أدب الخواص

الوزير المغربي

مقدمة المصنف

بسم الله الرحمن الرحيم قال الحسين بن علي: اللهم أنا نستوهبك التأمل، وما فيه من شفاء الجهل، ونستعيذ بك من التقليد وما فيه من إضاعة العقل، ونسألك ان تجعل لنا منك سلطاناً، وتصل بين أفعالنا وبين رضوانك سبباً، ولا يؤثر عنا قولنا إلاّ وله إلى أوامرك منزع ولطف، ولا ينفذ لنا عمل إلاّ وله في طاعتك نسب ولو ضعف، وأن تجعل بمفازة من الضلال والفساد، وعلى متن سبيل من الرشاد والصلاح، وأن تعيننا على مجاهدة العدو الخاص، ومكافحة القِرن اللاصق، من نفس إلى السوء نزوع، ومن لسان بالقول طموح، ومن قول مجذوذ، فليس له فعل يصله، ومن نيةٍ غفل فليس لها موضع تظهر فيه، ومن التجاهل بفضيلة الصمت، والاحتجاج للغو المنطق بغريزة الطبع. وقد عجب المتأملون من عقل لا يمضي سلطانه على نفسه، وهو يريغ نفاذ أمر من غيره، والإنسان يسفه القاصب له، ويثرب على المولع بسبه، ويزنه بالكذب، ويعزوه إلى قول ما لم يعلم وإلى المؤاخذة على الظنن، وإلى إرسال اليد واللسان قبل اليقين والثَّلج، ولا يحس أنَّ الداء الذي أضرع خصمه للملامة، والحج عدوه في التغليظ والمذمة هو وهي سلطان العقل، وانتقاص الجلد عن صرف اللسان وقد اشرب للقول، وعن حبسه قد تهيأ للبثِّ، وأنه هو قد كان يجب أن يكون من ذلك على أبعد البعد وفي المعرفة بعيبه على أبصر الرأي وأوضح الأمر، لا أن يتعقبه بمثله، ويصل إمداده من فعله، ويستمله من فاعله المذموم عنده، ويصير صدى فيه لخصمه المشنإ إليه، ويروون عن عبد الله بن العباس انه قال: من لم يملك نفسه فليس بأهل أن يملك غيره. وقال بعض الحكماء: العاجز من عجز عن سياسة نفسه. وقال الشاعر: أبدأ بنفسك فأنهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك تسمع إن وعظت ويقتدى ... بالقول منك، ويقبل التعليم ويحكون عن عبد الله بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله أبن العباس أنه لما شاع في الفساد في عامة رعيته، شاور نصحاءه، فقال بعضهم: الرأي أن تجمع قوماً فتصلبهم، وقال آخرون: بل تعمر بهم السجون. واختلفوا في القول، فقال: ليس الرأي شيئاً مما قلتم، ولكن الرأي أن أبدأ فأصلح نفسي، فإذا صلحت نفسي صلحت باطني، وإذا صلحت باطني دب الصلاح، وتفشا في رعيتي. قالوا: وفقك الله، وعمل بذلك الرأي فرأى الخير عليه، وقد قال البحتري: ولست أعجب من عصيان قلبك لي ... يوماً إذا كان قلبي فيك يعصيني وقريب من قول البحتري شعر انشدنيه أبو مسلم عن هارون بن عبد العزيز بن المعتمد عن تغلب، أو المبردالشك مني: يهم بحران الجزيرة قلبه ... وفيها غزال فاتن الطرف فاتره يوازره قلبي عليّ وليس لي ... يدان بمن قلبي علي يوازره واللسان جارحة يكمل بها النطق والمذاق، فما على من تكلم بما لا يعنيه وفي غير موقعه أن يتذوق ما لم يحصل في قرارة فمه، وأن يتمطق بالهواء طول دهره، وأن يعاتب ماضغه ويصرف بأنيابه في غير ساعة اغتدائه، على أنه لو استحسن ذلك لما وجب أن يستحسن إدامة الكلام لغير حينه، واللهج من القول بما لا ينفعه في شيء من أمره لأن الأول قبيح وغير ضار، والثاني قبيح وضار وفاحش قتال، وهو أصل المضرة بالأذى، كما هو أصل المضرة بالأذى، وكما هو أصل المضرة بالعيب فهو موجه بالمعرة، ومعهم مخول في المساءة واللسان عضو مثل اليد والرجل، فما على من تكلم عاجزاً عن ملك لسانه، وملقياً إلى التهلكة الخرق والجهل بيده، أن يبعث بأنامله دائماً

لغير بطش، وأن يلبط بقدمه سرمداً لغير سعي، ثم يطرد المقياس عليه بأن ينغض برأسه في جميع أوقاته، وأن يواقح به كل صفات تبدو لعينه. قد علم الله وعلم العالمون أن الآفة ليست شيئاً غير لعجز والتعاجز، وغير أن يعود الخاطر الوكال، ويحل عنه رباط النهضة والاعتزام، وغير الانسياح مع جريه الماء قبل جهد النفس في الخلاص، والميل مع هبّة الريح من غير أعذار بالاستمساك ونعوذ بالله أن نخرق بنعمه فنعيدها نقماً، وأن نفسد مثابته فنجعلها عقاباً، فإن اللسان نعمة من الله على عبده، فإن احسن أيالته ولملك تدبيره وذلل بالرياضة جامحه، وركزه وراء قلبه، وأوطأه اعقاب تمييزه وتدبره، ولم يرسله إلا لخير في الدنيا أو لخير في الآخرة من إحراز نفع، وأنفع العز وإزاحة مضرة، وأقتل الضر الذل، فذاك هو الذي يطب به إحسان بطبه، ويستديم الأنعام بحسن سياسته، وإن أرسله وشأنه، وأعفاه من ولاية العقل عليه، وأجراه في الوعث والخبار، وأنطقه بالصواب والمحال، أكتبه حصائده في النار على وجهه، بعد أن تكسوه في الدنيا ليط عار لا ينسل منه، وتحوش له من العداوات منزعجا لا قرار معه، كما قال أبو عبد الله محمد بن ميسرة وكان بليغاً شاعراً وفقيهاً ناسكاً، وصاحب نظر وتأمل، وبيان وتبحر: اكثر من الصديق ... لكل يوم ضيق من أكثر العدوا ... لم يستطع هدوا وقال آخر: وما أودعت أحشاء الليالي ... أضر عليك من حقد الرجال وقال طريح بن إسماعيل الثقفي: لا تأمنن إمرأً أسكنت مهجته ... غيضاً وإن قيل: إن الجرح يندمل

وأقبل جميل الذي يبدي وجار به ... وليحرسنك من أفعاله الرجل وقال حريث بن جابر الخنفي: لا تأمنن الدهر حراً ظلمته ... وإن نمت فأعلم أنه غير نائم إذا كان ذا عودٍ صليب ومرةٍ ... ركوباً لإحناء الأمور العظائم وقال آخر محدث: نم عن معاداة الرجا ... ل فإنها حسك المضاجع وإذا أذيت فحام عند ... الضيم مجتهداً، ومانع وقال آخر في المعنى الأول: إن كان يعجبك السكوت فإنه ... قد كان يعجب قبلك الأخيارا ولئن ندمت على سكوتٍ مرةً ... فلقد ندمت على الكلام مرارا كأنه منظم من قول بعض الأوائل: الندم على السكوت خير من الندم على القول. وقال أكثم: رب قولٍ أشد من صول. وقال أيضاً: وأحسن الصمت يكسب المحبة ويروى أن لقمان قال: الصمت حكم وقليل فاعله. وقال الحسن بن علي عليه السلام وقد ليم على كثرة الصمت: إني وجدت لساني سبعاً إن أرسلته أكلني. وقيل لعبد العزيز بن مروان: أنت من أطول الناس لساناً فإذا

رقيت المنبر تكلمت بكلام نزر، فقال: إني لأستحيي من ربي عز وجل إن آمرهم بما لا أفعل فلا جرم أن هذا القول من عبد العزيز صيره إلى أن يقول فيه المادح وهو نصيب مولاهم: يقول فيحسن القول أبن ليلى ... ويفعل فوق أحسن ما يقول فتى لا يرزأ الخلان إلاَّ ... مودتهم، ويرزؤه الخليل وقال بعض الحكماء: من أطلق أمله فلا قنوع له، ومن أطلق لسانه أهدر دمه. وقال آخر منهم. من ضاق قلبه أتسع لسانه، وسب رجل عابداً فقال العابد: لولا أن الله يسمعك لأجبتك. وهذا قول حسن. وقال المجشر بن النعام أحد بني كعب بن مالك بن غياث بن تغلب: أليس هبلتما ثلباً وزوراً ... يعد عليكما لو تعقلان؟! من الرفث الذي لا خير فيه ... يحش بكل آنسة حصان وقال شداد بن أوسٍ بن ثابت وهو ابن أخي حسان بن ثابت الشاعر: ما تكلمت بكلمةٍ منذ كذا وكذا حتى أخطمها وأزمها. وفي ارتهان القائل بقوله، ومحاذرته لعقبى الطغيان منطقه قال الشاعر العنقسي وأحسن: ألم تر كعباً كعب غورين قد قلا ... معالي هذا الدهر غير ثمان فمنهن تقوى الله بالغيب إنها ... رهينة ما تجني يدي ولساني هذا البيت الذي يليق باستشهادنا: ومنهن جري جحفلا لجب الوغا ... إلى جحفل يوماً فيلتقيان ومنهن تجريد الأوانس كالدمى ... للذاتها من كاعب وعوان

ومنهن شربي الكأس وهي لذيذة ... من الخمر لم يمزج بماء شنان ومنهن تقواد الجياد لعازبٍ ... من الوحش في دكداكة ومتان في أبيات أكثر من ذلك استوفى فيها عدد الثمان الخصال التي قدم في صدر قوله، ولم نكتبها. وقوله: من الخمر لم تمزج بماء شنان يشبه أن يكون قد أغار عليه سلم الخاسر وهو سلم بن عمرو بن حماد بن عطاء بن ياسر بن مولى عبد الله بن جدعان وكان هو يدعي ولاء محمد بن أبي جعفر وفي ذلك يقول من أبيات: لقد أتتني عن المهدي متعبة ... تظل من خوفها الأحشاء تضطرب مولاك مولاك لا تشمت أعديه ... فليس قبلك لي ذكر ولا نسب وأما الجماز الشاعر وهو ابن أخي سلم وكان شاعراً ظريفاً وهو الذي يقول في سنان الخصي: ظبي سنان شريكي ... فيه وبئس الشريك فلا سنان ي " 0000 " ... ولا يدعني " 00000 " وهو أعني الجماز الذي أنشد إنساناً مقطعات فقال: ما تزيدني على البيتين والثلاثة؟ فقال له الجماز: أردت أن أنشدك مذارعة؟! وكان يقول: انهم من موالي أبي بكر بن أبي قحافة، وأبو بكر من عبد الله جدعان قريب يجمعهما تيم بن مرة، والله أعلم. قال سلم في معنى الشعر الأول الذي أوردناه: أمزج الراح براح ... واسقني قبل الصباح ليت لي خمراً بماءٍ ... وفساداً بصلاح

وقد قال غيره من المحدثين: وبالحيرة لي يوم ... ويوم بالأكيراح إذا ما عزنا الماء ... مزجنا الراحَ بالراحِ وقد قال حماد عجرد لمحمد بن أبي العباس السفاح نحواً من هذا القول، وكان استناده لما ولي الكوفة، وذاك أن أبا جعفر كان أنفذه والياً عليها بعد قتل إبراهيم بن حسن رحمهم الله قالوا فوافاه في أشد القيظ، ولقد لط لحيته بالغالية حتى كأنه خضاب، وصعد المنبر فخطب، ولحيته تقطر على قبائه فسماه أهل البصرة لذلك أبا الدبس فلزمه هذا اللقب حتى هلك، وكان أبو جعفر لما ولاه أنفذ معه الزنادقة والمجان ليلهو ببعضهم، وليبغضه إلى الناس، وكان معه في جملتهم حماد عجرد وهو حماد بن عمر بن يونس أبن كليب مولي بني سواءة بن عامر بن صعصعصة وإنما سمي عجرداً لأنه نزع ثيابه فرآه بدوي فقال: تعجردت يا غلام، العجرد العريان، والعجرد الشديد الغليظ، والعجرد الذهب في غير هذا الموضع، وكان حماد يذكر بترسلٍ وبيان مع شعره، وقد أرتسم بالصناعة، وكتب لجماعة من رؤساء الدولة العباسية، وقد سمي بعجرد قبله، قال الخليل بن أحمد: كان في ربيعة رجل يقال له عجرد، نازع رجلاً في موازنة فوجأه بجمع كفه فقضى عليه، فأخذت عاقلته ديته، وقال شاعرهم: يا قوم من يعذر من عجرد ... القاتل المرء على الدانق لما رأى ميزانه شائلاً ... وجاه بين الأذن والعاتق فخر من واجأته ميتاً ... كأنما دهده من حالق فبعض هذا الوجء يا عجرد ... ماذا على قومك بالرافق؟ فقال محمد يوماً لحماد: أتحب من الأشربات الماء؟ قال: يشكرني فيه الحمار والبعير

قال: أفتحب اللبن؟ قال: لقت استحييت مما رضعت من ثدي أمي. فقال: أفتحب السويق؟ قال: شراب المسافر العجلان ولست منه. قال: فما تقول في الخمر؟ قال: تلك صديقة روحي قال: فضمه إليه، وقال: لا جرم وأنت صديق روحي. وقال له يوماً: أي المواضع أحب إليك أن تشرب عليه؟ قال فقال: إني لأجب ممن لم تحرقه الشمس ولم يؤذه المطر كيف يشرب على شيء غير وجه السماء. ولم يزل حماد مع محمد، ومن شعره يمدحه، وغنى له فيه حكم الوادي المغني - وهو حكم بن يحيى بن ميمون، وميمون كان حجاماً للوليد بن عبد الملك فأعتقه وإنما قيل له حكم الوادي لأنه كان يخدم عمر الوادي، وهو عمر بن داود مولى عمر بن عثمان بن عفان، ويأخذ عنه الغناء، وكان عمر من أهل وادي القرى: أرجوك بعد أبي العباس إذ بانا ... يا كرم الناس أعراقاً وعيدانا فأنت أكرم من يمشي على قدمٍ ... وأنظر الناس عند المحل أغصانا لو مج عودٌ على قوم غضارته ... لمج عودك فينا المسك وألبانا فأظهر محمد أنه يعشق زينب بنت سلمان بن عبد الله بن العباس وكان يركب إلى المربد كثيراً يتصدى لها ويطمع في النظر إليها. وقال لحماد فصنع على لسن محمد: يا ساكن المربد هيجت لي ... شوقاً فما أنفك بالمربد سوف أوافي جفرتي عاجلاً ... يا منيتي إن أنت لم تسعدي وعما له أيضاً - وقد قيل: إنه لمحمد نفسه: زينب ما ذنبي وما ... الذي غضبتم فيه، ولم تغضبوا؟ والله ما أعرف لي عندكم ... ذنباً، ففيما العتب يا زينب؟ ومن شعر محمد بن العباس نفسه لم يعنه عليه أحد، أنشده المدائني:

قولاً لزينب: لو رأيت ... تشوفي لكي وأشترافي وتلددي كما أرا ... ك وكان شخصك غير خاف ووجدت ريحك ساطعاً ... كالبيت جمر للطواف وتركتني وكأنما ... قلبي يوجأ بالأشافي وكان محمد هذا قوي ضليعاً، ويحكى أنه كان يلوي العمود ويلقيه إلى أخته ريطة فترده، وعاتبه المهدي يوماً وهو أمير فغمز ركابه حتى ضاق وضغط رجله فلم يقدر على إخراجها حتى رده فأخرجها، فمثل الآن وقايس بين قوة حسه وبين وهن قوى نفسه، وإنخذال روحانية قلبه، وإسفافه لمطمع شائن إذا كان محصولاً، وتعرضه لحرام فاضح لو كان محللاً، وأجعل ذلك - إن شئت شكاً على الأطباء، واعتراضاً على روايتهم عن جالينوس إن قوى النفس تابعة لمزاج البدن، وهو في غير موضع من كتبه، يروم أن يبين أن مزاج البدن تابع لقوى النفس أيضاً. ثم إن أبا جعفر سمى محمداً على يد خصيب الطبيب، فمات، وكتبت أمه إلى أبي جعفر تشكوه، فأمر بحمله إليه فضربه ثلاثين سوطاً خفافاً، وحبسه أياماً، ثم وهب له ثلاث مائة درهم وأطلقه. وقد قيل أنه استعفى من ولاية البصرة فأعفاه، ووردت "؟ " فمات ببغداد وكان خصيب هذا زنديقاً - فما قيل لا يعتقد شياً ويتظاهر بالنصرانية، وحبسه أبو جعفر لحدث أحدثه، فمات في مطبقه، وكان يقول: لو أسامت كنت رافضياً، وكان من العلماء المبرزين، وأخبرت عنه إنه كان يقول: حبس البول أمرن للمثانة. وقيل له: ما يذهب أكل الطين؟ فقال: لب المر، وفي القولين نظر على قانون الطب. وفي خصيب هذا يقول الحكم بن محمد بن قنبر المازني البصري: ولقد قلت لأهلي ... إذ أتوني بخصيبٍ: ليس والله خصيبٌ ... للذي بيّ بطبيبٍ

إنما يعلم طبي ... من به مثل الذي بي ولما مات محمد بن أبي العباس وقد "؟ " الكوفة والبصرة محمد بن سلمان بن علي أخو زينب، طاب حماداً طلباً حثيثاً فاستجار حماد بقبر سلمان بن علي وقال: إن أكن مذنباً فأنت ابن من كا ... ن لمن كان مذنباً غفاراً يا ابن بنت النبي إني لا اجعل ... إلا إليك منك الفرارا غير إني جعلت قبر أبي أيو ... ب لي من حوادث الدهر جارا لم أجد لي من الأنام مجيراً ... فاستجرت التراب والأحجارا فلم ينفعه ذلك شيئاً عند محمد بن سلمان، فكتب إليه: قل لوجه الخصي ذي العار إني ... سوف أهدي لزينب الأشعارا قد لعمر فررت من شدة الخوف، وأنكرت صاحبي جهارا وضننت القبور تمنع جاراً ... فاستجرت التراب والأحجارا فإذا القبر ليس لي بمجيرٍ ... فحشى الله ذاك القبر نارا وما أحسبه ظفر به. ونعود فنجدد من شأننا - بتوفيق الله -. قال صاحب اللواء: إذا المرء لم يخزن عليه لسانه ... فليس على شيء سواه بخزان وقال أيضاً: وجرح اللسان كجرح اليد وتبعه الأخطل فقال:

أفحمت عنكم بني النجار وقد علمت ... عليا معد، وكانوا طال ما هدروا حين إستكانوا وهم مني على مضضٍ ... والقول ينفذ ما لا تنفذ الأبر وقال غيره - وأحسبه طرفة -: فإن القوافي يتلجن موالجاً ... تضايق عنها أن تولجها الأبره قد ألم بهذا اللفظ دون المعنى أبو نصر بن نباتة، بقية شعراء العراق، وهو مادح أبي وجدي: فلا تحتقرن عدواً رماك ... وإن كان في ساعديه قصر فإن الحسام يقد الرقاب ... ويعجز عما تنال الابر وقال طرفة - واحسن -: وتقصد عنك مخيلة الرجل ال ... عريض، موضحة عن العظم بحسام سيفك أو لسانك وال ... كلم الرصين كأغرب الكلم وقال عمر بن عبد العزيز: التقي ملجم. وحدثنا أن يونس - عليه السلام - قيل له من بعد خروجه من بطن الحوت، وقد أطال الصمت: لم لا تتكلم؟ فقال: الكلام صيرني إلى بطن الحوت. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: " إن من الكلام عيالا " وأنا أرى أن هذه اللفظة من الكلم التي أعطي رسول الله صلى الله عليه وآله جوامعها لحسنها وبيانها وإيجازها. وقال بعض عامة بلدانا الحلبيين في قصة له: رب كلمه، أزلت نعمة، وقال الشاعر: إن كان في العي آفات مقدرة ... ففي البلاغة آفات تساويها وهذا كثير لا ينساه إلا الساهي، وباهر لا يذل عنه إلا المحين، وقد أنشدني منشد من

أبيات بيتاً صحيح القسمة، يعجبني، وهو: هي الخطوب فمن ماضٍ ومنتظر ... وهو الأنام فمن ساهٍ ومعتبر ولعلم الله اللسان سبع عقور، ورائد للمنية صدوق، جعله مزموماً مخطوماً، وعن التصرف بذاته عاجزاً مقصوراً، فليس يجري ما لم يجره فارسه من العقل، ولا يفعل ما لم يأمره أميره من الرأي، ولم يجعله كالعين التي ترى ما نحاه اللاحظ بطرفة وما لم ينحه، وكالأذن التي ما قصد السامع لاستماعه وما لم يقصده. وكل ذلك لأنه صاحب الفتك والإمضاء، وينبوع الشر والبلاء، وكان إبراهيم بن أدهم الزاهد الناسك يطيل السكوت فليم في ذلك فقال: الكلام على أربعة وجوه: فمنه كلام ترجوه منفعته وتخشى عاقبته، فالفضل فيه السلامة منه، وكلام لا نرجو منفعته ولا تخشى عاقبته فأقل ما في تركه خفة المؤونة على بدنك ولسانك، وكلام لا ترجو منفعته وتخشى عاقبته، وهذا هو الداء العضال، ومن الكلام كلام ترجو منفعته، ولا تخشى عاقبته، وهو الذي يجب عليك نشره، فإذا به قد بهرج ثلاثة أرباع الكلام، هذا على بلاغة إبراهيم بن أدهم وحكمته وكثرة معارضته أهل البيان، وهو الذي سأل عبد الله بن شبرمة بن طفيل الضبي قاضي أبي جعفر عن مسألة فأسرع الجواب فقال: تأن. فقال له ابن شبرمة: إذا سهل الطريق لم أحتشد وهذا نسيبه يروى لأياس بن معاوية مشهور، وفي إبراهيم بن أدهم يقول محمد بن كناسة، وكان إبراهيم من أخواله بني عجل: رأيتك لا يكفيك ما دونه الغنى ... وقد كان يكفي دون ذلك أبن أدهما وكان يرى الدنيا صغيراً كبيرها ... وكان لحق الله فيها معظما واكثر ما يلفى مع القوم صامتاً ... وإن قال بذّ القائلين وأحكما

ومحمد بن كناسة هذا شاعر محسن، وأهل النقد يستحسنون قوله: على حين أن شابت لداتي ولم أشب ... فمنها لحى مبيضة وقرون وناصيت رأس الأربعين وأقبلت ... قساوة جني الشباب تلين وهو صاحب هذا الشعر والسائر: في انقباض وحشمة فإذا ... رأيت أهل الوفاء والكرم أرسلت نفسي على سجيتها ... وقلت ما قلت، غير محتشم ومن قوله: قعدت عن الإخوان عن غير ما قلى ... على غير نقصٍ في الإخاء ولا الود ولكن أيامي تخرمن مرتي ... فما أبلغ الحاجات إلا على جهد ومن قوله يرثى حماداً الرواية - في أبيات معروفة: فهكذا يفسد الزمان ويف ... نى العلم فيه، ويذهب الأثر يرون أن ذلك منظور به قول عبد الله بن العباس وقد دلى زيد بن ثابت في قبره: من سره أن يرى كيف ذهاب العلم فهكذا ذهابه، وهو القائل لما أبغض زوجته ومر بجذع مصلوبٍ: أيا جذع مصلوب أتى دون صلبه ... ثلاثون حولا كاملاً هل تبادل؟ فما أنت بالحمل الذي قد حملته ... بأعرض مني بالذي أنا حامل وكل هذا حسن، أو واقف بين الحسن والقبيح، فأما الذي يوافق هواي ويصنع في نفسي

صنيع الواعظ الحسن في قلوب المخلصين، وليس يستحق ذلك في حقيقة النقد إلا أني معجب به فقوله في نكبة أبي أيوب المورياني، ولعل استحساني إياه لموافقته شجناً في نفسي في هذا الوقت: لا ترى زاجراً لهمِّ القلوب ... كالرضا بالموكَّل المكتوبِ فاتق الله وارضَ بالقصد حظاً ... لا تسيلنَّ في سبيل الذنوبِ لا يغرنَّك الذي غرَّ قوماً ... شربوا من حتوفهم بذنوببِ طلعت شمسهم عليهم نهاراً ... وأتتهم نحوسهم بغروبِ قد رأيت الذي أدالت ونالت ... وقعه الدهر من أبي أيوبِ وعدنا إلى كلام ابن أدهم، وقوا ابن أدهم في تزييف المنطق والمشورة بالصمت نسيب لقولهم: أبلغ الصمت ما يكون الكلام شراً منه، وكان حبيب بن أوس الطائي الشاعر يحكيعن أبي مسهر أحمد بن مروان الرملي النحوي قال: تكلم رجل في مجلس الهيثم بن صالح. فقال له الهيثم: يا هذا بكلام أمثالك رزق الصمت المحبه وقد أحسن الشاعر إذ قال: سأهجر ما يخاف علي منه ... وأترك ما هويت لما خشيتُ لسان المرء ينبي عن حجاه ... وعيُّ المرء يستره السكوتُ ومثل البيت الأول قول جامع هذا التعليق: أطعت العلى في هجر ليلى وإنني ... لأضمر فيها مثل ما يضمر الرندُ صريمة عزم لم يكن من رجالها ... سوى من العشاق قبل ولا بعدُ رأيت فراق النفس أهون ضيرةً ... عليَّ من الفعل الذي يكره المجدُ وفي نحو من هذا الأقوال المخبرة عن التسلي قول المؤلف أيضاً:

حبيبٌ ملكت الصبر بعد فراقه ... على أنني علقتهُ والفتهُ محا حسن يأسي شخصه من تذكري ... فلو أنني لاقيته ما عرفتهُ وله أيضاً في نحو من ذلك، ولعله مُحَيَّنٌ بذكره، وناطق بالشهادة على تقصيره وعجزه: ولاعبٍ بالهوى يؤمل أن يظ ... هر لي جفوة وأهواهُ قلت لقلبي وقد تتبعه: ... يا قلبُ إما أنا وأما هو!! وفي المعنى الأول قال قائل مصيب: عيُّ صامتٍ خيرٌ من عيِّ ناطق. ومن هاهنا قال بشار: وعيُّ القيام كعبيِّ الكلام ... وفي الصمت عيِّ كعبيِّ القلم وفي بعض الأحاديث إن ابن آدم إذا أصبح كفرت أعضاؤه للسان، وقالت: اتق الله فإنك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا، وحدثني بعض شيوخنا بإسناد رفعه إلى أبي الدرداء أنه قال: لأن يعثر الرجل حتى يخر لوجهه خير له من أن يعثر بلسانه، وأنشدني هذا الشيخ في منظوم هذا المعنى لبعضهم: يموتُ الفتى من عَثرَة بلسانه ... وليس يموت المرءُ من عَثرة الرجلِ فعثرته من فيه تُودي برأسهِ ... وعثرته بالرِّجل تُوسىَ على مهلِ وقال أبو الفضل الريعي - من ولد ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب - حدثني محمد بن ذياد مؤدب المعتز - قال: بينا أنا جالس مع المعتز والزَّبير بن بكار يقرأ عليه أخبار أبي السائب وكان المتوكل قال لي: إذا غضبت عليه فلا تضربه، وقل ليندون الخدم يضربه،

قال: فترك المعتز الزبير، وقام يلعب مع الخدم، وقد كنت ظننت أنه قام لحاجة، فقلت ليندون: أما ترى إلى الأمير ترك شيخاً من قريش جالساً في سواده، وقام يلعب؟! لو كانت يدي مطلقةً عليه لأوجعته ضرباً، فقام إليه يندون ليضربه فهرب منه المعتز، فلم يزل يراوغه حتى سقط في عثرة، فدميت رجله، ففزعنا وبادرنا إليه وقال له الزبير: يا سيدي لو أعلمتني أنك قد ضجرت لقمت ولم أوذك فقال المعتز: لا بأس هوّن عليك وأنشد: يُصابُ الفتىَ من عَثرةٍ بلسانه ... وليس يصابُ المرءُ من عثرة الرجلِ قال أبو الفضل: فحدثت بهذا الحديث أبا عبد الله بن حمدون فقال لي: أنا أحدثك عن أبيه المتوكل بنحوٍ من هذا، كنا عنده في اليوم الذي قتل في ليلته، فقام لحاجة، فلما رجع قمنا، والمنتصر جالس، فلما قرب منه قام، فنظر إليه المتوكل وقال له: اجلس يا محمد، وأقبل علينا فقال: هُم سَمَّنوا كَلباً ليأكل بعضَهُم ... ولو أخذوا بالحزم ما سمَّنوا كلباً قال أبو عبد الله: فوالله ما صلينا عتمة من تلك الليلة والمتوكل من أهل الدنيا. ونرجع إلى ما كنا فيه فنقول: قد كان يجب أن نقدم بين يدي هذا القول الرغبة الى الله في المعافاة من سورة الغضب ومن غشية الأنف، ومن البلوغ في طاعة الحنق إلى ما يردي الحلم، وإلي ما يهزم الرأي، وإلى ما يزين إطلاق اليد واللسان بما يجنى منه الندم بعد ساعة فعله، ويوجد منه الأسف واللهف غب يوم كونه، وقد ينجد على اماتة الغيظ وقتله، وينفع في تَمصُّل الحقد وذوبه أن تكون النفس كاملة وقوراً، وبأمور الزمن عروفاً، وان يكن اللسان حديداً والقلب شديداً، فإن كمال الآلة يحبب الاقالة، وعلوَّ القدرة يزين التكرم والترفع عن المعاقبة، وقد قال قائل مجرب: كُنْ حاقداً ما دُمتَ ليتَ بقادر ... فإذا قَدِرْت فخلّ حقدكَ واغفر واعذُرْ أخاك إذا أساءَ فَرُبَما ... لجّتْ إساءتهُ إذا لم تَعذُرِ

وكثيراً ما يقطع بالمخاطب عيه فيفزع إلى السّفه، يتل الغبيّ البئ حصره فيطلب إخفاء أمره بالشغب، وذلك أخفض المواقف، والأم الهزائم وقال علقمة بن علاثة في نحو من هذا المعنى: أول العيّ الاختلاط، وأسوء القول الإفراط هاهنا الاضطراب لشدة الغضب، فأما إذا أيقن أنه التام الحسنى، والموفور للعلى فهو عند نفسه البحر الذي يلتهم كل ما ألقي فيه وهو ساج ساكن والطود الذي يحتمل كل ما نيط به وهو قار ثابت فيعود طريقه إلى الاحتمال دميثاً، وعذره في الأعضاء - عند نفسه - واضحاً جميلاً. جعلنا الله ممن يقيم لطبيعته المعاذير في الأقصار عن الرذائل، كما يقيم الحجيج عليها في القصور عن الفضائل، ولا جعلنا ممن يمهد لنفسه العلل في هجران الخير لصعوبة طريقه. ويخرج لها الأسباب في إتيان الشر لإعتنانه، واتفاق عروضه، وقد قال الشاعر: فلا تعذريني في الإساءة إنه ... شرار الرجال من يسيء فيعذر وتجزع نفس المرء من سب مرةٍ ... وتسمع ألفا مثلها ثم تصبر وقال آخر: وعذرك في القبائح مستتب ... وليس الناس كلهم يلام وقال العبدي: عذرك عندي لك مبسوط ... والذنب عن مثلك محطوط ليس بمسخوط فعال امرئٍ ... كل الذي يأتيه مسخوط وينشد أصحاب المعاني: فخذ القليل من اللئيم وسبه ... إن اللئيم بما أتى معذور قالوا: وليس هذا العذر في شيء، وإنما يريد أن اللئيم يسب بما يأتيه فيجعل وسما على وجهه كالعذار وقد يجوز أن يكون من العذر، وتأويله ذم اللئيم فإنه عند نفسه معذور، فذلك أوجب للوم عليه، لأنه لو استقصر فعله لدل على أنه أعطى قليلاً من نية مكثرة لو استطاعت.

وقال المكتفي أبو محمد علي بن أحمد - لما كان كاتبه معه بالري أحمد بن أبي الأصبغ يكاتب عبد الله بن سليمان بن وهب بأخباره، فينهيها إلى أبيه المعتضد، فلما اجتمعا عاتبه المعتضد، قال فلم أزل أقارب وأباعد حتى صدقني عن المخبر له، وزال ما في نفسه، فقالت: ولما رأيت العذر يظلم وجهه ... ولم يبق إلا أن أقول فأكذبا خلطت بحق باطلا فتشبها ... وجئت من الباب الذي كان أصوبا ونحو من هذا قول علي بن الجهم بن بدر - مولى بني سامة بن لؤى وهو يدعا "؟ " فيهم صميماً: وفتى ضاقت مذاهبه ... ضاق ذرعاً بالذي صنعا جعل الإقرار جنته ... حين رام العذر فامتنعا وقال آخر في ذم المعاذير، ونسبها إلى الأكاذيب: جد لي بغفرانك من قبل أن ... أخضع بالعذر وأن ارغبا فالعذر لا يسلم من زخرف ال ... كذب، وما أنشط أن أكذبا وكتب إلي بعض عمال السلطان معتذراً من تأخر كتابه عني بأن قال: فإن رأيت أن تسامحني بما في غضون اعتذار المعتذر فعلت إن شاء الله تعالى. وقال قائل: زاد على هؤلاء كلهم في حسن القول وجودة المعنى: إياك والأمر الذي إن توسعت ... موارده ضاقت عليك المصادر فلما حسن أن يعذر المرء نفسه ... وليس من سائر الناس عاذر وأشعر منه وأحكم كعب الغنوي إذ يقول:

لا تعذرن الدهر صاحب ريبةٍ ... فسان آتٍ أمر سوء، وعاذره ومن هذا الجنس - وإن لم يكن من النوع نفسه - قول تميم بن أُبيَّ بن مقبل عوف بن حنيف بن العجلان بن عبد الله بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة - وقد أحسن فيه ما شاء: يا حر أمسى سواد الرأس خالطه ... شيب القذال اختلاط الصفو بالكدر يا حر من يعتذر من أن بلم به ... ريب الزمان فإني غير معتذر فأما الكلام الذي يستحق قضية الحسن عندي، ولعله كذاك عند غيري فشعر أنشدنيه أبو مسلم عن ابن دريد عن عبد الرحمن عن عمه الأصمعي لبعض القيسيين: يا سلم لا أقري التعذر نازلي ... والذم ينزل ساحة المعتذر ولقد علمت إذا الرياح تناوحت ... أطناب بيتك في الزمان الأغبر إني لأبسط للضيوف تحيتي ... وأشب ضوء النار للمتنور وتنال بالمال القليل براعتي ... قحماً تضيق بها ذراع المكثر وهذا البيت الأخير عجب. والمعاذير كما قال الله من الأدهان "؟ " ومن الرياء والنفاق وهي مع ذلك ربما أردت، وربما كان الصدق أنجى منها في العاجل، فأما في الآجل فكلما. وعرض الحجاج قوماً من الخوارج للقتل فقال أحدهم: إن لي عليك حقاً أيها الأمير. قال وما هو؟ قال: آني حفظت غيبك، وذلك أنني كنت في مجلس أبن الأشعث فسبك وذكر أمك فقلت: مهلاً إن أبويه كانا كريمين سريين، ولكن ما شئت فيه فقل. واستشهد برجل من الأسرى، فشهد له، فقال الحجاج للشاهد: فما منعك أن تقول قوله؟ قال: قديم بغضي لك. قال: أطلقوا هذا لحقه، وهذا لصدقه.

فأما البدوي فإنه جعل المعاذير من أفعال المريب فقال: وربت منطقٍ حسن أحيلت ... معايبه فعد من الذنوب فلا عذري يرد علي شيئاً ... وكر العذر من فعل المريب فبذنبي حاضر لا شك في فيه ... لسامعه، وعذري بالمغيب وهذا البيت الأخير تمثل به عبد الحميد بن يحيى العامري صاحب البلاغة، ورئيس هذه الصناعة. ويكفيك من مذمة العذر أنهم أشقوا منه اسماً لشكاسة الخلق، ولظهور البخل، فقالوا: رجل عذور إذا كان سيئ الخلق كثير الاعتذار عند المنع، قالت الشاعرة: إذا نزل الأضياف كان عذوراً ... على الحي حتى تستقل مراجله وحسبك من نقيصة العذر أنه والملامة مقترنان، وأنه لا يوجد إلا مع التثريب في مكان واللوم الذي هو رديفه ومتكلفه هو الموت عند العقلاء، ولا سيما إذا ورد من العقلاء، ويعجبنيس قول البدوي: وإني أحب الخلد لو أستطيعه ... وكالخلد عندي أن أموت ولم ألم ومثله قول الحادرة: فأثنوا علينا لا أبا لأبيكم ... بأحسابنا إن الثناء هو الخلد والمعاذير صفو الكذب، كما أن الحجج صفو الحق وذاك أنه ليس يخلص في العذر من الأكاذيب إلا أشبهها بالحق، ولا يخلص في الحجة من الحق إلا أبعده شبهاً من الباطل، هذا إذا كانت حجة على الحقيقة، وكانت نتيجة عن مقدمات صادقة، فأما اللحن بإسكات الخصم واللدد يوم المقامة والحفل، فقد يكون بالحق والباطل كما قال الشاعر - وهو مليح ابن

أم غلاقٍ الأعيوي من أسدٍ، ولها خبر ليس هذا موضعه: برئت إلى الرحمن من كل صاحب ... أصاحبه إلا حماس بن ثامل وظني به يوم السماطين أنه ... سينجو بحق، أو سينجو بباطل وحِماس بن ثامل بن الشمردل بن تميم بن برثن بن منقذ بن أعيا - وأسمه الحارث - بن طريف بن عمرو بن الحارث بن ثعلبة هو القائل: ومستنبح في لجِّ ليلٍ دعوته ... بمشبوبةٍ في رأس صمدٍ مقابلِ فقلت له: أقبل، فإنك راشد ... وإن على النار الندى وابن ثاملِ وله شعر كثير، وكان جده الشمردل مذكوراً بحسن الشعر، وسنستقصي ذلك كله في موضعه في كتاب أسد - إن شاء الله. وقد كنت قلت - وأستغفر الله -: وأعتسف الخصم الألد بمنطقي ... فيبلغ ما لا يبلغ الحق باطلي بحيث جفاني الأقربون وكلهم ... شهيد، وأضحي ناصري مثل خاذلي لدى ملك يكمي لخصمي نصرةً ... وأعيا غلته ختل ثبتٍ مماجلِ إذا اتصلت آراؤه سهم حجةً ... تمهل أو يرمي به في المقاتلِ فلا عند أكثاف الرمية صامت ... ولا في ضجاج اللغو أول قائلِ ولي أيضاً في نحو ذلك: يا رب خصم قد تركت ذماءه ... وكأنما شفت له أرماسهُ من بعد ما قد كان يطفح قوله ... بدداً وينغض في المقادم رأسهُ بجدال ذي غرب ألد، كأنما ... يذكى بشعلةٍ قوله نبراسهُ في موقف كالحرب تهتضم الفتى ... فيه جبانته، وينفع بأسهُ وقال رسول الله (لرجلين: " لعل أحدكما أن يكون ألحن بحجته من

الآخر، فمن حكمت له بغير حقه فإنما أقطع له قطعةً من النار - أو كما قال (- فخرجا فتراضيا بينهما أراد (أن يؤدب أمته بإشعار المقضي عليه أن ليس مغلوباً من غلبة الحق، وبإعلام المقضي له أن ليس غالباً من غلبه الباطل، وبذلك يقع التباذل، وفي التباذل التناصف، وفي التناصف التصادق، وهو المذهب المحبوب عند الله وأصفيائه - جعلنا الله من المرضيين عنده أقوالاً وأفعالاً، ومن المعفوّ لهم أقوالاً وأفعالاً. وأعلم - حفظك الله - أن طالب الحق حيث يلاقي مذهبه، ومحب العدل إذا جمع عليه غرضه ليس يحب الحق لذاته، ولا يبغي التناصف على جهته، وإنما يريد موافقة المراد أين سلك، ويحب مواتاة النُّجح كيف سهل، ومورد الحق ومورد الباطل عنده سيان، بعد أن يتناوله آرابه، ويقضي أو طاره، فأبعد من هذا الشك ما استطعت، وأهرب بنفسك من هذا الشوب كيف أردت، وأعلم علماً يقيناً أن الأمر الذي يسرك، والأمر الذي يسؤك إذا كان منزعهما من العدل، ومصدرهما عن حكمة الحكم فكلاهما حق نقي وكلاهما عدل صحيح. وإنهما يسقيان بماء واحد، ويرجعان إلى أصل جامع، فلا تفرق بينهما بالهوى ولا تخرق إلتئامهما بطاعة الغضب، ولا تنسبهما لعلات وهما من الأعيان، ولا تحرمهما فضيلة التشابه وهما صنوان، فقد سمعت الله عز وجل حمد قوماً فقال: (ولم يفرقوا بين أحد من رسله) والحق من كلماته، والعدل من أسمائه، وهو لمفرقهما أشد أرصاحاً "؟ " ومن ممحقهما أبعد رضواناً، لأن الرسل حملة الحق، وبالحق عظموا وبالحق شرفوا، فموضع الإساءة من المسرب أغلظ من موضعها في المشرف، وداعي السخط في المعظِّم أقوى منه في المعظَّم، ولعلي أجمع بتكرير هذا الوعظ بين الأجر في تعريفك، وبين النفع في إذكاري - والتوفيق من الله. سر - أيدك الله - فينا بسيرتنا، وأقضِ علينا بقضائنا: فأول راض سنةً من يسيرها.

وقد علمت مجازاة عبد الله بن هارون المأمون لسهل بن هارون عن كتابه في البخل، بالبخل عليه، ليريه أنه قدَّ جوابه من مسلَّته، وقد سدَّ مطالع حججه، لأنه منعه في معرض التنويل، وزرى على رأيه في شبه التفضيل، فكذلك فأعمل فينا بالعدل الذي جلوناه، واجعلنا أول من يفوز به منك، وأول من أظهرته فيه من قوى نفسك، وأنظر في هذا الكتاب ذاكراً لهذا الإيصاء، ومعتقداً لهذا الفعل، وهو كتاب صنعناه لكل أديب أحب أن يكون مذهبه خاصاً ومحضره بين أهل العلم مهيباً، وأراد أن يحسن الدلالة على اتساع معلومه، وينقلب عن المجلس إذا ألم به والألسن مشتجرةً بوصفه، وهمم أهل الطلب معقودةً بأثره، فإن الذي تضمنه ثمن للإجلال، وداعية للهيبة ورائد صادق في حسن المعرفة. وكان باعثي على تصنيفه أني رأيت أشعار العرب، وانتظامها كل مثل الحكيم، وكل معنى بديع، فرأيت أن جمع ذلك وتهذيبه واختياره وتأليفه يجمع بين النفع بما فيه من الأدب الذي يفتق اللسان، ويستقدم الجبان، وبين النفع بما فيه من الدلالة على معجز القرآن، إذ كان يتبحر ألفاظ هؤلاء القوم، والمعرفة بمعادن ألفاظهم، وبمنازع أغراضهم يعلم معجز القرآن علماً حسياً ذاتياً. وأنا أرى أن علم العالم أن القرآن معجز من طريق القياس والاستدلال، ومن طريق الحس والإدراك أشرف وأعلى من علم العالم بإعجازه من طريق القياس بالتقليد لغيره، والاعتبار بالفصحاء الذين تقدموه وكانوا حجة عليه، ولا أرى أن الإعجاز إنما هو بالصرفة لا غير، كما يعتقده قليل من الناس بل أرى أن الإعجاز إنما هو بنوعية ذلك النظم، وبإعجازه من التمكين والحول، وأن الصرفة أيدته وكانت في الرفد بمنزله الخوافي من القوادم، واستقصاء هذا الشوط من الكلام يطول، ولعل الله أن يوفقنا لتجريد كتاب مفرد في معناه. فعزمت لما رأيت هذا المرآى على كتاب أجمع فيه المختار من أشعار العرب، والمهذب من أخبارها وبلاغتها، فرأيته ينتهي من الطول إلى حد يفيض على لمع المعارف، ويستغرق نكت الفوايد، والكثرة إملال، وكأن الإطالة تقيم عذر المعرض عن العلم، وتبسط حجة التارك لتدبر الكتب، فقصدت إلى هؤلاء الشعراء الأربعة المثبتين في الطبقة الأولى

وهم أمرؤ القيس والنابغة وزهير والأعشى، فجمعت إلى أسم كل شاعر منهم أسماء من يشاكله، وأخبرت عن قبيلة كل واحد من الأصل والمضاف، بمختار أشعارها ومحاسن أخبارها، فتهيا لي من الشعراء زيِّد على ستين شاعراً، وإذا ورد المختار من أشعار قبائل هؤلاء على وفور عددهم مع ما يتعلق بهم من ملح الأناشيد، وطرف المقاطيع، ومعارف الأخبار، كان جمهور علم العرب من أخبارها وأشعارها وأنسابها مع لهوةٍ من غرائب اللغة التي تجمع بين الأغراب والإحسان، إذ كان الغريب حوشيُّ لا يستعمل، وعاديُّ لا يطلب، ولو أنني اقتصرت على أسماء هؤلاء الشعراء لكان غريباً عجيباً، لأنه لا شيء أحسن ولا آنق من أن يجري ذكر امرئِ القيس فنذكر بضعة عشر شاعراً على هذا الاسم، ونذهب في ملح أخبارهم وبارع أشعارهم، وكذلك في النوابغ والأزاهر، فأما العشو فنحو ثلاثين شاعراً، ولكنني لو فعلت ذلك لما تعديت الدلالة على شدة بحثي وطول استثارتي مدافن هذه العلوم، دون إيراد ما يغزر به إمتاع القارئ ويكون ثروة للحافظ المذاكر، كما صنع أبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح - رحمه الله - فإن صنع كتاب " العمرين " فأتى بإشارات دالةٍ على معرفته دون أن يقرن بذلك ما يلذ الناظر بعلمه، ولم أظن أنني بقيت في الاختيار متعللاً، لأنني كنت أختار البارع من أبيات القصيدة، ثم ألقيها جانباً مدة أيام، وأعاود النظر فيها برأي سالم، وباختيار شابِّ واعٍ، فأختار من ذلك المختار ما أرى إيراده، فيكون إبريزنارين. واعتمادنا في تفسير الغريب موافقة أغراض المتوسط في الأدب، إذ كان المبتدئ إلى غير هذا الكتاب أحوج، إلا في مواضع، رأينا أن تفسيرها وإن كانت معروفة شرك لذكر فائدة لا نرى إدماج ذكرها فنكون في ذلك كما قال البدوي: وأمضي إلى الأرض التي من ورائكم ... لأعذر في إتيانكم حين أرجع وكما قال الأخر:

وما بي حب الرمل لكن بي هوى ... ويغريك بالشيء البعيد الحبائب وكذلك فعلنا في مسارق الشعراء، فأنا لم نعرض منها إلا لما تكون الفائدة في المعرفة به دون المعرفة باستراقه، أو الاستراق منه. وألغينا الأسانيد خيفة التطويل إلا في أحد ثلاثة مواضع: إما خلاف نورده، وغفل نحضره، فنحتاج إلى إسناد يعضده، وإما أثر شرف روايةً في نفوسنا، وكان من أماثل من أدركناه في زماننا فحسبنا أن التخفيف بحذفه لا يبلغ ثمن العطل من التحلي بذكره، وإما فائدةٍ كان موقعها منَّا لطيفاً، وموردها عندنا غريباً، فرأينا أن الإغماض عن ذكر من أستفدناها منه خلل في المروءة، وشعبة من كفر النعمة، وغمط لإحسان لسنا أغنياء عن أمثاله، ولا مكتفين دون ما نستأنف من أشكاله، فقد حدثني أبو محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ إنه كتب إليه أبو عبد الله النيسابوري أنه سمع أبا العباس محمد بن يعقوب الأصم يحكي عن العباس أبن محمد الدوري أنه سمع أبا عبيد القاسم بن سلام يقول: من شكر العلم ذكرك الفائدة منسوبةً إلى من أفادك إياها أو كما قال. وأغنانا عن سياقة الأسانيد كلها طريقتنا في الإتقان وما نحن من 0000إيثار شدة 000 الصحيح من السقيم. وينبغي لك يا قارئ الكتاب إن كنت تحب الشعر أن تعتده مختار أشعار القبائل، فإن كنت تحب الأخبار تمثلته مؤلفاً في سير الجاهلية والإسلام ومقصوداً بالأغرب فالأغرب من المعارف والآثار، وإن كنت تحب اللغة تصورته كتاباً مرتبطاً " 0000 " من عقائلها، ومن الشواهد عليها، وإن كنت تحب النسب - وهو أصعب علوم العرب - احتسبته سياقة جماهير الأنساب، وذكر الجمل من معارف الأشراف، وأيقن أنك لو أردت أن تصنف منه مئين من الكتب لأمكنك، لأنك تأتي إلى أخبار إياس بن معاوية - مثلاً - فتجد في بابه من أخباره عند ذكر مزينة ما لو أفردته مؤلفاً لما كان معيباً، على إقراري بالعجز دون الغاية، إذ كانت

الكتب التي جمعها أسلافي ذهبت جميعاً بالشام، وكان مدة إستيافي النظر والجمع إلى حين تصنيف هذا الكتاب يقصر عن الاستيعاب، مع ما استفزع هذه المدة من أيام الصبا، التي عذرتني في قلة الحزم والإصابة، لأن كتبنا ضاعت وسنِيّ عشر سنين، وصنفت هذا الكتاب وأنا مستقبل الخامسة والعشرين. أسأل الله تعالى أن يرزقني برَّ ما أُصنفه من هذا الكتاب وغيره في تخليده لذكرى، واحتسابه بين أهل العلم غيبي، وقيامه بخلافة لساني ومحضري، ومع ذلك كله فأنا فقير من القارئ إلى بسط العذر، وإصلاح المختل، ولمِّ الشعث، ولعلي أزيد في هذا المصنف على طول الأيام ما امتد العمر، وما أتضل الفراغ وإن أقامت الرغبة وإن ثبتت الدواعي وإن نفقت الصناعة، وإن استقام الأمر، وإن شاء الله. والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيد المرسلين محمد وآله الطاهرين.

فصل في ذكر اشتقاق " العرب "

فصل في ذكر اشتقاق " العرب " رأينا أنه مما يحتاج إلى تقديمه، ونحن في إيراده كالنائبين عن أبي بكر محمد بن دريد - رحمه الله - لأنه مما كان يجب أن يستقصيه في أول كتابه المصنف في اشتقاق الأسماء العربية، وبالله التوفيق. الذي أراه أن العرب سميت بهذا الاسم لإفصاحهم باللغة، وإيضاحهم سبيل البلاغة، من قولك: أعربت الشَّيءَ، أو عن الشيء، إذا ابنته أو أبنت عنه، وعربت عن فلان: أبنت عنه، وعربت الفارسية: أبنتها، وقال أبو عبيد في حديث رسول الله (" الثيب يعرب عنها لسانها، والبكر تستأمر في نفسها " وقد روى: " يعرب عنها " وهو قول الفراء، وبذلك الحديث الأخر في الذي قتل رجلاً يقول لا إله إلا الله، فقال القاتل: إنما قالها متعوذاً. فقال النبي (: " فهلا شققت عن قلبه "؟! فقال الرجل: هل كان يبين لي في ذلك شيئاً؟ فقال النبي: " فإنما كان يعرب عما في قلبه لسانه ". ومنه حديث رووه عن إبراهيم التيمي الفقيه، وهو إبراهيم بن يزيد بن شريك، بن تيم بن عبد مناة بن أدّ، قال: كانوا يستحبون أن يلقنوا الصبي حين يعرب أن يقول: لا إله إلا الله، سبع مرار، وأعرب الرجل بحجته إذا أفصح عنها، وعرب: إذا فصح فلم يلحن، والمعرب: الفصيح اللسان، والعربي مثله، والمعرب: الذي له خيل عراب، والذي يعرف الخيل العراب أيضاً يقال له معرب، ومنه إعراب النحو، لإبانته مقاصد الألفاظ، وإزالته شبهة الالتباس، ومنه العربون والعربان لأنه إبانة عن موافقة الشيءِ المشترى لمشتريه، وصحة عزمه على وزن الثمن فيه، ومنه في الحديث: " سنأتي سنون مغريات مكلحات " أي مبينات للجدب، وأحسبه في حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه

السلام. والعربرب والعبربر: السماق لبيان حمضه وحذاقة طعمه. ومما يقوي ذلك أن يعرب بن قحطان إنما سمي يعرب لأنه أول من عدل لسانه من السريانية إلى العربية في قول القحطانية، وقولنا للأمة التي يقع فيها الأعراب: عرب، كقولنا: فلان ضارب، إخباراً بأن الضرب وقع منه، لأنا لا نرى أن الأسماء مشتقة من الأفعال، على ما يذهب إليه قوم يخالفهم البصريون، بل نرى أن الأسماء والأفعال مشتقة من المصادر، على أنه قد يكون في الأسماء ما يشتق من الاسم دون المصدر، على حد قولك: أستحجر الطين، وأستنوق الجمل، وتأله الرجل، فعل الأفعال المقربة إلى الإله، كما قال: سبحن واسترجعن من تألَّهي واستقصينا ذلك كله في مواضعه من غير هذا الكتاب، وبالله التوفيق. هذا أحسن ما يفسر به اشتقاق العرب عندي، ولو كنا نقتصر على ما نتيقن صحته لكفانا هذا الوجه، إلا أنا لإيثار ناشفاء صدر القارئ وترك الاختيار في أقوال الخلف نورد ما يحضرنا ذكره من الوجوه في اشتقاق العرب وهي ثلاثة عشر وجهاً: فالأول ما ذكرته. والثاني: أن العربي منسوب إلى العرب، والعرب جمع عارب، كالغيب جمع غائب، والعارب الذي أتى عربة وهي جزيرة العرب، كما يقال: جلس فهو جالس إذا أتى جلساً، وهي نجد، وغار فهو غائر إذا أتى الغور. والعرب أيضاً جمع عارب كحايل وحول، وغائط وغوط، إلا أنه لا ينسب إلى العرب، لا يقال في كلامهم عربي، وكان العرب ورد مطابقة للعجم، كما أن العرب بازاء العجم، وكما يقال خُشْبٌ وخَشَبُ. والعجم اسم للجنس، وله اشتقاق يطول ذكره في هذا الموضع، والعجم جمع أعجم. والعرب وإن كان جمعاً كما ذكرناه فإنهم لم يروا أن يتصرفوا فيه بواحد يوردونه له، لأنهم لو قالوا: عارب لجاز أن يدل على أنه فاعل فعلاً من أحد الأقوال التي ذكرناها أن اشتقاق العرب

يتوجه منها، ولخرج عن أن يكون دلالة على نسبه، إلى أن يصير دلالة على فعله، فاستغنوا عن ذلك بالنسبة إليه فقالوا: عربيُّ. وقال أبن دريد في مصدره: يقال عربيٌ بين العرابة والعروبة وقد سموا بعربي كما سموا برومي وفي ضبة شاعر محسن يقال له رومي بن شريك، وفي وفي بني عبد الدار رجل يقال له أبو الروم عبد مناف بن عمير العبدري. وممن أسمه عربي: عربيَّ بن منكث أحد بني عبيد الرماح بن معد بن عدنان، وعبيد بن معد هؤلاء انقسموا قسمين: ففرقة دخلت في مزينة، وفرقة دخلت في كنانة والتي دخلت في كنانة هي التي يقال لها عبيد الرماح، وأبن عربي هذا: إبراهيم بن عربي، وكان مكرماً عند بني أمية، والسبب في ذلك أن أمه كانت فاطمة بنت شريك بن عبدة بن مغيث بن الحد بن عجلان بن حارثة بن ضبيعة بن حرام بن جعل بن عمرو بن جثم بن ودم بن ذبيان بن هميم بن ذهل بن هنيئ أبن بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، وشريك هو الذي يعرف بشريك بن سحماء، وسحماء أمه، وهي في قول بعضهم: سحماء بنت عبد الله الليثية، وقال آخرون هي يمانية. وشريك هو الذي اتهمه عويمر العجلاني من الأنصار بامرأته فنزل بسببها اللعان، في حديث طويل ليس هذا موضعه، فلما كان يوم دار عثمان ضرب مروان بن الحكم وسعيد بن العاص فسقطا، فوثبت فاطمة بنت شريك فأدخلت مروان بيتا فأفلت، فكان بنو مروان يحفظون إبراهيم بن عربي لذلك وولاه عبد الملك اليمامة وأعمالها، فتزوج بنت طلبة بن قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر بن عبيد ين مقاعس - وهو الحارث - بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، وأوفد إبراهيم مقاتل بن طلبة إلى عبد الملك ومعه أشراف من تميم وعامر بن صعصعة، وكتب إلى الحجاب أن يحسنوا أذنه فأذن له أول الوفد، فلما دخل على عبد الملك أدناه وأكرمه فقال: وفضَّلني عند الخليفة أنني ... عشية وافت عامر وتميم وجدت أبي عند الإمام مقدَّما ... لكل أناس حادث وقديم

فقال رجل من عبشمس بن سعد بن زيد مناة بن تميم: لولا حر قدمته لابن منكتٍ ... مقلم ناب الاسكتين أزومُ لما كنت عند الباب أول داخل ... عشية وافت عامر وتميم وكان إبراهيم اسود، ففيه يقول البعيث - واسمه خداش بن بشر بن أبي خالد، وقد يقال: بشر بن خالد بغير كنية بن بينة بن قرط بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم: ترى منبر العبد اللئيم كأنما ... ثلاثة غربانٍ عليه وقوعُ وفي هذه القصيدة يقول: وإن لها جاراً إذا ما دعوته ... تحرد عاري الاشجعين منيع أغر إذا ما شد عقداً لذمةٍ ... حماها وطير في الدماء كروع وسنقصي - إن شاء الله - ذكر البعيث عند ذكر ضبة بنت البعيث فإنها كانت شاعرةً، وهي التي تقول ترثي أباها، وكان لما مات نعاه رجل من عكلٍ: نعاه لنا العكلي لا دردره ... فيا ليته كانت به النعل زلت فلن تسمعي صوت البعيث ممارياً ... إذا ما خصومات الرجال تعلت وإبراهيم هذا هو الذي استعداه منازل بن فرعان بن الأعرف من بني عبد منبه أبن عبادة بن النزال بن مرة بن عبيدٍ، أخوه منقر بن عبيد على أبنه خليج بن منازل وقال: تظلمني حقي خليج وعقني ... على حين صارت كالحني عظامي رجاء لغولٍ من حرامٍ كأنما ... تسعر في بيتي حريق ضرام يعني إن أبنه تزوج امرأة من حرام بن كعب بن ربيعة بن سعد بن زيد مناة بن تميم:

لعمري لقد ربيته فرحاً به ... فلا يفرحن بعدي أمرؤ بغلام - في أبيات - فأراد إبراهيم بن عربي ضرب خليج فقال له: أصلح الله الأمير لا تعجل عليَّ!! أتعرف هذا؟! منازل بن فرعان الذي يقول فيه أبوه: جزت رحم بيني وبين منازلٍ ... جزاء مسيء يفتر طالبه تعمد حقي ظالماً ولوى يدي ... لوى يده الله الذي هو غالبه أأن أرعشت كفا أبيك وأصبحت ... يداك يدي ليث فإنك ضاربة في أبيات كثيرة، فرفع عنه إبراهيم الضرب وقال لأبيه: عققت فعققت. وقد كان في التابعين رجل يقال له أبو سلمة الزبير بن عربي البصري، والنضر بن عربي أيضاً حراني يروي عن عكرمة، وحسين بن محمد بن عربي من أصحاب شعبة، وغيرها هؤلاء ممن لم نعمد لإحصاء اسمه. ونعود إلى سبيلنا الأول فمن شاهد على أن عربة اسم جزيرة العرب ما أنشده هشام الكلبي في كتابه المسمى " عربة " لأبي طالب عم رسول الله (، واسمه عبد مناف بن عبد المطلب، واسمه شيبة بن هاشم واسمه عمرو بن عبد مناف، واسمه المغيرة، بن قصي، واسمه زيد، ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر، وهو جماع قريش، من ليس من ولد النضر فليس من قريش - بن كنانة بن خزيمة بن مدركة واسمه عمرو، بن الياس أبن مضر بن نزار ين معد بن عدنان: وعربة أرض لا يحل حرامها ... من الناس غير الشوتري القنابل الشوتري: الجريء، ومنه قول غالب العكلي: بني كليب ساقكم جد شقي ... حتى رماكم عند آصال العشى بمطرهم في الشباب شوتري

والقنابل: الضخم الجسم، وقيل العظيم الرأس، وأنا أرى أن هذا البيت يدل على غير ما استشهد به هشام، لأنه يدل على مكة فقط، وهشام أعرف. وقال أبو سفيان الأكلبي، واسمه أنس بن مدرك من أكلب بن ربيعة بن عفرس بن حلف بن أفتل - وهو خثعم - بن أنمار بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وقيل: هو أكلب بن ربيعة بن نزار، وأنهم دخلوا بحلف فصاروا معهم: أبونا رسول الله وأبن خليله ... بعربة بوانا فنعم المركب أبونا الذي لم تركب الخيل قبله ... ولم يدر شيخ قبله كيف تركب وقال ابن منقذ الثوري من ثور أطحل بن عبد مناة بن أد بن طابخة. لنا إبل يطمث الذل نيبها ... بعربة مأواها بقرنٍ بأبطحا ولو أن قومي طاوعني سراتهم ... أمرتهم الأمر الذي كان أريحا وقال أسيد بن الحلاحل: وعربة أرض جد في الشر أهلها ... كما جد في شرب النقاخ ظماء وقال أسيد أيضاً: إذا ما القمر الثريا ... لثالثة فقد ذهب الشتاء وتمت مدةٌ، ووفت عهود ... وبان الود واتصل الجلاء وبست بالتهام شامخات ... على أثباجها شجر وماء

ورجت باحة العربات رجاً ... ترقرق في مناكبها الدماء وقولهم: ما بالدار عريب من هذا، كأنهم قالوا: ما بها قوم من العرب وعريب جمع عارب، كعزيب جمع عازب، ويجوز أن يكون عريب اسماً واحداً غير جمع، ويكون بمعنى معربٍ، كما يقال: نذير بمعنى منذر، فكأنهم قالوا: ما بالدار أحد يعرب ولا يصفح، كما يقال: ما بها داع ولا مجيب. وأما عريب بن زيد بن كهلان وغيره ممن اسمه عريب على فعيل فيجوز فيه الوجهان جميعاً. ويحوز أن يكون جمعاً سمي به رجل مثل كلاب وسباع، ويكون واحداً، وقد يستعملون عرباً أيضاً بالتنكير، لأنهم يقولون: ما بهذا الدار عرب، كما يقولون: ما بها ناس، أو: ما بها أحد، وما نزل هذا الموضع عرب، كما يقولون: ما نزل هذا الموضع ناس. وقال عمرو بن معاوية بن المنتفق بن عامر بن عقيل - وقيل أن بين المنتفق وبين معاوية أبا آخر والله أعلم: تهادي قريش في دمشق لطيمتي ... وتترك أصحابي، وما ذاك بالعدل فإني على هول الجنان لنازل ... منازل لم تنزل بها عرب قبلي في أبيات يخاطب بها معاوية بن أبي سفيان، وكان صاحب الصوائف له غير مرة. وولاه أرمينة وأذربيجان، وولاه الاهواز، ثم غضب عليه وأغرمه. وكنا أغفلنا في صدر الكلام تفسير جزيرة العرب وحدودها عند ذكرنا عربة خوفاً من تفرط نظام القول وتكدير مهنإ الفائدة، ونحن نذكره، ونبين اختلاف أهل العلم فيه، ونبدأ بقول أبي جعفر محمد بن حبيب مولى بني هاشم والذي بلغنا عنه أن جزيرة العرب خمسة أقسام، وهي الحجاز وتهامة ونجد والعروض واليمن، قال: وذلك أن جبل السراة - وهو أعظم جبال العرب - أقبل من قعر اليمن حتى بلغ أطراف بوادي الشام، فسمت العرب سراته

حجازا لأنه حجز بين الغور ونجد. وكذلك تسمي العرب كل جبل يحتجز بين أرضين حجازاً، قال حربث أبن عتاب بن مطر بن كعب بن عوف بن عنين بن غوث بن نابل بن نبهان - واسمه أسود - بن عمرو بن الغوث بن طيء - وهو جلهمة - بن أددٍ: لنا نسوةٌ لم يجر فيهن مقسما ... خميس ولا بعد التساهم مربع حماهن من نبهان جمع عرموم ... وصم العوالي والحجاز الممنع يرى خارجياً لا يزال إذا بدا ... تشير لهم عين إليه وإصبع يعني بالحجاز هاهنا جبل طيءٍ، والخارج عنى به أنه ظهر وبدا للعيون. قال: وسمت ما خلف ذلك الجبل في غربيه إلى أسياف البحر من بلاد الاشعرين وعك وكنانة وغيرها ودونها إلى ذات عرق والجحفة وما صاقبها وغار من أرضها: الغور غور تهامة، تجمع تهامة ذلك كله. قال: وسعت ما دون الجبل في شرقيه من الصحارى النجد إلى أطراف العراق والسماوة وما يليها: نجداً، ويسمى جلساً أيضاً. إلا في قول أبي عبد الله محمد بن الأعرابي مولى مجالد، ومجالد مولى المنصور أبي جعفر فإنه ذكر أن المدينة هي جلس دون ما سواها، وذلك لارتفاعها عن الغور، وانخفاضها عن نجد، ذهب أبو عبد الله إلى أنها سميت بذلك جلس لانخفاضها، وقد يجوز أن تكون سميت جلساً لارتفاعها من قولهم: ناقة جلس، أي كوماء مشرفة قال مرة بن محكام السعدي: فصاف السيف منها ساق متليةً ... جلس فصادف منها ساقها عطبا وقال غيلان - وهو شاهد في الغريب -: يدعن الجلس نحلاً قتالها أي يتركن الناقة الضخمة ناحلة ضئيلة الجسم لشدة السير، والقتال والنفس. قال: وسموا

بلاد اليمامة والبحرين وما والاها - وفيها نجد وغور لقربهما من البحار وانخفاض مواضع فيها ومسايل أودية بها - العروض، وسموا ما خلف بلاد مذحج تثليث وما دونها وما قاربها إلى صنعاء وما والاها من البلاد إلى حضرموت والشحر وعمان وما يليها إلى اليمن: اليمن اسماً جامعاً لذلك كله. هذا قول أبي جعفر، وعليه معولي في هذا المعنى. وكان الهيثم بن عدي يحكي عن مجالد عن عامر أنه قال: سألته عن جزبرة العرب فقال: ما بين القادسية الى حضرموت. وقال معمر بن المثنى: جزيرة العرب ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى اليمن في الطول، وأما العرض فما بين رمل يبرين إلى منقطع السماوة. وقال الأصمعي: جزيرة العرب من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول، وأما العرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى اطرار الشام، وإلى هذا القول كان يذهب أبو عبيد القاسم بن سلام في تفسير حديث رسول الله (وعلى آله أنه أمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب. قال أبو عبيد: وإنما أستجاز عمر بن الخطاب إخراج أهل نجران من اليمن وكانوا نصارى إلى سواد العراق، وأجلى أهل خيبر إلى الشام وكانوا يهوداً من أجل هذا الحديث. وأما الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي فكان يذكر عن مالك الفقيه وهو مالك بن أنس بن مالك بم أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خثيل بن عمرو بن ذي أصبح - وإليه تنسب السياط الأصبحية - واسمه الحارث بن مالك بن زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير - واسمه العرنجج بن سبأ - وأسمه عبد شمس، أبن يشجب بن يعرب بن قحطان، وقد قيل في نسبه قول آخر، وهذا أصح وأثبت من طريق الكلبي، ولا بأس عند ذكر مالك يذكر نسب

منازعيه الرئاسة من الشافعي وأبي حنيفة، فأما الشافعي فهو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافعي - وإليه ينسب - ابن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف. وأما أبو حنيفة فهو النعمان بن ثابت مولى بني تيم الله بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، ذكر ذلك ابن أبي خيثمة وهو الذي يروى عنه أبو عبد الله محمد بن داود ابن الجراح - رحمه الله - وقد قيل انه ليس له عرق في العرب. ولا ولاء أيضاً، وأنه يدعي ولاء بني تيم الله، وذكر أبو عبد الرحمن المعري قال: قال لي أبو حنيفة ممن أنت؟ قلت: من أهل دورق. قال: ما يمنعك أن تعتزي إلى بعض أحياء العرب فهكذا كنت، حتى إعتزيت إلى هذا الحي من بكر بن وائل، فوجدتهم حي صدق، والله أعلم بالصحيح. وما أعرف في الثلاثة من يروى له شعر إلا الشافعي، فإن أبا بكر محمد بن شعيب الصيرفي القاضي الحلبي - رحمه الله - أنشدني قال: أنشدني بن أبي العقب الدمشقي بإسناد وصله إلى الشافعي، للشافعي: يا راكباً قف بالمحصب من منى ... واهتف بقاع خيفها والناهضِ سحراً إذا قاض الحجيج إلى منى ... دفعاً كملتطم الفرات الفائضِ إن كان رفضاً حبُّ آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي فقال الزبير عن مالك: إن جزيرة العرب المدينة، واسمها طيبة، وقد تسمى بأسماء غير ذلك منها طيبة وطابة، ويثرب والعذراء وجابرة ويندد والدار، قال الله عز وجل: (والَّذينَ تَبَوَّأوا الدَّارَ والإيمان) ويحتج قائل هذا بقول عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى ابن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب، وقد قال له كعب: إنك تموت شهيداً. فقال: من أين وأنا في جزيرة العرب؟!

وإنما نُحِلَت هذا الاسم من أجل أنه كان بنو عبيل بن عوص أخوة عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام، ثم نزلها بعدهم بنو عمليق بن يلمع بن عابر بن أشليحا بن لوذ بن سام بن نوح عليه السلام، ثم نزلها بعدهم قوم من عاد بن عوص، وكل هؤلاء من القبائل القديمة التي تدعى العرب العاربة، وهي عاد وعبيل أبناء عوص، وثمود وجديس ابنا غاثار بن ارم، وطسم وعمليق وجاسم وأميم بنو يلمع بن عابر. وروى أبو أسامة: أَميم - بفتح الهمزة - وغيره قال: أُميم - بضمها - وحضرموت والسلف والموذ، بنو يقطان بن عابر، وجدهم بن عامر بن سابن يقطان بن عابر بن حمير، فهم فيهم، قالوا: فأقام أولئك القوم من عاد بيثرب برهة، حتى جاءهم قوم من الأزد - واسم الأزد دراء بوزن فعال، ويقال فيه: الأسد بالسين، وذكر يعقوب أنه أفصح في الزاي والنسابون يقولون: إن الأسد إنما سمي الأسد لكثرة إسدائه المعروف، وهذا اشتقاق لا يصح عند أهل النظر، والصحيح في اشتقاق ما أخبرني به أسامة عن رجاله قال: العسد والأسد والأزد هذه الثلاث كلمات معناها كلها الفتل قال: والأزد يكون أيضاً بمعنى العزد، وهو النكاح. فنفى الأزديون العاديين عن يثرب وتدبرها، وأقاموا بها، وفي ذلك يقول شاعر من الخزرج ثم أحد بني زريق في قصيدة طويلة يصف قومه: ملوكاً على الناس لم يملكوا ... من الدهر يوماً كحل القسم فأنبوا بعادٍ وأشياعها ... ثمود وبعض بقايا ارم بيثرب قد شيدوا في النخيل ... خصوناً ودجن فيها النعم وفيما أشتهوا من عصير القطاف ... والعيش رخو، على غيرهم فساروا إليهم بأثقالهم على كل فحل هجانٍ قطم

فما راعهم غير معج الخيول ... والزحف من خلفهم قد دهم فابنا بسادتهم والنساء ... رغماً، وأموالهم تُقتسم ورثانا مساكنهم بعدهم ... فكنا ملوكاً بها لم نرم وقد استقصيت ذكر هذه القبائل وأصل نقلها ومناهي أمورها في موضعه من هذا الكتاب، وبالله التوفيق. وإنما نعني بجزيرة العرب محلها الأقدم، ومركز بيضهم الأول، لأنهم بع ذلك تفسحوا وحازوا كثيراً من الأرض خارجاً من هذه الجزيرة، ألا ترى إلى قول الأخنس بن شهاب - وسيأتي نسبه وخبره مستقصى في كتاب تغلب إن شاء الله: لكل أناس من معد غمارة ... عروض إليها يلجأون وجانبُ لكيز لها البحران والسيف كله ... وإن يأتها بأس من الهند كاربُ تطاير على أعجاز حوش كأنها ... جهام أراق ماءه فهو آيبُ - أبو عمرو الشيباني: يطيروا - لكيز: بن أقصى بن عبد القيس بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة ابن نزار. وبكر لها طهر العراق وإن تشا ... يحل دونها من اليمامة جانبُ يعني بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أقصى بن جديلة بن أسد بن ربيعة ابن نزار، ومن قبائل بكر: يشكر، وزمان وشيبان وعجل ولخم وبنو قيس بن ثعلبة وغيرهم.

وصارت تميم بين قف ورملة ... لها من حبال منتاى ومذهبُ وكلب لها خبث فرملة عالجٍ ... إلى الحرة الرجلاء حيث تحابُ في الكلام على نسب كلب طويل، ونحن نذكره في موضعه إن شاء الله. وغسان حي عزهم في سواهم ... يجالد عنهم مقنب وكتائب - يعني أنهم عمال الروم - قد شرحنا نسب غسان في غير هذا الموضع من كتاب كندة، وبالله التوفيق. وبهراء حي قد علمنا مكانهم ... لهم شرك حول الرصافة لاحبُ بهراء بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، زهط المقداد بن عمرو. وغارت إياد في السواد ودونها ... برازيق عجم تبتغي من تضارب يعني إياد بن نزار بن معد، وكان يقال لهم الطبق لشدة إطباقهم بالشر والعُرام على الناس، ومنهم قيل: وافق شنٌّ طبقةً، يعنون شنَّ بن أقصى بن عبد قيس كذا قال الكلبي: ولخم ملوك الناس تجبى إليهم ... إذا قال منهم قائل فهو واجبُ لخم بن عدي بن الحارث بن أددٍ، وكان اسم لخم مالك، ومن لخم بنو نصر قوم النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وسنستقصي هذا في موضعه إن شاء الله. ونحن أناس لا حجاز بأرضنا ... مع الغيث ما نلقى ومن هو غالبُ يعني أنا مصحرون لا نخاف أحداً، نكون مع الغيث حيث أغن ومع الغلب حيث عن، ومثل نحو من هذا القول قول ذباب بن معاوية العكلي: ونحن أناس لا حجاز بأرضنا ... نلوذ به إلا السيوف البواترُ

وقال سويد بن كراع العكلي وقال اللغويون: إن كراع اسم أمه، وإن اسم أبيه عمرو أو عمير، الشك مني: ونحن أناس لا حجاز بأرضنا ... نلوذ به إلا السيوف القواطعُ ولم يبق منا القتل إلا عصابة ... تطاعن عن أحسابنا وتقارعُ وأبيض لا يشترى بشيءٍ أفاته ... أسنّتنا والنقع أغبر ساطعُ تركنا عليه قصدتي سمهريةٍ ... وجريان سيفٍ سلَّه إذ تُماصعُ وفي هذا البيت الرابع غرض حسن، ومعنى بديع، ويشبه قول ناجية بن الأسود الجرمي، وكان بعض السلاطين جلده، فأخذ سيفه من عنقه وضربه به: ولما علاني بالقطيع علوته ... وبالكف صافٍ كالعقيقة قاطعُ فطار بكفي نصله ورياسه ... وفي جيد سعدٍ غمدهُ والرصائعُ وفي نحو من هذا يقول ابن زيانة التميمي - زيابة بوزن فعالة مشددة كذا فرآنا على جماعة من الأشياخ، وروى محمد بن داود بن الجراح عن رجاله: ابن زيانة بوزن فعالة تخفيفا ً - والزيابة الفأرة - وفي المثل: أسرق من زيابة، يعنون به الفأرة، ولا أحسب أبا عبد الله محمد بن داود إلا وقد أوهم في هذه اللفظة، لأن الرجل يقول في شعره: أنا ابن زيابة إن تدعني ... آتيك والظن على الكاذب قال محمد بن داود: واسمه عمرو بن الحارث بن همام أحد بني تيم الله ابن ثعلبة، والبيت الذي أردنا إنشاده لمشابهته ما تقدم قوله: والله لو لاقيته خالداً ... لآب سيفانا مع الغالب والثالث: - من وجوه اشتقاق العرب - أنه مأخذه من العرب وهي النفوس، وأحدثها عربهٌ، مثل قصبةٍ وقصبٍ وأنشدنني أبو أسامة لابن ميادة الرماح بن أبرد المري:

لما أتيتك أرجو فضل نائلكم ... نفحتني نفحة طابت لها العربُ وقال: العرب هاهنا النفوس. ويكون وجه هذا الاشتقاق على معنيين: أحدهما: أنهم من الخلق بمنزلة النفس من الجسم، وثانيهما: أنهم أعز الخليقة نفوساً، والمعروف ما انفردوا به من صلابة الأكباد وقوه الأرواح وعزة النفوس أشهر من أن نطلب عليه شاهداً، ومنه قول شاعرهم: لا شيء أحسن منها إذ تودعنا ... وجيبها برشاش الدمع مغتسل يبكي علينا ولا نبكي على أحد ... لنحن أغلظ أكباداً من الابل وقائل هذا الشعر قدير بن منيع، أو أبوه منيع بن معاوية بن فروة ابن الاحمس بن عبدة بن خليفة بن جرول بن منقرٍ، خلاف هذا الشعر أنشدني لهدبة بن خشرم بن كرز بن أبي حية بن الاحسم بن عامر بن ثعلبة بن قرة بن خنبس بن عمرو بن ثعلبة بن عبد الله بن ذبيان بن الحارث بن سعد بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة: باتوا وأتبعهم عيناً مملاة ... دمعاً وما ذاك إلا الشوق والطرب نبكي عليهم ولا يبكون فرقتنا ... أنا وجيراننا من جيرة عجب وليس بالمطرح في إباء النفس قول إبراهيم بن إسماعيل بن يسار بن فيروز أبن باذام، مولى بني تيم بن مرة: ونفسي النفس تأبى أن أواتيها ... على الصغار وتأبى أن تواتيني من نفس إبليس شقت في حميتها ... لا نفي آدم في عطفٍ وفي لين وكان أبوه إسماعيل شاعراً في زمن عبد الملك ووالده. ولمصنف الكاتب شعر في الإبا قد أطاع هواه فورده وهو:

قارعت الأيام مني امرأ ... قد أعلق المجد بامراسه تستنزل النجدة من رأيه ... ويستدر العز من باسه أروع لا ينحط عن تيهه ... والسيف مسلول على رأسه ولعلي بن محمد بن يوسف جد أبي شعر يقول فيه: وإني على الإقتار همة ... لها مسلك بين المجرة والنسر أؤمل نفسي لا أؤمل غيرها ... من الناس أو يأتي الغنا وهو ذو صغر وقد أنشدوني لشاعر من قريش، قريش الأندلس شعراً يقول فيه: ولو صدت نجوم الليل عني ... كصدك ما نظرت إلى السماء وكيف تظن نخوة عبشمي ... تكون فيه قلب مزيقياءٍ ولما قدمناه من التفسير سموا يوم الجمعة العروبة لاستكمال خلق النفوس وغيرها من المخلوقات فيه على ما يذكره رواة مبتدأ العالم. ومن ذلك أيضاً قيل له: الجمعة، لأن فيه اجتماع المخلوقات. ومما يدل على شرف هذا اليوم واستحقاقه لهذا الاسم أن الأيام تسمي بأسماء مشتقة لها من العدد في أكثر اللغات غيره، فأنه خص باسم عليه وقال رسول الله (لما قيل له: إن السبت لليهود والأحد للنصارى: " نحن الآخرون السابقون " يعني الآخرون زماناً والسابقون يوماً، ويروى أن رياح بن الربيع التميمي أخا حنظلة الذي يدعى بحنظلة الكتاب، وهو حنظلة ابن الربيع بن صيفي بن رياح بن الحارث بن مخاشن بن جهور بن غوى بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم - قال لرسول الله (: للنصارى يوم ولليهود يوم، فلو كان لنا يا رسول الله يوم!! فنزلت سورة الجمعة. ويقال: عروبة بلا ألف ولام، وأنشد أهل اللغة: يوماً كيوم عروبة المتطاول.

ويرون أن تعريفه بنفسه أفصح من تعريفه بالألف واللام على انه قد جاء في الشعر الفصيح، وقال الأعشي الكبير: فبات عذوباً للسماء كأنما ... يوائم رهطاً للعروبة صيَّما يوائم: يشابه. وفي المثل: لولا الوئام هلك الأنام - يعني لولا تشبههم بالكرام. وقد يقال فيها: العروب - بلا هاء - قال عباية بن شكس العنزي ثم الهزاني: أنا العنزي بن الأسود الذي بهم ... أسامي إذا ساميت أو أتبحجُ هم أسروا يوم العروب ابن طالم ... وأردوا مريئاً فهو للشق مجنحُ ويروى: الغروب، والأول أثبت. وإذ قد فسرنا عروبة فالوجه اتباعه بتفسير بقية الأسماء العربية للحاجة إلى ذلك. فأولها: الأحد، واسمه عندهم أول، لأنه أول الأيام، ولذلك أيضاً سمي الأحد، لأن منه ابتداء العدد، وأصله واحد، وأبدل من الواو ألفاً استثقالاً للابتداء بالواو، وقال نابغة ذبيان: كأن رحلي وقد زال النهار بنا ... بذي الجليل على مستأنسٍ وحدِ ويجمع على آحاد وأوحاد، ومثله أناة ووناة للجارية الجميلة الخريدة فأما الأناة الاسم من التأني فلا يكون إلا بالالف لأن أصلها من تأنيت، تفعلت بمعنى تنظرت الشيء إذا آن، أي حان ودنا وقته، ومنه قول يحيى بن يعمر الوشقي - من وشقة بوزن فعلة - بن عوف بن بكر بن يشكر بن عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان: أي مالٍ أديتَ زكاته فقد ذهب أبلته، قال أبو عبيدة: أصله وبلته - أي شره ومضرته - مأخوذ من الوبيل، وهو الضار. ويسمى يوم الاثنين أهون، لأنه مكروه عندهم، ولكنه أهون طيرة، وأيسر كراهية من يوم الأربعاء، ويسمى أوهد أيضاً مشتقاً من الوهدة وهي الانحطاط، لانخفاض العدد من الأول إلى الثاني.

ويسمى الثلاثاء جباراً لأنه هدر لا يكره ولا يستحب، وكذلك كل ما لم يعتد به قيل له جباراً، ومن هاهنا قيل ذهب دمه جباراً أي هدراً. قال الأفوه - واسمه صلاءة بن عمرو أبن عوف بن منبه بن أود بم صعب بن سعد العشيرة بن مالك بن أددٍ، قال ابن الكلبي: أود ابن معد بن عدنان وإنما انتقلوا فقالوا: أود بن صعب -: حكم الدهر علينا أنه ... ظلف ما نال منا وجبار جبار: يعني هدراً ومنه: جرح العجماء جبار، وأصله من جبرت العظم وكأن هذه الأشياء السهلة الهنية يلغى ذكرها جبراً للمسلم، واعتماداً لشمل الصلح، ويقال: جبرت العظم، فجبر هو، قال العجاج: قد جبر الدين الإله فجبر ومنه الجباير الاسورة، شبهوها بحبائر العظم الكسير، وواحدها جبارة، وقال الأعشى: وأرتاك كفاً في الخضا - ب ومعصما ملء الجبارة وجمعها جبائر وأنشد الخليل في كتاب " العين " وهو مليح: وتناولت كفها ... فاتقت بالجبائر ثم قالت واستضحكت: ... هكذا غير صاغر وأما الظلف فهو الهدر أيضاً قال اللغويون: الظلف شبه الأخذ للشيء ومنه الظلف وقد جاء الظليف بوزن فعيل بمعنى الظلف، قال رجل من بني ربيعة بن ذهل بن شيبان، يصف رجلاً منهم عقر فرسه لضيفه: هو العاقر الحواء ليلة لم يصب ... لأضيافه إلا الشريعة في اللبد فقال: كلوها في ظليف فإنني ... سأورثها من وارثٍ باخل بعدي

ويسمى الأربعاء دبارا لشدة ثقله عليهم، وتقرير الطيرة منه في نفوسهم منه، يرون أن المزوج فيه لا يلقى خيراً والمبضع لا يصادف ربحاً، والمسافر لا يصيب نجحاً، مأخوذ من الدبرة، وهي الهزيمة يقال: كانت الدبرة على بني فلان 0000الهزيمة. ومن0000 الدبري. ويسمى الخميس مونسا، لخفته على قلوبهم، وطلاقته عندهم. ورشاد من يفعل فيه فعلاً ويمن من يطلب فيه أمراً، وهو كذلك في الإسلام، قد كان رسول الله (يتبرك به ويحب السفر فيه. وقال شاعر قديم: فلو أنه أغنى لكنت لخندف ... على اليأس حتى ملها العمر تندب إذا مونس لاحت خراطيم شمسه ... بكت غدوة حتى ترى الشمس تغرب يعني ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة المسماة بخندف أم ولد الياس بن مضر، وكان مات يوم الخميس فكانت تبكي كل خميس من الغدوة إلى الليل، ونستورد الخبر والشعر، بالشرح من هذا القول في موضعه إن ساء الله. ويسمى الجمعة عروبة - وقد مر تفسيره. ويسمى السبت شيار مشتقاً من الشارة وهي الحسن والجمال لبركته عندهم، ألا ترى إلى قول رسول الله (: " بورك لأمتي في بكورها، يوم سبتها وخميسها " أو كما قال. وقد روى بعض أهل النقل: " اللهم بارك لأمتي في بكورها " فقط دون الاقتصار على السبت والخميس. أخبرني أبو مسلم قال أنبأنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن بكر المعروف بابن حمدون البالسي حدثنا بباليس سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة قال حدثني عماي إبراهيم وجعفر أبنا محمد بن بكر قال "؟ " أنبانا إبراهيم بن مهدي عن علي بن مسهر عن عبد الرحمن

بن أسحق عن النعمان بن سعد عن علي عليه السلام أنه قال: قال رسول الله (: " اللهم بارك لأمتي في بكورها " وهذا أشبه بما روي عنه (من التسوية بين الأيام بما في جميعها من البركة والإحسان. ومن هذا المعنى يقال هو أشور منه أي أحسن منه، قال كبد الحصاة العجلي - واسمه عمرو بن قيس -: صبرت وبعض الجهل ما يتذكر ... وصبرك عن ليلى أعف وأشور وعداك عنها نأيها ومشيبة ... من الحراب لا يصلى بها المعتذر أعف وأشور: أراد أحسن وأجمل، كذا حكي لنا في اشتقاق شيار عن العرب أنفسها، وفي هذا الاشتقاق بعض النظر، لأنه لو كان من الشارة لكان شوار مثل شوار البيت وأصل الشارة شورة، وانقلبت الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، على أصل القوم، ولذلك جاء: أعف وأشور بالواو منه، وأنشد ثعلب: أفز عنها كل مستشير أي كل طالب للشارة والجمال، ومنه الشوران الزعفران لجمال لونه وإشراق منظره. ومنه يقال: شار الدابة يشورها شوراً إذا عرضها وأظهر محاسنها، ويقال للمكان الذي يكون فيه ذلك المشوار، وإلى هذا تذهب العامة في قولها لفلان نشوار - بالنون - والنشوار ليس من هذا في شيء، وهو ما يلقيه الدابة من فضلات علفه على نواحي آريه، وما دري كيف يجيء شيار من هذا وأصله الواو، على أن أبا بكر أبن دريد قد قال: إن الشير بالياء على وزن فعل فخفف، من قولهم: شير وصبر إذا كان حسن الصورة والشارة مثل قولهم: ميت وقيل هو تخفيف وقيل وميت، فيجوز أن يكون شيار جمعه، لأن فعالاً في جمع فعل باب مطرد، مثل عذب وعذب وجبال وجبل، ومن ذلك قولهم: جاءت الإبل شياراً، وجاءت الخيل شياراً، إذا جاءت سمانا حسانا. وقال عمرو بن عدي بن معدي كرب بن عبد الله بن عصم

بن عمرو منبه - وهو زبيد الأصغر - بن ربيعة بن سلمة بن مازن بن ربيعة بن منبه بن سعد العشيرة: أعباس لو كانت شيار جيادنا ... بتثليث ما ناصيت بعدي الاحامسا فيكونون سموا اليوم باسم جامع، وهو سائغ، حسن، وكان أبو الحر عبيد الله بن حفص التغلبي يقول: إن الشيار من الاضداد يكون خيار الشيء وحسنه، ويكون رديئه وعفنه، وروى أن رجلاً من العرب ذم رجلا فقال: والله ما أطعمني إلا خبر شيار، يعني خبزاً عطناً. وإن كان هذا ثبتاً فيجوز أن يكون السبت سمي شياراً لأنه آخر الأيام في الخلق، ولأن العطن إنما يكون من تأخر مدة الشيء وطول عهده، وأهل اللغة ينشدون هذين البيتين: أومل أن أعيش وإن يومي ... بأول أو بأهون أو جبار أو التالي دبار فإنه أفته ... فمونس أو عروبة أو شيار وقال بعض أهل العلم: إنهما مصنوعان، ودليل ذلك تكلفهما ومنع ما يستحق الصرف من أسمائهما. والسبت نفسه معناه لأن الأعمال انفطعت، والخليفة تمت يوم الجمعة، فكان يوم السبت منفصلا منقطعاً، أو لأنه قطعة من الدهر. وفي السبت وجوه عدة يطول بإيرادها القول. ولولا خوف شتات الغرض لذهبنا شوطا في تفسير الشهور والسنة والعام والحول والعصر، والشتاء والصيف والربيع والخريف، والليل والنهار، والساعة والإنى، وغير ذلك من تفصيل الزمان. ولعل أكثره أن يرد مبدداً في أثناء التصنيف، وبالله التوفيق. والقول الرابع: أنه مشتق من العرب وهو حسن العشرة وجمال الخليقة. ومن ذلك العروب للمرأة الحسنة الخلق، والمحببة لزوجها، المتحببة إليه، المتجردة في التبعل له، قال الله عز وجل: (أبكار عرباً أتراباً) وهي جمع عروب. وقال الأعمش: - سلمان بن

مهران الأسدي -: كنت أسمعهم يقولون: عرباً بالتخفيف مثل الرسل الكتب. ولغة بكر وتميم التخفيف في مثل هذه الأشياء، والوجه التثقيل، وعليه جاءت القراءات. وقال الشاعر في العروب أنشده محمد بن زياد: وعروب غير فاحشةٍ ... قد ملكنا ودها حقيا ثم آلت لا تكلمنا ... كل حي معقب عقبا وقال أوس بن حجر: وقد لهوت بمثل الريم آنسةٍ ... تصبي الحليم عروب غير مكلاح ويقال أيضاً في معنى عروب: عربة بوزن فعلةٍ مكسورة العين، ذكر أبو عبيد، وكون وزنها فعلة يصح أن المصدر العرب محركاً، ويكون وجه هذا الاشتقاق أنهم لكرم أخلاقهم، واتساع جودهم وبشرهم لعارفيهم سموا بذلك. وقد سموا عرابة، وهو عرابة بن أوس الأوسي، وسنستقصي ذكره عند ذكر الشماخ من كتاب " ذبيان " إن شاء الله. وقد كنوا بأبي عروبة، وفي عنزة رجل يقال له أبو عروبة بن شاس من بني جلان وكان شاعراً فاتكا. وأغار الحطم - واسمه شريح بن ضبيعة بن شرحبيل بن عمرو بن مرئد بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة - على بهراء، فأصاب منهم رجلاً شريفاً فأسره، وكان معه ناس من عنزة، منهم أبو عروبة، فقتل أخ لأبي عروبة، فقالوا لأخيه: ما تدع هذا الأسير؟! آلا تقتله بأخيك؟ فشد عليه أبو عروبة فقتله، فأخذه الحطم فأوثقه في القد فكان الأسير، فقال في ذلك أبو عروبة. غادرت ثأري مضرجاً بدمٍ ... ولم تغلني مقالة الحطم وقال في أبيات يهجو بها الحطم: يبيت يثني أيره فوق فخذه ... إذا فلت أسرى أصبح المرء باركا

واستغاث أبو عروبة وهو في قدة بعباد بن مرثد بن عمرو بن مرثد بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، وعمل إليه أبياتا منها: يا من لهم يبيت الليل يكلوني ... كأنه موفق بالنبل يرميني من ذا أعوذ به منه فيمنعني ... ولن أعوذ بذي رجلين ممحون يعني نفسه - وممحون محبوس - فلم يصنع شيئاً فأتاه أبجر بن جابر العجلي فاشتراه بمائةٍ من الإبل واعتقه فقال: قولا لأبجر والمعروف نافلة ... عندي وعمد بني عمي وأعمامي رأبت ما لم يكن حي ليرأبه ... إلا الهمام على بوسي والنعام فالله يجزيك عما لم تجاز به ... وعن شوابك أصهار وأرحام وقال أبو عروبة أيضاً: رضينا بعجل في اللقاء فوارساً ... إذا أزمات الموت حبت حياتها يسود عجلاً صبرها برمحها ... ويحمدها مضرورها وعنانتها وقد كان بحران بأخرة رجل محدث من بقية أهل الإسناد يقال له أبو عروبة الحراني، واسمه الحسين بن محمد بن مودود، وكان أبو الفضل الوزير - رحمه الله - يذكر لنا أن أباه سمع منه شيئاً كثيراً، وكان أبو الفضل نفسه - رحمه الله - يروى عنه شيئاً كثيراً بالمكاتبة والإجازة، وقد كان سعيد بن عروبة أحد المصنفين الثقات، وسعيد يكنى أبا النضر، وأسم أبى عروبة مهران مولى بني يشكر. وكان سعيد يروى عن سعيد عن قتادة بن دعامة السدوسي وحدثني الحسن أبن عبد الصمد بن الحسين بن يوسف عن أبيه عن أحمد بن إبراهيم الأشناني عن أحمد بن عبيد النحوي عن الواقدي عن قيس بن ربيع الأسدي عن السدي عن أبي مالك قال: لم يؤمن مع لوط أحد من الناس ألا بنتان له يقال لأكبر هما رية والصغرى عروبة. والقول الخامس: انه مشتق من العرب وهو فساد المعدة يقال: عربت معدته نعرب

عرباً، مثل ذربت تذرب ذرباً، ذكره أبن دريد والجماعة وأنشدوا: لا يشتكي معدته من العرب ويكون وجه هذا الاشتقاق أنهم لحدة شوكتهم وخشونة ملمسهم وصرامة بأسهم أشجوا جميع الأمم المخالفة لهم، وكانوا فيهم بمنزلة هذا الداء من المعدة في مبالغته أذاها وإضراره بها. والقول السادس: أنه مشتق من العرب وهو الفجور والفساد، قال أبن الأعرابي أبو عبد الله، وأنشد شاهداً عليه: فما خلف من أم عمران سلفع ... من السود ورهاء العنان عروب قال: أراد فاجرة فاسدة، فأما كون مصدره على فعل فليس مما يوجبه القياس إلا أن أبا عمر الزاهد ذكره مسنداً عن أبن الأعرابي، والشعر للأقرع بن معاذ بن سنان بن حزن بن عامر أبن سلمة الخبر بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن الناس، واسم الأقرع الأشيم وقيل: الأشم وإنما سمي الأقرع بقوله، وأول القصيدة التي البيت الشاهد منها: ألا حبذا ريح الغضاحين زعزعت ... بقضبانه بعد الطلال جنوب وقد قال أبو الحسن علي بن حازم النحوي اللحياني: هي العاشق الغلمة. وقال يحيى بن زياد بن عبد الله الفراء: هي الغنجة، فأطافا بالمعنى الذي صرح به أبو عبد الله وهو الفجور، ومن ذلك سمي النكاح الأعراب. وقال أبن عباس في قوله: فلا رفث ولا فسوق قال الرفث الذي ذكر هاهنا التعريض بذكر النكاح، قال أبن عباس: وهو العرابة في كلام العرب. يقال عربت وأعربت إذا أفشحت. قال روبة بن عبد الله العجاج: والعرب في عفافةٍ وإعراب

أراد بالعرب المتحببات إلى الأزواج، والإعراب من الفاحش، فمعناه أنه يقول: يجمعن العفافة عند الغرباء، والإفحاش عند الأزوج كما قال الفرزدق: يأنس عند بعولهن إذا خلوا ... وإذا هم خرجوا فهن خفار ومنه قول أبي محمد عطاء بن أبي رباح: أنه كره الأعراب للمحرم، يوميء به إلى النكاح،. ويكون اشتقاق اسم العرب من هذا المعنى وهو الفجور أنهم عاملوا الناس في الجعجعة بهم والغلظة عليهم معامله الفجار، فسموا بذلك وأن لم يكونوا فجاراً، وعلى مثل هذا فسر بعض المفسرين قول الله عز وجل: (يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) وقال: معنى " يخادعون " يفعلون أفعال المخادعين، وإن لم تكن الخديعة واقعةً منهم، إذ كان أصل الخدع إخفاء الشيء، والله تخفى عليه خافية، هذا قول بعض أهل العلم والله أعلم بكتابه. وعلى نحو منه فسر صاحب اللواء: حلفت لها بالله حلفة فاجر ... لناموا فما إن من حديث ولا صال وذلك أنه لما كان من شأن الفاجر أن يغلظ يمينه، ويؤكد أليته حلف لها أمرؤ القيس كيمين الفاجر، وأن لم يكن فاجراً في قسمه، ويوضح ذلك أنه قال بعد هذا البيت: سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالا على حال فقد صح ما أقسم عليه من نومهم، وبطل أن يكون في يمينه، ولم يبق إلا حمله على الوجه الذي ذكرناه، وكذلك هؤلاء فعلوا أفعالاً ساء موقعها عند من فعلوها معه من أعدائهم سوءاً شابهوا به أفعال الفجار وإن لم يكونوا فجاراً، ويجوز أن يكون محمولاً على أصل الفجور وهو الظهور والبروز ومنه: في فلان فجر، أي كرم ظاهر وجود فائق، ويكونون سموا بذلك ليرزوهم عن الأمم وظهورهم على الطوائف.

والقول السابع: أنه مشتق من العرب وهو مصدر عرب الجرح يعرب عرباً، إذا بقيت له آثار بعد البرء، عن أبي زيد سعيد بن أوس الأنصاري، ويكون وجه هذا الاشتقاق أنهم لبروز أفعالهم وبقاء آثارهم وخلود نكايتهم لأعدائهم سموا بذلك. والقول الثامن: أنه مشتق من العرب وهو كثرة الماء، ومنه بئر عربة إذا كثر ماؤها، ذكره ابن حبيب، واستشهد بقول طفيل الغنوي: ولا أكون وكاء الزاد أحسبه ... لقد علمت بأن الزاد مأكول ولا أقول وجم الماء ذو عرب ... من الحرارة: أن الماء مشغول وقال محمد بن زياد الإعرابي أيضاً: يقال: ماء عرب ونهر عرب وبئر عربة، كله يراد به كثرة الماء. ولهذا الاشتقاق وجوه: إحداها أنهم لاشتباه حسن أفعالها ووجدان الكرم في كافتهم سموا بذلك، وقد قيل في المثل: أشبه به من الماء بالماء. وثانيهما: أنهم لكرم أنسابهم وخلوص أعراقهم وصفاء أصولهم سموا بذلك، كما قيل للحصان الصحيحة النسب من النساء: ماء السماء. وكما يقال: حصان كماء المزن. وثالثها: أنهم لاستغنائهم بأنفسهم. واكتفائهم دون الحاجة إلى غيرهم وتحيزهم بتدبير أموالهم عن أكثر أغراض سواهم سموا بذلك، لأن الماء يوصف بالغنى عن الأشياء وبحاجتها إليه كما قال سهل بن هارون بن راهبون البليغ - رحمه الله، في بعض حكمه، يصف بعض الملوك في جلالة قدره، واستغنائه عن آراء اتباعه وعن مساعي أعوانه -: كالماء الذي ليس به إلى شيءٍ حاجة، ولكل شيء إليه أمس الضرورة. ورابعها: أنهم لما أحيوه من الأرض الميتة، وأقاموه من الأعلام الدارسة، وأهلوه من القفار العازبة، سموا بذلك، تشبيهاً بالماء الذي به حياة كل شيء قال الله عز وجل: (وجعلنا من الماءِ كلَّ شيءٍ حيٍّ) .

والقول التاسع: أنه مشتق من العرب، وهو النشاط قال النابغة الذبياني: والخيل تمزع عرباً في أعنتها ... كالطير تنجو من الشؤبوب ذي البردِ وقد رواه الناس قاطبة بالغين معجمة إلا أن الخليل أورده في باب العين، وقد نوزع فيه، ووجه هذا الاشتقاق أنهم سموا بذلك لنشاطهم إلى إحراز المآثر، وتسرعهم إلى معونة الثائر وإجابة دعاء الجار المجرور، واشتياقهم إلى اغتنام الثناء، وإدراك مناقب الكرماء، كما قال شاعرهم: ومستنبحٍ قال الصدى مثل قوله ... حضأتُ له ناراً لها حطبٌ جزلُ وقمت إليه مسرعاً فغنمته ... مخافة قومي أن يفوزوا به قبلُ والقول العاشر: أنه مشق من العرب وهو يبيس البهمى، وأحدتها عربة وقال أبو زياد - وهو يزيد بن عبد الله بن الحارث بن همام بن دهر بن ربيعة بن عمرو بن نفاثة بن عبد الله بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة - إن البهمى خير أحرار البقل رطباً ويابساً. ووجه هذا الاشتقاق أنهم سموا بذلك لأنهم من البشر بمنزلة البهمى من البقل. ويكون فيه وجه آخر أقوى من هذا وهو أن يبيس البهمى هو سفاها، والعرب تضرب به المثل في حدة شوكه، وتذلق غربه، حتى أنهم يسمونه نصالاً، قال القحيف العقيلي: على كل ذيال أطار نسيله ... عياب الحيا والخصب حتى تفيلا رعى الروض والقربان حتى إذا رأى ... نصال السفا من حيث ركبن نصلا وقال الآخر، وأنشده ابن الأعرابي: إذا استنصل الهيف السفا برحت به عراقية الأقياظ نجد المرابع

فيكونون سموا بذلك لحدة شجاعتهم، ونفوذ عزائمهم، وقد قيل في العرب إنه بالغينمعجمة، والعين أثبت. والقول الحادي عشر: أنه مأخوذ من التعريب، وهو الجبه بالغلط والرد، ومنه قول عمر: ما لكم إذا رأيتم الرجل يخرق أعراض الناس أن لا تعربوا عليه؟ فقالوا: نخاف لسانه. قال ذلك أدنى أن لا تكونوا شهداء، رواه أبو عبيد وابن الأعرابي وغيرهما. ومعنى تعربوا عليه أي تردونه، وتدفعون قوله. وقال أوس بن حجر: ومثل ابن عثم إن ذحول تذكرت ... وقتلي تياس عن صلاح تعربُ ابن عثم: أحد بني جشم بن سعد. وتياس: أرض التقت فيها بنو سعد وبنو عمرو وكانت المعلاة لبني عمرو، قوم أوس يقول: فمثل هذه القتلى يمنع تذكره من الصلح. ويكون وجه هذا الاشتقاق أنهم سموا بذلك لأنهم يردون حكومة الظالم، ويعصون أمر الغاشم. والقول الثاني عشر: أنه مشتق من العبة، وهو النهر الشديد الجري، عن ابن دريد. ووجه هذا الاشتقاق أنهم شبهوا بالماء الجاري في قوة مسيله. وأعتياص رده وجره ما وجد في جريته. فأما العربة لهذه المنصوبات على دجلة والفرات فمولد، إلا أن ثعلبة قد ذكره وصححه وقال: سميت بذلك من العربة وهو الشديد الجري من الأنهار، ولذلك لسرعة مدارها واتصال جريانها. والقول الثالث عشر: أنه مشتق من التعريب، وهو مداواة للخيل بالنار، تسمى التبزيغ، وسميت العرب من ذلك لبلوغهم في شفاء الصدور بدرك الثأر، وإحكام ما عقدوه

من عهد وذمام مبلغ الكي الذي هو آخر الأدوية وأصعبها. والأعراب جمع العرب. كالأعزاب جمع العزب، ولكن الشعراء استعملته بعد ذلك على اللفيف وسواد القبائل، ألا ترى إلى قول مكيث بن معاوية الكلبي - وقيل: مكيث بالضم -. وما أسل الأعراب أرجو به الغنا ... ولو سلبت مالي سنون سوالبُ وقول الأشهب العكلي: يسموننا الأعراب والعرب اسمنا ... ونحن نسميهم رقاب المزاودِ وقال أبو فرعون السائل العدوي من عدي بن عبد مناة بن أد بن طابخة - واسمه شاكر ابن: ولست بسائل الأعراب شيئاً ... حمدت الله إذ لم يأكلوني وقد كنا ذكرنا مصدر عربي، فأما أعرابي فمصدره الأعرابية، قال بعض الشعراء: وإني لأهذي بالأوانس كالدمى ... وإني بأطراف القنا للعوبُ وإني على ما كان من أجنبيتي ... ولوثة أعرابيتي لأديبُ وأذكرني هذان البيتان بيتين لأبي الشغب العبسي: لعمرك إني يوم راح ابن كوكب ... لصب وإني للهوى لغلوبُ وإني على بعض الأناة ورسلتي ... لأبعد ما يرجو الفتى لطلوبُ

فصل في اشتقاق اللغة

فصل في اشتقاق اللغة رأيناه كالتوام لما قدمناه من اشتقاق العرب. في الحاجة إليه، وفي النيابة عن أبي بكر رحمه الله بإيراده، وكثير ما يجري التساؤل بين أهل العلم عن هذه الكلمة وما رأيت فيها لأحد من العلماء المتقدمين ولا المتأخرين قولاً شافياً والله الموفق. قال الحسين بن علي: لسنا نشك في أن المقصد باسم العرب معنى واحد من المعاني التي ذكرناها، وكذلك اللغة، لأن واضع الكلمة إنما يقصد بها الإخبار عن المعنى. فإن استردفت معنى آخر كان رجحاناً، ولكن لما كان الحقيقة المقصد خافياً عنا كنا مضطرين إلى حشد الأقوال لتطيب أنفسنا بأن الصواب في جملة واحدة مما أوردناه، وعلى هذا الاعتبار ففي اشتقاق اللغة سبعة أقوال: فالقول الأول: أنها من لغيت بالشيء الغي إذا أولعت وأغريت به. قال الفراء: يقال لغيت بالكلام أقوله، ولغي بالماء يشربه، إذا أولع به، وردده، ولغيت بمصاحبة فلان إذا لهجت به. وقال أبن الأعرابي أيضاً: لغى به ولكى به إذا لهج به. وقال أبو عبيد في " غريب المصنف ". عن الكسائي: لغيت بالماء ألغى إذا لزمت شربه، أو نحوا من هذا اللفظ. وفي وزنهما قولان أحدهما أن أصلها كانت لُغية عن وزن فُعلة، فحذفت الياء تخفيفاً وبنيت الكلمة على النقص مع نظرائها جماعة الألفاظ، فإن قال قائل: فما بالهم لم يحذفوا الياء من دجية واحدة الدجى، وحكمه حكم لغيه؟ فجوابه: أن القياس إنما يطرد في الأصول والفروع المطرود عليها، فأما الحذف فإنما هو تخفيف، وفاعل التخفيف بالخيار فيه، إن شاء حذف وإن شاء أقر، وذلك على حسب المواقع في كثرة الاستعمال العاذرة في طلب الاختصار.

والقول الآخر أن وزنها فعلة، وأصلها لغية، فانقلبت الياء ألفاً لتحريكها، وانفتاح ما قبلها، وإنما كان الحكم حرفي المد واللين أن ينقلب كل واحد منهما ألفاً إذا تحرك وانفتح ما قبله، لأن أخف أحواله أن يسكن، وما قبله منه، أما سكونه فلان به تمكن المد فيه، وإما كون ما قبله منه فليلاحمه ويعينه ولا ينافره فما يراد به من مده ولينه وأوسط أحواله أن يسكن، ما قبله ليس منه، وأثقل أحواله أن يتحرك وما قبله ليس منه، فيجري مجرى الحروف الصحاح، وتفارق صفته المطلوبة فيه بحركته التي تزيله عن اللبن. وبقلة مساعدة ما قبله له، ومشاكلته إياه، فإذا جاء حرف المد متحركاً وما قبله ليس منه، جاء على أثقل أحواله، فيقلب ألفاً لينتقل إلى أخف أحواله، وهو سكونه وما قبله منه، فلما صار لغاة آنسهم هذا التغير بتغير آخر، فحذفوا الألف تخفيفاً، ولأن هذا الوزن قليل في الأسماء المفردة، وإنما هو من صيغ الجموع، مثل قضاة ورماة، فصار لغة كما ترى. ومن عادتهم أن يتبعوا نقص التغير نقصاً. ألا ترى إلى قولهم ليس وأصلها ليس، بوزن فعل، فكان قياسهم يوجب أن تنقلب الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فيقال: لاس، ما انقلبت ياء بيع فقيل: باع، فلما وجدوها قد خالفت في التصرف، ولزمت باباً واحداً، وهو صيغة الماضي لعلة أخرى لا نرى الإطالة بذكرها في هذا الموضع، آنسهم ذلك بتغيرها ثانياً، وجراهم على ركوب الخلاف بها عودا بعد بدءٍ، فقالوا فيها: ليس، وفارقوا بها أخواتها ولم يقولوا: لاس، مثل زال وصار، وهو فعل من الليس، وهو الشدة والشجاعة، وكأن تقدير قولهم: ليس زيد قائماً، وامتنع وصعب أن يكون زيد قائماً، هذا على رأي النحويين. فأما أهل اللغة فيحكون عن الخليل أنه قال: ليس إنما أصله لا أيس، لأن أيس عنده لفظة يخبر بها عن الموجود، فإذا قالوا: لا أيس فكأنهم قالوا: لا موجود، فثقل عليهم فقالوا: ليس، والأيس في كلام العرب التأثير، فأخبره به المتكلمون عن الموجود، لأن الموجود لا بد أن يكون له أثر أو تأثير أو نحو ذلك. وقال الأصمعي في كتاب " نظائر الأفعال ": آسه ييئسة أيساً إذا ثر فيه، ومنه أيسه يويسه بوزن فعله، يفعله مشدداً، وأنشد يعقوب: إن كانت جلمود صخر لا أؤيسه ... أوقد عليه فأحميه فينصدع

إن قناني لنبع لا يؤيسها ... عض الثقاف ولا دهن ولا نارُ وقال أبو خلدة اليشكري - بخاء مفتوحة معجمة من فوق واحدة - قال أبو بكر ابن دريد: ومن غير ذلك فقد أخطأ، وهو ابن عبيد بن منقذ بن حجر بن عبد الله بن سلمة بن حبيب بن عدي بن جشم بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر بن وائل: ما يسر الله من خير قنعت به ... ولا أموت على ما فاتني جزعا ولا يؤنس من عودي خوالقه ... إذا المغمز منها لان أو خضعا خوالقه: الأحداث التي تملسه، والأخلق: الأملس. ويكون وجه هذا الاشتقاق إنها أعنى اللغة، لما كان أهلها ملازمين لها، وكانت قد صارت كالسمة لهم، والشيء اللاصق بهم، كانوا كأنهم قد أغروا بملازمتها، وأوزعوا الدؤوب عليها، وكانت هي للصوقها بصفاتهم كالمغراة أيضاً بهم، فلهذا جاز فيها فعله بتحريك العين، لأن فعله اسم فاعل، مثل ضربة لفاعل الضرب وحفظة للحافظ. والقول الثاني: أنها من اللغو، وهو النطق، ومنه سميت لواغي الناس، أي أصواتهم ومنطقهم، وهذا من المصادر التي جاءت على فواعل، وهي قليلة، مثل قولهم سمعي رواغي الإبل، وثواغي الشاة، يعني رغاءها وثغاءها. قال حميد بن عبد الله بن عامر بن أبي ربيعة بن نهيك ابن هلال بن عامر بن صعصعة، وقد قال بعض النسابين في نسبه قولاً آخر، وهذا أحب إلي لأني رأيت أبا علي الهجري يرويه عن شيوخه من الأعراب وكان الهجري أعلم المتأخرين بالنسب، وغير الهجري أيضاً يروي عن أبي عمرو وغيره من الروات: رعين المرار الجون من كل باطن ... دميث جمادى كلها والمحرما إلى النيرو العلباء حتى تبدلت ... مكان رواغيها الصريف المسدما ويقول: استبدلت عوض الرغاء الذي منها يأتي ضراً وهزلاً الذي يأتي سميناً وأشرا.

وقواضي الديفان: يراد به قضاؤه. قال أبو وجزة يزيد بن عبيدة من بني سعد أبن بكر من هوزان: وإذا قطمتهم قطمت علاقماً ... وقواضي الذيفان فما تقطمْ والنواطق: يعنون به النطق. قال كعب بن زهير المزني: وأدركت ما قد قال قبلي لدهره ... زهير وإن يهلك تخلَّد نواطقهْ والأوامر والنواهي: يعنون الأمر والنهي، كذا قال اللغويون. وقد يجوز أن يكون لواغي جمع لاغية، وكذلك كله يجوز أن يكون جمعاً، والأوامر والنواهي يذهب به إلى العزمات والإرادات إلا أن الأول محفوظ القوم. ومن اللغو المنطق قول الله عز وجل: (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه) . قال الخليل: معناه من اختلاط الكلام، والله اعلم بكتابه ومنه في الحديث: " من قال في الجمعة صه، فقد لغا " أي تكلم، كذا قال الخليل أيضاً. ومثله قول ثعلبة أبن صعير بن خزاعي بن مازن بن عمرو بن تميم بن مرِّ بن أدَّ. أسمي ما يدريك أن رب فتية ... بيضٍ الوجوه ذوي ندى ومآثر باكرتهم بسباء جونٍ ذارع ... قبل الصباح وقبل لغو الطائر أي قبل تنطق الطيور، ويقال منه: لغت الطيور والناس أيضاً تلغو، ولغيت تلغى إذا نطقت وسمع نطقها، وقال عبد المسيح بن عسلة، أخو بني مرة بن همام بن مرة بن ذهل أبن شيبان - وقد رويت لغيره وهي له أثبت عند المفضل بن محمد بن يعلي الضَّبيِّ: وعازب قد على التهويل جنبته ... لا تنفع النعل في رقراقه الحافي

صبحته صاحباً كالسيد معتدلاً ... كأن جُوُّجُوُّهُ مداك أصداف - جعل المداك من صدف لأنه أحسن له وأكثر إشراقاً. باكرته قبل أن تلغى عصافره ... مستخفياً صاحبي وغيره الخافي لا ينفع الوحش منه أن تحذره ... كأنه معلق منه بخطاف إذا أواضع منه مرَّ منتحياً ... مرَّ الأتي على برديِّه الطافي وهذا الشعر من حسان أبيات المعاني. ويقال أيضاً للصوت اللَّغا مقصور، يكتب بالألف مثل اللَّغو قال الجعدي: وعادية مثل الجراد وزعتها ... لها قيروان خلفها متكتب كأنَّ قطا العين التي فوق ضارج ... خلاف لغا أصواتها حين تقرب شبه لغط القطا باختلاف أصوات الخيل، وخلاف هاهنا بمعنى اختلاف، ويقال: هذه لغتهم التي يلغون بها أي ينطقون بها كما يقال هذه لعبتهم التي يلعبون بها، ووزنها على ذلك فعلة اصلها لغوة، فلما وجدوا الواو متحركة قبلها ساكن وجب ثبوتها وذلك مستكره عندهم لنقصان فضيلتها به، وذلك أنها إذا تحركت نقص المد فيها، وثقلت زيادة على ثقلها، فاحتيل في تغيرها بأن حركوا العين قبلها، فلما تحركت العين، انقلبت الواو ألفاً فصارت لغات، فحذفوا الألف تخفيفاً على المذهب المتقدم في الجراءة على 00 بالتغيير، فصارت لغة، وأهل اللغة يقولون حذفت الواو للنقص، ويقتصرون من الاعتدال على هذا القول. والقول الثالث: إنها مشتقة من اللَّغو، وهو الذي لا يعبر لقلته، ولا يحتسب لدقته، أو لخروجه على غير جهة الاعتماد من فاعله كما قال الله عز وجل: (لا يؤاخذكم الله باللَّغو في إيمانكم) ما لم تقصدوه وتعتمدوه، والله اعلم بكتابه. وقال المثقب العبدي - واسمه عائذ وقيل عايذ الله، وكلاهما مروي، بن محصن بن ثعلبة بن وائلة بن عدي بن عوف

000بن عذوة بن 000 بن نكرة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس -: هل عند غانٍ لفوادٍ صد ... من نهلة في اليوم أو في غد؟ يجزي بها الجازون عنى ولو ... يمنع شربي لسقتني يدي هل عندها سقياً لذي غلةٍ ... إلا بما قالت فلم يوجد إلا ببدري ذهب خالصٍ ... كل صباح آخر المسند من مال من يجبي ويجبى له ... سبعون قنطاراً من العسجد أو مائة يجعل أولادها ... لغوا وعرض المئة الجلمد ومنه ألغيت هذا الباب من الحساب، إذا تركته فلم تعده، وقال غيلان يهجو هشام بن قيس المرئي أحد بني امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم: يعد الناسبون إلى تميمٍ ... بيوت الحي أربعة كبارا يعدون الرباب لها وسعداً ... وعمراً ثم حنظله الخيارا ويسقط بينها المرئي لغوا ... كما لغيت في الدية الحوارا لغواً: أي ساقطاً لا يعد كما تسقط الفصلان في الديات. وقال عمرو بن أحمر الباهلي: يظل رعاؤها يلغون منها ... ولو عدت نظائر أو جمارا والجمار: الجماعة. يقول: يسقطون منها ما هو نظير للجيد المختار، ويسقطون الجماعة لا يبالون بها، فاللغة لما طرح بها ما سواها وعطلت ما كان من اللغات قبلها، سميت بذلك، كما يقال لهوة للشيء الذي يلهى به، ولعبة للشيء الذي يلعب به، لأن اللعبة آلة للعب، كما أن اللغة آله لإلغاء ما قبلها من اللغات.

والقول الرابع: أنها مشتقة من اللغو، وهو الباطل، قال الله عز وجل: (وإذا مروا باللغو مروا كراما) قال الخليل: وهو الباطل، قال ومنه قول الله عز وجل: (لا تسمع فيها لاغية) أي كلمة باطل فاحشة، والله أعلم بكتابه. واللغا مقصور يكتب بالألف مثل اللغو، قال العجاج: فالحمد لله العلي الأعظم ... ذي الجبروت والجلال الأفخم ورب كل كافر ومسلم ... ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم يعني عن الباطل. ووجه الاشتقاق أن هذه اللغة أبطلت ما قبلها، وجعلته كالمحال الذي لا يقال، والباطل الذي لا يسمع، ومعناه قريب من معنى الفصل الذي قبله، وهما جميعاً في التصريف يجريان مجرى الباب الذي قبلهما، ويغنيان به عن شرح تصريفهما. والقول الخامس: أنها مشتقة من النغي وهو الكلام. قال أبو عبيد: يقال أبو عبيد: يقال سمعت منه نغية، وهو الكلام الحسن، وأبدلت من النون لام، وبني منه لغية على وزن فعلة، وإبدال اللام من النون كثير من كلامهم، مثل لمق الكتاب ونمقه - وهتن وهتل، وأدكن وأدكل - من الألوان - وغير ذلك مما لو ذهبنا إلى استقصائه لاحتاج إلى جزء مفرد نجرده له، ويكون وزنها فعلة وأصلها لغية، ويجري أمرها مجرى لغوة من اللغو، وعلى ذلك التعليل بعينه، وذاكرت أبا أسامة بهذا الوجه لما عن لي فأعجبه. والقول السادس: أنها مشتقة من لاغ الشيء يلوغه لوغاً إذا أراده في فمه ثم لفظه - عن ابن دريد - ويقال أيضاً: سائغ لائغ، ويقال: سيغ ليغ - عن ابن الأعرابي - ويكون وزنها فعلة، وأصلها لوغة، فاستثقلت ثلاث ضمات متتابعات، لأن الواو بمنزله ضمتين،

فحذفت إستخفافاً، فصار لغة. ووجه هذا الاشتقاق أنها لصحة أوزانها واعتدال أقسامها، وأصالة آراء الناطقين بها لا تخرج الكلمة منها إلا بعد ترو ونظر ونظر وتفكير، وأنها تلجلج وتردد قبل إرسالها. وتزم عند صحة العزم على إنفاذها، كما قال شداد بن أوس: ما تكلمت بكلمة كذا وكذا حتى أخطمها وأزمها. فإن قيل: لو كان أصلها لوغة لكان جمعها على لوغ؟! ففي ذلك أجوبة: أولها ما صدرنا به هذا الفصل من الاعتذار لما نرده، والتنبيه على أنه لا بد أن يكون بعضه مخالفاً لما قصد به واضعه. والثاني: أنه يجوز أ، يكون مجموعاً على لغاً قياساً به على نظائره في اللفظ، فإن الشيء يحمل على المشاكلة الظاهرة كثيراً، مثل ما قلب الفند الزماني شهل بن ربيعة بن زمان بن مالك بن صعب بن علي بن بكر بن وائل فقال: أيا تملك يا تملي ... ذريني وذري عذلي فثوبان جديدان ... وأرخي شرك النعلِ ومني نظرة بعدي ... ومني نظرة قبلي ونبلي وفقاها ك - عراقيب قطاً طُحلِ أراد بفقاها جمع فوقة، وكان ينبغي أن يقول: فوق فقلب كما ترى. وقال يزيد بن زياد بن ربيعة بن مفرغ الحميري في مثله: لقد نزع المغيرة نزع سوءٍ وعرق في الفقا سهماً قصيراً والثالث: أن جمع اللغة - فيما ذكره الخليل - لغات ولغين، ولم يأت فيه بلغى، فعدم السماع قد كفانا مؤونة ما يعترض به علينا طريق القياس. وقال ابن دريد: إن العرب تختار أن تجري الأعراب على التاء من اللغات، وعلى ذلك

قول أهل الكوفة، وذكر الكسائي أنه سمع العرب تقول: سمعت لغاتهم، والبصريون، يمنعون ذلك أشد المنع ويقولون: إن اطرد هذا في المعتل اطرد في الصحيح، وانتقصت به الأصل. والقول السابع: أنها مشتقة من الولغ، وهو ورود السبع والذئب والكلب الماء. ووجه هذا الاشتقاق أن ولغ الذئب متصل منتظم، ولذلك قال حاجز الأزدي اللص: بغزوٍ مثل ولغ الذئب حتى ... يبوء بصاحبي ثأر منيمُ يبوء بصاحبي أو يقتلوني قتيل ماجد بطل كيمُ وقال آخر: نقاذف بالغارات عبساً وطيئاً ... وقد هربت منا تميم ومذحجُ بغزوٍ كولغ الذئب غادٍ ورايحٍ وسيرٍ كصدر السيف لا يتعوجُ وقال ثعلب في " أماليه ": يقال هو في خيرٍ كولغ الذئب أي دائم متصل انتهى. فكأنها لا تساق نظامها وأتزان ألفاظها تجيء مسرودةً منضودةً، لا تفصل بينها فترة عيَّ، ولا تنحو بها هجنة هذرٍ، كما أن ولغ الذئب نسق واحد، كعد الحساب السريع، وكحظ الكاتب الوشيك، ووزنها على هذا فعلة، وأصلها ولغة، وهم يستثقلون حركة الواو بالفتح، فيقلبونها لذلك يقولون في واحدٍ: أحد، وبالكسر فيقلبونها يقولون في وسادة إسادة، وينتهي بهم استثقال الحركة على الواو أن يسقطوا الكلمة بالواجدة، ويتخذوا غيرها عنها عوضاً مثل ما أهملوا الكلام بودد وودع، واستغنوا عنهما بترك، فكيف إذا اتفق أن حركة الواو بالضمة، وهي أثقل الحركات على جميع الحروف وعلى الواو خاصة، فنقلوا حركة الواو إلى اللام فبقيت الواو ساكنة، وليس يبتدأ بساكن، فحذفوها فصار لغة - كما ترى فإن قيل: إن النسبة إلى اللغة بلغوي يبطل هذا لأنه كان يجب أن يقول: ولغي؟ فجوابه ما ذكرناه في مقدمة الفصل، على أنه يجوز أن تكون النسبة جاءت مقلوبة مثل لعمري ورعملي، ويكون غرضهم في قلبها عند الجميع شيئين: أحدهما أن لا يبتدأ بالواو مضمومة، والثاني: لكيلا يفجا السمع تغير بين المنسوب والمنسوب إليه في أول الاسم ومقدمه، والمقدم

هو المهم عندهم، والمقلوب في كلام العرب مما يجوز القياس عليه لكثرته، قال أبو عبيد القاسم بن سلام في " غريب الحديث ": إن رجلاً سأل رسول الله (فقال أنا نصيب هوامي لإل. فقال (: " ضالة المؤمن - أو المسلم - حرق النار " وفسره أبو عبيد فقال: الهوامي الضوال، واتبع ذلك شرحاً طويلاً ثم قال: وليس هذا من الهوائم في شيء، لأن الهوائم جمع هائم، إلا أن تجعله من المقلوب مثل قولك: جذب وجبذ وضب. فتبين لنا بهذا القول أنه يجوز القياس عليه، وتأمل كلامه يغنينا عن إطالة القول في معناه. وبالله التوفيق.

في ذكر الشعراء المراقسة

بسم الله الرحمن الرحيم القسم الأول من كتاب " أدب الخواص " في ذكر الشعراء المراقسة: الباب الأول: - من هذا القسم في ذكر امرئ القيس الأكبر صاحب اللواء وذكر قبيلته كندة. فصل جعلناه مقدمة لهذا الباب، نذكر فيه الكلام على لفظة " امرئ القيس " من طرق النحو واللغة، وبالله التوفيق. قالوا: يقال مَرء - بوزن فعل - ومُرءٌ - بالضم فيه - وأنثاه مرأة، وقد تحذف الهمزة وتلقى حركتها على الساكن الذي قبلها فيقال: مَرَةٌ، وقد يقال: مراة. قالوا: وهو أبعد اللغات. ويقال: هذا مرء ورأيت مرأ، ومررت بمرءٍ، وقد روي أنه يقال: هذا مرء ورأيت مرأ، ومررت بمرءٍ، فتجعل حركة الميم تابعة للإعراب، وذلك لضعف الهمزة عن تحمل الإعراب فجعلوا الميم تابعة لها، لتقوا بذلك، وتخطوا إلى الميم دون الراء لئلا تخرج إلى الثقل بتحريك عينه، وهم يهربون إلى تسكين المحرك لثقله، ويقال في تثنيه: مران ومرآن، وفي تثنيته مؤنثه: مرأتان ومرتان ومراتان جمع له من لفظه، ما حكى عن أبي سعيد الحسن بن أبي الحسن البصري - مولى جميلة بنت قبط بن يزيد بن عمرو بن حديدة بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن الأزد، وجميلة هذا زوج مالك بن أنس بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب أبن عامر بن غنم بن عدي بن النجار - وإنما سمي النجار لأنه ضرب رجلاً فقيل: كأنما نجره - وهو تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن حارثة - أنه قال في بعض قصصه: يا أيها المروون،

فجمعه على أصله، ذكر ذلك عنه أبو محمد جعفر بن درستويه النحوي في " شرح الفصيح " ويقال على هذا في جمع المرأة مرآتٍ، فأما امرؤ وامرأة فمنتقل عن أصله بألف وصلةٍ، ونحن نحتاج إلى مزيد في شرحه، وذلك أنه اسم، وألف الوصل من خواص الأفعال، لأنه يعرض فيها ما يحتاج لأجله اليها، وهو أن المستقبل كان من حقه أن يكون مفتوح الأول على قياس ماضيه فيقال: يعمل ويصنع، فثقل عليهم توالي أربع حركات، ولم يكن إلى إسكان الأول سبيل، لتعذر الابتداء بالساكن، ولا إلى إسكان الثالث لأنه عين الفعل، وبحركته يعرف اختلاف الأبنية، ولا إلى إسكان الرابع لأنه مركز الإعراب، فأسكنوا الثاني إذ كان لا يمنع من تسكينه مانع، فصار يعمل، فلما احتاجوا إلى الأمر حذفوا حرف المضارعة الذي هو الياء المخبرة عن فاعل غائب لغناهم عنها، وذلك أنها علامة الاستقبال والأمر لا يكون إلا مستقبلاً، لا يجوز أن تأمر بماضٍِ فأغنت هذه النصبة عن حرف الاستقبال، مع طلبهم التخفيف، فبقيت فاء الفعل ساكنةً، وليس يجوز الابتداء بساكنٍ فاحتاجوا إلى الهمزة ليتوصلوا بها إلى النطق بالساكن، إلا أن يكون معتلاً أو مدغماً، فيكون اعتلاله أو إدغامه قد حرك أوله، والرباعي وما وراءه من الأبنية يجري هذا المجرى، والتأمل له مع هذا المثال الذي أوردناه يغني عن استقرائه، وقصدوا الهمزة لعلتين: إحداهما أنها أول مخرجا، فكانت أول شيء ليقيم من الحروف عند الاستقراء، والعلة الثانية: تيسر حذفها عند الأدراج، وسميت الهمزة ألفاً لأنها تنقلب إلى الألف قوال " راس " وأصله " رأس " وقد تنقلب ياء في قولك " ذيب " وقد تنقلب واواً في قولك " سرو " إذا لينت " السرو " وهو البقية، ومنه سائره - مهموزاً - أي أخذت بقيته - والناس كثيراً ما يغلطون هاهنا فيخبرون بسائره عن جميعه، وذلك خطأ، وأصله ما بينته لك. وعلة أخرى في تسمية همزة الوصل ألفاً وهي أن الهمزة - كما قلنا - في أول المخارج، والألف فهي أول الحروف المرتبة للمعجم، فكان بينهما بذلك مناسبة أوجبت الاشتراك في التسمية، ولذلك خصت الهمزة باسمها دون الواو والياء، وقد ينقلبان عنها.

ومما قد يسأل عنه أنه يقال: كيف كانت صورة عند إحضارها؟! وهل كانت متحرك أو ساكنة؟ فإن كانت متحركة فبما إذن استحقت الحركة، لأن الحروف كلها حقها أن تجيء مرسلة عطلا حتى تستحق الحركة بعد ذلك بأحد الأسباب الموجبة؟ وإن كانت ساكنة فكيف يتوصل بالساكن إلى النطق بالساكن؟ والجواب عن هذا أنها أحضرت ساكنة في نية المتحرك، لأنهم قصدوا بها الابتداء، فوجب لها بهذا القصد شيء من الحراك ووجب عليها بأنها لم تبتدأ بها بعد السكون، فكانت في منزلة بين ذينك، وهي السكون بنية الحركة، فلما ألصقوها بالكلمة حركوها إلى الكسر، وإنما كانت بشريطة التقاء الساكنين " 000 " لأن تحريك التقاء الساكنين بناء، ووجدوا الفتحة والضمة ويكونان للإعراب والبناء، ورأوا أن الكسرة لا تكون إلا للبناء فاختاروها لذلك، ولعلل غيره يطول ذكرها. وقد تجيء ألف الوصل مضمومة في الفعل الذي عينه مضمومة مثل " يقتل " والعلة في ذلك أن ألف الوصل لو جاءت هاهنا مكسورة لكان اللسان ينتقل من كسر إلى ضم، لأن فاء الفعل الساكنة حاجز غير حصين فينقل، مع أنه يكون بمنزله " فعل " وليس هذا من أبنيتهم، وعدلوا إلى الضمة دون الفتحة لئلا يلتبس بإخبارك عن نفسك إذا جئت به على الوقف فقلت: " أقتل " وإذا أدرجت سقطت ألف الوصل للغنى عنها بلقاء الساكن متحركاً مما قبله، فلما كانت ألف الوصل من لواحق الأفعال لم يستحقها من الأسماء إلا ما شابهها، وهي أسماء قلائل، جانست الأفعال في حذف الأواخر شيء يلزم الأفعال لكونها متصرفة متقلبة في قواليب الأمثلة، وكانت أواخرها أخص به لا " 000 " التعبير بها من جهة كون الإعراب فيها، ولتطرقه في الجزم عليها، فلما جانست هذه الأسماء استحقت 000 لمشاركة في بعض الخصائص، فزيدت فيها ألف الوصل، مع دعاء الحاجة إلى ذلك في بعضها أن يكون أولها. فمن تلك الأسماء امرؤ، وكان أصله مرء بوزن فعل،

والدليل على ذلك تصغيرهم إياه على مريءٍ، بوزن فعيلٍ، وقال الشاعر - ويمر خبره مستقصى في باب هلهل إن شاء الله -: قتلنا مريء القيس غصباً بربه ... بواءً وأطلقنا إليهم مهلهلاً وقد سموا بمريءٍ، وفي دليل من عبد القيس رجل اسمه مريء، وفي الأنصار من الخزرج رجلان اسم كل واحد منها مريء، وليس بشاهد لنا لأنه تصغير مرءٍ، قبل إدخال ألف الوصل، ولذلك لم نسق أنسابهم، فوقعت الهمزة لام الفعل وهي تعتل كاعتلال حروف المد اللين، مع ما فيها من الضعف بكونها أخيراً، ومن الاستعداد للتغيير بالتخفيف وغيره، فقل احتمالها للإعراب، وكان ضعفها وعجزها من الإعراب الذي هو حلي الكلمة وقيم معناها كعمدها، وحضورها عندهم كمغيبها، فعدوا هذا الاسم مما آخره محذوف، ورأوا أنه يستحق شيئاً من آلات الفعال لمشابهته إياها بهذا النقص، فأعطوه ألف الوصل في أوله، بعد أن اسكنوا فاءه التي هي الميم، ليزيد عذرهم بياناً في إدخال ألف الوصل، وليكون مورد ألف الوصل على الميم ساكنة كموردها على فاء الفعل الساكنة، ولتستوفي في هذا التعويض الذي أعطته كلية المشاكلة. وحركوا الراء لعلتين: إحداهما أنهم لما أسكنوا الميم - كما قلنا - لم يجز بقاء الراء ساكنه لئلا يلتقي ساكنان، وليس يسوغ ذلك في النطق. والثانية: الاحتزاز من تطرق التغيير على الهمزة بكونها متحركة قبلها ساكن. واختلف بعد ذلك في حركة الراء. فبعض العرب يلزمها الفتح، فيقول: رأيت امرأً، وهذا امرأً، ومررت بامرئٍ، ويقول إنه لما اضطر إلى تحريكها ذهب بها إلى الفتح لأن أخف الحركات. وبعضهم - وهو الأكثر الأشهر - يجعل الراء تابعة للإعراب الواقع على الهمزة، فيقول: هذا امرؤ، ورأيت امرأً، ومررت بامرئٍ، وذلك لأن الهمزة على ما قدمنا من الضعف، فعضدوها بمشاركة الراء لها، وتحملها الإعراب معها، ومن أجل هذا لم يضموا الألف في قولهم: هذا امرؤ، ولم يتبعوها ضمة الراء، كما ضموضها في قولك: " أقتل " اتباعاً لضمة التاء، وذلك لأن الراء ليست الضمة لازمة لها، وإنما هي أحد وجوه تصاريفها. وبعض الناس يرى أن الإعراب واقع على الراء، وإن حركة الهمزة مفحمة لا يعتد بها مثل قولهم: يا طلحة أقبل،

وهم يريدون: يا طلح أقبل. ولو أرادوا المناداة باسمه من غير ترخيم لقالوا: يا طلحة أقبل، بضم الهاء على حكم الاسم المفرد، وهذا القول غير طائل في قولهم: امروء، من أجل أنه يحصل الأعراب في وسط الاسم، وذلك لا يتمكن في كلامهم، والعلة في ذلك أنه لا يكون في أوله من أجل استحقاق الأول للحركة، إذ كان لا يقع الابتداء بساكنٍ، فلما استحق الحركة اللازمة كان بمنزلة ما استحق البناء فلم يعربوه في أوله، لأن الإعراب يتغير وينتقل، ومن رأيهم أن يبنوه، ولم يجز أن يعربوه في وسطه لئلا يختل نظام الأبنية، فلم يبق غير آخر فأعربوه فيه، ووجه آخر: أن الإعراب يستحقه الاسم بعد تمام الاسمية فيه، فكان الوجه على هذا أن يعرب في آخره على نحو قولهم: امرؤ، واتباعهم الراء حركه الهمزة، أجروا قولهم ابنم، وقد استقصينا شرحه بعلله وشواهده في غير هذا الكتاب. وأما قولنا: امرأة فحركت الراء بالفتح، لأنه أخف الحركات، وتحصنت عن أن تتبع حركة الإعراب، لأن الهمزة استغنت عن حرف يعينها في حمل الإعراب، لانتقاله عنها إلى الهاء الموردة للتأنيث مع استفادتها - أعني الهمزة - بعض القوة لتوسطها واحتجازها عن التطرف بالهاء التي بعدها. والكلام في هذه المسألة يتسع لأكثر مما قلناه، ولكنا نرى الاختصار. وإذا نسبوا إلى امرئ القيس قالوا: امرئي بوزن امرعي بكسر الراء، واقتصروا بالراء على الكسر لمكان ياءي النسبة واستدعائهما الكسر في المشاكلة، هذا القياس عند أبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر، مولى بني الحارث بن كعب، من مذحج، وعند عامة النحويين، والذي تكلمت به العرب مرئي، بوزن مرعي، وهو عند أهل العربية على الشذوذ، وقال ذو الرمة غيلان بن عقبة بن بهيشٍ - بالشين معجمة - بن مسعود بن حارثة بن عمرو بن ربيعة بن ساعدة بن كعب بن عوف بن ثعلبة بن ربيعة بن ملكان - في قضاعة ملكان وفي السكون ملكان والباقي كله ملكان - بن عدي بن عبد مناة بن ادبن طابخة - واسمه عامر - بن الياس بن مضر، في هجائه هشام بن قيس المرئي:

ويسقط بينها المرئي لغواً كما ... ألغيت في الدية الحوارا إذا رئية ولدت غلاما ... فألام ناشيء نشيغ المحارا وكرر ذكر المرئي في أبيات كثيرة لا نرى الإطالة بإنشادها، ويجوز أن تنشد بالتخفيف فتكون ألزم لطريق القياس، على أنه منسوب إلى مرءٍ من قولك مرء القيس. قال أبو بكر الأنباري: يجوز في اللفظ به أربع صيغ: تقول هذا أمرؤ القيس - بضم الراء - وهذا امرؤ القيس - بفتح الراء - وهذا مرء القيس - بفتح الميم وتسكين الراء - وهذا مرء القيس - بتسكين الراء وصم الميم - فيقال على هذا: المرئي، وليس يخل بالوزن إلا أن السماع في هذا البيت وفي غيره من كلامهم مرئي - بالتحريك - ولعلهم حركوه خيفة التباسه بقولهم: رجل مرئي، أي منظور إليه، ومرئي أيضاً من رايته إذا أصبت رئته، مثل: قلبته إذا أصيب قلبه، ومثل قولهم: قتله، وإنما يعنون أصبت قاتله أي نفسه، والقتال النفس قال الشاعر: يدعن الجلس نحلا قتالها وفي نحو منه قولهم: بحت بالشيء، إنما يعنون به أظهرت ما في بوحي، والبوح النفس وقال أبو جعفر محمد بن حبيب مولى بني هاشم: كل امرئ القيس في العرب فالنسبة إليه مرئي كما جاء في شعر غيلان إلا صاحب اللواء فإن النسبة إليه مرقسي، مثل عبشمي وعبدري. وجمله القول اللغوي في هذه الكلمة أن المرء الرجل والمرأة تأنيثه، وأصل هذا الباب الجري، فيقال: امرأة كما يقال: جارية، لأنها تجري في نمو وشباب، وكذلك الرجل أيضاً، ومنه الشيء المريء، يراد به الذي يجري في مجاريه ويسوغ أن يقصد مصدره المراءة، بوزن المراغة، ويقال: مرأ الطعام يمرأ مراءة، كما يقال: قمأت الماشية تقمأ قماءة، ومرو الرجل يمرو، كما يقال: قمو الرجل يقمو، عن محمد بن زياد الأعرابي. ويقال: استمرأت الطعام وهذا يمريء الطعام أي يسهل جريه وينفذه، ومنه المريء من

الحلق، وهو المسترط، الذي يجري فيه الطعام والشراب إلى المعدة، وجمعه أمرئة على أفعلة، ومرؤ - بوزن فعل مضموم الفاء والعين - وأبو أسامة يروي هذا الحرف في " غريب المصف " مشدداً غير مهموز قال: هو المري، وكأنه من مريت الضرع أي مسحته ولينته، وسهلت مجاري اللبن فيه. قال أبو أسامة: وقد روي المريء مهموزاً وهو جائز حسن، فأما أبو الحسن ثابت فرواه بالهمز لا غير، وقال أبو عبد الله بن الأعرابي في كتابه الذي سماه بكتاب " الإبل ": المري - غير مهموز - التي تحلب على غير ولد، وإنما سميت مرياً لأنها تمري بالأيدي فلا تكون مرياً ومعها ولدها. ويقال هنيئاً مريئاً: أي جارياً لذيذاً سائغاً قال الله عز وجل (فكلوه هنيئاً مريئاً) وقال كُثير بن عبد الرحمن - بن الأسود بن عامر بن عويمر بن مخلد بن سعيدة بن سبيع بن جعثمة بن سعد بن مليح بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو مزيقباء بن عامر ماء السماء بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن الأزد - وكان يقال له: أبن أبي جمعة ينسب إلى جدة من قبل أمه وهو أبو جمعة الأشيم بن خالد بن عبيد بن مشبر بن رياح بن سالم بن غاضرة أبن حبشية، وقد رأيت بخطوط رؤساء من أشياخ النسب حبشية - مشدد الياء والأول أثبت - وهو قول ابن حبيب. والحبشية النملة الكبيرة، وحبشية هو ابن كعب بن عمرو وكعب أخو مليح بن عمرو -: هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامر ... لعزة من أعراضنا ما استحلت وقد قيل في نسب كثير قول آخر ما يضرنا ذكره: كان بعض قوم كثير يقولون: أنهم من ولد الصلت بن النضر بن كنانة، وفي ذلك يقول كثير: أليس أبي بالنضر أم ليس أسرني ... بكل هجان من بني النصر أزهارا؟ إذا ما قطعنا من قريش عصابة ... فأي قسي تحمل النبل ميسرا؟ لبسنا ثياب العصب فأختلط السدى ... بنا وبهم والحضرمي المخضرا فإن لم تكونوا من بني النضر فاتركوا ... أراكاً بأذناب الفوائج أخضرا

قال هذا الشعر يخاطب به أبا علقمة ميسر بن حدير بن علقمة بن أبي الجون - واسم أبي الجون عبد العزى - بن سعد بن ربيعة بن أصرم بن ضبيس بن حرام بن حبشية بن كعب فقال ميسرة يرد عليه في رواية النسابة الهاشمي من أهل حلب، وقال غيره: إنها للحوص -: لعمري لقد جاء العراق كثير ... بأحدوثة من وحيه المتكذب اتزعم أني من كنانة والدي ... وما لي من أم هناك ولا أب ولما ذكر العراق لأن عبد الملك كان دعا كثيراً إلى هذا النسب فأجابه، وأجابته خزاعة الحجاز فسار كثير إلى خزاعة العراق يدعونهم فأبوا، وبلغ ذلك الأحوص - أو ميسرة - فقال هذا الشعر، وروى زبير بن بكار عن رجاله أن كثيراً ينسب نفسه وقومه إلى النضر بن كنانة، وقال لأبي علقمة ميسرة: أبا علقم أكرم كنانة إنهم ... مواليك إن أمر نبابك مقلق بنو النضر ترمي من ورائك بالحصا ... أولو حسب فيهم حفاظ ومصدق إذا ركبوا ثارت عليك عجاجة ... وبالأرض من وقع الأسنة أولق هم ملوكهم من تهامة منزلاً ... ولولاهم كنتم أباء يحرق فلا تكفرن قوماً عززت بعزهم ... أبا علقم فالكفر بالريق يشرق في أبيات. قل الزبير: فأجابه الأحوص بن عبد الله بن محمد بن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح - اسم أبي الأقلح قيس - بن عصمة بن مالك بن أمة بن ضبيعة بن زيد ب مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس.

فإنك لو أعذرت أو قلت شبهة ... لذي الحق فيها والمخاصم مغلق عذرناك أو قلنا: صدقت وإنما ... يصدق بالأقوال من كان يصدق ستأبى بنو عمرٍو عليك وينتهي ... بهم حسب في جذم غسان ومعرق يعني بني عمرو مزيقاء وإنك لا عمراً أباك حفظته ... ولا النضر إذ ضيعت شيخك تلحق فأصبحت كالمهريق فضلة مائه ... لباقي سراب بالملا يترقرق وجميع أهل العلم بالنسب يقولون: إن الصلت بن النضر درج، ويباطلون دعوى كثيرٍ. وقد قال آخرون: إن خزاعة من ولد قمعة وهو عمير بن الياس بن مضر، وأحسب أن القتبي روى ذلك، والأول هو الصحيح. وكثير يكنى أبا صخر، وكان ينسب إلى عزة بنت جميل أبن حفص بن اياس بن عبد العزى بن حاجب بن غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة. ونعود إلى سبيلنا الأولى. وقال عبد الله بن همام أحد بني مرة بن صعصعة أبن معاوية بن بكر بن هوزان بن منصور بن عكرمة بن خفصة بن قيس بن الناس بالنون وهو عيلان بن مضر. وأم ولد مرة بن صعصعة سلول بنت ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكاية أبن صعب بن علي بن بكر بن وايل فإليها ينسبون: اشرب شرابك وانعم غير محسود ... واكسره بالماء لا تعض أبن مسعود إن الأمير له في الخمر مأربة ... فأشرب هنيئاً مريئاً غير تصريد ويعني عامر بن مسعود بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لوي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة. وكان اسم جمح بن عمرو

تيماً، واسم أخيه سهم بن عمرو زيداً، فقعدت يوماً أمهما الألوف بنت عدي بن كعب بن لؤي بن غالب، ومعهما أترجة من ذهب، وقيل من فضة، فدحت بها وقال لأبيها: استبقا إليها فمن أخذها فهي له. فأخذها سهم. فقالت: كأنك والله يا زيد سهم مرق من رميته، وكأن شيئاً جمح بك عنها يا تيم، فسمي هذا جمح وسمي هذا سهماً. وعامر بن مسعود هذا كان يلقب دحروجة الجعل لقصره، وفي ذلك يقول عبد الله بن همام السلولي: واشف الأرامل من دحروجة الجعلِ واصطلح أهل الكوفة على عامر بن مسعود عند موت يزيد بن معاوية، وهرب عبد الله بن زياد، فأمروه عليهم، فأقره عبد الله بن زيد اشهراً ثم عزل، وخطب أهل الكوفة في أيام إمارته عليهم فقال: إن لكل قوم أشربة ولذات فاطلبوها في مظانها، وعليكم بما يجمل منها ويحل، واكسروا شرابها بالماء، وتواروا عني بهذه الجدارات فلذلك قال عبد الله بن همام الشعر المتدم، وقال فيه غيره من الشعر: من ذا يحزم ماء المزن خالطه ... في قعر خابية ماء العناقيد إني لأكره تشديد الرواة لنا فيها ويعجبني قول ابن مسعود ولما بلغ ابن مسعود قول عبد الله بن همام قال: قطع الله لسانه عدل الحمار فقد أساء القول. ذهب إلى قول الأخطل: بئس الفوارس عند مختلف القنا ... عدلا الحمار محاربٌ وسلولُ وقال آخر - أنشدنيه محمد بن الحسين عن إسحاق بن إسماعيل الطاهري عن المبرد -: كل هنيئاً وما شربت مريئاً ... ثم قم صاغراً فغير كريم

لا اُحب النديم يومض بالعين ... إذا ما انتشى لعرس النيم والمروؤة مصدر المرء كالرجولة مصدر رجل، وقال الفراء: أنه سمع إعرابياً قيل له: فلان امرؤ سوءٍ فقال: وما رأيت من مروؤة سوئه؟ ولا فرق عندي بين أن يقال: في فلان مروؤة وبين أن يقال: فيه رجولة، أو فيه إنسانية، إلا أن المروؤة قد نقات عن أصلها الذي وضعت له إلى صفات خاصة. وقد أحكمنا أمره وضع الأسماء ونقلها في كتاب غير هذا. واختلف الناس بعد في المروؤة، وأحسن الأقوال فيها ما أخبرنا به عن أمير المؤمنين على - صلوات الله عليه - إنه قال: المروؤة موصوفة في كتاب الله عز وجل حيث يقول: (إنَّ اللهَ يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ، وإِيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاءِ والمنكرِ والبغي) وقال السمي القاضي: المروؤة أن لا تصنع شيئاً في السر تستحيي منه في العلانية. وقال الحسن بن سهل - وأحسن -: نعم العون على المروؤة احتشام العامة. والكلام في هذا طويل لا يقتضيه هذا الموضع. ويقال للرجل: مريء إذا كان ذا مروؤة، على وزن فعيل، كما يقال له: رجيل، إذا كان ذا رجولة، قال عبد الله بن غويث الفقيمي - من فقيم بن جرير بن دارم -: وقد علم الجاني الفقيمي أننا ... مصاليط حمالون عنه مثي الدم ولا يمنع الإصرام منا مروؤة ال ... مرئ ولا أكرومة المتكرم ومنه يقال: أمرؤ القيس، أي رجل القيس، والقيس الشدة، قال الشاعر - أنشدنيه أبو أسامة -: وأنت على الأعداء قيسٌ ونجدةٌ ... وللطارق العاني هشامٌ ونوفلُ النوفل: كثرة العطاء، والهشام نحوه، وما أعرف قائل البيت إلى اليوم، الذي

أعرفه أبيات لحريث بن عناب الطائي يقول فيها: إلى طلحة الفياض أعلمت نصها ... تخب برجلي تارة ثم ترقل إذا ما أتاه سائل عن جنابه ... يكون شفيعه هشام ونوفل في شعر طويل يمدح به طلحة بن عبد الله بن عوف وهو أبن أخي عبد الرحمن بن عوف، وقد استقصينا أنسابهم في مواضعها من كتابنا الكبير. وأخبروني بعض أهل البحث أنه وجد الفراء يقول في بعض كتبه: أن القيس الذهب، وأن امرأ القيس قيل له ذلك على معنى كالتفضيل له، والقيس مصدر قاس يقيس قيساً مثل القياس. وقال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري رحمه الله: فيه وجوهاً "؟ " ثلاثة غير هذه قال: القيس العرد وهو الذكر، والقيس الجوع، والقيس مثل الريس وهو التبخر. ومن الناس من يقول: أن امرأ القيس لقب، وأن اسم امرئ القيس بن حجر حندج، والحندج الرملة، 0000 قال غيلان: تبسسن عن غر كأن رضابها ... ندى الرمل مجته الذهاب القوالس على أقحوان في حناديج حرة ... يناصي حشاها عانك متكاوس ولا يبعد هذا عندي، لأنني أرى امرأ القيس اسماً مستعملاً عند أهل العرب للشريف والدنيء، وهو كعبد القيس، بل أكثر استعمالاً. وقال ثعلب: امرؤ القيس بمنزلة عبد الرحمن وعبد الله، ولو أحصينا كلَّ من اسمه امرؤ القيس لطال، وإنما غرضنا من قال الشعر فقط. والله الموفق.

فصل في نسب امرئ القيس بن حجر وهو المقدم على جميع المراقسة، وغيرهم من الشعراء. قال: اسمه حندج ولقبه امرؤ القيس، والصحيح عندي أن اسمه امرؤ القيس، وكنيته أبو الحارث في قول أبن دريد. وقال غيره " 0000 " وقال آخرون: أبو عمرو وقال آخرون: أبو بهشة باسم بنته. وقول أبن دريد اثبت الأقوال عندي. وكان يقال له ذو القروح وذو القرح، وفي ذلك يقول عيينة بن مرداس بن شميخ الكعبي كعب بن عمرو بن تميم: علا الشيب أخداني وخلَّى مكانه ... أبو طمحان وأبن أمِّ داود وذو القرح فاخترت القوافي وبعده ... تراث ثمود الأولين وعادِ أبو الطمحان القيني حنضلة بن الشرقي، وأبن أم داود: أبو داود الأياديُّ، حارثة أبن الحجاج الشاعرين المعروفين. وفي عقيل رجل يقال له ذو القرح، وهو كعب بن خفاجة، واسم خفاجة معاوية بن عمرو بن عقيل. وكان يدعى امرؤ القيس الملك الضِّلِّيل، وللبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب في ذلك قول مشهور، ولا نرى التثقيل بذكره. قالوا: وهو امرؤ القيس بن حجر الملك الذي قتلته بنو اسد ابن الحارث الملك، بن عمرو المقصور، الذي اقتصر به على ملك أبيه عن يعقوب بن السكيت وقال أحمد بن عبيد: إنما سمي المقصور لأنه قصر على ملك أبيه وجده، كأنه كرهه فملك شاء أو أبى ابن حجر الأكبر، وهو آكل المرار وفي تسميته بذلك أقوال: قال أبو نصر: إنما سمي آكل

المرار لأنه غضب غضبة فجعل يأكل المرار، وهو نبت شديد المرارة ولا يحس به من غضبه، وقيل: إنما سمي بذلك لكبره، والمتكبر كأنه مقلص الشفة. وقال أبن دريد إنما سمي بذلك لأنه كان أفوه، والبعير إذا اكل المرار تقلص مشفراه، فشبه به وهو لقبه، وقال أحمد بن عبيد وغيره: إنما سمي بذلك لأن ملكاً من ملوك اليمن أسر امرأته وقال قوم: بنته فقال لها: ما ظنك بحجر؟ فقالت: كأنك به وقد طلع عليك كأنه جمل آكل مرار. قال: والجمل إذا أكل المرار أزبدَ، وقيل: بل أرادت كشره عن أسنانه. وهو حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية والنسابون يسمونه بكندي الأصغر بن ثور بن مرتع وسمي مرتعاً لأنه كان يأتيه الرجل يسأله أن يقطع له من أرضه قطيعة ليرتع فيها سائمته من أبله وغنمه فيرتعه واسمه عمرو بن معاوية بن كندي وهو كندة وهما اسمان له، قالوا: لأنه كند أباه أي عقه وكفره وقال: بل كنَّد على أخيه فقتله واصل الكند القطع، وقال الله عز وجل: (إن الإنسان لربه لكنود) أي قطوع لما بينه وبينه بالكفر. نعوذ بالله من سخطه، ومن حرمان توفيقه، ومع هذا التأويل فالله أعلم بكتابه. وقال الأعشي الكبير: احدث لها تحدث لوصلك إنها ... كند لوصل الزائر المعتاد أي قطاعة وقال أيضاً: اميطي تميطي بطب الفؤاد ... وصول حبالٍ وكنَّادها أي قطاعها وقال أيضاً: ولكن لا يصيد إذا رماها ... ولا تصتاد عاتية كنود

أي قطوع للوصل. وقال سوار بن قطن الهميمي بن هميم بن عبد العزي بن يقدم بن عنترة بن ربيعة ويقال: إن هميم من قسرٍ من بجيلة، ورأيت أبن الكلبي يثبت ذلك والأول اشهر: سأل حنيفة يوم وقعتنا ... بنحاة إذ جاروا عن القصد وتيمَّموا بأمر يمامتهم ... وتكندوا غدرا على عمد تكندوا: أي أبطنوا الغدر والكفر وقد سميت العرب بكندي غير هذا، وفي طيء فارس جليل، يقال له كندي بن حارثة بن لام بن عمرو بن طريف بن عمرو بن ثمامة بن مالك بن جدعا مقصور مثل سكرى، واسم جدعا لوذان بن ذهل بن رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن قطرة بن طيء، وفي طيء أيضاً كندة بن الضحاك بن هذيم بن خبأ بن الصهو بن باعث بن خويص وباعث هو الذي أغار على إبل امرئ القيس، وسيرد خبره ونسبه إن شاء الله. وأسم كندة ثور بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن ادد، وأم مرة مدلة بنت ذي منجشان بن كلَّة بن ردمان بن حمير كذا قال الكلبي وغيره، وما يحضرني صلة نسبها، والذي اذكره أن في حمير ردمان بن وائل بن رعين بن زيد بن شهل وكنت رأيته بخط شبل بن بكير النسابة في عدة مواضع، شهل معجمةً ثلاثاً من فوق، ولا أدري ما صحة ذلك. وكان أدد تزوج بها فولدت له مرة هذا ونبتاً وهو الأشعر وتزوج بعدها أختها دلة بنت ذي منجشان فولدت جلهمة ين أدد، وهو طيء، ومالك بن أدد. ودلة هذه هي التي يقال لها مذحج، باسم اكمة ولدت ابنيها عليها، وقال أبن الأعرابي في ذلك قولاً اعجب إلي من هذا القول، وذاك أنه قال: اذحجت على ولدها فسميت بمذحج لذلك، واذحجت: لزمت عند ابن الأعرابي، وغيره من اللغويين يقول: ذحجته الريح إذا جرته

من موضع إلى موضع، والذحج عندهم مثل السحج. وأدد هو أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبا وأسمه عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان. قال هشام الكلبي: ذكر بعض النساب أن كندة بن ثور بن عفير بن معاوية بن حيدة بن معد بن عدنان، ويحتجون بقول امرئ القيس: تالله لا يذهب شيخي باطلاً ... خير معدُّ حسباً ونائلاً ومن غير هذه الرواية: يا خير شيخٍ حسباً ونائلاً وقال آخرون أن كندة من ولد عامر بن ربيعة بن نزار بن معد، قالوا: ولذلك كانت محلة كندة وربيعة ودارهما في الجاهلية الجهلاء واحدة، ومناخهم في المواسم معاً، وكانوا متحالفين، متعاقدين، ومما يحقق هذا عندهم قول أبى طالب بن عبد المطلب: 00 - 00 إذ ترمي 0000 عشيها ... يجوزها حجاج بكر بن وائلِ حليفان شداً عقد ما اختلفا له ... وردا عليه عاطفات الوسائلِ قالوا: يعني بعاطفات الوسائل هاهنا الأرحام، والله اعلم بالصحيح، وأم امرئ القيس في قول الحذاق من رواة الشعر فاطمة بنت ربيعة، أخت مهلهل بن ربيعة. فأما النسابون فقالوا: أمه قتيلة بنت يزيد بن امرئ القيس بن عمرو بن حجر الأكبر والله أعلم.

فصل: يتعلق بهذا الفصل المفرد لذكر نسب امرئ القيس: ذكرنا عند ذكر ذي القرح لقب امرئ القيس عيينة بن مرداس الذي يقول فيه: وذي القرح فاخترت القوافي بعده ... تراث ثمود الأولين وعاد وعلمنا أن قارئ الكتاب ستتطلع نفسه إلى الوقوف على مقدار هذا الشاعر من الشعر لسعة دعواه، وتجاوزه مداه فأوردنا أبياتاً من شعره ليستدل بها على قدره، وبالله التوفيق. قال عيينة بن مرداس بن شنيخ الكعبي كعب بن عمرو بن تميم ويقال له أبن فسوة وإنما قيل له ذلك لأنه كان في قومه رجل آخر يقال له أبن فسوة فأتى عيينة فباعه اللقب فاشتراه منه فلصق به وقال ذلك الرجل: حول مولانا عليه اسم أمنا ... ألا رب مولى ناقص غير زائد أعاذل إن اهلك فلم اقض لذة ... من الدين والإسلام والمرء تالف من البيض أجياداً كأن خدودها ... دنانير يجلوها لتنفق شائف وأنّا لقوامون وسط رحالنا ... إلى الصف قارٍ في الإناء ولاحف ولا ننكر الأضياف إن ينزلوا بنا ... وكل كريم للنزالة عارف ومن قوله يهجوا بني سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، وكان نزل عليهم بأرضهم وهي زمُّ فلم يحمدهم: إذا ما لقيت الحيَّ سعد بن مالك ... على زمَّ فأرحل خائفاً أو تقدم أناس أجارونا فكان جوارهم ... شعاعاً كلحم الجازر المتقسم

ومن قوله: نحن إلى برق بنعمان بعد ما ... مضت أربع يعددن من أول الشهر فحنت حنيناً مثله هيج الذي ... به الشوق مشغوف الفؤاد وما يدري ومن قوله وكان هجاءً خبيثاً يذم عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بقصيدة أولها: ذكرت لبرق آخر الليل ضوءه ... يضيء حبيَّ المنجد المتغوِّر يسور ويرقى في رواءٍ غمامه ... ركام تصداه الجنوب وتمتري إذا سنحت نجدية برحت لها ... صباً فأدرَّت ودق اوطف ممطر ثم قال: أتيت أبن عباس أرجِّى حباءه ... فلم يرج معروفي، ولم يخش منكر وقال لبوابيه: لا تدخلنَّه ... وسدُّوا خصاص الباب من كل منظر وتسمع أصوات الخصوم وراءه ... كصوت الحمام في القليب المغور ولو كنت من زهران لم تقص حاجتي ... ولكنني مولى جميل بن معمر أتيح لعبد الله يوم لقيته ... شميلة ترمى بالحديث المفتر وما أنا إذ زاحمت مصراع بابه ... بذي ضولة فانٍ ولا بحزور فليت قلوصي عربت أو رحلتها ... إلى حسن في داره وأبن جعفر إلى معشر لا يخصفون نعالهم ... ولا يلبسون السِّبت ما لم يخصَّر وما زلت في التَّسيار حتى أنختها ... إلى أبن رسول الأمة المتخير وقامت تصدى في العقال فواجهت ... بي الصبح وردا كالرداء المحبَّر فما قمت حتى راعني ثوباؤها ... وصوت مناد بالصلاة مكبِّر

زهران بن كعب بن الحارث بن عبد الله بن نصر بن الأزد. وكان أبن عباس تزوج شميلة بنت أبي حناءة بن أبي ازيهر حليف قريش بن أنيس بن الخيسق بن مالك بن كعب بن سعد بن كعب بن الغطريف الأصغر وهو الحارث بن عبد الله بن عامر وهو الغطريف بن بكر بن يشكر بن مبشر بن صعب بن دهمان بن نصر بن زهران، وكان أعداد أبي ازيهر في دوس، فكان يقال له الدوسي، فكانت شميلة هذه عند مجاشع بن مسعود السلمي من بني سمَّال بن عوف.

" 0000000000000000 " " 0000000000000 " ويقال له محرق لأنه حرق بني تميم. ينسب إلى هند، عمه امرئ القيس، وهي هند بنت الحارث بن عمرو بن الحارث الملك بن عمرو بن حجر الأكبر. وهو عمرو بن المنذر ذي القرنين المعزو إلى أمه ماء السماء، وهو المنذر بن امرئ القيس وأبوه امرؤ القيس يقال له محرق، وهو أول من عذب بالنار في قول الكلبي وامرؤ القيس بن النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس بن عمرو، وهو الذي يقال له: كبر عمرو عن الطوق هذا أول من تنصر من ملوك آل نصر في قول محمد بن جرير بن عدي بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن مسعود بن مالك بن عمم بن تمارة بن لخم واسمه مالك بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد. وعمرو بن هند هو عم أبي قابوس النعمان بن المنذر، لأن هنداً ولدت للمنذر ابن امرئ القيس عمراً أبا المنذر ووالد النعمان. وقد قيل: انهم من ولد قنص بن معد، وكان هاشمينا الحلبي النسابة يقول: عمرو بن قنص بن معد. والحكاية عن جبير لعمر في ذلك معروفة، لم نر الإطالة بها. وكان محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي يقول: قنص بضم القاف والنون. وكان السبب في نكاح المنذر ذي القرنين هند بنت الحارث أن قباذ لما ملك وهو قباذ

بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور بن يزدجرد الأثيم بن نيسابور ذي الأكتاف بن هرمس بن نرسي بن بهرام الأوسط بن بهرام الأكبر بن هرمز البطل بن سابور الجند بن أردشير بابكان سمي بذلك لكثرة من يسمي في عصره بابك، واردشير بابكان هو أردشير بن بابك بن ساسان بن بهمن " الملك الأعظم " بن اسفيدياذ وقال محمد بن جرير: اسفنديار وهو الملقب بالشديد بن بشتاشيب ويقال: استاسف، وعلى زمانه ظهر زردشت الذي تزعم المجوس أنه نبيًّ، وروى المؤرخون أنه كان أثيراً عند بعض تلاميذ أرميا النبيّ عليه السلام فكذب عليه وخافه فدعا عليه فبرص، ولحق ببلاد أذربيجان، فشرع بها دين المجوسية، وتبعه قوم كثير ممن هناك، وقال لي أبي عن أبيه أنه زردشت بن بورشسم، وأن ماني الذي ينسب إليه المانوية هو ماني بن فتق، ويشتاشب هو ابن لهراسب بن قيوجي بن كيمش بن كيباشين بن كيانية وقيل: كينة بن كيقباذ بن زاب، وقيل زاع بن توذكاب بن ماني شوى بن توذر بن منوشهر بن منشحورجر وقيل: منشحوريز بن تبرك بن نبروسنج بن بابريح، بن ثرت بن فزرش بن زش بن فركون بن كرزك أو كوزك بن جوزك بن ايرح بن أفريذون بن أثفيان بن جم شيد بن ويجهان بن إيشتجهذ بن أوشهنج بن فرواك بن سامك بن نرسي بن جيومرث ويفسر ذلك حيٍّ ناطق ميت، فالحي " جي " والناطق " يو " والميت " مرث " وقد يسمى كلشاة، وتفسير ذلك فيما قيل: ملك الطين. وإلى جيممرث يرجع نسب الفرس كله، والفرس تزعم أنه آدم أبو البشر عليه السلام ونسابُ العرب يزعمون أنه حامر بن يافث بن نوح عليه السلام. وحامر غير مذكور في التوراة، والذي خبرني به أهل العلم بها أنها دلت على أن الفرس من ولد يافث محماً وأن في أولاد يافث ولد اسمه ثيراس، يقول المفسرون أنه الفرس، وأن الفرس ولده، ولعله حامر بالعربية أو بلغة أخرى. فأما هشام بن محمد فقال: ولد فارسور بن سام بن نوح عليه السلام بيرس به سميت فارس. وقال آخرون: الفرس ولد فارص بن يهوذا بن يعقوب عليه السلام فأما جرير بن عطية فإنه نسب الفرس والروم إلى إسحاق فقال:

وأبناء إسحاق الليوث إذا ارتدوا ... محامل موت لابسين السنورا إذا أفتخروا عدواً الصهبذ منهم وكسرى وآل الهرمزان وقيصرا والله أعلم بالصحيح. فكان قباذ لما ملك ضعيفاً فوثبت ربيعة على عامله بالحيرة، وهو النعمان بن الأسود بن المنذر بن النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس بن عمرو بن عديّ، فخرج منهم هارباً حتى نزل بأياد، فمات فيهم، وكان معه المنذر بن ماء السماء، وهو أقرب منه في قُعدُدِ النسب، وسنذكر نسب أمه وخبرها بعد هذا الفصل إن شاء الله وكان مع المنذر بن ماء السماء ابنه عمرو بن هند. وانطلقت ربيعة إلى كندة وكان الناس في الأول يقولون: إن كندة من ربيعة على ما قدمنا ذكره فجاءوا بالحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار فملكوه على بكر بن وائل، وحشدوا له، وقاتلوا معه، فظهر على ما كانت العرب تسكن من أرض العراق، وأبى قباذ لضعفه أن يمد المنذر بجيش فكتب إلى الحارث بن عمرو إنني في غير قومي، وأنت أحق من كنفي فحوله إليه، وزوجه ابنته هند بنت الحارث فولدت له عمراً المذكور، ومنذراً في قول هانئ بن المنذر البهيلي النسابة وقابوساً في قول غيره. فلما هلك قباذ وملك ابنه كسرى وهو أنو شروان ملك المنذر بن ماء السماء على الحيرة، فأساء مكافأة بني آكل المرار، وطلبهم وسفك دماءهم، وجرى من ذلك ما ذكرناه في موضعه. والمنذر بن ماء السماء هو الذي قتله الحارث بن أبي شمر الغساني، وجرى من أولاد الحارث أعمام امرئ القيس ما سنذكره في موضعه إن شاء الله. وملكت بنو أسد عليها حجر بن الحارث بن عمرو، وقيل: إن أباه كان ملكه عليها وهو أشبه، وتمليك ربيعة للحارث بن عمرو عليها قول خراش بن إسماعيل العجلي، وغيره يقول: إن قباذ هو الذي ملك الحارث بن عمرو على العرب، وليس ذلك بثبت.

§1/1