أدب النفس

الترمذي، الحكيم

بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال الشيخ الإمام العارف، أبو عبد الله أبو عبد الله محمد بن علي الحكيم الترمذي، رحمه الله تعالى: إن الله أنشأ خلقه لإظهار ربوبيته، ولبروز آثار قدرته، وتدبير حكمته، وليكون ذكره ومدحه مرددا على القلوب، وعلى ألسنة الخلق والخليقة، لما علم في غيبه، فأنبأنا في تنزيله، فقال جل ذكره: (وخلق الله السموات والأرض بالحق، ولتجزي كل نفس بما كسبت)، فأعلمنا لم خلق، فقال: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). فقال أهل اللغة: إلا ليوحدون، ومثل ذلك قوله تعالى: (إياك نعبد) يعني نوحد، لأن في

توحيدهم إياه بأن لا إله إلا هو، إقرار له بالملك والقدرة، وإضافة الأشياء إليه. فهذه الكلمة تنتظم المدح، وأباح ذكره على كل حال، تقديماً له على سائر الحالات وأعمال البر، وحصر ما سواه من الأفعال في أوقات مخصوصة، مع ما ذكر في الكتاب، وجرت به الأخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم، بتفصيل الذكر على سائر الطاعات، لأن في الذكر مدحه، وجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أحد أحب إليه العذر من الله تعالى، ولا أحد أحب إليه المدح من الله تعالى جده). حدثنا بذلك الجارود، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ليس أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل، من أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله عز وجل؛ ومن أجل ذلك حرم الفواحش)،

وندب العباد في غير آية من كتابه إلى أن ينشروا ذكره، ويذكروا عنه جميل صنائعه، فقال تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها). في كل ذلك يحثهم على مدحه وذكره بالجميل والثناء الحسن، وفي كل أسم له مدحه، وجميل ذكره، ودعاهم إلى توحيده، فقال: (لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد). وقال: (وما أرسلناك من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) أي وحدون، لأنك لا تكون له عبداً حتى يكون لك رباً لا شريك له، فمن أشرك به خرج من نظام التوحيد، فهو وإن كان

له عبداً من طريق الملك، فالعبد بنفسه لم يصير نفسه عبداً، فيكون قد وحده وعبده، وإنما أطاعه لأن الله تعالى أمره أن يطيع، فأطاعه مولاه بأمر الله تعالى، فمن أطاع بأمر الله فهو مطيع لله، ثم إن الله تعالى دعاهم إلى أن يوحدوه قلباً وقولاً وفعلاً، فمن قبل ذلك منه جملة، فاستقرت المعرفة بأنه واحد، فاطمأن به قلبه، وترجم به لسانه عما في ضميره، وعزم على الفعل مائلاً له، فقد آمن به. وهذا كله من العبد في وقت واحد، فركب فيه الشهوات والهوى، وجعل للشياطين فيهم وساوس يجرون فيه مجرى الدم، ويغوصون غوص النون في البحر، وجعل القلب ملكاً على الجوارح، فالشهوة تحرك البدن الساكن، وتزعج القلب، والشيطان يمنيه له ويعده، والهوى يميل به ويقوده، فالمؤمن قلبه مطمئن بالإيمان، والتوحيد ظاهر على لسانه،

فإذا جاء وقت فعل الأركان عمل فيه الشهوات، وزين له العدو، وماله به الهوى، حتى يفعل الفعل الذي يخيل إليك في الظاهر أنه لم يؤمن بعهد، فهو موحد بالقلب واللسان، ولكن لغلبة الشهوة وقوتها، فبظلمة هذا الهوى، ووسوسة هذا العود والتزين، غلب على القلب لا على ما في القلب، مما في القلب من المعرفة، فالقلب به مطمئن، ولكن صار مأسوراً مقهوراً، وهو أبداً لمن غلب عليه وقهره. فخلق اللوح، وجرى القلم بمقادير الخلق، وخلق السموات والأرض، والظالمات والنور، والليل والنهار، والملائكة، والجنة والنار، والجن والشياطين، والجبال والبحار، والدواب والأقوات والمعايش، وسائر الخليقة. ثم خلق آدم عليه السلام، فاصطفاه، وجعله بديع فطرته، وأسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء، وأبان فضله وكرم بنيه، وحملهم في البر والبحر، وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً، وسخر له ولذريته ما في السموات والأرض

واستخرج ذريته من ظهره، وأخذ عليهم الميثاق، ثم ردهم إلى صلبه، ثم نقلهم من الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى دار الدنيا ليعبدوه، وليوفوا له بما عهد إليهم يوم الميثاق، بأن لا يشركوا به شيئاً، إلى آجالهم التي كتبها في المقادير، إلى أن تنقضي مدة الدنيا، فيبعثهم للجزاء، وتبديل الأرض غير الأرض والسموات، وبرزوا لله الواحد القهار، وليجزي كل نفس بما كسبت، ليكونوا فريقين، فريقاً في الجنة، وفريقاً في السعير. فمن نوّر الله قلبه بالإيمان قويت معرفته، واستنارت بنور اليقين، فاستقام به قلبه، واطمأنت به نفسه، وسكنت ووثقت وأيقنت، وأتمنته على نفسها، فرضيت لها به وكيلاً، وتركت التدبير عليه، فإن وسوس له عدو بالرزق والمعايش، لم يضطرب قلبه ولم يتحير، لأنه قد عرف ربه معرفة أنه قريب، وأنه لا يغفل ولا ينسى، وأنه رءوف رحيم، وأنه رب غفور رحيم، وأنه عدل

لا يجوز، وأنه عزيز لا تمتنع منه الأشياء، وأنه يجير ولا يجار عليه، فكما خلقه محتاجاً مضطراً، فإنه سيوصله إليه من حيث يريد الرب تبارك وتعالى، لا من حيث يريد العبد، على الهيئة التي يريد الرب، لا على الهيئة التي يريد العبد، وبمقدار ما يريد الرب، لا بمقدار ما يريد العبد، وفي الوقت الذي يريد الرب، لا في الوقت الذي يريد العبد؛ فعامة أهل التوحيد قد أيقنوا بهذا، إيماناً به، وقبولاً له، ولم يستقر ذلك الإيمان في قلوبهم، حتى إذا كان وقت، الحاجة اضطربت قلوبهم وتحيرت، واشتغلت عن خالق الأشياء، ومالك الملوك، وأهل اليقين الذين قد استنار الإيمان في قلوبهم، سكنت القلوب، واطمأنت النفوس إلى ضمان ربها، وقربه منهم، وقدرته عليهم.

فهذا شأن الرزق والمعاش. وفوضوا أمورهم فيما سوى المعاش إليه، واتخذوه وكيلاً، لأنهم لما عرفوا بأنه رءوف رحيم منهم بأنفسهم، وأحق وأولى بأنفسهم من العبيد بأنفسهم، لأنه خلقهم فصورهم، وركبهم وأحسن تقويمهم، وسوى تعديلهم، فلم يكن لهم بأنفسهم من العلم والتدبير ما دبر لهم، وعرفه ملكاً قادراً قاهراً، يفعل ما يشاء، قد سبق علمه فيهم، بما يكون فيهم ولهم وعليهم، وجرى مع سابق العلم لهم بذلك قلمه في اللوح المحفوظ، ليكون أوكد في قلوب العباد، لأن سابق العلم غائب عن القلوب لا يدري كنفسه، واللوح قد خط بالقلم فيه أمر محدود، وشخص مخلوق، ويدرك بالقلوب معاينة، فما عاين القلب وأدركه أثبت عندهم مما لا تعاينه القلوب، ولا يمكن توهمه، فخلق اللوح وأثبت مقاديرهم فيه، لا لحاجة به إلى ذلك، وليكون أثبت على القلوب، لتسكن النفوس وتستقر على ما جرى القلم به، فإذا سكنت النفوس، تفرغت القلوب لعبادته، وحفظ حدوده، وإقامة أموره، وسقطت أشغال النفوس عن القلوب

فيما يراد بها، وما يكون وما يحدث، لأنها قد أيست عن أن يكون غير ما جرى به القلم، وعند الإياس تسكن النفوس، وإنما دعانا إلى أن بعبده، ونقيم حدوده، ونقيم فرائضه، ونتجنب مساخطه، ولنا قلب واحد، فأثبت في اللوح أرزاقنا وسعينا، وآثارنا وأحداثنا، ومدة آجالنا، وعامة أمورنا، لتطمئن النفوس، وتخلص القلوب من وساوسها، فتبده بفراغ، وكل ذلك منه رحمة علينا، وبين ذلك في تنزيله، فقال تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها)، أي من قبل أن نخلق تلك المصيبة، ثم بين لم فعل ذلك، فقال: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم). فإن التأسي على الشيء الذي لم يقدر لك في اللوح هو استبداد وطلب ما ليس لك، والفرح بما آتاك يلهيك ويشغلك عن المعطي، حتى تأشر وتبطر بما تعطى، فتهلك،

وإنما المبتغى منك في ذلك أن تلهو عن الغائب، وتفرح في الوجود الذي أتاك بالأهل الذي أتاك، ثم بفضله ورحمته عليك، وإلى هذا ندبك فقال: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا، هو خير مما يجمعون). وقال تعالى في شأن الرزق: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، كل في كتاب مبين). ثم قال تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين). أي من يأكل تلك الحبة ومن يرزقها. فان اضطربت نفسه على ضمانه لقلة اليقين وغلبة الهوى وحرارة الشهوات، خاطب نفسه فقال: يا أيتها

النفس لم تضطربين؟ قالت: لأني محتاجة، وخلقت مضطرة، ذات شهوات، لا أبصر أمكنة الأشياء، ولا أعرف أوقاتها، ولا أعلم مقدارها، واشتبهت على كيفية أسباب وصولها إلي. فقال لها: أيتها النفس، إن كنت قد آمنت بربك، فحقيق عليك أن يكون كلام رب العالمين ووعده وضمانه وتكليفه، أثبت عندك وأوكد وأقوى من الذي تبصرينه على المشاهدة، لأن البصر ربما أخطأ، وربما كان مسحوراً، يرى أنه كذلك وليس كذلك، وقول رب العالمين أصدق وأبر، وأوفى وأثبت من بصرك بعينك، فلو أبصرت الشيء الذي يحويه ملكك اطمأننت وسكنت، فكيف لا يكون بضمانه أشد طمأنينة، أرأيت لو كان لك ديوان فيه غرماء ملاء أسماؤهم، مكتوب فيه: على فلان ألف درهم، وعلى فلان ألف دينار، وعلى فلان عشرة آلاف درهم، أكنت تطمئنين؟ فإن وجدتها قد طابت وسكن اضطرابها لما وجدت في الديوان من أسماء هؤلاء، وهم أهل صدق ووفاء، فأنشر

عليها ديوان رب العالمين، وهو القرآن المجيد المنسوخ في اللوح المحفوظ، تنزيل من الرحمن الرحيم، نزل به الروح الأمين، على قلب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، رسول رب العالمين، فقلب أوراقه، حتى تقف بها على آية الرزق، حيث يقول تعالى: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها). ثم قال لها: أيتها النفس المطمئنة، وجدت في ديوانك على هؤلاء الغارمين ما وجدت، وفرحت وأمنت الفقر فطبت، فهذا في المصحف قوله: (على الله رزقها). أهذا أعظم شأناً، وأصدق وأبر وأوفى، أم الذي وجدت في ديوانك؟ أما تستحين أن تلقى ربك بهذه الحالة، ولكني قد فهمت لم اضطربت بعد أن أيقنت بضمان ربك، إنك ذات شهوات، فيك شهوة العز، فأنت تهربين من الذل، وفيك شهوة ألوان الطعام، فأنت تهربين من البؤس، فيك شهوة إدراك المنى، فأنت تهربين من فوتها.

وإنما تضطربين لأنك أردت أن يكون رزقك في وقت، وأراد بك في وقت آخر، واشتهيت أن يكون على صفة، وأراد ربك غير ذلك، وأردت من وجهه راحة، وأراد ربك من وجه تتعبين فيه، وأردت كثيراً، وأراد ربك أقل من ذلك، فأصبحت وأمسيت مخالفة لربك في مشيئاته وإرادته، فحملك ذلك على الشهوة، حتى غلبتك، فرمتك في أودية المهالك، فأقبلت بهلعك وجزعك على حطام الدنيا، من سبيل الخبائث والأقذار والشبهات والأوساخ، لسكون نفسك به، ثم منعت حقوق الله فيه من ظاهر الأحكام، فقطعت الأرحام، وباغضت العباد، واستخفت بحقوق المسلمين والمؤمنين، وهربت من إنصافهم، وجفوت أهل الحرمة، فأصبحت وأمسيت ظلوماً غشوماً، ووعيد الله ينادي في سمعك قوله تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً، وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها، وكفى بنا حاسبين).

فهل تعرف مقدار الخردلة من الظلم ما هو، وكيف يكون؟ لو نجع فيك هذا الوعيد لطارت منك الشهوات، ومات منك الهوى. فأهل الفهم راضوا أنفسهم وتدبروا، فقالوا: كيف كيف لنا بأن لا نأسى على ما يفوتنا من الدنيا، وتمنوا إليه حاجة، وطلبوا من أين يدخل الضرر عليهم، فوجدوا أنهم لما عارضتهم الحوائج في أنفسهم، تحدثوا بها وتمنوها، وطلبوها على التملك والاقتدار، وأطعموا أنفسهم في إصابتها، فلما فاتهم، وجدوا الأسى والحزن على فوت ذلك؛ ففهموا أن هذا إنما دخل عليهم من أجل أنهم تمنوها، وأطعموا أنفسهم في إصابتها، فوجدت النفس حلاوة وجودها، وقوى الهوى، فراضوا أنفسهم بترك الشهوات، وقطع المنى، فخمدت نيران شهواتهم، ففارقوا الهوى جهدهم، لمجاهدتهم إياه، حتى ذلل وأنقمع، وكلما بدا لهم أمر، أو خطر ببالهم، لم يتمنوا ولا أطمعوا أنفسهم، وانتظروا ما يبرز لهم من المسطور في اللوح السابق قبل خلق السموات، فسلموا لربهم، وانقادوا لحكمته كالعبيد،

فعاشوا في الدنيا بأرفع درجة، وأكرم منزلة عند أنفسهم، وأنعم بال وأقر عين بهذا الدين، وماتوا بروح وريحان، ولقوا ربا غير غضبان، ورضوا عن مولاهم، فرضى عنهم، فأيدهم في الدنيا بروح منه، وفي الآخرة قربهم ولطف منهم، (أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون). أولئك (أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون). استنارت قلوبهم باليقين، فصارت أمورهم في نوائبه كالمعاينة، كلما حل بهم أمر من عسر أو يسر، أو خوف أو أمن، أو ذل أو عز، أو بلاء أو نعمة، حرقت أبصار قلوبهم، فأبصرت في لحظة أن هذا الأمر قد كان في اللوح المحفوظ كما برز لنا الآن، وهو حكم الله علينا، لم يكن فيهم من الشهوات ولا من الهوى من القوة ما يثقل عليهم قبوله من ربهم، وتلقوا أمره بالهشاشة وطلاقة النفس وبشر

الوجوه، فهم الراضون والصابرون، قبلوا على كره من نفوسهم وجهد، لأن شهواتهم حية قوية في نفوسهم، ويقينهم ضعيف، لم يبصروا اختيار الله لهم ذلك، ورأفته ورحمته عليهم، ولم يكن لا اختيار الله تعالى ولا لمشيئته عندهم موقع حلاوة، فكانت تلك الحلاوة تمازج مرارات النفوس، فتذهب بالمرارة، كما تجد المرارات في الأدوية، فتمزج بالعسل والسكر وما أشبه ذلك، فيغلب عليه، فتفقد تلك المرارات منه؛ وإنما تقع حلاوة صنع الصانع في قلبك على قدر حبك للصانع، وإنما تحب الصانع على قدر معرفتك بقدره، وكلما كنت به أعلم، وكان هو أرفع منزلة في الأشياء، كان قدره عندك أعظم، وهو إليك أحب، ولذلك قيل: أشدهم حبا له أعلمهم به، وأعرفهم له، ومنه قول بديل العقيلي: (من عرف ربه أحبه، ومن عرف الدنيا زهد فيها). رواه ابن المبارك، عن سفيان الثوري رحمهما الله تعالى، قال: كتب الحجاج بن فرافصة عن بديل رحمه الله.

فمن عجز عن الرياضة، فإنما يقبل أحكام الله تعالى ومشيئاته على حد الإيمان، وصبر على أموره على حد التقوى بأركانه، على ثقل من نفسه، وتنغيص وتكدير من عيشه، وجهد من قلبه؛ ومن راضها وأدبها استقامت في السير، وانفطمت عن أخلاقها، وتداركه ربه بالنصر والمدد، وأنجز له الوعد: فقد بين هذا الشأن في آيتين من كتابه، فقال: (وجاهدوا في الله حق جهاده) فأمر بمجاهدة النفس، وفطمها عن أخلاق السوء، عن أن يريد غير ما يريد الرب جل وعلا، فلو تركنا في جميع أعمارنا لكان، هذا أمراً هائلاً عظيما، لكنه وعد في آية أخرى أن يخلصنا من وباله، ويؤدبنا ويبصرنا، فقال: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين). فهو هاديك، وهو معك في النصر والتأييد، فرحمته منك قريب، ممن يقويك ومن يدركك.

وإنما الشأن أن تجاهدوا في بدء أمرك حق جهاده، فإذا أنت قد ظفرت بالوعد الثاني قد أنجزه لك، فإذا هداك السبيل ملأ قلبك نوراً وكلاءة ورعاية حتى لا تزيغ، فهو المنيب، المقبل على ربه، القابل لأمره بالهشاشة والسرعة، ألا ترى إلى قول الرسل الذين مضوا عليهم السلام حكى عنهم الرب تبارك وتعالى، حيث قالوا: (ومالنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا). والتوكل هو أن تفوض أمرك إلى ربك، ثم ترضي بما يصنع بك، فعلموا في قلوبهم أنهم إنما قووا على ذلك بما هداهم الله لسبيله. ومما يحقق ما قلنا في شأن الراضي والصابر، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا واليقين، فأفعل، فإن لم تستطع فأصبر، فإن الصبر على ما تكره خير كثير. واعلم أن مع العسر يسرا، ومع الكرب فرجاً). حدثنا بذلك علي بن حجر، قال حدثنا بذلك

إسماعيل بن عياش وعيسى بن يونس، قالا: حدثنا عمر مولى غفرة، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك؛ فقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم المنزلتين في هذا الحديث. واعلم أن الصابر عاجز عن مقام الراضي، وأن الراضي باليقين أدرك ذلك، لأنه عاين عواقب الأمور، وذلك بمنزلة رجل كان له كيس من دراهم، افتقده من حيث وضعه، وهو لا يملك شيئاً سواه، فثار في رأسه كالثيران، من شدة الوجد لفقده، حتى تبين ذلك في أحواله وفي وجهه، وظهر اغتمامه بذلك، فقال له رجل ملئ وفي بر صدوق: أنا أعطيك رأس السنة بدل كل درهم ديناراً؛ فسكن إلى قوله، وسكن بعض ما به من الوجد، فلا يخلو من الاغتمام، ويضيق صدره بمضي هذه المدة، فهو يصبر على كره، إلا أنه مازج ما أطمع فيه، الوجد الذي في نفسه، فخف ما به وهو كاره صابر؛ ورجل آخر افتقد كيساً من دراهم، وفي ملكه ملء بيوت من جواهر، كل جوهر لا يدري ما قيمته فما يتبين عليه فقد ذلك الكيس، ولا يبالي به، وهو في ذلك كالذي افتقد

فلساً وعنده كيس من دراهم. فالأول هو غنى بالمال، والثاني غنى بربه ومليكه، فالأول فرح بالمال والأحوال، والثاني فرح بالله، ثم بفضله ورحمته، عامة ملجئه ومفزعه إلى الله عز وجل، فالأول قلبه مأسور بالأشياء، قد ملكته حلاوة الأشياء، والثاني سكن قلبه حلاوة قرب الله عز وجل، فالأول قلبه بالأشياء، وبالأشياء تعلقه؛ والثاني مشتغل بالله وإليه منيب، وبه متعلق. ومما يحقق عندنا حال هذا الثاني، ما أتت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن السلف الصالح من بعده، حدثونا به عن ابن المبارك، عن صالح المري، عن حبيب أبي محمد، وهو العجمي رحمه الله، عن شهر بن حوشب، عن أبي ذر رضي الله عنه ولم يرفعه؛ وأما غير ابن مبارك فرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يقول الله تبارك وتعالى لجبريل عليه السلام: يا جبريل، انسخ من قلب العبد الحلاوة التي كان يجدها بي، فينسخها من قلبه، فيصير العبد والهاً.

فإن اعترض في هذا القول معترض بالإنكار، وقال هذا غير موجود في الأنبياء والرسل عليهم السلام، فقد جاءنا عنهم أنهم كانوا يبكون في المصائب، ويحزنون عليها، ويجدون ألم الأشياء المكروهة، ويفرحون في المحبوب. فيقال له: يا عاجز، وما يدريك ن أي شيء بكت الرسل وحزنت؟ وكيف كان همهم في المكاره؟ وكيف كان فرحهم؟ ومن أي شيء ففرحوا؟ فرب فرح محمود، وعلى ذلك حب الله عباده؛ ورب حزن ممدوح أهله في الدنيا والآخرة، ونطق الكتاب بالثناء عليهم، والبكاء على سبعة أنواع، فما فوقها، كل نوع منها من شيء غير الآخر، فهل ميزت بين هذه الأشياء، وهل اطلعت مطلع هذه المنازل؟ أم أنت رجل تبعت شيئاً من هذا العلم تفخر به، وترأست به، فأنت تريد أن تطفئ نور الله بفيك، وتنسب الرسل إلى ما لم يأذن به الله، وتحير الخلق في سبيل الله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون والكافرون. فإما فرح المتقين فبفضل الله ورحمته، وعلى ذلك دلّ عباده، وأما فرح الأنبياء والصديقين فبه تبارك اسمه،

ولذلك روى لنا عن مالك بن دينار رحمه الله، قال: قرأت في بعض الكتب: يا معشر الصديقين، تنعموا بذكري، فإن ذكري لكم في الدنيا نعيم، وفي الآخرة جزاء. وقال في حديث آخر: (آثرتموني على شهواتكم، ورضيتم بي بدلاً من خلقي، فبي فافرحوا، وبذكرى فتنعموا، فوعزتي ما خلقت الجنان إلا من أجلكم. وحدثنا عبد الرحيم عن حبيب الفارياني، في حديث له ذكره عن حبيب العجمي رحمه الله، أنه كان يقول (ما) تفسيره: يا رب فرحت حتى كدت أموت من الفرح، مثلك لي رب وأنا عبدك: (خدايا عجب است ممكن إزشادي بميرم كه مراجو توخدائي)، وأما بكاؤهم فكانت الأنبياء عليهم السلام أرحم البرية، فكلما ازداد العبد من الله تعالى قربه، كانت له من الرحمة أكثر. وكذلك روى عن ابن المبارك، عن عبيد بن عمير، قال ما ازداد العبد من الله تعالى قربه، إلا كان له من الرحمة ما ليس لغيره. حدثنا بذلك الجارود بن معاذ

رحمه الله، عن علي وعمير بن عبد الله، فكانوا في المصائب يرحمون، فيبكون ما يرون، وكانوا أعلم الناس بالموت، وكنه مرارته، وعظيم شأنه، وخطر المقدم على الله عز وجل. فكانت قلوبهم ترق لما يرون، ألا ترى أنه قال في حديث إبراهيم لابنه: (إنما هذه رحمة، ومن لا يرحم لا يرحم). فكان يبكي، ويعدّ ذلك رحمة ويحتسب بذلك البكاء على الله عز وجل؛ ألا ترى أنه عاب من لا يرحم، فكانت تلك منه رقة، ومن هؤلاء القوم فتنة وصبابة. وكذلك وجدنا الخبر عن الحزن يعقوب عليه السلام، أنه قال ليوسف عليه السلام: يا بني، إنما حزنت عليك مخافة. وأيضاً من طرق آخر قد يجوز أن يكون الله سبحانه إذ جعلهم أئمة الخلق، هيج منهم أشياء، ليكون لمن بعدهم بذلك اعتبار. وفي هذا كلام إلى غاية الطول، قد بيناه في كتاب (صفة القلوب وأحوالها، هيئة تركيبها) وما يتردد في النفس في صدور القلوب.

رياضة النفس

رجعنا إلى ذكر (رياضة النفس): قال له القائل: وما رياضة النفس؟ وكيف يكون ذلك؟ قال: يسير على من يسره الله ووفقه. فأما الرياضة فهي مشتقة عربيتها من الرّض، وهو الكسر؛ وذلك أن النفس اعتادت اللذة والشهوة، وأن تعمل بهواها، فهي متحيرة، قائمة على قلبك بالإمرة، وهي الإمرة بالشهوة، فيحتاج إلى أن يفطمها، فإذا فطمها عن العادة انفطمت. ويقال في اللغة: راض ورض بمعنى واحد؛ فمن قال رضّ، فلما أدغم الألف في الضاد، فشّدد، ومن أبرز الألف خفف الضاد، فقال راض، فالرض الكسر، فقيل في الأشياء المكسورة رض، وقيل في الأخلاق المكسورة راض. فهذه النفس إذا فطمتها انكسرت عن الإلحاح عليك، ومنازعتك في الأمور، فإن النفس اعتادت اللذة

اليقين

والشهوة، وأن تعمل بالهوى، فإذا فطمتها عن العادة انفطمت؛ ألا ترى أن الصبي إنما اعتاد ثدي أمه، كيف سكونه بذلك الثدي، إنما يحنّ إليه إذا فقده، وكيف يفرح به إذا وجده؛ فكذلك النفس الشهوانية، فإذا فطم الصبي انفطم، حتى لا يلتفت إلى ثدي بعد ذلك، لأنه وجد طعم ألوان الأطعمة، فلا يحن إلى اللبن، كلك النفس إذا وجدت الطيب اليقين، وروح قرب الله تعالى، وحلاوة اختيار الله عز وجل له، وجميل نظره لها، لم تحنّ إلى تلك الشهوات. قيل له: فبماذا يوجد اليقين؟ قال: بطهارة القلب، لأن اليقين طاهر، فيطهر مكانه ومستقره.

قيل له: وما طهارته؟ قال: ترك ما اضطرب القلب عليه ورابك منه تورعاً، دقّ أو جلّ، ثم تطهره من التعلق بالشهوات، والاشتغال بها، فإذا أنت فعلت ذلك صقلت قلبك، فصار لك مرآة بالتورع؛ فكلما تفكرت شيئاً من أمر الآخرة، تمثل في مرآتك، حتى تصير الآخرة لك معاينة، فإذا منعت قلبك عن حريق الشهوات، كما تصون مرآتك عن حرارة أنفاسك، تمثل في قلبك الملكوت، حتى يصير أمر السموات إلى العرش لك معاينة، تبصره بعيني قلبك، كأنك تنظر إليه، كما قال حارثة رضي الله عنه: يا رسول الله، كأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وإلى أهل الجنة كيف يتزاورون، وإلى أهل النار كيف يتعاوون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عرفت فالزم. عبد نوّر الله الإيمان في قلبه. فإذا صنت قلبك فصنه بعد ما ذكرنا عن النظر إلى نفسك إعجاباً وفرحاً، بالغطاء لها انقطعت الأسباب منك، وصفاً لك طريقك إلى الله عز وجل بلا غبار ولا غيم، فلا يغان على قلبك،

فإذا أصاب قلبك الغين استغفرت، كما قال رسو ل الله صلى الله عليه وسلم إنه ليغان على قلبي، فأستغفر الله في اليوم مائة مرة. وهذا الغين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كما يجده من بعده فيما نعلمه، فليس نراه من طريق التخليط، ولا من طريق العيب، فقد كان قلبه أطهر، وشأن أمره أعظم، وأجل من أن يظن به. ولهذا الباب تفسير واضح من هذا، نبينه في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى، في صفة القلب وخلقته وشرح اليقين ما هو. أردنا أن نستتم ذكر النفس ورياضتها عدنا إلى ذكر رياضة النفس. ألا ترى أن البازي كيف كان نفاره من الآدميين في الجبال الشامخات، فلما ربّ وأمسك على التربية، أنس بصاحبه، وأخذت التربية بقلبه، واعتاد الكون معه، فنزع عن النفار، وترك همّ الطيران، واطمأن إلى صاحبه، حتى إذا أرسله وحثه على الطيران طار، فأصاد وأمسك عليه صيده، تحرياً لموافقة مولاه، ثم إن دعاه ممن الطيران رجع، وآثر هواه على هوى موافقة نفسه، فأجابه منقضاً إلى حبله وسباقه؛

أفلا يحق على مؤمن أبصر هذا أن يموت كمدا وعبرة وأسفاً على فوت هذا من نفسه، أن يكون طيره أسمع له وأطوع، وأشد تحرياً لموافقته، وألزم لنصيحته من العبد المؤمن لربه، ألا ترى إلى الدابة الخسيسة قيمتها قليلة، تؤخذ من الدواب وقد اعتادت الرعي حيثما شاءت، كيف يروضها الرائض على قبول السرج واللجام؟ وكيف يؤدبها حتى تأخذ السير؟ وكيف يؤدبها عند القناطر، وفي مواضع الجلبة، يريد أن يشيعها حتى لا تهاب هذه المواضع إذا بلغت؟ وكيف تفتح أذنيها عند المسير. وتميل يميناً وشمالاً، لا ينقلب عنانها، فإن لم تجد قنطرة فأهوى بعنانها، وثبت إلى الجانب وثبة مخاطرة بنفسها، وأن استقبلها جلبة لم تهب، ولم تترك سيرها، فتصير بحال تصلح للملك، فإن قوّمت قوّمت بالدنانير رفعة لها، لا بالدراهم، فتجلل وتبرقع، ويصفى لها العلف، وتربط في مربط الملك؛ فإنما بلغت هذا المبلغ، وسقط عنها جهد العمل وكده، وحمل أثقال الحمولات، وتخلصت من دبر الظهر، ومشقة الاستعمال،

فإنها تركت هواها، ورفعت بالها عن نفسها، فإن خاطرت لم تبال، وإن أتعبت نفسها لم تمل، وإن اقتضاها راكبها السير والركض والوثب، استفرغت مجهودها في إعطاء كل ما يبتغى منها، من غير جمح ولا حزن ولا تلكؤ ولا شمس ولا كسل، ولا تركت أدبها، وقد كانت قبل ذلك هملاً في الرعي، تفعل ما هويت، فهي قريبة القيمة من أشكالها من الدواب، وإنما اختصها الملك وأطاب علفها، وصانها عن رؤية الناس، وجللها وعزلها عن الجهد والكد، بترك مراعيها وهواها ونشاطها، وأنسها بأشكالها، واحتمالها التعب في جنب مالكها، وإعطاء المجهود بالصدق من نفسها، ويقظة قلبها، ونظرها بقلبها إلى راكبها، ولو كانت إذا راضها لم تنقد لمولاها، ولم تأخذ سيرها، ولم تؤدب بأدبه، فإن سيرها أبطأت في السير وإن مال بعنانها امتنعت وشمست، وإن مدّها جمحت فمدّت به، وفي الموضع الذي كان يريد السير منها امتنعت

من إعطاء ما فيها من القوة، وفي الموضع الذي أراد منها الوقوف حرنت، فركبت هواها، فجاءت بالقوة التي امتنعت منها هناك في السير، فإن قهرها باللجام، فأمسكت عن الركض، لم تمسك من أجل مولاها، ولكنها أمسكت من كبح اللجام، والألم الذي خلص إلى كبوحيتها، فأشفقت على فيها وأسنانها ولسانها وحنكها، فتركت حينئذ هواها، فجعلت تدور ولا تستقر، لأنها لم تسخ نفسها الدنيئة بطاعة راكبها، ومع ذلك تبول وتروث في مكانها، وتبرك مكانها، فإن استقبلها جلبة نفرت، وتركت سيرها، فرجعت قهقرى، فربما كانت من خلفها بئر أو جرف تتردى فيها، وتنكسر وتقتل نفسها، فهذه دابة خسيسة، فيها أخلاق السوء، لا تصلح للملك. وإنما تصلح للحمولة، فتراها الشهر والدهر موكفة تحت حمولة، فمرة مهزولة،

ومرة دبرة جائعة، في عنف وسير وكد عمل، وهي دابة من الدواب؛ فكذلك يصير العبد إذا راض نفسه بترك الشهوات، وقطع الأسباب، وانقطع عن اللذات، ومجاهدة الهوى، وامتناعه عما يريد، حتى تذل وتنقمع، فحينئذ ينقاد القلب والعقل، وتستقيم في سيرها على حد ما أمر به، ولا تهاب أحداً في أموره، ولا تخاف فيه لومه لائم، إذا نابتة النوائب خاطر بنفسه في ذات الله، وأذنه مصغية إلى مولاه، وقلبه شاخص إلى مشيئاته وإرادته، وإلى ما يبرز له من حجب الغيب، فيقبله بالطوع والهشاشة، والانطلاق إلى ما يستعمله به، وكيف ينقله من حال إلى حال، فإن رأى نصرته عدّ ذلك منه فضلاً ورحمة، وإن رأى خذلانه فزع إليه، والقى نفسه بين يديه، صارخاً إليه، مستغيثاً به، فهو ولي من أوليائه، رفع باله عن نفسه، فرمى بها إلى ربها، فقال: أنت ربي، وأنت خلقتني لما تشاء، ولا أشاء، ولا علم لي بشأني، وبما فعلت بي، ووجدتك أرأف وأرحم بي مني بنفسي، فرفعت

بالي عن نفس، وألقيت بيدي إليك مسلماً، فاقبلني، فإنك قد بينت في تنزيلك: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى)، قد ألقيت الخلق وراء ظهري، فنظري إليك، وقطعت الأسباب، فتعلقي بك، والله تبارك وتعالى قائم عليه، يرعاه ويكلؤه، ويؤيده وينصره، ويقر عينه، والعبد مشغول بربه، ينظر إلى ملكه، وينصر حقوقه، ويحفظ حدوده، ويعظم أموره، ويذب عن دينه ما لا يحمل، ويدعو عباده، فهو وليه، ورب العزة وليه وهذا شأنه حتى يلقاه. وبيان صفة هذا العبد موجود في الآثار. حدثنا إسماعيل بن نصر، قال: حدثنا أبو منذر القطعي، قال: حدثنا عبد الواحد بن حمزة، عن مولى عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه

وسلم، عن الله تبارك وتعالى. وحدثنا إبراهيم بن المستمر البصري، قال: حدثنا أبو عامر العقدي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن ميمون مولى عروة، عن عروة، عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حدثني جبريل عن الله عز وجل - دخل حديث بعضهم في بعض - أنه قال: (ما تقرب إلى عبدي بمثل أداء فرائضي، وإن عبدي ليتقرب بالنوافل حتى أحبه، وما تقرب إلى عبدي بشيء من النوافل مثل النصح لي حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي به يسمع، وبصره الذي به يبصر، ويده التي بها يبطش، ورجله التي بها يمشي، ولسانه الذي به ينطق، وفؤاده الذي به يعقل). فما ظننا بعبد يعقل بالله، وينطق بالله، ويسمع بالله، ويبصر بالله، ويبطش بالله، ويمشي بالله، كيف يكون سعيه وآثاره منقلبة في الدنيا.

قال له قائل: كيف يكون هذا؟ قال: هذا عبد قد يسره، وولي سياسته، وحفظه ورعايته، واستعمله، فكان في صنعه، قد أمات فيه الشهوات، ويسر عليه الصعاب، وبسط له النور، ومد له في الأسباب، وألهمه وفهمه، وصيره من أولي الألباب، فإن نطق نطق بحكمة، وإن أنصت أنصت بفكرة، وإن نظر نظر بعبرة، وإن مشى مشى بهيبة، وإن بطش بطش بغلبة، قد منع قلبه من التفكير، وسلب في الأمور التدبير. وهذا كله موجود تحققه في الكتاب والخبر. فأما في الكتاب فشأن الخضر عليه السلام، حرق السفينة، وقتل الغلام، وأقام الجدار، فلو عمل في الظاهر ما قدر على ذلك؛ ثم قال في آخر أمره: (وما فعلته عن أمري). فهذا من الله في الباطن، الذي يؤتيه من يشاء، وقد قال في ذكره له: (فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا، وعلمنا من لدنا علماً). فقد

بين أن هذا له من طريق العلم الذي علمه ربه. وما ذكر من شأن ذي القرنين، فقال: (إنا مكنا في الأرض، وآتيناه من كل شيء سبباً فأتبع سبباً). فأوتي العلم الذي لم يؤت غيره. فإن قال قائل: فهل يجوز لأحد أن يفعل على ما يتراءى له في قلبه، أو يقتدى بالخضر عليه السلام فيما يبدو؟ قيل: لا، قد ختم الله تعالى بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم الرسالة، ولم يبق في الأرض بعده إلا الملهمون والمحدثون. وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: قد كان في بني إسرائيل محدثون، فإن يك في أمتي أحد منهم فعمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكان ابن عباس رضي الله عنه يقرأ هذه الآية (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث). والنبي دون الرسول بدرجة، والمحدثون دون النبي بدرجة، وللرسول درجة الرسالة،

وللنبي درجة النبوة، وللمحدث درجة الحديث. وقد أحكم الله بهذا الإسلام الذي ارتضاه لنا دينا على لسان الكتاب والسنة، ما ليس لأحد فيه استبداد، ولا تجاوز ولا تقصير، إنما هو حفظ الحدود، واتباع الأمر الجملة؛ ثم الصديقون والملهمون والمحدثون أمور خارجة من الحدود والأحكام، وهو تدبير الله عز وجل وكلاءته، على ما ذكرناه بدءاً. ولم نجئ بشأن ذكر الخضر ههنا لنطلق لمن بعده مثله، إنما أردنا أن نحقق أن لله عباداً يضع عندهم من مكنون العلم ما شاء، وأن لهم عنده من المنازل ما يتحقق عند من يفهم هذا، أن ذلك الذي قلنا كيف يكون، حتى به يسمع، وبه يبصر، وبه ينطق، وبه يبطش، وبه يمشي، وبه يعقل. فأما ما ذكر في الأخبار، حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا الربيع بن روح الحمصي، قال: حدثنا ابن عياش، عن ضمضم بن زرعة الخضرمي، عن شريح بن عبيد الخضرمي، عن عبد الله بن زيد، قال: قال لقمان عليه السلام: ألا إن يد لله تعالى على أفواه الحكماء، فلا ينطق

أحد إلا بما هيأه الله له. وحدثنا أبو بكر بن سابق الأموي، قال حدثنا عمر بن عبيد الطنافسي، عن الأعمش، قال: جاء رجل إلى عمر رضي الله عنه، قال: إن عليا شجني. فقال لعلي: لم شججت هذا؟ قال: إني مررت به وهو مقاوم امرأة، فساءني مقامها، فصغيت لها، فسمعت ما كرهت، فشججته. فقال عمر رضي الله عنه: أن لله في الأرض عيوناً، وإن علياً من عيون الله. حدثنا عبد الجبار بن العلاء، قال: حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، سمعه من قيس بن أبي حازم، قال: عرض أبو بكر الصديق رضي الله عنه فرسا له، فقال غلام من الأنصار: احملني عليها يا خليفة رسول الله، قال: لأن أحمل عليها غلاماً قد ركب الخيل بعدلته، أحب إلى من أن أحملك عليها. فقال: لم؟ فولله أنا خير منك فارساً، ومن أبيك. قال المغيرة: فما ملكت نفسي أن أخذت برأسه فركبته، فأقبلا منخراه كأنهما عزلاء مزادة.

قال: فبلغ أبا بكر رضي الله عنه، أن ناساً من الأنصار يتوعدون المغيرة، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بلغني أن ناساً من الأنصار يتوعدون المغيرة، والله لا يخرجوا من ديارهم أسرع من أن أقيدهم بروعة الله. حدثنا الجارود، عن يزيد بن هرون، عن حماد بن سلمة، عن هشام، عن عروة، عن أبيه، قال: أرسل أبو بكر الصديق خالد بن الوليد رضي الله عنهما إلى بني سليم، فجعلهم في الحضائر، فحرقهم بالنار. قال عمر رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه: تستعمل رجلاً يعذب بعذاب الله؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: دعنا عنك يا عمر، والله لا أشيم سيفاً سله الله على المشركين، حتى يكون هو الذي يشيمه. وقول رسول الله صلى الله عيه وسلم لسعد بن معاذ رضي الله عنه: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرفعة. والرفيع: السماء، والأرفعة: جماعة. فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أصاب فيهم حكم الله عنده. وكان

حكم بأن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتكون الغنيمة للمهاجرين دون الأنصار، وذلك في شأن قريظة. حدثنا عبد الكريم بن عبد الله، عن علي بن الحسن، عن عبد الله، قال: أخبرني أبو بكر بن أبي مريم، حدثني راشد بن أبي راشد، قال كنت مع خالد بن أبي معدان يوماً في بعض أسواق المدينة بحمص، فإذا نحن بنصراني أظهر الشرك بالله تعالى، فقال لي خالد: احسر عن ذراعيك، ثم قال لي: دق أنفه، قال راشد: فوجأت أنفه أن دققته، فانطلق النصراني فاستعدى علينا، فقال الوالي لخالد: ما حملك على ما صنعت؟ قال: أرغم الله أنفه وأنف من ثقل عليه تأديبنا له، إنه ليس لهم أن يظهروا شركا ولا صليباً، فيصنع هذا بهم حتى يكفوا عن إظهار الشرك بالله عز وجل. حدثنا عبد الله بن أبي زياد، قال: حدثنا سيار عن حفص بن سليمان، عن مالك بن دينار رحمه الله، قال: رأى عامر بن عبد قيس ذمياً يظلم، فألقى رداءه فقال: والله أتخفر ذمة وأنا حي؟ فاستنقذه.

فإذا فطمت نفسك عن حرارة الهوى، ووقعت حرارة الفطام على قلبك، فذابت تلك الأخلاط عن قلبك، وطهر قلبك، وخرج صافياً كما خرج الذهب الذي أحمى، فتهافت عنه تلك الأوساخ والأدناس، لأن للهوى على القلب أوساخاً وأدناسا، كما كان للمعاصي على قلب نكت سود، على ما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء، فإذا عاد نكت أخرى، فإذا تاب ونزع صقل قلبه، ثم تلا: (كلا، بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون). فإذا ذهبت المعصية بالتوبة ذهب سواده، وبقى دخانه، وذهب الشيطان، وبقى ظله، كما ذهب الليل وبقى سدفه وآثاره عند وجه الصبح؛ فإذا تاب عن المعصية

وهو ممن يستعمل الهوى، فالهوى باق بعد، فهذا قلب قد تاب ولم ينزع، فلم يصقل قلبه بعد؛ وذلك أن المرآة المصقولة إذا نظرت فيها أرتك عن اليمين وعن الشمال، وخلفك وأمامك، فإذا قلبت بها إلى عين الشمس هكذا، فلاقى نور المرآة نور الشمس، وجدت الشمس تشرق في مكانك وفي بيتك؛ فكذلك إذا صقلت مرآتك، وهي قلبك، نظرت عنها إلى الجنة والنار، وإلى بهاء الحسنات، وإلى جمالها مرتبتها، وإلى قبح السيئات، والى الدنيا والآخرة، وإذا نظرت فيها إلى تدبير خالقك، تراءى لك عجائب، وذلك النور الذي تجده عندك، إذا أقبلت بمرآتك إلى عين الشمس، ليس هو الشمس، إنما هو نور حدث من بينهما، فإذا صفا قلبك من الهوى، حينئذ تجد اليقين، لأن اليقين هو نور يحدث على قلبك من نور معرفتك، ونور إلهك الذي هو نور السموات والأرض ونور كل شيء، فإذا أقبلت على الله تبارك اسمه، أشرق القلب بالنور، فذلك اليقين؛ وإذا كان بالمرآة صدأ فقلب بها إلى عين

صفة القلب

الشمس، لم يشرق في البيت منه شمس، لأنه قد حال بين نور المرآة ونور الشمس ذلك الصدأ، فكذلك القلب إذا أقبلت على الله تعالى وعليه الهوى، لم يشرق بالنور الأعظم، لأن الهوى قد حال بين نور المعرفة وبين النور الأعظم، وهو اليقين، فإذا ذهب الهوى، فنظرت له، تلاقى النوران، فأشرق في صدرك، فأبصرته عين قلبك، فصار يقينا. واليقين في لغة العرب هو الشيء المستقر الثابت، تقول العرب: قد يقن الماء في الحفيرة. قال له قائل: أشرح لنا صفة القلب. قال: القلب بضعة من لحم، في جوف بضعة أخرى، وهو الفؤاد، ومعدن النور القلب، ومنه قيل خبز فئيد، لأنه في جوف الرماد الحار والجمر، فالبضعة الخارجة هي الفؤاد؛ وإنما سمي قلباً لأنه يتقلب، وله عينان وأذنان وباب، والصدر بيته، وإنما سمي صدراً لأن الأمور تصدر عنه، فالنور الذي في القلب يعرف ربه، لأنه نوره، وهو حبة

القلب، واشتقاق الحب منه، لأنه وصل حبة قلبه، ومنه قوله عز وجل: (حبب إليكم الإيمان)، أي أوصله إلى حبة القلوب، ثم قال تعالى: (وزينه في قلوبكم) ولم يقل في فؤاد كم، ومما يحقق ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتتكم أهل اليمن، هم ألين قلوباً، وارق أفئدة، فوصف القلب باللين، والفؤاد بالرقة، فالنور إذا خرج من باب القلب أشرق في الصدر، فأبصر عين الفؤاد ذلك النور، فإذا فكر في الجنة أو النار، أو في شيء من أمور الآخرة، وقع لتلك الفكرة ظل على الصدر، فتمثل ذلك الشيء بين عيني القلب، فصار كأنه ينظر إليه، وإذا ذكر الرب تبارك وتعالى لم يقع لذكره ظل على الصدر، ولكنه يشرق النور، ويتلألأ النور في الصدر، حتى يكاد يغشى بصر القلب، لأن النور إنما أشرق في الصدر، لأنه نوره، فإذا ذكر الأشياء، فالأشياء مخلوقة، فوقع للأشياء ظل، وإذا ذكره تلألأ النور، ولم يقع في الصدر ظل، وهو بمنزلة قنديل

معلق في البت، فحائط البيت يشرق عليه نور الصباح، فإذا رفعت يداً أو شيئاً بين الحائط وبين المصباح، وقع لذلك الشيء على الحائط ظل، وتمثل ذلك الشيء، فإذا رفعت بين المصباح وبين الحائط مصباحاً آخر، ازداد ذلك إشراقاً وضياء، ولم يتمثل على الحائط صورة، ولا وقع ظل، فهذا شأن القلب. فإذا حمى القلب بالفطام من الهوى فصفا، صار كالذهب يخرج من النار، فحينئذ يحك بالحجر، اختبار لجودته. وذلك أن الذهب لاجتماعه وكثرته، أراك لون حمرته، بقوة بعضه من بعض، وانضمام بعض إلى بعض، فإذا حككت منه شيئاً بحجر، وبقى بالحجر من ذلك شيء لطيف رقيق، تبين لك جودته أنه يريك في حال الضعف والرقة، من آية قواه أنه قوى الحمرة، وأنه جيد؛ وذلك الرديء المغشوش يريك حمرته ما دام كثير القدر، كثير الوزن، مجمع القوى، فإذا حككته بحجر، فبقى الذي على الحجر، رأيته أصفر، فعرفت أنه ليس بجيد. فكذلك القلب لا يتبين ما فيه حتى يفطم، ويريك أنه قد صفا بالفطام، فحينئذ يحك بحجر البلوى، فيختبر سكونه

بمن، وإلفه مع من، أبالله سكونه ومعه ألفه، أم لعطائه سكن، ومع أحوال نفسه ألف؟ فالحك هو النقصان، فمن كان سكونه به، وإلفه معه، لم يتغير للنقصان، أعني نقصان العطاء، ولجزيله، لأنه للنقصان والتجزيل يبين إلى ما سكنت، وهل قطعت الهوى، فهذه منزلة عبادتك له بما هو أهله، وهو الذي يقال له: اعبد الله باليقين لا بالهوى، واليقين، عقيب الهوى، فكل ما نقص من هذا ازداد من ذلك، فهما يتعاقبان أبداً، ويقال: الصبر صبران: صبر على الشدائد، وصبر على ما يدعوك إليه الهوى، طاعة كانت أو معصية، فإذا فطمت نفسك عن طاعة الهوى، حتى صار لك عادة ألا تطيع الهوى في شيء من الأشياء، وإن أبيح لك ذلك الشيء، استنار قلبك باليقين، وهو نور مشرق في الصدر، وعينك تنظر إلى ذلك النور، ونفسك يقظان بقرب الله عز وجل، كما قال عامر بن عبد قيس رحمه الله: ما وقع بصري على شيء إلا رأيت الله أقرب منه. وروى عن محمد بن واسع رحمه الله تعالى نحو من ذلك وإنما أدرك عامر هذه المنزلة، لأنه راض نفسه

حتى صار بحال - حكى عن نفسه أنه قال: وجدت الدنيا أربعة أشياء، فما زال يروض نفسه حتى أطاعه الهوى، حتى قيل له حيث يريد الشام: كيف تبكى على أهل مصر؟ قال: لأن بها أخواني، وبها كثرة تجاوب المؤذنين، وبها ظمأ الهواجر. قيل له: فقد أذن لك، أفلا ترجع؟ قال: أكره أن أرتحل رحلة هوي. وكما روى عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى، أن رجلاً قال لمعلمه: قد قطعت الهوى. قال: أتفرق بين النساء والدواء؟ قال: نعم. قال: فأنت أوثقت الهوى ولم تقطعه. وكما روى عن عيسى ابن مريم عليهما السلام: هل يستوي عندكم هذان: كف من تراب، وكف من ذهب، قالوا: لا. قال: فهما عندي سواء. فهذا قطع الهوى. قال له قائل: أشرح لنا هذا. وكيف يستوي هذان في القلب؟ قال: إن الناس إنما فرقوا بينهما، وفضلوا الذهب على التراب بالهوى، لما رأوا منفعة الذهب، فضلوه من أجل المنفعة؟

فينبغي لمن أراد التخلص من هذا، أن يروض نفسه، حتى يرى بنور اليقين الأشياء كلها مستوية، بمعنى أنها خلق الله تعالى، ثم يرى المنازل التي أنزلها الله تعالى، فبإنزاله إياها لها تلك المنزلة موافقة له، ولو شاء جعل المنفعة التي في الذهب، في الزجاج وفي الحجر، ولكان الذهب ساقط المنزلة عن القلوب، ألا ترى أن عمر رضي الله عنه أراد أن يتخذ الدراهم من جلود البقر. فإنما ينبغي لك أن تفضل عندك شأن الدينار والدرهم، بما أنزل الله لا بهواك، ألا ترى لو أن رجلاً أتى سمرقند بعض هذه الكور التي تجوز فيها هذه الفلوس، كان للفلوس عنده قدر، إن افتقدها حزن، وإن وجدها فرح؛ فإذا تحول إلى كورة لا تجوز فيها تلك الفلوس، فلو رمى بها لم يبال؛ فهذا مما يدلك أن الذهب إنما عظم موقعه من القلوب لعظم منفعته، بأنه صار ثمناً للأشياء، فمن أجل ذلك بغض الله تعالى كثيراً من الناس من أجل أنهم رأوا منفعة الأشياء من الدينار والدرهم، لا من الله عز وجل. فينبغي لك أن تروض نفسك وتفطمها عن هذه الأشياء، حتى يصفوا قلبك، ويسير باليقين، حتى ترى الدينار

والدرهم خلقين من خلق الله تعالى كسائر الخلق مبتدعاً، ثم تنزلهما بالمنزلة التي أنزلهما الله تعالى، فبإنزاله يفضلهما، ويرى المنفعة التي فيهما من خالقهما، فحينئذ يستوي عندك حالهما، في أنهما خلقان من خلق الله تعالى، فهذا عندنا معنى قول عيسى ابن مريم عليهما السلام. فإذا غفلت عن النفس بعد رياضتها، فلا تأمن أن تعود إلى بعض عاداتها ما دامت الشهوات منها حية، والهوى قائماً، ألا ترى أن النفوس إذا ترك استعمالها وتعاهدها وعتقت، كيف يأخذ البيت الأسفل من البيت الأعلى، فكلما رميت بها سهماً أخطأ الغرض، كذلك النفس إذا تركتها حتى تقوى شهواتها، ويشتد حرها في الجوف، وتقوى ظلمة الهوى، أخذت من البيت الأعلى، وهو نور العقل ونور المعرفة ونور الروح ونور العلم، فتحرق بنيران الشهوات، من هذه الأنوار التي في القلب بقدر قوتها؛ وإذا قويت بنيران الشهوات ضعفت الأنوار، فيظلم الهوى على اليقين، فيتولد الشك على القلب من هذه الآفات، فتغلب على القلب هذه الآفات،

فمن ههنا يصرع، فهذا هو القلب المصروع، والمأسور في يد هواها؛ قلما خرج منه عمل من أعمال البر، ثم لم يصب الغرض، فوقعت رميته يميناً وشمالاً، وربما خرج منه فلم يبلغ الغرض لضعف القوس؛ وذلك أنه رمى عن قوس قد أصابتها الآفات والعلل؛ فكذلك آفة القلب الذي وصفنا، وربما أردت براً، مال بقلبك الهوى إلى الشهوات يميناً وشمالاً، حتى تحيد عن السبيل والسنة، وربما جاوزت الغرض، وربما ضعف قلبك، فعلمت بغير نية، فلم يبلغ عملك إلى ربك، كما قصرت الرمية عن الغرض؛ أفلا ترى كيف تعالج القوس وتحمى حتى تلين، فإذا لانت سويت، حتى يرجع البيت الأعلى إلى مكانه، وإنما زال عن مكانه لأن البيت الأسفل لما قوى وصلب مد البيت الأعلى بفضل قوته؛ فكذلك النفس لما قويت وصلبت شهوتها، انتشرت وهاج هواها، فأحرقت أنوار القلب، والقلب هو رطب بالأنوار، لأن النور هو من الله تعالى رحمة، والرحمة باردة، والقلب لين منقاد برطوبة تلك الأنوار،

فإذا احترق النور صلب القلب وقسا ويبس، فخف عن ذكر الله، ولهى عنه، فالمشروح صدره للإسلام، شرحه ربه (فهو على نور من ربه، فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) فمدت النفس آلتها، فصار في سلطانها، كما يحمي القوس حتى تلين، ويتخلى عن البيت الأول. كذلك تراض النفس بأن تحمى، وهو أن يمنعها اللذات والشهوات، فتحزن، ويصيبها حرقات منع الشهوات في مصائبها، فبتلك تذل وتنقمع، وتلين وتتخلى عن القلب، فيرجع القلب إلى مكانه بنور المعرفة ونور العقل ونور العلم ونور فوائد العطايا؛ فكلما منعت النفس شيئاً من هذه الشهوات، خلت عنه كما وصفنا؛ كلما أعطيت النفس منيتها قويت، فصارت كالشجرة تثمر الحنظل والدفلي والمر والصبر والسموم القاتلة، فإن أردت ألا تنموا، فالتدبير فيما عقل العبد وفهمه، أن تحبس عنها الماء والسرقين والتراب الذي يلقى في اصله، حتى تيبس،

فتصير جذعاً لا يثمر ولا يرجع عليك بالضرر؛ ثم لا يزال جذعاً يعترض بين عينيك، يشغلك عما سواه من الأشجار، فتشعل فيه ناراً، حتى يذهب شخصه من بين عينيك، فإذا هو قد ذهب أثره، وذهب ذكره. وكذلك النفس: في التدبير أن تحبس عن النفس لذاتها وشهواتها، حتى تذهب ثمراتها من هذه السموم القاتلة، التي تميت قلبك في الدنيا، فتصير أعمى من العميان في الدنيا بصيراً في دين الله جل وعلا، فتقبل على مزبلة وهي الدنيا، وإنما هي قنطرة، تداولتك أيدي أسود وأبيض وهو الليل والنهار، حتى تؤديك إلى الخالق البارئ، المثيب المعاقب، فتعظم ما صغر الله، وتكرم من أهانه الله، وتدنى من أقصاه الله، وتتعلق بمن لا بد أن تفارقه، وتعمر ما أذن في خرابه؛ فإذا ذهب ثمراتها حبست عنها الفكرة فيها، والحديث عنها، والتذكر لها، حتى تيبس، ثم لا تزال تمنية شهواتها قائمة بينك وبين ربك، تفرح بالعطاء، وترضى بما تعطى به، وتروم ما لم تعط، وترى نفسها في الأشياء؛ فهي تحجبك وتشغلك،

حتى إذا منّ الله عليك بنور اليقين، فهي كالبرقة، كما تشعل شجرك ناراً، فيذهب أثره وذكره، كذلك البرقة تحرق قائمة نفسك، فيذهب أثرها وذكرها، ويبقى والها منفرداً به، فتكون الأشياء والأمور منك له وبه؛ فإذا أهملتها، وعجزت عن رياضتها، رجعت عليك بوبال عظيم، تعرض عن دار دعاك إليها رب العالمين، فقال تعالى: (والله يدعو إلى دار السلام)، أمنك من آفاتها، فنسبها إلى اسمه السلام من بين الأسماء؛ يعلمك أن لسكانها السلامة من الآفات، محشوة بالنعم، مشحونة بالرضوان، وتلهى عنه باللعب والباطل؛ كفى بهذا عاراً، وأنت عبد سخر الله لك الخلق والخليقة لم تنل حتى تكون ما عاشت قائماً بتربية حقوقه، ناظراً لأموره، معظماً لشأنه، ذاكراً له، ناشراً عنه الجميل، مشتاقاً بقلبك إلى لقائه؛ فأقبلت على تربيتك نفسك، وطلبك لها العز والجاه، والمنزلة من الخلق، والذكر على الألسنة؛ فهذه ربوبيته، فكيف تتفرغ للعبودية من طلب الربوبية؛

فاشتغلت عنه، فسهوت ولهوت عن ربك الكريم، الذي خلقك فسواك فعدلك، وجمل صورتك، ودعاك فأعطاك وحباك، وأملك ومناك، ومن عظيم الخطر ومن ظلمة الكفر نجاك. فهذا الذي وصفنا من تركك الشهوات وتجنبك اللذات، ليس تحريم الذي أحل الله لك، ولكن تأديب لنفسك، ورياضة لها، لأن هذه النعم إنما أمرت وأذن لك في تناولها، على الأدب الذي أدبت به على لسان الكتاب والرسول؛ فلما ساء أدبك لما فيه من أخلاط السوء التي مالت بك، لم تجد بداً من أن تعظمها مرة، حتى يجد القلب فراغاً إلى تعلم الأدب، فتأخذ طريقاً؛ فأما قلب معلق بالشهوات، مأسور باللذات، مقهور بالمنى، محبوس في سجن الهوى في بئر مظلم، فكيف يمكنه أن يتناول ما أعطى بإذن الله؛ فإن بعض من خفى عليه هذا النوع من العلم، كبر في صدره هذا، حتى ربما يفرح إلى الاحتجاج بقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما

أحل الله لكم، ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين). وبقوله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق). فهذا من الاحتجاج تعنيف، ومن القول تحريف، لأنا لم نرد بهذا التحريم، ولكن أردنا تأديب النفس، حتى تأخذ الأدب، وتعلم كيف ينبغي أن تعمل في ذلك؛ ألا ترى إلى قوله جل وعلا: (إنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والأثم بغير الحق). فالبغي في الشيء الحلال حرام، والفخر حرام، والمباهاة حرام، والرياء حرام، والسرف حرام، فإنما أوتيت النفس هذا المنع من أجل أنها مالت إلى هذه الأشياء بقلبها، حتى فسد القلب، فلما رأيت النفس تتناول زينة الله والطيبات من الرزق، تريد بذلك تغنياً أو مباهاة أو رياء، علمت أنها خلطت حراماً بحرام، فضيعت الشكر، وإنما رزقت لتشكر لا لتكفر؛

فلما رأيت سوء أدبها منعتها، حتى إذا ذلت وانقمعت، ورآني ربي مجاهداً في ذاته حق جهاده، هداني سبيله كما وعد تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وأن الله لمع المحسنين). فصرت عنده بالمجاهدة محسناً فكان الله معي، ومن كان مع الله فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل؛ وقذف في القلب من النور نوراً عاجلاً في دار الدنيا، حتى يوصله إلى ثواب الآجل؛ ألا ترى إلى ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا قذف النور في قلب عبد انفسح وانشرح، قيل: يا رسول الله، فهل لذلك من علامة؟ قال: نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله)؛ وإنما تجافى عن دار الغرور، بما قذف في قلبه من النور، فأبصر به عيوب الدنيا ودواهيها وآفاتها وخدعها وخرابها، فغاب عن قلبه البغي والرياء والسمعة والمباهاة والفخر والخيلاء

والحسد، لأن ذلك إنما كان أصله من تعظيمه الدنيا، وحلاوتها في قلبه، وحبه لها؛ وكان سبب نجاته من هذه آفات برحمة الله رياضته هذه النفس، بمنع الشهوات منها. وهذا في الآثار موجود قائم عن السلف، قد سارت به الركبان، من غير وجه؛ حدثنا محمد بن سهل، قال: حدثنا عمر بن منصور القيسي قال: حدثنا عبد الواحد بن زيد، عن الحسن، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه ذات يوم: (ماذا تقولون في صاحب إذا أنتم أكرمتموه ورحمتموه وأطعمتموه وسقيتموه، دعاكم إلى شر غاية؛ وإذا أنتم أهنتموه وأعريتموه وأجعتموه وأعطشتموه وأتعبتموه، دعاكم إلى خير غاية؟ قالوا: يا رسول الله، هذا شر صاحب في الأرض. قال: إي والذي بعثني بالحق، هي أنفسكم التي بين جنوبكم).

وحدثنا صالح ابن محمد، قال: حدثنا أبو مقاتل، عن ابن عون بن أبي راشد، عن الحسن رضي الله عنه، قال: بلغنا عن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، قال في خطبته: (لا تضرين بكم الشهوات، فإنها أشد حراً في الجوف من النار، وأشد سكراً من الخمر، وإنكم لا تدرون ما تأملون، إلا بالصبر على ما تكرهون، ولا تنالون ما تحبون، إلا بترك ما تشتهون). حدثنا عمر عن سهل بن تمام، عن عمار بن منصور، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: طهروا قلوبكم بقلة الطعام تصفوا، فترق وتصلب وتستعف)؛ فصفاؤها لله، وصلابتها في الدين، ورقتها للأخوان، واستعفافها في ذات الله تعالى. فعالج قلبك حتى تعتقه من رق النفس بما وصفت، فإذا كان كذلك صفا قلبك من كدورة الأخلاق، وطهر من شهوة الآثام، فاستقر اليقين فيه، لأن اليقين لا يستقر حتى يرى مكاناً ظاهراً، فتحيا القلوب وتصلب، لأنه من الله، قد قرب عبده واصطفاه، فيصير حينئذ ما غاب عن العين من أمور الآخرة، وأمور الملكوت، بعين قلب، فهو كالبرق في

ليلة ظلماء، إذا برقت أبصرت بعين رأسك جميع ما غاب عنك في تلك الظلمة، من بئر أو جرف أو واد؛ أو ما ترى إلى حديث حارثة؟ حدثنا بذلك عبد الجبار بن العلاء، قال: حدثنا يوسف بن عطية، عن أنس، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي إذ استقبله شاب من الأنصار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت مؤمناً بالله حقاً، قال: فانظر ما تقول، فإن لكل قول حقيقة. قال: يا رسول الله، عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، وكأني بعرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة كيف يتزاورون، وكأني أنظر إلى أهل النار كيف يتعاون فيها. قال: عرفت فالزم. عبد نور الله الإيمان في قلبه. فقال: يا رسول الله، ادع الله لي بالشهادة. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنودي يوماً في الخيل،

وكان أوّل فارس استشهد، فبلغ أمه، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، أخبرني عن ابني، إن يك في الجنة لم أبك عليه ولم احزن، وإن يك غير ذلك بكيت عليه ما عشت. قال: يا أم الحارث إنها ليست الجنة، ولكن جنة في جنان؛ والحارث في الفردوس الأعلى. فرجعت وهي تضحك وتقول بخ بخ لك يا حارثة. أفلا ترى أنه لما راض نفسه بأن قال: عزفت نفسي عن لذات الدنيا وشهواتها، فكأني أنظر إلى عرش ربي، فصارت الأمور الغائبة عنده معاينة، فعمل على الحقائق، وذهب الجهل، لأنه من نصب وتعب وعمل على المعاينة، زال الجهل عنه؛ ومن عمل على غير المعاينة، فهو في جهد عظيم، ومخاطرة عظيمة من قبل نفسه، إلا من عصم الله تعالى، لأنه كالسائر في الظلمة: أحياناً يمشي، وأحياناً تنهشه حية، أو تلدغه عقرب، لا يبصر أين يضع قدمه، فهذه مخاطرة. وأما جهده ثقل نفسه، فإنما ثقل أنه لم يعاين ما ثمرة هذه الأمور؛ هو بمنزلة رجل قيل له: احمل هذه الحمولة، فثقل عليه، فهو يجد ثقلها على فؤاده،

فقيل له: أحمل، ولك هذا الدينار، فاستمر بالحمولة، ونهض بأعباء ثقلها، فوجد خفة الحمولة، لأنه قوي القلب بما عاين من الدنيا، فقويت الأركان؛ أو قيل له أحمل هذه الحمولة، فثقل عليه، فعلاه بالسيف أو بشعلة نار، فخلص إليه الخوف، فاحتمله، فوجده خفيفاً، لأن القلب قد عزم على احتماله، هرباً من السيف، أو قيل له احمل هذه الحمولة، فثقل عليه، فقيل له: هذا الملك وأنت بعينه ينظر إليك، فوجد القلب قد انتقل عن حالته، إجلالاً للملك، فاستمر بالحمولة وقوى القلب، فإنما أدرك حمل هذه الحمولة بما عاين، فكذلك صاحب النفس قد عاين وشاهد قلبه، مما هو أكثر مما هاهنا من معاينة بصر الرأس في دار الدنيا؛ فالقلب الموقن، صفته إذا تناول النعمة، فكأنما يتناولها من خالقه، فيأخذها بحياء، ومرة بحلاوة، ومرة بمهابة، ومرة بخوف؛ وإذا نزلت به بلية أبصر بنور يقينه إلى أموره، اختار له هذا، فظن به أحسن الظنون، لأنه أيقن أنه به أرحم منه بنفسه

صفة الموقن

وأرأف، فأتمن ربه، واتهم نفسه، وقال: ربي أعلم بما اختار لك، فإن لم أصلح على اختياره وتقديره، لم أصلح على اختيارك وتقديرك أيتها النفس، واختيارك أنزل بي هذه البلية لإحدى خلال: إما تكفيراً لخطيئة استوجب بها هذا العذاب الأكبر، وإما رفع لي درجة يقربني إليه، وإما بينهما لأمر عظيم، أو عصمني من ذنب، أو صرف عني داهية، أو عالجني بعقوبة، لأن يرفع عني عقوبة الآخرة، ففي كل هذا خير. وأما العارف فإنه أجمله، فقال: هو مشيئة ربي، فمشيئته أحلى عندي وأعظم على قلبي، من نفسي وجميع جوارحي، وهؤلاء قوم ولهت قلوبهم لديه، فصارت أحكامه التي رضيها لهم منية قلوبهم، من إجلالهم له وإعظامهم. عدنا إلى صفة الموقن وإذا ذكر الرزق وثق بالضمان، واطمأن بوفائه، فإن طلب طلبه مع سكون القلب، على حد ما أمر به، فإذا

عرض له في ذلك شيء يكون فيه نقصان من حظه من الله تعالى، واعرض عنه، وتوجه إلى ربه ينتظر من أين يفتح؛ والعارف تخلص من هذا كله، من الضمان والوفاء، وشغل عن طلب الرزق بالرزاق، فقلبه في البحر الأكبر، قد تعلق قلبه به، فإذا ذكر المنة غرق، وإذا ذكر العافية قلق، وإذا ذكر حلول الأجل شرق، وإذا ذكر العيوب عرق، وإذا ذكر الرعاية والكلاءة ومق، وإذا رأى اللذات في الطاعة مئق، وإذا ذكره تئق، وإذا حن إليه واشتاق غرق في أثقال المنة، وعظمت آماله فيما لديه، وقلق من خوف زوال الإيمان، وشرق بغصته من حلول الأحزان، لطول الحبس عنه في دار الدنيا، وغرق من الحياء لما يرى من عظيم بره ولطفه، وجميل نظره، وحسن عوائده، ومن جميل صنائعه، ومن هرب النفس منه، وإعراضه عن حقوقه، وإظهار جفوته؛ وهو من عظيم عطفه عليه في كلاءته ورعايته، واصطناعه إليه؛ ومئق لما يرى من فتح باب الدعة، وإكرامه بالطاعة،

وتقريبه إياه بما يمكن له مكن الخدمة، وتئق من طول الغربة، وشدة الحنين، فأنسه به، وسكونه إليه، وهو ملجؤه وثقته، وكهفه وسنده ورجاؤه، لا يتهمه على نفسه، ولا يسئ به الظن في نوائبه، بحسن معرفته بربه أنه غفور رحيم، ودود حميد مجيد، واحد صمد قيوم، كفيل وكيل، جواد كريم، حنان منان، حي لا يموت، لطيف بعباده، بر رحيم، شكور غفور، حليم عفو رءوف، معروف بالمعروف، محسن مفضل، فضله عظيم، إحسانه دائم، كرمه ظاهر، فاطمأن قلبه، كما وضفه ربه، فقال تعالى: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، إلا بذكر الله تطمئن القلوب). وقال الله تعالى: (الله نزل أحسن الحديث) إلى آخر

الآية؛ فبين أن القشعريرة إنما هي من الخشية، فإذا ذكروه في كرمه وجوده، ورأفته ورحمته، لانت جلودهم وقلوبهم. قال له قائل: فما بالنا نسمع هذا العلم فنفهمه ونعقله، ولا يبقى على القلب منه شيء؟ قال: لأن نيران الشهوات في الخوف قد التهبت، فهي نيران سود، مظلمة بالهوى، وهي مؤدية إلى نار الله الكبرى، فإذا التهبت ارتفع إلى القلب، وأحرق تلك الأنوار، فخلا القلب من الموعظة والعلم الذي عليه، وهي شبيهة بالنار التي تلهب حمرتها، فتحتاج إلى ماء كثير حتى تطفئه، كلما ألقيت عليه قبضة من شئ، أو رششت عليه قليل ماء، انطفأ قليلاً ثم التهب، فكذلك صاحب الشهوة، إذا سمع الموعظة ذبل قلبه، وتخسفت نفسه، لما يصل إليه من الخوف، لأن الوعيد مما تنكسر به النفس، وتخمد شهواتها؛

ألا ترى أن الرجل يكون في لذة من لذات الدنيا ونشاط، فإذا بلغه وعيد من السلطان انكسر، وذهب نشاطه، فوعيد الله تعالى لو خلص إلى القلب، لكانت النفس والشهوات أشد انكساراً، ولكن لا يصل ذلك إلى القلب، فهو صلب أبداً، فرح مرح، أشر بطر، فهو ينور بلهب، فإنما يطفأ بالماء الكثير الغالب، وهو العلم المؤدي إلى الخوف والوعيد، وليس يوجد هذا، فما الحيلة في ذلك؟ قال: إنا لا نعلم له حيلة، إلا أن يمنع من إلقاء الحطب عليه، فإنه متى زاده وقوداً اتقد، ونار والتهب وقوى، ومتى ما حبس عنه وقوده خمد، حتى يصير رماداً، ويذهب حر التنور؛ كذلك ههنا، يحبس عنها الشهوات حتى تخمد، فتذهب فورتها والتهابها، فحينئذ تتخلص أنوار القلب، ويقوي ويعمل العقل عمله، ووجدنا في مبلغ عملنا أن الذي جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن النار تنادي يوم القامة للمؤمن: جز يا مؤمن، فقد أطفأ نورك لهبي؛

هذا معناه أن من عالج شهوات نفسه وهواه حتى يقهرها وتتخلص أنواره، ويقوى على قلبه، فقد أطفأ نور قلبه نيران شهواته المظلمة بالهوى، فهو النور يوم القيامة، حتى يطفئ ذلك النور لهب النار عنه؛ ومن لم يعالج هذا من نفسه، وخرج من الدنيا مع هذه النيران سوداء مظلمة، خفت من ألا يقوى نوره على أن يطفئ لهب النيران على الصراط، لأنه لم يكن له نور على القلب يطفئ نيران شهواته، وخرجت منه أعمال البر محترقة، مخلطة برياء، لأن عامة ما يعمل من الطاعات إنما يعمل بهواه، وبما يخف عليه، وبما تنشط له النفس وتستحيله، لا ينظر إلى ما يختار الله له، ولا يقبل علمه من ربه، إنما هو عامل لربه على التملك والاقتدار، والاختيار للأحوال، حتى ربما حمله ذلك على ترك الواجب، في جنب ما يتطوع به، وهذا موجود في الخلق، ترى الرجل يصلي بالليل، ويعق والديه، ويصوم النهار، ويسوء خلقه في شأن فطوره وسحوره، ويغتاب الناسي، وينفق في أعمال البر، ويكتسب الشبهات، ويعود المرضي، وينقل الجنائز، ويؤذي المسلمين، ويطلب عوراتهم، ويعود

الأباعد، ويقطع الأرحام فهذا رجل جاهل بربه، يعبده بالهوى، كلما هوى أمراً ركبه، وكذب فيما يقول إني أريد به الله. وإنما أتى فساد الخلق من إهمال النفس، وترك تأديبها، وقلة النظر في أمر الله تعالى، وجهلهم به، فلو عرفوه لاستراحوا من خدع النفس ودواهيها، لأن النفس إنما تطمع بمخادعة من يجهل ربه، فأما العلماء بالله، العارفون بالنفس، والشيطان أقل وأذل هناك أن يطمعها في خدعهم، لأن النفس إنما تظلم وتوسوس على القلب الشهواني، الذي قد أسره الهوى، وليس لنور الطاعة في القلب ما يغلب الهوى والشهوات، وإنما القوة الغالبة نور المعرفة، فمن أستنارات معرفته كانت أموره على بينة ومعاينة، وذلك قوله تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو علة نور من ربه. . .) الآية، فوصف رسول الله صلى الله عليه وسلم علامات بالإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد

للموت قبل نزوله، ومنه قول حارثة: كأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عرفت فالزم؛ من سرّه أن ينظر إلى عبد نوّر الله الإيمان في قلبه فلينظر إلى هذا. وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال له رجل: علمي غرائب العلم. قال: ما صنعت في رأس العلم؟ عرفت الرب؟ قال: نعم. قال: فما صنعت في حقه؟ قال: ما شاء الله. قال: هل عرفت الموت؟ قال: نعم: قال فما أعددت له؟ قال: ما شاء الله. قال: أذهب فتعلم رأس العلم، ثم تعال أعلمك غرائب العلم.

أفلا ترى أنه أمره بتعلم المعرفة، وسماه رأس العلم، فقد كان مسلماً، لأنه سأله أن يعلمه غرائب العلم، وأنه كان أخبر بتلك المعرفة؛ فلما سأله: هل عرفت الرب؟ أجابه عن معرفته، فلما سأله عن الامتحان عما صنع في حقه، انقطع الرجل، فقال ما شاء الله. وما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حدثنا بذلك صالح بن محمد، قال: حدثنا القاسم العمري، عن عاصم بن عبد الله بن عامر بن ربيعه، عن أبيه: أن رجلاً أثنى على رجل عند عمر رضي اله عنه، فقال: صحبته في سفر؟ فقال: لا. قال: فأتمنته على شيء؟ قال: لا. قال: ويحك! لعلك رأيته يخفض ويرفع في المسجد. ومثل ذلك عندنا مثل رجل رأى قوماً لم يعرفهم إلا بالوجوه هكذا، فتعرف أحوالهم، فوصف له رجلا رجلا، فقيل له: أما هذا الواحد فهو عالم لا يوجد له في الدنيا نظير، لتبحره في العلم، فعظم في عينه، وأخذ من قلبه شعبة؛

ثم قال له: هذا الرجل الآخر غني، لا يوجد له في الغنى نظير، فعظم في عينه، وأخذ من قلبه؛ ثم قيل له: وهذا الآخر كريم، لا يوجد له في الكرم نظير، فعظم في عينه، وأخذ من قلبه؛ وقيل له هذا الآخر صانع الأشياء، لا يوجد له نظير في كل صناعة، فعظم في عينه، وأخذ من قلبه؛ قيل له: وهذا الآخر كفيل، يكفل الأرامل والأيتام، والضعفاء والفقراء، لا يوجد له نظير في رأفته ورحمته، فعظم في عينه، وأخذ بقلبه؛ ثم قيل له هذا الآخر شكور، عارف بالحقوق، إن أتيت أدنى شيء شكرك الكثير، ونشر عليك الجميل، فعظم في عينه، وأخذ من قلبه؛ ثم قيل له: ولهذا مملكة وعز، ومنعة وسلطان، قد ملك المشرق والمغرب، فعظم في عينه، وأخذ من قلبه؛ ثم قيل له: وهذا قوي لا يطاق، له قوة ألف رجل من الرجال، فعظم في عينه، وأخذ من قلبه؛ فكل رجل منهم يوصف بواحدة من هذه الخصال، يأخذ من قلبك شعبة، ويعظم في عينك شأنه، وقبل ذلك لم يكونوا على قلبك هكذا؛

فلو أن هذه الخصال كلها جمعت في رجل واحد، لكان يعظم في عينك، ويكبر شأنه في صدرك، وتعظم منزلته عندك، ويأخذ بقلبك كله؛ فهذه الأشياء لو اجتمعت في رجل واحد كانت عارية، وهي عطاء من ربه، فعندئذ لا يكون من ملكه رأس إبرة وهو مخلوق يفنى ويبلى، فكيف بالعالم الذي لا يشبه علمه وغناه، وجوده وكرمه، وحلمه ومجده، وبهاؤه وجمالته، ورحمته ورأفته، وقوته وقدرته، وسلطانه وبصره بالأشياء، شيئاً مما عند الآدميين، وإنما اتفقا بالاسم، فأما الأشباه فتعالى ربنا رب العالمين عن أن يشبهه شيء من خلقه؛ فإذا عرفت هذا من ربك فكيف يكون على قلبك أموره، ووعد ووعيده، وضمانه وكفالته وقوته؟ فمن استنار قلبه بالمعرفة سكن قلبه واطمأن إلى ربه، ووثق بقوله، فعظمت منزلة المؤمنين عند الله تعالى، حين قبلوا الإيمان بالجملة، ثم أستأداهم الوفاء عند النوائب، فمنهم من وفى، ومنهم من سقط، وبقى في الطرق، فأظلم عليه الهوى، ووقع من التخليط في الذنوب؛

ومنه ما حذر الله صفيه داود عليه السلام، فقال: (إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله)، فلإنسان مطبوع على سبعة أخلاق: على الغضب، والرغبة، والرهبة، والشهوة، والغفلة، والشك، والشرك. فالخلق كلهم أقروا بأن الله تعالى فطر الناس عليها؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون؟ سيقولون لله، قل أفلا تذكرون. قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم؟ سيقولون لله. قل: أفلا تتقون؟ قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون؟ سيقولون لله. قل فأنى تسحرون). وقوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات

والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله، فأنى يؤفكون). (ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها؟ ليقولن الله؟ قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون). فأقروا له تعالى بالربوبية من غير عقل، ثم أشركوا به غيره في ملكه، فقال تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) فأقروا لله بالربوبية، ثم أشركوا فيه لأنهم نطقوا من قلب مظلم، وقد ضرب الله تعالى لهم مثلاً في كتابه فقال: (يكاد البرق يخطف أبصارهم، كلما أضاء لهم مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم قاموا).

وقال: (كمثل الذي استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم، وتركهم في ظلمات لا يبصرون). فأقروا له بالربوبية، ثم غفلوا عنه ونسوه، فهذا الشك والشرك والغفلة فيه، ثم الغضب مركب فيه، والشهوة كذلك، فالرغبة في النفس من قبل النفس، والرهبة في النفس من أجل النفس، والخلق بهذه الصفة من مات منهم فإن جهنم موعدهم، لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم، فإنما قسمت على الأبواب هذه الأجزاء لهذه السبعة الأخلاق، فكل من غلب عليه خلق من هذه الأخلاق نسب إليه، وألقى في ذلك الباب، وعذب في ذلك الدرك. وما يصدق ذلك ما جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: للنار باب لا يدخل منه إلا من شفى غيظه بسخط الله

تعالى، حدثنا بذلك أبي رحمه الله، قال: حدثنا عبد الله بن نافع الدينوري، عن إسماعيل بن شيبة الطائفي، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: من منّ الله عليه من ولد آدم بالمعرفة، وجعل له نوراً يمشي به في الناس، كان له ولياً، يخرجه من الظلمات إلى النور، وكان ميتاً فأحياه. ووصف ذلك كله في كتابه، فقال تعالى: (أو من كان ميتاً فأحييناه)، وقال: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظالمات إلى النور). وقال: (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور). وقال: (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح).

فوصفه إلى آخر الآية. قال: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام). ثم قال: (لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون)، إخبار عن المنة عليهم. فلما استنار قلب المؤمن بالنور الذي أعطى، نطق لسانه بتوحيده، وعرف قلبه ربه، وصدقه في وعده ووعيده، فأستسلم وألقى يديه، فذهب عن الشك والشرك والغفلة، فتيقظ وأيقن وأخلص، وبدّل بالغفلة اليقظة، وبدّل بالشك اليقين، وبدل بالشرك الإخلاص، وبقيت فيه الشهوة والرغبة والرهبة والغضب، وكلما أزداد العبد في إيمانه نوراً وقوة وشعاعاً، تنقص من الغضب والشهوة، والرغبة والرهبة، فكل مؤمن على قدر إيمانه يكون من هذه السبعة باقية فيه، يغفل عن ربه، وتعتريه الظلمة كالشك وليس بالشك، ولكنه ريبة القلب واضطرابه وتغيره، كالشرك وليس بشرك، ولكنه شرك الأسباب الموضوعة، فيتعلق بالأسباب، يكون اعتماد القلب على الأسباب، وينسى ربه، لا لأنه يجحده،

إذا ذكر أقر، وإذا نسى تعلق قلبه بالأسباب، حتى يفتتن: والأسباب مثل الحصن يدخل فيه الخائف، والسلاح يأخذه فيتقوى، فيكون اعتماده على الحصن والسلاح، وينسى ربه، وكالدواء ليستشفى به، فينسى ربه في شأن الرزق، يطلب ويسعى ويغفل عن ربه حتى يفتتن، فإذا ذكر لا يعمل فيه ذلك الذكر، وجميع الخلق أسباب، القلب حائل بينه وبين رؤيته ذلك من ربه، وهو سبب المعصية والفتنة؛ فإذا استنارت معرفته فعلمت، كانت كالشمس تشرق في قلبه بالأسحار، ولا ظلمة ولا غبار، فصارت الأشياء له معاينة، فتخلص القلب حينئذ من الأسباب، إلى ولي الأسباب، ومنه قول عيسى بن مريم عليه السلام: لو أن رجلاً مستكمل الإيمان يهز جبلاً لزال عن مكانه؛ ومنه قوله لبعض الحواريين حين أراد أن يلحقه في البحر، فيمشي على الماء معه: هات يدك يا قصي الإيمان، ثم مشى به في موج البحر،

فقال: خفت الموج؟ قال: نعم. قال: ألا خفت رب الموج؟ ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب لله، وأبغض لله، ومنع لله، وأعطى لله، ونصح لله، فقد استكمل الإيمان: ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لسلمان رضي الله عنه: قل اللهم إني أسألك صحة في إيمان، وإيمانك في حسن خلق، ونجاحاً يتبعه فلاح، ومغفرة منك ورحمة ورضواناً. وفي هذا الباب حديث كثير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ومنه قول الحسن البصري رحمه الله عليه في تفسير قوله تعالى: (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه)، قال: غير مستكمل الإيمان: (فأولئك لهم الدرجات العلى، جنات عدن تجري من تحتها

الأنهار خالدين فيها، وذلك جزاء من تزكى). أي تطهر من الأسباب، وهو هذه الأخلاق السبعة، فهم أهل الدرجات العلى في جنات عدن، وهم الصديقون رفقاء الأنبياء؛ فمن هاهنا قالوا بزيادة الإيمان، سموا هذا النور الذي يزداد العبد بربه معرفة به إيماناً، كالشمس شعاعها الذي يقع بالأرض تسميه شمساً، والذي يطلع في المجرى تسميه شمساً، لأن هذا منه، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من أمتي رجالاً حال بينهم العرى عن أن يأتوا مصلاهم، يمنعهم إيمانهم أن يسألوا الناس، منهم أويس القرني، وفرات من حباب العجلى، رحمة الله عليهما. حدثنا الفضل بن محمد قال: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا ابن مهدي وعبد الله ابن الأشعث، عن سوار، عن محارب بن دثار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك،

فسموا هذا النور إيمانا، وذلك جائز في اللغة؛ وعلى هذا التأويل قول الحسن رحمه الله (غير مستكمل الإيمان)، أي لم يستكمل النور؛ فوجدنا التبحر في العلم بالله بحسن المعرفة يملأ القلب نوراً، يحرق ذلك النور جميع نيران النفس، من الشهوات الهاوية في القلب إلى الإخلاد والتمكث، فلذلك تراه في الآخرة يطفئ نوره نيران الآخرة والتمكث على الجسر، وهكذا صفة المؤمن يومئذ على الجسر. قلنا كان أصل هذا الأمر، والمدار عليه، هو الإيمان به، وحسن المعرفة له، كما وصفنا، من السكون والطمأنينة، والثقة به، والركون إليه، على قدر ضعف اليقين وقوته، كما ذكرنا بديا؛ امتحن الله تعالى بفرائضه وحدوده وأمره ونهيه، ونهاهم عن أشياء، وشهوات تلك الأشياء مركبة فيهم، وأمرهم بأمور، فثقل عليهم إتيانها، وحد لهم حدوداً، فمد هواهم إلى مجاوزتها، وإلى التقصير فيها، والقعود عن إتمامها، ليظهر ما في ضمائرهم، ومقادير إيمانهم في الضعف والقوة، لخلقه من في السموات والأرض

والملائكة وسائر الخلق، لكي إذا رفع بعضهم فوق بعض في الدرجات، لم ير أحد من خلقه من الملائكة والسموات والأرض وسائر الخلق أحكامه بين عباده إلا جميلاً؛ وابتلاهم بالطاعة، وبالحدود والفرائض، والأمر والنهي، فقال: (ولنبلونهم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم). أي يستخرج أسرار ضمائرهم، حتى يكون عذري يوم القيامة قائماً، وأمري ظاهراً، فلا يرى خلقي مني ذلك إلا حسناً جميلاً ومعروفاً؛ فلما علم أنهم يضيعون حدوده وفرائضه، من أجل الشهوات المركبة فيهم، وضعف الإيمان، وقلة اليقين، علم أنه سيكون من هذا الخلق أمور تحدث أسبابها من الهوى والشهوات، وقلة المعرفة بأمور ربه، وضعف اليقين، وزجرهم عن أشياء رحمة منه عليهم، وتعظيماً لهم، لأن من آمن ودخل في ولايته وحزبه صار سعيداً بجنته، فحرم

دماءهم وأموالهم وأعراضهم، بعضهم على بعض، وحرم عليهم الغيبة، والبهتان، والزور، والتجسس، وسوء الظن، وهتك الستر، وطلب العورات، والجهر بالسوء والأذى، وحرم عليهم الزنا، لأن فيه الغيرة والأذى بعضاً لبعض، وحرم الخمر، لان فيها الأذى وتلف النفس وإهلاكها، وحرم الربا، ودل على المواساة والتقارض، وقال: (ولا تنسوا الفضل بينكم)؛ ففي ذلك دليل على حضهم، ومنع بعضهم من بعض، وحضهم على البر بعضهم لبعض، إبقاء عليهم، ومرفقاً لهم، لأنهم أهل خاصته وصفوته، ودعا إلى الصلوات الخمس، ليطهر أبدانهم، ودعاهم إلى الزكاة ليطهر أموالهم، ودعاهم إلى الجمعة، ليطهر خطاياهم، ودعاهم إلى الحجّ، ليعتق رقابهم من عظائم الإثم، ودعاهم إلى صلة الأرحام، ليرحم بعضهم بعضاً فيرحمهم، ودعاهم إلى الجهاد، ليتخذ منهم شهداء، ويرفعهم في الدرجات، ثم دعاهم إلى نوع آخر من العبادة، ودعاهم إلى بر الوالدين، ليقوم بشكرهما من أجل التربية، لأنه يبغض الكفور،

ودعاهم إلى الإحسان إلى الجار، وإلى ذي القربى، وإلى الصاحب بالجنب، وإلى الضيف والمملوك؛ وكل هؤلاء أهل حقوق؛ ودعاهم إلى الإحسان إليهم، ليكون ذلك شكراً لهم؛ فهذه الأشياء كلها عبادة تعبدهم بها. فأما أصل الأمر، فهو ما وصفته لك في أول الكتاب، أنه دعاهم إلى أحكام المعرفة، حتى يسكنوا إليه، فقلب العبد من قبل أن يؤمن أغلف، وللقلب عين وآذان، فإذا كان العبد ممن خلقه الله تعالى للرحمة، وسبقت له منه الحسنى، جعل له ذلك النور كما أنطق به الكتاب، فقال: (أو من كان ميتاً فأحييناه). أي بذلك النور؛ وهو قوله: (وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس). ولا نرى ذلك النور إلا ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (إن الله خلق الخلق في ظلمة، ثم رش عليهم من نوره، فقد علم من يصيبه ومن يخطئه، ثم أخرجهم يوم الميثاق بيضاً وسودا، ثم استنطقهم

يومئذ، فبلغنا عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: فأقروا له بالربوبية، طوعاً وكرهاً وتقية، فذلك قوله تعالى: (وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً)، حدثنا بذلك عن ابن عمر، وعن أسباط، عن السدى، عن أبي صالح، وأبي مالك، عن أبن عباس. ثم قال تعالى: (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور). وقال: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه). فلما حيي القلب بذلك النور، صار سميعاً بصيراً، وروى عن لحسن رحمه الله عليه تفسير هذه الآية: (وتنذر به قوماً لدا.). قال: صم آذان القلوب، وعلى تأويل قوله تعالى عندنا: (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا،

وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون). وقال تعالى: (لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين فالحي هو المؤمن، فلما صار قلب هذا العبد منوراً بما رحمه الله، وقسم له في سابق علمه، صار القلب بلا غلاف، وأذن له ربه بالأيمان به، قال تعالى: (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بأذن الله)، فذكر هاهنا الإذن للنفس، ثم ذكر القلب، فقال: (حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم، وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان). فذكر تعالى فعله بالقلب ماذا فعل، وذكر فعل النفس أنها قد آمنت، وبماذا آمنت، فخرج القلب من الغلاف، كسحابة، انقشعت عن شمس، فاستنار، وسمع عن الله تعالى، وابصر الغيب، فصار مجتبي

من أهل جباية الله تعالى؛ وذلك قوله عز وجل: (هو اجتباكم). وصار موسوما بسمة الله، وهو ذلك النور الذي أصابه، فلما أهينت النفس، وانقادت للقلب، قبل القلب ما سمع عن الله، وأبصر بالغيب، وعقله وعزم عليه، صار موسوما بسمة الله ظاهرا وباطنا، فقيل هذا مؤمن، وهذا مسلم، لأنه قد آمن، ولأنه قد أسلم وجهه إلى الله، ومن أسلم الوجه إليه، فقد أسلم إليه بكله، لأن الوجه اسم جامع؛ ألا ترى أنك تقول في اللغة للسائرين بين الناس: رأيت وجوها كثيرة، فدخل فيه البدن كله، والمؤمن إذا آمن وقبل أمره، فإنه يعمل على تسليم نفسه إليه، لأن إيمانه إنما آمن بأنه ربه، فرقبته له، وجميع ما ملكت يمينه له، فقد سلم إليه نفسه وملك يمينه، فهو المسلم، قال تعالى: (هو سماكم المسلمين من قبل): أي في اللوح المحفوظ.

(وفي هذا): يعني في القرآن. (ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس): أي إذا جاءت الأنبياء، فسئلوا عن تبليغ الرسالة، فادعوا البلاغ، فأنكرت الأمم، وقالوا: لم تبلغنا رسلك أمرك، فنسلم أنفسنا وملك يميننا لك، ونأتمر بأمرك، فأنتم أهل تسميتي، الذين سميتكم مسلمين، بأنكم قد سلمتم إليّ أنفسكم، فيشهد لكم بذلك الرسول الذي بعثته بالمقام المحمود، الذي يغبطه الأولون والآخرون، فبلغنا في الحديث: (وتشهدون أنتم لرسلي على أممها التي لم تسلم لي نفسها، فبهذا صرتم شهداء رسلي، وحجتي عل خلقي). فلما فتح القلب عينه أبصر وسمع لما حبب إليه الإيمان، أي وصل إلى حبة قلبه، وتزين ذلك في قلبه، انقاد لربه، ألقى بيديه إلى ربه سلماً، جاءت النفس بظلمها وظلمتها، وهي الهوى، فوقفت بين يدي القلب، صار على القلب كالغشاء أو كالسحابة المظلمة، فقيل غفلة، والأول كانت غلفة، فلما ذهبت الغلفة، حيث جاء النور، وبقى الهوى غفلة. وقد نجد مثل هذا كثيراً في اللغة، يقال: جبذ وجذب، وكشر

وشكر، وزرق ورزق، ومجر ومرج، وحدج وجحد، وعلم وعمل، وغرف وغفر؛ ومثل هذا كثير، كلاهما مرجعهما إلى معنى واحد، ولكنهما اشتقا، فأستعمل هذا في نوع، وهذا في نوع، والآخر في نوع، وإن كان القالب يختلف على فعل وعفل، فإن الاشتقاق من معنى واحد، وخولف في القالب للاستعمال في نوعه، ليعرف باختلاف القالب نوعه الذي عنى به؛ وكذلك العقل أيضاً مثله، فقيل كشر إذا تبسم فبدت أسنانه؛ وإذا بدا لقلبه فرأى نعمه إليه من الأسباب شكر، لأن النعم قد بدت له، وكذلك قوله رزق، وهذا فيما بدا إليه من الأسباب في مطعمه ومعاشه، وهذا فيما بدا إليه بالسبق، فيرزق به؛ وكذلك يقال في الحربة والمرزق، فكذلك الغفلة والغلفة، معناه عندنا أن الغلفة في وقت الكفر، والكفر هو الغطاء، فإذا ذهبت تلك الغلفة، ورفع الله الغطاء بمجيء

النور، بقيت الغلفة، وهو الهوى قائماً فيما بينه وبين ربه، وكان للقلب حجابان: حجاب غطي ظلمة الكفر، فإذا ذهب الغطاء بقي الحجاب الآخر قائماً بينه وبين ربه تعالى، فهو الذي يغفله وينسيه، وهي التي تسمى غفلة؛ فلما صارت هذه النفس قائمة بظلمة هواها، وتلظى نيران شهواتها، بين قلب العبد وبين ربه، بعد أن أسلم له وانقاد، واعترف وقبل أمره، وعزم عليه، فهو يتعاصى عليه، وتستأديه الشهوات التي حرمت عليه، وتزلزله في شأن الرزق، وتوسوس إليه في نوائبها وأمورها، على تدبيرها المنكوس، وجهلها المظلم، والرب الرحيم الرءوف به، قد اختار له غير ذلك، مما هو أرفق به، وأبر له، وأزين به وأفضل، فقد شغل القلب النظر إلى ما يبدو له من تضاربه وتدبيره له، فحديث النفس وسوسة تدبيرها؛ وخيبته ومنته وأشقته وألهته، وأظلمت عليه الصدر، وهي سلاح عدوه الشيطان الرجيم، بها يخدعك ويوسوس لك، ويزين لك، ويعين هواك عليك،

فلذلك قيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك. فلما كنت بهذه الحالة وقد ألقيت بيديك إلى الله سلماً، بما جعل في قلبك، أمرك بمجاهدته، فقال تعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده). وأنبأك في كتابه شأن النفس والهوى، في آي كثيرة، منها ما ذكر عن قول يوسف عليه السلام حيث قال: (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي). وحيث قال لداود عليه السلام: (إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله). وقال تعالى: (وأما من

خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى). . . الآية، فأمره بالمجاهدة حق المجاهدة، ثم أيدنا وشجعنا، فقال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين). فسماه محسناً، ووعده أن يكون معه، ومن كان الله معه فهو المنصور لا يغلب؛ فوعدك على المجاهدة حق جهاده، أنه هو الذي يلي هدايتك سبيله. هذا ثوابه في العاجل، فكيف بثوابه في الآجل، إذا قدمت عليه غداً بالمجاهدة، وبثمرة المجاهدة، فإن الهداية صارت ثمرة المجاهدة، وبالهداية نلت ولاية الله تعالى، وبولاية الله نلت قربة الله وزلفاه. ثم قال تعالى: (هو اجتباكم)، أي كما جعلتك من أهل جبايتي، جعلت لك نوراً، وفتحت عيني قلبك، وفتحت أذني قلبك حتى عرفتني، فالآن جاهد في ذاتي هواك وشهوات نفسك، حتى يظهر انقيادك لأمري، ويعز ديني، وتعلو طاعتي. والمجاهدة على

قالب المفاعلة، والمفاعلة لا تكون إلا من اثنين، إلا في النادر في الكلام، فأما العام فإنه من أثنين، فكأنه قال: (وجاهدوا في الله حق جهاده). وقال في آية أخرى: (واعتصموا بالله). أي امتنع من شر النفس وحربها وعداوتها بالله تعالى، فكأن النفس عدوك، يرميك بسهم الشهوة، والهوى يقويها، وهي مظلمة، لا تستعين بالله عليك، وأنت ترميها بسهم المعرفة والعقل، وتستعين بالله تعالى عليها، فأنت المنصور، لأنك بالله تجاهدها، وهي تجاهدك لا بالله، فدلك ربك على الاعتصام منها به، ثم وعدك النصر، وشجعك على المجاهدة، فقال: (هو مولاكم): أي يلي نصرتكم، ثم قال: (نعم المولى ونعم النصير): ينبئك وهو يملك كثرة النصرة ومتابعتها، فإذا تركت الاعتصام به خذلك، وخذلانه أن يمنع النصرة، فإذا منع النصرة، فجاهدت النفس، رمتك بسهام الشهوة والهوى، فرميتها بسهام المعرفة والعقل، لم تغلبها

وغلبتك، لأن العلم والعقل والمعرفة في القلب، والهوى والشهوة خارج من القلب، قائم بين القلب وبين الرب، قد أظلم على سمعك وبصير عيني قلبك بغشاوته، فسجن ما في القلب، وغلب على القلب، فصار بمنزلة سراج في بيت، والسراج في الفخار، وعليها غطاء، فالبيت مظلم، فإذا انكشف الغطاء أبصر ما في البيت، مما يضر وينفع، فإذا جاهدت النفس، فاعتصامك به في ذلك، ذكرك إياه بأنك لا تستطيع دفع هذا إلا به، واستغناك به هو الذي يغنيك ويعنيك، فينصرك، وكيف لا يعنيك وقد أمرك بأن تقول: (إياك نعبد وإياك نستعين). فيأمرك بالقول بهذا حتى تسأله ثم لا يجيبك! وقال تعالى: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء)، ثم لا يجيب ولا يكشف! تعالى الله عن ذلك، وإذا نسيته في ذلك الوقت، منع النصرة، لتركك ذكره، ولاقتدارك في الأمر،

النصرة

وكيف لا يعاقبك بمنع النصرة وقد نسيته، واقتدرت في أمره، وقد أمرك بأن تقول لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فمن اقتدر في أمره والأمر كله لله، والخلق لله، والقدرة لله، عوقب بأن يخذل، وعرف بالخذلان أن أقتداره كان خطأ، وأنه لا يقدر إلا به، وقال تعالى: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم؛ وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده؟). قال له قائل: فما النصرة؟ هل يمكن أن توصف؟ فقال: إن نور المعرفة في القلب، حتى يخرج إلى عين القلب، والهوى قائم على القلب حجاباً، فإذا جاهد العبد هذا الهوى حق المجاهدة، وحق جهاده هو غاية طاقة العبد، فنصرته أن يهديه سبيله، وهو أن يجعل له طريقاً

من قلبه إليه، حتى يصير عين قلبه كأنه يراه من غير كيفية، وهو قول جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث سأله عن الإحسان، فقال: أن تعبد الله كأنك تراه. وقال في حديث آخر: إن أقواماً أيقنت قلوبهم، حتى كأنهم عبدوا الله على رؤية. وقال ابن عمر رضي الله عنهما في حديث: إنا كنا نتراءى الله تعالى بين أعيننا في الطواف. حدثنا بذلك قتيبة، عن محمد بن منير، عن ابن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر. وقال في حديث حارثة، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصبحت؟ قال: مؤمناً حقاً. فسأله عن الحقيقة، فقال: كأني أنظر إلى ربي على عرشه. هذا في رواية، حدثنا أبي، عن أبن أبي حبيش، عن عبد العزيز بن أبي رواد. وأما رواية ثابت عن أنس، فإنه روى: كأني أنظر إلى عرش ربي. وهذا النوع في الآثار كثير.

وإنما أدرك هذا حارثة بمجاهدات النفس؛ ألا ترى إلى قوله: عزفت نفسي عن شهوات الدنيا ولذاتها. فهذا قطع الهوى، فإذا قطعه هداه الله طريقه، فإذا نظر صار كأنه يراه بلا كيف؛ وهكذا وعد في كتابه، فقال: (والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا). فإذا هداه طريقه، لم يبق على قلبه حجاب للشهوة والهوى، لأنه فتح طريق قلبه إليه، فحينئذ يمكنه السكون إليه، ويطمئن القلب، ويثق بوعده، ويأتمنه على نفسه، ألا ترى إلى قول الرسول حيث حكى عنهم، وقالوا: (وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبيلنا). . . الآية. فأخبروا أنهم إنما قدروا على التوكل، وهو تفويض أمر النفس إليه، بأنه هداهم لسبيله، فزال الحجاب، أعني الهوى والشهوات عن بصر القلب، فلم يبق بين يدي قلوبهم شيء يحجبهم، فصارت الأمور لهم كالمعاينة والمشاهدة. ألا ترى

المجاهدة

إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث وصف القلب، فقال: أبصر الغيب بالغيب فآمن، أو كما قال. فهذه نصرة الرب عز وجل. فإذا تركت المجاهدة على الحقيقة منعك النصرة، فبقيت مخذولاً، مأسوراً في يدي الشهوة والهوى، فإذا صار القلب مأسوراً، فهو كملك مأسور في يد العدو، فإذن تعذر عليه الأعوان والجند، بل يذلون وينهزمون في الملاهي والأباطيل. قال له قائل: فكيف تكون المجاهدة على الحقيقة، إذ قال حق جهاده؟ فقال: اعتبر مجاهد الظاهر، وامتثل رجلين: أحدهما سلاحه تام، وحمل نفقة سنة، وتجهز بما يحتاج إليه، ورافق في الطريق رفقاء، وتبسط في مسيره، وطرب مع رفقائه، وتلذذ برؤية الكون ولقاء الناس، وفرح بما نسب إليه من الجهاد والغزو، فقيل: هذا فلان الغازي، وطمعت نفسه في علو المرتبة، وارتفاع المنزلة

عند الناس، واتخذ الجاه عندهم بذلك، ونال الكرامة في مسيره مقبلا ومدبراً، وقلبه هاهنا معلق بحب الدنيا وما خلف فيها؛ فهذا حاله في الطريق، حتى إذا بلغ المنتهى، فعلى وده أنه لا يلقى عدوا أبداً، ولا يسمع بذكره، فهو مقيم هناك مع حنين قلبه إلى شهواته ومناه التي خلفها وراء ظهره، حتى إذا لقي العدو، وجاهد مجاهدة مراوغ ليس له صدق القتال، يريد الروغان والنكص على عقبه، والهرب، حتى إذا انقضى الجهاد مرّ منصرفاً مسرعاً إلى شهواته التي حنّ إليها، والى مأواه الذي قد ألفه، ووطنه الذي قد استوطنه، قد سلم بنفسه، وسلم سلاحه ودوابه وعامة نفقته، فجاء به كما ذهب به إلا النفقة، ما أنفق في مسيره، وما أنفق أيضاً فقد طرب إليه وتلذذ، وقضى مناه وشهواته بتلك النفقة؛ فهذا قد سمى فعله هذا جهاداً، فلم يكفر فعله، بل يعطي ثواب نفقته غداً، وثواب عنائه وتعبه، وأنه كثر سواد المسلمين وأعانهم، وشايعهم.

ورجل أخذته حمية الإيمان، فغار لربه، فخرج يقصد محاربة عدو ربه، انتقاماً وتعظيماً على عدوه؛ أو رجل أيس من نفسه أن يخرج منه خير ينجو به، ورأى قبح مذاهبه، وسوء فعاله، فضاق به الأمر من شراهة نفسه، وقلة ضبطه لها، فاغتاظ منها، وحمى لربه على نفسه ومقتها، وهاله عظيم خطره منها، فقدمها إلى العدو لتحاربه، لعله أن يرزق الشهادة، فيقتل ويغسل بدمه سائر جسده، حتى يلقى الله تعالى طاهراً من أقذار المعاصي. فهذا رجل خرج بهذه النية، أو بتلك النية التي غاربها لربه وحمى له، وهو أرفع درجة من هذا الذي برم بنفسه، وأراد التطهر، فلما لقي أحد هذين العدو، ونهمته في عامة مسيره المحاربة، إما غيرة لربه وحمية، وإما طلب تطهير لبدنه، والظفر بالشهادة، ظهر منه صدق اللقاء، فبادر وحارب وجاهد، فلم يلبث أن صار قتيلاً، وبالدماء مزمولاً، وتبددت أعضاؤه من الضرب والطعن، وتبدد سلاحه هكذا وهكذا من نهبة العدو، وأخذت دوابه وجميع ما هناك، وتقبل الله روحه، فجعله حياً، يرزقه عنده، فرحاً مستبشراً بما آتاه الله من فضله، كما وصف تعالى في تنزيله

قصة الشهداء، فقال: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء)، إلى آخر الآية، فصار روحه مقبولاً، وصار عنده حياً فرحاً، مستبشراً مرزوقاً، من غير تعب ولا كد ولا عناء؛ فهذا حق الجهاد في طلب الجهاد؛ والأول رجل متحر للخير، طالب للثواب. فكذلك جهاد النفس حق جهاده، أن يصدق اللقاء، فلا تسلم منه نفس ولا مال، فإذا أخذ في المجاهدة خلصت الهموم والأحزان إلى النفس، وانقطعت اللذات والشهوات، وتغير اللون، ونحل الجسم، وضعف البدن، وذهب الفرح والتسلط، واشتغل القلب، فضعف عن طلب الدنيا، قد خلص النكص في المال، وتعطلت الأمور، ووجد المكاسب والأرباح، وأدبرت الدنيا ببهجتها وزينتها، ولذاتها وعزتها، وبهائها وملكها، وصافها وخدعها،

وأقبلت الآخرة بحقائقها، من البكاء والأحزان والاستكانة والصلاة والصيام والذكر والقرآن وأعمال البر، فشغل عن الأهل والولد، وعن التلذذ بقربهم، والأنس بهم، فصار الولد يتيماً، والأهل كالأرملة، والمسكن وحشاً، وتعطلت الأوقات التي كان يتلذذ فيها عند الغداء والعشاء، وتبدل بها جوعاً ويبساً، وبالضحك بكاء، وبالفرح حزناً، وبالسرور غموماً، وبالراحة نصباً، وبالنوم سهراً، وبالدعة تعباً وضيقاً، وبالغنى فقراً، وبالعز ذلاً، وبالمدح ذماً، وبالثناء طعناً وعيباً، فلم تسلم نفس ولا مال ولا جاه ولا قدر إلا ذهب كله، فهذا قتيل الله قد تبددت نفسه وشهواته ومناه، وصار هواه كالقتيل، فتخلص روحه عن هواه، فتقبل الله روحه، وأحيا قلبه، ورزقه من حيث لا يحتسب، ووصل بقلبه إلى إلهه، ففرح واستبشر، فقلبه عنده فرح مستبشر حي؛ فمن هاهنا برّز الصدّيق على الشهيد، لأن الشهيد احتسب بنفسه على الله تعالى مرة واحدة، حتى قتل،

والصديق يحتسب بنفسه، فلم يزل يقاتل هواه في كل حركة حتى قتل الهوي، فخلص روحه وقلبه من الهوى، فهذا غاية الصدق، فسمي صديقاً، لأنه لم يبق في نفسه منازع، فصار البدن كله لربه مبذولاً بصدق منه، لا منازعة للهوى فيه، فكما صار الصديق عنده في الآخرة حيا مرزوقاً، صار بالصدق هاهنا في القلب به مرزوقاً، فرحاً مستبشراً بما آتاه الله من فضله، وكما صار الشهيد في الآخرة بعد أن وصل إلى النعمة يشتهي أن يرد إلى دار الدنيا، فيقتل فيه، فصار منيته كذلك الصديق ماتت شهواته، فصارت منيته ونهمته في ذكره وعبادته، ومنه قوله تعالى في بعض الكتب: أيها الصديقون، تنعموا بذكرى، فإنه لكم في الدنيا نعيم، وفي الآخرة جزاء. حدثنا ابن أبي زياد، قال: حدثنا سيار، عن جعفر بن سليمان، عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى، قال: قرأت في بعض الكتب: إن سرّك أن تحيا وتبلغ علم اليقين، فاحتل في كل حين أن تغلب شهوات الدنيا، فإنه من يغلب شهوات الدنيا يفرق الشيطان من ظله.

أفلا ترى أنه قال: إذا غلبت شهوات الدنيا حييت، لأن القلب إذا كان في ظلمة الهوى وغفلته، كان كالميت، وليس بالميت، لأن الميت قلب الكافر، وقلب الغافل كالميت، وليس به حياة، وقال: إذا فعلت هذا بلغت علم اليقين. فعلم اليقين أن تعبده سبحانه كأنك تراه، وكذلك وصف الله تعالى علم اليقين في تنزيله، فقال: (كلا لو تعلمون علم اليقين، لترون الجحيم)، فأخبر تعالى: أن بعلم اليقين ترى الأشياء (ثم لترونها): أي غدا، يعني الجحيم، (عين اليقين). فهذا حق الجهاد؛ وأما الآخر فإنه رجل أراد مجاهدة نفسه، فصام أياماً، ثم ترك، واجتنب بعض الشهوات، وتناول بعضاً، وحزن مرة، وفرح أخرى، وبكى يوماً، وضحك أياماً، وصام وصلى، وساح مرة هكذا ومرة هكذا، وحمل على نفسه مؤناً كثيرة، وأتعب نفسه من طريق أنواع البر، من سهر الليل، والحج، والجهاد،

الهوى

إلا أن ذلك كله بهواه عمل، حيث طرب ونشط، لا بمجاهدة، فهذا رجل يريد أن تسلم له نفسه وماله، ويقضي شهواته ومناه، ويكون مجاهداً، فهذا غير محقق جهاده، يعطي ثواب التعب والعناء، ويؤجر عليه، ولكن لم يحارب الهوى في كل موطن حتى يقتله، فيكون قتيل الله تعالى، يقبل روحه، فيحييه، ويفرحه بنفسه، فالحرب من عندك، والنصر من عند الله العزيز الحكيم، فإذا نصرت قتلت هواك، وتخلص روحك منه وقلبك، فقبله وحياه ونوره، وهداه واجتباه ورعاه. قال: له قائل: وما الهوى؟ قال جوهرة النفس، لأن آدم عليه السلام خلق من تراب، فكان الهوى هو عنصره الذي فيه جوهريته الترابية، فكانت تلك الترابية متشعبة في النفس، وهو صفوة غذاء

الأم، والهوى تنفس النفس، وهو كدورته، وأصل جوهريته، وهو مظلم، وهو قوة غذاء الأم، لأن التراب مظلم، وأمك إنما ربتك من اللبن، ومما أخرجت الأرض، فلذلك قيل في الحديث: لكل شيء نفس، ونفس النفس الهوى، فما دام الروح فيك، فأنت كون الروح، فإذا خرج منك، صار وجهك وجميع جسدك كأنه ذرّ عليك التراب، لأنه لما زال الروح تغير الجسد إلى جنسيته الترابية، فقد علم شهوات الأرض ولذتها، وعرفها بذلك العنصر المنظلم المتشعب. هناك له ميلان، يهوى إلى جنسه. فسمي هوى، لأنه تهوى به النفس، والنفس تهوى بالقلب، والقلب يهوى بالأركان إلى العقل، والعقل يهوى بجميع الجسد غدا إلى النار، فمن ههنا هواك يميل بك إلى نعيم الأرض، لأنه من جنسه، وإليه يحنّ، وله يألف، فهذه النفس مضطربة إذا حملت عليها أمر الله تعالى، كذلك الأرض لما حمل عليها الخلق

اضطربت، فأسكنت بالجبال الرواسي حتى سكنت. كذلك النفس، إذا اضطربت فإنما تسكن بالمعرفة، فكلما كانت معرفتك أعظم وأثقل على القلب، كانت النفس أسكن، ومنه قيل: الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي، فحب المحمدة والرياسة والعلائق والعلو بشهوة العز، وإنما أحب العز واشتهاه، لاستدامة نعمة النفس، لأنه قد علم أنه إذا عز وعلا على الخلق، أدرك مناه، وجميع ما للجسد والنفس فيه لذة، ويكون قد قهر الخلق كلهم، حتى يكون كله على ما يريد، لا يخلفه أحد، فينال لذة جميع ما يهوى فيدعوك الهوى، ويميل بك إلى طلب اللذة، وقضاء الشهوة، فإذا خاف أن لا ينال ما أراد، قهر الخلق كلهم، وقد علم أسباب القهر، أنه إنما يكون بأخذ قلوبهم، أو بخوف في قلوبهم منه، لما يرون من عزه، ونفاذ قوله وأمره، فلما فهمت النفس أن نوال اللذات والشهوات التي هي النفس، علمتها في أخذ قلوب الناس، إما بمحبة مكتسبة، أو بتزين

ثمرة الهوى

عندهم ومدحة، حتى ينظروا إليك بعين التعظيم، وإما بعمل يخافونك عليه، أحببت العز، واشتهيته وطلبته. فهذا كله إنما حصل منك من أجل نوال الشهوة واللذة التي في نفسك، حتى تظفر به، فما ظفرت به فقد سمنت عليه، وفرحت وبطرت وأشرت، وما لم تظفر به طلبت العز، وهي المنعة، لتقهر الناس، وتأخذ بقلوبهم، حتى لا ترد في أمر شئته، أو هويته وأردته. قال له قائل: فما ثمرة هذا الهوى؟ قال: ثمرته أن يدعوك إلى أن تدّعي الربوبية، فمن ههنا ادعى فرعون الربوبية، حتى يكون نافذ القول في شهواته ومناه، جائز الأمر، دعاه ذلك إلى أن قال: (أنا ربكم الأعلى). هذه ثمرته،

ومن ههنا ضاق الأمر بنمرود، حتى احتال للقعود في التابوت، ليطير به إلى الخالق الأعلى، زعم أني أحارب إله السماء، لم يحتمل للضيق الذي حلّ به من قوة شهوته، وإرادة إنفاذ مناه، أن يسمع بذكر أحد غيره يقدر على شيء، فأراد أن يطمس هذا الذكر، فأرى أهل مملكته أني حاربته فقتلته، بما رجع إليه من السهم المدمى. هذا ثمرة الهوى الذي يهوى بك إلى قضاء الشهوات، ودرك ما هو من جنسه، فأحذروه، فإن الصغيرة الضعيفة منه تقوى حتى تصير كبيرة قوية، ترمي بك في أودية المهالك، والمؤمن أنقذه الله تعالى بالمعرفة من أن يدعى الربوبية، أو يقصد لمحاربته، لأن نفسه قد أيقنت، فأيست عن هذا المعنى، ولكن تطلب ما دون ذلك في أموره، فليس هذا له بحقيق ولا خليق. فقد حصل من جميع ما وصفنا إلى هذه الغاية، أن ظلمة هذه النفس الشهوانية قد استولت على القلب، حتى عجز

عن حفظ الحدود، وألا تنهى عما زجرت عنه، وإيثار ما أمرت به، وعن أداء الحقوق، وعن القيام بشكر إلهك، فحالت تلك الظلمة عن رؤية الوعد والوعيد، وعن رؤية ربوبيته الظاهرة عليك، وقدرته النافذة فيك، وفي الأشياء كلها، فافترق الناس في هذا الخطب العظيم فرقتين، فمنهم من أقبل على الحمية، ورفض الشهوات، وآثر التنغيص على جميع لذات النفس، حتى ذلّ له وانقمع، فقوى على وثاقه، ثم قوى على قطعه فقطعه، فأشرقت شمس معرفته من قلبه، وهو النور الذي فيه، فأضاء كل شيء. رأى بذلك النور الربوبية الظاهرة، والقدرة النافذة والسلطان القاهر للأشياء، وجري الأشياء كلها على مشيئاته وإرادته، فاستقام، ولم يبق من الهوى والشهوة حركة تميل به، وتهوى هكذا وهكذا، عن مشيئات ربه، وما استنار من قدرته النافذة، وربوبيته الظاهرة. ومنهم من ضعه عن هذه الأمور، لم يقدر على رفض الشهوات، وقطع الهوى، فما زال مفكراً في قدرته، ومعتبراً أمور الله عز وجل بقلب فارغ يريد الخير، مقبل على الله تعالى بمجهوده، فكان يزداد بذلك كل يوم يقيناً،

وقوة نور في تلك المعرفة، حتى غلب نور المعرفة ظلمة الهوى، فحرقه ومزقه، وبدّده، فاستكان لربه في أموره؛ ومنهم من كان هكذا في جهد وطلب، فأدركته رحمة الله تعالى، فجذب قلبه جذبة إليه، فصار من الله بمحل ومكان، بقطع الهوى، فصار دكاً، واستنار القلب بما فيه، وذاقت النفس من حلاوة قرب الله عز وجل ما لهت عن جميع شهوات الدنيا، فصار الهوى والمنية والفرح والسرور درك ما نال من قرب الله عز وجل، فنجى من هذا، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تم الكتاب بحمد الله ومنه.

§1/1