حالة الضرورة التي فيها تتلف الأنفس والأديان ويهلك الحرث والنسل وينفر المسلمون نفيرا عاما بما فيهم الشيوخ والنساء ... وقد يستنكر هذا الكلام لأول وهلة، أو يساء الظن بقائله، ولكني آتي بالدليل عليه من واقع حياة المعترضين أنفسهم فأقول: هل واقع حياتكم مثل واقع رجل يلقى بنفسه في المخاضة ولا يلوي على شيء لينقذ غريقا يصارع الأمواج ويوشك على الغرق؟ وهل هو واقع قوم أتاهم النذير ونودي فيهم بالنفير العام؟ لماذا إذن تحيون حياة رتيبة هنيئة تتمتعون فيها بالحاجيات بل الكماليات والتحسينات تطعمون الفواكه، وتتنعمون في الفرش، وتتنزهون في المتنزهات، وكل هذا لا ينكر عليكم ولا تستنكرونه من غيركم.

{أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير}

فلماذا إذن تضعون العوائق في طريق السنة، وتضربون لها الأمثال، وتجهدون عقولكم في استخراج أمثال هذه الأقيسة العقلية الفاسدة، أفكانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهون عليكم من هذه التفاهات الدنيوية؟! أفلا يردعكم عن هذا التثبيط قول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: "دعوا السنة تمضي، لا تعرضوا لها بالرأي"؟ ولا قول سفيان: "استوصوا بأهل السنة خيرا، فإنهم غرباء". ولماذا لا تصرفون جهدكم إلى محاربة المعاندين للسنة المجادلين بغير الحق عن البدع؟ لقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا هو أصدق من قياساتكم الفاسدة حين قال: " مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ، وَالْمُدَّهِنِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فِي الْبَحْرِ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، وَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا يَصْعَدُونَ، فَيَسْتَقُونَ الْمَاءَ، فَيَصُبُّونَ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلَاهَا، فَقَالَ الَّذِينَ فِي أَعْلَاهَا: لَا نَدَعُكُمْ تَصْعَدُونَ، فَتُؤْذُونَنَا، فَقَالَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا: فَإِنَّنَا نَنْقُبُهَا مِنْ أَسْفَلِهَا، فَنَسْتَقِي " قَالَ: " فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ، فَمَنَعُوهُمْ، نَجَوْا جَمِيعًا، وَإِنْ تَرَكُوهُمْ غَرِقُوا جَمِيعًا " أخرجه البخاري وأحمد والترمذي من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما فالسكوت على المنكرات سواء في فروع أو أصول ظاهر، أو باطن سبب من أسباب نزول العقوبات العامة وعموم الفتنة والعذاب. {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} قال الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (¬1). وقال عز وجل: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} (¬2). ¬

_ (¬1) التين: 4. (¬2) البقرة: 138.

وقال سبحانه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (¬1) الآية. فلا شك أن خلق الإنسان على هذه الصورة هو من {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (¬2) وهو من حسن صنع الله جل وعلا، فلا يمكن أن يكون خلق الرجل بلحية يأمره الشرع بإعفائها خطأ من الله سبحانه وتعالى وتقدس حاشا وكلا ... وهذا الرجل الذي يعبث بخلق الله ويستأصل لحيته لا ننتظر منه أن يكذب هذه النصوص التي أمر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحى، ولا نتوقع منه أيضا أن يجهر بقوله: هذا خطأ من الله تعالى وتقدس، وكان الأحسن أن يخلق الرجل بغير لحية. فهذا لا يقوله إلا كافر ملحد. لكن الحقيقة أن استقباح ما استحسنه الشارع واستحسان ما استقبحه يصدر من بعض هؤلاء بلسان الحال الذي هو أنطق من لسان المقال في كثير من الأحيان. فانت إذا كنت تتخذ ثوبا حسنا هل ترمي به أرضا ثم تتخذ مكانه الثوب القبيح الممزق؟ لا شك أن هذا خلاف الفطرة والعقل السليم. فمن كان يستحسن بقلبه ما وصفه الله بأنه {أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} هل يعمد مختارا إلي هذا الوصف الحسن فيزيله ويطيح به أرضا ويتشبه في ذلك بالكفار الذين استحسنوا هذه المعصية؟ قال يقال: نعم قد يصدر هذا من المسلم الذي يستحسن إعفاء اللحية ْبقلبه، ولكنه لا يستحل حلقها ويشعر أنه آثم بحلقها فما هو إلا عاص من عصاة المسلمن. نقول: حقا قد يصدر من المسلم عمل الكفار ولكن لا يشاركهم في اعتقادهم باستحسان هذا الفعل، فالمسلم مثلا إذا تزيا بالزي الأوروبي وهو يتحسر على ذلك ويقول في نفسه: لا حول ولا قوة إلا بالله، اضطررت لمسايرة الناس، لعل الله يعافينا من هذا. وهكذا هذا كفر عملي كسائر المعاصي لأنه لم يشاركهم في استحسان ما ¬

_ (¬1) الإسراء: 70. (¬2) النمل: 88.

أستقبحه الشرع وإن شاركهم في الظاهر، فهذا مسلم له ما لنا وعليه ما علينا، ولكنه إذا واظب على هذه العادات الأجنبية الكافرة فالغالب أنه مع الزمان يموت في قلبه ذلك الإحساس بالإثم ثم يقع في استحسان هدى الكفار واستقباح هدى سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وأخبرني بربك عن قوم يتزينون بحلق لحاهم ويستحي أحدهم أن يظهر في المحافل والجمع والأعياد وقد طالت لحيته شيئا يسيرا، ثم يهنىء بعضهم بعضا بهذه المعصية قائلا نعيما. ومنهم من يصف إعفاء اللحية بانه قذارة، كبرت كلمة تخرج من أفواههم ... كم شخصا منهم حينما يمر الموسى على لحيته يقول: أعوذ بالله من هذا العمل، لعل الله يتوب علي منه؟ لا شك أن هذا الشعور قد مات مع الزمن، ولا يشفع لهم فتاوى تصدر من بعض المنتسبين إلى العلم تبيح لهم هذه المعصية، يسمونها لهم بغير اسمها، ويقولون هي سنن عادة لا عبادة، كيف والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "عشر من الفطرة". ويذكر فيها "إعفاء اللحى"، ويقول ربنا تبارك وتعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (¬1). ترى هل يحس هؤلاء بصدى قوله صلى الله عليه وسلم: "خير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم"، كيف يتذوقون هذا وقد أشربت قلوبهم حب هدى الكفار وتعظيمهم واستحسان جميع أحوالهم والنظر إليهم على أنهم القدوة والمثل الأعلى، فقلدوهم في كل شيء حتى أصبحوا يجهلون من دينهم كل شيء، وتدرجوا في الإنسلاخ من الإسلام شيئا فشيئا فلم يبق لهم إلا ¬

_ (¬1) الروم: 30.

الإسم، وسلبوا أعظم أسباب القوة وهي الاعتزاز بكتاب ربهم وهدى نبيهم صلى الله عليه وسلم (¬1). ترى أين هم من موقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي روى الحاكم من طريق بن شهاب: "خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى الشَّامِ وَمَعَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فَأَتَوْا عَلَى مَخَاضَةٍ وَعُمَرُ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ فَنَزَلَ عَنْهَا وَخَلَعَ خُفَّيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَلَى عَاتِقِهِ، وَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ فَخَاضَ بِهَا الْمَخَاضَةَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْتَ تَفْعَلُ هَذَا، تَخْلَعُ خُفَّيْكَ وَتَضَعُهُمَا عَلَى عَاتِقِكَ، وَتَأْخُذُ بِزِمَامِ نَاقَتِكَ، وَتَخُوضُ بِهَا الْمَخَاضَةَ؟ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ اسْتَشْرَفُوكَ، فَقَالَ عُمَرُ: «أَوَّهْ لَمْ يَقُلْ ذَا غَيْرُكَ أَبَا عُبَيْدَةَ جَعَلْتُهُ نَكَالًا لَأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ فَأَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ فَمَهْمَا نَطْلُبُ الْعِزَّةَ بِغَيْرِ مَا أَعَزَّنَا اللَّهُ بِهِ أَذَلَّنَا اللَّهُ». قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وقال الألباني: وهو كما قالا. وفي رواية للحاكم: "يا أمير المؤمنين، تلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على حالك هذه؟ فقال عمر. إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلق نبتغي العز بغيره". ¬

_ (¬1) وهم يستحسنون القبائح إذا فعلها الأوروبيون وأذنابهم من أهل الفن مثلا، ويستقبحون المحاسن إذا استقبحها الأوروبيون الكفرة، وقد بلغ ولوعهم بسمت الكفار، أنهم يحرصون على ارتداء الزي الأوروبي ويتجشمون المشاق للمحافظة على هذه السنة، حينا يعقدون رباط العنق، أو يرتدون السروال الضيق المؤذي، أو يلتزمون هذا الزي في وقت الحر الشديد في المناسبات والوظائف الرسمية اقتداء بهدى الكفار، ومن مظاهر هذا الافتتان ما قاله بعضهم ناصحا شخصا كتب رسالة في تحريم حلق اللحية وانتهج فيها منهج بيان الأدلة الشرعية بأنه لو سلك في رسالته هذه طريقة غير هذه الطريقة لكان ذلك أولى وأجدر أن يعمل بمقتضاها، وذكر أن هذه الطريقة المثلى هي أن يذكر أن العالم الأوربي الذي يعرف بكذا كان يعفي لحيته، وأن الدكتور كذا كان يستحسن إعفاء اللحية. فانظر رحمك الله؛ هل هذه العقول المنتكسة يمكن التعويل عليها في إصلاح دين أو دنيا.

خاتمة في الحث على الرفق في النصيحة

خاتمة في الحث على الرفق في النصيحة اعلم يا أخي المسلم, أرشدني الله وإياك إلى ما فيه رضاه: أن الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر لا ينبغي له أن يعدل عن الرفق والتعريف إلى الشدة والتعنيف ما وجد إلى ذلك سبيلا، وقد أرسل ربنا عز وجل كليمه موسى وهارون صلى الله عليهما وعلى نبينا وسلم إلى شر الناس فرعون لعنه الله فقال عز وجل: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} هذا مع أنه هو الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}، وقال: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} كما حكى عنه ربنا سبحانه وتعالى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ» (¬1) وقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ " (¬2) وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ، يُحْرَمِ الْخَيْرَ» (¬3) وقال صلى الله عليه وسلم «بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا» (¬4). ومن أحق الناس بحسن الصحبة والرفق الوالدان قال تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} وسئل الحسن البصري رحمه الله عن الولد، كيف ينكر على والده؟ فقال: يعظه ما لم يغضب، فإذا غضب سكت عنه (¬5). وفي بعض الآثار: إن من حق الوالد على ولده أن يخشع له عند الغضب (¬6) فالولد لا ¬

_ (¬1) عليه. (¬2) و (¬3) رواهما مسلم. (¬4) متفق عليه. (¬5) الأمر بالمعروف للبيانوني ص50 - 51. (¬6) رواه ابن عساكر من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنطر "بر الوالدين" الغماري ص 78.

يجوز له أن ينكر على والديه إلا في حدود مرتبتي التعريف، ثم الوعظ بالنصح اللطيف، ولا يتجاوزهما بحال إلى مرتبتي السب والتعنيف أو التهديد بالضرب والتخريف، وعلى الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر أن يتفقه في هذه العبادة العظيمة قبل ممارستها وذلك بتعلم فضائلها ومراتبها وآدابها وقواعدها، وهذا آخر ما تيسر جمعه من مسائل هذا البحث أسال الله أن ينفع به أهل السنة والإيمان ويقمع به أهل البدعة والطغيان، وأن يتقبله منا ويجعله خالصا لوجهه الكريم. وجزى الله خيرا كل من نظر فيه بعين الإنصاف، ونصح لله ولرسوله وللمسلمين، فاستدرك علينا ما لا بد من ركوبه من زلل فقد أبى الله العصمة إلا لكتابة قال عز وجل: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} والحمد لله الذي تتم بجلاله ونعمته الصالحات، وعلى نبيه ورسوله سيدنا محمد أفضل الصلوات وأكرم التحيات. وكان الفراغ من تهذيبه وترتيبه ونسخه في يوم السبت الثامن والعشرين من المحرم سنة 1401هـ الموافق السادس من ديسمبر 1980م.

§1/1