أدب الخلاف - ياسر برهامي

ياسر برهامي

أدب الخلاف [1]

أدب الخلاف [1] إن الاختلاف سنة كونية قدرية كتبها الله على عباده، والاختلاف منه المحمود الذي يندرج تحت اختلاف التنوع، ومنه المذموم الذي يندرج تحت اختلاف التضاد، وعلى المسلم في العموم نبذ الخلاف، والأخذ بأسباب الاجتماع على الوحي المنزل من عند الله، مع الاجتهاد في محاربة البدع والمحدثات.

الخلافات بين الجماعات الإسلامية وكيفية علاجها

الخلافات بين الجماعات الإسلامية وكيفية علاجها الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن من أهم ما يواجه الصحوة الإسلامية المعاصرة من العقبات والعوائق: الاختلاف بين الاتجاهات الإسلامية المتعددة، ولا شك أن هناك عقبات كثيرة يضعها أعداء الإسلام أمام العمل من أجل إعلاء كلمة الله، وتمكين دين الله عز وجل، ولكن هذه العقبات التي يصنعها الأعداء من الكفار والمنافقين أمرها هين ويسير، كما بين ذلك الله عز وجل بقوله: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:120]. فمع التقوى والصبر واليقين بوعد الله عز وجل يضمحل كيد المجرمين الأعداء، هذا إذا عمل المؤمنون على الطريقة والصراط المستقيم، وفعلوا كل ما يمكنهم متوكلين على الله سبحانه وتعالى، لكن المشكلة الحقيقية هي فيما يكون داخل العمل الإسلامي نفسه من العقبات الداخلية التي هي من صنع أبناء الصحوة. ولا شك أن من أكبر المشاكل والعقبات قضية الاختلاف الكبير في فهم الإسلام وتطبيقه، وفي وسائل الدعوة إلى الله، ومناهجها وأهدافها وأولويات العمل الإسلامي. كان الاختلاف وما زال يصرف كثيراً من عوام المسلمين عن الالتزام بالدين، ويصرفهم عن جميع اتجاهات العمل الإسلامي، وما زال هذا مرضاً مؤثراً لدى الكثيرين، فعندما تسأله: لماذا لا تلتزم؟ يقول: إذا اتفقتم اتبعناكم، وهذا مبرر شيطاني -بلا شك- لدى الشخص غير الملتزم؛ لأن وجود الاختلاف ليس بمبرر لترك الالتزام، كما أن وجود الطعام المسموم لا يعني أن يصوم الإنسان عن سائر الطعام ويمتنع عنه حتى يهلك. وازداد الأمر سوءاً بحدوث المعارك الكلامية، والاشتباك بالأبدان أحياناً، بل وبالسلاح في أماكن متفرقة من العالم، وسفكت الدماء المحرمة بسبب وجود هذه الاختلافات، وهذا أتاح الفرصة لأعداء الإسلام من الكفار والمنافقين لاستغلال هذا التطاحن. وكما يقال: تمكنوا من اللعب على وتر التناقض بين الاتجاهات الإسلامية المختلفة لإضعاف الجميع، وكان لهم -للأسف- ما أرادوه، أو كثير مما أرادوه في معظم البلدان الإسلامية التي ظهرت فيها الصحوة الإسلامية، نسأل الله عز وجل أن يبارك فيها وفي أبنائها، وأن يهديهم سواء السبيل. واندفعت أكثر الاتجاهات الإسلامية في طريقها الذي تراه ملقية باللوم على من خالفها، ومتهمة لهم بالتقصير والفشل، وزادت نبرة الحديث بين الإسلاميين حدة، واشتعلت عباراتهم ومجادلتهم بعبارات نارية وقذائف ملتهبة؛ مما دفع البعض -في محاولة علاج هذه المسألة- إلى نبذ العمل الإسلامي الجماعي جملة، وقالوا: إن سبب هذه الاختلافات والمشاكسات والمحاورات هي وجود الجماعات الإسلامية، والحل هو: نبذ الجماعات الإسلامية بالكلية، وأن يكون الناس آحاداً كل منهم لا دخل له بالآخر، ولا يتجمع الناس حول عمل أو اسم أو قيام بأمر من أمور الدين، ورأوا أن العمل الجماعي بدعة، فصار الاختلاف بين الاتجاهات الإسلامية من أعظم ما يلبس به على الناس في قضية العمل الجماعي. والبعض يتأول حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ حذيفة عندما سأله قال: (فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة فتموت وأنت عاض عليها)، متفق على صحته. مع أن تفسيره الذي لا إشكال فيه: أنه منزل على أهل البدع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في الشر بعد الخير الذي فيه دخن: (دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قال: يا رسول الله! صفهم لنا؟ قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان بشر، قال: فما تأمرني؟ قال: الزم جماعة المسلمين وإمامهم، قال: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام، قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة فتموت وأنت عاض عليها). فالكلام واضح وجلي في أنه يشير بقوله: (تلك): إلى الفرق الداعية إلى أبواب جهنم، وهم يتمثلون في واقعنا المعاصر في المنافقين الذين يصدون عن سبيل الله، كالعلمانيين والقوميين والحزبيين، وأهل البدع كالخوارج والصوفية والشيعة ونحوهم ممن يناصر البدعة ويحارب السنة، فهم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، وأكثرهم من المنافقين الزنادقة الملحدين الذين يريدون هدم الدين، والبعض منهم مغرر به لكنهم في الجملة يدعون إلى النار والعياذ بالله. فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر باعتزال تلك الفرق، ولم يأمر باعتزال أهل العلم وأهل السنة، ولم يأمر بأن يبقى أهل السنة أوزاعاً متفرقين، ولم يأمر بأن يتركوا الاجتماع والتعاون على طاعة الله التي لا تتم إلا بالتعاون وإقامة واجبات الدين، وخصوصاً فروض الكفاية التي افترضها الله عز وجل على أمة الإسلام ككل. وحمل الحديث على هذا يحمله ما لا يحتمل، وإن كان هذا في الحقيقة غرض خبيث من أغراض أعداء الدين، إلا أنه صار يردده الآن أناس ينتسبون إلى الالتزام والدعوة، بل إلى المنهج السلفي خصوصاً. وهذا لم يغير من واقع الاختلافات شيئاً، بل زادت الاختلافات حدة حول هذه المسألة وغيرها من المسائل المنهجية، وأصبحت قضية معالجة الاختلاف وقضية العمل الجماعي إضافة إلى كم المسائل المختلف فيها بين الإسلاميين. وتوقف العمل الإسلامي في كثير من المواطن والبلاد بسبب عدم حسم مسألة العمل الجماعي، أو بسبب الاقتناع بعدم مشروعيته وبدعيته، وبعدم مشروعية الاجتماع على الطاعات، فتعطلت تلك الطاعات التي لا يطيق الأفراد القيام بها، والتي لا يمكن إقامتها ولا إتمامها إلا بالاجتماع في عمل واحد، وفهم واحد، وقيادة واحدة. وفي ظل وجود هذا الفريق الذي رأى أن المشكلة يكمن علاجها في توقف اجتماع المسلمين من أجل إقامة الواجبات في جماعات مختلفة أو متفقة، وجد فريق آخر على النقيض منه يرى أن كل خلاف بين الفرق والمناهج والجماعات قديماً وحديثاً خلاف سهل يسير لا يضر. ويتبنى هذا الرأي مفكرون كثيرون ودعاة وجماعات إسلامية كلها بالفعل تتبنى التهوين من شأن الخلاف أياً كان نوعه، وجعل هذا الفريق غايته وهدفه أن يجتمع كل من انتسب إلى الإسلام سنيهم وبدعيهم في إطار شعار واحد، ومنهج فضفاض واسع يتسع للمتناقضات في فهم الإسلام، والعمل به في إطار قاعدة سماها ذهبية، وهي: أن نجتمع فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضناً بعضا فيما اختلفنا فيه. ونسي في غمرة حماسته الموقف الواجب -الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة- من أهل البدع وأهل الفرق النارية التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها في النار، حتى ظن البعض إمكانية التقارب بين أهل السنة وبين شر أهل البدع كالرافضة أو غلاة الصوفية، وهذا الأمر نلمسه تاريخياً وواقعياً فالأستاذ حسن البنا رحمه الله هو الذي أظهر هذه القاعدة التي سميت بالقاعدة الذهبية، وما زال هناك من يتكلم بها، وكمثال لذلك: يذكر الأستاذ عمر التلمساني أنه في الأربعينات حضر أحد رءوس الشيعة لزيارة مركز العمل للإخوان فسئل الأستاذ البنا عن الفرق بين السنة وبين الشيعة؛ إذ أنهم لا يعرفون الفرق، فغضب الأستاذ: حسن البنا رحمه الله وقال: كتابنا واحد، ورسولنا واحد، وقبلتنا واحدة، ثم لما كرروا عليه السؤال قائلين: نحن نريد أن نعرف فقط الفرق، فشدد عليهم بنفس العبارة، ومن يتأمل الأصول العشرون التي تمثل لهذا الاتجاه يلحظ أن عباراتها صيغت بطريقة فضفاضة واسعة في معظم ما يتعلق بمسائل الخلاف بين الاتجاهات الإسلامية. ومن ضمن هذه المسائل مسألة الصوفية، فصيغت عبارة: نحن دعوة سلفية وحقيقة صوفية، وبالنسبة لمسائل التوسل، فهي خلاف فرعي في كيفية الدعاء، وبالنسبة لمسائل البدع الإضافية فهي محل اجتهاد، يتسع فيها الأمر، أما بالنسبة لمسألة الصحابة والإمامة فهي مسألة الفرق فيها ظاهر جداً بين السنة والشيعة، فقالوا: نمسك عما شجر من خلاف. وهذه العبارة غير واضحة الدلالة على الخلاف الذي نمسك عنه، هل يقصد به أن نمسك عن الخلاف بين السنة والشيعة، ويدخل كل منا على الآخر ويتواد معه، ونلغي الخلاف في هذه المسألة؟ أم يقصد بذلك ما شجر من خلاف بين الصحابة بعد مقتل عثمان رضي الله تعالى عنه، وما جرى من وقائع بعد ذلك، مع تقديم أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي في الخلافة والفضل؟ وهذا المنهج ما زال موجوداً ومؤثراً في فهم قطاع عريض جداً من الملتزمين بالعمل الإسلامي. بل وصل بهم الأمر إلى التقارب مع أهل البدع المعاصرة كالعلمانيين مثلاً. فالاتجاهات العقلانية المسماة أحياناً -إذا كانت تقبل الإسلام كاسم ولا ترده صراحة-: بأصحاب الاتجاه الإسلامي المستنير، وهو اتجاه عقلاني محض يقدم العقل على النقل، ويرجح منهج الاعتزال، وربما وصل الأمر إلى مسائل أخطر من ذلك متعلقة بأمر الاعتقاد وتطبيق الشرع والالتزام به. ويمكننا أن نمثل لهذا برجل مثل الأستاذ: فهمي هويدي ككاتب إسلامي كبير يقول مثلاً: إن العلمانية منقسمة إلى نوعين: علمانية متطرفة، وعلمانية غير متطرفة، فالعلمانية المتطرفة كالتي في تركيا، والعلمانية غير المتطرفة هي التي تقبل الحوار مع الإسلاميين، فهذه لا بأس من التقارب معها، والوصول إلى حل وسط، والتقارب مع القوميين منهم، ورغم التأكد من علمانيتهم وفصلهم للدين عن الدولة تواصلت الدعاوى إلى أنه ينبغي التقارب معهم وعدم إحداث أي فرقة مع هذا الاتجاه، وهكذا الحال مع الديمقراطيين والحزبيين، وإن لم يحض أبناء الصحوة الإسلامية بنفس هذه الروح من التسامح والتقارب، بل الشدة والغلظة كانت نصيبهم من هذه القاعدة التي سميت: ذهبية. وهناك أمثلة أخرى داخل الاتجاه السلفي في الجملة -وإن لم تكن

الاختلاف القدري بين البشر

الاختلاف القدري بين البشر سنتحدث أولاً حول وقوع الاختلاف، وكونه أمراً قدرياً كونياً قدر الله وجوده، وقد دلت الأدلة القاطعة من الكتاب والسنة على وجود الاختلاف بين بني البشر، وأن الله قدر ذلك عليهم، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس:19]، فبين الله سبحانه أن كلمته السابقة وقضاءه الأول في تأجيل الخلق إلى أجل معدود لا يقضى بينهم قبله في اختلافاتهم. معناه: أن الاختلافات سوف تظل لا يقضى فيها إلى الأجل: ((وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)). إذاً: القضاء في الاختلافات كلها إنما يتم يوم القيامة، والفصل الكامل إنما يكون يوم القيامة، وسيظل الاختلاف موجوداً قدراً. وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:118 - 119] في تفسير قوله: (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) ثلاثة أقوال لأهل العلم: الأول: أنه للاختلاف خلقهم، وهذا قول الحسن في رواية، وأيضاً رواية عن ابن عباس رضي الله عنه، وقوله: (ولذلك) الإشارة فيها إلى الاختلاف المذكور في قوله: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119]. القول الثاني: أن: (لذلك خلقهم)، تعود على الرحمة، في قوله: (إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم)، روى ابن وهب عن طاوس: أن رجلين اختصما إليه فأكثرا، فقال طاوس: اختلفتما وأكثرتما، فقال أحد الرجلين: لذلك خلقنا، فقال طاوس: كذبت، فقال: أليس الله يقول: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119]؟ قال: لم يخلقهم ليختلفوا ولكن خلقهم للجماعة والرحمة، وفي الرواية الأخرى عن ابن عباس ذكر هذا القول أيضاً، قال: للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب. والمتأمل لهذا الأثر يجد فيه بياناً واضحاً لما أراد طاوس أن يقوله لهذا الرجل الذي قال: لذلك خلقنا، كأنه تصور أن الخلاف مطلوب شرعاً، ولذلك هو يماري ويجادل ويكثر، ويرى أن الخلاف أمر مطلوب شرعاً، فكذبه طاوس بذلك، فلما احتج عليه بالآية، بين له أن الأمر الشرعي الذي من أجله خلقوا هو الاجتماع والرحمة والعبادة لله عز وجل والطاعة، ولم يشرع الله لهم الاختلاف، فالرجل كان يرى شرعية الاختلاف، وليس أنه أمر قدري كوني فقط، فرد عليه طاوس ذلك. القول الثالث: وهذا القول هو الذي جمع بين القولين السابقين، حيث أن كل قول نظر من وجهة معينة، وليس بينهما تناقض بل هو تفسير تنوع واختلاف تنوع، قال أصحاب هذا القول: المراد للرحمة والاختلاف خلقهم، قال الحسن: الناس مختلفون على أديان شتى إلا من رحم ربك؛ فمن رحم ربك غير مختلف، فقيل له: (لذلك خلقهم) قال: خلق هؤلاء لجنته، وخلق هؤلاء لناره خلق هؤلاء لعذابه وخلق هؤلاء لرحمته. وكذا قال عطاء والأعمش ومالك واختاره ابن جرير، والحق أنه لا تعارض بين هذه الأقوال، فمن قال: للاختلاف خلقهم. فهو يعني أن هذه هي الحكمة القدرية الكونية الواقعة وإن لم تكن محبوبة لله عز وجل، فاللام لام التعليل لبيان الحكمة الكونية، ومن قال: إنه للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب. فهو يعني الأمر الشرعي الذي أمروا به، كما أنكر طاوس على ذلك الرجل الذي أراد تقرير مشروعية الاختلاف محتجاً بالآية، فقال له: كذبت. فليس هذا الاختلاف بمراد شرعاً، فيكون اسم الإشارة (ذلك) راجعاً إلى الرحمة، واللام لبيان الحكمة الشرعية، مثل قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، أي: ليأمرهم بعبادته أمراً شرعياً، فالله أمر العباد بالاجتماع والرحمة التي هي ثمرة من ثمرات الاجتماع على طاعة الله وعلى دين الله، وليس الاختلاف أمراً مشروعاً، فالقول الثالث جمع بين القولين، فأهل طاعة الله المنفذون لأمر الله الشرعي هم أهل رحمته سبحانه، وأما أهل الاختلاف المفارقون للحق الذي شرعه الله لهم فهم لم يخرجوا عن قضائه وكونه وحكمته القدرية، وقدر الله وجودهم لكي يفترقوا ويختلفوا، ويملأ الله بهم جهنم عدلاً منه وحكمة، ولذا قال: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119]، فهؤلاء المخالفون للحق تملأ بهم جهنم حكمة من الله سبحانه وتعالى. وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253]. فبين سبحانه أن اختلافهم بمشيئته، وإن كان المختلفون منهم المؤمن المحبوب، ومنهم الكافر الذي يبغضه الله عز وجل؛ لأن حب الله وبغضه سبحانه تابع لإرادته الشرعية وأوامره على ألسنة رسله، يعني: من آمن وعمل بما شرع الله من الصالحات فهو محبوب عند الله، ومن كفر -وإن كان بمشيئة الله- فهو مبغوض عند الله سبحانه وتعالى. ومن الأدلة على ذلك: قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [الشورى:14]. فهذه الآية الكريمة تبين سبب الخلاف المذموم الذي ذم الله عليه أهل الكتاب رغم وجود العلم وهو البغي -وسوف يأتي بيانه أكثر إن شاء الله في أسباب الاختلاف المذموم- لكنه لسبق الكلمة من الله أن يظل الاختلاف، وأن يقع قدر الله فلا يفصل في الأمر ويظل الناس مختلفين. وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [هود:110]، فبين عز وجل أن الاختلاف قديم، وقد افترقت اليهود، ولولا الكلمة السابقة من الله لقضي بينهم، (وإنهم) أي: الذين أورثوا الكتاب من بعدهم (لفي شك منه) من الكتاب (مريب) بسبب اختلافهم في نصوصه وفي فهمه، وهذا بالنسبة لمن سبقنا، أما في أهل الإسلام فالنصوص متفق عليها، والخلاف لا يكون إلا في الفهم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن النصارى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهم الجماعة)، وفي رواية الحاكم في مستدركه: (ما أنا عليه وأصحابي)، حديث حسن. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)، إذاً: هذا أمر قدري كوني أنه سيقع الاختلاف وتفترق الأمة. قال عليه الصلاة والسلام: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة) صححه الترمذي وغيره. فدلت هذه الأدلة على أن الاختلاف بين الناس واقع لا محالة، وقضاء الله فيه نافذ لسبق الكلمة منه سبحانه بتأجيل الفصل والقضاء بين الناس فيه إلى أجل مسمى، ولكن هل يعني ذلك أن نستسلم لهذا القدر ونقول: لا فائدة من الحرص على الاجتماع والتآلف، والبعد عن أسباب الاختلاف؟ هذا الأمر مبني على فهم قضية العلاقة بين الأمور الشرعية والأمور القدرية، فالقول بأنه علينا أن نستسلم لهذا القدر، وأنه مهما حاولنا الاجتماع وترك الاختلاف فلا فائدة، وأن السعي لإزالة الاختلاف مصادمة للمقادير، فهذا الفهم من أخطر المسالك وأبعدها عن الشرع الحنيف. نعم، هذا الاختلاف من قدر الله الذي أمرنا الله شرعاً أن نفر منه إلى قدر الله المتمثل في الائتلاف والاجتماع، فنحن مأمورون بأن نفر إلى قدر آخر سيقع، ولكن ربما ضيق أو حصر، فبدلاً من أن يكون الاختلاف المذموم، وأن تكون الفرق المخالفة هي الغالبة المنتشرة القوية، نريد أن يتحجم هذا الخلاف؛ لتكون الفرق النارية أقل عدداً، وأضعف تأثيراً وسلطاناً؛ لذلك فالواجب أن ندفع القدر بالقدر، وننازع القدر المكروه بالقدر المحبوب، كما قال عمر: (نفر من قدر الله إلى قدر الله)، وهذا كان في أمر الطاعون الذي تفشى في عهده. فالواجب اتباع الشرع والإيمان بالقدر لا الاحتجاج بالقدر وترك الشرع، فنحن لا ندري ما الذي سبق به القضاء في حقنا، فإن الله سبحانه فاوت بين الناس في الأزمنة والأمكنة، فقد يكون في زمن ما في مكان ما أكثرهم أو كلهم على الحق، كزمن الصحابة رضي الله عنهم. وقد يأتي عليهم أزمنة الفتنة فيها ظاهرة، فيقع أكثرهم في الاختلاف المهلك، ويكون أهل السنة قلة ومنحصرين ومغلوبين في السلطان، وإن كانوا غالبين في الحجة، فنحن لا ندري ما سبق به القضاء في حقنا، لكننا مأمورون شرعاً بنبذ الاختلاف، والسعي إلى الاجتماع والائتلاف، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، وقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105]. نلحظ في الآية الأو

الحرص على الاجتماع والدعوة إليه

الحرص على الاجتماع والدعوة إليه من القواعد الكلية المتفق عليها بين أهل السنة: الحرص على الألفة والاجتماع، والنهي عن التفرق والاختلاف، ولذا سمي أهل السنة بالجماعة؛ لأنهم يأمرون بالاجتماع على ما كانت عليه الجماعة الأولى، وهي جماعة الصحابة رضي الله عنهم ومن كان بعدهم على ما كانوا عليه. فالواجب الشرعي أن نسعى إلى التوحد والاجتماع على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بفهم وتطبيق الخلفاء الراشدين، وهذا هو المستفاد من قوله: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ). إذاً: سنته صلى الله عليه وسلم لابد أن تطبق بطريقة معينة، وكذا القرآن لا بد أن يطبق بفهم معين وطريقة معينة، وهو ما سنه الخلفاء الراشدون، فإنهم لم يسنوا بدعاً، ولم يسنوا رأياً لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما فهموا الكتاب والسنة الفهم الصحيح، فكان تطبيقهم وفهمهم ملزماً لمن أتى بعدهم. فالواجب الشرعي أن نسعى للتوحد والاجتماع على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بفهم وتطبيق الخلفاء الراشدين ومن معهم من الصحابة رضي الله عنهم، وأن نحارب البدع والأهواء المفرقة للأمة، كما قال: (وإياكم ومحدثات الأمور). نحاربها حتى يقل أنصارها وأتباعها أو ينعدموا في مكاننا، فوجود الفرق الضالة لا يعني بالضرورة وجودها في كل زمان ومكان، ولا يلزم أن يكون أتباعها هم الأكثر، وقد اعترض البعض على متن حديث افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، ومنهم الإمام الشوكاني حيث رد هذا الحديث، وقال: هذا الحديث منكر المتن، لأن معناه: أن أكثر الأمة في النار، وهذا ينفر عن الإسلام. وكلامه غير صحيح. وقال البعض: إنه يقتضي أن تكون هذه الأمة وهي خير أمة أخرجت للناس أكثرها من أهل النار، وهذا باطل بلا شك، فلا يلزم من تعدد الفرق أن يكون أتباعها أكثر الأمة، بل بحمد الله أكثر الأمة على الخير والإيمان والتوحيد في جملة العصور، وكون الفساد ينتشر في زمن ما أو في بلد ما لا يعني أن هذا هو الأصل، لذلك نقول: إن كثرة عدد الفرق النارية لا يلزم منه كثرة الأتباع، فمن الممكن أن يكثروا في زمن معين كما حدث في زمن دولة بني عبيد الذين يسمون الفاطميين، أو الخوارج ربما يكثروا في وقت معين، ولكن لا يلزم أن يكون هو الغالب والأعم في كل وقت. فاليأس من الاجتماع من وسوسة الشيطان وعمله؛ لأنه يصد المسلمين عن العمل الواجب عليهم شرعاً بالبعد عن أسباب الاختلاف والتباغض، والأخذ بأسباب الاجتماع والتآلف. خلاصة الأمر الأول: أن الاختلاف أمر قدري كوني منه المذموم شرعاً الذي يجب علينا أن نحذر منه، وأن نأخذ بأسباب الاجتماع على الوحي المنزل من عند الله، وعلى الأدلة الواضحات البينات التي هي من عند الله سبحانه وتعالى، وأن نجتهد في محاربة البدع حتى ينعدم أنصارها أو يقل عددهم، هذا هو الأمر الواجب شرعاً، ووقوع الأمر القدري الكوني لا يلزم أن يكون هو الغالب الأعم كما ذكرنا.

اختلاف التنوع وأثره في تكامل الأمة

اختلاف التنوع وأثره في تكامل الأمة أنواع الاختلاف الواقع بين المسلمين قديماً وحديثاً يمكن أن يقسم بالاستقراء لأدلة الشرع والنظر فيها وكلام أهل العلم إلى نوعين من الاختلاف: اختلاف التنوع، واختلاف التضاد، واختلاف التضاد يقسم بعد ذلك إلى اختلاف تضاد سائغ، واختلاف تضاد غير سائغ. فأما النوع الأول وهو اختلاف التنوع: فهو ما لا يكون فيه أحد الأقوال مناقضاً للأقوال الأخرى بل كل الأقوال صحيحة، وهذا مثل وجوه القراءات، وأنواع التشهدات والأذكار. فمن قرأ مثلاً: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] يعلم صحة قراءة من قرأ (ملك يوم الدين) فهذا لا يكون مناقضاً هذا؛ لأن كلاً منهما قرأ بقراءة صحيحة ومتواترة، والكل يعلم أن القرآن نزل على سبعة أحرف كلها كاف شاف كما ثبت في الحديث المتفق عليه، وكل هذه القراءات الثابتة الصحيحة قد نزلت من عند الله سبحانه. كذلك من يقرأ بتشهد ابن مسعود: (التحيات لله، والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) لا يرى مانعاً من تشهد ابن عباس رضي الله عنه، أو تشهد عمر رضي الله عنه: (التحيات الطيبات المباركات)، (والتحيات الزاكيات لله) أو غيره من الصيغ، بل اتفق العلماء على جواز كل منها، وإنما اختلافهم في اختيار كل منهم لما يراه الأفضل لاعتبارات يراها، واختلاف التنوع مهم للغاية في هذا الباب. ومن هذا الباب: الواجب المخير، وهو في الواجبات التي جعل الله عز وجل المكلف مخير فيها بين أن يفعل أحد هذه الأنواع ككفارة اليمين، وربنا سبحانه وتعالى جعل كفارة اليمين على مرتبتين: المرتبة الأولى قال فيها: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89]. فمن أخذ بإحدى هذه الأمور الثلاثة المذكورة في الآية أجزأته، وأما الصيام فلا يجوز الانتقال إليه إلا إذا عجز عن الثلاثة، فهناك ترتيب بين الثلاثة وبين الصيام، وليس أنه مخير بين الصيام وبين الثلاثة، فالثلاثة هي التي بينها التخيير فقط. مثال آخر على الواجب المخير: ما وقع من الصحابة في غزوة بني قريظة، وهذه الواقعة يحتج بها كثيراً في إثبات أن كل الخلاف لا بأس به، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة يوم بني قريظة فقال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة). فأدرك بعضهم العصر في الطريق فصلاها وقال: لم يرد منا إضاعة الوقت، وقالت طائفة: والله لا نصليها إلا في بني قريظة، فصلوها بعد غروب الشمس، ولم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم أياً من الفريقين، بل لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أصلاً تصويب فريق وتخطئة آخر، فدلت هذه السنة التقريرية منه صلى الله عليه وسلم على صحة فعل كل من الفريقين، ومن العلماء من يجعل أحد الفريقين مصيباً والآخر مخطئاً مغفوراً له لا ينكر عليه، على خلاف في أي الفريقين كان مصيباً، حيث إن من يقول بالقياس يقول: إن من صلوا في الطريق هم المصيبون، ومن يميل إلى الظاهر يقول: من صلوا في بني قريظة هم المصيبون، والصحيح أن كلا الفريقين مصيب، وأنه لا يفضل أحد الفريقين على الآخر، خلافاً لما ذهب إليه كثير من العلماء؛ فشيخ الإسلام ابن تيمية يرجح فعل من صلوا في الطريق دون من صلوا في بني قريظة؛ لأنهم جمعوا بين الفضيلتين. والصحيح: أن صلاة العصر في هذا اليوم بعينه -يوم غزوة بني قريظة- كان واجباً مخيراً بين أن يصليها في الوقت -يعني: في الطريق- وبين أن يصليها في المكان بعد الوقت، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه أنكر -بل ولا صوب أو خطأ- كما فعل مثلاً فيمن أعاد الصلاة التي صلاها بالتيمم بعد أن وجد الماء، فقال للذي أعاد: (لك الأجر مرتين)، وقال للذي لم يقض: (أصبت السنة)، فبين لنا عليه الصلاة والسلام من المصيب، وتبين من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقر على الخطأ، كما حدث لـ عمار حينما اجتهد فتمرغ في التراب كما تفعل الدابة عند فقد الماء، فقال له صلى الله عليه وسلم: (إنما كان يكفيك أن تضرب الأرض هكذا، وضرب الأرض بيديه ثم مسح وجهه ويديه)، فالرسول صلى الله عليه وسلم بين له الصواب في الأمر، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يقر على الخطأ حتى ولو كان مما يغفر لصاحبه. فمن أجل ذلك نقول: صلاة العصر في هذا اليوم كان الرسول مخير لأصحابه بين صلاتها في الوقت في الطريق أو بعد الوقت في بني قريظة؛ لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم للفريقين، ولو كان أحدهما مخطئاً لما أقره صلى الله عليه وسلم، ولبين له الخطأ من الصواب. ومن هذا الباب: تنوع الأعمال الصالحة، فالناس هممهم متفاوتة في أنواع الخيرات، فمنهم من يهتم بباب من أبواب الخير، وآخر يهتم بباب غيره، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان). وهذا يوضح لنا معنى قوله: (من أنفق زوجين في سبيل الله) أي: تكرر منه العمل حتى صار من أهله، وليس أنه أنفق مالاً معيناً، ولذلك جعل الصلاة والجهاد والصدقة والصيام من هذا الباب، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (يا رسول الله! ما على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة)، يعني: لا ضرر عليه أن يدعى من أي باب يدخل الجنة، أبو بكر رضي الله عنه همته عالية جداً، فهو لا يفكر فقط أن يدخل جنة، بل يريد أن يبقى سباقاً في جميع أبواب الخير، ويريد أن يدعى من كل الأبواب فيكون ممن أنفق زوجين في الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم، وأرجو أن تكون منهم). ومعلوم أن المقصود من هذا الاجتهاد في نوع خاص من هذه الأعمال مع أداء الواجب في غيرها. وهذا كلام مهم جداً في اختلاف التنوع، بمعنى: أن الذي أنفق زوجين في الصلاة لا يترك الصيام أو الجهاد الواجب أو الصدقة الواجبة التي هي الزكاة. فأهل الصلاة يصومون رمضان، ويؤدون الزكاة المفروضة، ويجاهدون في سبيل الله، ولكن جُلّ عملهم ومعظمه في الصلاة فرضاً ونفلاً، وكذا أهل الجهاد يصلون ويصومون ويزكون، ولكن معظم عملهم واجتهادهم في الجهاد فرض العين والكفاية. وهذا النوع في غاية الأهمية؛ لأن همم العباد متنوعة، وقدراتهم وأفهامهم مختلفة، واستعداد كل منهم لنوع معين من العمل أمر فطري فيهم، والنادر من الخلق من له الهمة العالية والسبق في كل خير مثل أبي بكر. لكن تجد أن الخير اجتمع في المتقدمين من الصحابة رضي الله عنهم، وتوزع فيمن بعدهم، فالصحابة مجاهدون وعلماء، ومجتهدون في العبادة، وقائمون بالليل ومنفقون، وأمراء يقودون الأمة في نفس الوقت، لكن بعد ذلك توزعت هذه الأبواب على من بعدهم. فتجد رجلاً كـ مسلمة بن عبد الملك فتح بلاداً كثيرة جداً في أيام بني أمية لكن ليس له قول في الفقه، وكان الإمام مالك عالماً لكن لم تكن له مشاركات في الجهاد، وليس معنى ذلك أنه كان تاركاً للجهاد الفرض عليه، لا؛ لأنه لم يكن الجهاد فرض عين في وقته، إذ كان هناك من يقوم بالجهاد. أما ابن تيمية فقد كان بارزاً رحمه الله، لكنه ليس كالصحابة، ويكفي أنه ما تزوج من أجل أن يتفرغ للأمور الأخرى، وهذا من النقص عند شيخ الإسلام ابن تيمية. أما أكثر الخلق فلا تجتمع فيهم الهمة في كل شيء، وهذه الأعمال الصالحة المتنوعة مطلوبة كلها، وتكامل المسلمين فيها هو الذي يأتي بأفضل النتائج. إذاً: خلاف التنوع خلاف محمود وليس بخلاف مذموم، وقد وجد في المسلمين من كان اهتمامه بطلب العلم وتعليمه للناس، فكان على ثغرة من ثغور الإسلام يؤدي هذا الواجب، قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]. وأهل العلم وطلابه أنفسهم تنوعت هممهم، فمنهم من قضى عمره في طلب الحديث ومعرفة طرقه ورجاله وصحيحه وضعيفه، فكفى الله به المسلمين في هذا المجال، أمثال الإمام البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وأبي داود، فهؤلاء كان جل عملهم في الحديث، ومنهم من كان الاستنباط والفهم والفقه في الكتاب والسنة هو شغله الشاغل كالإمام الشافعي. ولو قارنا بينه وبين ابن ماجة في الفقه والاستنباط فبلا شك الشافعي له قصب السبق في ذلك، بل لو قارنا بين الشافعي وأحمد فإننا نجد أن الإمام الشافعي رحمه الله يقول للإمام أحمد: أنتم أعلم بالحديث منا، فدلونا على الحديث عراقياً كان أو شامياً أو حجازياً حتى نقول به. والإمام أحمد في الفقه أخذ معظم أصول مذهبه عن الإمام الشافعي، وكان بعض العلماء المتقدمين يقولون: المذاهب ثلاثة فقط، ويجعلون مذهب الإمام أحمد وجهاً من وجوه المذهب الشافعي، وإن كان له منزلة عظيمة بموقفه العظيم في المحنة، بالإضافة إلى فقهه وعلمه، مما جعل أهل العلم يذكرونه في الأئمة الأربعة. وغيرهم اجتهد في التفسير مثل ابن جرير الطبري وآخر في التجويد والقراءات، أمثال عاصم بن أبي النجود -وإن كان ضعيفاً في الحديث أو حدي

محاذير اختلاف التنوع

محاذير اختلاف التنوع لا بد في مسألة التكامل في اختلاف التنوع من ملاحظة عدة محاذير لابد من تجنبها، وأمراض ظهرت في العمل الإسلامي، بل ظهرت فيما سبق من العصور ونبه عليها العلماء.

من محاذير اختلاف التنوع: انشغال أفراد كل جماعة بما تراه

من محاذير اختلاف التنوع: انشغال أفراد كل جماعة بما تراه من هذه المحاذير الواقعة حالياً وسابقاً: أن يكون انشغال الأفراد والجماعات بما يرونه أفضل الأعمال سبباً لتركهم الواجبات الأخرى التي تمثل الحد الأدنى من الالتزام بالإسلام. يعني: أن الذي ينشغل بعمل معين يراه هو فقط دون ما سواه، ويهمل الواجب العيني عليه في الجوانب الأخرى، فكما أنه لابد أن يكون المجاهد مصلياً للفرائض، صائماً لرمضان، كذلك يجب أن يكون المصلي مزكياً صائماً مجاهداً جهاد فرض العين، وهكذا لابد أن يحقق أبناء الصحوة الحد الأدنى في مجالات العمل الإسلامي اليوم. فلا يجوز أن يكون الاشتغال بعلم الحديث سبباً للجهل بالعقيدة أو الفقه أو الحلال والحرام الذي هو فرض عين على المسلم، فتجد البعض قد انشغل بطرق الحديث ورجاله، وهو لم يتعلم كيف يؤمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والرسل والقدر، ثم إذا سألته في أي مسألة أخرى لربما ظن نفسه عالماً وتكلم بأي كلام لأنه حقق حديثاً أو أخرج كتاباً. فلا بد أن يتحقق القدر الأدنى الذي لا يسع المسلم جهله فيما يجب عليه من معاني الإيمان والإسلام وصلاح القلوب، كما لا يجوز أن يكون طلب العلم والاهتمام بالإعداد العلمي والتربوي سبباً لترك ما يجب على الأفراد والجماعات من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالضوابط الشرعية كما هو حاصل من بعض الاتجاهات. فالبعض قد يرى المنكر أمام عينيه، ويرى الضياع التام وانحراف الشباب، وتجده على علم شديد، ويبذل جهده في العلم، ولكن لا دخل له بما يدور حوله مطلقاً، وتتعجب منه كيف بذل كل همته في طلب العلم، ومع ذلك ليس له أي دور في الدعوة إلى الله، ولا حتى في تعليم الناس، وأقصى شيء يفعله لهم هو أن يهتم بواحد منهم فقط، وهذا خلل كبير بلا شك، فأنت إذا رأيت المنكرات وخالطتها فعليك أن تغير هذه المنكرات بما تقدر عليه بموجب الضوابط الشرعية. وكذلك لا يجوز لطلاب العلم مثلاً في وقت الجهاد أن يتركوا الجهاد العيني بحجة انشغالهم بطلب العلم، وقد صدر عن بعض المشايخ المعاصرين قولهم قالوا للناس: اذهبوا إلى البوسنة لتعلموا الناس؛ لأن أولويات العمل عندنا هي التصفية والتربية، وهذا كلام خطير جداً وفهم غير صحيح لمسألة التصفية والتربية، وما المانع أن يتم الأمران معاً، إن هذا هو الواجب حالياً؛ لأن العدو هجم عليهم في بيوتهم وبلادهم، وقتل نساءهم وأطفالهم وسباهم، ثم هم يقولوا للناس: لابد من طلب العلم أولاً، فنقول: لا مانع من طلب العلم تزامناً مع الجهاد الذي هو فرض عين، فهل نأمرهم بترك الدفع عن أنفسهم وأهليهم وأعراضهم وأموالهم للتعلم؟ لا. بل أنا أبذل جهدي في تعليمهم مع الدفاع عنهم. وهكذا أيضاً لا يجوز أن يترك المجاهدون الواجب عليهم من العلم الذي هو فرض عين، وهذا حاصل أيضاً من أصحاب الجهاد، فهم يقولون: نحن مجاهدون وحسب ولا دخل لنا بطلب العلم، ويقولون: اتركوا هذه الكتب الصفراء، بل هناك من يقول: لا أحد يكلم الناس في الشركيات؛ لأنها ستفرق الأمة، وهذا حصل بالفعل في أفغانستان، بل وصل الأمر إلى أن تتصدر الفرق الضالة المنحرفة أشد الانحراف والذين يعتقدون العقائد الكفرية ويكون منها القادة والرؤساء، ويقال: فلان هذا هو الزعيم الذي يمكن أن نجتمع حوله. حتى إنك لتجد بعض المجاهدين يشربون المخدرات ويبيعونها. وهذه قضية خطيرة بلا شك، وكان مثل ذلك سبباً من أسباب عدم نضج الثمرة التي بذل فيها ما بذل من دماء أبناء الصحوة الإسلامية المعاصرة.

من محاذير اختلاف التنوع: الجهل بمبدأ التوازن في بناء الشخصية

من محاذير اختلاف التنوع: الجهل بمبدأ التوازن في بناء الشخصية إن الجهل والمعاصي من أعظم أسباب الهزيمة، وهذا المحذور للأسف قد وقع لأكثر الاتجاهات المعاصرة ففشلت في تحقيق التوازن في بناء الأفراد، فشغلت بواجب عن واجبات عينية وكفائية تقدر عليها، وظهر الخلل في الشخصية التي تتكون وتتربى في هذه الاتجاهات، فمن الخطير أن يحصل اهتمام بالغ بقضية على حساب قضايا، بل أصبح هناك في بعض الأحيان اهتمام بالغ بمسائل الفروع على حساب الأصول، فربما تجد من يكتب بحثاً مقداره مائتي صفحة في حكم السترة، وهذا وإن كان من الأمور المشروعة الموجودة في كتب الفقه، ولكن ليس بهذا الحجم الضخم، ففي المغني الذي يعد أكبر كتب الفقه وأعظمها قدراً تكلم فيه مؤلفه في صفحتين فقط، وعملي لبحث بهذه الطريقة سيأخذ مني وقتاً وجهداً كبيراً، وربما كان من الأفضل اختصاره من كتاب منار السبيل من أجل أن يحصل له توازن في الاهتمام بالقضايا، ويكون هناك بعض إلمام بقضايا العقيدة مثلاً، فيقرأ معارج القبول، حتى لا يظهر عندنا أناس يبرزون في علوم معينة، وتجدهم في نفس الوقت يقصرون في بديهيات أخرى مثلاً في مسائل الإيمان والاعتقاد فيها ويكون عندهم خلل كبير جداً فيها، كالاستشهاد بكلام أهل البدع، وهذا لا يحصل إلا عندما لا يكون هناك تكامل ولا توازن، ومثل هذا قد يكون بروزه في هذا النوع من العلم سبباً كافياً لأن يقدم ويستفتى، ومن الناس من يبرز في الوعظ والإرشاد فيكون له تأثير كبير على الناس، وغالب الناس لا يفرقون أصلاً بين المفتي وغيره فيصبح مثل هذا مفتياً لقطاع كبير جداً من الناس، فهذا خلل كبير، ولابد أن يحصل نوع توازن في مثل هذا، فإذا كان الإنسان يحسن الوعظ فلا يظن في نفسه أنه قد أصبح محسناً للفتوى، ولا بد أن يحصل ضبط لهذه المسائل. فالحاصل أن هذا المحذور واقع في الاتجاهات الإسلامية، فبدل أن يحصل التكامل المطلوب يحصل عوضاً عنه أن الواحد ينشغل بجانب ويضيع بقية الجوانب، ولذلك فإن المطلوب أن يهتم كل واحد بجميع جوانبه الشخصية: من الناحية العلمية والعملية، فلا يتقن المسائل العلمية وهو عاق لوالديه، وقاطع للرحم، وسيئ الخلق مع الناس، وهو في الأموال أسوأ، فلا بد أن يستكمل المرء جميع الجوانب الشخصية، فيحافظ على عبادته الشخصية -على الأقل الواجبات- ولا يسهر طول الليل مع طلاب العلم ثم لا يصلي الفجر؛ لأن هذا سيؤدي إلى أنه هو نفسه سيخسر ويضيع. وربما قيل لشخص: لا بد أن تتواجد كممثل للشيخ الإسلامي في المكان الفلاني، وأصبح اسمه يملأ الميادين والشوارع، وهو عضو مبرز في مكان معين، ومن ثم يتفوه بكلام قد يناقض أصل الاعتقاد، كأن يتكلم في الولاء والبراء بغير علم، وأذكر مرة أن عضواً في مجلس شعب كان يريد أن يهاجم سياسة التقارب مع اليهود، فقالوا له: لابد أن تقف موقفاً شديداً في ذلك، فجاء إلى قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى} [البقرة:120]، فوجد أن الآية فيها ذكر النصارى، وهو يعلم أنه ليس له أن يتكلم في النصارى فبتر الآية، ثم قال: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ} [المائدة:82] فاقتص الآية الأولى لأنها لن تكون مناسبة للمقام -ولا حول ولا قوة إلا بالله- من أجل أن فيها ذكر النصارى. فالأمر فيه خلل كبير جداً، فلا بد من أجل تحقيق التكامل المنشود في هذا النوع من الاختلاف أن نحدد بوضوح القدر الأدنى علماً وعملاً للفرد والجماعة في المكان والزمان، وهو فروض الأعيان وفروض الكفاية التي تعينت، كالأمر بمعروف والنهي عن منكر متعين في كثير من الأحيان، فلا يسع أحداً تركها طالما قدر عليها. أما فروض الكفاية التي وجد من يقوم بها من الاتجاهات والجماعات الإسلامية المتعددة فالتكامل والتعاون فيها مطلوب رغم الاختلاف المنهجي الذي غالبه من اختلاف التضاد، يعني: رغم أن هناك اختلافاً منهجياً متضاداً وبعضه غير سائغ، لكن أن نتعاون على الخير فيما هو خير واجب شرعي، فلا بد لنا أن نشد من أزر المجاهدين وإن كان عندهم بعض البدع والمنكرات طالما بقوا في دائرة الإسلام. ولابد لنا من التعاون والتعاضد مع من يكفلون الأيتام والأرامل والمحتاجين، وإن رأينا تقصيرهم في طلب العلم فلا يحملنا ذلك على أن نترك الواجب الذي هم يقومون به، ولا بد من تأييد السواد الإسلامي في نواحي الحياة المختلفة طالما كان منضبطاً بالشرع، ولو كان لنا شيء من الملاحظات الأخرى على المنهج المتواجد فيه.

من محاذير اختلاف التنوع لدى الجماعات: تحقير أعمال الجماعات الأخرى

من محاذير اختلاف التنوع لدى الجماعات: تحقير أعمال الجماعات الأخرى المحذور الثالث الذي يجب تجنبه لتحقيق هذا التكامل المنشود هو: أن يربى الأفراد داخل هذه الجماعات على تحقير الأعمال والعلوم الأخرى التي ليس لجماعته اهتمام كبير بها في سبيل حصر اهتمامهم وجهدهم في تنفيذ ما يطلب منهم، فطالب العلم لا يحقر الداعية، والداعية لا يحقر طالب العلم، أو أن هذا يقول: هؤلاء أصحاب كتب، والثاني يقول: هذا لا يفهم شيئاً، إنما يجمع الناس قليلاً ثم يتركهم يرحلون، وهذا يلاحظ في أماكن كثيرة متعددة، فتجد من فتح الله عليه في باب تبليغ الناس الحق، وعنده قدرة تامة على الوعظ يزدري طالب العلم، وطلاب العلم يزدرون الفريق الآخر، فلا شك أن التحقير لأعمال وعلوم الآخرين بدلاً من الشعور بأهمية كل منها هو الذي يولد الضغائن والبغضاء والأحقاد، وإذا أضيف إلى ذلك السخرية من الآخرين كان البلاء أشد، ودخل مسلسل الغيبة والنميمة والاتهام الباطل. يكفينا في علاج هذا أن نلتزم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات:11]، ولقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته على عدم تحقير أي عمل صالح يصدر من أي مسلم أو مسلمة، إذ بل ربما يكون فيه نجاته، ألم نعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن بغياً من بغايا بني إسرائيل دخلت الجنة في كلب سقته؟ ألم نعلم أن من أسماء الله تعالى الشكور الذي يشكر القليل من العمل ويغفر الكثير من الزلل؟ ألم نعلم فضائل الأعمال التي تقوم بها الاتجاهات الإسلامية على اختلافها سواء طلب العلم أو الدعوة أو الجهاد ونحوها، وكل هذه الأعمال لها فضائل على اختلافها، وقد ذكرت فضائلها في الكتاب والسنة، حيث وردت النصوص في فضيلة طلب العلم والدعوة والعبادة والتزكية والجهاد والنفقة في سبيل الله، ونصرة الدين، فكيف يتسنى لنا بعد ذلك تحقير شيء من هذه الأعمال والاستهزاء بأصحابها، والتهوين من أهمية هذه الأعمال والعلوم؟ إن النظرة المريضة بالاستعلاء على أصحاب العلوم والأعمال الصالحة الأخرى والتي لا تهتم بها الجماعة التي ينتمي إليها الفرد باعتبار أن الأولويات التي تحددها الجماعة هي وحدها الحائزة على الصواب لابد أن تختفي من بيننا نحن أبناء الصحوة. وإذا جهل علينا أحد بالتحقير لعملنا وجهدنا لم نقابله بتحقيره هو وعمله، ولا بذكر مثالبه وعيوبه، بل نذكره بفضيلة ما نعمله وفضيلة ما يعمله، وأن كلا العملين مطلوب، فلا يجوز أن نسمح لطالب الفقه أن يحقر طالب الحديث، ولا أن يحقر طالب الحديث من خرج للدعوة، ولا أن يجعل الخارج للجهاد عمل الآخرين هباء منثوراً لا قيمة له، ولا أن يحقر الداعية طلب العلم، ولا أن يكون الساعي على الأرملة والمسكين مستشعراً أن صلاح الأمة بعمله دون عمل من سواه، بل ننشر روح المحبة على الخير، ونمدح صاحبه، أفلا نحب ما يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ أفنحزن إذا وفق الله عبداً إلا طاعة لم نقم نحن بها؟ أليس أقل واجب أن نحبه على طاعته وندعو له بالتوفيق ونرجو له تمام الخير؟ ولا يجوز لنا أن نمن على أحد بعلمنا ولا بعملنا بل لله المنة علينا أن هدانا للإسلام ووفقنا للعمل بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] فلا يقال: لولا نحن لخربت الدنيا، فهذا من الباطل، والدنيا عامرة بأهل الإسلام، ولن نكون شيئاً بغير عملنا للإسلام. فالله عز وجل غني عنا وعن عملنا؛ فلا نمن على الله ولا على الناس ولا على المسلمين، ولا نقول: إن المسلمين كلهم تابعون لنا في هذا، أو إننا أصحاب الفضل في هذا، إنما الفضل لله عز وجل.

من محاذير اختلاف التنوع: عقد مبدأ الولاء والبراء للجماعة

من محاذير اختلاف التنوع: عقد مبدأ الولاء والبراء للجماعة المحذور الرابع: عقد الولاء والبراء على هذه الأعمال المتنوعة والأولويات المختلفة، وتقديمه على أصل الولاء لدين الله والمنهج الإسلامي الصحيح، الذي هو منهج أهل السنة والجماعة بشموله وتوازنه، فنجد كثيراً من الجماعات الإسلامية توالي وتعادي على ما جعلته من أولويات عملها، ونجد أفرادها يتخذون موقفاً ممن رأوا منه اهتماماً بنوع آخر غير ما تعودوا عليه. فهو يحب ويبغض على أساس أن الشخص هذا يعمل مثل ما هو يعمل، وينتمي إلى نفس نوع العمل، ولو وجده يخرج مثلاً في سبيل الله مع جماعة التبليغ يصبح له منه موقف آخر. فالعلاج هنا يكمن في تعميق الولاء على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، وليس التعصب على الأسماء ولا الأعمال ولا العلوم، بل نحب الطاعة من كل من أطاع الله ونواليه عليها كما نوالي غيره على طاعته الأخرى، ونبغض المعصية من كل من عصى الله ونبرأ إلى الله منها، سواء عمل صاحبها بما نراه من أولويات عملنا أو غيره، فلو أن شخصاً على المنهج السلفي ولكن في نفس الوقت يخدع الناس، أو يعق والديه أو فيه أخلاق ذميمة فأنا أحبه على منهجه وأبغضه على معصيته. فمثلاً لو رأى طلاب العلم طالب علم منهم قد أتى معصية من المعاصي، فلا بد أن يبغضوا ذلك منه ويبرءوا إلى الله من هذا العمل، ولا يكون همهم التهوين من هذا الخطأ في حين لو ارتكب هذه المعصية من ينتسب إلى الاتجاه الآخر لم يلحظوا له خيراً ولا طاعة لعلها تكون سبباً لمغفرة الله له. والميزان في ذلك لابد أن يكون واحداً منضبطاً وهو: الطاعة والمعصية الخير والشر، فنحب على الطاعة ونبغض على المعصية، ونحب أهل الخير ونبغض أهل الشر نحب على السنة ونبغض على البدعة، كما بينت ذلك أدلة الكتاب والسنة والإجماع. خلاصة القول في اختلاف التنوع: أنه من مقتضيات الرحمة ومظاهرها، ولا بد من استثماره لتحقيق التكامل بين المسلمين، ولا بد من أجل ذلك أن نتجنب ترك الواجبات العينية الأخرى، وتحقير العلوم والأعمال الأخرى، والتعصب على اسم معين أو عمل معين. بل لا بد أن يكون العمل على المنهج الإسلامي الصافي النقي، وأن نؤدي كل الواجبات المفروضة علينا لكي نحقق التكامل في الشخصية المسلمة التي تتربى من خلال العمل الإسلامي، ولا نحقر عملاً صالحاً ولا علماً، ونوالي ونحب ونبغض على الكتاب والسنة، ونجعل الولاء والبراء لله عز وجل، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56]، وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71].

الأسئلة

الأسئلة

حكم التغاضي عن كل أنواع الاختلاف بحجة سلامة المقصد والهدف

حكم التغاضي عن كل أنواع الاختلاف بحجة سلامة المقصد والهدف السؤال يقول بعض الشيوخ: إن جميع الجماعات الإسلامية هدفها الوصول للإسلام الصحيح. هذا دون النظر فيما يحتويه كل منهج من هذه المناهج، ولكن المهم الهدف النهائي، وضرب على ذلك مثالاً بمجموعات مسافرة إلى القاهرة، منهم المسافر بالقطار، ومنهم المسافر بالسيارة على الطريق الزراعي، ومنهم المسافر على الطريق الصحراوي، هل هذا الكلام صحيح؟ A هذا الكلام ليس صحيحاً؛ إذ ليس كل أنواع الاختلاف من اختلاف التنوع. أو السائغ، وسوف يأتي الكلام عن اختلاف التضاد الذي منه ما هو سائغ ومنه ما هو غير السائغ، وهناك انحرافات منهجية خطيرة سوف تظهر في بيان أنواع الاختلاف الأخرى.

أدب الخلاف [2]

أدب الخلاف [2] كثيرة هي العقبات في طريق الدعوة إلى الله عز وجل، ووجودها حكمة من الله بالغة، وسنة كونية منه تعالى ماضية، فقد كتب سبحانه الابتلاء على أهل الإيمان، ومحصهم بالمحن؛ ليظهر سبحانه للناس أهل الحق وأهل الباطل، وليميز الخبيث من الطيب، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

العقبات في طريق الدعوة

العقبات في طريق الدعوة الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: كثيرة هي العقبات في طريق الدعوة إلى الله عز وجل، حكمة من الله سبحانه وتعالى بالغة, وسنة ماضية أن يبتلي أهل الإيمان بأنواع الابتلاءات والمحن التي يميز الله عز وجل بها بين الخبيث والطيب، فيما يرى الناس شهادة قد علمه سبحانه وتعالى أزلاً وغيباً, لكنه سبحانه وتعالى قدر وجود الابتلاءات والمحن والعقبات لكي يظهر للناس صفات أهل الحق وأهل الباطل, ولتستبين سبيل المجرمين، وليهدي الله عز وجل من شاء إلى صراط مستقيم، وإلى ما اختلف فيه من الحق بإذنه. هذه العقبات منها عقبات من خارج الدعوة، ومن خارج الدعاة والملتزمين المطيعين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، يضعها المنافقون والكفار وأعداء الدين في طريق الطاعة والالتزام، وهذه العقبات رغم كثرتها وخطرها إلا أنها ليست بعقبات في الحقيقة؛ ذلك أن الله تكفل بها، كما قال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:120]، تكفل الله بهم مع الصبر والتقوى، والخطورة الحقيقية تكمن في العقبات الداخلية التي تنبع من قلوب وأعمال وأقوال الملتزمين أنفسهم، وما يقع بينهم من اختلاف. ولا شك أن الاختلافات التي وقعت بين الاتجاهات الإسلامية المختلفة في الصحوة الإسلامية -نسأل الله عز وجل أن يبارك فيها- كانت من أعظم أسباب انصراف الكثير من عامة المسلمين عن الالتزام جملة، ومن أعظم ما يستغله أعداء الإسلام لكي يصرفوا الناس عن الدين بجملته بزعم أن أهله مختلفون متفقون، ولا يحب بعضهم بعضاً، ويكادون يقتتلون بل قد اقتتلوا في مواضع مختلفة من العالم. كل هذا مما يُجعل -كما يقولون- شماعة يعلق الكثير من الناس عدم التزامه عليها, فيقول: طالما أن هؤلاء الملتزمين مختلفون متنازعون متباغضون فدعونا من الكلام في الالتزام حتى يتفقوا. وهذا خطر عظيم بلا شك, ولا يكون عذراً عند الله سبحانه وتعالى؛ فإن وجود طعام خبيث في السوق لا يعني أن يصوم الناس عن الطعام بالكلية حتى يهلكوا، وهذا الذي يترك الالتزام بزعم أن الاختلافات قائمة بين الاتجاهات الإسلامية والمتناقضات موجودة هو كالذي يترك الطعام جملة ويقول: طالما وجد طعام فاسد فلن آكل شيئاً. وأيضاً أثر هذا الاختلاف سلباً على الكثيرين من أبناء الصحوة أنفسهم بأن صارت القضية الأولى لديهم هي حرب المخالفين، دون نظر إلى ما يسع فيه الخلاف مما وسع السلف وإلى ما لم يسع، وكذلك لم يفرقوا بين النوع والشخص المعين, فنشروا الحروب العنيفة، وزادت نظرة الآخرين للإسلاميين حدة، واشتعلت ثوراتهم ومجادلاتهم بعبارات نارية وقذائف ملتهبة على المخالفين، فكثير من الناس من أجل ذلك رأى أن يهجر العمل الجماعي جملة, ويقول: إن هذه الاختلافات عصبية جاهلية؛ فليكن كل منا وحده بعيداً عن الآخرين. وقد تأول البعض حديث حذيفة رضي الله عنه الذي فيه: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير والشر, وقال له: (إنا كنا في جاهلية وشر، فأتانا الله بهذا الخير, فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قال: فقلت: فهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهتدون بغير هديي، ويستنون بغير سنتي، تعرف منهم وتنكر، قلت: هل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله! صفهم لنا؟ قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قال: فما تأمرني؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قال: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة فتموت وأنت عاضٌّ عليها)، فتأول بعضهم هذا الحديث وحمله على الجماعات الإسلامية المختلفة، فقال: هذه هي الفرق التي يجب أن نفارقها، وغفل عن أن الحديث يشير إلى الدعاة على أبواب جهنم، كأهل البدع والمنافقين كالعلمانيين والقوميين والحزبيين وأمثالهم ممن يوالون أعداء الإسلام من اليهود والنصارى والمشركين, ويسعى إلى إبعاد الناس عن الدين, وكالفرق الضالة المنحرفة من القديم كالرافضة وغلاة الصوفية من عباد القبور وغيرهم، فظن هذا المسكين أن المقصود باعتزال تلك الفرق: أنها كل من اجتمع على طاعة الله عز وجل، فسد على نفسه باباً من أعظم أبواب الخير, وظن أن التعاون على البر والتقوى ممنوع منه في ظنه، وإن لم يصرح في كلامه أنه لا يجوز التعاون على البر والتقوى. والحقيقة أن أمراض النفوس من وراء ذلك كثيرة, كأنفة الإنسان من أن يكون خاضعاً بدرجة ما, أو يكون ذليلاً على المؤمنين حتى يتحقق التعاون على البر والتقوى، فهذا أمر منبعه من عدم اكتمال تهذيب النفس، وقبولها للحق ولو كان ممن لا تميل إليه النفس. المقصود: أن هذا أيضاً صار من أعظم أسباب تعطيل العمل الإسلامي جملة؛ لأن كثيراً من الناس ظن أن الحديث مقصوده هذه الاتجاهات الإسلامية، مع أن الخير الذي فيها بلا نزاع أضعاف أضعاف الشر الذي وقع منها، فكم من تارك للصلاة والصيام والزكاة, بل وتارك لشهادة التوحيد في الحقيقة أو لمعناها وتطبيقها قد ردوه إلى الإسلام رداً جميلاً، وكم من مفرط في أصول الإيمان مضيع لها، بل ربما جاحد منكر لها قد أعادوه إلى حظيرة الإيمان، وكم من عبادات ومعاملات والتزام بشرع الله قد حدث بسبب الخير الذي حدث بالدعوة إلى الله عز وجل على دخن في كثير منها, وربما زاد دخن بعضها جداً حتى صار خللاً كبيراً، لكنه في الجملة طالما لم يكن مؤصلاً لبدعة, ولم يكن متجهاً إلى منحى غير طريق أهل السنة والجماعة فإن خيره أكثر من شره، وعلى الأقل يجب أن يقبل خيره ويدفع شره, ولا يمنعنا علمنا بأن عنده دخن وشر من قبول الخير الذي أتى به طالما كان في دائرة الإسلام، بل علينا عند معاملة أهل البدع الضالين أن نعرف لهم أنهم ما زالوا يشهدون أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله, ما لم ينقضوها، فإذا كان كذلك فالأولى أن يكون هذا موقفنا من المتأولين والجاهلين الذين ما دروا أنهم ناقضوا شيئاً من قواعد الدين.

نظرة الجماعات للاختلافات الإسلامية

نظرة الجماعات للاختلافات الإسلامية وبعض الناس اتجه في مواجهة هذه الخلافات اتجاهاً آخر؛ حيث إنه لما وجد الصراعات محتدمة بين أبناء الصحوة الإسلامية -ومنذ زمن طويل بين الاتجاهات والفرق الإسلامية والمذاهب المختلفة- ظن أن العلاج لمثل هذا: أن يترك كل إنسان مخالفة الآخرين ولو كان معهم على ما يتفقون فيه، ولا يذكر شيئاً عن الخلاف، وأن كل إنسان انتسب إلى فرقة معينة فلا حرج عليه أن ينضم إلى تجمع آخر تحت قاعدة سموها ذهبية, وهي: أن نجتمع فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، فطبقوا هذا على الشيعة والصوفية والخوارج وطوائف مختلفة من أهل البدع، ولا شك أن الصحوة الإسلامية في مراحل بدايتها إن لم تحدد هويتها ومعالم انطلاقتها فإنها ستتشعب بها أودية الأهواء، وتتفرق منذ البداية, ولا يكون هذا الذي أراد جمع الناس على هذا الشعار أو هذه القاعدة التي سموها ذهبية إلا كمثل إنسان أراد أن يطفئ جمراً مشتعلاً بالنار فوضع عليه قطعة من الورق أو القماش سترت الجمر لحظات، ثم إذا بها تصبح وقوداً يزداد به الجمر اشتعالاً, وتتمزق هذه القطعة من القماش أو هذا الغطاء الذي حاول أن يغطي به هذه الاختلافات؛ لأنه لم يسلك في ذلك ما أمر به النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال: (وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي, عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة). وربما وصل الحال ببعض هؤلاء أن يطبق هذه القاعدة في التعاون على ما اتفق عليه حتى مع المنافقين وأعداء الدين, بل لو نظرنا إلى واقع كثير من الحركات الإسلامية في مشارق العالم الإسلامي ومغاربه لوجدنا أنها منيت بأقسى النكبات, وفشلت في قطف ثمار التضحيات العظيمة الهائلة بسبب مثل هذه القاعدة التي بنيت على شفا جرف هار، فنجد أن العلمانيين وغيرهم قد تحالف مع الاتجاهات الإسلامية في فترة من فترات حياته وعمره، بل قد انتسب وبايع بالسمع والطاعة لقيادة هذه الاتجاهات، ويكون واحداً منها, ويظنه من لا يحسن هذه المسألة أحد المجاهدين في سبيل الله, ثم بعد تضحيات لآلاف وربما ملايين من الشهداء يأتي قطف الثمار على أيدي هؤلاء، وما ثورة الجزائر على الاحتلال الفرنسي ببعيدة عنا إذا تأملنا تاريخها، وما زال يحدث في واقع المسلمين في المشارق والمغارب مثل ذلك كثيراً كما في أفغانستان وغيرها، فكم من مجاهدين عاشوا عمرهم على الجهاد، وحازوا ثقة المسلمين في فترة من عمرهم من أجل جهادهم لأعداء الدين من الكفرة والمنافقين، ثم إذا بهم في مرحلة لاحقة يتحالفون مع الشيوعيين والباطنية والشيعة فضلاً عمن هو دونهم في هذا الشر؛ فإنه بالأولى يقبل بهذه التحالفات. فتتمزق الأمة تمزقاً خطيراً، وتجد أن الإسلاميين في هذه الحالة صاروا ظهراً يركب ليوصل به إلى غايات خبيثة منكرة لا يستطيعون بعد ذلك أن يرجعوا عنها، ومن أمثلة ذلك القاعدة التي كانت ولم تزل تسبب خلافاً كبيراً بين أبناء الصحوة الإسلامية. وعلى الطرف الآخر لم ير البعض أي درجة من درجات الخلاف, بل كل مسألة عنده لابد فيها من مفاصلة وولاء وبراء وانتصار -في فهمه- للسنة, وربما يكون انتصاره إنما هو لفهمه المغلوط لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, وربما كانت مفاصلة في زلات بعض أهل العلم التي تغفر في جانب محاسنهم الكثيرة، لكنها بالنسبة له قضية حب وبغض وولاء وبراء, ومن لم يقبل قوله فيها أو قول إمامه أو شيخه فلا بد أن يحارب ويعادى حتى يرجع إلى ما ظنه حقاً في ذلك، فأثر هذا الفريق أثراً كبيراً في توسعة هوة الاختلافات بين المسلمين. وعلى الناحية الأخرى طرف آخر رأى أن كل خلاف هو خلاف سائغ لا بأس منه ولا حرج فيه، وأن التفرق الحاصل هو خير وليس بشر، ولا شك أن هذا يختلف عمن رأى أن يجتمع المسلمون فيما اتفقوا فيه؛ فإنه وإن كان يعذر كل مخالف؛ لكنه يأمر بالاجتماع تحت رايته, ولا يرى جواز الخروج عن هذه الراية, وإن كان داخلها يتسع كثيراً جداً، وتكون ثوباً فضفاضاً يتسع للتناقضات والاختلافات التي تدخل تحت قول النبي عليه الصلاة والسلام: (وإن كل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار). والبعض الآخر يرى أن التعدد مفروض، وأننا ينبغي أن نحافظ على هذا الاختلاف، وقد غاب عنه أن هذه السلبيات التي نراها واقعة في العالم الإسلامي من تباغض وتحاسد وتنازع مما يؤدي إلى تأخير العمل الإسلامي على الأقل إن لم يؤد إلى صرف الكثيرين عنه، فإن إغفال مثل هذه السلبيات في قضية الخلاف يؤدي إلى تمييع القضية, وظن الناس أن كل الاختلاف هو من باب اختلاف التكامل والتنوع، وليس كذلك بلا شك، فنريد أن نبين تصورنا وفهمنا لهذه القضية من خلال الكتاب والسنة، وفهم سلف الأمة، فنقول في مختصر كلامنا: إن اختلاف التنوع يجب استثماره بضوابط شرعية حتى لا يؤدي إلى المحاذير التي تقع من بعض السائرين والعاملين في الحقل الإسلامي, فيترتب على ذلك الفساد من جراء هذه المحاذير, وبدلاً من أن ينتفع بهذا الخلاف يصبح الأثر هو التفرق والاختلاف, وهذه المحاذير كانت: ترك الواجبات العينية الأخرى, وتحقير العلوم والأعمال الصالحة التي تقوم بها الاتجاهات الإسلامية الأخرى, والتعصب على اسم أو عمل معين دون الولاء على المنهج الإسلامي الصافي النقي منهج أهل السنة والجماعة بشموله.

اختلاف التضاد والموقف منه

اختلاف التضاد والموقف منه النوع الثاني من الاختلاف: اختلاف التضاد, وهو أن يكون كل قول من أقوال المختلفين يضاد الآخر ويحكم بخطئه أو بطلانه، فالشيء الواحد تجده يقول بحرمته وبحله، مع العلم أن بعض المتكلمين في مسائل الخلاف من المتقدمين والمتأخرين يقول عن مسائل الاجتهاد المختلف فيها: كل مجتهد مصيب، ويعني بذلك: أن كل أنواع الاختلاف هي من النوع الأول طالما أن ذلك في الفروع، فلذلك يجعله من النوع الأول من الاختلاف وهو اختلاف التنوع، وقد نصر ذلك الجماعات الإصلاحية, مثل صاحب كتاب (الإصلاح)، فهو يميل إلى هذا القول, وكذا الإمام الدهلوي في كتابه (أسباب الاختلاف) يميل إلى هذا القول. فهذا النوع من الخلاف موجود، ومعناه: أن كل قول يخالف القول الآخر يضاده ويحكم بخطئه أو بطلانه، وهذا يشمل المسائل سواء كانت اعتقادية أو عملية، ولنضرب مثلاً بمسألة اعتقادية فنقول: الإمام الشافعي يقول بوجوب القراءة خلف الإمام، والإمام أبو حنيفة يرى حرمة القراءة خلف الإمام، والإمام أحمد يرى وجوب القراءة خلف الإمام في السرية وعدم مشروعيتها في الجهرية، فهذه ثلاثة أقوال وكل قول منها يخالف ويضاد القول الآخر، وقد يتفق الشافعي وأحمد في جزئية وهي: وجوب القراءة في السرية, ويتفق في عدم القراءة في الجهرية أحمد وأبو حنيفة، لكن الحقيقة أن كل قول منها يخالف الآخر. لكن لو جاء واحد وقال: كل مجتهد مصيب، والأقوال الثلاثة صحيحة، فهذا يكون قد أحدث قولاً رابعاً، حيث يقول: لك أن تختار ما بين هذا أو هذا أو هذا، كالواجب المخير، مثل قصة الصلاة في الطريق أو في بني قريظة بعد الوقت، والحقيقة أن هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال: القول الأول: أن الذين صلوا في الطريق هم الذين أصابوا، والقول الثاني: أن الذين صلوا في بني قريظة هم الذين أصابوا, والقول الثالث: أن الفريقين أصابوا، وبذا يكون كل مجتهد مصيب، وهذا ينفي اختلاف التضاد هنا خاصة, ويجعل جميع الاختلافات من اختلاف التنوع؛ لأن كلا الأمرين صحيح، هذا مراد من يقول: كل مجتهد مصيب. وهذه العبارة نقلت عن بعض السلف, لكن ليس معناها ما فهمه هؤلاء المتأخرون من أن هذا من الواجب المخير, أو أن كله مفيد، وليس المعنى إصابة الحق، أو يقول هذا القائل: المطلوب الاجتهاد، وما فعله الإنسان بعد ذلك فقد أصاب الحق؛ لأن الحق هو ما يؤدي إليه الاجتهاد. هذا الكلام غير صحيح؛ لأن مقصد من تقدم من السلف بقوله: كل مجتهد مصيب: أنه قد أدى ما عليه، ولا يلزم من ذلك ألا يكون هناك حق يطلب. نقول: إن إثبات هذا النوع من اختلاف التضاد وهو: أن يكون الشيء الواحد هناك من يقول بحرمته وبحله معاً من جهة الحكم لا من جهة الفتوى لا ينبغي، أي: أننا قد نقول: إن الميتة محرمة، ولكنها مباحة للمضطر. كفتوى لشخص وقع في الاضطرار، لكن الحكم العام أن الميتة محرمة. كذلك الحكم بأن هذا الفعل حرام يكون في قليل النبيذ المسكر كثيره: فشرب نبيذ غير عصير العنب كثيره يسكر، وقليله لا يسكر، فالمخالف يقول: قليله حرام. ليس من جهة الفتوى, كإنسان في حالة ضرورة ومخمصة لم يجد إلا ذلك النبيذ لسد رمقه، فهو حلال له في تلك الحالة كفتوى, وأما الحكم العام فهو حرمته عند من يقول ذلك عند عدم الضرورة. المقصود: أن هذا الاختلاف ليس اختلافاً في فتوى المسائل بل في الأحكام العامة، ووقوع هذا النوع من الاختلاف في الملل والعقائد والأديان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام؛ لأن هذا قطعاً واقع؛ فهناك اختلاف تضاد في الملل والأديان والعقائد، وهو من المجمع عليه بين المسلمين, ولم يخالف في ذلك إلا الزنادقة المنافقون -وللأسف ما أكثرهم في زماننا- ممن ينشرون بين الناس مفهوم مساواة الملل، وأن كل الأديان حق, وأن أهلها إن تمسكوا بما هم عليه فهم ناجون، فاليهود عليهم التمسك باليهودية, والنصارى كذلك, والمسلمون كذلك، بل صار بعضهم يقول: إن من يسأل عن حكم اليهود والنصارى في الدنيا والآخرة هل هم كفار؟ وهل هم مخلدون في النار؟ فهو يهدد الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي, ولا يحترم الأديان، فهو عندهم يستحق أقسى أنواع العقوبات والعياذ بالله من الخذلان. ولا خلاف بين العلماء أن من لم يكفر اليهود والنصارى, بل حتى لو شك في كفرهم أنه كافر مرتد مكذب بالقرآن, قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا أدخله الله النار)، متفق عليه. هناك مقالة كتبها أحد الكتاب بعد سؤال وجه له، وهذا الكاتب عنده عاطفة إسلامية في جملة كتاباته, لكن انظر إلى الجهل العظيم والفظيع الذي عنده، وما كنت أظن أن مثله يكتب مثل هذا، وهو الأستاذ فهمي هويدي كتب مرة يقول: هذه الأسئلة ما زالت تطرح للأسف الشديد، فالذي يقول: هل هم كفار أم لا؟ وهل هم مخلدون في النار أم لا؟ كل هذه من علامات التطرف والتشدد في الفكر مرجعه إلى انتشار كتب سيد قطب في فترة من الفترات، وينقل عن بعضهم ويصوب هذا: أن المؤمنين في اصطلاح القرآن ليسوا أتباع دين خاص، ولكنهم المؤمنون بالإله الواحد، وأن كل مقر بوجود إله واحد مؤمن عند الله سبحانه وتعالى, يعني: أن كلمة ((َالَّذِينَ آمَنُوا)) تشمل اليهود والنصارى، ولا يلزم أن يكونوا على ملة الإسلام. وكم كتبت مقالات من هذا القبيل من أستاذة يدرسون للناس الدين, فعميد إحدى كليات العلوم الشرعية كتب في بعض الجرائد يقول: إن الخلاف مع النصارى ليس خلافاً في التوحيد, ولكنه خلاف في النبوة, وهذا خلاف بسيط -يعني: تكذيب النبي عليه الصلاة والسلام خلاف بسيط- لا يخرجهم من كونهم موحدين، ولا يخرجهم عن الإيمان، مع التناقض قطعاً. أي: أن الذي يقول: إن الله هو المسيح بن مريم ليس مخالفاً في التوحيد، والذي يقول: إن الله ثالث ثلاثة ليس مخالفاً في التوحيد، والذي يعبد الأحبار والرهبان ليس مخالفاً في التوحيد. أما زعمه أن تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ليس خلافاً في التوحيد؛ لأنه خلاف يسير. فلا. بل هو كفر يخرج من الملة بالتأكيد؛ لأنه لم يشهد أن محمداً رسول الله. كما أن من يصوب عبادة غير الله وهو يشهد أن لا إله إلا الله فهذه قضية خطيرة للغاية، وما كنا نظن أننا يمكن أن نختلف بالذات على هذه المسألة المعلومة من الدين بالضرورة لولا أن من ينادي بحرية الاختلاف وحرية الفكر يدخل الملل الكفرية في ذلك، ويقول: إن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، حتى أثرت هذه الدعوة على كثير من أبناء المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

الصواب في مقولة: كل مجتهد مصيب

الصواب في مقولة: كل مجتهد مصيب قال ابن قدامة رحمه الله في الكلام على مسألة كل مجتهد مصيب: وزعم الزاعم أن مخالف ملة الإسلام إذا نظر فعجز عن الحق فهو معذور غير آثم. في الحقيقة أن الجاحظ الذي سنسمع كلام ابن قدامة عليه لا يقول: إن الملل الأخرى حق، بل يقول: إن الذي يخطئ معذور، وعنده أن الذي يخالف ملة الإسلام يكون مخطئاً، ولكنه يقول: طالما نظر ولم يستطع أن يصل يكون معذوراً غير آثم. وقال عبيد الله بن الحسن العنبري: كل مجتهد مصيب في الأصول والفروع جميعاً, وهذه كلها أقوال باطلة. يقول ابن قدامة: أما الذي ذهب إليه الجاحظ فباطل يقيناً, وكفر بالله تعالى, ورد عليه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإنا نعلم قطعاًَ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر اليهود والنصارى بالإسلام واتباعه, وذمهم على إصرارهم, ونقاتل جميعهم, ونقتل البالغ منهم، ونعلم أن المعاند العارف مما يقل، وإنما الأكثر مقلدة، اعتقدوا دين آبائهم تقليداً، ولم يعرفوا معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه, والآيات الدالة في القرآن على هذا كثيرة. معنى كلام ابن قدامة: أنه لا يلزم أن يكون الكافر معانداً، فيمكن أن يكون الكافر جاهلاً يظن نفسه على الحق, ويظن أن دينه هو الصواب, وسلوك الناس يدل على ذلك, وبالتأكيد هناك من يقتل نفسه لأجل الكفر، بل مستعد للتضحية بكل شيء في سبيل أن يبقى على ملته، وهذا أمر معلوم من أيام النبي عليه الصلاة والسلام, فقد استوهب أحد الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني قريظة لمنة كانت له عليه, فوهب له نفسه وأهله وماله، فقال له: سألتك بالله إلا ألحقتني بالأحبة، فألحقه بالأحبة وقتله، بعد أن قال له: إن رسول الله وهبك لي ووهبتك لنفسك, انطلق حيث شئت، لكنه كان يريد أن يلحق بالأحبة مثل حيي بن أخطب ورءوس الكفر من اليهود. وكثير جداً من الكفار كانوا يضحون تضحية عظيمة عبر العصور المختلفة؛ لأن أكثرهم مقلدون للكبراء والرؤساء، لذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام لـ هرقل في الرسالة: (فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين) ولم سيكون عليه إثمهم؟ لأنهم سيتبعونه على الكفر، فمعلوم بالضرورة أن المعاند الكافر مما يقل؛ لأنه يعلم أنه على الباطل مثل فرعون وإبليس ورءوس اليهود، لكن أكثرهم يظنون أنفسهم على الحق. وقد وجد من الناس من يعتقد أن العذر بالجهل معناه: أننا نعذر أي شخص يظن نفسه على الحق ولا يدري وجه الصواب، بينما الحق في العذر بالجهل هو العذر لعدم البلاغ وليس العذر بأي نوع من أنواع الجهل؛ فالكافر الجاهل الذي قد بلغته الحجج ولم يفقهها ولم يتعلمها، أو أعرض عن الدين بالكلية فلم يتعلمه ولم يعمل به -كما يقول الشيخ محمد عبد الوهاب - ولم يدخل في الإسلام، أو بلغته دعوة الحق وأبى أن يدخل فيها، أو كان على شرك ولو ظن أنه يمتثل بالإسلام، وأعرض عن آيات الله بالكلية وظل على شركه الذي هو عليه، فهذا لا شك في كفره ولا يعذر. فـ ابن قدامة يقول: إن كلام الجاحظ ردة عن الإسلام، وكفر بالله يقيناً. يقول ابن قدامة في روضة الناظر: والآيات الدالة في القرآن على هذا كثيرة، كقوله تعالى: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27]، الله أخبر أن ظنهم الباطل لم ينزههم من النار، وقال: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:23]، وقال: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:78]، وقال: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المجادلة:18]، وقال: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف:30] , وقال: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:104 - 105]. قال: وفي الجملة ذم المكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا ينحصر في الكتاب والسنة. انتهى من كتاب روضة الناظر. يعني: أنه لا يلزم أن يكون معانداً، بل قد يكون مجتهداً بحث فيما يظنه الحق، لكن لأجل هواه، وإيثاره تقليد الآباء والأجداد، وعدم مخالفة الناس أو الملة التي أكثر الناس عليها آثر الباطل, وظن نفسه على الحق فهذا لا يعذر. وقد ذكرنا من قبل أن أدلة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم كأدلة التوحيد سواء بسواء، أدلة كالماء والهواء يجدها كل من طلبها؛ فلا يتصور أن يكون المرء منصفاً باحثاً عن الحق بالفعل ثم لا يصل، وإن لم يصل فبسبب من قلبه ومن إيثار الحياة الدنيا على الآخرة, كما قال تعالى: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ} [هود:109]، لا تظن أنهم يمكن أن يكونوا في مرية منه، أو هم منصفون في البحث عن الحق، وأن هذه هي نتيجة البحث المنصف، ليس هذا متصوراً أبداً، إنما يقع ذلك بسبب الإعراض عن الحق بسبب إيثار الحياة الدنيا، وعدم الإنصاف في البحث عن الحق.

ثبوت الاختلاف لا يثبت تعدد الصواب

ثبوت الاختلاف لا يثبت تعدد الصواب أما وقوع اختلاف التضاد بين المسلمين, وأن الحق واحد في قول أحد المجتهدين, ومن خالفه مخطئ في الأصول والفروع في العقائد والأعمال في الأمور العلمية والأمور العملية؛ فهو الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله عنهم, وعليه أئمة العلم. يريد هنا إثبات وجود هذا الاختلاف, وأن الاختلاف في الأقوال المتضادة ليس كلها مما يسوغ الأخذ به، وهذا يهمنا في مسألة التلفيق بين المذاهب، يعني: هل التراث الإسلامي معناه: كل قول قيل أو وضع في كتاب من الكتب، بمعنى: أن المجتهدين اليوم اقتصر دورهم على فتح الكتب، واختيار المناسب لنا من تلك الأقوال المتضادة المتعارضة، وإن لم يجدوا في هذا المذهب يجدوا في هذا، على هذا ظنهم أن الاختلاف رحمة؛ لأن اختلاف التضاد واقع, وقول واحد هو الحق وما خالفه هو الباطل، هذا ينفي مسألة التلفيق، وأن الناس ليسوا في سعة. نقول: الأصول والفروع والعقائد والأعمال هذه كلها مترادفات -وإن كان هذا الاصطلاح فيه نظر؛ إذ لا ينبغي أن تسمى الأصول بالعقائد، أو بالأمور العلمية، والفروع بالأمور العملية أو الأعمال. الصحيح: أن الأصول هي ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم من أصول الإيمان والإسلام والإحسان، فهذه كلها أصول، ومن الخطأ تأدباً أن نسمي مسألة اعتقادية كمسألة هل الخضر نبي أو ولي؟ مسألة أصلية, ووجوب الصلوات الخمس نسميها مسألة فرعية. وإن قلنا هذا الاصطلاح فلا مشاحة فيه، ولا بأس به، فقولنا: الأصول والفروع نحن نجري فيه معهم على اصطلاحهم، سواء في الأصول أو الفروع، سواء في الأمور الاعتقادية أو الأعمال، فالمجتهد المصيب واحد ومن خالفه مخطئ، وهذا عليه الكتاب والسنة والإجماع وأئمة الأمة، وإن اختلف عنهم في النقل، وستجد هذه المسألة مذكورة في كتب الأصول كلها في باب الاجتهاد, كما سنجد من العلماء من يقول: عندنا في المسألة قولان، والذي يتأمل الأقوال يجد أنه لا يوجد اختلاف في الحقيقة، وأن هناك إجماعاً بين أهل العلم في المسألة, ولكن يقصدون بالمصيب أنه قد أدى ما عليه، وأصاب فيما فعل, بمعنى أنه بذل جهده، لا أنه أصاب الحق الذي هو عند الله, أو أن الحق متعدد كالواجب المخير؛ فحتى وإن اختلف عنهم النقل إلا أن الصحيح من مذاهبهم وقوع هذا النوع، وهو الذي لا يشك فيه من نظر إلى أقوالهم ومناظراتهم، وتخطئتهم بأقوال مخالفيهم إما يقيناً وقطعاً فيما كان دليله قطعياً، وإما ظناً فيما كان دليله ظنياً، ولا شك أننا نجزم بوجود نوعين من الأدلة القطعية والظنية، وبناءً عليها سنحكم على المخالف بأنه مبتدع, أو القول المخالف بدعة، أو أن المخالف قوله خطأ فقط، وهذه الأدلة أيضاً ذكرها ابن قدامة في الاستدلال لهذا المذهب: المصيب واحد ومن خالفه مخطئ. قال تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:78 - 79]، هذه الآية مهمة جداً في إثبات وجود خلاف التضاد في المسائل الاجتهادية, وأن كل مجتهد مصيب وهو واحد، ومن خالفه مخطئ، ومع ذلك لا يذم من خالفه إذا كان قد أدى وسعه؛ لأن الله أثنى على داود وسليمان، وبين أنه فهمها سليمان في قصة معروفة: وهي أن أناساً كان لهم زرع، وكان الآخرين غنم، فنفشت وسرحت الغنم بالليل وأكلت الزرع، فقضى داود عليه السلام بينهم: بأن يأخذ أصحاب الزرع الغنم بديلاً عنه؛ لأن قيمة الغنم كانت تساوي قيمة الزرع، فخرجوا إلى سليمان عليه السلام، فقضى بأن يأخذ أصحاب الزرع الغنم حتى يصلح أصحابه ما أفسدته غنمهم فيأخذون من ألبانها طول تلك المدة إلى أن تصلح الأرض فتعاد إليهم ويعود الغنم إلى أصحابه، قال تعالى: ((فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ))، بحكم أنهما مختلفان. قال: فلو استويا في إقامة الحكم لم يكن لتخصيص سليمان بالفهم معنى، والآية تدل على أن المجتهد الذي بذل وسعه في البحث عن الحق فأخطأه يرفع عنه الإثم، بل يثاب على اجتهاده؛ لأنه سبحانه مدح كلاً منهما وأثنى عليه بقوله: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79]. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر)، رواه مسلم. قال ابن قدامة: وهو حديث تلقته الأمة بالقبول، من رواية مسلم التي لم ينازع فيها، ومع أنه من خبر الواحد لكنه تلقي بالقبول من الأمة ولم ينكره أحد فهذا يفيد العلم القطعي بصحة نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم. يقول: وهو صريح في أنه يحكم باجتهاده فيخطئ ويؤجر دون أجراً المصيب. إذاً: هناك مجتهد مصيب ومجتهد مخطئ، أما المصيب فإنه يأخذ أجران، وأما المخطئ فإنه يأخذ أجراً واحداً. انتهى كلام ابن قدامة. والحديث يرد على القاعدة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قسم المجتهدين إلى نوعين عند الاجتهاد؛ أحدهما مصيب والآخر مخطئ، وهذا صريح جداً في انقسام الاجتهاد إلى خطأ وصواب.

القضاء بحكم نافذ لا يمنع من احتمال وقوع الخطأ فيه

القضاء بحكم نافذ لا يمنع من احتمال وقوع الخطأ فيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار)، متفق عليه. فالحكم هنا سيكون واحداً، والحاكم سيحكم بالظاهر، على سبيل المثال: إذا أتى اثنان من الشهود يشهدان أن فلاناً قتل فلاناً عمداً -والظاهر أنهم عدول- فإن القاضي سيحكم بالظاهر وهو القصاص، فاقتص أهل القتيل، ثم جاء الشهود وقالوا: نحن كنا مخطئين, أو تبين أنهم كذبة, ففي باطن الأمر أن هذا الأمر ليس بحق، وإن كان القاضي أصاب لأنه حكم بالشهود، فهو أصاب في الحكم وأخطأ في الفتوى, وخطؤه سببه الشهود الذين أخطئوا في ذلك. فالرسول صلى الله عليه وسلم يبين أن الحكم في الظاهر وإن كان موافقاً لظاهر الشرع لا يغير الأمر في الباطن، فيقول: (فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقضي له بقطعة من النار)، فهو يبين أنه يحكم في الظاهر بأمر, ولعل باطن الأمر يكون خلاف الحق، وهو حكم به لوجود الشهود والأدلة، أو وجود اليمين، كمن قال: هذا الشيء ملكي, والثاني قال: بل هو لي, فقيل له: هات الشهود، فقال: لا يوجد عندي شهود، فقيل: احلف، فحلف، فالحاكم سيحكم بأن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، فيكون الرجل أنكر وحلف يميناً يستحق به ذلك الشيء، وهو بينه وبين الله كذاب, فالرسول عليه الصلاة والسلام يبين لنا أن هذا لن يحل له الحرام، فهذا دليل على أن هناك خطأ وصواباً في الفتوى كما في الحكم. قال ابن قدامة: أما الإجماع: فإن الصحابة رضي الله عنهم اشتهر عنهم في وقائع لا تحصى إطلاق الخطأ على المجتهدين, من ذلك قول أبي بكر رضي الله عنه في الكلالة: أقول فيها برأيي؛ فإن يكن صواباً فمن الله, وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان. والكلالة: هو من مات ولا ولد له ولا والد, هذا تفسير أبو بكر لها، وهناك اختلاف: هل الكلالة من لا ولد له فقط، أو من لا ولد له ولا والد، وعامة العلماء يوافقون قول أبي بكر، وأما عمر رضي الله عنه فكان متردداً فيه، وظل يقضي بقضاء أبي بكر، وكان ينوي تغييره إلى أنه من لا ولد له فقط، بمعنى: أنه يمكن أن يرث الأخ مع الأولاد, مع أن الآية صريحة جداً ويوجد إجماع على ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم لما سأله عمر عن الكلالة عدة مرات قال: (تكفيك آية الصيف) وهي آخر سورة النساء، فـ أبو بكر رضي الله عنه اجتهد في الكلالة ووافقه عامة العلماء على أن من ليس حوله أحد من عمود النسب لا من أصله ولا من فرعه, فإنه يرثه الكلالة وهم من حوله من الإخوة والأقارب الأخر: {إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:176]، أي: ولا والد، بدلالة أن الأخت لا ترث في وجود الأب ولا الإخوة لأم باتفاق العلماء، فهي فعلاً كافية في أن أقرب العصبة الأب, وبالتالي فلا يرث الإخوة في وجود الأب بالإجماع. قال: وجه ذلك اجتهاداً منهم, ويقول: إن يكن صواباً وإن يكن خطأ. وعن ابن مسعود في قصة بروع بنت واشق مثل ذلك, وهي المرأة التي توفي عنها زوجها ولم يكتب لها صداقاً ولم يدخل بها، فقال ابن مسعود: أقول فيها برأيي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، لها صداق من جهة لا وكس ولا شطط، ولها الميراث، وعليها العدة، فقال معقل بن كنان: قضى رسول صلى الله عليه وسلم في امرأة منا بروع بنت واشق بمثل ما قضيت به، فما فرح ابن مسعود رضي الله عنه بشيء مثل فرحه بهذا الحديث، فـ ابن مسعود قبل أن يقضي كان لا يعرف الحديث، وقال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صواباً فمن الله وإن يكن خطأ فمني، فكان عنده أن الاجتهاد يحتمل خطأ وصواباً. وقال عمر رضي الله عنه في كتابه: اكتب هذا ما رآه عمر، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمن عمر، وقال في قضية قضاها: والله ما يدري عمر أصاب أم أخطأ؟ أي: لا يدري على وجه الجزم، لكنه اجتهد وبذل غاية وسعه، ولا يدري بعد ذلك على وجه الجزم أصاب هو أم أخطأ؟ وغلب على ظنه أن هذا هو الصواب. ذكره الإمام أحمد في رواية بكر بن محمد عن أبيه. وقال علي لـ عمر في المرأة التي أرسل إليها فأجهضت ما في بطنها، ذلك أن عمر رضي الله عنه أرسل لها في أمر، فأرعبت المرأة فأجهضت ما في بطنها، ويحتمل أنها أحدثت شيئاً فبعث إليها يستكشف الأمر فخافت، فاستشار عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان فقال عبد الرحمن: لا شيء عليك، إنما أنت مؤدب, وأنت بعثت لها لترى هل هي تستحق التعزير أم لا، فكونها خافت لا شيء عليك، فقال علي: إن يكونا قد اجتهدا فقد أخطأ, وإن يكونا ما اجتهدا فقد غشاك, عليك الدية، فرجع عمر إلى رأيه، وألزم نفسه الدية لأنه أخاف هذه المرأة لما بعث لها بهذه الطريقة التي فيها نوع من التخويف، فـ عمر وعثمان وعبد الرحمن وعلي بن أبي طالب كلهم يقولون نفس الكلام، فلا يطلب إجماع أكثر من ذلك. وقال علي في إحراق الخوارج -كذا قال ابن قدامة: ولعله يعني الرافضة الغلاة: لقد عثرت عثرة لا تنجبر سوف أريش بعدها أو أستمر وأجمع الرأي الشتيت المنتشر والمشهور الصحيح عنه أنه حرق الرافضة الذين قالوا أنه هو الله، فقال: ويحكم أنا رجل مثلكم, فأصروا على ذلك, فتوعدهم أن يحرقهم بالنار، فأصروا على ذلك, فقالوا: الآن علمنا أنك ربنا؛ لأنه لا يعذب بالنار إلا رب النار، وهذا طبعاً كلام اليهودي عبد الله بن سبأ، وطلبه علي بن أبي طالب فما أدركه، لكنه أدرك أتباعه الذين هم أمثال العلويين حالياً الذين يقولون: علي هو الله, فـ علي أدركهم في زمنه وحرقهم بالنار، فبلغ ذلك ابن عباس وكان قد فارق علياً في ذلك الوقت وذهب إلى مكة، فقال: لو كنت مكانك لما أمرت بحرقهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يعذب بالنار إلا رب النار)، ولأمرت بقتلهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، فقال علي رضي الله عنه لما بلغه قول ابن عباس: ويح ابن عباس، لو أخبرني قبلها وقال: لقد عثرت عثرة لا تنجبر. أي: عندما حرقتهم بالنار. سوف أريش بعدها أو أستمر. أي: سوف أتوقف بعدها أو أستمر. وأجمع الرأي الشتيت المنتشر. يعني: لن أعمل أي شيء حتى آخذ الآراء وأستشير, وهو أصلاً قال لـ ابن عباس: لقد عثرت على خطأ من الأخطاء, لكن أنا لما رأيت أمراً فظيعاً منكراً أججت ناري ودعوت قنبراً -وهو غلامه- لكنني من شدة الأمر ذهلت عن عدم جواز التحريق بالنار. وقال ابن عباس: ألا يتقي الله زيد؟! يجعل ابن الابن ابناً، ولا يجعل أبا الأب أباً، وهذا في مسألة توريث الجد مع الإخوة، وابن عباس رضي الله عنه وأرضاه كان يرى رأي أبي بكر: أن الإخوة لا يرثون مع الجد؛ لأنه أب, والأب باتفاق لا يرث معه الإخوة شيئاً، أما عمر رضي الله عنه وزيد بن ثابت فرأيا توريث الإخوة مع الجد، مع أنهم متفقون على أنه لو كان هناك ابن ابن مع الإخوة فإن الإخوة لا يرثون شيئاً، والحفيد يحوز المال كله، فالقياس يقتضي أن أبا الأب يلحق بالأب مثلما أن ابن الابن يلحق بالابن، فـ ابن عباس يقول: ألا يتقي الله زيد؟! فهذا دليل على الإنكار على من خالف القياس الجلي، مع أن هذه المسألة فيها خلاف سائغ, ولكن ابن عباس يرى أن المسألة فيها قياس جلي جداً، ووافقه أبو حنيفة رحمه الله على أن الجد هو الذي يحوز الميراث ولا يرث الإخوة شيئاً، والجمهور يقول بقول زيد وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن الجد يرث مع الإخوة. فهذه الآثار فيها الإنكار على من خالف الدليل الواضح، وسيستدل بها مرة ثانية على إثبات وجود الخلاف غير السائغ عند من وضح له الدليل وأصبح لديه قياس جلي ينكر على من خالفه ويراه قد أخطأ. وقال ابن عباس: من شاء باهلته في العول، وكان لا يرى العول في المواريث، ومحله حين تزيد الأنصبة المفروضة على الواحد الصحيح، فيكون البسط أكثر من المقام؛ فجمهور الصحابة منهم زيد وغيره يرون أن يجعل البسط مقاماً، فيأخذ كل واحد نصيباً أقل من نصيبه بالنسبة لمجموع الأنصبة. أما ابن عباس فكان يرى أنه من كان يرث في كل حال يبدأ به، ولا يمتنع ميراثه كالابن والابنة والزوج والزوجة، وهذا قول مخالف لعامة العلماء، وكل العلماء هجروه، فـ ابن عباس يقول: من شاء باهلته عند الحجر -أي: أن يجعل لعنة الله على الكاذبين- أن هذا ليس من الشرع، مع أن الراجح والله أعلم أنه أخطأ في ذلك، والحمد لله لم تحصل مباهلة. وسفيان أيضاً كان مستعداً للمباهلة في مسألة رفع اليدين في التكبير في الصلاة عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع والرفع منه، فالذي عنده أن سبعة عشر صحابياً يرويها عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهو مستعد لمباهلة من يقول: لا ترفع اليدين. وقالت عائشة: لمولاة زيد بن أرقم: إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى ا

أنواع الدلالات في النصوص

أنواع الدلالات في النصوص ذكرنا أن من أدلة وجود الاختلاف بين البشر قول الله عز وجل: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105]، وقلنا: إننا سنأخذ من هذه الآية الضابط في بيان الاختلاف الذي ذمه الشرع، وهو ما يخالف البينات، والبينات هي إما نص من كتاب أو سنة صحيحة، ومعنى كلمة نص: ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، ولا نقصد بذلك ورود متن معين، فقد تكون هناك آية يختلف الناس في فهمها، وقد يكون هناك حديث صحيح يختلف الناس في فهمه، أو عدة أحاديث صحيحة يختلف الجمع فيما بينها، فيكون في الباب أو المسألة الواحدة عدة نصوص ليس واحد منها نصاً، بمعنى أنه ليس هناك دليل واحد قطعي الدلالة، وبعضه قد يكون ظني الثبوت أصلاً مثل الحديث المختلف في صحته، فالبعض يصححه والبعض يضعفه, وتكون دلالته دلالة قاطعة، وليس ثبوته ثبوتاً قطعياً فيكون بمنزلة النص. مثال ذلك: حديث عبادة بن الصامت في مسألة القراءة خلف الإمام في صلاة الجماعة: المسألة فيها عدة أدلة قرآنية، منها: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]، احتج به من يقول بعدم جواز القراءة خلف الإمام، وهناك حديث: (إذا قرأ الإمام فأنصتوا)، وحديث: (قراءة الإمام قراءة للمأموم)، وحديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وحديث: (من لم يقرأ بفاتحة الكتاب فلا صلاة له)، وهناك أحاديث كثيرة جداً تدل كل منها على المطلوب دلالة ظاهر قابل لأن يؤول، أو عموم قابل لأن يخصص, وفي الباب حديث عبادة بن الصامت: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في صلاة الصبح لمن سمعه يقرأ خلفه: لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قالوا: إنا لنفعل، قال: لا تفعلوا إلا بأم الكتاب؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها)، فهذا دلالته دلالة نص في أن المأموم يقرأ خلف الإمام في الصلاة الجهرية؛ لأن هذه صلاة جهرية لا يصح فيها ما قاله الإمام أحمد: يقرأ في السرية ولا يقرأ في الجهرية؛ لأن حديث عبادة في صلاة الفجر، إذاً: لا يصح أن تحمل الحديث على شيء غير الذي ورد فيه، ثانياً: لا يصلح أن نقول: هذا للمأموم؛ لأن أبا حنيفة يقول في حديث: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج خداج خداج) يقول: هذا للإمام والمنفرد, ولا يصح الاستدلال بهذه الرواية؛ لأن الخطاب فيها للمأمومين، والحديث دلالته دلالة نص، لكن ثبوته ليس ثبوت نص؛ لأنه ليس متفقاً على صحته، ولا متلقى بالقبول، ومن العلماء من يقبل رواية محمد بن إسحاق، ومنهم من يردها, ومنهم من يقول: صرح بالتحديث, ومنهم من يقول: هذه الرواية شاذة مخالفة للأدلة، ومنهم من يقول: هذا منسوخ، ومنهم من يقول: حديث أبي هريرة أقوى منه، من أجل هذا قلنا: هذه مسألة اجتهادية. دلالة الكلام على المعنى لها أربع مراحل: دلالة نص، ودلالة ظاهر، ودلالة إجمال، ودلالة تأويل. أي: أن درجة وضوح المعنى من اللفظ المتكلم به عند سماعه: إما دلالة لا تحتمل غيرها. واللفظ يدل على هذا المعنى فقط ولا يدل على غيره، فهذه اسمها دلالة نص، وهذه المرادة في هذا الموضوع, كقوله في صيام في من لم يجد الهدي: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة:196]، فسبعة وثلاثة مؤكدة على أن تلك عشرة كاملة، لا تحتمل تسعة ولا أحد عشر ولا أي عدد آخر، فهذه دلالة قاطعة ونص على أنه يلزم سبعة وثلاثة. أما دلالة ظاهر فهي محتملة تؤول، كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282]، الظاهر من الأمر الوجوب، والأمر يستعمل في غير الوجوب، فيستعمل في الاستحباب، والإباحة, والتهديد, والتسوية وغير ذلك. مثل: ((اعملوا ما شئتم))، {قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التوبة:64]، هذا أمر تهديد، {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} [الطور:16]، هذا أمر للتسوية، {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2]، هذا أمر للإباحة، ونحن نقول: ظاهر الأمر الوجوب، ولكن يحتمل غيره، فدلالة الظاهر قابلة لتأويلها، إذا دل دليل من خارجها على أن هذا ليس المقصود، فيحمل على معنى آخر مرجوح لكنه قابل لأن يحتمل. أي: أنه لا يقال: يجب كتابة الدين قطعاً للنص، مع أن الخلاف في هذا سائع؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282]، فنقول: هذه دلالة ظاهر، وأنا معكم في أن ظاهر الآية هكذا، وأن الفريق الآخر هو الذي يحتاج إلى أن يأتي بدليل، ولكني أخالف في أن هذه دلالة قطعية، بل هي دلالة ظنية، وبالتالي فمن يخالف ليس مخالفاً للنص، وبالتالي لن أخرجه من الخلاف السائغ. ولا يأتي أيضاً من يقول: الخلاف في مسألة الشرب قائماً خلاف غير مقبول نهائياً، بعدما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم النهي عن الشرب قائماً، لكن هذا النهي قابل لأن يكون نهي تنزيه وليس للتحريم، فدلالة النهي هنا ليست قاطعة على التحريم، إلا أن ينقلها إلى القطع إجماع أو نص آخر. ولا يأتي آخر ويقول: أقيموا الصلاة أمر ظاهر الوجوب يحتمل الاستحباب بدلالة اللغة، أقول له: لو دلت اللغة فقط لصح قولك، لكن الأمر نقله من كونه ظاهراً إلى كونه نصاً إجماع الأمة المتواتر نقلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أوجب الصلوات الخمس، وأن الذي يخالف في ذلك كافر، فمن يقول: صلاة الصبح سنة، والذي يقول: إن الظهر ليس أربع ركعات كافر وليس فقط مخطئ؛ لأن هذا متواتر بين المسلمين، وبالتالي نقول: إن الدلالة هنا دلالة ظاهر من جهة اللغة وتحتمل غير ذلك، لكنها صارت كدلالة النص بالإجماع المتواتر المعلوم من الدين بالضرورة، وهناك كثير جداً من المسائل رفعت فيها الدلالة من درجة الاحتمال إلى درجة القطع بسبب الإجماع؛ لأن البعض يقول: لا يمكن الوصول إلى الإجماع، ولا يقيد، ولا نحتاج إليه في الشريعة. وهذا كلام خطير جداً, مثال ذلك: لو قال قائل: إن طاعة الرسول ليست واجبة، وإنما هي مستحبة، وأي شيء في السنة مستحب. فنقول: هذا قول مجمع على بطلانه لقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59] وهو أمر بالوجوب. فالإجماع هو الذي يمكن أن ينقل الدلالة من دلالة ظاهر إلى دلالة نص.

ما يكون فيه الخلاف السائغ

ما يكون فيه الخلاف السائغ إن الخلاف السائغ هو ما لا يخالف نصاً من كتاب أو سنة صحيحة، أو إجماع قديم؛ ومعنى قديم: أنه سبق وجود الخلاف, والإجماع الذي يمكن ضبطه هو ما نقله المتقدمون من العلماء بحيث انتشر واشتهر بخلاف الإجماع الذي يدعى مثلاً في العصور المتأخرة، فهذا من العسير جداً إثباته، لانتشار الأمة انتشاراً هائلاً، ووجود كثير من العلماء وغيرهم ممن لا يكون مشهوراً، فكيف يمكن ضبط ذلك؟ إذاً: الإجماع المنضبط هو الإجماع القديم، أو القياس الجلي الواضح والذي تكون العلة فيه ظاهرة. نقول: هذا سواء كان في الأمور العلمية الاعتقادية -وهذا نادر- أو في الأحكام التي هي الأمور العملية، ولعل ندرة المسائل الاعتقادية التي فيها خلاف سائغ ليس عليه دليل ظاهر هو السبب الذي جعل كثيراً من العلماء يبدعون من خالف في مسائل الأصول. يعني: بعض الدعاة يقولون: الخلاف في مسائل العقيدة بدعة وضلال، وفي مسائل الفقه خطأ وصواب، وهذا الضابط غير صحيح، وإن كان بالنظر إلى الأغلب صحيح؛ لأن معظم المخالفين في العقائد مخالفون لأدلة قطعية, ومعظم المخالفين في الأحكام مخالفون لأدلة ظنية، وبالتالي نصحح هذا الكلام تجوزاً، بمعنى أنه في الأغلب الأعم يكون الأمر كذلك، لكن الضابط الصحيح: أنه ليس كل خلاف في العقيدة يبدع المخالف فيه, ولا كل خلاف في الفروع يخطأ فقط، بل يمكن أن يكفر كما لو جاء من قال: الصبح أو الظهر ثلاث ركعات، فمثله لو أصر يكفر. يقول: وذلك لأن معظم المسائل الاعتقادية الكبرى عليها الأدلة القاطعة كتاباً وسنة. والصحيح أيضاً: أن مسائل الإسلام الكبرى عليها أدلة قطعية، مثل الصلوات الخمس وصوم رمضان والزكاة والحج، ومسائل تحريم الربا هي مسائل كبيرة جداً في المعاملات في الإسلام، من أجل هذا قلنا في البداية: ينبغي أن نقول: الأصول هي المسائل الكبرى, والفروع هي المسائل التي ليس عليها دليل واضح. يقول: ومعظم المسائل الاعتقادية الكبرى عليها الأدلة القاطعة كتاباً وسنة، وفيها إجماع الصحابة والسلف منقول ومشهور، ولهذا كان المخالف فيها في الأغلب الأعم مقصراً مستحقاً للعقاب في الدنيا والآخرة، وإلا فالحقيقة لو أن المخالف بذل جهده، ولم يكن في زمنه أو في بلده الدليل الواضح حتى لو كانت مسألة اعتقادية يبدع فيها المخالف قد نعذره، وسيفيدنا هذا الكلام في العلماء الذي نسب إليهم أقوال نجزم أنها بدعة، مثل الإمام النووي الذي يقول في بعض الصفات بالتأويل، وكالإمام ابن القيم الذي يقول بفناء النار -نار الكفار وليس نار الموحدين- وهذا القول نحن نجزم بأنه بدعة وضلالة، بل ربما كان أشد من ذلك، ومع ذلك نقول ابن القيم أخطأ؛ لأنه لم يتضح له الدليل، ولم يكن هناك من يناظره ويوضح له. من أجل هذا قلنا: كان المخالف في الأغلب الأعم، وإلا فأحياناً توجد مسألة عليها أدلة كثيرة لكنها لم تتضح للقائل بخلافها فيكون معذوراً، لكن الأغلب الأعم أن هذه الأدلة كثيرة جداً، والإجماع معروف، وبالتالي فالمخالف مقصر وآثم, ومن أجل هذا قلنا عن الجهم بن صفوان: المبتدع الضال, وقلنا عن الجعد بن درهم: عليه من الله ما يستحق، أو لعنة الله عليه، وقلنا: بشر المريسي الضال المبتدع, وقلنا في المقابل: الإمام النووي رحمه الله, وابن حجر رحمه الله, والغزالي رحمه الله، لماذا؟ لأن الغزالي والنووي قالوا في الحقيقة ببعض قول جهم , مع ما هو معروف عنهم من حرص على اتباع الحق ونصرة السنة, وعاشوا عمرهم على هذا، وفي زمانهم كان التأويل منتشراً جداً، ولا أحد ناظرهم فيه، وردهم إلى الصواب في هذه المسألة، ومن أجل هذا عذرنا مثل هؤلاء مع أن هذه حالة نادرة. فنقول: معظم المسائل الاعتقادية الكبرى عليها الأدلة القاطعة من الكتاب والسنة، وفيها إجماع الصحابة والسلف منقول مشهور, ولهذا كان المخالف فيها في الأغلب الأعم مقصراً مستحقاً للعقاب في الدنيا والآخرة، ولأجل كثرة المسائل التي ليس عليها دليل قطعي في المسائل العملية أطلق الكثير من العلماء أن الخلاف في الفروع اختلاف سائغ ولا يأثم المخالف فيه، وهذا الكلام نقله الشاطبي في الاعتصام، وابن قدامة في روضة الناظر، والغزالي في إحياء علوم الدين، فهم قالوا: إن الخلاف في الفروع خلاف سائغ, فيعذر المخالفون في زماننا والذين قالوا: إن الخلاف في الفروع خلاف سائغ من باب الأولى، وإن كان الكلام هذا ليس ظاهراً.

تقسيم الدين إلى فروع وأصول وما يبنى عليه

تقسيم الدين إلى فروع وأصول وما يبنى عليه يقول: والحق أن هذا التقسيم ليس مرجعه إلى نوع المسألة علمية أو عملية، أصلية أو فرعية وإنما مرجعه إلى وجود النص، أو الإجماع، أو القياس الجلي, والتمكن من معرفته -لأنه قد يوجد نص لكن لا يتمكن من معرفته- لمن كان متمكناً من معرفة الحق فقصر في ذلك؛ فمن كان متمكناً من معرفة الحق فقصر في ذلك فهو آثم سواء كانت المسألة أصلية أو فرعية، اعتقادية أو عملية, وهذا غالب في مسائل الأصول الكبرى كالإيمان بالله وأسمائه وصفاته وربوبيته وألوهيته وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر والإيمان والكفر والوعد والوعيد، وموجود في كثير من مسائل الفقه والأحكام، لكن أغلب فروعها إما لا يوجد له الدليل القطعي أصلاً -قطعي اتفاقاً- أو ليس كل أحد متمكناً من معرفته، فالعاجز عن المعرفة بعد بذل الجهد ليس بآثم اتفاقاً. أما أن يجعل التقسيم إلى أصول الدين وفروعه أصلاً في معاملة المخالف -أصول الدين التي هي المسائل الاعتقادية، والفروع هي المسائل العملية- حسب نوع المسألة المختلف فيها دون نظر إلى وجود الدليل القطعي فيها وتمكن هذا المخالف منه، فخطر عظيم مخالف لأئمة العلم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فأما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول, وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع؛ فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان، ولا أئمة المسلمين، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع, وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم. يعني: رغم أنهم فقهاء كبار، لكن هذا التقسيم الذي سيبنى عليه الموقف من المخالف هل نكفره أو نبدعه أو نعذره عندما جعلوا التقسيم الذي ليس عليه دليل هو الأصل فيكون هذا بدعة فعلاً. يقول ابن تيمية: وهو تفريق متناقض؛ فإنه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطئ فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فإن قال: مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد، ومسائل الفروع هي مسائل العمل، قيل له: فتنازع الناس في محمد صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه أم لا؟ وفي عثمان أأفضل من علي أم علي أفضل؟ هذه كلها مسائل اعتقادية, وفي كثير من معاني القرآن, والراجح أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه ليلة المعراج، بل رآه مرتين في المنام وفي المعراج, وأن عثمان أفضل من علي، فهم متفقون على أن عثمان الخليفة الثالث, ومن يطعن في خلافة عثمان ويقول: لم يكن ينبغي أن يكون خليفة، فهو أضل من حمار أهله، وهو ضال مبتدع يبدع عند أهل العلم في مسألة الخلافة, ولو فضل علياً على أبي بكر وعمر يبدع، لأن ذلك مجمع عليه بالنصوص؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يقدمون أبا بكر ثم عمر كما في البخاري ثم عثمان، وكذا لما سأل علياً رضي الله عنه ابنه محمد بن الحنفية: يا أبت! أي الناس أفضل بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قال: ثم من؟ قال: ثم عمر , قال: ثم أنت، قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين. ويقول علي رضي الله عنه لا يؤتى لي برجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد الفرية ثمانين. من أجل هذا قلنا: من يفضل علياً على أبي بكر وعمر فهو مبتدع ضال يستحق العقاب، بخلاف ما لو فضله على عثمان فهي مسألة اجتهادية, والراجح أن عثمان أفضل, كما أنه مقدم في الخلافة, وذلك أن عبد الرحمن بن عوف وجدهم لا يعدلون بـ عثمان أحداً، وهذا دليل على فضل عثمان على علي رضي الله عنهما, لكن هذه المسألة لا يضلل فيها ولا يبدع. يقول: وفي كثير من معاني القرآن وتصريح بعض الأحاديث هو من المسائل الاعتقادية العلمية. يعني هذا الحديث هل قاله النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ وتفسير هذه الآية على هذا الوجه أم لا؟ وهذه الآية من الصفات أم لا؟ ولا كفر فيها بالاتفاق، ووجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج, وتحريم الفواحش والخمر هي من المسائل العملية, والمنكر لها يكفر بالاتفاق. إذاً: هذا الضابط غير سليم، لذا لو خالف أحد ما في مسألة عملية مجمع عليها فيها نص قاطع فهذه مخالفة ينكر عليه فيها؛ لأن الخلاف فيها ليس خلافاً سائغاً مع أنها مسألة عملية، لذلك تجد بعض من صنف من المعاصرين في مسائل الخلاف يقول: كل الخلاف بين الجماعات الإسلامية خلافات في الفروع، لكن عند البحث تجد اختلافات كثيرة ليست في الفروع, مثلاً: خلافنا مع جماعات التكفير ليس خلافاً في الفروع، حتى لو كان الخلاف في الفروع لكن عندنا فيه نص من كتاب أو سنة، وعليه فلا يجوز المخالفة فيه، وعليه فلا يجوز الخلاف يخالف في مسألة عملية انعقد الإجماع عليها عند السلف, فضلاً أنه من الممكن أن يكون الخلاف بين الجماعات الإسلامية ليس خلافاً فقط في مسائل الفروع، ولو كان فليس هذا هو الضابط الصحيح؛ لأنه قد يوجد خلاف في الفروع ويكون غير سائغ، وسوف نذكر أمثلة على هذا وذاك. فإن قال قائل: الأصول هي المسائل القطعية، قيل له: كثير من مسائل العمل قطعية، يعني: هي من الفروع ودخلت في مسائل الأصول، وكثير من مسائل العلم ليست قطعية، وإنما المسائل العلمية مسائل الاعتقاد، وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية, ومن الممكن أن تكون المسألة فيها بينات لكنها لم تأت، والله سبحانه وتعالى إنما ذم من اختلفوا بعد ما جاءتهم البينات فقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105]. إذاً: لو أن البينات لم تأت الإنسان فلا حرج عليه، مثلاً: النبيذ المختلف فيه بين أهل العراق وبين بقية أهل العلم، وهو مسألة عصير غير العنب إذا أسكر كثيره هل يعد خمراً أم لا؟ فالإمام أبو حنيفة يراه لا يحرم وليس بخمر، ويجوز شرب القليل منه الذي لا يسكر، وجمهور أهل العلم يراه خمراً محرماً، فالمسألة هنا عملية, وعندنا فيها البينات، لكن بالنسبة للإمام أبي حنيفة لم تكن بينة؛ لأن الحديث لم يصله، فيقول: هذه المسألة إضافية. وهذا الكلام لا شك فيه، فبالنسبة للبعض قد تكون قطعية, وللبعض الآخر قد تكون ظنية, وبعضها قد تكون مرجوحة أيضاً، ولكن هذا ليس على إطلاقه، إذ ما من أحد يقول: هذه المسألة لا يبنى عليها, أو يطعن في أي مسألة، فالكلام مبناه على أن الشخص نفسه يتبين لنا بقرائن الحال أنه لم تصله الأدلة القاطعة، وإلا فأي شخص يدعي أي كلام ويقول: هذه المسألة غير قطعية. فهذا كلام في منتهى البطلان, ويؤدي إلى تمييع الدين بالكلية, وإلا فهو نفسه رحمه الله يكفر المخالف للمعلوم من الدين بالضرورة؛ لأننا نقطع بانتشار ووصول العلم لكل أحد، وكلمة بالضرورة، تعني: من غير بحث، بمعنى: أن العلم به منتشر بين الناس. على سبيل المثال: بعض الناس من عدم فهمه يظن أن فهمه للنص قاطع, وهو لا يفهم معنى استعمال أهل العلم لهذه القواعد, وقد أبلغني أحد الإخوة أنه سمع من يقول: أما كلام ابن عباس في اختلاف المطالع فهو رأي فقهي في مقابلة النص من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فهو يريد أن يقول بأن هذه المسألة ليس فيها جدال، مع أن المسألة بلا شك لم تزل مسألة اجتهادية منذ قديم الزمن, ثُم أين النص في كلام النبي صلى الله عليه وسلم؟ فهو فهم النص على أنه خطاب للأمة ككل، والصحابة فهموه على أنه خطاب لمن يسمعه من كل أهل بلد، فهذا ليس نص؛ لأن النص ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً لا تفسيرين، وهذا ليس من ألفاظ العموم فألفاظ العموم لها صور محددة، فلو قلت لمجموعة من الناس: افعلوا كذا. فغيرهم يلتحق بهم من باب القياس عليهم، وليس هذا بلفظ عام، إنما اللفظ العام أن يقول: على المسلمين أن يصوموا كذا، لكن أن يقول: افعلوا كذا. فهذا خطاب لمجموعة من الناس، وهذا الخطاب قد يكون خاصاً بهم, أو عاماً لهم ولغيرهم, أو فيهم معنى معين اختص بهم من أجله استقلوا بموجبه بهذا الحكم، وقد لا يكون في هذا المعنى وإنما الحكم عام، فهذا ليس من فعلهم أصلاً. أنا اقصد: أن كلمة (ظني وقطعي) أمر إضافي ولكن ليس معناه إلغاء أمر الظنية والقطعية بالكلية، بل هذا حسب ورود الدليل، وحسب وصول الدليل للإنسان، وحسب درجة دلالة الكلام على المعنى؛ لأن الكلام له دلالات متفاوتة على المعنى، فهناك كلمة تدل على المعنى مائة في المائة، ولا يوجد لها احتمال آخر، وهناك كلمة تدل على معنى راجح ومعان أخرى مرجوحة, مثل دلالة الأمر على الوجوب، ودلالته على الاستحباب، فلو قلت مثلاً: قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا قبل المغرب) هذه دلالة ظاهرة في الوجوب؛ لأن هناك قرينة؟ قلنا: لا، هذا أمر مستحب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (خمس صلوات في اليوم والليلة)، وقال في آخر الحديث: (وقال في الثالثة: لمن شاء)، فلمن شاء تصرف الأمر للاستحباب. فلفظ الأمر أرجح في الوجوب، لكن يمكن استعماله في الاستحباب، إذاً: الأمر ليس نصاً بالوجوب، ولكن الظاهر فيه الوجوب، فيجب أن أعمل به ما لم يكن هناك ما يخالفه، وقد توجد قرينة تصرفه؛ لأنه نص ولا يحتمل المعنى الثاني أصلاً، لكن لو وجد لفظ يحتمل معنيين أحدهما أرجح من الثاني، فهذا يسمى ظاهر في المعنى الراجح ومؤول، فلا بد لكي أحمله على المعنى المرجوح أو المؤول أن آتي له بدلالة ثانية. وهناك دلالة إجمال: لفظ يدل على أكثر من معنى دلالة متساوية من جهة اللغة، فلكي أحمله على معنى آخر لابد أن آتي له بأدلة من خارج ا

الجمع بين إنكار ابن تيمية لتقسيم مسائل الدين إلى أصول وفروع وبين تقريره لذلك في بعض مصنفاته

الجمع بين إنكار ابن تيمية لتقسيم مسائل الدين إلى أصول وفروع وبين تقريره لذلك في بعض مصنفاته وفي كلام شيخ الإسلام ملاحظتان: إنكاره التقسيم للأصول والفروع مع كونه يذكر هذه التسمية أحياناً ويقررها، ويقول: أصول الدين وفروعه، ولـ شيخ الإسلام رسالة سماها: معالم الوصول إلى أن أصول الدين وفروعه قد بينها الرسول. إذاً: لم ينكر، ويقول: هذا كلام المعتزلة؟ نحن قلنا من قبل: التقسيم الاصطلاحي إذا لم ينبن عليه أحكام فلا حرج فيه، أما لو كان سيبنى عليه حكم فلا بد أن يكون هذا التقسيم شرعياً وليس اصطلاحياً، يعني: تقسيمنا الدين إلى فقه وتوحيد وتفسير، هل هذا تقسيم شرعي أو اصطلاحي؟ اصطلاحي، فقد اصطلح الناس على تقسيم هذه العلوم هكذا، أما تقسيم الشرك إلى أكبر وأصغر فهو شرعي، أي: أن الذي قسمه هو الرسول عليه الصلاة والسلام، فلا يأتي أحد وينكر هذا التقسيم، كشيخ قال في مسألة تكفير تارك الصلاة: هو كفر دون كفر. فمن أين لهم أن يفرقوا ويقسموا الكفر هكذا وهكذا، أستغفر الله! من الذي قال هذا التقسيم؟ من الذي قال: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)؟ من الذي قال: (إنكن تكفرن, قيل: يكفرن ماذا؟ قال: يكفرن العشير)؟ الرسول صلى الله عليه وسلم، فالتقسيم الشرعي هو الذي ينبني عليه تفرقة الحكم، لماذا نحن ننكر مثلاً على من يقسم الدين ويقول: عندنا ثلاثة مسائل هي أركان الدين: النسك والولاية والحكم، كما هو قول السبئية؟ لأنه رتب عليها الحكم، وقال: من يجهلهن فهو كافر. فهذا تقسيم حادث، ولهذا لا يجوز البناء عليه، ولا مشاحة في الاصطلاح طالما نحن لن نبني عليه أحكاماً. ومتى يكون التقسيم شرعياً أو اصطلاحياً؟ عندما تريد تصطلح على شيء من أجل أن تبين المسائل, لا بأس، فأنا سأقسم الدعوة إلى ثلاثة أنواع: توحيد واتباع وتزكية, سيقول شخص: لا هذه بدعة، سأقول له: إذا أنا بنيت على هذا التقسيم حكماً فهذه بدعة، ولو واحد قال لك: لا يجوز أن نزيد على الأقسام الثلاثة، أقول له: هل هذا التقسيم شرعي؟ هذا التقسيم اصطلاحي، والتقسيم الاصطلاحي نرده عندما يتحول إلى شرعي تبنى عليه الأحكام. فنقول: إن إنكار ابن تيمية إنما هو لبناء أحكام التكفير والتبديع، فهو يرده وينكره على نوعية المسألة، إذا كان سيبني عليه أحكاماً علمية أو عملية إذاً سيرده، وليس إنكاراً للتسمية، فإذا لم يترتب على التقسيم حكم شرعي فلا مشاحة في الاصطلاح.

بيان مفهوم الإضافة في كلام ابن تيمية عند كلامه عن المسائل القطعية والظنية

بيان مفهوم الإضافة في كلام ابن تيمية عند كلامه عن المسائل القطعية والظنية الملاحظة الثانية: أن قوله كون المسألة قطعية أو ظنية من الأمور الإضافية، لا يعني به أن كل المسائل يمكن يكون فيها هذه الإضافة، وكلمة إضافي، يعني: يأتي شخص في مسألة ويقول لك: هذه وجهة نظرك. فالبعض يمكن أن يأخذ الكلام ويقول: لا يوجد شيء قطعي في الدين قط؛ وهذا مثل إنكار بعض المبتدعة والزنادقة كل المسائل التي هي معلومة من الدين بالضرورة، فيقولون: هذا عندكم أنتم، ولا يوجد شيء قطعي في الدين وهذا بمنظارهم؛ لأن هذا أمر إضافي، أي: أنه بالنسبة إلي أنا قطعي وبالنسبة إليك أنت ليس بقطعي. وابن تيمية قطعاً لا يجزم بذلك؛ بدليل أنه يقول في كلامه: إنه يمكن أن يكون تارك الصوم والصلاة كافر بالاتفاق. إذاً: الكلام ليس على إطلاقه، فنقول: هناك مسائل يذكر رحمه الله أنها قطعية، ويكفر المخالف لها، كما ذكر هنا الاتفاق على تكفير منكر الصلاة والصيام ونحوها. وهناك بعض المسائل التي قد تكون كذلك بهذه الطريقة قطعية عند البعض وظنية عند البعض الآخر، كما يذكر عن الإجماع: هل هو حجة قطعية أم ظنية؟ فنقول: الصحيح أن قطعيه قطعي وظنيه ظني. والإجماع نوعان: النوع الأول: إجماع معلوم من الدين بالضرورة، فهذا إجماع قطعي وحجته قطعية والمخالف له كافر، مثل: وجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان، ووجوب الإيمان بالله وحده لا شريك له، ووجوب الإيمان بالملائكة إجمالاً. النوع الثاني: إجماع ظني، مثل إجماع العلماء على أن تحديد قدر من الدراهم معدودة لأحد الشريكين أو للمضارب باطل ولا يجوز. فهذا إجماع ظني وبحجة ظنية، لكنه إجماع صحيح فعلاً. ولو قلنا: أجمع العلماء على نجاسة الدم، وعلى إباحة الذهب بأنواعه للنساء، فهذا عند الشيخ الألباني ليس إجماعاً ولا حجة أصلاً، وأنا أقول وأعتقد وأجزم أنه إجماع، وهذا ليس معلوماً من الدين بالضرورة، فالإجماع هذا حجة ظنية، وأنا أخطئ من يخالفه، فالذي يقول: إن الذهب المحلق حرام على النساء أقول له: هذا الكلام بدعة منكرة مخالف للإجماع. والذي يقول: إن الدم ليس نجساً، أقول: إنه مخالف للإجماع. لكن لا أقول للذي يقول هذا القول: أنت ضال، وإنما أقول: هذا القول بدعة، وأعذره.

كلام شيخ الإسلام في حكم من يخالف الإجماع

كلام شيخ الإسلام في حكم من يخالف الإجماع يقول ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (ج19): إن الإجماع المعلوم يكفر مخالفه كما يكفر مخالف النص بتركه، فالذي يخالف القرآن صراحة يكون مثل الذي يخالف الإجماع المعلوم من الدين بالضرورة، وليس لأحد أن يقول: إنه لا توجد مسائل قطعية أو معلومة من الدين بالضرورة؛ لأن هناك أموراً جلية، وهذا القول يلغي باب الردة والكفر أصلاً والعياذ بالله! لأن أي واحد مرتد سيقول لك: هذا اجتهادي في فهم الدين، ولو كان كفراً بواحاً. وخلاصة القول في هذا: أن الاختلاف السائغ هو ما لا يخالف النص من الكتاب أو السنة أو الإجماع القديم أو القياس الجلي، ومعنى النص هنا: ما لا يحتمل إلا معنىً واحداً لا يجتهد في فهمه على وجوه متعددة، وليس مجرد وجود حديث أو أحاديث في الباب، فقد توجد مسألة وتكون دلالتها مكتملة ووجوه الجمع مختلفة والتصحيح والتضعيف محل نظر فلا يكون في المسألة نص.

بيان أنه لا إنكار ولا زجر في مسائل الاجتهاد

بيان أنه لا إنكار ولا زجر في مسائل الاجتهاد يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر ولم يزجر). وهذا الكلام مهم جداً في إثبات وجود اختلاف سائغ؛ لأن بعض المعاصرين أعدوا سيفاً مصلتاً على كل من خالفهم، وزعموا أن من خالفهم فهو مخالف للسنة. والتصفية معناها عنده: أن كل مسألة من مسائل الفقه أو الفروع أو الأصول يكون فيها قول قاطع يلزم به جميع الناس، فيلزمون الناس بتصحيح الأحاديث التي صحت عندهم، وهذا كلام فيه نظر؛ فإن تصحيح الأحاديث نفسه فيه اجتهاد، وبعد تصحيح الأحاديث هناك استنباط، وبعد ذلك هناك وجوه لنواحٍ متعددة، فليس معنى هذا أنك إن صححت الحديث أقفلت باب الخلاف في المسألة، وأن التصفية معناها أننا في كل مسألة فقهية لا بد أن يكون لنا رأي واحد لا يختلف، بل إن بعض الناس ظنوا أن السلفية تقول كذا، فقالوا: السلفية مدرسة الرأي الواحد. وهذا جهل بالسلفية وبالمنهج الصحيح، لكن بعض من ينتسب للمنهج تسبب في ذلك، وكلام ابن تيمية صريح وواضح في أن مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر ولم يزجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه. كما ذكر ذلك في مجموعه (20/ 257). فإن قيل: هل يمكن أن يغير المجتهد رأيه في مسألة ما؟ قلنا: نعم يمكن أن يغير رأيه، لأنه مجتهد، والشافعي في مصر كان على رأي غير رأيه الذي كان عليه في العراق لتغير الأدلة. وقد اتفق الصحابة في مسائل، واختلفوا في مسائل، لكن أقر كل فريق منهم الفريق الآخر على العمل باجتهاده، كمسائل في العبادات والمناكح والمواريث والعطاء والسياسة وغير ذلك، ومسائل الصلوات، كمسألة القراءة خلف الإمام فمنذ أيام الصحابة وهذه المسألة فيها خلاف، وهكذا مسائل الاعتدال والرفع من الركوع، فمنذ أيام الصحابة وفيها خلاف. وهكذا مسائل في النكاح، كمسألة المرأة التي مات عنها زوجها ولم يكتب لها صداقاً. وهكذا مسائل في المواريث، كخلاف الصحابة في ميراث الجد مع الإخوة، ومسألة العطاء، فـ عمر كان يرى تقديم السابقين الأولين على من أتى بعد ذلك، وأبو بكر كان يرى التسوية. وكذا أمور السياسة وأنه يعين هذا أو يترك هذا ونحو ذلك. والذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا معارض له فلا إنكار فيها. ومسائل الاجتهاد هي المسائل التي ليس فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً كحديث صحيح لا معارض له من جنسه. قال ابن القيم في إعلام الموقعين: وقولهم: إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح، فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل. أما الأول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعاً شائعاً وجب إنكاره اتفاقاً، وإن لم يكن كذلك فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله. أي: إنكار مثل الذي مضى، لكن نوعه إنكار يوافق درجة الدليل. قال: وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجة الإنكار. وكيف يقول فقيه: لا إنكار في المسائل المختلف فيها والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا برفض حكم الحاكم إذا خالف كتاباً أو سنة وإن كان قد وافق بعض العلماء؟ وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً.

أدب الخلاف [3]

أدب الخلاف [3] إن الخلاف في المسائل الاجتهادية مما لا يمكن إنهاؤه والقضاء عليه، ولكن مع ذلك فلابد من السعي إلى الإحاطة بأسبابه، والحرص على معالجتها، مع ترسخ القناعة لدينا أن لكل منهجه في الاستدلال والاستنباط، كما أن الاختلاف في المسائل التي يسع فيها الخلاف وقع فيه من هم خير منا، ألا وهم صحابة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ورضي عنهم.

أسباب الخلاف السائغ

أسباب الخلاف السائغ الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا لله، واشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد: ذكرنا أن الخلاف السائغ غير المذموم هو الخلاف فيما لا يصادم نصاً من كتاب أو سنة صحيحة أو إجماعاً أو قياساً جلياً سواء كان هذا في الأصول أو الفروع.

تنوع الأدلة بين قطعية وظنية

تنوع الأدلة بين قطعية وظنية ومن أسباب هذا الخلاف: أن الشرع لم يذكر دليلاً قاطعاً على كل المسائل، بل جعل لبعضها دليلاً ظنياً يحتاج إلى بحث واجتهاد ونظر، يقوم به من حصَّل مقومات الاجتهاد والنظر، فهذا معلوم بالاستقراء لأدلة الشريعة واختلاف العلماء ابتداءً من عصر الصحابة فمن بعدهم. وقد سبق أن ذكرنا نقل الإمام ابن تيمية رحمه الله اتفاق الصحابة على إقرار كل فريق من المتنازعين في مسائل في العبادات والمناكح والمواريث وغيرها للفريق الآخر على العمل باجتهاده، كما في مجموع الفتاوى (19/ 220) حيث قال: (قد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم). يعني أنه يقول: استقرأنا أدلة الشرع ووجدناها تتضمن نوعين من الأدلة هي: نوع قطعي الثبوت والدلالة، ونوع ظني، بمعنى: أنه ليس ثبوته قطعياً كالأحاديث التي من أخبار الآحاد التي لم تتلق بالقبول، بل فيها اجتهاد واختلاف في تصحيحها وتضعيفها. وهناك أدلة أيضاً من الكتاب والسنة دلالتها على المعاني ليست دلالة قطعية، وكما ذكرنا فإن الصحابة عندما اختلفوا وفهم كل منهم المسألة فهماً معلناً، أقر الفريق الآخر على العمل بما فهمه خلاف فهمه، وهذا يدل على أن هناك نوعين من الأدلة وليس كل المسائل عليها دليل قطعي، بل جعل لبعضها دليل ظني.

تفاوت الأفهام

تفاوت الأفهام ومن أسباب الخلاف: أن أفهام العباد متفاوتة مختلفة، وقد فضل الله بعضهم على بعض فيها، فما يدركه هذا لا يفهمه هذا، وما يراه الواحد قد يغيب عن الآخرين، وقد أشار القرآن إلى ذلك بقوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79] فخص سليمان بالتفهيم وبين سبحانه أنه هو الذي فهمه. وطالما أن الأفهام متفاوتة فحينئذٍ لا يمكن مطالبة الجميع بأن يدركوا نفس الأمر. والله عز وجل خص بعض عباده بالتفهيم دون البعض الآخر، ولكنه مدح الآخر أيضاً ولم يذمه؛ لأن عنده حكماً وعلماً كما قال الله: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79]، فهذه الآية فيها دلالات عظيمة.

اختلاف القدرات في البحث

اختلاف القدرات في البحث ومن أسباب الخلاف: أن قدرة العباد على البحث والاجتهاد مختلفة، فعلى سبيل المثال: الأئمة الأربعة، لا شك أن قدرتهم على البحث والاجتهاد هؤلاء أكمل من قدرة غيرهم ممن جاء بعدهم، كما أن عند غيرهم قدرة أيضاً، ولكنهم متفاوتون، ولا شك في وجود التفاوت، فما يقدر عليه البعض يعجز عنه البعض، وكلٌ مكلف بما يقدر عليه، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].

اختلاف طرق التعلم والتعليم

اختلاف طرق التعلم والتعليم ومن ضمن مسائل الاختلاف أيضاً اختلاف طريقة التعلم والتعليم بين علماء المسلمين في بلادهم المختلفة، ولقد جبل الله العباد على التأثر بما تعلموه أولاً، فالذي مشى على مذهب يتأثر بهذا المذهب، فأصحاب عبد الله بن مسعود مثلاً متأثرون بآراء عبد الله بن مسعود، وتلامذة ابن عباس متأثرون بآراء واجتهادات ابن عباس، وأصحاب الشافعي متأثرون بـ الشافعي، وأصحاب أحمد متأثرون بالإمام أحمد؛ فكلهم تأثر بما نشأ عليه أولاً، وهذا أمر فطري معلوم من أحوال الناس. وهذا أدى إلى أن كل أناس يتمسكون بما نشئوا عليه حتى بعد اطلاعهم على الرأي الآخر، لكن طريقة تناوله لهذا الرأي يكون بدرجة من التأثر على ما تعلمه أولاً ونشأ عليه.

استحالة إنهاء الخلاف لا يعني عدم السعي لمعالجة أسبابه

استحالة إنهاء الخلاف لا يعني عدم السعي لمعالجة أسبابه ومعرفة هذه الأسباب ضرورية في إدراك التعامل الصحيح مع هذا الاختلاف؛ لأن البعض يسعى إلى إعدام هذا الاختلاف، ولما نجد أن الأسباب هذه لا يمكن إعدامها، يبقى أن نتأكد أن إعدام الخلاف مستحيل أيضاً، وبالتالي فلا نقول: إنه من أجل أن نصل إلى منهج صحيح للعمل للإسلام أو فهم الإسلام والعمل به فلا بد أن نعدم الاختلاف في كل المسائل وأن يلغى ذلك الاختلاف، فلو استوعبنا أن الخلاف هذه أسبابه، فلنعلم أن الناس يتفاوتون في الفهم، وأن قدرتهم على الاجتهاد وقدرتهم على الاستنباط أيضاً لن تكون واحدة، وكذلك أدلة الشرع نفسها لن نستطيع أن نجعلها كلها نوعاً واحداً، حتى بعد تصحيح ما صح وتضعيف ما ضعف. فالمدارس مختلفة في الاستنباط ولا يمكن إلغاؤها، وبالتالي فلا بد أن نحتمل مثل هذا الاختلاف، والسعي إلى إلغائه مصادمة للواقع والفطرة، بالإضافة إلى اتفاق الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنهم لما حصل منهم الاختلاف ما قالوا: لا بد أن ينعدم الخلاف، ولا بد أن نعمل لقاءً لأهل بدر وبيعة الرضوان حتى ننهي الاختلاف، كل هذا لم يحصل، فهم اختلفوا، لكنهم اختلفوا في رضوان الله سبحانه وتعالى، وهكذا أصحاب المذاهب أيضاً؛ فهذا الإمام مالك كره أن يحمل الناس على الموطأ لما أراد أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس عليه. فإذا علمنا أن هذه الأسباب لا يمكن إزالتها عرفنا أن الاجتهاد في معرفة الصحيح من مسائل الاختلاف وأن يرجح البعض من أهل العلم فيها ما وصل إلى فهمه وعلمه من أدلة وبحسب قدرته على النظر والبحث والاجتهاد علمنا أنه لن يلغي اجتهاد غيره.

بيان أن الترجيح في المسائل الخلافية ترجيح نسبي لا مطلق

بيان أن الترجيح في المسائل الخلافية ترجيح نسبي لا مطلق البعض من الطلاب دائماً يسأل ويقول: ما هو الراجح في المسألة؟ فنقول: إن الترجيح من أي أحد إنما يكون ترجيحاً نسبياً، أي: أنه راجح عند فلان بالمقارنة بفلان، وليس راجحاً مطلقاً، يعني: لا يوجد أحد يعتبر أن رأي الشيخ فلان أياً كان هذا العالم الجليل الفاضل ألغى غيره من الآراء، فإن هذا الشيخ حسم المسألة لكن حسمها بالنسبة إلى اجتهاده هو، والمسألة الخلاف فيها سائغ ولا يكون خلافاً لا يحتمل. فنقول: طالما أن هذه الأسباب موجودة ولا يمكن إزالتها فإنه يبقى اجتهاد البعض وترجيحه من أجل أن يصل إلى الصحيح أمر مطلوب، ولا يعني ذلك إلغاء اجتهاد غيره. وبالتالي لا تضيق الصدور لوجود هذا بين أهل العلم، خاصة بين أهل السنة وأتباع السلف، فكون العلماء يختلفون لا يعني هذا أن المسألة غير محتملة بالنسبة لنا، الأمور ضيقة جداً فيها، كما يحدث لدى كثير ممن تعود السؤال دائماً عن الراجح بين الأقوال، وظن أن كل مسألة فيها قول راجح مطلقاً، وأن الترجيح هو ترجيح نهائي بالنسبة إلى الشرع لا بالنسبة إلى رأي فلان، ولم يتفطن أنه راجح عند فلان ومرجوح عند غيره. ولا شك أن السؤال عن الراجح من الأقوال والأدلة أمر محمود من طالب العلم ودليل على ورعه وعدم حرصه على تعدد الأقوال لينتقي بشهوته أطيبها وأقربها إلى رغبته كما يفعل كثير من الجهلة فإنه يفرح بتعدد الآراء حتى ينتقي منها ما يريد، فهو يبحث عن الراجح من أجل أن يعمل به، وهذا ليس سؤالاً يذم صاحبه عليه. فطالب العلم الذي يسأل عن الراجح لا نقول له: ما لك وللراجح؟ بل هذا أمر مطلوب؛ لأنه لا بد أن يعمل بناءً على هذا الراجح. ولكن لابد من تعميق فقه مسائل الاختلاف السائغ عند طالب العلم، فنقول له: هذا الراجح عند فلان ليس هو الراجح مطلقاً؛ لكيلا يلزم الناس بعدم مخالفته أو يشدد عليهم إذا وقعوا في مخالفته.

فائدة معرفة الخلاف السائغ من غيره

فائدة معرفة الخلاف السائغ من غيره إننا عندما نقول: إن هذا خلاف سائغ، بالتالي لا ينكر على المخالف فيه، ولكن لابد أن يكون منضبطاً بالقواعد حتى أقصى درجات الإنكار، والتي منها النصح والمناظرة على حسب درجته في العلم، وذلك حتى لا تدخل عنده هذه القضية في قضية البغض في الله، والمعاداة في الله رغم اتفاق السلف على خلاف ظنه. فهذه القضية لن توصلنا إلى التعالي، ولن توصلنا إلى أن يبغض بعضنا بعضاً. وسنذكر أمثلة في الخلاف السائغ في المسائل الاعتقادية والمسائل العملية التي لا تجعلنا نفترق ويبدع بعضنا بعضاً، وبالتالي لا نصل إلى المعاداة في ذلك. فالقضايا التي تدخل في البغض في الله والمعاداة في الله هي قضايا الخلاف غير السائغ، وذلك مثل قضايا الكفر والردة التي هي في الحقيقة جزء من قضايا الخلاف غير السائغ. فمثلاً: نحن خلافنا مع اليهود والنصارى خلاف غير سائغ، ومن أجل ذلك نبغضهم في الله عز وجل. والأدلة الظنية هي التي تحتمل عدة وجوه في الفهم وبعضها أظهر من بعض، وهناك أدلة تحتمل عدة وجوه في الجمع بينها، من أجل هذا نقول له: ليس هناك دليل قاطع في المسألة، فعندنا عدة أدلة تحتمل أن هذا منسوخ بهذا وأن هذا مخصص بهذا. فمحتمل أن يكون هذا الدليل ناسخاً وهذا منسوخاً، ويحتمل أن يكون هذا خاصاً وهذا عاماً وهذا مطلقاً وهذا مقيداً، وهكذا. فإن قيل: لماذا لا يمكن توحيد الأمة على قول واحد؟ قلنا: لاختلاف الأفهام، ومعرفة أنه لا سبيل لإزالة أسباب الخلاف، وهذا يجعلنا لا نحاول السير في طريق يتمناه البعض؛ لقلة فهمه لهذه المسائل، ولقراءته لواحد من أهل العلم أو تلقيه منه دون غيره، فهو يتمنى توحيد الأمة في كل المسائل على قول واحد. فيقولون: نريد أن نوحد الأمة ككل. والبعض يتهم السلفيين بذلك، مثل يوسف القرضاوي صاحب كتاب الفقه بين أهل الحديث وأهل الرأي، فإنه يقول: يُتهم السلفيون أنهم أصحاب مدرسة الرأي الواحد، فالذي يقول: إن السلفيين ليس عندهم غير رأي واحد، هذا يكون قد ظلم المنهج وظلم عموم السلفيين. وقد يقول البعض ممن لا يدرك هذه المسألة: إن أي مسألة لا بد أن نصل فيها إلى حل. ويقصد بالحل: قول واحد لا يحتمل غيره. فالمسألة هذه صار فيها مفاصلة ومفارقة وحب وبغض بناءً على كل مسألة من المسائل التي يحققها بعض العلماء، بل بعض المسائل كتبت فيها مجلدات، فمثلاً: مسألة واحدة تكون مكتوبة في أكبر كتب الفقه في صفحتين أو ثلاث، والبعض يتحدث عنها في مجلد مثلاً! فنقول: هذا الكلام ليس بصحيح، والمنهج السلفي لا يدل على ذلك، فكيف تقول: إننا مدرسة الرأي الواحد، وإنه ممنوع عندنا تعدد الآراء والاجتهادات؟ هذا ليس بصحيح قطعاً. فالسلف منذ أيام الصحابة متفقون على وجود عدة آراء في بعض المسائل التي حددنا حدها وتعريفها، وليس الكلام على إطلاقه؛ لأنه ليس كل مسألة تحتمل الاختلاف. والخلاف السائغ الذي ضبطناه هو: ما لا يصادم نص الكتاب والسنة ولا نص الإجماع القديم ولا القياس الجلي، وهذا هو الذي نحن نقبل فيه الخلاف، وبالتالي فهذه المحاولة قد يتعمق فيها بعض المنتبهين من طلاب العلم حين يجدون كثيراً من العلماء -خاصة بعض المعاصرين- ينتصر لقول مضعفاً لما سواه، بل ربما لا يشير إلى الخلاف أصلاً فضلاً عن الإشارة إلى درجة الخلاف، وليس هو كالمتقدمين من السلف الذين يذكر أحدهم الآراء ويقول: وقال فلان: كذا، وقال فلان: كذا، ويرجح بعد ذلك رأيه الذي ينتصر له، وذلك موجود في أي كتاب فقه مقارن أو كتاب فقهي مذهبي تعرض لآراء المذاهب الأخرى، مثل: المجموع للنووي والمغني لـ ابن قدامة ونيل الأوطار، فهم يذكرون الأقوال الموجودة في المسألة ثم يرجحون فيها ما يرونه موافقاً للشرع بحسب رأيهم. وهذا بخلاف كثير من المعاصرين، فالرأي عند أحدهم رأي واحد، ولا يذكر الخلاف فضلاً عن أنه يشير إلى درجة الخلاف وأنه خلاف سائغ أو غير سائغ.

مسلك العلماء المتقدمين والمتأخرين في مسائل الخلاف

مسلك العلماء المتقدمين والمتأخرين في مسائل الخلاف لا شك أن هذا المسلك -الذي هو مسلك محاولة توحيد الأمة في كل المسائل على قول واحد- مسلك ما سلكه أحد من أهل العلم، بل المشهور عنهم رده على من طلبه منهم. روى ابن عساكر أن أبا جعفر المنصور سأل الإمام مالكاً رحمه الله أن يحمل الناس على كتابه الموطأ، فقال له: لا تفعل هذا؛ فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث وروايات، وأخذ كل قوم منهم بما سبق إليهم وعملوا به، ودانوا به، من اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وإن ردهم عما اعتقدوا شديد، فدع الناس وما هم عليه وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم. فكلام الإمام مالك هذا كلام جميل جداً، لا بد أن يكون منا على بال، فمع أن كتابه هو الذي كان يعرض عليه أن يلزم به من في المشارق والمغارب، ولكن مع ذلك رفض الإمام مالك رحمه الله ذلك ورأى أنه فتنة. ولذلك فإن الذي لا يستوعب وجود الخلاف السائغ يجد المشاكل حادة جداً وتحصل فتن بين البعض والبعض مثلما حصل في بعض البلدان قديماً، فشيخ الإسلام ابن تيمية جاءت له مسألة معرضة للفتنة والتبديع بين أهل قريتين في مسألة رؤية الله عز وجل في الآخرة وهل يراه المنافقون وأهل الموقف جميعاً أم المؤمنون فقط؟ فـ ابن تيمية رد عليهم وقال: هذه المسألة مما لا يقتضي النزاع فيها، والمسألة فيها خلاف سائغ. ورجح رؤية أهل الموقف جميعاً، لكن قال: المسألة مما لا يضلل فيها. وهكذا المشايخ المعاصرين أيضاً، فقد حصل في بعض البلاد مسألة الترجيح والتضليل في مسألة وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر بعد الرفع من الركوع. وسئلت لجنة الفتوى سؤالاً نص فيه على أنه حصل أن البعض قرأ كلاماً للشيخ الألباني أنه بدعة وضلالة والبعض قرأ للشيخ ابن باز أنه سنة وحصلت بينهم فتنة بسبب ذلك؟ فأفتت اللجنة بأن هذه المسألة لا يجوز أن يكون فيه اختلاف يؤدي إلى التباغض والفتنة التي تقع، بل حتى لو أن إنساناً رأى أن هذه بدعة ومن يفعلها على ضلالة فهذا لا يخرجها عن الخلاف السائغ، إذ ليس كل البدع متفق على بدعيتها، فهناك بدع متفق عليها وهناك بدع مختلف فيها.

نوع الخلاف في البدع المختلف فيها

نوع الخلاف في البدع المختلف فيها إن البدع المختلف فيها تدخل تحت الخلاف السائغ، فمن الناس من يرى بدعية وضع اليد اليمنى على اليسرى بعد الرفع من الركوع، ومنهم من يراها هي السنة المشروعة، ومنهم من يرى بدعة الاعتمار من التنعيم، والبعض يرى أنها سنة مستحبة، فمثل هذا الخلاف مما يسوغ فيه الاجتهاد. وسنذكر أمثلة للخلاف السائغ، وهذه الأمثلة فيها صعوبة لدى الكثير خاصة في المسائل الاعتقادية، ومنتشرة كثيراً في المسائل العملية، لكن المسائل الاعتقادية والعلمية يندر في أصولها هذا النوع، خاصة في المسائل الكبرى منها كأصول الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره؛ والأسماء والصفات والربوبية والألوهية. فهذه كلها من الأصول الكبرى وكلها من المعلوم: إما من المعلوم من الدين بالضرورة، أو المجمع عليه بين أهل العلم، والمقصود بالمعلوم من الدين بالضرورة: هو ما انتشر علمه بين المسلمين حتى علمه العام والخاص والعالم والجاهل. أما المجمع عليه بين أهل العلم: فهو الذي يعرف العلماء الإجماع فيه، وإن لم يكن منتشراً بين عوام المسلمين، فهناك أشياء مجمع عليها، لكن ليست منتشرة بين العوام، فالمسائل المجمع عليها بين أهل العلم غير معلومة من الدين بالضرورة. فمثلاً: أجمع العلماء على أن القول بخلق القرآن كفر، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وهذا مجمع عليه، لكن هذه المسألة ليست منتشرة بين العوام، واسأل أي واحد في الشارع فلن تجده يعرفها. لكن القول بأن الله واحد، وأن القرآن كلام الله، وأن جبريل هو الذي أتى بالوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى رسول الله، وأن موسى رسول الله، وأن إبراهيم خليل الله ورسوله؛ كل هذا مجمع عليه بين العلماء وهو معلوم من الدين بالضرورة. فكل الناس تعرف أن سيدنا إبراهيم نبي ورسول، وكلهم يعرفون سيدنا موسى وسيدنا عيسى، ويعرفون القيامة والجنة والنار، ولو جاء واحد يخالف شيئاً من هذا، لقلنا له: هذا كفر -والعياذ بالله- فهناك أشياء مجمع عليها وإن لم تكن مما يعلمها عوام الناس، كأنواع الشفاعة، فإنه مجمع على أنه يوجد شفاعة لخروج العصاة الموحدين من النار، لكن هذا ليس معلوماً من الدين بالضرورة في زماننا هذا، بل حتى في الأزمنة القديمة.

أمثلة على الاختلافات السائغة بين أهل العلم

أمثلة على الاختلافات السائغة بين أهل العلم إن البدع المختلف فيها تدخل تحت الخلاف السائغ، فمن الناس من يرى بدعية وضع اليد اليمنى على اليسرى بعد الرفع من الركوع، ومنهم من يراها هي السنة المشروعة، ومنهم من يرى بدعة الاعتمار من التنعيم، والبعض يرى أنها سنة مستحبة، فمثل هذا الخلاف مما يسوغ فيه الاجتهاد. وسنذكر أمثلة للخلاف السائغ، وهذه الأمثلة فيها صعوبة لدى الكثير خاصة في المسائل الاعتقادية، ومنتشرة كثيراً في المسائل العملية، لكن المسائل الاعتقادية والعلمية يندر في أصولها هذا النوع، خاصة في المسائل الكبرى منها كأصول الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره؛ والأسماء والصفات والربوبية والألوهية. فهذه كلها من الأصول الكبرى وكلها من المعلوم: إما من المعلوم من الدين بالضرورة، أو المجمع عليه بين أهل العلم، والمقصود بالمعلوم من الدين بالضرورة: هو ما انتشر علمه بين المسلمين حتى علمه العام والخاص والعالم والجاهل. أما المجمع عليه بين أهل العلم: فهو الذي يعرف العلماء الإجماع فيه، وإن لم يكن منتشراً بين عوام المسلمين، فهناك أشياء مجمع عليها، لكن ليست منتشرة بين العوام، فالمسائل المجمع عليها بين أهل العلم غير معلومة من الدين بالضرورة. فمثلاً: أجمع العلماء على أن القول بخلق القرآن كفر، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وهذا مجمع عليه، لكن هذه المسألة ليست منتشرة بين العوام، واسأل أي واحد في الشارع فلن تجده يعرفها. لكن القول بأن الله واحد، وأن القرآن كلام الله، وأن جبريل هو الذي أتى بالوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى رسول الله، وأن موسى رسول الله، وأن إبراهيم خليل الله ورسوله؛ كل هذا مجمع عليه بين العلماء وهو معلوم من الدين بالضرورة. فكل الناس تعرف أن سيدنا إبراهيم نبي ورسول، وكلهم يعرفون سيدنا موسى وسيدنا عيسى، ويعرفون القيامة والجنة والنار، ولو جاء واحد يخالف شيئاً من هذا، لقلنا له: هذا كفر -والعياذ بالله- فهناك أشياء مجمع عليها وإن لم تكن مما يعلمها عوام الناس، كأنواع الشفاعة، فإنه مجمع على أنه يوجد شفاعة لخروج العصاة الموحدين من النار، لكن هذا ليس معلوماً من الدين بالضرورة في زماننا هذا، بل حتى في الأزمنة القديمة.

الخلاف في رؤية النبي لربه في الدنيا

الخلاف في رؤية النبي لربه في الدنيا إن المسائل الكبيرة واضحة، لكن يوجد في بعض تفاصيل ذلك بعض الاختلافات السائغة، كما أشار إليها العلماء، وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله من ذلك: الخلاف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه، والخلاف في تفضيل عثمان على علي، وقال: إن هذه لا يبدع فيها ولا يضلل بالاتفاق. ومن ذلك: هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج؟ وما الراجح في هذه المسألة؟ والراجح فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه بقلبه ولم يره بعينيه، ولكن الخلاف فيها سائغ.

الخلاف في تفضيل عثمان على علي

الخلاف في تفضيل عثمان على علي والخلاف في تفضيل عثمان على علي، خلاف سائغ، والراجح فيه تفضيل عثمان، ولا نزاع في الخلافة، فالخلافة يضلل فيها المخالف، لكن الخلاف السائغ في مسألة تفضيل عثمان على علي، فالجمهور على تفضيل عثمان، ولا يضلل من فضل علياً.

الخلاف في تفسير قوله تعالى (فثم وجه الله)

الخلاف في تفسير قوله تعالى (فثم وجه الله) ومن هذا النوع أيضاً الخلاف في تفسير بعض آيات القرآن، ومنها ما يتعلق بالأسماء والصفات، كقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] فبعض العلماء يقول: إن هذه من الصفات، ويذكرها في إثبات صفة الوجه، والبعض الآخر -وهم الجمهور- يقولون: إن هذه ليست من آيات الصفات. فعن عكرمة عن ابن عباس: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] قال: قبلة الله، أينما توجهت شرقاً وغرباً، ونحوه عن مجاهد، ويشهد لهذا ما ذكر في سبب نزولها. فالوجه على هذا التفسير: الوجهة، ونسبته إلى الله إضافة تشريف، والمعنى: الوجهة التي يتوجه بها إلى الله، كما يقال: سرت في هذا الوجه وسار فلان في هذا الوجه، فليست من آيات الصفات، واحتج بها غير واحد من علماء السلف على إثبات صفة الوجه لله سبحانه وتعالى، وأن هذه من آيات الصفات، والراجح أن هذه آية من آيات الصفات، لكن الخلاف سائغ. وهذا اختلاف اعتقادي؛ لأن مرده إلى أمر علمي ليس عليه عمل، ومع ذلك فالخلاف فيه سائغ، فالاختلاف في فهم معاني القرآن كلها داخل في الأمور العلمية الاعتقادية، وتفسير القرآن كله من الباب العلمي؛ لأنه ذكر معنى كلام ربنا الذي هو صفة من صفاته، فكون أنني أفهم هذا اللفظ من الكتاب على هذا الوجه، وأعتقد صحته أمر اعتقادي، وهذا أكثره خلاف سائغ، وأكثر الخلاف بين المفسرين خلاف سائغ.

الخلاف في عصمة الرسل من الصغائر غير المزرية

الخلاف في عصمة الرسل من الصغائر غير المزرية ومنها اختلاف العلماء في عصمة الرسل من الصغائر غير المزرية، وهو أمر اعتقادي، والخلاف فيه مشهور، فالعلماء متفقون على عصمتهم من الكفر، ومتفقون على عصمتهم من عدم إتمام تبليغ الرسالة، وأنه لا يوجد أحد منهم يكتم التبليغ، ومتفقون أيضاً على عصمتهم من الكبائر، ومن الصغائر المزرية التي تزري بقدرهم، والتي تنفر الناس من اتباعهم. واختلفوا في الصغائر غير المزرية، فرجح طائفة -منهم شيخ الإسلام ابن تيمية - عدم عصمتهم منها ابتداءً، ولكن يتوبون أي: أنهم معصومون من الإصرار عليها، يعني: يمكن أن تقع منهم ابتداءً لكن لا يصرون عليها، بل يتوبون منها؛ احتجاجاً بظواهر الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121] وقال عن موسى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:16] وقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2]. وفي حديث الشفاعة أن كلاً من أولي العزم من الرسل يذكر خطيئته التي أصاب ما عدا عيسى صلى الله عليه وسلم. ورجحت طائفة أخرى عصمتهم من تعمد جميع الذنوب، وأن ما ورد في تسميته ذنباً هو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، ونسبه النووي إلى طائفة من المحققين، ورجحه القرطبي وابن حزم. فهذا خلاف سائغ كما عرفنا، والذي أرى أن الراجح فيها عصمتهم من الصغائر والذنوب كلها، وأنهم لا يتعمدون فعل شيء منها، فمعصية آدم كانت نسياناً، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:115]، وقتل موسى كان خطأ، فالخطأ والنسيان وارد، وهو متفق على عدم عصمتهم من النسيان، وكذبة إبراهيم كانت تعريضاً، وذنب محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان غيناً على قلبه، وقد قال: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة). والغين هذا فتور عن الذكر فقط، وخطأ غير مقصود في الاجتهاد، مثل قول الله في الرسول صلى الله عليه وسلم: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1 - 2]، فذنوب النبي عليه الصلاة والسلام عبارة عن خطأ في الاجتهاد وفتور عن الذكر وليست تعمداً لفعل معصية، ومن أدلة هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن يطع الله إن عصيته)، رواه مسلم. هذا دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو عصى ربنا فما أحد سيطيعه، وهذا لا يمكن حصوله؛ لأن ربنا قال: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181] إذاً: لابد أن يوجد من يطيع الله، وإذا كان الرسول سيعصي فما أحد يطيعه، وهذا لن يحصل، إذاً: الرسول لا يعصي.

الخلاف في نبوة الخضر

الخلاف في نبوة الخضر ومنها اختلافهم في الخضر هل هو نبي أم لا؟ وهذه مسألة الراجح فيها الوقف، ورجح ابن حجر أنه نبي لقوله تعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82] ولسد باب الزندقة في ادعاء الخروج عن الشريعة، وتفضيل الأولياء على الأنبياء. فإن قيل: الراجح أن الخضر نبي؛ لأنه أوحي إليه ولا يوحى إلا إلى الأنبياء؟ فنقول: هو وحي بالتأكيد، لكن ليس شرطاً أن يكون وحياً مباشراً، فيمكن أن يكون هناك نبي في زمنه أوحى الله إليه أن يأمر الخضر بذلك. وهذا أمر فيه خلاف، والأدلة فيه غير قطعية، فلو قال واحد: الخضر ليس نبياً، فباتفاق العلماء لا يكفر ولا يضلل ولا يبدع، لكن شرط أنه يلتزم بعدم جواز الخروج عن الشريعة؛ لأن هذا الكلام وارد في زمن سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام، حيث لم يوجد نبي تلزم شريعته جميع أهل الأرض كالنبي صلى الله عليه وسلم. وجاء في نواقض الإسلام أن من ظن أن أحداً يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر أن يخرج عن شريعة موسى كفر. فالحقيقة أن هذه المسألة الأدلة فيها أدلة غير قطعية بل هي أدلة احتمالية، بخلاف أدلة نبوة موسى وإبراهيم ومحمد صلى الله عليهم وسلم التي من يكذب بها يكفر بلا نزاع.

الخلاف في نبوة مريم

الخلاف في نبوة مريم وهكذا الخلاف في مريم هل هي نبية أم لا؟ فيها خلاف، وهل هناك أنبياء من النساء أم لا؟ قد قال بكل واحد من القولين فريق من علماء أهل السنة، والخلاف في مريم نقله ابن تيمية والنووي فنقلاً عن جماهير العلماء أنها ليست نبية؛ احتجاجاً بقوله تعالى: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة:75] وقالوا: هذا في مقام الثناء، ولو كان لها وصف ثانٍ لوصفت به. وهذا لا يلزم، لأنه من الممكن أن يثنى على إنسان بوصف أقل، مثل قوله تعالى في إبراهيم: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم:41] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم:41] فهذا لا ينفي أنه خليل الرحمن. ويستدل له أيضاً بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [يوسف:109] فهذا يدل على أنه لا يوجد رسل من النساء. ونقل القرطبي والقاضي عياض عن الجمهور عكس ذلك، فالمغاربة ينقلون عن الجمهور أنها نبية، والمشارقة ينقلون عن الجمهور أنها ليست نبية، والأمر فيه خلاف سائغ، والذي رجحه ابن حزم أنها نبية. ودليل ابن حزم أنها تلقت الخطاب من روح القدس جبريل عليه الصلاة والسلام بأمر الله. ولكن هذا ليس شرطاً أيضاً، فمن الممكن أن يسمع الإنسان الملك ولا يكون نبياً؛ فالنبوة شيء آخر. والراجح فيها الوقف، والوقف معناه: أننا لا نرجح أحد القولين، والحقيقة أن هذا قول ثالث؛ لأننا نقول: إن البشر لا يعرفون هذا الموضوع، والأمر مربوط علمه بالله فنفوضه. وهذه مسائل اعتقادية بالتأكيد. فمن يخالف في نبوة سيدنا موسى وفي نبوة سيدنا عيسى يكفر؛ لأن هذه مسائل اعتقادية قطعية.

الخلاف في رؤية أهل الموقف لله عز وجل

الخلاف في رؤية أهل الموقف لله عز وجل ومنها الخلاف في رؤية الله في الآخرة: هل هي خاصة بالمؤمنين أم يراه أهل الموقف جميعاً ثم يحجب عن الكفار؟ فالعلماء متفقون على أن هناك حجاباً عن الكفار، لكن هل يراه أهل الموقف جميعاً أم يراه المؤمنون والمنافقون ثم يحجب عن المنافقين أم يراه المؤمنون ويحجب عن المنافقين؟ في المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول: يراه أهل الموقف جميعاً. القول الثاني: يراه المؤمنون والمنافقون. القول الثالث: يراه المؤمنون فقط. وإنما انعقد إجماع أهل السنة على رؤية المؤمنين ربهم. والتبديع إنما هو في قول من قال: لا أحد يرى ربه، أو قال: إن المؤمنين لا يرون ربهم، أو قال: إن الله لا يرى في الآخرة. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية هذه الأقوال وذكر أن هذه المسألة مما لا توجب العداوة، ومال رحمه الله إلى ترجيح أن جميع أهل الموقف يرونه لحديث مسلم عن أبي هريرة قال: (قيل: يا رسول الله: هل نرى ربنا يوم القيامة)، الحديث. وفيه قال: (فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما -يعني: الشمس والقمر- فيلقى العبد فيقول: أي فل فلان ألم أكرمك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ -يعني: تصبح رئيساً، وتأخذ المرباع، وهو ربع الغنيمة- فيقول: بلى، فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: فإني أنساك كما نسيتني). وهذا القول هو خلاف قول الجمهور، بل بعض العلماء ممن لم يطلع على الخلاف يقول: إن هذا قول لا يقوله أحد من أهل السنة. فقد ذكر النووي في شرح مسلم هذا الموضوع وقال: ليس من قول أهل السنة القول برؤية جميع أهل الموقف. وهذا القول رجحه ابن القيم في حادي الأرواح. والجمهور على أنه لا يراه إلا المؤمنون، ونقل هذا النووي في شرح مسلم عن أهل السنة، وضعف غيره؛ وذلك لقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]. والذي يقول بعدم الرؤية يقول: سيلقى العبد ربه واللقاء لا يستلزم الرؤية. ونقول: الآية دلت على وجود المانع. وقال الآخرون: نحن نقول بظاهر الحديث، ونقول: إن قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] أي: بعدما يلقونه؛ ليعلموا أن لقاء الله حق كما قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل:39]. ووجه الجمع هذا أولى وأليق بظاهر الحديث، وأما قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] فمحمول على أنهم يحجبون بعد أن يروه. وقالوا: هذا لا يرد على القول الأول؛ لأنهم يرونه، ثم يحجب عن الكفار والمنافقين، ورؤيتهم أول مرة ليست رؤية تكريم بل ليوقنوا بلقائه، كما قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل:39]. فإن قيل: وهل اللقاء يستلزم الرؤية؟ فنقول: اللقاء لا يستلزم الرؤية على الراجح، وهذا اللقاء رتب الرسول صلى الله عليه وسلم الرؤية عليه، فقال بعد أن ذكر الرؤية: (فيلقى) وهذه الفاء تدل على أنهم يرونه عندما يلقونه.

الخلاف في تسمية أفعال الرب حوادث

الخلاف في تسمية أفعال الرب حوادث ومنها الخلاف في تسمية أفعال الرب حوادث، وهل يصح أن نقول: إن فعل الرب حادث، كما في قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2] فالذي قال فيه: إنه حادث، قصد أنه قديم النوع حادث الأفراد، فتسمى حادثة مع الإجماع على أنها ليست مخلوقة، وأن حدوثها ليس كحدوث المخلوقين، وهذا نص ترجمة الإمام البخاري في كتاب التوحيد، فقال: باب قول الله: ((مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ)) وأن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين، فهذا ترجيح من الإمام البخاري لتسمية أفعال الرب بأنها بالحوادث. وقال قوم: كلام الله ليس بمحدث، وابن تيمية يقول: هو محدث وليس معنى محدث، عندهم أنه مخلوق، لكن معناه: أن الله تكلم به في وقت معين، فكلم الله به موسى حين كلمه ولم يكن كلمه قبل ذلك، أو بمعنى أنه محدث إلينا. فالإمام البخاري ذكر هذا في هذه الآية، فلا يلزم من كونه محدثاً أن يكون مخلوقاً؛ لأن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين، فالإمام البخاري وابن تيمية وابن القيم رحمهم الله قالوا: إن أفعال الرب تسمى حادثة. وغلطوا من قال: حادث بعد أن لم يكن، وقالوا: هو قديم النوع حادث الأفراد. إذاً: فالخلاف في المسألة خلاف سائغ، مع أنها مسألة اعتقادية.

الخلاف في مسائل التكفير

الخلاف في مسائل التكفير ومنها الخلاف في كثير من مسائل التكفير، وأن هذا يكفر أو لا يكفر، وهذه المسألة اعتقادية، وينبني عليها كثير من أحكام الولاء والبراء، والحب والبغض، وهذه من مسائل التوحيد، ومع ذلك فقد ثبت فيها الاختلاف السائغ باتفاق أهل العلم بحيث لا يضلل المخالف.

الخلاف في مسألة تكفير تارك الصلاة

الخلاف في مسألة تكفير تارك الصلاة ومنها مسألة تكفير تارك الصلاة، فالمسألة هذه باتفاق العلماء خلافها خلاف سائغ، رغم أن هناك من يفتي أن الخلاف فيها غير سائغ، وأن المخالف فيها من أهل البدعة، والصواب: أن الخلاف فيها سائغ، لا ينكره إلا من لا يعلم الخلاف. فتارك الصلاة ذهب إلى تكفيره أحمد في رواية وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن المبارك وغيرهم وذهب الجمهور مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد في رواية أخرى وقبلهم الزهري وعمر بن عبد العزيز وغيرهم إلى أنه كفر لا ينقل عن الملة، مع الاتفاق على أن من تركها جاحداً بوجوبها فهو كافر إن كان مثله لا يجهل ذلك. فالخلاف في تكفير تاركها وليس جاحدها، وليس من يأبى الصلاة ويردها، وإنما من يقول: أنا متكاسل عنها، وأنا أعرف أن الصلاة فرض وسأحاول أن أصلي إن شاء الله. فهذا الذي اختلف فيه، وكذا المباني الأربعة عدا الشهادتين اختلف في حكم تاركها تكاسلاً أو بخلاً. فإن قيل: وحديث: (إذا صلحت صلح سائر عمله، وإذا فسدت فسد سائر عمله ودخل النار)؟ قلنا: لا يلزم من دخوله النار خلوده فيها، فيمكن أن يخرج بشفاعة الشافعين وبشفاعة أرحم الراحمين. ومن رأى كفر تارك الصلاة، لا يقول عمن لم يكفر تارك الصلاة: هذا كافر أو هذا ضال مبتدع؛ من أجل أنه ما كفر تارك الصلاة، بل بإجماع العلماء أنه لا يضلل ولا يبدع، فنحن ما سمعنا قبل عصرنا الحاضر الذي ابتدع فيه بدعة الإرجاء أن أحداً من العلماء بدع مالكاً أو بدع الشافعي أو بدع أبا حنيفة من أجل أنهم لم يكفروا تارك الصلاة، أو رد على عمر بن عبد العزيز وقال: إنه مبتدع. فهذا ما حصل أبداً ولم يؤثر عن أحد من العلماء أنه قال: هؤلاء مرجئة.

الخلاف في تكفير الخوارج والرافضة والمعتزلة

الخلاف في تكفير الخوارج والرافضة والمعتزلة ومنها تكفير بعض أهل البدع كالخوارج والرافضة والمعتزلة، فهذه مسألة خلافية بين العلماء. والرافضة: هم الذين يسبون أبا بكر وعمر. والخوارج: هم الذين يكفرون بالكبائر. فالمسألة فيها: خلاف بين العلماء، والراجح فيها أن أقوالهم أقوال كفرية والمعين لا يكفر حتى تقام عليه الحجة. فمن العلماء من يحكم عليهم بأنهم خارج فرق الإسلام، ويقول: هؤلاء كفرة نوعاً وعيناً، وعامة العلماء على عدم تكفيرهم، وأكثر العلماء يطلق عدم التكفير ويقولون: ليسوا كفاراً. وهذا ظاهر المنقول عن علي رضي الله عنه في الخوارج، والشافعي كلامه في الرافضة نص صريح، فإنه قال: تجوز شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية -وهم فرقة من الرافضة وليسوا كل الرافضة- فإنهم يستحلون الكذب، فأما باقي أهل الأهواء فتجوز شهادتهم. وهذا الكلام من الإمام الشافعي رحمه الله يدل على أنه ربما لا يفسق بعضهم أيضاً. يعني: أن هذه البدعة لا تقتضي فسقه إذا كان متأولاً ولم تقم عليه الحجة. فالراجح في هذه المسألة: أن فرق الرافضة والخوارج والمعتزلة أقوالهم كفر، والمعين منهم إذا أقيمت عليه الحجة يكفر، وقبل إقامة الحجة لا يكفر، ومن يراجع المسألة يجد أن الجمهور على عدم تكفيرهم، ولكن القول بتكفيرهم سائغ إذا قاله عالم مجتهد، وقد نقل عن مالك وعن بعض أهل الحديث تكفير الخوارج والرافضة. ومسألة تكفير الروافض الآن كثرت جداً من طلبة العلم، بل قد تجد الإجماع عليه عندهم؛ نتيجة أن المشايخ الذين أفتوا بذلك ما بينوا الخلاف القديم فيها، وأن أهل السنة ما زالوا يعاملونهم ضمن أهل الإسلام، رغم أن الذي في كتبهم كفر لا شك فيه. ولكن في مسألة التكفير لوازم ينبغي مراعاتها، فالرافضي قد يقبل ما يقوله مشايخه، لكنه لا يلتزم هذا الكلام ولا يعرفه، فمثلاً: ليس كل رافضي يعرف ما في كتاب الكافي، وهكذا ليس كل سني يعرف ما في البخاري، ولا يعرف ما في فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية. وعوام الشيعة الذين يأتون يصلون معنا في الحرم ويحجون ويعتمرون ونحو ذلك هل نقدر أن نقول: إن كلهم عارفون ما في كتاب الكافي؟ حتى مشايخهم ربما يكونون مقلدين، فتجد شيخاً لابساً عباية ولكنه مقلد لأئمتهم في الضلال والعياذ بالله. ولا شك أن الأقوال الموجودة في الكافي أقوال كفر صريح، ولكن لا يلزم من ذلك تكفير كل شيعي رافضي. وبالتالي نقول: جمهور العلماء على هذا، وهذا هو الراجح، فإننا لا نكفر بالعموم ولا بغير إقامة حجة. فالذين يسبون الصحابة ارتكبوا معصية عظيمة، ومن يسب الإمام ومن يكفر من بشروا بالجنة فكلامه هذا كلام كفر، والرد على الرسول صلى الله عليه وسلم يلزم منه الكفر، لكن هو عنده أن الرسول ما قال كذا، أو عنده أن الرسول بشرهم بالجنة لو صدقوا، فعنده تأويلات، فلا بد من إقامة الحجة، ثم إن عوامهم نشئوا على هذه العقائد. فإن قيل: فهل يمكن أن نكفر رءوسهم وعلماءهم؟ فنقول: لا؛ لأن كثيراً منهم جهلة في الحقيقة، وبالتالي فلا بد في المعين عموماً أن ننظر هل قامت الحجة عليه أم لا؟ وإلا فـ نافع بن الأزرق كان رأساً في الخوارج، وكان ابن عباس يناظره ويبعث له ويذكر له أدلة وقال: وما أراك خارجاً منها، يعني: أخاف أنك لن تخرج من النار، لما كان يكذب بخروج الموحدين من النار، فكان ابن عباس يراسله ويبعث له بالأجوبة في المسائل الفقهية والمسائل الاعتقادية، وكان يناظره مناظرات عديدة ويلتقي به، فلو كان ابن عباس يرى ردته ما كان جالسه، مثلما فعل أبو موسى لما قتل الرجل الذي تهود بعد إسلامه فقال معاذ رضي الله عنه: لا أجلس حتى يقتل؛ قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتله أبو موسى رضي الله عنه. فهل عاملوا أهل البدع بنفس الطريقة التي عاملوا بها مسيلمة الكذاب؟ لا، وإنما كانوا يكاتبونه ويراسلونه مثلما كان ابن عباس يراسل نافع بن الأزرق. وبالتأكيد فإن الأمر مختلف، فمن يراجع أبواب الردة من كتب الفقه سيجد كثيراً من هذا النوع الذي هو اختلاف في تكفير بعض أصحاب البدع والاعتقادات والأقوال الفاسدة، فتجد من يقول: قال الحنفية: يكفر، والراجح عندنا أنه لا يكفر. فتجد أن عندهم مسائل في الردة فيها خلاف. وبالتالي فهذه مسألة اعتقادية لا يضلل فيها، فعند أن تجد من يقول في مسألة معينة: الراجح أنه يكفر أو يقول: الراجح أنه لا يكفر، تعرف أن هذه مسألة لا يضلل المخالف فيها، وأن الخلاف فيها خلاف سائغ.

الخلاف في تحقيق المناط في قضايا تكفير الأعيان

الخلاف في تحقيق المناط في قضايا تكفير الأعيان ومنها الاختلاف في تحقيق المناط في قضايا تكفير الأعيان، بناءً على استيفاء الشروط وانتفاء الموانع. وشروط التكفير هي: العقل، والبلوغ، وإقامة الحجة، وهي من أهمها. وموانعه: الجنون، والصغر، والجهل الناشئ عن عدم بلوغ الحجة، والخطأ، والنسيان، والإكراه، والتأويل. فلما نقول: إن فلاناً قامت عليه الحجة أو استوفيت فيه الشروط، والبعض الآخر يقول: لم تستوف فيه الشروط، فهذا اسمه اختلاف في تحقيق المناط، بمعنى: أننا متفقون على مناط الحكم، فلو قلنا: مناط استحقاق الزكاة الفقر، فنحن متفقون على هذا الحكم؛ لأن ربنا قال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة:60] فمناط الحكم وجود وصف الفقر، ثم نأتي نختلف في فلان من الناس هل هو فقير أم لا؟ فيقول شخص: أنا أحس أن حاله فقير، وثانٍ يقول: أنا وجدت عنده كذا وكذا وكذا، فهذا ليس فقيراً. فهذا اسمه اختلاف في تحقيق المناط. فهم مسلمون فقهياً ولا يوجد خلاف فقهي، لكنهم مختلفون في التطبيق على الواقع، وعلى وصف شخص بأنه فقير أو ليس بفقير. ومن ضمن هذا الخلاف أن نكون متفقين على تكفير من يحكم بغير ما أنزل الله على جهة الاستحلال وعلى جهة الجحد وعلى جهة إلزام الناس بغير الشريعة. ولكن يختلف العلماء فيقول أحدهم: فلان هذا عنده عذر، والثاني يقول: ليس عنده عذر وقد أقيمت عليه الحجة، والثالث يقول: لم تقم عليه، وغيره يقول: هذا عنده تأويل، ويقول آخر: علماء السوء ضللوه، ويقول آخر: هو الذي يضلل علماء السوء وهكذا. فهذا الخلاف من الخلاف السائغ، وهذا الكلام مرده إلى القاضي الذي يطبق الحكم، أو العالم الذي سيقسم المواريث، وسيحكم بفراق الزوجة، وأن الرجل هذا أقيمت عليه الحجة أو لم تقم؛ لأنه سيترتب عليها أحكام، فالقاضي أو العالم هو الذي إليه مرد الأمر. فهذه المسألة مهمة جداً؛ لأن مبناها على الاختلاف في تحقيق المناط، مع أن الأصل متفق عليه. مثال آخر: سب الدين كفر وسب الله كفر باتفاق العلماء، لكن وجدنا ولداً يسب الدين، فهذا الولد هل نقول: كفر أم لا؟ تجد من يقول: لا يكفر؛ أنا رأيته صغيراً، وآخر يقول: يكفر؛ لأنه قد بلغ بالفعل، فقد عمل كذا وكذا، أو أن طبيباً كشف عليه ووجد أنه قد أنبت، وآخر يقول: الطبيب هذا ليس كفئاً. فلو أن قاضياً عرض عليه هذا الموضوع فقد يختبره في تحقيق المناط، وأنه استوفى الشرط الذي هو البلوغ أم لم يستوفه؟ وهل استوفى شرط الإكراه أم لم يستوفه؟ فقد يأتي من يقول: كان مكرهاً؛ فقد رأيت واحداً كان يهدده بمسدس. والثاني يقول: لا أنا ما رأيت ذلك، ولم يكن مكرهاً. فهذا خلاف في التطبيق على الواقع، وهذا الخلاف هذا خلاف سائغ، وبالتالي فبعض العلماء يمكن أن تستوفي عنده الشروط وتنتفي الموانع فيحكم بتكفير شخص معين، وآخر لم تستوف الشروط عنده أو يكون هناك بعض الموانع، أو يكون عنده احتمال في بعض الموانع فيتوقف عن التكفير؛ حذراً من تكفير المسلم. فهذه المسألة لا يجوز أن تكون سبب ضغينة بين المختلفين فيها؛ لأن الخلاف فيها خلاف سائغ في تحقيق المناط، مع أنها قد يكون لها توابع عقدية، فمثلاً: الذي لا يكفِّر، لا يقول عن الذي يكفِّر: هذا من الخوارج، والذي يكفِّر لا يقول عن الذي لا يكفِّر: هذا من المرجئة.

الخلاف في تكفير تارك الصلاة ليس اختلافا في تحقيق المناط

الخلاف في تكفير تارك الصلاة ليس اختلافاً في تحقيق المناط إن قيل: هل الاختلاف في تكفير تارك الصلاة، اختلاف في تحقيق المناط؟ قلنا: لا؛ لأن الاختلاف في تكفير تارك الصلاة ليس في تحقيق المناط، وإنما الخلاف في أصل الحكم. ليس من أجل احتمال أن يكون جاهلاً بها أو صغيراً، فأنا أقول: إن ترك الصلاة تكاسلاً كفر دون كفر، والثاني يقول: هذا كفر ناقل عن الملة، فهذا كحكم وليس كمناط، فنحن مختلفان في مناط الحكم وليس فيمن سيتعلق به هذا الحكم، وليس الخلاف في أنها ركن من أركان الإسلام، لكن بعض العلماء يحمل حديث: (من تركها فقد كفر) على ظاهره وأنه كفر ناقل عن الملة، والبعض الآخر يؤوله كفراً دون كفر. والبعض يقول عن تارك الصلاة: أنا أعذره بالجهل، أو لا أريد تكفير المعين أو يقول: لو كفرت تارك الصلاة لكفرت كل الأمة. فنقول له: لا تخف؛ فنحن لن نطبق هذا الكلام على المعين إلا بعد استيفاء شروط التكفير وانتفاء موانعه ولن نلتزم بتكفير المعين، هذا مخرج الدكتور سفر. فالخلاف إنما هو في تحقيق المناط، فمثلاً: نحن متفقون على أن القتال في سبيل الله يصرف له من الزكاة، بخلاف بناء المساجد؛ ففيه خلاف هل هو في سبيل الله أم لا، فهذا اختلاف في أصل الحكم وفي المناط نفسه، وليس في تحقيق المناط. فإن قيل: هل يمكن أن يكون الشخص جاهلاً بتحريم ترك الصلاة؟ فنقول: ليس هناك جهل في ترك الصلاة إلا لو كان المرء يعيش في أدغال أفريقيا -مثلاً- أو حديث عهد بإسلام، لكن ليس هو لعوام المسلمين في بلاد المسلمين اليوم، فإن الناس اليوم في أي بلد من بلاد الكفار يعرفون حرمة ترك الصلاة فضلاً عن بلاد المسلمين، والكفرة يعرفون رمضان، فلو رأوا واحداً يفطر في رمضان لعرفوا أن هذا ارتكب غلطاً، فضلاً عن المسلمين اليوم، فكلهم يعرفون رمضان، فلا يصح أن أختلف مع أحد في تحقيق المناط في هذا لأن هذا متفق عليه. فالذي يقول بتكفير من أفطر عمداً في رمضان وترك صوم رمضان، يلزمه تكفير كل من أفطر عمداً إلا المجانين والصغار. فالذي يقول بتكفير تارك الصلاة كفراً ناقلاً عن الملة، يحكم في بلد من بلاد المسلمين بانفساخ نكاحه وأن أهله لا يصلون عليه سواء أقيم عليه حد الردة أم لا، ولا ينبغي أن نقول: ليس في المسألة فائدة، بل لها فائدة من جهة الأحكام، فنقول عن زوجته مثلاًً: هل هي زوجته أو ليست زوجته؟ والمعاشرة بينهما زنا أم حلال؟ وهل يلزمها أن تفارقه ولا تسلمه نفسها؟ ولو سلمته نفسها هل تكون آثمة أم غير آثمة؟ فهذه الأحكام مبنية على فتوى، حتى وإن لم يقم عليه حد الردة، وبالتالي لا بد من تعليقها على تحقيق المناط. فالاختلاف في تكفير تارك الصلاة اختلاف في تخريج المناط، وليس في تحقيق المناط.

الخلاف في تحقيق المناط لا يوجب العداوة بين المختلفين

الخلاف في تحقيق المناط لا يوجب العداوة بين المختلفين إن تحقيق المناط في قضايا تكفير الأعيان لا يوجب عداوة فيما بيننا، خاصة في المسائل المهمة كمسألة الحكم بغير ما أنزل الله، أو مسألة تارك الصلاة لأنهما مسألتان من المسائل الكبار، وهكذا مسائل الولاء والبراء أيضاً، وكذلك قضايا الاستغاثة بالقبور، فنحن لا نختلف مع أحد من أهل السنة في أن دعاء غير الله كفر ناقل عن الملة، ولكن نحن نختلف في تكفير عين من قال: مدد يا بدوي. فهذا اختلاف في تحقيق المناط، وليس في تخريجه، فنحن متفقون على مناط الحكم، وأن دعاء غير الله -كأن يقول: مدد يا سيدي فلان- كفر ناقل عن الملة، واعتقاده في أنه يملك النفع والضر شرك ناقل عن الملة، لكن ننظر هل هذا الرجل قامت عليه الحجة أم لا؟ وهل جهله ناشئ عن عدم البلاغ أم لا؟ لأن الجهل الناشئ عن الإعراض عن الحجة بعد بلوغها لا يعذر به، كما قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة:6] يعني: أن الكفرة لا يعلمون أنهم جهلة، وربنا قال عن فرعون: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:111] فهذا جهل العاقبة وجهل الإعراض عن أصل الدين، فهؤلاء الكفار لا يعلمون بسبب جهل الإعراض، أما فرعون فجهله جهل عاقبة. أما المسلم الذي ثبت إسلامه ثم لم يبلغه تفصيل معين في عقيدة أو عمل سواء كان مقصراً في طلب العلم أم غير مقصر فإنه لا يكفر، وإن كان يأثم بالتقصير في طلب العلم وإذا كانت عنده إمكانية لطلب العلم ولم يطلبه، فهذا إن بلغه الحق فأعرض ينظر في المخالفة التي ارتكبها، أهي من الأمور المكفرة؛ كارتكاب الشرك الأكبر، أم لا تكفره، كالذنوب والمعاصي؟ فمثلاً: أحدهم قامت عليه الحجة في أن مصافحة المرأة الأجنبية حرام، ووجدته بعد أن بلغته الحجة صافح امرأة أجنبية، فنقول: إنه بعد أن صافحها عمل معصية. وآخر قامت عليه الحجة في أن العادة السرية محرمة، وعرف هذا ثم عملها فنقول: هذا عاصٍ. وآخر قامت عليه الحجة في أن قوله: (مدد يا بدوي) شرك، ثم قال: مدد يا بدوي، فهو كافر، والعياذ بالله! وآخر قامت عليه الحجة في أن الحكم بما أنزل الله فرض وأن الحكم بغير ما أنزل الله من الكفر، ثم حكم بغير ما أنزل الله، فهذا يكفر طالما أنه استوفى شروط التكفير أينما كانت. فإن كانت المعصية من المكفرات فيحكم بكفره؛ لبلوغ الحجة وزوال الشبهة، ولا اعتبار بإعراضه، ولا التأويل الباطل الذي يخالف المعلوم من الدين بالضرورة، ولكن يعلم بطلانه أهل العلم، كأن يأتي رجل فيؤول الصلوات الخمس بأنها ذكر أسماء أهل البيت. ويقول: الصلوات الخمس أن يقول: علي وفاطمة وحسن وحسين ويقول: إن الزنا هو أن يبلغ الإنسان سر الطائفة إلى غير الطائفة؛ لأنه من إدخال الشيء في شيء آخر، أما أنه يعاشر امرأة أجنبية ولو أدخل الفرج في الفرج فهذا ليس بحرام، فمثل هذا كافر ولا أقول: إنه تقام عليه الحجة؛ لأن هذا معلوم من الدين بالضرورة، وهذا تأويل، لكنه تأويل لا يعتد به؛ لمخالفته ما هو معلوم من الدين بالضرورة. أما التأويل الباطل فالعلماء فقط هم الذين يعرفونه، ولا بد من إقامة الحجة؛ لأنه في الحقيقة نوع من الجهل.

موانع التكفير والتفسيق

موانع التكفير والتفسيق وموانع التكفير والتفسيق هي: الجنون والصغر والجهل الناشئ عن عدم بلوغ الحجة والخطأ والنسيان والإكراه والتأويل. وهذه الموانع كأحكام عامة لا يعرف عن علماء السلف اختلاف في اعتبارها، ونرى أن الخلاف في عدم اعتبارها أصلاً ليس سائغاً. ومع ذلك هناك فتاوى قديمة لبعض العلماء وفتاوى لبعض المعاصرين يقولون فيها: فلان هذا كافر وإن لم تبلغه الحجة أو عنده جهل وإن كان في أدغال أفريقيا، والجهل منتشر هناك، ومع ذلك يحكم بكفره. وبعضهم يقول: إنه يعامل في الآخرة معاملة الممتحن، وحكمه في الدنيا كافر. فالحقيقة أن هذه المسألة ليست هكذا، فهي ليس فيها خلاف سائغ عند السلف، رغم وجود بعض الخلاف عند المعاصرين، وهذا خطأ منهم -والله أعلى وأعلم- وأنا لا أشك في خطئه، فـ ابن تيمية ينقل الإجماع على ذلك، والاتفاق عند السلف قائم على عدم وجود مسائل اسمها مسائل أصول يكفر فيها المخالف، ومسائل اسمها فروع لا يكفر فيها المخالف؛ فالمسألة مبناها على نوع الدليل في المسألة. فالذي يخالف في عذر الإكراه مثلاً ويقول: حتى ولو أكره يكون كافراً، والذي يخالف في عذر التأويل ويقول: حتى ولو كان متأولاً أي تأويل فهو كافر، فقد أخطأ خطأً بيناً؛ لأن السلف اتفقوا على ذلك، لكن الخلاف السائغ في هذه هو عند تطبيق هذه الأمور، فقد أتفق مع أحدهم أن العذر بالجهل عذر لكن أختلف معه في أشخاص معينين، فأقول: هؤلاء جهلة، ويقول: هؤلاء غير جهلة، وهؤلاء قامت عليهم الحجة، فهذا خلاف سائغ؛ لأن هذا خلاف في في تحقيق المناط. فنحن متفقون على أن الجهل عذر -والمقصود: الجهل الناشئ عن عدم البلاغ- ومختلفون في أن هؤلاء وصلتهم الحجة أم لم تصلهم، والبعض يعتبر وجود الدعوة فقط كافٍ، والبعض يقول: الدعوة لم تنتشر الانتشار الكافي بين الناس، وهناك فتوى للشيخ ابن باز رحمه الله يقول فيها: إن بلادنا وبلاد غيرنا فيها من أهل التوحيد مثل أنصار السنة، وبالتالي فالناس متمكنون من أن يصلوا إلى الحجة. وأنا أقول: الحقيقة أن أنصار السنة انتشارهم محدود الأثر، ولا نقول: إن الأمر انتشر بين المسلمين حتى صار من المعلوم في الدين بالضرورة.

الأسئلة

الأسئلة

مسائل التوحيد في بلاد الحرمين من المعلوم من الدين بالضرورة

مسائل التوحيد في بلاد الحرمين من المعلوم من الدين بالضرورة Q هل مسائل التوحيد في السعودية معلومة من الدين بالضرورة؟ A نعم؛ لأنه من حين أن ينشأ الطفل وهو يعرف أن دعاء غير الله شرك، ويعرف غير ذلك من أمور التوحيد، فلو أتى واحد من السعودية نشأ في وسط المجتمع وقال: مدد يا سيدي فلان، فإنه يكفر مباشرة، لكن من نشأ في مكان فيه جهل ليس حكمه كذلك.

نوع الخلاف في نبوة الخضر وذكر شروط تكفير المعين

نوع الخلاف في نبوة الخضر وذكر شروط تكفير المعين Q هل الخلاف في نبوة الخضر خلاف في تحقيق المناط؟ A الخلاف في نبوة الخضر خلاف في أصل المسألة، وفيها خلاف سائغ، ونحن نتكلم في مسألة متفق على القول بالكفر فيها لكن وقع الاختلاف في التطبيق، فنقول: قد يوجد عالم يرى أن هذا الشخص الذي ارتكب الشرك الأكبر جاهل أو متأول تأويلاً يمنع من تكفيره بعينه؛ لأنه لم يطلع على أن أحداً أقام الحجة عليه، بينما عالم آخر يعلم أنه قد أقام عليه الحجة وأزال شبهته ولم يبق له عذر فقال بكفره بعينه، فلا ينبغي أن يُجعل هذا خلافاً بينهما، لا تتسع له الصدور، خاصة من أتباعهما. يعني: أتباع الشيخ فلان وأتباع الشيخ فلان من أجل أن هذا يكفر وهذا لا يكفر تصير بينهم معركة كبيرة جداً، مثلما حصل في بعض مدن قطرنا، فإنك تجد الخلاف عنيفاً جداً حول مسائل التكفير، فالذي لا يكفر يبدع الذي يكفر والذي يكفر يبدع الذي لا يكفر، وهذا خطأ في الحقيقة؛ لأن الخلاف إن كان في تحقيق المناط أو تخريجه فإنه يكون خلافاً سائغاً. فمثلاً: نحن متفقون على أن من دعا غير الله كفر، وأن قول القائل: أغثني يا سيدي فلان وارحمني واغفر لي ذنبي كفر ناقل عن الملة، لكن وجدنا واحداً من عوام الناس لم يتعلم ولم يسمع الأدلة يقول: مدد يا سيدي فلان، أغثني يا سيدي فلان، والجهل منتشر في بلادنا بهذه المسألة وبغيرها من المسائل، وبالتالي فهذا الرجل بعينه لا بد من استيفاء شروط التكفير في حقه، فنتأكد من إقامة الحجة عليه، ونتأكد أنه عاقل غير مجنون، ونتأكد من بلوغه وعدم صغره. فلو رأيت طفلاً صغيراً يقول كلاماً كفراً فهل يكفر هذا الطفل؟ لا يكفر؛ لأن من شروط التكفير البلوغ، ومن موانع التكفير الصغر. ومن شروط التكفير العلم الذي هو في الحقيقة إقامة الحجة، ومن موانع التكفير الجهل الناشئ عن عدم بلوغ الحجة، ومن شروط التكفير القصد، ومن موانع التكفير الخطأ، فلو قال واحد: اللهم أنت عبدي وأنا ربك متعمداً فإنه يكفر، ولو قالها من شدة الفرح يريد أن يقول: اللهم أنت ربي وأنا عبدك فأخطأ وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك فلا يكفر. ومن شروط التكفير الذكر، ومن موانع التكفير النسيان، فمثلاً: رجل نسي آية وقال: أنا أنكر أن آية كذا بالواو، وهي فيها واو، فجاءوا له بالمصحف فقال: أنا كنت مخطئاً، فساعة ما كان ينكر آية أو حرفاًًً نسياناً غير ذاكر لم يكن كافراً، وإنما كان ناسياً. ومن موانع التكفير الإكراه، وضد الإكراه الاختيار، فلو ثبت أن فلاناً نطق بالكفر مختاراً فإنه يكفر، ولو نطقه مكرهاً لم يكفر. فقضية وتكفير المعينين لا بد فيها من استيفاء الشروط وانتفاء الموانع، فكثير جداً من المسائل المعاصرة نكون متفقين على أصل المسألة ومختلفين في أن فلاناً استوفيت فيه الشروط أو لم تستوف. فيبقى هناك اختلاف في تطبيق الحكم على الواقع. فأنا أجزم أن كثيراً جداً من عوام المسلمين في بلادنا يجهلون أن قول: مدد يا سيدي يا بدوي شرك، بل يجهلون أنها حرام أصلاً. فلا بد من إقامة الحجة على هؤلاء، وأنا مقتنع بأن أحداً اليوم لو قال: إن النصارى ليسوا بكفار، فلا بد من إقامة الحجة عليه، وذلك بتلاوة الآية عليه؛ لأن كثيراً من الناس لا يعلمون أن في القرآن آية: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17] وإن كان من اعتقد أن اليهود أو النصارى ليسوا بكفار أو شك في كفرهم فهو كافر، لكن كتطبيق عملي على فلان من الناس فهنا نقول: لا بد من إقامة الحجة. فلو قال مسلم هذا الكلام من غير أن يعرف الدليل، ومن غير أن يبلغه الدليل القاطع والآية الواضحة، نتيجة الشبهات المنتشرة ومشايخ الضلال والسوء الذين يوهمون الناس، فبعضهم يصرح وبعضهم يلمح ولا يصرح؛ من أجل أن يهرب، وبعضهم يوهم فلا يقول: إن اليهود والنصارى مؤمنون ولا يقول: إنهم غير كفار، لكن يأتي بالكلام الذي يفهم العوام منه أنهم ليسوا كفاراً. فهذه المسائل يحكم فيها بناءً على وصول الدليل وعدم وصوله، فيعذر الذي لم يصله الدليل، ولا يعذر الذي وصله الدليل، والأمر هذا نسبي وإضافي، فالذي وصله الحق بأن جاءته البينات فهو غير معذور، والذي لم تأته البينات فهو معذور إلى أن تأتي له البينات. فهناك مسائل أجزم أن البينات فيها وصلت للناس، ومسائل نجح علماء السوء فعلاً في تشويه صورتها لدى الكثيرين.

حكم من يقول بإيمان اليهود والنصارى

حكم من يقول بإيمان اليهود والنصارى Q ما حكم من يقول: إن اليهود والنصارى مؤمنون، مع أنه عالم وحافظ للقرآن؟ A الذي يحفظ القرآن ويقول: إن اليهود والنصارى مؤمنون يدخلون الجنة يكون كافراً.

اعتبار الأشرطة في وصول الحجة

اعتبار الأشرطة في وصول الحجة Q هل سماع الآيات من الشريط يكفي في وصول الحجة للقول بكفر اليهود والنصارى أم لا؟ A الذي يسمع شريط التسجيل لأحد القراء كـ الحصري أو المنشاوي أو غيرهما فسمع الآية بأذنه من هذا الشيخ أو فتح المصحف فوجدها وبعد ذلك قال: هم غير كفار فقد كذب ربه، لكن أنا لن أكفره شخصياً إلى أن أسمعه الآية من أجل أن أتأكد.

أدب الخلاف [4]

أدب الخلاف [4] الخلاف منه ما هو مذموم ومنه ما هو جائز، فمن المذموم الخلاف مع وجود النص الواضح، فهذا خلاف شقاق وتضاد، وقد نهانا الشرع عنه، وهو شر محض، ومن الخلاف الجائز خلاف الأفهام، وهو رحمة، وفيه توسعة على الأمة، لكن يجب على العالم أن يتحرى الصواب، فإن أخطأ فله أجر على اجتهاده، وإن أصاب فله أجران، وعلى العامي أن يقلد من يثق بعلمه، ويظهر له تقواه وورعه.

ذكر مسائل اشتهرت بين العامة ووقع فيها خلاف بين أهل العلم

ذكر مسائل اشتهرت بين العامة ووقع فيها خلاف بين أهل العلم الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، أما بعد: فقد ذكرنا الأمثلة على الخلاف السائغ في الأمور العلمية والفقهية، وهي أكثر من أن تحصى، ولكننا نشير إلى بعض المسائل التي تعم بها البلوى مما قد يسبب انشقاقاً ونزاعاً بين أبناء الصحوة، ومنها الاختلاف في كثير من أمور الوضوء والصلاة، كالخلاف في وجوب المضمضة والاستنشاق أم استحبابه؟ والمقصود هنا ذكر أمثلة، وليس الغرض الآن تحقيق المسائل، وهذه المسائل نتيجة تناولها بطريقة معينة من بعض المشايخ والدعاة وطلاب العلم المعاصرين ظن بعض طلاب العلم أو بعض من يستمع لهؤلاء المشايخ ويتابعهم أن هذه المسائل حسمت وانتهى الخلاف فيها.

الاختلاف في وجوب المضمضة والاستنشاق

الاختلاف في وجوب المضمضة والاستنشاق في مسألة وجوب المضمضة والاستنشاق أن كثيراً من المعاصرين يرجح وجوبهما، ولكن جمهور أهل العلم على الاستحباب، فالبعض يرى أن فيها نصاً واضحاً، وهو أن الرسول قال: (إذا توضأت فمضمض) والشيخ الألباني صححه، وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً ثم لينتثر) فيقولون: هذا نص في المسألة. فنقول: هل هذا نص أم هذا الأمر ظاهر فقط؟ ونحن نعرف أن حد مسائل الخلاف السائغ هو ما لا يصادم نصاً، والنص معناه: ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، وليس معناه وجود حديث في أمر ما؛ فإن هذا الأمر أولاً كما ذكرنا ظاهره الوجوب ويحتمل الاستحباب، فإذا كان هناك قرينة صارفة من الوجوب إلى الاستحباب صح أنه للاستحباب، وإذا لم يكن هناك قرينة فهو للوجوب. فنقول: إن هذا الأمر لا يصح أن يقال: فيه نص، وإنما ظاهر الأمر الوجوب، وجمهور العلماء يرون أن هذا الأمر للاستحباب حتى لو صح حديث: (إذا توضأت فمضمض) وحديث الأمر بالاستنشاق، وقول الجمهور بالاستحباب من أجل قرينة قوية -وفي الحقيقة أنا أرى قول الجمهور فيها- وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم في مقام التعليم لأعرابي جاهل لا يدري كيف يصلي أمره بالوضوء كما أمره الله، والنبي صلى الله عليه وسلم أمره بما أتى به وبما لم يأت به في صلاته، فقال: (إنه لا تتم صلاة أحدكم حتى يتوضأ كما أمره الله، فيغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين)، فلم يزد على الآية، والآية ليست مجملة، بل هي في مقام البيان، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. وهذا الكلام كلام قوي من جهة الدليل، وهذا يصلح قرينة صارفة من الوجوب إلى الاستحباب، فهذا قول جمهور أهل العلم، ومعروف أن الحنابلة يقولون بوجوب الاستنشاق، وفي قول آخر يقولون بوجوب المضمضة والاستنشاق، والخلاف في وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل والوضوء معروف، والمقصود من هذا ألا يظن أحد أننا نخالف النصوص. وهكذا وجوب الترتيب في الوضوء أو استحبابه، فهناك من يلغي الترتيب ويقول: إن فصل القرين عن قرينه والنظير عن نظيره لابد أن يكون لسبب، وليس هناك نص قاطع في هذا الباب، فالشافعية يقولون بوجوب الترتيب، والمالكية وغيرهم يقولون باستحباب الترتيب في أعضاء الوضوء.

الاختلاف في بعض مسائل الصلاة

الاختلاف في بعض مسائل الصلاة ومن الأمثلة: وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر بعد الركوع وإرسالهما، أما قبل الركوع فهناك اتفاق من أهل الحديث على ثبوت ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام، رغم أن هناك من يخالف كالمالكية، ولكن نرى أن هذا خلافَ ما صح وثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم في مشروعية الضم عند القيام، وأن الأمر على الوجوب، ولكن البعض يقول: يستحب أن يضم يديه، وله أن يرسلهما بدون وضع على الصدر. لكن الذي لا شك فيه هو مشروعية وضع اليدين على الصدر، أما بعد الرفع من الركوع فهذا الذي وقع فيه خلاف بين أهل الحديث من أجل العمل بعموم حديث: (كان إذا صلى وضع يده اليمنى على اليسرى)، وأنه كان يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم في القيام، فهنا يمكن أن يقال: هو القيام الأول، ويمكن أن يقال: هو كل قيام في الصلاة، وهذا أظهر من جهة العمل بالعموم. لكن هذه مسائل فيها خلاف بين أهل العلم، والخلاف فيها سائغ بلا شك، حتى من يقول: إن وضع اليدين على الصدر بعد الرفع من الركوع يعد بدعة، وهذا قول الشيخ الألباني، وبعض طلاب العلم يظن أن هذا القول معناه أن الذي يعمل هذا فهو مبتدع، ونحو ذلك، مع أن كونه بدعة أصلاً فيه نظر. وقد ذكرنا أن مسائل البدع أيضاً يدخل فيها مسائل الخلاف، أعني: أن من البدع ما هو متفق عليها ومن البدع ما هو مختلف فيها، والخلاف في المختلف فيها سائغ. والبعض يقول: إن هذا عموم لم يعمل به السلف، والعموم الذي لم يعمله السلف العمل به بدعة، والبعض الآخر يقول: لم ينقل عن السلف أنهم كانوا يرسلون إلا من كان يرسل قبل الركوع، فمثل هذا لا شك أنه خلاف سائغ، حتى ولو قال بعض العلماء: إنه بدعة فهذا رأيه ومذهبه، ولا يعني ذلك إلغاء الخلاف في المسألة، فهو لم يقل: إن المسألة مجمع عليها ونحو ذلك وإنما هذا ما يراه هو، وبالتالي إذا وجدنا خلافاً بين المشايخ الكبار في هذه المسألة أو بين طلاب العلم لا يلزم من ذلك تباعد ولا افتراق ولا تبديع. فالقول بأن هذا الفعل بدعة لا يلزم منه تبديع المعين الذي فعلها متأولاً أو مرجحاً قول من يقول: إنها سنة. والحقيقة أنها أقرب إلى السنة. ومنها: هل يكون النزول على الركبتين أم على اليدين في السجود؟ فهذه مسائل تأخذ من بعض طلاب العلم المبتدئين كراسات ومجلدات وأبحاثاً طويلة جداً. وقد اتفق العلماء في هذه المسألة على صحة الصلاة بكلا الأمرين، وأنه سواء نزل بركبتيه أم نزل بيديه فالصلاة صحيحة والاختلاف إنما هو في الأولى، وفي أيهما أفضل. ومنها قراءة الفاتحة خلف الإمام خاصة في الجهرية، فالمسألة كلها خلافية وخصوصاً في الجهرية، والخلاف فيها قوي، ونحن نرى وجوب القراءة خلف الإمام. ومسألة الاعتداد بالركوع أم اشتراط قراءة الفاتحة في صلاة المسبوق مسألة اجتهادية، وقد نقل بعض العلماء الإجماع على صحة الركعة التي أدرك فيها المأموم الركوع، وهذا وهم منهم بلا شك، فإن المسألة فيها خلاف من عصر الصحابة إلى يومنا هذا، وقد نقل الإمام البخاري قول من يقول: لا تحسب ركعة لا يقرأ فيها الفاتحة، قال: وهو قول كل من يقول بوجوب القراءة خلف الإمام، والقول بوجوب القراءة خلف الإمام منقول عن عبد الله بن عمرو بن العاص وعائشة وأبي هريرة وعبادة بن الصامت وغيرهم من الصحابة، ومن الصحابة من يرى عدم القراءة خلف الإمام، وهذا مما وسع فيه الخلاف عندهم فيسع من بعدهم. ومن المسائل المختلف فيها: جلسة الاستراحة، فمن العلماء من يقول: جلسة الاستراحة مشروعة مطلقاً، ومنهم من يقول: من كبر في السن أو كان مريضاً فيجلس للاستراحة، والأرجح أنها مشروعة مطلقاً ويتركها المصلي أحياناً. ومن المسائل المختلف فيها: حكم الصلاة في المساجد التي بنيت على القبور هل تبطل أم تحرم مع الإجزاء؟ ونحن هنا نتكلم عن رجل صلى في مسجد به قبر، ونحن لا نرى الخلاف سائغاً في جواز الصلاة، فهناك نصوص واضحة وصريحة بل ومستفيضة في النهي عن اتخاذ القبور مساجد، ولعن من فعل ذلك، وهذا لا يحتمل كراهة التنزيه ولا الجواز، ولا يحتمل النسخ كما تقوله الصوفية. وبالتالي فنحن نقول بتحريم الصلاة في المساجد التي بنيت على القبور بأدنى الدرجات، واختلف في صحة الصلاة، فقال بعضهم: الصلاة باطلة فتعاد، وقال آخرون: هي صحيحة ومجزئة مع الإثم، وبعضهم فصل فقال: إذا قصد التبرك بالصلاة إلى جوار صاحب القبر فصلاته باطلة، ومن صلى مروراً فصلاته صحيحة مع الإثم، وأرجح الأقوال فيما نرى القول الأخير الذي فيه تفصيل. أما مسألة اتخاذ القبور نفسها مساجد فخلافنا مع الصوفية فيها خلاف غير سائغ، وتوجد جماعات إسلامية تصلي في المساجد التي فيها قبور، وترى أن الأمر فيه سعة كجماعة التبليغ وبعض مشايخ الأوقاف، ويقولون: المسألة فيها خلاف، فنقول لهم: هذا الخلاف غير سائغ؛ وذلك لثبوت النهي عن النبي عليه الصلاة والسلام، والخلاف الذي نراه سائغاً مسألة هل الصلاة باطلة أو صحيحة؟ فإن النصوص صريحة في التحريم، ولا يوجد صارف لهذا النهي عن التحريم، بل كل القرائن تؤكد تحريم الصلاة في المساجد التي بنيت على القبور، أو تحريم الصلاة إلى القبور أو عندها. ومن المسائل المختلف فيها: هل يجب قضاء الفوائت المتروكة بدون عذر أم لا يجوز قضاؤها أصلاً؟ فلو أن رجلاً ترك الصلاة عدة سنوات أو أيام أو شهور، فالأئمة الأربعة على وجوب القضاء، وأنه يلزمه قضاء كل هذه الصلوات أما الظاهرية وخصوصاً ابن حزم وطوائف من العلماء من أتباع المذاهب كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ومن وافقهم يرون عدم جواز قضاء الفوائت المتروكة؛ لأن الصلاة المتروكة عمداً بدون عذر قضاؤها غير مقبول أصلاً؛ ولذا يأمرونه بمزيد من النوافل ولا يؤمرونه بقضاء الصلاة، وهذا الذي نميل إليه من جهة الدلالة. ومن المسائل المختلف فيها: هل تصلى صلاة النفل التي لها سبب في أوقات الكراهة كتحية المسجد ونحوها؟ وهذه المسألة فيها خلاف سائغ، والذي أراه أنه يصليها؛ لأنها صلاة لها سبب.

الاختلاف في مسألة اختلاف المطالع في رؤية الهلال

الاختلاف في مسألة اختلاف المطالع في رؤية الهلال ومن المسائل المختلف فيها: هل لكل أهل بلد رؤيتهم للهلال أم يلزم جميع البلاد رؤية بلد واحد؟ من أكثر المسائل التي تحدث فرقة في القلوب قضية اختلاف المطالع، والصوم والفطر في توقيتات مختلفة، والخلاف في هذه المسألة خلاف سائغ، فينبغي ألّا لا تفسد الأخوة الإيمانية بين المسلمين، وعند التأمل في كل مذهب من المذاهب الأربعة تجد القولين داخل المذهب الواحد نفسه. وبالتالي نقول في هذه المسألة: إن الذي يأخذ بأحد القولين فيها لا يظهر مخالفة أهل البلاد، ولا ينكر عليه أحد، فلا يقال له: أنت مفطر عمداً في رمضان، ويجب عليك القضاء والكفارة؛ لأنه متأول بلا شك، وهذا أمر اجتهادي، وحتى لو تغير قوله بعد ذلك فلا يقضي ما فاته من الأيام التي كان يفطرها. فالذي يغلظ في هذه المسائل مخطئ، وإنما يفعل من يفعل هذا مجتهداً لا أنه تعمد الفطر في رمضان، وإنما اعتقد أن اليوم يوم عيد فوجب عليه أن يفطر. وبعض العلماء يقول: ثبوت الرؤية بأي وسيلة يلزم جميع أهل البلد الذين هم تحت سلطان واحد، ويجعلها حكماً يسري على الجميع، ولكن هي مسألة فتوى واجتهاد وليست مسألة حكم. وهذا مثل لو أن قاضياً رأى -على سبيل المثال- أن يد السارق تقطع في ربع دينار وليس في عشرة دراهم، فهذا الحكم ليس لازماً. وكذا لو رفعت امرأة طلقت ثلاثاً أمرها للقاضي، والقاضي حكم بأن طلاق الثلاث يقع ثلاثاً، ونفذ ذلك الحكم، فالمسألة مسألة حكم طالما فيها خصومة، والمرأة هذه تحل للأزواج، بالرغم من أنه يمكن لزوجها أن يأخذ بقول من يقول: الطلاق الثلاث يقع واحدة، لكن القاضي حكم بالقول الأول وانتهى الأمر، لأن المسألة مسألة حكم، أما المسألة كفتوى ففيها سعة.

الاختلاف في مسألة الطلاق المعلق

الاختلاف في مسألة الطلاق المعلق ومن المسائل التي يسوغ فيها الخلاف الاختلاف في وقوع الطلاق المعلق وعدم وقوعه مع وجوب كفارة اليمين، والطلاق المعلق كأن يقول الرجل لزوجته: إن فعلت كذا فأنت طالق، وجمهور العلماء يرون وقوعه، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرى أنه يلزم قائله كفارة يمين إذا كان لا يقصد الطلاق، وهو المعمول به في مصر وغيرها، وبه يفتي عامة المشايخ المعاصرين. أما ابن حزم فيرى أن الطلاق المعلق كله غير واقع، ولا يلزم فيه شيء؛ لأن الطلاق عنده لا يكون إلا ناجزاً. والصحيح في ذلك أنه إذا كان يقصد الطلاق فيقع طلاقاً، وإذا كان يقصد التهديد أو الحث أو المنع فيقع يميناً، ويلزمه كفارة اليمين، وإذا كان معلقاً على وقت كأن يقول: إذا طلعت الشمس فأنت طالق، فيقع التطليق قطعاً.

الاختلاف في مسألة طلاق الثلاث بلفظ واحد

الاختلاف في مسألة طلاق الثلاث بلفظ واحد ووقع الخلاف بين العلماء في مسألة طلاق الثلاث بلفظ واحد هل يقع ثلاثاً أم واحدة؟ وجمهور العلماء عبر العصور على أنها تقع ثلاثاً، أما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وطائفة كبيرة من العلماء يقولون: الطلاق الثلاث يقع واحدة إذا كان في مجلس واحد وبلفظ واحد، وهذا الذي يفتى به في بلادنا، وعليه قانون الأحوال الشخصية، ويفتي به كبار المشايخ، أمثال الشيخ ابن باز وابن عثيمين والألباني رحمهم الله.

الاختلاف في مسألة ستر المرأة وجهها

الاختلاف في مسألة ستر المرأة وجهها ومما اختلف فيه ستر المرأة وجهها عن الرجال الأجانب هل هو واجب أم مستحب، وكذلك اختلف في وجوب النقاب والجلباب أو استحبابه، أما القول ببدعته فهو بدعة بلا شك. فعندنا في هذه المسألة أقوال: قول بوجوب النقاب، وقول باستحباب، وهناك قول لبعض الجهلة أن النقاب ليس من الدين وأنه بدعة، وأن التي تلبس النقاب آثمة! وهذا القول عندنا بدعة وضلالة، والخلاف فيه غير سائغ. وهل يمكن أن يكون هناك اختلاف فقهي يصل إلى هذه الدرجة ويكون سائغاً؟ نعم، يمكن أن يقول عالم: هذا مستحب، والثاني يقول: هذا واجب، والثالث: يقول: هذا حرام، مثل الخلاف في وجوب القراءة خلف الإمام، فـ أبو حنيفة يقول: تحرم القراءة خلف الإمام، والذي يقرأ خلف الإمام صلاته باطلة، والإمام الشافعي يقول: قراءة الفاتحة خلف الإمام فرض، والذي لا يقرؤها صلاته باطلة. وهذه مسألة ما فيها أحوط، بينما بعض المسائل فيها أحوط، مثل أن يقول عالم: هذا حرام، والثاني يقول: هذا مباح، فالأحوط أن تتركه، أو عالم يقول: هذا مباح، والثاني يقول: هذا واجب، فالأحوط أن تعمله، أو عالم يقول: هذا مستحب، والثاني يقول: هذا واجب، فالأحوط أن تعمله؛ لأن هذا يخرجك من الخلاف فعلاً، لكن لو قال عالم: هذا حرام، والثاني قال: هذا فرض، فمثل هذا ليس فيه أحوط، والواجب على الناس تجاه هذا الخلاف أن العالم يجتهد، وطالب العلم يرجح بين الأقوال، والعامي يقلد من يثق فيه. وقد ذهب جمهور العلماء قديماً وحديثاً إلى استحباب ستر الوجه، وقال بعضهم بالوجوب، فالمسألة فيها خلاف سائغ، وهذا باتفاق، ومن الخطأ أن يقال: إن هذه المسألة لا تحتمل المناقشة، أو إن من قال بغير قولنا فليس منا! أو ينظر إلى المرأة التي كشفت وجهها على أنها امرأة فاسقة، أو أنها امرأة سافرة تستحق أنواع الازدراء، أو أن الرجل الذي يترك امرأته تكشف وجهها رجل ديوث! هذا كله منكر ينكر على صاحبه؛ لأن هذه المسألة مما يسع فيها الخلاف، ولا أعلم في ذلك اختلافاً إن شاء الله.

الاختلاف في حكم التصوير

الاختلاف في حكم التصوير واختلف في التصوير الفوتوغرافي، هل هو داخل في النهي أم لا؟ وهذا النوع من التصوير حادث في الحقيقة، فهل هو نوع من حبس الظل فلا يكون فيه مضاهاة لخلق الله أم أنه من التصوير المحرم؟ المسألة فيها خلاف، ومن أوائل من أفتى بجواز التصوير الشمسي -أول ما ظهر- الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي السعودية سابقاً، والذي يفتي بجوازه حالياً الشيخ ابن عثيمين، وهناك من يفتي بتحريمه -وهم كثيرون- مثل الشيخ الألباني والشيخ ابن باز رحم الله الجميع. والمسألة فيها خلاف سائغ، وأنا أرجح جوازه بشرط ألا يكون فيه محرم آخر غير المضاهاة. فإن سأل سائل: هل الترجيح يرفع الخلاف؟ فنقول: الترجيح لا يرفع الخلاف. وبعض الطلاب يسأل دائماً عن الراجح من الأقوال، ويظن أن كل مسألة فيها قول راجح مطلقاً، ولم يتفطن أنه راجح عند فلان ومرجوح عند غيره، ولا شك أن السؤال عن الراجح من الأقوال بالأدلة أمر محمود، وهو دليل على الورع، ولكن لابد من معرفة أن هذا مما يسع فيه الخلاف.

الاختلاف في مسألة أكل اللحوم المستوردة

الاختلاف في مسألة أكل اللحوم المستوردة ومن مسائل الخلاف حكم أكل اللحوم المستوردة من دول أوروبا وأمريكا هل يجوز أم يحرم؟ وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة، فأفتى بالجواز الشيخ ابن باز رحمه الله، والشيخ الجزائري يقول: الأصل أن هذه دول أهل كتاب ويجوز الأكل فيها، وممن كان يفتي بالتحريم -وأراه الأصل في هذا الباب- الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله والد الشيخ صالح بن حميد إمام المسجد الحرام، وله رسالة قيمة جداً في أن اللحوم المستوردة الأصل فيها المنع، حتى يتيقن تذكيتها التذكية الشرعية.

الاختلاف في مسألة التوسل بالصالحين

الاختلاف في مسألة التوسل بالصالحين ومسألة التوسل هذه مسألة مهمة، وهناك خلاف في بعض أنواعها، وللأستاذ حسن البنا في هذا الموضوع كلام وقعت به أزمة عبر تاريخ الصحوة الإسلامية المعاصرة، فقضية التوسل من المشاكل التي أدت إلى افتراق شديد جداً بين الاتجاهات السلفية وجماعة الإخوان، فالشيخ حسن البنا يقول: إذا اقترن الدعاء بالتوسل بأحد من الخلق فهو خلاف فرعي في كيفية الدعاء وليس من مسائل العقيدة، وهذا مذكور في الأصول العشرين، وهذا الكلام كان سبباً لتساهل الإخوان مع الصوفية، فنقول: هذه عبارة يمكن أن يكون لها وجه صحيح، وإطلاقها هو الخطأ؛ لأن بعض أنواع التوسل مختلف فيه فعلاً، كالتوسل بالحق والجاه والذات، مع أننا نرجح أنه ممنوع، ولكن هذا النوع من الخلاف خلاف فرعي. أما التوسل إلى الله عز وجل بأن يصرف الدعاء إلى غير الله ويسميه توسلاً فهذا شرك -والعياذ بالله- كأن يقول للميت: ارحمني وانصرني يا سيدي فلان اغفر لي انتقم من عدوي أغثني المدد يا سيدي فلان، وإذا سئل: كيف تدعو غير الله؟ فيقول: هذا توسل، فنقول: هذا توسل شركي، فالمشركون يعبدون غير الله ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، وقال الله عنهم: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]، والتوسل هو: طلب التقرب إلى الله. هناك نوع آخر من مسائل العقيدة من جهة أنه شرك أصغر مجمع على بدعيته بين السلف وهو أن يقول للميت: ادع الله لي اشفع لي عند الله، فهو لم يقل له: ارحمني واغفر لي وأعطني وارزقني، ولكن قال له: ادع الله أن يرزقني ادع الله أن يسقيني اشفع لي عند الله أن يشفي ابني ونحو ذلك فهذا متفق على منعه بين السلف، ولكنه من باب الشرك الأصغر الذي هو من الذرائع إلى الشرك الأكبر، وقد قال بعض المشايخ: هذا النوع شرك أكبر، وهذا خطأ بين من قائله، وخلاف ما بينه أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره، فالشرك هو: صرف العبادة لغير الله، وهذا لم يدع غير الله، وإنما طلب من الميت أن يدعو له، وهناك فرق بين أن يدعو الميت ويطلب منه قضاء الحاجة، وبين أن يطلب منه أن يدعو له عند الله، وفي هذا الأمر خلل كبير جداً عند كثير من السلفيين، فهم يتصورون أن دعاء غير الله يساوي طلب الدعاء من غير الله، فيقولون: هذه شفاعة، والمشركون كانوا يقولون: ((هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ))، فيرون أن كل من يقول: اشفع لي يا رسول الله اشفع لي يا سيدي فلان، أنه أشرك بالله، وأنه مثل المشركين. فنقول: هذا مسلم ما عبد غير الله، وما دعاه وما سجد له وما ركع له وما ذبح له ونحو ذلك، وإنما خاطبه بما لم يرد، كأن يقول له: أيعجبك حالنا يا رسول الله؟ أترى ما نحن فيه يا رسول الله؟ استسق لأمتك أو ادع الله أن يفرج هذا الكرب، وهذا خطاب بما لا يجوز، مثل قول بعض الشعراء: يا رسول الله ما يرضيك عنا؟ أو نحو ذلك، ومثل أن يقول: يا رسول الله! أخبرنا عن هذا الحديث أصحيح هو أم ضعيف؟ أقلته أم لم تقله؟ أنقول: هذا أشرك بالله من أجل أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبره بذلك؟ لا، إنما نقول: إنه خاطبه بما لم يرد، ومعروف أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يرد عليه، ونقول: هذا بدعة وضلالة، وهو خلاف غير سائغ عندنا، لكن لا يكون مشركاً شركاً أكبر بل هو ذريعة إلى الشرك؛ ولذلك قد يسمى شركاً أصغر؛ لأنه ذريعة إلى الشرك الأكبر، لكنه ليس بالشرك الأكبر الناقل عن الملة؛ لأن الشرك هو: صرف العبادة لغير الله، وهذا لم يعبد غير الله. وقد ورد هذا النوع عن بعض الفقهاء المتأخرين، لكن لأجل إجماع السلف على منعه وعدم ورود دليل على جوازه، قلنا: إنه من ضمن الخلاف غير السائغ، وإن كنا لا نكفر قائله، أما طلب قضاء الحاجات من غير الله فهذا كفر ناقل عن الملة، وإن كنا لا نكفر المعين حتى تقام عليه الحجة. ومن الأمور الخطيرة وهي ذريعة إلى الشرك، تعليق صورة الوالد ونحوه من أجل أن يقول له: انظر إلى إخوتك أو انظر إلى أولادك كيف فعلوا بي ونحو ذلك، وهو يعرف أنه لن يسمعه، لكن يشتكي له ونحو ذلك، ومثل هذا الكلام محرم بلا شك، وخطر عظيم وذريعة للشرك، فالأصل عدم سماع الأموات إلا ما ورد فيه الدليل. أما السلام على الموتى عند زيارة القبور وقول: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين) الحديث، وكذلك خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لأهل القليب؛ لأن الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف تخاطب أجساداً لا أرواح فيها؟! فقال عليه الصلاة والسلام: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) ومن ذلك تبشير الكفار الموتى بالنار كلما مررنا على قبورهم، فهذا مستثنى من الدليل على عدم سماع الأموات. وعبارة الأستاذ حسن البنا في أن التوسل بالحق والجاه خلاف فرعي عبارة فضفاضة جداً تشمل نوعي الشرك الأكبر والأصغر والمختلف فيه؛ ولذلك استغلها الصوفية في الدفاع عن قولهم: مدد يا سيدي فلان، واغفر لي يا سيدي فلان، مع أن هذا شرك أكبر مخرج من الإسلام. ويحتجون بأن الصحابي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أسألك مرافقتك في الجنة)، وهناك فرق عظيم، فالرسول ليس هو الذي يعطيه الجنة بل المعنى: أسألك عملاً يؤدي إلى مرافقتك في الجنة، وهم يقولون: نحن نقول للشيخ الميت: نسألك الجنة ونعوذ بك من النار على أن تشفع لنا عند ربنا، وهذا في الحقيقة عبادة فعلاً وإن كان على سبيل الشفاعة، فهو شرك أكبر والعياذ بالله؛ لأنه دعاء لغير الله، والله عز وجل يقول: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:5]، وقال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت:17]، إذاً ابتغاء الرزق من عند غير الله من الشرك. إذاً: من يتوسل ويقول: أسألك يا رب بحق جاه فلان، أو أسألك بفلان أو أسألك بذات فلان أن تغفر لي، فهذا ليس بشرك؛ لأنه ما سأل غير الله، بل سأل ربنا، ولكن هذا لا يجوز؛ لأنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة، والأصل في العبادات التوقيف، وكذا لم يرد عن السلف مع استحضارهم له، وكل أمر تركه الصحابة والسلف مع وجود المقتضي له وانتفاء الموانع يدل على بدعيته، هذا هو الراجح عندنا. وقد ورد بأسانيد فيها مقال أن بعض الصحابة أفتى بعض الناس بأن يستعمل هذا النوع من التوسل، وورد عن بعض الأئمة القول به، ولكن نحن نرجح عدم ثبوته عن الصحابة، ومن أجل هذا نرجح القول ببدعيته، ولكن هذا يدل على أنه خلاف سائغ. وهذه المسائل لا تدخل في مسائل الإنكار، ولا تدخل في مسائل التبديع للمعين، وهذا الكلام ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه القاعدة الذهبية في التوسل والوسيلة، وذكر أيضاً أن الإمام المروزي -وهو من أصحاب الإمام أحمد - نقل عن الإمام أحمد دعاءً فيه توسل بالنبي عليه الصلاة والسلام، فـ شيخ الإسلام يقول: هذه الرواية مخرجة على الرواية الضعيفة عن الإمام أحمد في جواز الحلف بالنبي عليه الصلاة والسلام، والإمام أحمد روي عنه روايتان في هذا الباب. ونحن نجزم بأن الخلاف غير سائغ في جواز الحلف بالنبي عليه الصلاة والسلام؛ لثبوت النص: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، حتى ولو كان الإمام أحمد جوز ذلك، والراجح عند شيخ الإسلام ابن تيمية أن الإمام أحمد يمنع من الحلف بالنبي عليه الصلاة والسلام، لكن هو يقول: في المذهب روايتان في جوازه ومنعه. وبعضهم يستدلون على جواز التوسل بزيادة ضعيفة وردت في حديث الأعمى، وهو حديث صحيح، وهو أن أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إنه شق علي فقد بصري، فادع الله أن يرده لي، فقال: إن شئت دعوت وإن شئت صبرت، فقال: بل ادع لي، فقال: فائت الميضأة فتوضأ ثم قل: اللهم إني أتوجه إليك بنبيك، يا محمد يا نبي الرحمة إني أتوجه بك إلى ربي في قضاء حاجتي، اللهم شفعه في وشفعني فيه)، فالحديث إلى هنا صحيح، والرجل رد الله عليه بصره، وفي رواية أخرى بزيادة: أن عثمان بن حنيف في زمن عثمان بن عفان علم رجلاً كانت له عند عثمان بن عفان حاجة، وكان عثمان لا يلتفت إليه، فشكا الرجل إلى عثمان بن حنيف ذلك، فقال له: ائت الميضأة ثم توضأ وصل ركعتين ثم قل: اللهم إني أتوجه إليك بنبيك، يا محمد يا نبي الرحمة إني أتوجه بك إلى ربي في قضاء حاجتي، فذهب إلى عثمان فقضى حاجته. وهذه الزيادة رواها الطبراني، وشيخ الإسلام رجح ضعف هذه الزيادة، وضعفها كذلك الشيخ الألباني، والراجح أنها ضعيفة، أما أصل الحديث فهو صحيح، وما ورد فيه جائز، فلو جاء شخص وقال: اللهم إني أتوسل إليك بفلان، وفلان هذا قال له: أنا سأدعو لك، فهذا توسل صحيح ومشروع، وهو من التوسل بدعاء المسلم الصالح الحي، كما فعل عمر حينما قال للعباس: ادع الله وقال: اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبيك. ولم يقل: نتوسل إليك بنبيك، وإنما قال: نتوسل إليك بعم نبيك، ففي هذا دليل على أن التوسل بالدعاء لا بالذات يجوز؛ فإن ذات الرسول موجودة، ولو كان التوسل بالذات جائزاً لتوسل بذات الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه ترك التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم وتوسل بدعاء العباس. إذاً: أجمع الصحابة مع عمر رضي الله عنه على أن التوسل بذات الرسول صلى الله عليه وسلم غير مشروعة؛ لأن عمر ما كان يغفل عن

حرمة تتبع الرخص في المسائل الاجتهادية

حرمة تتبع الرخص في المسائل الاجتهادية تنبيه هام جداً: ليس معنى قولنا: إن الخلاف سائغ أنه يجوز لكل واحد أن ينتقي من الأقوال ما يشتهي، بل هذا خطأ كبير جداً يقع فيه الكثيرون، وبعضهم يقول: كل الأقوال صواب، بل إن الاجتهاد فيه خطأ وصواب، وهذا القول أوله طقطقة وآخره زندقة، الذي يصوب كل المجتهدين، وبالتالي يختار من أقوالهم ما يشتهي، هذا أمر خطير للغاية، وهذا يقع فيه طوائف إسلامية كثيرة في الوقت المعاصر، فالإخوان المسلمون مذهبهم على ذلك، وكذا علماء الأزهر مذهبهم على ذلك، ولجان الفتوى تعمل بهذه الطريقة، فتنتقي القول الأيسر على الناس من المذاهب، ولا تلتزم بالأدلة. والشيخ يوسف القرضاوي مذهبه بهذه الطريقة، حيث يبحث عن الأسهل للناس، بدون نظر في الأدلة، إنما يقول: الإمام أبو حنيفة قال كذا، والإمام الفلاني قال كذا، وأنا آخذ بهذا القول، مثل قوله: ابن حزم قال: الموسيقى حلال، فأنا أقول مثله ولا أحد يناقش في الأدلة! وعنده أن أي قول قيل في المسألة فله أن يأخذ به ويفتي به الناس! وعندما تم الاستغناء في الدستور المصري على جعل الشريعة المصدر الرئيسي بدءوا في الأزهر يعدون لجاناً لتقنين الشريعة، فهذه اللجان تسير بهذه الطريقة، وإذا لم يجدوا في مذاهب أهل السنة قولاً فيه تيسير أخذوا من المذاهب المذاهب الأخرى كالظاهرية والزيدية والإمامية والإباضية الخوارج، فصار عندنا ثمانية مذاهب، وعندهم فتوى بتسويغ العمل بالمذهب الإمامي؛ لأنه مذهب فقهي كسائر المذاهب، وهذا أمر خطير للغاية. فنقول: ليس معنى قولنا: إن الخلاف سائغ أنه يجوز لأي أحد أن ينتقي من الأقوال بالتشهي دون اجتهاد، فهذا سبيل للزندقة والانحلال، وقد أجمع العلماء -كما نقل أبو عمر بن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله- أنه لا يجوز تتبع رخص العلماء فضلاً عن الزلات والسقطات. يعني: ما يأخذ قول أهل مكة في الصرف، وأهل المدينة في السماع، وأهل العراق في الشراب فإذا فعل ذلك اجتمع فيه الشر كله. فالعالم المجتهد يلزمه البحث والاجتهاد وجمع الأدلة والنظر في الراجح منها، فما ترجح عنده قال به وعمل به في خاصة نفسه وأفتى به، وينبغي في المسائل التي تعم بها البلوى أن يشير إلى الخلاف فيها مع بيان ما يراه صواباً، وهذا هو المسلك الأمثل، فطريقة العلماء الكبار الإشارة إلى الخلاف كما استنبط ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من سورة الكهف، قال: إن ربنا سبحانه وتعالى ذكر الخلاف فيها فقال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف:22]، وهذا ترجيح للقادم، ثم قال: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22]، فلما ذكر الرجم بالغيب بعد القولين السابقين، وسكت عن الأخير، هذا فيه إشارة إلى ترجيح القول الأخير. ثم ذكر سبحانه وتعالى ثمرة الخلاف فقال: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:22]، ومع أن الخلاف فيها قليل الفائدة، فإن الله رجح فيها الصواب، ورد العلم إلى الله سبحانه وتعالى في آخر الأمر فقال: ((قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ)).

حكم التلفيق بين المذاهب

حكم التلفيق بين المذاهب من الخطأ ما يفعله كثير من أهل زماننا في مسائل الخلاف السائغ وغير السائغ بأخذ ما يشتهي، بل يفعله كثير من المنتسبين إلى العلم، ويفتي البعض بجواز التلفيق بين المذاهب لا بحسب أدلة الاجتهاد. والذي نحن عليه والإخوة الدعاة في أكثر المسائل يعتبر تلفيقاً، فعندما آخذ بقول الإمام الشافعي بوجوب القراءة خلف الإمام مثلاً، ولا آخذ بقول الإمام الشافعي في كل المسائل، هذا يسمى تلفيقاً، لكن هذا تلفيق مبني على الدليل، ولا يلزم طالب العلم أن يأخذ مذهباً واحداً ولا يخرج عنه. وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مذهبه الحقيقي في الاختيارات الفقهية يعتبر تلفيقاً، لكنه تلفيق مبني على اجتهاد. وفي مسائل خالف فيها مذهب الحنابلة بالكلية، واختار قولاً ليس موجوداً أصلاً في المذهب، فهذا تلفيق شرعي، وهو في الحقيقة الواجب على مثل شيخ الإسلام؛ لأن شيخ الإسلام عالم مجتهد، فكونه اجتهد ورجح هذا القول يلزمه أن يقول به، وإن سماه غيره تلفيقاً، فعنده القدرة على الترجيح بين المذاهب. فالشرع قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، وإجماع أهل العلم، والقياس على هذه الأصول، أما أن يتحول الشرع إلى أن أي قول من أقوال العلماء هو الشرع، وأن من أخذ به فهو آخذ بالشريعة، وأن الخلاف رحمة وإن خالف النصوص؛ فهذا كلام فاسد يؤدي إلى الزندقة والانحلال، ويلزم من هذا القول أن الملاهي الليلية لا بأس بها، والنظر إلى عورات أهل الذمة لا بأس به؛ لأن سفيان الثوري قال بجواز النظر إلى عورات أهل الذمة وشعور نساء أهل الذمة، وأن المحرم النظر إلى المؤمنة فقط، والموسيقى أجازها ابن حزم والبيرة أجاز الحنفية الشرب منها بغير سكر، وبهذا التلفيق تكون الملاهي جائزة مع أن عوام المسلمين وفساقهم يعرفون حرمتها بلا شك. فأهل الأهواء التلفيق عندهم بحسب التشهي والانتقاء لا بحسب الأدلة والاجتهاد، فكل ما يظنونه مصلحة أو فيه تيسير على الناس يجوزونه بدون نظر في الأدلة! قال أبو عمر بن عبد البر: الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة إلا من لا بصر له ولا معرفة عنده، ولا حجة في قوله. وأبو عمر من أعلم الناس بمذاهب المتقدمين. وقال المزني: يقال لمن جوز الاختلاف وزعم أن العالمين إذا اجتهدا في الحادثة فقال أحدهما: حلال والآخر: حرام، فقد أبد كل واحد منهما جهده وما كلف به، وهو في اجتهاده مصيب للحق: هل قلت هذا بأصل أم بقياس؟ فإن قال: بأصل، قيل: كيف يكون هذا أصلاً والكتاب أصل ينفي الخلاف؟ لأن ربنا قال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79]، وإن قال بقياس، قيل: كيف تكون الأصول تنفي الخلاف، ويجوز لك أن تقيس على هذا الخلاف؟ هذا ما لا يجوزه عاقل فضلاً عن عالم. ويقال له: أليس إذا ثبت حديثان مختلفان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى واحد أحله أحدهما وحرمه الآخر، وفي كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على إثبات أحدهما ونفي الآخر أليس يثبت الذي يثبته الدليل ويبطل الآخر ويبطل الحكم به قطعاً، فإن خفي الدليل على أحدهما وأشكل الأمر فيهما وجب الوقوف؟ فإذا قال: نعم، قيل له: فلم لا تصنع هذا برأي العالمين المختلفين، ويثبت منهما ما يثبته الدليل، ويبطل ما أبطله الدليل؟! هذا كلام متين جداً من المزني صاحب الشافعي رحمه الله، وهذا ينقله عن كل العلماء، فليس الخلاف نفسه حجة، وليس كلام العالم حجة، وليست الشريعة جملة الأقوال، فهذا كلام في منتهى الخطورة، وهو مخالف للإجماع القديم فعلاً، وهذا مما لا شك فيه. وكلام المزني مذكور في (جامع بيان العلم وفضله) للإمام أبي عمر بن عبد البر (ص356). إذاً: في الخلاف السائغ: يجب على العالم المجتهد أن يجتهد ويعمل ويفتي بالقول الراجح لديه حسب اجتهاده من الأقوال المختلفة، ولا يسعه أن يفتي الناس بما يشتهون، أو بما يشتهي هو، أو بما يشتهي غيره، أو لمجرد الأيسر؛ ظناً أن الخلاف السائغ معناه الانتقاء من الأقوال، وعلى العامي أن يسأل من يثق به من أهل العلم، فإن سأله برئت ذمته، وأما إن سأل من لا يثق به فلا تبرأ ذمته، بل يكون آثماً.

بيان حقيقة القول بأن اختلاف الأمة رحمة

بيان حقيقة القول بأن اختلاف الأمة رحمة يتعلق بالمسألة السابقة مسألة اشتهر الكلام فيها وهي: أن اختلاف الأمة رحمة، فظن كثير من الناس أن سبب ذلك أن فيه توسعة على الناس، فإذا ضاق مذهب على الناس وجدوا سعة في العمل بغيره، وقد قلنا: إن هذا أمر لا يسوغ ولا يجوز باتفاق العلماء، وإن الخلاف ليس بحجة لا للعالم ولا لطالب العلم ولا للعامي، حتى أن العامي عليه أن يجتهد في اختيار الأوثق في نفسه من أهل العلم فيقلده، وعلى طالب العلم القادر على الترجيح والنظر في الأدلة أن يختار من أقوال العلماء ما ترجح لديه، وعلى العالم أن يجتهد في استنباط الحكم الشرعي. إذاً: فما معنى هذا القول؟ وما حقيقة هذه المسألة؟ A نقل غير واحد من العلماء عن بعض السلف قولهم: الاختلاف رحمة ومنهم: عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد حيث قال: لقد نفع الله الأمة باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة، ورأى أن خيراً منه قد عمله. وقد جاء في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اختلاف أمتي رحمة)، وهو لا يصح سنداً ولا متناً، بل هو منكر متناً وضعيف سنداً، وإنما هو كلام لبعض السلف، وليس معنى ذلك عندهم أن الاختلاف نفسه رحمة، بل الكتاب والسنة يذمان الاختلاف كما سبق في الجملة، والمراد بالاختلاف الذي هو رحمة نوع خاص، ولم يرد أن الخلاف نفسه رحمة، فقد قال ابن مسعود: الخلاف شر، والمقصود عند هؤلاء السلف الذين قالوا: إن الاختلاف رحمة، أن أصحاب هذا الاختلاف مرحومون، وليس أن الاختلاف ذاته مطلوب، ولا أنه في ذاته هو الرحمة، وإنما أصحابه مرحومون، بمعنى: أن من اجتهد في الوصول للحق، ولم يقصر فقد أدى ما عليه، فإن أخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران كما دل عليه الحديث الصحيح كما سبق، ودل عليه القرآن بالثناء على داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام مع تصويب سليمان، فليس الاختلاف نفسه رحمة أو أنه مطلوب شرعاً، بل إن استطعنا أن نعدم هذا الخلاف وننهيه فهو الأفضل، وحتى الخلاف السائغ إن استطعنا أن نلغيه بأن نتناظر ونتناقش في جو من الود والمحبة إلى أن نصل إلى قول واحد فهذا أفضل وأحسن؛ لأن اجتماع الناس على قول واحد أفضل لهم من الاختلاف، لكن المعنى كما ذكرنا هو أن أصحاب هذا الاختلاف لا يعذبون طالما أنهم بذلوا وسعهم في معرفة الحق كل حسب علمه وقدرته، والحق واحد لا يتعدد، ووجود هذا النوع من الاختلاف له حكمة كونية لا حكمة شرعية، وأسباب الاختلاف تعود إلى اختلاف الأفهام والقدرات وطرق التعليم في بداية النشأة، وهذه أمور قدرية فالمطلوب شرعاً الاتفاق ما أمكن، والبحث عن الحق قدر الطاقة، وبالتالي فأصحاب هذا النوع من الاختلاف مرحومون. إذاً: الإنسان المجتهد أو العامي إذا قلد الأوثق من أهل العلم في نظره فلا يظن أنه على خطر وعلى شفا هلكة إن ظهر أن هذا القول خطأ أو كان هذا القول في حقيقته عند الله خطأ، بل طالما قد عمل به بعض السلف من الأئمة المعتبرين فهو مرحوم ومأجور أجراً واحداً أو أجران، فكان هذا الخلاف من هذه الحيثية رحمة، وليس أن الخلاف ذاته رحمة ولا أنه مطلوب.

معارضة السنة بآراء الرجال ليس من الخلاف السائغ

معارضة السنة بآراء الرجال ليس من الخلاف السائغ ليس من الخلاف السائغ بين الفقهاء أن تصادم السنة بآراء الرجال، فلا يجوز لأحد من العلماء أبداً أن يقول: إن قوله أو قول غيره يقابل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلاً عن أن ترد السنة من أجله. وقد تكون المسألة اجتهادية وفيها جملة من الأدلة التي تختلف طرق الجمع بينها وليس واحداً من الأدلة قاطعاً على غيره، فتكون المسألة بهذا الضابط من مسائل الخلاف السائغ، وأما إذا استبانت السنة للإنسان فلا يجوز له أن يعارضها بأقوال العلماء، وهذا المرض حدث عند المتأخرين، فتصل السنة إلى بعضهم ولم يصله الدليل المخالف لها، فيأخذ برأي لا يعرف دليله ولا وجهه مع معرفته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكم في هذه المسألة بحكم معين، وقد يكون في المسألة حديث آخر لكنه لا يعرفه ولم يصله، فمثل هذا الفعل لا يجوز. فبعضهم يعارض السنة ويقول لك: إن إمامي أو شيخي لم يعمل بهذا الحديث، فيرده أو يؤوله أو يقول: هذا ضعيف، فيخالف السنة، زاعماً أن المسألة فيها خلاف بين العلماء. قال الشافعي رحمه الله: أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس، هذا إجماع على أن من وصلته سنة لا يجوز له أن يدع السنة؛ لذلك عندما نتكلم عن مسألة الاجتهاد والتقليد واتباع المذاهب نقول: لا يلزم اتباع المذاهب أولاً، يعني: أن المسلم لا يلزم في عصر من العصور بمذهب لم يكن لازماً على المسلمين طوال الثلاثة القرون الخيرية؛ فهذا أمر بلا شك محدث، والقول بإلزام كل عالم أو عامي أو طالب علم أن يلتزم مذهباً واحداً لا يخالفه ولا يفارقه لم يكن معروفاً مدة ثلاثة قرون في عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم، إنما حدث هذا الإلزام بعد هذه العصور، وكان بلا شك في العصور الأولى تأثر بالصحابي المعين، فلا شك أن ابن مسعود كان له أصحاب، وابن عباس كان له أصحاب، وابن عمر كان له أصحاب، ولا شك أن كل تلميذ تأثر بأستاذه، لكن لم يكن أحد يلزم أحداً ألا يأخذ علماً عن غير إمامه وصاحبه، بل كان كل تلميذ منهم يأخذ عن شيخه أكثر علمه، ويأخذ عن غيره، وإذا وضح له الحق لم يكن يرده لقول أحد من الصحابة رضي الله عنهم، وإنما يرد القول المخالف لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم. فمن هنا نقول: يجوز أن يتمذهب الإنسان، ولا يلزم ذلك، والقول بإلزام الناس بمذهب معين وتحريم الخروج عليه بدعة مُحدثة، فلم يقل أحد: يجب أن يتبع ابن عباس أو يجب أن يتبع ابن مسعود أو يجب أن يتبع عمر أو يجب أن يتبع أبو بكر في كل أقواله. وأيضاً الإيجاب حكم شرعي والذي يوجب هو سبحانه وتعالى. والرسول صلى الله عليه وسلم يبلغ عن الله ويخبر أن هذا واجب أوجبه الله. فالتقليد سائغ وليس بلازم بشرط أنه إذا استبانت له السنة ترك المذهب وترك الإمام وترك قول كل أحد للإجماع المنعقد على ذلك كما نقله الشافعي رحمه الله. وهل يجوز لإمام المسلمين أن يلزم الناس بمذهب معين أو قول معين؟ A لا يجوز للإمام أن يلزم جميع الناس بمذهب معين، ويعاقب من يخالفه أو يأمر المحتسبين أن يعاقبوا من يخالفهم، والمسألة فيها خلاف سائغ، لكن لو كان فيه فتنة فهذا محتمل من أجل منع الفتنة. وقول عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما)، المقصود بالأمور الاختيارية، أي: بين أمرين مستحبين أو مباحين، وليس بين واجب ومحرم، أو بين واجب ومباح، أو بين محرم ومباح، فلا بد أن يكون كلا الأمرين جائز. سأل رجل الشافعي عن مسألة فأجابه فيها بحديث، فقال له: أتقول به يا أبا عبد الله؟ فقال: أتراني خرجت من الكنيسة؟! أتراني أشد على وسطي زناراً؟! والزنار حبل يلبسه القساوسة في وسطهم -أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أقول به؟! نعم على العين والرأس. فالإمام الشافعي رحمه الله أنكر جداً على هذا الرجل، وقال: أشهدكم أني إذا رويت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلت بخلافه أنه قد ذهب عقلي. وهذا دليل على أن الأمر عندهم أمر قطعي، فلا يجوز لأحد أبداً أن تقول له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول لك: قال فلان أو هذا رأي آخر. سئل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن مسألة فأجاب فيها ثم قال للسائل: ائت ابن مسعود فسله فسوف يوافقني، فقال ابن مسعود: قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين إن وافقته، وما قال لهم: أبو موسى ضال، قال: ولكن أقول بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الحديث. إذاً: أئمة الهدى والعلم لا يرون لأحد حجة في خلاف ما علمه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد تكون المسألة اجتهادية في حق عالم لعدم علمه بالسنة فيجتهد فيها، ويكون من تبعه على اجتهاده غير معذور إذا كان قد علم بالسنة واستبانت له، فـ ابن عباس رضي الله عنه كان يفتي بالمتعة في الحج وقال لـ عروة: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمتعة، فقال له عروة بن الزبير: كان أبو بكر وعمر ينهيان عن هذا، فقال له عبد الله بن عباس: توشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال: أبو بكر وعمر!!). لماذا قال لـ عروة: توشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء؟ الجواب: من أجل أنه عارض أمر رسول الله بأن أبا بكر وعمر كانا ينهيان عن المتعة حتى ولو قال عروة: أبو بكر وعمر أعلم برسول الله منك، فهذا كلام صحيح، لكن هذا ليس بحجة، من أجل ذلك غلظ عليه ابن عباس رضي الله عنه، وتخوف من نزول حجارة من السماء، والآن كل المقلدين يقولون: هل أنت أعلم من الشافعي؟ هل أنت أعلم من أبي حنيفة؟ أنا لست أعلم منهم قطعاً، لكن عندنا حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام يقول كذا، فلا نتركه لهذه الشبهة. من استبانت له السنة وخالفها غير معذور؛ لأنه في هذه الحالة خالف الإجماع بعد مخالفته لأدلة الكتاب والسنة بوجوب اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعرفة خلاف الفقهاء أمر مهم؛ لأن كثيراً من طلاب العلم وأبناء الصحوة الإسلامية لا ينتبهون لوجود هذا النوع من الاختلاف، ويظنون أن كل مسائل الاختلاف بين العلماء مما يعادا فيه ولأجله ويبغض المخالف له، وهذا يوجد من أسباب الفساد والتعادي ما لا يعلمه إلا الله، فينبغي إدراك وجود هذا النوع من الاختلاف، وعدم إمكانية إزالته، وأن له أسباباً لن تزول، فالأدلة منها ما هو قطعي وما هو ظني، وخلاف الأفهام وارد، فالخلاف لا يمكن أن يزول بالكلية، ولن يكون جميع الناس في كل المسائل على قول واحد، وبعض الطلاب يظن أن دعوة بعض المشايخ للتصفية معناه: أنه لابد أن يكون لنا قول نجتمع عليه في كل مسألة، ونحارب من خالفه! كلا، ليس الأمر كذلك، بل نزيل منه ما يمكن إزالته، وهذا سيكون لطائفة معينة في زمن معين، ولن يكون في كل الأزمنة وفي كل المسائل ولكل الناس، فهذا لا يمكن إزالته بالكلية. وإدراك وجود هذا النوع من الاختلاف يوسع صدور المسلمين لاحتماله، وليكن شعارنا في ذلك: يسعنا ما وسع السلف الصالح، ولا يسعنا ما لم يسعهم، فيعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، مما اختلف فيه السلف من قبلنا، وليس في كل خلاف. بقيت المودة والألفة بين السلف مع وجود الاختلاف بينهم، فليكن هذا حالنا أيضاً، ولنرفق بالمخالف لنا، ولا يزيد إنكارنا على مجرد المذاكرة العلمية وبيان الأدلة التي نرى رجحانها، ولا نسمح للشيطان بإلقاء جذور العداوة عبر الاتهامات بالجهل أو الضلال أو الانحراف عن منهج السنة وطريق السلف، وليكن حوارنا هادئاً نلتزم فيه بما أدبنا به العلماء، وكما نعرفه من طرقهم في البحث والمناظرة والرد الرفيق على المخالف، ليكن هذا الحوار هو الأسلوب الذي ينتهجه أبناء الصحوة في خلافاتهم حول المسائل التي يسوغ فيها الاختلاف والاجتهاد، وليبذل كل منا جهده في معرفة الحق والعمل به، وليعذر الآخرين، وليدع للجميع بالتوفيق لما يحبه الله ويرضاه والقبول عنده سبحانه وتعالى.

أدب الخلاف [5]

أدب الخلاف [5] إن اختلاف التضاد المذموم هو الاختلاف غير السائغ، ويعرف بأنه: ما خالف نصاً من كتاب أو سنة أو إجماعاً أو قياساً جلياً لا يختلف فيه، سواء كان ذلك في الأمور الاعتقادية العلمية، أو كان في المسائل العلمية.

الاختلاف غير السائغ

الاختلاف غير السائغ الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أما بعد: فقد ذكرنا فيما سبق اختلاف التنوع وقلنا: إنه لا بأس من حصوله، ثم ذكرنا اختلاف التضاد السائغ واشترطنا فيه ألا يصادم نصاً جلياً سواء كان ذلك في الأصول أو الفروع. واليوم نتناول اختلاف التضاد غير السائغ، وهو الاختلاف المذموم، وكثير من أهل العلم يعرفونه بأنه: الخلاف في الأصول أي: في العقائد، والصحيح أن يعرف بأنه: ما خالف نصاً من كتاب أو سنة أو إجماعاً أو قياساً جلياً لا يختلف فيه، سواء كان في الأمور الاعتقادية العلمية وهذا أكثر أنواع هذا الاختلاف أو كان في المسائل العملية، فكما يذم المخالف دائماً في مسائل الاعتقاد في الغالب يذم المخالف أيضاً في بعض مسائل العمل، فيذم المخالف الذي يقول بعدم صحة المسح على الخفين، ويذم المخالف الذي يفتي بجواز زواج المتعة، ويذم المخالف الذي يقول: لا ربا إلا في النسيئة. ومعروف أن ابن عباس رضي الله عنه كان يفتي بجواز زواج المتعة، وهذا قول لا شك في بطلانه؛ لأنه مخالف للثابت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يفعله يستحق العقاب، وليس هذا طعناً في ابن عباس رضي الله عنه. إذاً: كثير من مسائل الفروع -أي الأحكام- فيها نصوص من الكتاب والسنة والإجماع، وقد لا يعذر المخالف فيها، بل قد يكفر، كمن أنكر وجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان وحرمة الزنا والخمر، فهذه من مسائل الأحكام المسماة عند الكثيرين بالفروع، وقد يبدع المخالف فيها كإنكار المسح على الخفين، والقول يجواز نكاح المتعة، والأغلب في اختلاف أهل العلم في مسائل الفروع -مسائل الفقه- أنه من الاختلاف السائغ كما سبق ذلك. إذاً: ضابط خلاف التضاد أنه مخالفة البينات، قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105]، فالذي يخالف البينات يكون مذموماً، سواء كان خلافه في الاعتقاد أو كان في العمل وهذا أمر مهم جداً؛ لأن بعض الناس يلغي أي ذم لأي اختلاف عملي ولو كان خلافاً في البينات، ويجعل كل مسائل الخلاف العملي مما يعذر بعضنا بعضاً فيه، وهذا قول خطير، فنقول: قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103] قال ابن كثير: ((وَلا تَفَرَّقُوا)): أمرهم الله بالجماعة، ونهاهم عن الفرقة، وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع، كما في صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويسخط لكم ثلاثاً، يرضى لكم: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم، ويسخط لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال). وقد ضمنت لهم العصمة من الخطأ عند اتفاقهم، كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضاً، وخيف عليهم الافتراق والاختلاف، وقد وقع ذلك في هذه الأمة، وافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة منها فرقة ناجية إلى الجنة، ومسلَّّمة من النار: وهم الذين على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله. هذا الكلام واضح الدلالة على أن هناك فرقة خارجة عن هذا النوع وهو الاعتصام بحبل الله، وهو الوحي المنزل من عنده، وهو الكتاب والسنة، والإجماع، فقد أشار إلى هذه الأمور التي ضمنت لهم العصمة من الخطأ عند اتفاقهم. قال: كما قال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين). إذاً: لو أن كل الأمة على قول، فلا بد أن تكون هذه الطائفة الظاهرة ضمن الأمة، وهذا القول سوف يكون هو الحق؛ لأن الطائفة ضمن الأمة على الحق، فلهذا يستحيل أن يضيع الحق بالكلية من الأمة الإسلامية، كما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من بعده، قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105]. فهناك عذاب وذنب لمن خالفوا البينات وتفرقوا بعد وجودها، قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:106 - 107]. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل البدع والافتراق، رواه النسائي في شرح أصول الاعتقاد، وابن أبي حاتم وأبو نصر في الإبانة، والخطيب في تاريخه. وقد ذم الله في هذه الآية من خالف البينات، ومن هنا: كان تعريف هذا النوع من الاختلاف المذموم من هذه الآية الكريمة: ((وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ))، إذاً: البينات هي الأمر البين الواضح الذي جاء من عند الله وهو من حبل الله هو ما كان. نص كتاب أو نص سنة أو إجماعاً أو قياساً دليلياً على هذه الثلاثة، والقياس الدليلي القول به يتفق عليه الصحابة جميعاً رضي الله عنهم. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159]، هذه الآية وإن نزلت في اليهود والنصارى كما قال مجاهد وقتادة والضحاك والسدي ووكيع عن ابن عباس إلا أنها تشمل أهل البدع والشبهات والضلالات، إذاً: لا يقال هذا على من اختلفوا خلافاً سائغاً، ولا يقال عن أهل السنة ضمن الفرق؛ لأن البعض يأتي يطلق ذلك على الجماعات الإسلامية المعاصرة، يقول: ((إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ))، فأي جماعات تكون من ((الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا))، ومعنى هذا: أن أهل السنة ضمن الفرق النارية، وكلهم: ((لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ))، وهذا الكلام باطل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام تبرأ من الفرق الثنتين والسبعين، وتولى التي في الجنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا واحدة). إذاً: أهل السنة وأهل الحق هم على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وعلى الصراط المستقيم، والذي فرق دينه هو الذي ابتعد عنهم، وهم الذين وصفهم الله بقوله: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53]، فهذا يأخذ جزءاً من الكتاب ويتمسك به ويترك الباقي, والثاني يأخذ الجزء الباقي ويترك هذا الجزء، وهذا ليس كلام أهل السنة أبداً، فإن القدرية والجبرية كل منهم تمسك ببعض شيء: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53]، وترك الباقي. الجبرية مثلاً تتمسك بقول الله: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ} [الأنعام:39]، وتقول: ليس للإنسان قدرة وإرادة، والقدرية تتمسك بقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28]، وهذا الكلام تحريف للدين، وتفريق له، وعدم إيمان بالكتاب كله، وهذا هو المذموم. أما أهل الحق فهم السائرون على الصراط، وكل من يبعد عنهم فهو من الذين ((فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا))، وليس أهل الحق من يقال عنهم هذا الكلام بنص هذه الآية. عندما يقول شخص عن الجماعات المختلفة: هذه الآية دليل على أن أي تجمع يكون من ((الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا))، هذا ظلم بين، واستدلال في غير الموضع، بل تحريف لمعنى الآية؛ لأن الآية لم تشمل من كانوا على ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام في الذم، إنما ذم وتبرأ وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتبرأ من الذين فرقوا دينهم. أما أهل السنة فجمعوا الدين والتزموا به، حتى وإن أصبحوا واحدة من ثلاث وسبعين، لكن من الذي سبب وجود الثلاثة والسبعين؟ من المذموم على فعله؟ المفارقون المخالفون أهل البدع والضلال، فهم هؤلاء الذين صنعوا التفرق. قال ابن كثير رحمه الله: والظاهر أن الآية عامة لكل من فارق دين الله، وكان مخالفاً له، فإن الله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق، فمن اختلف فيه وكانوا شيعاً -أي: فرقاً كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات- فإن الله تعالى قد برأ رسوله صلى الله عليه وسلم مما هم فيه. وهذا فيما هو من الدين، أما ما فيه اجتهاد فهو داخل ضمن قوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79]. وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13]، أمرنا الله أن نقيم الدين ولا نتفرق فيه، وقال: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَ

أسباب الخلاف السائغ وغير السائغ

أسباب الخلاف السائغ وغير السائغ لكن هل يكون هناك خلاف سائغ مع وجود الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة؟ يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها على إقرار كل فريق للفريق الآخر، إذاً: نقول إن ربنا سبحانه وتعالى إنما قال: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الشورى:14] لما يأتي العلم وتأتي البينات ويتفرقون بغياً فهذا هو الاختلاف المذموم {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى:14]. قال ابن كثير رحمه الله: ((أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)) أي: أوصى الله تعالى جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالائتلاف والجماعة، ونهاهم عن التفرق، وقال تعالى في ذم أهل الكتاب في تحذير لنا من مشابهتهم: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213]، كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. هذا معنى الآية. ((وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ))، فلا بد من الكتاب الذي فيه حكم ونص في ذلك، وكذا سنة النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. قال الله عز وجل: ((وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ))، دائماً نلحظ أن سبب الخلاف غير السائغ هو الذي يكون بعد ظهور الحق. روى عبد الرزاق عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولاً الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم, فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له، الناس لنا فيه تبع، فغداً لليهود، وبعد غد للنصارى)، فمثل هذه الاختلافات مذمومة باطلة. يقول: أما أدلة السنة: فروى الإمام أحمد وأبو داود والدارمي والحاكم والآجري في الشريعة وحسنه الألباني عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهم الجماعة)، وفي رواية الترمذي والطبراني: (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، لذا نؤكد أن منهج السلف، وما أجمع عليه السلف من الصحابة رضي الله عنهم ومن كان على طريقتهم لا يسوغ فيه الخلاف، ويسعنا ما وسعهم، وما أجمعوا عليه فهو ضمن الحق المقطوع به ضمن البينات؛ لأن إجماعهم معصوم من الضلال والخطأ.

قاعدة الشرع الذهبية في التعامل مع المخالف

قاعدة الشرع الذهبية في التعامل مع المخالف روى الترمذي وأبو داود عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة). إذاً: البدع والضلالات هي ما خالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم أو تطبيق الصحابة والخلفاء الراشدين لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن سنتهم وطريقتهم تطبيق لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم. من أجل ذلك نقول: كتاب وسنة بفهم سلف الأمة، وما خالف ذلك فهو المذموم، هذه هي قاعدة أهل السنة الذهبية، وهي أنه إن كانت عندنا سنة للرسول صلى الله عليه وسلم وسنة للخلفاء الراشدين فلا يمكن أن نتركها، وإنما نترك البدع. إذاً القاعدة الذهبية القائلة: نجتمع فيما اتفقنا فيه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، ثم نطبقها على دائرة واسعة جداً بما فيها الخلاف غير السائغ مع الشيعة والصوفية، والخوارج أحياناً، والبعض منا يطبقها مع الخوارج ويقول: يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، لا. هذا الأمر لا يسع ولا يقبل: (عليكم بسنتي)، إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم أمر عند الاختلاف بلزوم السنة، فإنما يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، لكن إذا وجدت السنة نلزمها. وقال البخاري في صحيحه في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول صلى الله عليه وسلم من غير علم فحكمه مردود، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، هذا ضابط ينطبق على حقيقة الخلاف غير السائغ، وأن قضاء الحاكم وفتوى المفتي ترد إذا خالف فيها النص. ثم ذكر حديث أبي سعيد وأبي هريرة في النهي عن بيع التمر بالتمر إلا مثلاً بمثل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن اشترى تمراً جيداً بتمر رديء: (أوه عين الربا، ردوه)، وأمر برده؛ لأن فيه مخالفة للنص. هذه المسألة مهمة جداً، فهناك مسائل ما كان النص فيها واضحاً عند الصحابة، واجتهدوا فيها، فما قال لهم فيها: أعيدوها، مثل قصة أبي بكرة عندما ركع دون الصف، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عنه، واحتسب هذه الركعة على الظاهر بعد ذلك، لكن على الأقل هناك جزء منهي عنه متفق عليه بين العلماء، وهو أن مشيه في الصلاة كان بسرعة مثلاً، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (زادك الله حرصاً ولا تعد)، وما كان عنده بيان قبلها وما وصلته السنة، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال له لا تعمل هذا مرة ثانية. وأخذنا من هذا: أن ما فيه اجتهاد لا ينقص، وحتى بعدما يتبين له فيه الحق لا يعيده، وهذا خلاف حالة المسيء في صلاته؛ لعدم ورود احتمال الجهل، وإن ورد فهو مبطل للعمل لا منقص فقط. ولذلك سنجد آثاراً عن الصحابة فيها تراجع عن أحكام ماضية، مثل: عمر رضي الله عنه لما غير اجتهاده في مسائل لم يبلغه فيها حكم السنة الماضية، فقالوا له: أنت قضيت بهذا العام الماضي فقال: تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي. إنما النبي صلى الله عليه وسلم قال هنا: (ردوه) وأمر برد هذا البيع الذي تضمن الربا. وقال أيضاً في كتاب الأحكام: باب إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد. ثم ذكر حديث ابن عمر قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا فقالوا: صبئنا صبئنا!) وهذا دليل على أن من عادة العرب أن يسموا من أسلم صابئاً، فهم يريدون أن يقولوا: نحن دخلنا في هذا الدين، فقالوا: صبئنا، قال: فجعل خالد يقتل ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا -هذا كلام ابن عمر - أن يقتل أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره. يعني: كان له من يسمع كلامه داخل الجيش المسلم، وابن عمر أعلم من خالد بلا شك، وخالد خالف النص، فهؤلاء لم يحسنوا أن يقولوا: دخلنا في الدين, وقتلهم محرم، ولابد أن تعصم دماؤهم، فهو أخطأ, وخالف النص، والإمام البخاري يقول: إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد)، والواجب حسن الظن بالصحابة؛ لأن هذا كان خطأ من خالد بن الوليد، وهو مأجور فيه، لكن هذا الفعل باطل بلا شك. حديث آخر: (الغنم والجارية رد عليك)، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر برد الحكم الذي يخالف النص؛ لأن الأجير زنى بامرأة صاحب العمل، فافتدى منه بمائة كبش ووليدة، فقال: (الغنم والجارية رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأة هذا الرجم)، فأبطل ما أفتي به وما حكم به خلاف النص.

ما ورد من الأمر بلزوم الجماعة

ما ورد من الأمر بلزوم الجماعة قال أيضاً في كتاب الاعتصام: باب: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]، وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة وهم أهل العلم. إذا وجد الإجماع فلا يجوز مخالفته، {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} [آل عمران:19]، {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة:213]. يعني: عليهم الالتزام بالكتاب كما في الآيات السابقة، والسنة لقوله: (عليكم بسنتي)، فالإجماع يعني: إجماع أهل العلم كما بينته الآية السابقة. ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجاء بالنبي يوم القيامة فيقال: هل بلغت؟ فيقول: نعم يا رب، فتسأل أمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير، فيقول: من شهودك؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فيجاء بكم فتشهدون، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] قال: عدلاً، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]). قال ابن حجر: أما قوله: (وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة وهم أهل العلم)، فمطابقته لحديث الباب خفية, من أين استنبط الإمام البخاري هذه الترجمة، وأن الرسول أمر بلزوم الجماعة وهم أهل العلم؟ يقول: وكأنه من جهة الصفة المذكورة وهي العدالة، لما كانت تعم الجميع لظاهر الخطاب أشار إلى أنها من العام الذي أريد به الخاص، أو من العام المخصوص؛ لأن أهل الجهل ليسوا عدولاً، وكذلك أهل البدع، فعرف أن المراد باللفظ المذكور أهل السنة والجماعة، وهم أهل العلم الشرعي, ومن سواهم ولو نسب إلى العلم فهي نسبة صورية لا حقيقية, وورد الأمر بلزوم الجماعة في عدة أحاديث منها: ما أخرجه الترمذي مصححاً من حديث الحارث الأشعري -فذكر حديثاً طويلاً وفيه-: (وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن: السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة؛ فإن من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه). وفي خطبة عمر المشهورة التي خطبها بالجابية: عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، وفيها: من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة. قال ابن بطال: المراد بالجماعة أهل الحل والعقد في كل عصر. قال الكرماني: مقتضى الأمر بلزوم الجماعة: أنه يلزم المكلف متابعة ما أجمع عليه المجتهدون, وهم المراد بقوله: وهم أهل العلم، والآية التي ترجم بها احتج بها أهل الأصول لكون الإجماع حجة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]، هذا دليل بأن الأمة إذا كانت على شيء فهذا الشيء من الحق قطعاً، إذاً: الإجماع إذا كان في أمر فهذا هو الحق قطعاً، ولا تجتمع الأمة على ضلالة؛ لأن الله تعالى جعلها أمة وسطاً.

وجوب العمل بالبينات والعلم لكل من وصلته

وجوب العمل بالبينات والعلم لكل من وصلته يقول: ومما سبق من الأدلة وكلام أهل العلم يتضح أن الخلاف والتفرق المذموم في الكتاب والسنة المحكوم ببطلانه ورده هو ما خالف الوحي المنزل من عند الله سبحانه, وهو حبل الله، وهو الكتاب العزيز، وهو قد دل على السنة الشريفة- الكتاب دل على السنة- وهي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي من أتى بخلافه فهو رد -أي: مردود- وهو العلم والبينات التي آتاها الله أهل الكتاب فتفرقوا عنها فذمهم على ذلك. إذاً: العلم عبارة عن كتاب وسنة وإجماع أهل العلم، وما خالف -ذلك وخاصة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالأخص طريقة خلفائه الراشدين المهديين من بعده- كان من أهل البدع المحدثات والضلالات التي أخبر صلى الله عليه وسلم أنها في النار. وأما القياس الجلي فهو ملحق بهذه الثلاث؛ لأن هذه الثلاث دلت عليه، وقد وضح أيضاً من عموم الأدلة السابقة أنها لم تقسم الدين أو الوحي أو الكتاب والسنة والإجماع إلى مسائل أصول وفروع يترتب عليها الأحكام، من أجل ذلك نقول: هذا التقسيم غير صحيح؛ لأنه ينبني عليه المدح والذم، ولو أن هذا التقسيم لا ينبني عليه حكم لا توجد مشكلة, إنما نأخذ بالاصطلاح، وإذا كنت ستقسم بدون بناء أحكام فلا بأس، لكن عندما تبني أحكاماً بالمدح والذم، وتقول: هذا خلاف في الفروع، لا ذم فيه ولا تخطئة، ولا قول بالبطلان ولا تبديع، فلا. أو لأنه خلاف في الأصول لا بد أن يدخل فيه ذم أو تكفير, كل هذه الأدلة واضحة جداً، هل الرسول عليه الصلاة والسلام فلما قال: (عليكم بسنتي)، فهل نقول: كان يريد في العقائد فقط؟ وربنا لما قال: ((مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ))، هل نقول: هذا في المسائل الاعتقادية؟! لا، لكنها بينات جاءت ونصوص إذاً هناك إجماع، وإذا جاء الدليل على ذلك انتهى الأمر. كل ما جاء في الكتاب والسنة مبيناً لا إشكال فيه، ولا اجتهاد في فهمه، وهو المعني بقولنا: بالتقييد، وكلمة (نص) معناها: ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، مبين لا إشكال فيه، وكذلك الإجماع، سواء كانت المسألة أصلية اعتقادية، أو فرعية حكمية فقهية، فالعبرة ببيان الدليل ووضوحه ودرجة وصوله إلى المكلف. فلو خالف مخالف البينات لأنها لم تأته فهو معذور، لكن الذي جاءته البينات غير معذور. وتبين أيضاً من عموم تلك الأدلة وإطلاقها استواء المكلفين في هذه المسألة، وهو أنه متى وصل إليه بيان الكتاب أو السنة أو إجماع أهل العلم فهو ليس بمعذور في مخالفته سواء كان عالماً أو جاهلاً لأن البعض يقول: هذا للعلماء فقط، أما العوام فليس لهم شأن، لا؛ بل هو للذي يصله من هؤلاء أيضاً؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى أطلق الأمر، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بسنتي) يخاطب كل أمته عليه الصلاة والسلام، فمن يصله واحد من الثلاثة: كتاب أو نص للنبي صلى الله عليه وسلم أو إجماع فهو غير معذور عالماً كان أو جاهلاً، وإن كان العالم بذلك أشد إلا أن الجاهل إذا وصله شيء من ذلك لم يكن معذوراً في ظن يظنه اجتهاداً، ولا تقليداً لمن يراه من أهل العلم سائغاً، وإلا لم يذم مبتدع قط على بدعته. فالمبتدع يرى نفسه على الحق، وأن شيخه هو العالم، لكن لماذا يذم أهل البدع؟ من أجل المسائل التي خالفوا فيها أدلتها وهي بينات واضحات، ومخالفها مذموم بلا شك عالماً كان أو جاهلاً. يقول: لأنهم جميعاً أهل جهل، وهم يظنون أنفسهم على الحق، أو متبعين لرءوسهم الذين يحسبون أنهم أهل العلم والدين. أي: غير معذور وإنما يأثم، وقد تصل الدرجة للتكفير، كل على حسب الوضوح والعلم المعلوم من الدين بالضرورة. يقول: فلماذا كان الذم لأهل البدع ولمن تبعهم، وحقهم العقاب في الدنيا والآخرة؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بقتال الخوارج، وهم يظنون أنفسهم مجاهدين في سبيل الله، يقاتلون الكفرة, ومن هؤلاء الكفرة عندهم؟ علي بن أبي طالب ومعاوية وكل من خالفهم يكون كافراً, وتجد خطب نجدة الحروري وأشعار هؤلاء الخوارج تصرح بقتال الصحابة رضي الله عنهم واستباحة دمائهم. إذاً: هؤلاء استحقوا العقاب في الدنيا والآخرة، والرسول قال عنهم (كلاب أهل النار). إذاً: لو كان كل واحد يظن نفسه متبعاً لعالم وهو ضال ومعرض عن البينات التي وصلته ومتبع للهوى بغياً وحباً للرئاسة، لو كان كل هؤلاء معذورين فماذا نصنع بالأدلة؟ إذاً: الرافضة والخوارج والقدرية وغيرهم كيف نعاملهم في ظل حديث: (إذا مرضوا فلا تعودوهم، وإذا ماتوا فلا تتبعوهم)، والقدرية النفاة قال ابن عمر عنهم: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني؛ لأنهم ينفون العلم ونحو ذلك، وغيرهم من رءوس البدع وأتباعهم، وما ذلك الذنب إلا لتقصيرهم فيما يلزمهم بعد بروز الحق لهم.

التنافس على الدنيا من أسباب الاختلاف المذموم

التنافس على الدنيا من أسباب الاختلاف المذموم من أسباب الاختلاف المذموم: البغي والتنافس على الدنيا. والباغي هو من يجاوز الحد الذي من المفروض أن يقف عنده إلى ما عداه، قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة:213] , إذاً: الاستطالة على المسلمين والمؤمنين نهى الله عنها. قال: والذي يؤدي إلى البغي الكبر المنافي للتواضع والتنافس على الرئاسة والوجاهة، وسائر شهوات الدنيا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد). والبغي سببه عدم التواضع والكبر والعياذ بالله، فيحب هذا الإنسان أن يكون هو الأعلى، ويقول: أنا الأول، أنا المقدم، وغيري تابع لي. قال صلى الله عليه وسلم: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم)، صدق الرسول صلى الله عليه وسلم الرءوف الرحيم؛ فإن التنافس في الدنيا وعلى رئاستها ووجاهتها من أعظم أسباب هلاك من هلك، وتأمل في التاريخ كيف كان قتل عثمان رضي الله عنه ظلماً وبغياً، ومنافسة ممن قتلوه على رئاسة أرادوها وليسوا لها أهلاً، فهؤلاء الرءوس كانوا يريدون أن يكونوا هم الرؤساء، ويريدون أن يخلعوا عثمان عن الخلافة طمعاً فيها وهم ليسوا لها أهلاً, وما جره ذلك على الأمة من الفتنة التي لم تصب الذين ظلموا خاصة بل عمت الصالحين وغيرهم، ثم لما وقعت الفتنة، قالوا: كنا نظن أننا من أهلها: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، ولذا كان علي بن أبي طالب يبكي على هؤلاء ويبكي على هؤلاء، ويصلي على هؤلاء ويصلي على هؤلاء رضي الله عنه. وتعطلت الفتوحات مدة بسبب ما حدث من قتال وفتن، فمضت خمس سنوات دون حصول فتوحات، فمن عهد أبي بكر وعمر وعثمان والإسلام ينتصر انتصاراً بعد آخر, ولما وقعت الفتنة بقتل عثمان توقفت الفتوحات حتى اجتمعت الأمة بعد ذلك, وذلك بسبب أهل الدنيا الذين أشعلوا نار الحرب بين الفريقين، وكلاهما يحاول إطفاءها، ولكن أهل الدنيا هم الذين كانوا يشعلون الفتنة. وتأمل كذلك حال المسلمين يوم سقوط بغداد في أيدي التتار، ذلك السقوط التاريخي الذي ما سمع في التاريخ بمذبحة مثله؛ قتل فيه مع الخليفة وحاشيته على أقل التقديرات ثمانمائة ألف، وقيل: ألف ألف وثمانمائة ألف، وذكر صاحب البداية والنهاية القولين، وهذا كان في عاصمة الخلافة الإسلامية، وتأمل في حال المسلمين في تلك الفترة. ما حركوا ساكناً، وظل كل أمير وملك مشغولاً بملكه وملذاته وصراعاته حتى الخليفة نفسه يذكر ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية: أنه بينما كانت جارية ترقص بين يدي الخليفة أصابها سهم فقتلها، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فكان التتار على أبواب بغداد والملوك مشغولون بدنياهم ورقص الجواري بين أيديهم حتى دخلت عليهم البلاد فقتلوا كما هم. نسأل الله عز وجل أن يرحمهم. وقد نصح الخليفة وزراء السوء بالخروج إلى هولاكو بالهدايا -ودائماً ما يكون خلف أمثال هذه المشاكل أهل البدع- فقبل صاغراً, وأهين أعظم إهانة حتى قتل رحمه الله وغفر له ولجميع المسلمين والمسلمات. وكذلك من تأمل أحوال ملوك الطوائف في الأندلس قبل سقوطها الذريع في أيدي الفرنجة، وما فعلوه بأهلها من الظلم والقتل وانتهاك لكل الحرمات، وأعظمها فتنتهم عن دينهم, فسقوط الأندلس كان أشد من سقوط بغداد؛ لأن بغداد إلى اليوم فيها مسلمون، والأندلس هي الوحيدة التي حصل فيها استئصال للمسلمين بالكلية وأبيدوا إبادة تامة بعد محاكم التفتيش التي كانت في الأندلس، وكان سببها لو نظرنا أهل البدع وموالاتهم. فأيام الخلافة العباسية كان فيها موالاة للشيعة وكان وزير المسلمين فيها ابن العلقمي الرافضي وهو الذي أشار على الخليفة أن يخرج لـ هولاكو والعياذ بالله. فالوزير كان رافضياً وكان يريد ينتقم من الخليفة؛ لأنه كان قد وقعت وقعة قبلها بمدة بين أهل السنة والشيعة، فيريدون أن ينتقموا منهم، فقال له: اخرج له ببعض الهدايا, فأهين أعظم إهانة , ثم أشار بقتله الآخر نصير الدين الطوسي أو نصير الكفر بمعنى أصح, وكان شيعياً باطنياً من غلاة الشيعة، أما أمراء الأندلس فكانوا يوالون الكفار أنفسهم. فتجد أنهم كانوا يستعينون بالكفار على بعضهم في حروبهم، لأن الملوك والطوائف حكمت مدة طويلة وكان الكفار يأخذون بلاد الإسلام جزءاً إثر جزء. نقول: فكانت الصراعات فيما بينهم، وموالاة النصارى على بعضهم بعضاً من أعظم أسباب الانهيار، فالتنافس على الدنيا سبب البغي، والبغي سبب الاختلاف والفرقة وهي سبب الضعف وذهاب الريح وتسلط الأعداء، ولا علاج لذلك إلا بإخلاص النية لله سبحانه والتنافس على الآخرة، كما فرضه الله وقال الله: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] وقال: {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]. فالتنافس على الآخرة لا يجلب حسداً ولا حقداً ولا طوائف ولا بغياً, وإنما يثمر حباً صادقاً وتآلفاً وإخاء، ووحدة في الصف, وقوة على الأعداء. والحقيقة أن كثيراً مما يجري بين الاتجاهات الإسلامية المعاصرة من اختلافات مريرة على المناهج والأفكار والأولويات والأعمال سببه الجهل وحب الرئاسة وحب كثرة الأتباع، فلولا هذه الأمور لما أثمرت هذه الثمار المرة في التعاملات التي تجري بين هذه الاتجاهات وأفرادها. ومن أعظم وأهم أسباب العلاج: أن نعلم حرمة دم المسلم، وحرمة والاستطالة عليه أياً من كان، طالما بقي في دائرة الإسلام ولم يخرج منها إلى الكفر، فنتعامل بشرع الله مع من عاملنا به، ومع من لم يعاملنا. فإذا كان هو يراعي حرمتي فأنا عليّ أن أراعي حرمته لأنه مسلم, وحتى لولم يراع هو حرمتي فأنا أراعي حرمته؛ فما عاقبت من لم يتق الله فيك بمثل أن تتقي الله فيه. لو أنك اتقيت الله فيه فهذا هو عقابه أحسن عقاب للذي يظلمك ألا تظلمه، والحذر واجب في تناول أحوال المخالفين من الوقوع في الغيبة باسم النصيحة, ومن تلمس العثرات، والفرح بالسقطات تحت شعار بيان الحق, ومن خديعة الشيطان للتنافس على المنازل والرياسات الدنيوية تحت شعار الحرص على إمامة المتقي، فهذه الأمور التي نقول هي حق يلتبس فيها في أحيان كثيرة الخطأ, يقول: أنا أريد أن أكون من أئمة المتقين {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]، فأنا سأقتل غيري حتى أكون أنا الإمام والخطيب والمدرس والقائد العسكري، لا. هذا لا يصح أبداً، فالنيات أمر مهم بلا شك، والنصيحة للمسلمين واجبة, وكشف الباطل وبيان الحق واجب، والحرص على إمامة المتقين من صفات عباد الرحمن وإن لم تكن بالضرورة عن طريق الرئاسة عليهم، فكم من إمام للمتقين وهو في زمرة المغمورين الخاملين غير المشهورين: (رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)، ولكن المشكلة الحقيقية في النية والإخلاص والزهد الحقيقي في الدنيا وترك البغي.

الجهل ونقص العلم سبب في توليد الاختلاف المذموم

الجهل ونقص العلم سبب في توليد الاختلاف المذموم ومن أعظم أسباب الاختلاف المذموم: نقص العلم, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينزع العلم بعد إذ أعطاكموه انتزاعاً ولكن ينتزعه بقبض العلماء, فإذا قبض العلماء اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)، متفق عليه. فلقد كان أول شرك وقع على ظهر الأرض بسبب نقص العلم بموت العلماء، فبدأت البدع في الظهور، كما في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23]، قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح عليه السلام، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا؛ فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت؛ فأنت ترى كيف كان نقص العلم سبباً لظهور البدع العملية أولاً لا الاعتقادية. يعني: أول بدعة كانت بسبب الجهل، وما كان الناس يعتقدون فيها أي شيء, وكان غرضهم أن تحثهم هذه التماثيل على الاقتداء بالصالحين في عبادة الله عز وجل، فأصلها بدعة عملية، لكن سرعان ما تحولت إلى بدعة اعتقادية, وإلى شرك أكبر والعياذ بالله. ثم لما زاد النقص بموت جهابذة العلماء؛ لأن هؤلاء أثناء وجودهم لم يكن أحد يقدر أن يظهر هذه الأشياء, ولم تظهر البدع في وجود العلماء؛ فلما مات العلماء وبقي عندهم أنصاف العلماء الذين ليس لديهم كل العلم بدأت البدع العملية لا الاعتقادية؛ لأنهم كانوا يعلمون حقيقة توحيد الله عز وجل, ولم يستطع الشيطان أن يصور لهم أن هؤلاء الصالحين كانوا يعبدون من دون الله، فلذلك نقول: وجود العلماء أولاً منع من ظهور البدع، ووجود تلامذة العلماء كان على الأقل يمنع من فساد العقيدة، ثم بعد ذلك لما نقص العلم بموت تلامذة العلماء ظهرت البدع الكفرية الاعتقادية وظهر الشرك, وأوحى الشيطان إليهم أنهم كانوا يسقون بهم، فبدءوا بالتوسل ثم زاد الأمر إلى أن وقعوا في الشرك، وعبدوا غير الله, ولقد جعل الله الجهل صفة الكفار والمنافقين، قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة:6]، فوصف الكفار بأنهم لا يعلمون، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8]، وقال: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، فقلة الفقه في الدين علامة عدم إرادة الخير, وبالتالي كانت تؤدي إلى ظهور البدع والاختلاف، وكفى بذلك سبباً في ضياع الأمة وظهور البدع. وقد رأينا كيف كان ظهور البدع والنفاق سبباً لتسلط الأعداء، وقد ظهر هذا جلياً عندما تسلط الصليبيون على الأمة بعد ظهور الدولة الباطنية المسماة بالفاطمية, وتسلطها على كثير من بلاد المسلمين في مصر وأفريقيا والحجاز وأجزاء من الشام, فلم تقم للمسلمين قائمة إلا بعد زوال هذه الدولة الكافرة المنافقة على يدي صلاح الدين مبعوث نور الدين رحمهما الله تعالى. ونرى كيف كان استفحال خطر الصوفية في الدولة العثمانية حتى حاربت دعوة التوحيد التي قام بها محمد بن عبد الوهاب حتى عاونت العدو الصليبي الأوروبي الحاقد المتربع على أكثر البلاد الإسلامية. فهم لم ينسوا حربهم مع المسلمين, فأحد قادة الحرب العالمية الأولى من الحلفاء لما دخل دمشق ذهب إلى قبر صلاح الدين وضربه بقدمه وقال: ها قد عدنا يا صلاح الدين , فهذا دليل على الحقد العظيم الذي يكنونه للإسلام وأهله. وسبب كل هذا أهل البدع من الصوفية التي كانت تملأ السهل والوادي في ذلك الوقت, وكان ذلك هو السمة الغالبة على المسلمين في ذلك الوقت, فهذا خطر عظيم جداً سببه البدع التي منبعها أصلاً من الجهل، أو وجود زنادقة يحرصون على وجود البدع، ولكن لن توجد إلا مع الجهل. ولقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من البدع كسبب من أسباب تفرق الأمة، وأمر بالسنة على طريقة الخلفاء الراشدين، وقال: (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة). فقوله: (عضوا عليها بالنواجذ) , فيه الحذر من البدع؛ لأن كل بدعة ضلالة, وهذه هي القاعدة النبوية السلفية في مواجهة الاختلاف, وهي عقيدة أهل السنة في التمسك بالسنة على طريقة السلف رضوان الله عليهم، وليس العلاج كما يتوهم البعض هو التوقف بين أهل السنة وأهل البدع. هذا هو منهج الإخوان في حال الاختلاف بين أهل البدع وأهل السنة أتباع السلف، فهو أصلاً يرى التوسط دائماً بين السلفية والصوفية، وبين عقيدة السلف وعقيدة الخلف، وبين السنة وبين الشيعة، وفي كل المسائل حتى بين الإسلام والعلمانية يحاول التوسط بقبول الشعارات الجاهلية على الأقل كالديمقراطية والحرية والمساواة، وأساس العلمانية هو هذه الشعارات, فتجد هذه الشعارات معكوسة أحياناً حينما ينادى بها كشعارات إسلامية، أو يطالب بها الإسلاميون, وهذه من أخطر الشعارات المنحرفة التي تؤدي إلى انحراف المنهج بالفعل، وقبول المنكرات التي تتضمنها هذه الشعارات. ليس العلاج كما يظن البعض هو التوسط بين أهل السنة وأهل البدعة، ومحاولة التوفيق بين الأقوال المتناقضة والمذاهب المتباينة، أو سكوت كل فريق عن الآخر، يعني: أنت على ما أنت عليه وأنا على ما أنا عليه , وكل واحد لا يتكلم في الآخر, واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.

الرد على القائلين بإمكانية التقارب بين السنة والشيعة

الرد على القائلين بإمكانية التقارب بين السنة والشيعة توجد عدة محاولات للتقريب بين السنة والشيعة، والزعم بأن خلافهم خلاف سياسي مضى زمنه ومقتضياته, والسكوت عنه أولى. يقول: هذا خلاف سياسي على الإمامة. وانتهى الموضوع. لا، فهذا أمر اعتقادي، لابد أن نعتقد أن المجتمع المثالي الذي ننشد مثله هو عهد الخلافة الراشدة، وهو امتداد طبيعي للمجتمع المسلم في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، ونعتقد أن الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي , وأنهم في الفضل كذلك: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي , وليس هذا الأمر بموضع خلاف حتى يقال: يمكن السكوت عنه، وقد يظن البعض أن هذا -يعني: السكوت عن الخلاف- هو مقصود السلف من قولهم بالإمساك عما شجر بين الصحابة من خلاف, وهذا باطل لا شك؛ لأنهم لم يختلفوا في أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي رضي الله تعالى عنهم، والذي حصل هو الخلاف على أي الأمور يبدأ بها في الفتنة التي وقعت, هل القصاص من قتلة عثمان، أم توطيد البيعة لـ علي رضي الله عنه؟ هذا الخلاف الذي حدث، والإمساك المقصود عند السلف هو عن وقائع الفتنة وتفاصيلها بعد مقتل عثمان , وليس عن الإقرار بخلافة أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين، ويلزم كذلك الإقرار بفضل أبي بكر وعمر على علي رضي الله عنه، فالمخالف في أي من المسألتين، مسألة الخلافة بالترتيب، وتفضيل أبي بكر وعمر على علي مبتدع. والشيعة إما أن تطعن في الخلافة مثل الإمامية، أو تنتقد الخلافة مثل الزيدية القائلين بتفضيل علي على أبي بكر وعمر، مع أن الخلافة عندهم صحيحة لـ أبي بكر وعمر وعثمان، لكن علياً أفضل منهم جميعاً، وهذا قول مبتدع باتفاق أهل السنة, فضلاً عن المسائل الأخرى التي يبدع فيها الرافضة, فضلاً عن المسائل الكفرية التي يقول بها غلاتهم. أما الرافضة فإن الكتب المعتمدة عندهم مليئة بأنواع الضلالات والكفر من الغلو في الأئمة، وإن كان الأمر يحتاج إلى إقامة حجة كما تقام الحجة على الصوفية ونحوهم، بل عقيدة الصوفية أصلاً أخذت معظم ضلالاتها عن الشيعة، والرافضة، وما انتشرت الصوفية بغلوها إلا بعد ظهور الدولة الباطنية المسماة بالفاطمية التي كانت تعلن الرفض وتبطن الإلحاد. إذاً: تفضيل علي على أبي بكر وعمر بدعة، أما الذي يفضل علياً على عثمان فهو مخطئ لكن لا يضلل ولا يبدع؛ لأنه من شيعة أهل السنة؛ فمن السلف الأوائل من يقدم علي على عثمان في الفضل، أما المتأخرين فقد حصل عندهم اتفاق على تقديم عثمان على علياً في الفضل كما هو في الخلافة. فمن قال: الخلفاء أبو بكر ثم عمر ثم علي يبدع، ولا يوجد أحد يقول بهذا، فالذي يقول بالخلافة إما أن يطعن في خلافة الثلاثة، أو يقول: الخلفاء الثلاثة خلافتهم صحيحة لكن علياً أفضل. فضلاً على أن الزيدية دخلوا في مذهب الاعتزال، وهذا أصل ظهور مذهب الزيدية، وهو تقديم علي على الثلاثة في الفضل, ولكنهم يشهدون بخلافتهم ولا يتبرءون منهم. وسبب تسمية الرافضة بذلك: أنهم رفضوا إمامة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما طلبوا منه أن يتبرأ من أبي بكر وعمر فأبى فرفضوا أن يجعلوه إماماً فسموا رافضة، وأتباع زيد ظلوا على الإقرار بصحة إمامة أبي بكر وعمر ولكنهم غلوا في فضل علي , فقالوا: علي أفضل, وعلي رضي الله عنه ثابت عنه أنه قال: لا يؤتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلاجلدته حد الفرية، وثبت عنه عن ابنه محمد بن الحنفية أنه قال: يا أبت! من أفضل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أوما تعلم يا بني؟ قال لا، قال: أبو بكر قال: ثم من؟ قال: ثم عمر، قال: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين. وهذا ثابت في البخاري , ومجمع عليه بين أهل السنة. فالمسألة التي يخطأ فيها المخالف ولايضلل هي مسألة تفضيل علي على عثمان، فترتيبهم في في الفضل مثل ترتيبهم في الخلافة. أما الزيدية فعندهم بدع اعتزالية, مثل إنكار صفة الرؤية في الدار الآخرة، والقول بخلود مرتكب الكبيرة في النار, وهم أصبحوا معتزلة في سائر العقائد ما عدا مسألة التفضيل, فإن المعتزلة أكثرهم لا يفضلون علياً على أبي بكر وعمر. وهؤلاء الرافضة عندهم غلو شديد في الجملة في آل البيت, وعندهم أقوال مكفرة، فكيف يتصور بعد هذا أن يوجد من ينادي بالتقارب معهم؟ ومع ذلك وجد من قيادات الإخوان المسلمين من يدعو إلى التقارب مع الشيعة، والأستاذ حسن البنا كان عضواً في لجنة التقريب بين السنة والشيعة, وفي بعض الكتب تصور مع أعضاء لجنة التقريب بين السنة والشيعة, والتقريب هذا كله مبناه على أننا ننظر إلى ما نحن متفقون عليه. نقول: والذي نختلف فيه ماذا نعمل فيه؟ يقول الدكتور القرضاوي: نستخدم مع الشيعة القاعدة الذهبية: نجتمع فيما اتفقنا فيه, ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه. وهذا يؤكد لنا منهجهم الموجود في التعامل, وهم يتعاملون مع جماعات كثيرة جداً من أهل البدع في مثل هذه المسائل، التبليغ توصل لأصول الدعوة بقولها: يجب ألا يخوض الناس في أمراض الأمة، ولا في الشرك ولا في البدع, ومن صنع ذلك فهو خارج عن خط الجماعة، ولا شك أن كثيراً منهم لا يظهر الموافقة على هذه المسألة، وبالنظر إلى أصل أئمة الجماعة يعرف سبب ذلك، فقد كانوا أناساً صوفيين أو أحد الجماعات الصوفية. فجماعات كثيرة من الجماعات الصدامية لا ترى غضاضة في اجتماع أهل السنة وأهل البدع في سبيل إزالة الحكم العلماني، مع أن السكوت على البدع الشركية يؤدي إلى خلل عظيم جداًً، هذا الكلام يطبق عملياً في جماعات الجهاد في أفغانستان- وإن لم يكن هناك جهاد في الحقيقية- فهي لم تجد غضاضة في التحالف مع الإسماعيلية، رغم أنهم كفرة، ومع ذلك فقد تحالف الجهاديون مع الطائفة الإسماعيلية والشيعة ومع إيران, فمنهج هؤلاء الجهاديين قائم على هذا، ولذلك حكمتيار لما تدهور الحال في أفغانستان ذهب للإقامة في إيران. فهذه المناهج أصلاً منبعها إخواني، فبعضها كان صدامياً, وبعضها نتيجة الجهل قامت بتحالفات خاطئة إلى أن وصل الأمر بهم إلى التحالف مع الشيعة بغرض الوصول -في تصوره هو- إلى إقامة الحكم. يقول: لم تعد هذه بدع ولا فرق بيننا وبينهم، لكن العلاج الحقيقي هو في الحذر من البدع. إذا: القاعدة الذهبية هي: (عليكم بسنتي وإياكم ومحدثات الأمور)، لا أننا نتعاون فيما اتفقنا فيه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، هذه القاعدة عندما تطبق في الخلاف السائغ يكون فيها اجتماع, مع أننا في الخلاف السائغ يلزمنا أن نبحث عن الأدلة ونحو ذلك، ومع ذلك لابد أن يعذر بعضنا بعضاً فيما عذر فيه السلف بعضهم بعضاً، أما في الخلاف غير السائغ مع أهل البدع خصوصاً فهذا من أخطر الأمور في المناهج غير الموافقة للسلف. وفي الحقيقية فإن مشايخ الأزهر ولجان التقارب بين السنة والشيعة التي كانت تحت راية الأزهر يرون ذلك, وما زالوا يرون أن الشيعة لهم مذهب معتبر، والفتاوى تصرح بأن الشيعة الإمامية أحد المذاهب المعتبرة. وأول من اخترع مصطلح المذاهب الثمانية هو محمد أبو زهرة مؤلف التراجم عن أتباع المذاهب الثمانية, ومن هي المذاهب الثمانية؟ أقرب المذاهب إلى طرق أهل السنة هو المذهب الزيدي بعد المذهب الظاهري، ولما دخل الشوكاني والصنعاني في مجال الفقه المقارن بكتبهم المشهورة -التي أثرت علم الفقه المقارن- كان هذا سبباً في انتشار المذاهب الزيدية التي لم يتعود أهل السنة من قبل على ذكرها، وعلى ذكر الأئمة من الزيدية، وبعده يأتي المذهب الإباضي، ثم مذهب الإمامية، فأصبحت بذلك ثمانية. وهذا منهج موجود أصلاً في جهات متعددة، وليس وليداً أو حادثاً, فالأمر لا شك خطير للغاية. هذا غير الخطر الناتج من تقريب هؤلاء المبتدعين، وهل حصل فعلاً تقارب حقيقي أم أنه تقية منهم؟ فهم لا يتغيرون وعداؤهم لأهل السنة وتكفيرهم لهم بات، ومحاولة النيل منهم بكل طريقة عبر التاريخ مذكورة. وموقفهم في أفغانستان واضح جداً، فحزب الوحدة الشيعي ما صنع شيئاً مطلقاً أمام الشيوعيين, وترك الجهاد نهائياً، ولما بدأ التنافس الداخلي ظهر حزب الوحدة الشيعي، وظهرت أطماعهم الشديدة، فلم يشارك في الجهاد وإنما كان يعد نفسه للوثوب على السلطة أو جزء منها عندما تقسم الكعكة. والتاريخ يثبت دائماً موقف الرافضة في صف أعداء الإسلام، وسوء معاملتهم لأهل السنة إذا ظهروا عليهم، فأهل السنة في إيران إلى اليوم من أشد الناس اضطهاداً، فهم يضطهدون أشد مما يضطهد المتدينون الآن في البلاد الإسلامية المختلفة، فأهل السنة هناك في السجون تصب عليهم أنواع التعذيب والقتل، ولا أحد يعرف عنهم خبراً رغم أن الدولة تحاول أن تخدع أبناء المسلمين بأنها ثورة إسلامية، وليست إلا شيعية رافضية جعفرية اثنا عشرية. وما مواقفهم في تأييد التتار، و

الخلاف بين أهل السنة والصوفية خلاف في القضايا الكبرى

الخلاف بين أهل السنة والصوفية خلاف في القضايا الكبرى كذلك التقارب بين السلفية والصوفية؛ لأنه أيضاً مخالف للقاعدة الذهبية النبوية في التحذير من البدع, والتمسك بالسنة على منهج الخلفاء الراشدين، وليس الخلاف بين أهل السنة والصوفية هو في مجرد أمور يسيرة يعذر فيها، بل في قضايا توحيد الربوبية والإلهية، فاعتقاد أن الكون له أقطاب يدبرونه، هذا من الشرك في الربوبية، وكذلك من الشرك اعتقاد جواز الدعاء والذبح والنذر والطواف للأولياء، بينما يقول عمر التلمساني: إن هذه مسألة تذوق, فالذي يجد راحة نفسية عند قبور أولياء لا حرج عليه في الذهاب إليها وشد الرحال إليها، هذه مسألة وهو حر يعمل ما يريد، ومعروف ما الذي يحصل عند قبور الأولياء، ومعروف أن هناك شركاً، لكن هو لا يرى أن ذلك من الشرك. هناك قضايا أساسية تمنع التقارب مع الصوفية، فهم مثلاً عندهم غلو فظيع جداً في المقبورين، كذلك في قضية القضاء والقدر فهم جبرية، كما أنهم يرون سقوط التكاليف عن أئمة الصوفية، وكذلك نفارقهم في معاني ولاية الله، فنحن عندنا ولاية ربنا سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63]، بينما الأولياء عند الصوفية هم الذين تقع منهم خوارق العادات ولو كانوا من أفجر الفجرة. ربما تجد الواحد من الصوفية مسجل في قائمة الخطرين في شرطة الآداب، وعنده مخدرات، ونصاب وجرت على يديه شعبذة. وأنواع من السحر، وحينها يصبح ولياً من أولياء الله! وأنا أعرف أحد الأقارب -كان والدي يحكي لي عنه- الله أعلم به على أي شيء مات، لكنه كان تاركاً للصلاة، وللصيام، والعياذ بالله! وله مولد كبير جداً في محافظة المنيا حالياً, فلما كان يقول له: صل, يقول له: الصلاة وسيلة, ومعنى كلامه: أنا وصلت, وهذا كفر بواح والعياذ بالله وخروج من الملة, لذلك فإن معاني الولاية معاني خطيرة جداً عند الصوفية. كذلك العلاقة بين الحقيقة والشريعة، فالحقيقة هي الأمور الباطنة عند الصوفية، والشريعة هي الأمور الظاهرة، فعندهم انفصال في هذا الأمر فأصحاب الشريعة لا يفهمون شيئاً وهم الفقهاء، وأصحاب الحقيقة هم الصوفية الذين لا تلزمهم الشريعة، فهذا الانفصال أمر خطير، إذ لا يجوز الانفصال بين الحقيقة والشريعة، ولا يكون صاحب حقيقة باطنة شرعية من يخالف الشريعة الظاهرة؛ لأن هذا خلاف في الاتباع؛ لأنهم يرون أن السنة لا يمكن الاتباع لها إنما لابد من طلب الشيخ, ومن ليس له شيخ فشيخه الشيطان ونترك الكتاب والسنة, ولو عارض كلام المشائخ الأحاديث الصحيحة تترك؛ لأن الشيخ أفهم. كذلك قضية الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي هي عمدة عقائدهم الفاسدة، وأنواع الضلالات التي تبنى على هذه الأحاديث الموضوعة. كذلك قضية الاتباع وعندهم هي قضية مهملة بل مضيعة. ومنهج التزكية أيضاً عندهم فيه خلل خطير، إذ عندهم أعمال القلوب التي تمدح وتطلب من مثل الفناء والدهش والهيمان ونحو ذلك، أما عبادات العوام فهي تنتقص وتزدري لدى السائرين وهي مثل الصبر والحب والخوف والرجاء؛ لأن فيها شعوراً بوجود الإنسان نفسه، وهي ليست على أعتاب الفناء. وهذه المسائل كلها تجعل من المستحيل أن تجتمع الصوفية مع المنهج السلفي السني. كذلك مسألة مراتب الأولياء، فهم فوق الأنبياء، وهذا ابن عربي يقول: إن مرتبة الولي دون الرسول وفويق النبي! والعياذ بالله، فقدر الأولياء عندهم أعلى قدراً من الأنبياء. هذا فضلاً عن العقائد الكفرية التي يتبناها أئمتهم من الحلول والاتحاد والإباحية والجبر والفناء وغير ذلك، ومن أئمة الجبر الحلاج مثلاً، وهو عند كل الصوفية من كبار الأئمة، الذي يدافع عنه البعض دفاعاً مستميتاً, ويعد الذي حصل له مأساة كبيرة جداً؛ لأنه كان يقول: لا إله إلا الله ما في الجبة إلا الله، وهذه الجبة جبته هو، والعياذ بالله! وأما الاتحادية فأكثر من الصوفية، مثل: ابن عربي، وابن الفارض، وابن سبعين، فـ ابن عربي اسمه الكبريت الأحمر والقطب الأكبر، وأما ابن الفارض فهو سلطان العاشقين، وأقوال الدسوقي وابن عطاء الله والمرسي أبو العباس وغيرهم من الاتحادية في أورادهم وكلامهم في وحدة الوجود فظيعة جداً. وجميع الطرق الشاذلية التي ينتمي إليها ابن عطاء وأبو العباس المرسي، إلى يومنا هذا يتناقلون جزءاً من الأوراد المنقولة عن الحسن الشاذلي نفسه -الله أعلم بصحته- وهي مما يتفق عليه بينهم رغم تشعب الطرق الشاذلية، وهي أكثر الطرق انتشاراً في مصر، فيقول في هذا الورد: اللهم انشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة. وهذه الوظيفة اليومية لديهم، وكلما بحثت عنها أجدها في جميع الأوراد: اللهم انشلني من أوحال التوحيد، نعوذ بالله، كلام كفر بواح، وأغرقني في عين بحر الوحدة، أي: وحدة الوجود. أما الجبر والإباحية التي هي الجبر المطلق ومشاهدة العبد للحكم، فهذه قاعدة بشعة، مع أن ابن القيم يحسن الظن بهم جداً وبشيخه الهروي الذي يقول: إن مشاهدة العبد للحكم لم تدع له استحسان حسنة واستقباح كبيرة، الحسنات والسيئات كلها أصبحت سواء؛ لأنه يشاهد حكم الله سبحانه وتعالى، فهي محتملة التأويل، لكن المفهوم عنده هكذا، وتأويله صعب وتكلف حتى نتأول: أنه لم يستحسن حسنة ولم يستقبح السيئة، ولا بد أن يستحسن الإنسان خلق الله في الحسنة والسيئة؛ لأنه من صفات الله عز وجل أنه خلق الحسنات والسيئات. هذا حسن من الله أم لا؟ لا بد أن يكون حسناً؛ لأن هذا فعل الله، وأفعاله كلها كمال، ولكن المشاهدة لم تدع له استحسان حسنة، فواضح أنه يتكلم على المخلوقين، إذاً: هذا لا يقع في السيئة، ولا الشرك، ولا الكفر، وهذا الحكم القدري الكوني. ومن العقائد: عقيدة الفناء، وأحسن أحواله: الفناء عن شهود السوى. أي من سوى الله، يعني: إن أحسن أحواله أن نحمله على أنه غاب بمذكوره عن وجود غيره، من كثرة الذكر لم يعد يشعر بالذي حوله, ولما ينتبه يعرف الحقيقة فهذه محاولة التأويل في الحقيقة لكلامهم. أما كلامهم الصريح فلا، فمثلاً أبو اليزيد البسطامي ينقل عنه أنه يقول: سبحاني، سبحاني ما أعظم شاني!! وابن القيم يقول: إنهم كانوا مجانين وقتها. فهذا التأويل الوحيد أنه مجنون لما قال ذلك الكلام، لكن من يقول: سبحاني، سبحاني ما أعظم شاني!! يستحق القتل بلا شك، ثم هم في منازل عالية أنت لا تفهمهم، وأنت لم تصل إلى درجتهم حتى تفهم معنى: سبحاني سبحاني ما أعظم شاني!! واحد من الصوفية هنا ممن خبا صوته يقول: لما سيدنا أبو اليزيد البسطام يقول: سبحاني سبحاني ما أعظم شاني! قصده أن الإنسان يتخلق بأخلاق الله وبصفات الله! يعني: هو يقر بكلمة أبو اليزيد البسطامي وأنها كلمة جيدة، ومعناها هكذا, فيؤولها مع أن هذا في الحقيقة كلام كفر لا يؤول، بل يمكن تأويل كلام اليهود والنصارى القائلين بالأقانيم الثلاثة ولا يمكن التأويل لمن يقول: سبحاني سبحاني ما أعظم شاني!! وسلطان عاشقيهم وهو ابن الفارض في التائية يقول: ذاتي لذاتي صلت ولها كان سجودي في كل ركعة وإذا خر في البيد للأصنام عاكف فلا تعد بالإنكار للعصبية يعني ذاك من التعصب، فلا تنكر على من يركع ويسجد للأصنام، ومعناها: دع الناس تعبد الأصنام. والتائية هذه فيها من الكفر أنواع عجيبة والعياذ بالله، وهو يقول عن نفسه: سلطان العاشقين. إذاً: هذه هي الصوفية، وهل أحد من الصوفية يستطيع أن يتبرأ من ابن عربي أو ابن الفارض أو الدسوقي أو الشاذلي؟ لا يمكن حتى أن يتبرأ من هذه الأقوال، بل يقول: سيدنا أبو اليزيد البسطامي يقول بعضهم: سبحاني سبحاني ما أعظم شاني!! لكن معناها كذا. هذا لمن عندهم، وهذا الكلام مذكور في كتبهم المطبوعة وليس في كتبنا نحن، مثل فصوص الحكم لـ ابن عربي. ثم بعد ذلك نقول في تربيتنا الروحية للأستاذ سعيد حوى: دعوة سلفية وحقيقة صوفية. ويقول: إن الشيخ حسن البنا نقح هذا الكلام، وفي الحقيقة هو لم ينقح شيئاً بل هناك تعتيم على مثل هذه المسائل لدى الأتباع، لكيلا يكون الأمر غير واضح لديهم، وأن هناك فروقاً هائلة، وأن أصل الصوفية الفلسفية لدى المتأخرين ممن ضربنا أمثلتهم هي خروج عن ملة الإسلام، وهذا هو الذي فتح باب الغلو المعروف الآن في مظاهر عبادة القبور ونحو ذلك. هذه أحد أنواع الخلافات، لكن أنواع الخلافات التي عند الصوفية هي في الربوبية والإلهية والقضاء والقدر، ومعاني ذات الله، والعلاقة بين الحقيقة والشريعة والاتباع، والتزكية، ومراتب الأولياء فضلاً عن خلافاتنا معهم في قضايا مثل الحلول والاتحاد والإباحية والجبر والفناء وغير ذلك من أصول الإسلام الكبرى والإيمان باليوم الآخر، وفي أصول الإيمان والإسلام هناك خلافات هائلة مع الصوفية، وإن كنا لا نعمم الحكم على جميعهم بأنهم من أهلها، فنحن لا نقول: الصوفية كلهم يقولون بوحدة الوجود، مثلما يميل البعض إلى ذلك، فنحن نعلم أن منهم من لا يقوله لكن عندهم من البدع والضلالات أضعافاً مضاعفة، إلا أنهم يتسترون بأئمتهم وإن نفوا عنهم حقيقة مذهبهم. والعلاج الواجب في هذا السبب، ليس بأن نتوقف ما بين السنة والبدعة، أو أننا نقرب ما بين الاثنين، أو أن نقول للناس: هذا العلم مشكلة من المشاكل. العلاج الواجب في هذا السبب من أسباب الافتراق بين المسلمين: هو الانتصار للسنة، ومحاربة البدعة وقمعها، فهذا خلاف لا ينبغي ولا يجوز؛ لأن موقفنا مع أهل البدع هو: (إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة). فالاجتماع المأمور به ليس مجرد الاجتماع ولو على أي منهج، بل نجتمع على منهج واحد وطريق واحد هو طريق أهل السنة والسلف رضوان الله عليهم، ول

ضرورة طلب العلم لحل الخلافات بين الجماعات الإسلامية

ضرورة طلب العلم لحل الخلافات بين الجماعات الإسلامية إن طلب العلم صفة ضرورية لكل الدعاة إلى الله، بل لكل مسلم ومسلمة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)، حديث صحيح. وقد تظن بعض الاتجاهات الإسلامية أن الاهتمام بطلب العلم قد يضر بقضية السمع والطاعة -التي هي الجندية- المطلوبة لتحقيق التعاون على البر والتقوى، يعني: لكي يتم فعلاً تعاون على البر والتقوى لابد من جندي، ولابد من سمع وطاعة، ويرى أن من الذين سيطلبون العلم سيطالبون بالدليل على كل مسألة، ويقولون: قال الله، وقال الرسول، وهذا الكلام يخالف الحديث الصحيح، فيقول: إذاً: أحسن ألا يطلبوا العلم، فجماعة التبليغ يقولون: ما يصحبنا عالم، والإخوان عندهم نفس الأمر. وأن الأيسر عليه في قيادة أتباعه ألا يكون منهم من يناقش ويسأل عن الدليل، ولماذا فعلنا كذا؟ ولماذا تركنا كذا؟ كما أن مسألة العاطفة مقدمة في التربية عنده على الفهم والعلم، أي: أن يكون عنده عاطفة إسلامية قوية، ومستعد لأن يبذل نفسه كلها حين تطلب منه، يعني: هو سيربي فيه العاطفة وعدم الفهم، أو العلم، وينشأ على ذلك. وهذه العاطفة نحن نحبها منه لأنه يحب الإسلام، لكن نكره منه جهله وبدعه، فإننا نجد أن التبليغ أو الإخوان لديهم عواطف جياشة قوية جداً، وحب للخير وللدعوة وللبذل في سبيل الله وللتضحية، ولو كانت تضحية في مظاهرة من المظاهرات، نتيجة لعدم الفهم. نقول: وهذا من أخطر الظن وأسوأ الظن، فإن الصحوة الإسلامية ليست بحاجة إلى جهلة يقودهم قادتهم كقطعان الماشية بلا دراية ولا معرفة، بل هذا يحرم الصحوة الإسلامية من أسباب نورها وصفائها, ومن موجبات الوقاية من الانحراف، ويفرغ الدعوة الإسلامية من مضمونها مع بقاء اسمها وشكلها؛ لأن من عنده علم -إن وجد بينهم- هو من سيقول للمخطئ: توقف أنت مخطئ، فيمكن للتابع أن يقول للمتبوع: لا هكذا غلط، فيوجد عندها محافظة على النقاء، ولن يدخل لنا في يوم من الأيام ضال مبتدع يترأس علينا، والناس يمشون وراءه في طريق الضلالة بدون فهم، وهذا يوفر جواً مناسباً لأهل الزندقة أن يترأسوا في يوم من الأيام، وللأسف هذا حصل مرات عديدة مثلما حصل في ثورة ثلاثة وعشرين يوليو، فالضباط كان معظمهم أعضاء ضمن جماعة الإخوان المسلمين, وبعضهم ضمن التنظيم السري مثل عبد الناصر شخصياً, ولكن نتيجة عدم وجود أي تفكير: هل يصلح مثل هذا الإنسان للترأس والظهور باسمنا أم لا؟ فقد يكون هو أصلاً في باطنه الزندقة والنفاق والضلال وحب الرئاسة فيخسف بكل معاني الدعوة، وهذا يؤدي إلى انحرافات عديدة. كذلك الثورة الجزائرية بدأت ثورة إسلامية، ولكن سرعان ما تحولت إلى ثورة علمانية، والذين قطفوا الثمرة هم العلمانيون فذبحوا الإسلاميين وأنهوهم تماماً، وكل مرة تتكرر هذه المأساة يكون ذلك بسبب مثل هذه الأمور, لذلك نحن لا يلزمنا لأجل مصلحتنا ولكي نحقق الطاعة أن يكون الناس جهلة، بالعكس نحن نريد سمعاً وطاعة على بصيرة. لذلك نقول: هذا من أخطر الأمور علينا جميعاً. وإن كان هناك بالفعل عيب لدى الكثير من طلاب العلم يتمثل في عدم الامتثال وكثرة الاعتراض وضعف التعاون على البر والتقوى. فهناك من يناقش ويجادل حتى ولو كان في أمر شرعي صحيح وظاهر، بل أصبح سمة عامة أن أي طالب علم لا يكون عنده تعاون على البر والتقوى, وهمٌّ لمصالح الدعوة، وليس هذا لعيب في طلب العلم بل لنقص في التربية. إذاً: نحن نريد أن يكون عندنا الأمران معاً؛ طلب العلم والسمع والطاعة والالتزام، وجدية ومعاونة على البر والتقوى، فلا يصح أن نحثهم على العلم فقط، بل لابد من إذكاء روح العمل الإسلامي الشامل في نفوس طلاب العلم، وبيان مسئوليتهم عن أمتهم، وأن عاطفتهم نحو قضايا المسلمين هي في الحقيقة جزء من إيمانهم وإسلامهم. فلا تجد طالب علم فعلاً ليس له علاقة بقضايا المسلمين، فهذا ليس طالب علم، فلابد لطالب العلم أن يشعر بالعاطفة الإسلامية، وهذه العاطفة تشتمل على معان إيمانية، ومعاني حب الخير للمسلمين، والتألم لآلام المسلمين، والحزن لحزنهم. فكون طالب العلم حاملاً لهم المسلمين. هذا جزء من معاني الإيمان والإسلام. كما أن عملهم في الدعوة المنظمة التي تهدف إلى إقامة القلوب الضائعة في الأمة الإسلامية هو علامة عملهم بالعلم وإلا كان حجة عليهم لا لهم، وأن التزامهم بالسمع والطاعة لمن هو أعلم منهم وأمكن في قيادة العمل الإسلامي لتحقيق الواجبات هو علامة على انتفاء الكبر المذموم والحسد وحب الرياسة من قلوبهم. فبهذا تعالج المشكلة وليس بالإبقاء على الذم والتحذير من طلاب العلم أو السخرية منهم، كمن يقول عنهم: أصحاب الكتب الصفراء، أو من يقول لمن يحفظ البخاري: زدنا من بخاريك! أو يخترع صفة للسخرية من طلاب العلم، كان هناك كاتب اسمه: ناصح أمين من الإخوان يقول: إن رجلاً أصر أن يدخل مع امرأته في شوال. نكته ما حصلت ولا ستحصل؛ لأنه جاهل لا يفهم، لأنه قرأ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل في العاشر من شوال، واستحباب الدخول في شوال، فأصر أنه يدخل في شوال. هذا نوع من السخرية للذين يقرءون الكتب لكي يترك الناس القراءة والتعلم، ولا يبحثون في المسائل ونحو ذلك. استمرار لدعوتنا نقية صافية دون تخريج الأجيال من طلاب العلم الواعين لمنهجهم العاملين به الداعين إليه، والله المستعان.

أدب الخلاف [6]

أدب الخلاف [6] إن ما يقع بين الجماعات الإسلامية من الخلاف منه ما هو محمود وهو خلاف التنوع، ومنه ما هو مذموم وهو خلاف التضاد غير السائغ، وهذا الخلاف المذموم له أسباب تؤدي إلى تأججه واستفحاله، ومن أهم هذه الأسباب ظهور أهل الأهواء والبدع وترؤسهم، ومنها التعصب بالباطل للأشخاص أو الجماعات أو المذاهب.

من أسباب الخلاف المذموم ظهور أهل البدع والأهواء وترؤسهم

من أسباب الخلاف المذموم ظهور أهل البدع والأهواء وترؤسهم الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد: فقد ذكرنا سابقاً أن من أسباب ظهور الاختلاف المذموم البغي والتنافس على الدنيا، ومن الأسباب كذلك نقص العلم وقلنا: إنه لابد من التربية على طلب العلم والتربية على العاطفة الإسلامية والعمل الإسلامي. أما السبب الثالث من أسباب الاختلاف المذموم فهو: ظهور رءوس البدع، ورءوس الضلال الدعاة على أبواب جهنم. من أعظم أسباب الخلاف غير السائغ بين المسلمين ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة حين سأله عن الخير والشر فقال: (يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فأتانا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: فهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهتدون بغير هديي، ويستنون بغير سنتي، تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله! صفهم لنا. قال: هم من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا)، والحديث متفق عليه. قال النووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها) قال العلماء: هؤلاء من كان من الأمراء يدعو إلى بدعة أو ضلال كالخوارج والقرامطة وأصحاب المحنة. وقال ابن حجر قوله: (هم من جلدتنا) أي: من قومنا ومن أهل لساننا وملتنا. وقال القابسي: معناه: أنهم في الظاهر على ملتنا، وفي الباطن مخالفون. وقال أيضاً: الذي يظهر أن المراد بالشر الأول: ما أشار إليه من الفتن الأولى بين الصحابة، وبالخير: ما وقع من الاجتماع على معاوية رضي الله عنه سنة أربعين من الهجرة، وبالدخن: ما كان في زمانهما من بعض الأمراء كـ زياد بالعراق، وخلاف من خالف علياً من الخوارج، وبالدعاة على أبواب جهنم: من قام في طلب الملك من الخوارج وغيرهم. انتهى باختصار من فتح الباري. ولا شك أن أهل البدع المعاصرة المنتسبين إلى الإسلام الداعين إلى الكفر والنفاق من أصحاب المذاهب الإلحادية كالعلمانيين، وأصحاب القوانين الوضعية، والديمقراطيين، والاشتراكيين، والوطنيين، والقوميين الذين يريدون هدم الرابطة الدينية للمجتمع، وإقامة الرابطة الوطنية المدنية، ومن ينادي بلزوم اتباع الغرب وتقليده، وكذا سائر الأحزاب القائمة على خلاف مبادئ دين الله سبحانه وتعالى، بالإضافة إلى دعاة البدع القديمة التي تطل في ثوب جديد، أو في ثوبها القديم كالرافضة والخوارج والقبوريين، لا شك أن كل هؤلاء ينطبق عليهم هذا الوصف من النبي صلى الله عليه وسلم، وما أكثرهم في زماننا، وقد قوي سلطانهم، وتملكوا بلاداً وأقطاراً نشروا فيها النفاق الأكبر، وأحياناً الكفر البواح بلا مداراة، فضلاً عن صفات النفاق والفسوق والعصيان التي ملأت المجتمعات الإسلامية، وتفرق الناس في صراعات جاهلية، أهلكت القلوب والأبدان والعباد والبلاد. ولا شك أن القبول بأمثال هؤلاء ورياستهم للمجتمع والإقرار بولايتهم على المسلمين ولاية شرعية يؤمر المسلمون فيها بالسمع والطاعة، والاعتراف لهم بحق التوجيه والأمر والنهي من أعظم ما يؤدي إلى فرقة المسلمين وهلاكهم في طاعة هؤلاء. ولو تأملت في حالهم تجد الأوصاف منطبقة عليهم، ومن العجب أن تجد من يقول للناس: اسمعوا لهم وأطيعوا، ومما يؤسف أن هذا مذهب البعض من أبناء الصحوة، حيث يرون أن هؤلاء الدعاة على أبواب جهنم ولاة أمور شرعيين، وليسوا فقط قد فرضوا على المسلمين أمراً واقعاًً. ولا شك في ضرورة وأهمية التفرقة بين الأمر الواقع والأمر الشرعي الذي هو الحق دون ما سواه. ومن أسباب الشبهة التي تلبست البعض في هذا المقام: كلام أهل العلم في أن الولاية قد تثبت بالتغلب ولو لم يكن صاحبها مستوفياً لشروط الإمامة، والحقيقة أن كلام العلماء في ذلك إنما هو ابتلاء من هو صالح للإمامة، فإن خلا الزمان عن ذلك واستولى كاف ذو استقلال للذب عن بيضة الإسلام وحوزته، فهذا حكم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الذي توكل له الأمور التي كانت منوطة بالأئمة؛ لأنهم إنما تولوا الأمور ليكونوا ذرائع إلى إقامة أحكام الشرائع. هذا كلام الإمام الجويني. والأدلة التي استدلوا بها تدل على ذلك، فإن من أدلة ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو استعمل عليكم عبد حبشي يقودكم بكتاب الله؛ فاسمعوا له وأطيعوا)، وفي رواية: (مجدع الأطراف). ومعلوم أن الحرية والنسب من شروط الإمامة، وقد حمل العلماء الحديث على صورتين: إما أن يوليه بعض الأئمة، أو أن يتغلب على البلاد بشوكته وأتباعه، والحديث ظاهر في أنه لابد أن يقود الناس بكتاب الله. فالغرض إقامة الدين، وسياسة الدنيا بالدين، وكما قال الجويني: والغرض استصلاح أهل الإيمان على أقصى ما يفرض فيه الإمكان، وليس المقصود وجود صورة الولاية حتى ولو كانت حرباً على الدين وأهله، وموالاة للكفار ونصحاً لهم، وسعياًً لمصلحتهم على حساب المسلمين وبلادهم، وإيذائهم، فإذا أضفنا إلى ذلك أنهم ما تولوا الرياسة والولاية أصلاً باسم الدين، ولا نسبوا أنفسهم إلى القيام بواجباته، بل هم يقسمون صراحة على إقامة دساتيرهم وقوانينهم الوضعية التي يعلم الكافة مخالفتها للشريعة الفطرية، بل لا يتولى أحدهم منصبه إلا بمثل هذا القسم، فأين العقد الذي عقدته لهم الأمة ممثلة بأهل الحل والعقد منها؟ وأين المقصود الشرعي للإمامة شكلاً أو موضوعاً رسماً أو حقيقة واقعة حتى يمكن من أجله تخصيص الولاية للقيام بالمصالح والمقاصد الشرعية، وعدم إهدارها، ولو بدون عقد ولاية من أهل الحل والعقد؟ من الواضح الجلي أنه لا هذا ولا ذاك يمكن أن يدعى وجوده بأقل الدرجات، وهذه المسألة -نعني: عدم اعتبارهم ولاة شرعيين- ليست مبنية على تكفير أعيانهم من عدم تكفيرهم، فالإسلام شرط آخر من شروط الولاية تبطل بفقده كولاية شرعية ابتداء أو عند طروء الكفر كما هو مبين في موضعه، ولكن لا يلزم من عدم التكفير للأعيان بعذر بجهل أو تأويل، أو إكراه مدعى أن تصحح الولاية شرعاً؛ لأن العقد لم يتم عليها. فمن الممكن لأحدنا ألا يثبت الكفر لمعين لكن لا يمكن أن يثبت بذلك الإمامة الشرعية، فقد يعذره بجهل أو تأويل، لكن أين الإمامة الشرعية التي يثبت بها الأحكام الشرعية؟! لأن العقد لم يتم عليها -على الولاية- ولا المقاصد الشرعية وجدت حتى يمكن اعتبارها صحيحة بالتغلب. أما مسألة التكفير فهي لأهل العلم استيفاء الشروط وانتفاء الموانع، وكثيراً ما يكون الاختلاف فيها راجعاً إلى تحقيق المناط، وهذا في أحوالنا اليوم غالباً ما يكون سائغاً لانتشار المنافقين وكثرة مداراتهم وتلبيسهم على الناس حتى أهل العلم منهم. والعلاج الواجب لهذا السبب من أسباب الاختلاف: جمع الناس حول علمائهم، فهم في الحقيقة أولي الأمر منهم؛ لأنهم هم الذين يمكنهم أن يقودوهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واجتماع الناس عليهم من أسباب قوة الصحوة وتأثيرها في المجتمعات المسلمة الجريحة بجراح الكفار والمنافقين، ثم هؤلاء العلماء عليهم أن يختاروا من بينهم أمثل من يقود المسلمين في ملماتهم ومهماتهم، ولا سبيل إلى أن يصبح أهل الحل والعقد الحقيقيون -الذين هم أهل العلم من أهل السنة والجماعة- أهل قوة وتأثير إلا بجمع الناس عليهم، ورد أمرهم إليهم؛ فإن واجب المسلمين حال غياب الإمام أن يكون العلماء هم ولاة الأمور. قال الجويني رحمه الله: قال العلماء: لو خلي الزمان عن السلطان، فحق على قطان كل بلدة وسكان كل قرية أن يقدموا من ذوي الأحلام والنهى وذوي العقول والحجى من يلتزمون امتثال إشارته وأوامره، وينتهون عن مناهيه ومزاجره. وقال أيضاً: ثم كل أمر يتعاطاه الإمام في الأموال المطلوبة إلى الأئمة، فإذا شغر الزمان عن الإمام وخلي عن سلطان ذي نجدة واستقلال وكفاية ودراية، فالأمور موكولة إلى العلماء، وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم، ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم، فإن فعلوا ذلك فقد هدوا إلى سواء السبيل، وصار علماء البلاد ولاة العباد، فإن عسر جمعهم على واحد استبد أهل كل قطر وناحية باتباع عالمهم، وإن كثر العلماء في الناحية فالمتبع أعلمهم، وإن فرض استواؤهم- وهو فرض نادر لا يكاد يقع؛ - فإصدار الرأي عن جميعهم مع تناقض المطالب والمذاهب محال، فالوجه أن يتفقوا على تقديم واحد، فإن لم يتفقوا يقرع بينهم. وخلاصة العلاج لهذه المسألة: أولاً: أن يتفق على تحرير الناس من الدعاة على أبواب جهنم، ومعرفة ضررهم، وأن ولايتهم غير صحيحة شرعاً وإن استقرت واقعاً. ثانياً: جمع الناس على علمائهم بأن يقدموا أمثلهم وأعلمهم، فإن تعذر الجمع استقل كل أهل بلد بعالمهم كحل مؤقت، ارتكاباً لأخف الضررين؛ وإن كان لابد من السعي إلى تحقيق الأمر الأول وهو الاتفاق على تقديم أحدهم ولا خلاف أنه لا يكون من أهل العلم الصالحين المتقين إلا من كان من أهل السنة والجماعة.

التعصب للأسماء والجماعات والمذاهب من أسباب الخلاف المذموم

التعصب للأسماء والجماعات والمذاهب من أسباب الخلاف المذموم ذكرنا من أسباب وقوع الخلاف المذموم في الأمة البغي والتنافس على الدنيا ورياستها، والجهل، ونقص العلم، وظهور البدع، واختلاف المناهج، وظهور الدعاة على أبواب جهنم بالضلال. ومن أسباب الخلاف التعصب المذموم للأسماء والأشخاص والجماعات ووضع الولاء تبعاً لها. وهذا السبب من أخطر الأسباب وأكثرها تدميراً للعالم الإسلامي، بل هو الذي جعل الكثيرين -ممن نحسب منه الصدق والإخلاص والرغبة في نصرة الإسلام- يقولون بعدم مشروعية العمل الجماعي جملةً، واعتبار الجماعات الإسلامية العاملة على الساحة أحزاباً باطلة يجب التحذير منها، وعدم الانتساب لها، والعمل من خلالها، وهذه مسألة حساسة جداً وشائكة، بل ربما يفهم -خطأ أو صواباً- من كلام بعض المشايخ: أن العمل الجماعي بدعة، وأن الانتساب للجماعات الإسلامية العاملة على الساحة حزبية ممقوتة وتعصب مذموم، مع أن هذا تشخيص غير صحيح، ويحتاج إلى علاج، وهو أشد منه خطأ وخطراً في الحقيقة. أقول: لقد حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من دعوى الجاهلية، وهذا أمر لا نزاع فيه ولا شك، ولما تنادى المهاجرون: يا للمهاجرين! وتنادى الأنصار! يا للأنصار، قال: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم دعوها فإنها منتنة) رواه مسلم وغيره، هذا مع أن اسم المهاجرين والأنصار من أشرف الأسماء، وهي من الأسماء التي سماهم الله بها في كتابه، وسماهم بها الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته. وبناءً على ذلك فقد توجد العصبية المذمومة ودعوى الجاهلية مع وجود الأسماء الشريفة المعتبرة ومع أن التسمية ليست بدعة وليست مذمومة ويمكن أن توجد معها العصبية الجاهلية فبمجرد التسمية هي العصبية؛ لأن الأسماء كانت موجودة قبل ذلك وظلت موجودة بعد ذلك. فالتسمي نفسه ليس عصبية جاهلية بحد ذاته. نقول: ومع ذلك حين صارت الأسماء الشريفة شعاراً ينتصر الناس له دون تبين للمحق من المبطل صارت جاهلية، فحين نادى الغلام المهاجري يا للمهاجرين، فهب المهاجرون يشاجرون لا لشيء إلا لأنه منهم وكذا الأنصار حين ناداهم الأنصاري فقال: يا للأنصار فهبوا لا لشيء إلا لأنه منهم. فصار هذا انتصاراً لمجرد الاسم وهو الجاهلية ولو كان الاسم اسماً شريفاً كاسم السنة مثلاً، فلو أن سُنياً نازع صوفياً فنادى السني في أصحابه فلا ينبغي الانتصار له دون تبين، بل لا بد أن نتبين من المحق ومن المبطل، وما يدرينا فقد يكون المنتسب للسنة ظالماً للصوفي، حتى لو كان هذا الصوفي مبتدعاً في جزئية لكن لابد أن ينتصف لصاحب الحق. ومن المؤسف أن كثيراً من المسلمين اليوم يتعصبون للأسماء فما إن ينتمي أحدهم لجماعة حتى يتعصب لها وقد يتعصب البعض لعالم معين أو لبلد معين، ينصر على ذلك، ويغضب عليه ويتغاضى عن المخالفات التي تصدر من جماعته أو طائفته، وبالمقابل يُعظِّم ما يصدر عن غيرهم، ويعمل على المصلحة المحدودة لطائفته دون النظر إلى مصالح باقي المسلمين، فالمصلحة بالنسبة له هي مصلحة الطائفة التي ينتمي إليها، فهذا يعتبر مذموماً إذ أن نظرته وموازينه غير صحيحة. فلو أن واحداً -على سبيل المثال- من جماعة أخرى وقع في منكر ما تجد الآخر يطير بالخبر قائلاً: الجماعة الفلانية يفعلون كذا وكذا، وقد يكون هذا الأمر يرتكبه أحد أفراد جماعته التي ينتمي إليها، فيصير الأمر بالنسبة لجماعته خطأ فردياً مع أن الباقين قد يكونون على نفس الأمر طالما لم يؤسس هذا الأمر عندهم ولم يقبل، فهم راضون به ويرونه حينها فعلاً قد ينسب إلى الجميع، وهذا ممكن الحصول لجماعة معينة وقد يكون لعالم معين، فلو أن أناساً لا يوجد لهم اسم معين بل هم تلامذة شيخ من المشايخ وتلامذة الشيخ معلوم أنهم أتباع الشيخ، وربما يقولون: العمل الجماعي بدعة والحزبية مذمومة، بينماالحزبية عندهم قائمة بالفعل، من جهة أن قول الشيخ: كذا، يصير هو الحق وما سواه هو الباطل، وكل من خالف الشيخ فهو عدو لنا، ويغضب إذا خالف الشيخ أي أحد حتى ولو كان الخلاف مما يجوز ومما يسوغ فضلاً عن أن ينتصر له بيده ولسانه. وقد يكون التعصب لبلد معين أشد أنواع العصبية ظهوراً إذ يؤدي إلى التقاتل بين الطوائف المسلمة، فقد تجد جماعات أو دولاً وطوائف تميز بين الناس على أساس الجنسية، فمثلاً أهل البلد مصنفون على أنهم طبقة أولى، والكفرة من اليهود والأمريكان والنصارى هم أعلى قليلاً من أهل البلد، ويليهم طائفة قريبة منهم كدول الخليج مثلاً ومن ثم بقية الدول، وليس هناك تصنيف على أساس أن المسلمين مقدمون على غيرهم، لا، بل هذا هو الترتيب عندهم، فربما يكون هناك نوع من الانتصار لابن البلد على الأجنبي مع أنه مسلم مثله، وقد يكون صاحب الحق والجميع يعلم أنه صاحب الحق، ومع ذلك يعجز عن الانتصار لنفسه، ويعجز أن يجد الإنصاف من غيره، فهذه العصبية مذمومة جداً ومع ذلك تجد البعض يقرها ويصوب مثل هذه المبادئ حتى تصير قوانين مسنونة، فسمح مثلاً لبعض الناس بالحج ويمنع الآخرون من الحج، ويسمح للبعض بالتوافد والإقامة والبعض يمنع من ذلك بناء على حقوق تعطى وتمنع ومبناها في الأصل على الجاهلية، والبعض قد يرى ذلك حقاً لولي الأمر مثلاً، مع أن ولي الأمر ليس من حقه أن يؤصل العصبية الجاهلية ويميز بين الناس، وإذا كان ولي أمر المسلمين جميعاً فلا بد أن يكون كل المسلمين عنده سواء، أما إذا كان ولي أمر لطائفة معينة فليس له دخل في الباقين، فلو كان لا يرى ولايته عليهم فليس عليهم أن يسمعوا ويطيعوا؛ لأنه لا يراعي مصالحهم، والأصل أن بلاد الله عز وجل هي بلاد المسلمين عموماً. فهذا أمر موجود، بل قد يكون التعصب في البلد نفسها، فتجد مثلاً الفلاحين يتعصبون لبعضهم، وأهل الصعيد يتعصبون لبعضهم وكذا سكان الإسكندرية، وفي بلد آخر كثيراً ما تسمع هذا نجدي وهذا حجازي ونحو ذلك، وهذا شريف وهذا غير شريف، وهكذا داخل البلد الواحد قد يفهم البعض أن الاتجاهات الإسلامية هي التي تؤاخذ أو أنه لا تعصب في الدنيا إلا هذا، وجميع أنواع التعصب الأخرى لا تحارب. فنقول: لا، بل يجب أن تحارب كل أنواع التعصب سواء كانت لمشائخ أو لجماعات إذ التعصب يكون مذموماً سواء وجدت الأسماء أو لم توجد، فهذا شأن لابد من محاربة جميع أموره، ويزداد الأمر سوءاً إذا رأى الشخص أن جماعته هي وحدها جماعة المسلمين التي من فارقها فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، وهذا ما تعلنه جماعة التكفير صراحة، وهو أن شرط الحكم بالإسلام هو الانتماء للجماعة التي ينتمون إليها؛ لأن جماعتهم كانت أول من صرح به تصريحاً، وكذلك تطبيقات جماعات الإخوان رغم تصريحات القادة والمفكرين البارزين فيها بأنهم جماعة من المسلمين إلا أن الاستهانة الشديدة بمن خرج عن الجماعة يجعل المعاملة في هذا الباب قريبة ممن يرى أن جماعته هي جماعة المسلمين، وإن كانوا لا يصرحون بذلك، ولكن أسلوب التعامل من التشديد والتعنيف على المخالف خصوصاً في مراحل سابقة يظهر ذلك جلياً، ولا شك أن هذه الأمراض تؤثر على القلب وإخلاصه ونصيحته لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وتفتح باب الصراعات الداخلية بين أبناء الصحوة الإسلامية لأعداء الإسلام لينفذوا منه لضرب الجميع.

علاج التعصب المذموم لا يكون بحظر الجماعات أو منع التسمي بها

علاج التعصب المذموم لا يكون بحظر الجماعات أو منع التسمي بها فلا بد أن تتكاتف الاتجاهات الإسلامية لعلاج هذه الظاهرة، وليس هذا العلاج حتماً بإلغاء الجماعات وإبطالها ولا حتى بعدم ذكر أسمائها. فالبعض يرى أن العلاج هو في هدم العمل الجماعي أو عدم التسمي بالأسماء، إن الاجتماع على إقامة الواجبات من الفروض يترتب عليه وجود العمل الجماعي الذي يهدف إلى إقامة الواجبات الشرعية وفروض الكفاية التي تغيب عن واقع المسلمين، فهذا أمر فرض على المسلمين فكيف يهدم من أجل التعصب؟ ومثل هذا مثل من جاءه مريض ليعالجه فقال: علاجه بقتله، وهذا غير صحيح، بل لا بد من علاج المريض لا منعه مما وجب عليه شرعاً، فالاجتماع فرض أما التسمي فهو من الأمور الجائزة أو المستحبة المشروعة، والانتساب إلى أسماء معينة كالانتساب إلى بلد أو عالم أو طائفة ليس بمحرم في الشرع، كقولنا: فلان الحجازي، أو فلان العراقي، فتحريم مثل هذا غير موجود عبر التاريخ والعصور بل نرى في تاريخنا الانتساب إلى البلاد كالإمام البخاري مثلاً واسمه محمد بن إسماعيل لكنه انتسب إلى البلد التي نشأ منها. ومثله الحافظ العراقي وابن حجر العسقلاني، والإمام النووي. وكذا الانتساب إلى عالم معين كقولنا: فلان الشافعي، أو فلان المالكي، أو فلان الحنبلي، فهذا أمر ظل موجوداً من عدد من العلماء، حتى عند ظهور التعصب المذموم ولم يقل أحد بحرمة الانتساب للأسماء. وقبل هذا لم يكن ينتسب إلى الأسماء بياء النسب بل كان ينتسب إليه بكلمة أخرى، فنحن نعرف أصحاب عبد الله، وكم جرى على الألسن: كان أصحاب عبد الله يرون كذا، وكذا أصحاب ابن مسعود وأصحاب ابن عباس، فهذا الأمر كان موجوداً وكان يعرف أن أصحاب فلان، أي: تلامذته وأتباعه، فانتسابهم له كان باسم (أصحاب) قبل أن تظهر المذاهب المشهورة، وكذا الانتساب إلى طائفة معينة كالأشراف مثلاً، فقيل: الشريف فلان أو نحو ذلك، أو نسب إلى الطوائف المعاصرة كالطوائف والجماعات التي تريد أن تقوم بواجب من الواجبات الشرعية، كجماعة تيسير الحج والعمرة، فمن الخطأ أن أقول له: أنت مرتكب محرم وقد يكون القائل ضمن جماعة تريد أن تتعاون على إقامة واجب من الواجبات وتيسيره على الناس، كجماعة تحفيظ القرآن الكريم مثلاً، فالجماعة تهدف إلى إقامة هذا الأمر المشروع، وأخرى تريد الدعوة إلى الله عز وجل، وأخرى تريد الجهاد في سبيل الله بشروطه الشرعية، وإلا فليس كل من تسمى بالمجاهد أو بجماعة الجهاد يكون مجاهداً، ولا كذلك من انتسب إلى جماعة الدعوة يكون داعياً، ولا حتى من انتسب إلى السلفية يلزم أن يكون سلفياً فالانتساب نفسه ليس بمحرم بل قد يكون محتاجاً إليه، كأن يقول: أنا من أهل السنة والجماعة أنا من أهل الحديث أو نحو ذلك؛ ليبين منهجه الصحيح، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لحظ بداية ظهور دعوى الجاهلية بين المهاجرين والأنصار لم يعالجه -كما يحاول البعض أن يفعل الآن- بتحريم الانتساب إلى هذه الأسماء، وأمرهم بإلغاء الأسماء مثلما يقول البعض، بل قد يترتب على قوله إلغاء الاجتماع على الطاعة، وهذا علاج غير مقبول وهو أشر العلاجين، فلو قال أحدهم: نحن سنلغي الأسماء، مع العلم أن المشكلة ليست إلغاء الأسماء، بل إن البعض فرض الأسماء وإن كان بعض المشايخ لا يوافقونهم ونحن لا نوافق على فرضية ذلك وهذا غير لازم بل هذا لتمييز منهج أهل السنة، ولكن الأمر ليس بمحرم. فليس العلاج بإلغاء الأسماء ولا العلاج قطعاً بإلغاء التجمعات الإسلامية التي تريد إقامة الواجبات الشرعية، بل العلاج بتحذيرهم من حقيقة دعوى الجاهلية وهي الانتصار للأسماء دون معرفة الحق، وهذه هي التربية الواجبة التي يجب أن يتربى عليها أبناء الصحوة جميعاً، ولا يزال العلماء ينتسبون إلى بلادهم كالمدني والمصري والخرساني والنووي والعسقلاني، وإلى مذاهب أئمتهم كالشافعي والمالكي والحنبلي والحنفي، ولم ينكر العلماء التسمية ولم يحرموها حتى بعد ظهور العصبية، بل تُحارب العصبية بدون تحريم ما أحله الله، وبدون تحريم شيء لم يرد في الشرع تحريمه، فلو احتج أحدهم على تحريم التسمي والانتساب بأن العصبية مذمومة، نقول له: ومن قال لك: إن التسمي عصبية بل إن السلف على مدى حياتهم انتسبوا وكانوا يحرمون العصبية، ولم يفسروا الانتساب والتسمي على أنه عصبية.

من وسائل علاج التعصب: قبول الحق مهما كان مصدره

من وسائل علاج التعصب: قبول الحق مهما كان مصدره ولا يتحقق هذا العلاج إلا بتعميق الولاء على الكتاب والسنة، وأن الأتباع إنما يعملون لنصرة الإسلام، وهذا هو الأمر المهم وليس نصرة الجماعة، بل إن الجماعة وسيلة إلى نصرة الإسلام، وهذا أمر عظيم الأهمية في التربية. وأنه لا بد من قبول الحق والمعاونة عليه ممن جاء به وعمله كائناً من كان - فأي مسلم يقول الحق لابد أن نساعده، وكذا لو عمل به لا بد أن نساعده- ولا بد أن توزن مواقف الجماعات بميزان الشريعة لا بمجرد أسمائها، فقد نجد البعض يرفض عملاً معيناً أو نظاماً معيناً لمجرد أن الجماعة الفلانية التي يخالفها في اعتقاده فعلته أو تفعله فلو أقيمت مثلاً رحلة أو اعتكاف في غير رمضان، تجد من يحتج قائلاً: لقد أصبحتم إخواناً، ولو أنا رتبنا جدولاً للخطابة تجد الرد ذاته من بعض السلفيين، فهل مجرد عمل الإخوان لعمل ما يجعل هذا العمل غير مقبول، لا بل لا بد أن نزن الأمر بميزان الشرع ونبحث في هذا الأمر: هل هو بدعة أم أنه طاعة؟ وهكذا. ومن العجيب أنه لو ذكر أناس بخير ينتمي إلى جماعة أخرى كـ سيد قطب أو محمد قطب -رغم أن لنا مآخذ عليهما ونبين أخطاءهما المخالفة لمنهج أهل السنة- لقاموا بالرد وشنعوا عليه وعدوه ضمن الطوائف المنحرفة، وهو خطأ بالتأكيد إذ لا بد أن نزن بميزان الشرع ونقبل به ولو كان من شيطان، ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة رضي الله عنه قال: (صدقك وهو كذوب)؟ وقبل أن أبا هريرة يقول للأمة كلها أن تقرأ آية الكرسي عند النوم مع أن بداية تعلمها كان من هذا الشيطان لـ أبي هريرة، وما كان أبو هريرة سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم بعد، وهذا كله بعد عرضه على السنة وعلى هذا فأي أحدٍ قال كلام حق لزمنا قبوله وإن كان القائل كذاباً، فمناقشة الأقوال والحكم عليها بالصواب والخطأ وإصابة السنة أو مخالفتها أمر غير مستنكر ولا خلاف منهج أهل السنة، فالحق أن منهج أهل السنة التوازن، فلابد أن توزن مواقف الجماعات بميزان الشريعة لا بمجرد الأسماء، وقد يرفض البعض عملاً معيناً أو نظاماً معيناً؛ لمجرد أن الجماعة الفلانية التي يخالفها في اعتقاده هي التي قامت به، فالدليل عنده وجوب مخالفتهم. على سبيل المثال: من المعروف أن جماعة الإخوان تهتم بالتواجد في الهيئات والأنظمة كالنقابات واتحادات الطلاب ونحوها، وجماعة التبليغ تهتم بالخروج للناس لدعوتهم، فلا يجوز أن ينكر البعض هذا التواجد أو هذا الخروج لمجرد أننا إذا فعلنا ذلك صرنا مثلهم، فأنا لا أخالف التبليغ؛ لأنه يخرج إلى الناس، بل أخالفه لأنه يخطئ فيما يقول، وأخالفه لأنه يحصر الإسلام في شيء معين ويحصر نصرة الإسلام والجهاد في سبيل الله في باب معين، وأخالفه لأنه يهمل قضايا عظيمة جداً كقضايا التوحيد والإيمان ولا يتكلم فيها لا أولاً ولا آخراً بل لا يربى على التوحيد، فهو يهمل قضاياه دائماً، فتجده يمنعك من الكلام في الشرك والبدع وأمراض الأمة، أو العقيدة، أو الحلال والحرام، أو السياسية، أو الولاء والبراء، بل لا يكلم الناس إلا فيما تضمنه كتاب رياض الصالحين أو حياة الصحابة أما غير ذلك فلا يكلم الناس فيه، وبالتالي يتربى الناس على أن المنكرات هي ما قالها هؤلاء، ثم الأجيال اللاحقة تأتي فإذا وجد فيهم من يدعو غير الله يتركه بحجة أنه تعود على ذلك، ويمنع الآخرين من التحدث في هذا الموضوع فأول شيء يطلبه من المدعوين أن يصفوا قلوبهم ويخرجوا معهم، وقد يكون من يخرج معهم لا يعرف أن الطواف بالقبر شرك ولا أن دعاء غير الله وطلب المدد منه أمر منكر، فلا تجده ينكر مثل هذه الأمور، وهكذا أيضاً في الاتجاهات الأخرى فدخول النقابات والاتحادات الطلابية ونحو ذلك ليست مشكلةً بحد ذاتها بل فيما يرافق ذلك من مخالفات شرعية كتضييع الولاء والبراء، والإقرار بموازين الباطل وشعاراته، واستباحة كثير من المنكرات وإباحتها للناس، وعمل أعمال فيها معاونة على المنكر والعياذ بالله. وقد يسأل البعض: كيف لا ينتقد خروج التبليغ مع أنه بدعة؟ فنقول: إذا كان المرء يتعبد الله بإلزام نفسه أن يخرج ثلاثة أيام أو أربعين يوماً أو سنة فهذا بدعة، لكن لو فرغ شخص نفسه ثلاثة أيام أو يومين لإلقاء دروس معينة، أو فرغ نفسه ثلاثة أيام في الشهر وهي الأيام التي يستطيع الاستئذان فيها من عمله، أو الخميس والجمعة كونهما عطلة فهذا الأمر ليس بدعة. على أن جماعة التبليغ لديهم أخطاء كبيرة بإهمال قضايا التوحيد والإيمان والعلم، والاتباع، فلا يعملون على إنكار البدع والشركيات، كما يهملون قضايا الحكم والولاء والبراء وأصول العقائد، وهذا خطر عظيم فأصل الجماعة أنها كانت صوفية، فهذا الأمر بالنسبة إليهم ليس ذا خطورة بالغة، ومع ذلك فلهم بعض الإيجابيات، وكذلك الإخوان لديهم بعض الإيجابيات، فكثير من الشباب يبدأ حياة الالتزام على يد أحد هذه الطوائف ثم الله عز وجل يهديه إذا أراد الحق إلى المنهج الصحيح. فينبغي أن يكون عملنا منضبطاً بالشرع، بعيداً عن البدع، وفي نفس الوقت لا ينبغي أن نهدم الخير لوجود دخن فيه، بل نعرف المعروف وننكر المنكر والدخن، ونعين على الحق ولا نعين على سواه، هذه حقيقة الولاء على الكتاب والسنة، ولهذا كان موقفنا كدعوة سلفية في مثل هذه المسائل: أن ما استطعنا أن نقوم به بالصبغة الشرعية قمنا به، وطلبنا من غيرنا أن يعيننا عليه وأن ينضبط في عمله بالشرع، وما عجزنا عنه وقام به غيرنا على بعض الدخن أيدناه على الخير ونصحناه بترك الدخن؛ لأن البديل في حالة تركه أو عجزه عن هذا الخير هو الشر المحض من الدعاة على أبواب جهنم وأتباعهم، وهذا أمر ملحوظ وظاهر. فلو قلنا مثلاً: لو أنهم يستطيعون خوض انتخابات اتحاد الطلاب فسيترتب على ذلك بعض الخير وفيه دخن، على أن البديل أن ينظم الناس حفلات رقص ورحلات مختلطة وغير ذلك من الفساد، مع العلم أن فوزهم غير ممكن ولو أمكن فسنساعدهم على مثل ذلك ولاءً لله عز وجل وللرسول عليه الصلاة والسلام. ومثل ما تقدم نتعاون على الطاعات. قضية الاسم لا تمثل عندنا خطراً أو أثراً ذا بال، فلا بأس من التنازل عنه طالما كان المضمون حقاً، هذا إذا كان الاسم يمثل عائقاً عن وصول الحق للناس. كما لو ظللت تردد في كل مكان: أنا سلفي أنا سلفي فسينفض عنك الناس نحو الآخرين، ولذا كانت تكتب رسائل باسم محمد بن سليمان التميمي لأن اسم محمد بن عبد الوهاب يجعل الناس يرفضون الحق في بلاد كثيرة جداً وسبب الرفض هو معرفتهم أن هذا هو رأس الوهابية؛ لأن الوهابية عندهم مسبة أو خوارج أو كفار أو نحو ذلك، فإذا استعمل هذا الاسم البديل لم تعد لدى الناس مشكلة في قراءة رسائله. كما لو سأل أحدهم: هل أنت وهابي؟ وإذا كان الانتساب للسلف تهمة أخرى فقل لهم: أنا مسلم. لكن لابد أن نعلم ويعلم غيرنا أن اختلاف الأسماء ليس هو السبب الأساسي للاختلاف، حتى يظن أن الواجب هو ترك الأسماء، وإذا تركت انتهت المشكلات، فهذا وهم كبير أدى بكثير إلى ترك التعاون الواجب إلى ما بعد التخلي عن الأسماء. إذاً: فإنه كما بينا لا يحرم التسمي بالأسماء الطيبة التي تدل على الخير وتحض عليه وليست هذه الأسماء بديلاً عن اسم الإسلام، بل: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] فلم يجعل لنا التسمي بالمذاهب أو بالعلماء أو بالجماعات بديلاً عن اسم الإسلام؛ لأن هذا يكون كفراً، بل كل اسم هو داخل اسم الإسلام وليس بديلاً عنه، إنما هو لتمييز معنى معين، وتنبيه الناس إلى ما غفلوا عنه، كما تميز أهل السنة والجماعة بهذا الاسم للتحذير من البدعة والافتراق المذموم، فكلمة أهل السنة ضد البدعة، والجماعة ضد الفرقة، وهكذا اسم السلفية أو أهل الحديث أو أي اسم آخر لجماعات أهل السنة في أقطار مختلفة إنما يكون المقصود منه تمييز المنهج، وترسيخ مبادئه، أو التنبيه إلى بعض ما غفل الناس عنه من هذه المذاهب، وعلى كل يبقى ولاؤنا على الإسلام، وطاعة الله، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55]. يقول: المدح والذم والحب والبغض يكون على الصفات الواردة في الكتاب والسنة، سواء كانت قولاً أو عملاً قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71]. وقال عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]. قال الإمام ابن القيم في فوائد صلح الحديبية: إن من طلب الإعانة على حق أجيب إليه ولو كان لا يجاب إلى غيره من الباطل. هذا عندما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (والله لا يسألوني خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أجبتهم إليها). ولهذا من أصعب المواضع على النفوس أن تعظم الحرمات ولو كان الذي يطلبها كافراً، فتعظيم الحرمات يجب التعاون عليه وإن كان المتعاون معه كافر وإن منع غيره مما ليس من الحق. فإدراك وجود الاختلاف غير السائغ له أهمية كبيرة، فكما لم ينتبه فريق من أبناء الصحوة إلى وجود الخلاف السائغ فغلا في كل مسائل الخلاف، وجعلها مكائد وعداء وحب وبغض آخر إلى وجود الاختلاف غير السائغ، فقصر تقصيراً خطيراً في غمار حماسته الجارفة نحو التوحد والاجتماع. فتجده يردد منبهاً على ضرورة الاجتماع: إن وحدة المسلمين فرض، وقد يبدي استعداداً على أن يضيع في سبيلها العقيدة الصحيحة أو الواجبات الشرعية. يقول: حتى صارت كل الفرق المنتسبة للإسلام عنده حتى ولو كانت من شر أهل البدع كالروافض والصوفية مثلاً مقبولة

القاعدة الذهبية لجماعة الإخوان وإمكانية تطبيقها على أرض الواقع

القاعدة الذهبية لجماعة الإخوان وإمكانية تطبيقها على أرض الواقع كانت القاعدة المسماة بالقاعدة الذهبية التي وضعها الأستاذ: حسن البنا رحمه الله وغفر له قابلة للتطبيق حتى في هذا النوع من الخلاف. وهذا أمر طبقه البنا في حياته، لكن عندما جاء عمر التلمساني وحاول تطبيق هذه القاعدة، وذكر أن سنياً تقابل مع أحد الشيعة عندما أتى لزيارتهم في الأربعينات، فسأله عن الخلافات التي بينهم وبين الشيعة، فقال لهم: كتابنا واحد، وقرآننا واحد، وملتنا واحدة، وأصلنا واحد فلم يجبهم بالحقيقة، فنشأ جيل يقول بأن الشيعة والسنة لا خلاف بينهم، إلا أن يكون الخلاف سياسياً مثلاً، والأستاذ يوسف القرضاوي يقول هذا الكلام صراحة ويقول: إن القاعدة الذهبية: نجتمع فيما اتفقنا فيه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه مع الشيعة الرافضة سبابي الصحابة، والذين يعتقد بعضهم تحريف القرآن -والعياذ بالله- والمغالين في الأئمة كما لا يخفى موضعه في الكتب الأساسية المعتمدة في مذهبهم المليء بالكفر. أقول: فإنه لو قيل بتطبيق هذه القاعدة في الخلاف السائغ -السابق بيانه- مع الاجتهاد في معرفة الحق والعمل به لكانت قاعدة صحيحة، وليس معنى إذا ما قلنا بصحتها: أن كل واحد له حق الاجتهاد في الحق، وله أن يطبق القاعدة في الخلاف السائغ إذا ما طبق منهج الصحابة والسلف كما بينا في الخلاف السائغ، أي: أنه وسعهم أشياء اتفقوا على إقرار كل فريق على أن يعمل بما يراه كما نقل ابن تيمية رحمه الله الإجماع على هذا. أما أن تطبق هذه القاعدة مع أهل البدع كالرافضة فيشجع مثلاً التقريب بين السنة والشيعة أو السنة والصوفية وتصبح الدعوة: عقيدة سلفية وحقيقة صوفية، ويتأول المتأولون الضلالات والمنكرات حتى طلب المدد من غير الله، ودعاء غير الله ليدخل في دائرة خلاف الفروع كما يسمى، كما فعل سعيد حوى في كتاب تربيتنا الروحية، إذ يقول: نحن سننصح: أنه لا يحبذ أن يقولوا: مدد يا سيدي فلان، وإن كان هذا عنده من باب أسألك مرافقتك في الجنة. فهذا كلام في منتهى الخطورة، إذ كيف يكون: أسألك مرافقتك في الجنة، كما لو قال أسألك الجنة؟ إذاً: يجوز أن يقول له: أسألك الجنة على أنه وسيلة للوصول إلى الجنة، نعوذ بالله! بمعنى أنه: لو سأل أحدهم مقبوراً فقال له: أسألك الجنة وأعوذ بك من النار. لكان قوله عند أحد من هؤلاء المؤولين الذين يؤولون أفعال الصوفية من باب قول الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام: أسألك مرافقتك في الجنة، كأن الرسول سيعطيه الجنة، بل هل تعلم ما يقولون عند القبور؟ إنهم يقولون: يا شيخ فلان دلني على طريق أسلكه حتى أكون معك في الجنة، مع أنه يعلم أن الشيخ لن يرد عليه إذ إنه ميت، ولكنهم يعتقدون أن الشيخ موكل بتوزيع المنازل والمقامات، فيأتي من يؤول هذا لكي يصبح قولهم: مدد يا سيدي فلان قول صحيح غير أنا نستحسن أن يقولوا: مدد يا رب فهذا كلام في منتهى الخطورة بلا شك، وكان يفترض بالأستاذ سعيد حوى ألا يقول: إن الذكر اللفظي المفرد الذي هو بدعة بلا نزاع في الحقيقة بين أهل العلم المعتبرين جائز بإجماع أهل الطرق، أي إجماع أصحاب المنهج الذي يسلكه أهل التزكية فهم عنده أقصر الطرق إلى الله، أي: أن البدعة والضلالة الحقيقية تصبح هي أقصر الطرق إلى الله، ثم يقول: حتى لا نُغضب السلفيين: إن الذي يريد أن يستعمل الجملة المفيدة يستعملها، يعني: يقول: سبحان الله والحمد لله سيصل أيضاً. فهو يريد أن يبين معنى ما كتبه من أن دعوتنا سلفية وحقيقتها صوفية، وهو أيضاً يشجع التقارب مع الشيعة والصوفية وأصحاب بدع التأويل والتحريف بل يزداد الأمر خطورة حين يحاول البعض -قد قرأنا وسمعنا بأنفسنا آراء من هذا القبيل- أن يطبق قاعدته الذهبية مع العلمانيين المعتدلين كما يسمونهم. وبالتالي هذا التطبيق حاصل منذ الاندماج مع الأحزاب، فيزعمون أن من العلمانيين من هو معتدل، أي: لا يظهر القول بأن الإسلام باطل لكنه يقول بمضمونه. ومنهم المتعصبون الذين يصرحون بأن الإسلام باطل فنجد من يقبل التعايش والتقريب مع المعتدلين الذين يقبلون المنهج الإسلامي شكلاً ويرفضونه مضموناً، كالتحالف مع حزب الوفد وحزب العمل، أو في الحقيقة يستحون أن يعلنوا رفضهم لاسم الإسلام، ولا يستطيعون أن يقبلوا حقائق هذا الدين، هذا في غمار قبول التعددية والحرية، وعدم مصادرة الرأي الحر، وفتح باب الاجتهاد، وغيرها من شعارات أخبث وأصرح في مخالفة الإسلام كالديمقراطية والوحدة الوطنية ونحوها، كل هذا حتى يوصف هؤلاء أنهم معتدلون يقبلون الحوار، ويمكن إدخالهم في اللعبة السياسية، فهذا كله من أخطر ما يواجه الصحوة الإسلامية، إذ يفرغ الشعار من حقيقته، فيبقى الاسم ويختفي المضمون، ويصبح الأمر مجرد إلباس المبادئ الباطلة أثواباً إسلامية وأسماء إسلامية. فمثلاً الديمقراطية حقيقتها ديمقراطية، ونحن سنسميها شورى، وفي النهاية سيستفتون على شرع الله، وسيحصلون على الأغلبية في مسألة تعطيل الحدود، ثم يسمونها شورى، وهذا نهايته التمكين لأهل الباطل والنفاق باسم الإسلام، وليس التمكين لدين الله سبحانه، وتظل الشعوب في سكر الوهم الناتج عن الشعار إلى أن تصدم بالحقيقة المرة بعد حين. كما صنع صدام حسين عندما خدع الملايين من العالم الإسلامي عند إعلانه الحرب على الخليج بدعوى أن ما يقوم به جهاد مقدس ضد الأمريكان، فكان إعلان الاسم والحقيقة تظل علمانية بعثية كما هي، فالاسم جهاد والمسمى علمانية حتى حظي بتأييد عوام المسلمين في المشرق والمغرب، نسأل الله العافية. يقول: فيكون الأمر طعنة قاتلة للعمل الإسلامي لأجيال عدة وليس لبضع سنوات. هذا الخلل يظهر جلياً في بعض الأقطار التي لم تلتزم حركتها الإسلامية بمنهج أهل السنة وآثرت هذا الفهم المشوه بمسائل الخلاف على القاعدة النبوية الذهبية، التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: (وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة). رأينا حركات إسلامية جاهدت سنين طوالاً ضد الكفر والنفاق، وضحت بالدم والمال، ونال شرف الشهادة كثير من أبنائها لإعلاء كلمة الله، وإذا بهم عند قطف الثمار يقبلون في صفوفهم غلاة الرافضة في تحالفات مشبوهة. وبالفعل هذا ما يحدث اليوم، فمليون مسلم يقتلون في المعارك، والله أعلم بمن استشهد منهم، ويسمونهم شهداء ونحسبهم شهداء عند الله عز وجل والله حسيبهم، ولكن في النهاية نجد أن طوائف كثيرة جداً يتحالفون مع الشيعة أو مع غلاة القبوريين كالرؤساء والأمراء وهم يعلمون حقيقتهم، فماذا نتوقع لمستقبل هذه البلاد؟ لذلك خذلهم الله، فالتجمع الذي يسمونه معارضة الآن وقت كتابة هذه المقالات في أول مرة كانوا هم الحاكمين وكانوا يقولون: لا بد أن يصبح مجددي أحد الرؤساء المطروحين للدولة في أفغانستان، وهو رجل قبوري، وحزب الوحدة الشيعي أصبح له أعضاء في البرلمان فقد تحصل على عشرين في المائة من المقاعد، فالله خذلهم خذلاناً شديداً. ماذا نتوقع لمستقبل هذه البلاد؟ رأينا في بلاد غيرها تحالفات مع الاتجاهات العلمانية الاشتراكية دون تنازل أصحابها لا عن اسمها ولا رسمها ولا حقيقتها كتركيا ومثله في اليمن نفس التحالفات مع الأحزاب الإخوانية وكانت نتيجة تلك التحالفات هي تضييع العمل الإسلامي، ولم تحصل أي نتيجة، والأمثلة كثيرة متعددة، وللأسف لا يدرك الناس خطر هذا الأمر إلا بعد عشرات السنين، ألم تكن ثورة الجزائر أصلاً جهاداً إسلامياً؟ ألم يكن الضباط الأحرار يوماً أعضاء قد أقسموا بالبيعة للمرشد العام للإخوان المسلمين؟ بالفعل كان كذلك فـ عبد الناصر والسادات وغيرهم كلهم كانوا أعضاء في قيادة سرب الإخوان المسلمين، وأقسموا على المصحف المشرف، على السمع والطاعة والجهاد في سبيل الله إلا أن كان ما وقع للإخوان على يد كل من عبد الناصر والسادات، كما أن الإخوان يعلمون أنهم غير ملتزمين، لكن قبول المبادئ المنحرفة والتحالفات المشبوهة جعلهم يدخلونها لنيل مصالح سياسية. ألم يعلم الإخوان في أفغانستان أن الشيعة حلفاء الشيوعية ومع ذلك قبلوا بمشاركتهم في الحكومات الإسلامية؟ بل وصل الأمر إلى تحالفات مع الإسماعيلية الباطنية. ألم يناد البعض حتى ممن ينتمي إلى منهج السلف إلى قادسية صدام؟ فالجزائر مثلاً كان من أتباع الخط السلفي من يبدي تأييده لـ صدام، نسأل الله العفو والعافية. وهذا كان موقف جبهة الإنقاذ، فقد كانوا يؤيدون صدام في الجهاد ضد أمريكا، وأشد منهم بعض الااتجاهات في دول الخليج فقد كانوا يقولون: قادسية صدام عندما كانت الحرب مع إيران فيقولون: قادسية صدام في وجه العدوان الفارسي المجوسي، فلما انقلب عليهم صدامهم عرفوا أنه بعثي كافر يحارب المسلمين، فأصدرت الفتاوى بتكفير صدام حسين، وتكفير حزب البعث، ومن الغريب أن ثمان سنين من الحرب مع إيران لم تظهر فيها أي فتوى أو توجيه واحد للسادات بأن صدام حسين بعثي بل كانت قادسية صدام، وهناك اتجاهات إسلامية أخرى ذهبت وقابلت صدام حسين، والبعض قال: إن لديه التزاماً في الأسماء والصفات بمنهج السلف. فمما يدعو للاستغراب أن الناس تتعامل بهذا المنهج المنحرف، ثم عادت العلاقات بعد ذلك مع الجيران الإيرانيين وينادى بحسن الجوار مع العدوان المجوسي الكافر لتحسن العلاقات مع الدولة الإيرانية بعد ذلك، حتى يأتي أحد زعماء الرافضة ويبصق على قبر الشيخين ويسبهما علناً، وإذا جاء من ينكر عليه فلابد من إبعاده مع أن الأمر كان ملحوظاً جداً، نسأل الله العفو والعافية. ولو أن هذه الأمور تصدر عن غير الإسلاميين لما استغربت؛ لأنهم عندهم الميكيافلية المشهورة، ولكن صدورها من بعض الرموز الإسلام

كيفية الحفاظ على نقاء المنهج وصفائه

كيفية الحفاظ على نقاء المنهج وصفائه إن الاحتفاظ بنقاء المنهج الإسلامي مرتبط ارتباطاً أكيداً بالموقف من المنحرفين عن المنهج السلفي من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإلا دخل الزور والبهتان إلى الصحوة الإسلامية، وبقدر ذلك تفقد نصر الله لها؛ لأنها إنما تنصر لقيامها بالدين الذي أنزله، وبالشرع الذي شرعه، وبالسنة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أهم ما يلزم التنبه إليه في إدراك هذا الاختلاف وأسبابه: أن الأمر لابد فيه من معالجة حقيقية للأسباب، وليس مجرد رفع شعارات التوحد والاجتماع، أو نبذ العصبية والفرقة دون التصدي لحقيقة هذا الخلاف، وتحديد المسائل التي توضع تحته في كل نواحي العمل الإسلامي -بمعنى أنه يجب أن نحدد أي نوع من المسائل التي يجوز فيها الخلاف السائغ وغير السائغ- في العقائد، وأصول الإيمان، ومناهج الاستدلال، والعمل، ومناهج التغيير وغيرها من المسائل التي تشغل أبناء الحركات الإسلامية. إن من يحاول علاج هذا النوع من الخلاف بالعاطفة وحدها مثله كمثل رجل أراد أن يطفئ ناراً فغطاها بثوب رقيق والجمر تحته مشتعل، فبعد لحظات اشتعلت النار في الثوب نفسه فصار سبباً لزيادة اشتعالها. لابد كذلك من الناصحين للحركات الإسلامية ممن يقف موقف الناقد المتفرج دون النزول إلى مجالات العمل الإسلامي من التمييز عند تعدد المناهج، والتمييز بين الخلاف السائغ وغيره من أنواع الخلاف. ونسمعهم يقولون: نريد ترشيد الصحوة الإسلامية، فإذا به يوجه الخطاب لكل المناهج دون تفريق بينها معتبراً أن الخلاف يمكن إنهاؤه بالتقريب ين الأطراف المختلفة وهذا ليس نصحاً. لابد أن يميز هؤلاء بين تعدد المناهج، وبين أنواع الخلاف السائغ، فلا يسوي بين أهل السنة وأهل البدعة بطريقة نقده أو نصيحته، إن كان فعلاً صادق الانتماء للسنة ومنهج السلف؛ لأن البعض يجعل الجماعات كلها جماعات بدعة، سنية أو بدعية، والبعض ينصح بقبولها كلها سنية أو بدعية، ويحاول تهوين الخلاف. ولذلك فمن المؤكد أن إدراك هذا النوع من الخلاف وأن معظم الخلاف المنهجي راجع إليه لابد ألا يجعل لنا إلا موقفاً واحداً تجاهها وهو موقف النابذ للبدعة؛ لأجل ذلك خلاصة الثلاثة أنواع من الخلاف: خلاف التعدد يجب استثماره بالضوابط، والسائغ يجب احتماله، وغير السائغ يجب محاربته، وعند الخلط في التعامل مع هذه الأنواع من الخلاف أو معاملتها بطريقة واحدة ستكون مصائب عظيمة، ولذا لابد من الضبط التام لمثل هذه المعاني.

منهج أهل السنة والجماعة هو السبيل الوحيد الذي يجب الاجتماع عليه

منهج أهل السنة والجماعة هو السبيل الوحيد الذي يجب الاجتماع عليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفرقة الناجية: (هي الجماعة)، والحديث في الصحيح. وقال عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة). فالقضية الأولى المستفادة من هذا أن السبيل واحدة، ولابد أن نكون عليها جميعاً، ولا يسع الناس أن يتفرقوا في المناهج، ولا يسعهم أن يختار كل واحد منهم لنفسه بين السنة والبدعة، أو أن يقف موقفاً متوسطاً بين السنة والبدعة زاعماً أنه يريد تجميع الناس، لا يجوز ذلك بل يجب أن يكون الناس على طريق واحد، أصحاب الحق هم أهل السنة والجماعة ومنهجهم الواضح لا يجوز أن يختلف الناس فيه أو يبتعدوا عنه، والتعدد الحاصل بسبب الاختلاف في المنهج بين موافق ومخالف لطريقة السلف تعدد مذموم. وهناك تعدد آخر يرجع سببه إلى اختلاف الهمم والنوازع، فتجد إنساناً همته في طلب العلم وآخر همته في الجهاد، وآخر في النفقة في سبيل الله فتلك كلها سكك داخل الطريق الواحد، لكن الطريق كله يسير متوازياً بأطرافه فكل جهة توازي الأخرى لكن التعدد الناشئ عن المناهج هذا اختلاف تضاد يتجه نحو الاختلاف المذموم لذلك من يحاول تسطيح الخلافات الإسلامية، فيجعلها مسائل سطحية بسيطة، ويردد: لا ينبغي أن نتصارع أو نختلف، وينصب نفسه داعية للتوحد وما يصنعه محض كذب إذ لا يتم التوحد إلا باتحاد المنهج، ولذا نقول: إن الاختلاف والتعدد الحاصل بسبب الاختلاف في المنهج بين موافق ومخالف لطريق السلف تعدد مذموم ووجوده شر على الدعوة والدعاة، وتفرقة للقلوب، وبث للضغينة والحسد والغيبة والنميمة. وبعض الناس يأتي ويقول لأهل السنة: إنكم أنتم سبب ما يحدث فأنتم تفرقتم واختلفتم معاشر الجماعات الإسلامية. إن من يتحمل وزر هذا الخلاف أهل البدع الذين خالفوا طريق الحق، فلا يعمم الكلام ولا يقال: إن كل الاتجاهات الإسلامية بما أنها تفرقت إذاً هي على ضلال أو أنها كلها متفرقة، متحزبة، بل يتحمل وزر ذلك من تحزبوا واجتمعوا على خلاف المنهج الحق، وخالفوا سبيل الحق الواحد، فالواجب ألا يلام أهل السنة على التزامهم بالسنة، ولا يجوز أن يعدوا على أنهم فرقة من الفرق المنحرفة، فهم فرقة من الفرق الكثيرة المنتسبة للأمة لكنها الفرقة الناجية، فالرسول عليه الصلاة والسلام عدها كذلك لما قال: (كلها في النار إلا واحدة)، ففرقة واحدة فقط من الثلاثة والسبعين هي الناجية ولا ينجو غيرها، لذلك لا يصح أن يقال: إن الاتجاهات الإسلامية كلها خطأ؛ لأنها متفرقة، أو كلها متحزبة التحزب المذموم. إن الاجتماع على الحق ليس تحزباً مذموماً، والعصبية للحق ليست عصبية جاهلية، ونعني بالتعصب أن نكون عصابة شرعية، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال عصابة من أمتي على الحق ظاهرين)، فلا بد أن نكون عصابة على الحق، أو طائفة مجتمعة على الحق، من أجل ذلك نقول: على أهل السنة في كل قطر من الأقطار بل في كل مكان أن يكونوا كلهم في الأرض كلها جماعة واحدة، وأن يكونوا معاً في هذه السبيل؛ لأن أصل أمر الخلافة أن الأمة كلها تكون على طريق الحق، وأن تكون تحت قيادة الخليفة، فإذا عجز الناس عن ذلك فأقل شيء أن يكونوا في كل بلد قادرين على التعاون، وأن يكونوا معاً على هذه السبيل، هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته أمة واحدة وطائفة واحدة، متعاونين على البر والتقوى كما أمرهم الله. فما بال كثير من الناس اليوم يحبذ التفرقة، ويدعو الناس إلى أن يكون لكل منهم جزيرة مستقلة بزعم أن الاجتماع عصبية وحزبية، هذا كلام باطل وخلط للأمور بلا شك، إذ إن الذي يتحمل وزر الاختلاف المذموم هم من خالفوا الحق وليس من اجتمعوا وتعاونوا عليه، ومن أخطر المسائل التي يكثر فيها الكلام أن بعض الناس -كما أسلفنا- يظنون أن مجرد الاجتماع نفسه مذموم، وهذا من أجهل الجهل، وأعظم الباطل، ولا ينسب أبداً لعالم يفقه دين الله عز وجل ويعلم الواجبات الملقاة على الأمة الإسلامية. وما زلنا نجد كثيراً من الناس اليوم يحبذ التفرقة، وهو يعلم ما عليه المسلمون من تضييع الواجبات العينية والكفائية، ولا شك في عجز الأفراد عن القيام بهذه الواجبات مع تباعدهم وتفرقهم وعدم انتظامهم في سلك واحد، ولا تقوم دعوة من الدعوات -ولا يعلم في سنة الله الكونية ولا الشرعية أن دعوةً قامت- بغير تعاون ووحدة وائتلاف، اليوم يجتمع الناس في كل المجالات لتقوى شوكتهم، والضعيف يؤكل، والمنفرد يؤكل، هذه سنة كونية في كل المجالات كما أنها سنة شرعية، فالله أمرنا بالاجتماع على طاعته، وقال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2]، فلم يأمرنا فقط أن نفعل البر والتقوى، وإنما قال: ((وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى))، فالتعاون على البر والتقوى في نظر أن يعمل أو يترك وقتما يريد وأن هذا هو الأمر الذي أمر الله عز وجل به، لكن بلا شك أن أحسن لفظ يمكن أن يعبر به عن الاجتماع على طاعة الله هو ((وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى))، لكن ليس معنى ذلك أن الأمر متروك لإرادة الناس، فالتعاون معناه: أن يعملوا مجتمعين يجمعهم أمر واحد، وكلمة واحدة ولا يتحقق ذلك مع تباعد الآراء، واختلاف الأمور، بل لا بد أن يكون مرجعهم إلى أولي الأمر منهم، كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]. فأولي الأمر هم العلماء والأمراء الذين يقودون الناس بكتاب الله، فمن كان من الأمراء يقود الناس بكتاب الله وجب أن يكون الناس معه؛ ليقوموا بواجبات الشرع التي افترضها الله على الأمة الإسلامية كأمة، وعند غياب الأمراء الذين يقودون الناس بكتاب الله يرجع الناس إلى علمائهم، ويلزم هؤلاء أن ينتدبوا واحداً منهم يرجعون إلى أمره، أو يجتمعون بأي طريقة كانت، وإلا ترتب على ذلك أعظم الفتن والمفاسد، وكيف يتسنى لأهل المنهج الحق أن يتفرقوا ويكون غيرهم أحرص على الاجتماع منهم؟! نسأل الله أن يؤلف بين قلوب المسلمين. فوحدة المنهج والطريق ووحدة العمل بالتعاون على البر والتقوى كلاهما أمر لازم ومطلوب لكل من سار على طريق النبي عليه الصلاة والسلام، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف:108]، سبيل موحدة، وقد ذكرنا أن اختلاف النوازع والقدرات، والتنوع في الهمم أمر يثري العمل ولا يفرقه؛ لأن كل إنسان إذا كان سائراً في سكة داخل الطريق الواحد، فإن كلاً منهم يتقن باباً ويسير عليه، ولا شك أن هناك قدراً من الاختلاف داخل هذا الطريق الواحد، بمعنى أن فرداً قد يختار أمراً معيناً داخل الطريق الواحد، كما وسع الصحابة رضي الله عنهم، فقد اختلفوا في مسائل واتفقوا على إقرار كل فريق للآخر على عمله، اتفاقاً منهم على أن هناك من أنواع الاختلاف ما يسوغ، ولذلك فإن مرد الأمر في هذا إلى ما وسعهم رضي الله عنهم، فما وسعهم يسعنا، وما لم يسعهم لا يسعنا، فما عدوا فيه المخالف ضالاً مبتدعاً يجب علينا أن نعده كذلك، وما رأوا فيه أن هذا مما يسوغ فيه الاختلاف؛ لعدم ورود النص فيه، ولعدم حصول الإجماع ولا الخلاف الجلي؛ فإن ذلك يجعله أمراً واسعاً عندهم، وهذا الأمر هو الذي صفت به القلوب رغم وجود قدر من الاختلاف. فأنواع الاختلاف منها اختلاف التنوع، وهذا يجب استثماره والانتفاع به، واختلاف التضاد السائغ الذي لا يصادم نصاً من كتاب أو سنة أو إجماعاً، وهذا لا يعني تنافي وحدة السبيل، وهذا النوع من الاختلاف يجب احتماله، وأما اختلاف التضاد غير السائغ، وهو ما صادم النص من الكتاب والسنة أو الإجماع أو القياس الجلي فهذا يجب محاربته، ويجب عدم قبوله ولا يسعنا، كالخلاف مع أهل البدع والضلال كالرافضة والخوارج والمعتزلة والصوفية وأمثالهم، فلذلك نقول: إن هذا الأمر يجب أن نفقهه جيداً؛ لنسير على السبيل الواحدة التي هي سبيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

كيف تكون الدعوة إلى الله ربانية؟

كيف تكون الدعوة إلى الله ربانية؟ قال تعالى: {أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108]: فيه نسبة هذه الدعوة إلى الله تعالى، وهذه نسبة ما أشرفها! لكن لا يتحقق هذا الانتساب فتكون الدعوة دعوة ربانية إلى الله فعلاً حتى تكون ربانية في أصلها ومصدرها طريقها ومنهجها غايتها ومقصدها. أما في الأصل والمصدر: فبأن ترجع إلى الوحي المنزل من عند الله كتاباً وسنة؛ فإن نقاء الأصل فيه نقاء الثمر وصحته وقوته، وهو الذي يثمر الثمار الطيبة، فلو كانت الدعوة إلى الله بزعم صاحبها تعتمد على أصول غير الكتاب والسنة، كالطريقة اليونانية في الكلام، أو التقليد الأعمى في الطرق الفقهية، أو السياسات المأخوذة عن الرؤساء والملوك ونحو ذلك أو أصول التهذيب المأخوذة عن أهل الضلال من المخالفين لأهل الإسلام في تهذيب القلوب والأعمال والمقامات البدعية ونحو ذلك، ثم ينتسب إلى الله، لكن المصدر عنده حكمة الهنود، أو أهل وحدة الوجود أو المبتدعون من أهل البدع، فهذه لا يمكن أن تكون دعوة ربانية، وإن انتسبت إلى أنها دعوة إلى الله؛ إذ الدعوة الربانية لابد أن تكون ربانية في أصلها ومصدرها، قال تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام:106]، وقال: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف:3]، وقال: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء:113]. أما الدعوات التي تتخذ من المناهج الكلامية، أو الطرق الفلسفية، أو آراء الرجال، أو تحكمات العقول مصدراً لها فهي لا تستحق أن تكون دعوات ربانية وإن انتسبت إلى ذلك، لذلك بقدر ما نُحصّل من الكتاب والسنة، وتكون دعوتنا فيما نكلم الناس فيه مبنية على الوحي، فنقول لهم: قال الله وقال الرسول، حتى من لا يسمعون منك قال الله وقال الرسول تقول لهم ما قاله الله والرسول بطريقة بيان الحجة، كما قال موسى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] ونحو ذلك من مناظرة الأنبياء، وبالمناظرات العقلية التي تبين الحجج القرآنية فتذكر لهم ما يقوله الله عز وجل في مقام البيان، وتبين لهم بلسانهم؛ ليتضح لهم الأمر، كبيان معاني الآيات، والأحاديث. والعبد عندما يدعو إلى الله لا يلزمه أن يحصل على شهادات، مثلما يصنع بعض الجهلة والزنادقة والمنافقين حينما يريدون إيقاف الدعوة إلى الله عز وجل بذلك، لو تأملتم الشهادات الموجودة اليوم لوجدتم أنها لا قيمة لها، -نسأل الله العفو والعافية- فعلى قدر ما عنده من قال الله وقال الرسول يكون داعياً إلى الله عز وجل. وحتى لو انتسبت إلى الدعوة الصحيحة ولم يكن عندك العلم الشرعي الأصل والمصدر الذي تبنى عليه الدعوة والفهم الصحيح للكتاب والسنة فلن تكون داعياً إلى الله، وقد تقول في الدنيا: أنا منتسب إلى الدعوة السلفية، لكن هذا لن ينفعك يوم القيامة إذا لم يكن عندك حظ من العلم الشرعي، فلكي تكون دعوة إلى الله لابد أن تكون ربانية في أصلها ومصدرها، ولابد أن تكون ربانية في وسائلها ومنهجها، بمعنى: أن تتبع القواعد الشرعية في السلوك، فليست الغاية تبرر الوسيلة كما يظن كثير من الناس، فإذا أردت أن تكون على منهج الأنبياء فالغاية لا تبرر الوسيلة، بل الوسيلة من عند الله، كما أن الغاية إليه وحده، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة من قبله من الأنبياء فيها البيان لوسائل الدعوة وطريقها وما يقدم وما يؤخر، وما هي موازين المصالح والمفاسد حتى لا تختلط الأمور وتلتبس الأحوال. فالوسائل ليست توقيفية كما يظن البعض فيمنع من استعمال أي وسيلة لم تكن واردة من قبل في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم كالوسائل المعاصرة فيمنع استخدام المجلات؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرؤها، وكذا الأشرطة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسمعها، أو يقول عن رحلة لغرض التربية: هذه بدعة، فهذا لم يُعمل ولم يجتمع الناس عليه على أنه يمكن أن يقال: كانت عندهم رحلات شهرية في الغزو في سبيل الله يتربون من خلالها، وتوجه لهم التربية الإيمانية من خلال الأعمال الصالحة. فاجتماع الناس على طاعة من الطاعات، وتوجيههم إليها بوسيلة من الوسائل المشروعة وإن كانت معاصرة أمر مطلوب، ووجه مشروعيتها: أن تكون ربانية متفقة مع الكتاب والسنة فلا نتبع الطرق الباطلة بدعوى أننا نريد الوصول إلى الحق، كمداهنة أهل الباطل بزعم أننا لابد وأن نصل إليهم من خلال موافقتهم فيما يدعون، وتعجب أن ترى من الناس من يوافق أهل الباطل في باطلهم ويشاركهم فيه وهو يعلم أنه باطل، فيشارك الكفار في أعيادهم، ويزعم أن في ذلك مصلحة الدعوة، وإذا سألته: هل تعتقد أن عيد القيامة مجيد حتى تشارك النصارى فيه؟ فسيقول لك: لا، ولكن المصلحة تقتضي ذلك! وهذا عين المنكر ولا يمكن أن يكون من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل، بل هذه وسائل منحرفة. ومن ذلك تقديم المصالح وتأخيرها بناء على الأهواء، وهنا لابد أن نعلم ما هي موازين التقديم والتأخير. وسنضرب بعض الأمثلة في توجيه القرآن لدعوة النبي عليه الصلاة والسلام: قال عز وجل: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1 - 2]، فالرسول عليه الصلاة والسلام عندما جاءه ابن أم مكتوم ليتعلم الدين وكان مشغولاً بدعوة غيره عليه الصلاة والسلام من رءوس الكفر، فأعرض عن هذا الأعمى لمصلحة الدعوة، فعاتبه الله عز وجل، وذلك أن مصلحة الدعوة في هدم موازين الجاهلية وليس في تعظيمها، فموازين الجاهلية في أن يقدم الكبير وإن كان كافراً، كما يقدم الغني وإن كان ظالماً ضالاً، ويهمل الفقير الضعيف، فكان لا بد من هدم هذه الموازين، وكذا قال عز وجل: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52]. فهذا الأمر منذ نبوة سيدنا نوح عليه السلام لم يتغير، فقد كان الكفار يقولون: اطرد الفقراء ونحن سنأتي معك، -والعياذ بالله- فيوحي الله عز وجل على نوح أن يقول: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [هود:29]، لا ينبغي أن نقبل المداهنة في الباطل، كأن يقال: إن من وسائل الدعوة: ألا نذكر ما يغضب الناس منا، فلو أن أناساً يغضبون عند الحديث عن السياسة فسنترك الحديث عن السياسة، وآخرون يغضبهم الحديث عن التوحيد، فسنترك الكلام عن التوحيد، وهكذا أشياء كثيرة لا ينبغي بزعمهم التحدث عنها مراعاة للناس، وهذه من أخطر القضايا، بل لا بد أن نعلم أن قضايا الإيمان والإحسان لا تقبل المداهنة، بمعنى: أنها لا تقبل أن يسكت الإنسان عنها أو يحجم عن بيانها، فضلاً عن أن يبين خلافها أو يذكر خلافها. فتجد من يسأل عن حكم شرعي في التبرج، وأهل التبرج أمام عينيه، وقد يسألونه عن البنطلون الجنز، فيحدثهم عن رحمة الله الواسعة، وعن سعة صدر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وعن مغفرة الله عز وجل، ولا يجيب عن أسئلتهم؛ لأنه إن أجابهم وبين لهم حرمة ذلك فسيسمونه بالمتطرف. ونود التنبيه هنا إلى أنه ليس المقصود من أمثلتنا الوسائل المعاصرة في تبليغ الحق للناس، أو التي تسهم في تربية الناس على الحق بأي طريقة شرعية صحيحة وإن كانت مختلفة بشرط أن تخلو من البدع والضلالات، بل ما ننبه عليه هو المداهنة التي تسمى اليوم وسيلة، ومن صورها ما يفعله البعض عندما يكون في مجتمع كافر بل أحياناً في مجتمعات المسلمين حيث يساير الناس فيما هم مقبلون عليه من التعامل بالربا أو من شرب الخمر، ويبرر فعله الشنيع بقوله: هذا من مصلحة المسلمين، عجباً كيف تكون مصلحتهم في أن يشاركوا في هذه المجالات؟! وقد يبرر فعله بدعوى التوصل إلى التأثير، أو أخذ خبرة في البنوك ويشيع أنه لا مانع من أن تدخل البنوك الربوية بحجة التعلم أو عدم ترك هذه المجالات فارغة، فيدخل معهم في كل مجال حتى في الربا، أو في الأفلام السينمائية، أو القرى السياحية. وكل ذلك بدعوى المصلحة وقد يعدها من وسائل الدعوة وهي ليست كذلك؛ لأنك في الحقيقة تعتبر مشاركاً للمنكر. سألت مرة امرأة أحد الدعاة المشهورين في بلد من بلاد الكفار عن زوجها الذي كان لديه سوبر ماركت وهو يريد أن يضع عليه (ماركة عالمية)، وهذه الماركة من الماركات المشهورة، وعند وضعها يصير فرعاً من فروع هذه الماركة، وسيربح عند ذلك أموالاً طائلة، لكن إدارة الماركة اشترطوا عليه أن يبيع الخمور، وقد نصحته الزوجة بحرمة ذلك، والزوج مصر على العرض، فقال لها الداعية: لا أستطيع أن أفتي زوجك بترك العمل من أجل قليل من الكحوليات، ويبرر ذلك بأنه من أجل مصلحة قوة الاقتصاد الإسلامي، ومثله أهل الباطل والضلال والزندقة والنفاق المنتسبون إلى أهل العلم الذين يقولون: لا بد من بيع الخمر من أجل السياحة فهذا ضلال مبين، فلا يجوز للمسلم أن يظن أن هذا من وسائل الدعوة، أو أنه طالما أن غايته أن يدعو إلى الله عز وجل، أو أن يعبد الناس لربهم، أو أن يدعوهم إلى الالتزام بالإسلام، فله إن من أجل ذلك أن يستحدث الموازين الباطلة، ويقدم المصالح الموهومة على المصالح الشرعية، ويخلط الحق بالباطل من أجل قبول الناس لشيء من الحق، فهذا انحراف أيما انحراف. يقول لك سأشاركهم في ضلالهم من أجل أن أدعوهم إلى الله، بل لا تشاركهم في ضلالهم إلا أن تنكر عليهم ذلك. أما أن يكون البديل الإسلامي المقترح هو الخوض في المنكرات. فهذا لا يجوز أن يكون حلاً إسلامياً. فالمقصود أن الطريق والمنهج والوسائل لابد أن تكون أيضاً ربانية حتى تكون دعوة إلى الله، وإلا لوكانت دعوة مقصدها الله سبحانه وتعالى، ولكنها في وسائلها غير ربانية فهي لا تستحق أن تكون دعوة إلى الله، فلا بد أن تكون كذلك في الأصل والمصدر والطريق والمنهج والغاية والمقصد الغاية والمقصد لابد أن يكون وجه الله والدار الآخرة لا غير، وذلك من خلال العمل لإعلاء كلمة الله تعالى في الأرض، {فَم

معنى التمكين في الأرض وغرضه

معنى التمكين في الأرض وغرضه ليس التمكين في الأرض لطائفة الدعاة لغاية مخصوصة لهم، بل هي من وسائل الدعوة لتحقيق العبودية لله في أكمل صورها فهم لايريدون التمكين لكي يستريحوا من المتاعب كالمطاردات والمضايقات، لا بل من أجل أن تزداد عبودية الله عز وجل؛ لأن هذه أكمل في العبودية لذا نقول: الغاية الأساسية من الحياة هي العبودية لله عز وجل، وبهذا نصل إلى مرضاة الله ونصل إلى الدار الآخرة. هذا التمكين منة من الله تعالى وليس بيد الدعاة ولا من كسبهم، قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41]. فالتمكين من أجل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وقد يزعم البعض أنه يريد التمكين لدين الإسلام وهو لا يصلي الفجر مثلاً، فهل ينتظر التمكين لكي يصلي الفجر؟ وهل يريد التمكين إلا لإقامة الصلاة، كما لا ينفع أن تقول: أنا سأدعو إلى الله، وغايتي التمكين للإسلام، وإعلاء كلمة الله. وأنت لا تؤتي الزكاة الواجبة أو تكون قادراً على أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بدرجة من الدرجات وأنت لا تفعل ذلك، إذاً: أنت تريد التمكين لكي تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. لذلك لا يمكن أن يكون مقصدك التمكين لله عز وجل، وإعلاء كلمة الله، وأنت تتمكن من ذلك ثم تفرط فيه قبل أن يتحقق؛ لأن وسائل تحقيق العبودية كثيرة بحمد الله، وإنما المهم ألا يقصر الدعاة فيما يجب عليهم مما يقدرون عليه، أما الدعوات التي تجعل غايتها التسلط على رقاب الناس، أو الظفر بهم للانتقام؛ إذ إن هناك دعوات تتحول بعد مدة إلى أن يكون الهدف لمنتسبها أن يتسلط على هؤلاء وينتقم ممن آذاه أو يسعى وراء الملك والجاه والثروة والراحة تخلصاً من المطاردة والاستضعاف والفقر والخوف، فهذه ليست بالدعوات الربانية، كما أنه لا ييئس إذا لم يحدث التمكين، فهل أترك العمل لأني كنت أظن أني سأتمكن خلال كذا سنة ولم أتمكن، أو كنا نظن أن الدعوة إلى الله لابد أن تثمر ثمارها، وإذا لم تثمر، ولم يحصل الغرض المقصود لتقصير أو عجز، فهل معنى ذلك أن نسلك ذلك الطريق إذاً: أنت فعلاً جعلت التمكين هو الغاية، وليس وسيلة لتحقيق العبودية، فالتمكين وسيلة لتحقيق العبودية، وإذا كان مطلوباً ويحبه كل مؤمن فليس من أجل شيء إلا لمزيد من العبودية لله عز وجل. وبالتالي فلا يظهر في سلوك الإنسان أنه إذا لم تثمر هذه الوسيلة تركها، ولا يجعلها غاية ويقول: أنا أريد أن أعيش، ثم يترك الالتزام، ويترك الدعوة إلى الله عز وجل، ولذا لا بد أن يعلم أن التمكين وسيلة وليس غاية، وإن غايته الله عز وجل، فالله وحده هو القادر على التغيير، ولا يستطيع أحد أن يقطع عنك ثواب الله، أو يمنعك من الجنة، لذا لا تيئس وتترك الالتزام، أو تحاول أن تنتقم ممن لم يستجيبوا لك وتتحول غايتك رأساً على عقب، أو تكون كمن يريد أن ينطح الصخرة ويريد أن يكسرها، حتى لو كسر رأسه ثم يظن أنه قد أدى ما عليه فيترك العمل محتجاً بأنه لم يثمر، وهذا ليس صواباً، فالذي عليك هو أن تطيع الله إلى أن تموت، بل وتجتهد في أن تأخذ الوسيلة الموصلة إلى الغاية، والعبودية هي الغاية، ومعلوم أن العبودية لله سبحانه وتعالى تتحقق في أي مكان، سواء كنت غنياً أو فقيراً، فالمسلم الرباني عبد لله في كل أحواله وأوقاته، فقيراً كان أو غنياً، ممكناً كان أو مستضعفاً، مظلوماً في ظلمات السجون، أو ملكاً ممكناً على رءوس الناس. فندعو الله عز وجل أن يرزقنا الإخلاص والعمل الصالح في كل حين. فالربانية من سمات الدعوة إلى الله وهي التي تمنحها صفة الاستقرار، فهي لا تتلون بتلون ما حولها، ولا تغير جلدها، ولا رايتها، ولا ولاءها حسب المصالح، فلا تتغير مثل تغير الشيوعيين الذين هم أقبح البشر فقد كان ولاؤهم قبل سنوات للشرق، ثم بعدما انهارت الشيوعية أصبحوا هم أكثر الناس عبيداً للغرب. وكم من أناس كانوا يتكلمون على الإمبريالية والرأسمالية والاشتراكية وكانت حياتهم كلها على ذلك، على أن هناك من المنتسبين إلى الدعوة أُناساً عندهم استعداد لتغيير الولاء حسبما يريد من بيده السلطة، أو الملك أو الغنى والمال، فمن يدفع الأكثر يكون الولاء له، وهذا أمر مرفوض لأننا لا يمكن أن نتلون ولا أن ننتمي إلى أحزاب الضلال لأنها الكثرة الآن، فالدعوة الربانية لا يمكن أن تغير لونها ولا جلدها ولا رايتها ولا ولاءها حسب المصلحة كسائر الدعوات الأرضية؛ لأنها ربانية لله عز وجل، إذاً لا فرق في أن نكون ممكنين أو مستضعفين بل يظل ولاؤنا لله عز وجل ولرسوله وللمؤمنين، سواءً كانوا هم الأقوياء أو الضعفاء. وكم نعجب ممن ينتسب إلى الإسلام عندما يسألون: كيف توافقون الشيشان؟ فيجيبون: نحن لا نوافق الشيشان بل أنتم تتهموننا باطلاً، بل نحن حريصون على وحدة الأراضي الروسية. وهذا كان مضمون بيان إحدى لجان الجامعة العربية، فتجدهم يؤكدون أنهم حريصون على وحدة الأراضي الروسية، وأنهم ضد الدعوات الانفصالية. فهذه مصيبة عظيمة وغير محتملة، إذ كيف يصل الولاء إلى أنك لا تريد أن تنتمي إلى الإسلام؛ لأنهم ضعاف وقلة مثلاً، بل إن بعض البلاد حتى الإسلامية عندما يسمعون عن إبادة للمسلمين في دولة من الدول يصرحون أنه لا شأن لهم ويقولون: نحن من سياساتنا الأساسية الإسلامية ألا نتدخل في الشئون الداخلية للدول الإسلامية الأخرى، وتعجب كيف لا يتدخل في الشئون الداخلية والمسلمون يبادون، بل العالم كله يتدخل وأنت تصرح أن من أساسيات مبادئك أنك لا تتدخل في الشئون السياسية الداخلية. هذا كلام عظيم النكارة.

شمول الدعوة إلى الله وعالميتها

شمول الدعوة إلى الله وعالميتها ومن سمات الدعوة الشمول والاتساع، فليست منحصرة في جانب واحد بل تأخذ الدين وتقوم به من جميع جوانبه علماً وعملاً وسلوكاً وخلقاً. ونعني بالشمول والاتساع: أن هذه الدعوة ليست دعوة مقتصرة على جانب معين ككثير من الدعوات التي تقتصر على جانب معين، فتجد من الناس من يجعل همه أن الإنسان يحفظ القرآن، أو أن يكون الناس في هيئتهم الظاهرة ملتزمين بالسنة، وآخر يكون عنده اهتمام بجزئية معينة من بعض القضايا الاعتقادية، وآخر تجد أن أهم شيء عنده أن يكون الفرد متحمساً للعمل الإسلامي من غير أن يكون عنده أي جوانب أخرى، ولذلك تجد ازدواجية خطيرة في الشخصية، وهذا الكلام موجود لدى كثير منا في الحقيقة، بل كل منا فيه قدر من هذه الازدواجية وعدم الشمول، فتجد بعضنا، وإن كانت هيئته إسلامية، لكن أخلاقه لم تتغير بعد، كذا تعامله المادي لم يتغير بعد، وما زال على طريقة أهل الباطل والجهل والظلم والعدوان، ولم يتغير في اعتقاداته بل زال بعيداً عن الفهم الصحيح للعقيدة وتطبيقها الحقيقي، كذلك التزام الحلال والحرام، وقضايا كثيرة جداً لم تزل موجودة على ما كانت عليه، فكثير من الدعاة يركز على جانب معين دون شمول باقي الجوانب، وهذا خطر بلا شك، فالدعوة الربانية حتى تكون دعوةً إلى الله صحيحة النسبة لابد أن تكون دعوة شاملة لمعاني الدين كله، فتغير الإنسان كفرد وتغيره كأمة، وهذا من أخطر ما يلام عليه الكثير من الدعاة، أعني: تقصيرهم باقتصارهم على إصلاح جانب معين من جوانب الفرد ومن جوانب الأمة دون بقية الجوانب، فيحصل النتوء في الشخصية بسبب أن فلاناً بالغ جداً في قضايا معينة، وربما كان الاهتمام بها في حجمها مشروعاً، ولكن أن تكون هي الإسلام الوحيد للإنسان، فأمر غير محتمل وغير مرضي أبداً، ولا يمكن أن يكون من سمات الشخصية المسلمة المتكاملة. وكذلك بعضنا يهتم بإصلاح الفرد ولا يهتم بإصلاح الأمة، بل يتعبد لله ويقول: ممنوع أن أتكلم في أمر الأمة، أو العقائد، أو البدع، أو السياسة، فبماذا يتكلم إذاً؟ أيتكلم في دعوة الناس إلى أن يذهبوا إلى المسجد ثم يخرجوا بعد ذلك إلى الدعوة، فأين إصلاح الأمة؟ وأين تغيير هؤلاء الأشخاص أنفسهم في الاعتقاد والعمل والسلوك والعبادة وسائر الأمور؟ فبعض الناس قد يهتم بجانب العبادة أو التهذيب، وقد يحصل بذلك خلل في الدعوة، فالدعوة الربانية هي التي تأخذ الدين كله، وتقوم به من جميع جوانبه للفرد وللأمة، فتكون الشخصية المسلمة، وتسعى في إيجاد الطائفة المؤمنة التي تقوم بفروض الكفاية. وكذلك يجب أن تكتسب الدعوة صفة العالمية، {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [يوسف:104]، هذه قضية عظيمة ليست محلية. فكثير جداً من الدعوات تتأثر بالواقع الذي تعيشه، وتنعزل عما سواه، فتجد الذي يعرف الأزمة الجزائرية يقول لك: نريد أن نتجه بقضيتنا إلى طريقة اتجاه الجزأرة، يعني: نحن ملتزمون بالسنة والدين ولكن ليس لنا دخل في شيء آخر أبداً، وإنما نحن نختص بأنفسنا فقط. فأين هم {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [يوسف:104]؟ إن شأن المسلم أن يكون شعاره: إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فهل كان هذا تدخلاً في شئون دولة الفرس؟ نحن مأمورون بالتدخل لمصلحة الإنسان، ومأمورون بأن ننقذ الإنسان من ظلم الإنسان، وأن نخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. والله تعالى أعلى وأعلم.

أدب الخلاف [7]

أدب الخلاف [7] إن الخلاف في الأمور الاعتقادية والعملية قد يصل بصاحبه إلى أن يكفر بعينه، وفي بعض الأحيان تكفر الفرق بكليتها عند خلافها في بعض المسائل الاعتقادية والعملية، فقد أجمع أهل العلم على تكفير الباطنية والدروز والنصيرية والإسماعيلية وغلاة الجهمية.

الخلاف في الأمور الاعتقادية والعملية الذي يكفر به المعين

الخلاف في الأمور الاعتقادية والعملية الذي يكفر به المعين الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن الخلاف في الأمور الاعتقادية والعلمية على مراتب وقد قسمه أهل العلم على ثلاثة أقسام: أولاً: ما يكفر به المخالف، والمقصود به المعين. ثانياً: ما يبدع فيه بالاتفاق، ويختلف على تكفير المعين فيه، والراجح أن أكثر المسائل من هذا النوع، ولابد من العلم فيها. ثالثاً: ما يبدع ولا يكفر فيه. إذًا: لدينا ثلاثة أنواع: الأول: تكفير المعين، والثاني: بدعة بالاتفاق، وبعض العلماء يكفر بالعلم وأكثرهم لا يكفر بالعلم. إذاً: هم متفقون على التبديع، وأن القول نفسه قول كفر في الأغلب، ولكن لا يكفر المعين قبل إقامة الحجة عليه؛ لعدم انتشار هذا النوع بين المسلمين. والثالث: أقرب إلى التكفير في الأمور الاعتقادية والعملية.

الفرق المتفق على تكفيرها نوعا وعينا

الفرق المتفق على تكفيرها نوعاً وعيناً نقول: الأصول الإجمالية لهذه الأمور الاعتقادية متفق عليها كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وهي معلومة بالضرورة، فلو أن رجلاً قال: لا يوجد ملائكة، ولا يوم آخر، ولا قدر، ولا كتب سماوية، فهو كافر إجماعاً، إذ لا يوجد مسلم يجهل هذا بلا خلاف بين أهل الملة، والمخالف ليس معدوداً ضمن أهل الملة، بل خروجه من الملة مجمع عليه عند أهل العلم، كالفرق الآتية: غلاة النفي والتعطيل في أسماء الله وصفاته، كالباطنية بأنواعها المختلفة كالعبيديين المعروفين في التاريخ بالفاطميين، والدروز والنصيرية والإسماعيلية، كل هذه الفرق تنبع منها غلاة النفي والتعطيل والرفض، وهم القائلون بألوهية غير الله؛ وهم في الصفات يقولون بنفي النقيضين، فيقولون: الله لا حي ولا ليس بحي لا موجود ولا ليس بموجود، ويشبهونه في الحقيقة بالمستحيل، وأقل منهم من شبهوه بالعدم، وهؤلاء يشبهونه بأسوأ من العدم وهو المستحيل، إذ ماذا يعني حي وليس بحي، وموجود وليس بموجود؟ فما هو الشيء الذي هو موجود وليس بموجود؟ إنه المستحيل، وهذا جمع بين النقيضين ونفي للنقيضين معاً، ولذلك صرفوا صفات الإله للإمام والعياذ بالله، فالدروز قالوا: إن الحاكم بأمر الله هو الله، وأتى الشاعر يقول له: ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار فابتلاه الله بأن حكم عليه بالسجن حتى مات فيه، ويقال بأن اسمه المعز لدين الله، مع أنه غير معز لدين الله ولا هو فاطمي. وهذه الطوائف موجودة إلى يومنا مثل الدروز والإسماعيلية، بل معظم رؤساء الجيش التركي من النصيرية العلويين. كذلك الفلاسفة المؤمنون بذات الرب سبحانه يقولون: هو موجود، أما الذات فهم لا يثبتونها، وهم منكرون لخلق العالم، ويقولون: إنه قديم أزلي وحقيقة البعث والأجساد ينكرونها أيضاً، ويقولون: إن الأجساد لا تبعث. وهذا كلام ابن سيناء، وبسبب هذه المسائل كفره بعض العلماء صراحة؛ لأنها أصلاً معلومة من الدين بالضرورة، ولا يوجد أحد ينازع في إثبات ذات الرب عز وجل. وكذا هناك غلاة الجهمية الذين يكذبون صريح القرآن، كمن يقول: لم يكلم الله موسى تكليماً، ولم يتخذ الله إبراهيم خليلاً، كـ الجعد بن درهم الذي قتله خالد بن عبد الله القسري، وهم ينفون كل أسماء الرب وصفاته، وكل هذه الفرق خارجة من الملة. فالمعتزلة مثلاً من لوازم قولهم: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، نفي صفة الكلام لله، لكنهم لا يصرحون بأن الله لم يكلم موسى تكليماً، كما نقول: من لوازم كلام الصوفية: أن الأبدال والشيوخ آلهة، لكنه لو قال ذلك المتصوفة كفروا، مثل الذي يقول: ذاتي لذاتي صلت ولها ركوعي في كل سجدة فهذا يصرح بأن ذاته هي الإله، وكذلك القائل: لا إله إلا الله ما في الجبة إلا الله، ويمسك جبته، فهذا يصرح بالكفر؛ لأنه يقول شيء مخالف للقطعي المعلوم من الدين بالضرورة. وكذلك الحلولية والاتحادية المصرحون بأن ذات الرب سبحانه هي في ذوات المخلوقين، أو هي عين ذواتهم، فالحلولية يقولون: في ذوات المخلوقين، والاتحادية يقولون: هي عين ذواتهم. والاتحادية يقولون: الحلولية مخطئون؛ لأنهم يقولون بذاتين، ذات حلت في الثانية، ونحن نقول: هي ذات واحدة. حتى الكلاب والخنازير والأصنام، ولا خلاف في كفر هؤلاء، كمن يقول: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهب في كنيسة وآخر يقول: الرب عبد والعبد رب فيا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك رب وإن قلت رب أنى يكلف وهذا كفر بواح، والعياذ بالله. وكذا من يقول في فتوحاته في سورة نوح عن قصد نوح من قوله: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} [نوح:25]، أي: خطت بهم إلى المعرفة والعلم {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} [نوح:25]، أي: أغرقوا في بحور العلم والفهم، {فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح:25] أحرقت ذواتهم فلم يبق إلا ذات واحدة، {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} [نوح:25]؛ لأنهم شهدوا اتحادهم بذات الرب. ومثل من يقول: إن فرعون كان على حق -وأنا أذكر المعاني وأما الألفاظ فهي موجودة في كتبهم- عندما قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]؛ لأنه كان صاحب الوقت، وكان مظهراً لأمر الله. وقال آخر: إن سيدنا موسى كان يغلط على هارون بقوله: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا} [طه:92] أي: تاهوا في عظمة الله {أَلَّا تَتَّبِعَنِ} [طه:93] على عدم الإنكار عليهم {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:93] حين أنكرت عليهم؛ لأنهم عبدوا العجل، إذ كيف تنكر عليهم عبادة العجل؟ لأنه يقول: فيستوي عندي كعبة طائف وبيت أوثان ودير رهبان. كل هذا سواء، ومثل هذا أبيات ابن الفارض في التائية: وإن خر للأصنام في البيد عاكف فلا تعد بالإنكار بالعصبية أي: لا تنكر على أحد يعبد الأصنام، ثم بعد هذا نجد من يقول عنهم: أئمة الزهد والعشق والتصوف ومن قال هذا فهو كافر مثلهم، أما من أول كلامهم فهو ضال مبتدع، ولا نكفره طالما رفض كلامهم. ثالثاً: من يعتقدون بآلهة مدبرة للعالم مع الله تعالى في الضر والنفع والإحياء والإماتة، والشقاوة والسعادة والشفاء والرزق والأمر والنهي، ويصرف لها العبادة كغلاة الصوفية الذين يقولون: إن الأبدال يدبرون الكون، وما دام أن الله ترك لهم تدبير الكون فهم آلهة يعبدون. رابعاً: غلاة القدرية الأوائل، نفاة العلم الإلهي الذين يقولون: إن الله لا يعلم الأشياء حتى تقع، ويصرحون بأنه لا قدر. فلو قيل مثلاً: لا يوم آخر كفر، كذا لو قيل: لا قدر كفر بعينه. أما المعتزلة فقد قالوا كلامهم وأنكروا اللوازم، لكن لم يقولوا: لا قدر. كما فعل الصوفية؛ فإن كلامهم يلزم منه ذلك كمن يطلب من القبر المدد، وعندما تقول له: من الذي ينظم الكون؟ يقول لك: ربنا، وهذا كلام متناقض؛ إذ يلزم من فعله أن يكون صاحب المدد هو الذي يدبر الكون. وأذكر أن أخاً كان يقول لي بأنه حضر المولد في قريتهم، فصعد الخليفة يلقي كلمة بحضور المحافظ والمشايخ والوعاظ، فقال: إن ملك الموت أتى لقبض روح البدوي فنزل له في الأرض فصعد في السماء، فصعد إليه في السماء فنزل إلى الأرض، فذهب الملك يشتكي لله، وأنه أتعبه، فقال الله له: مدد يا بدوي والعياذ بالله! إن الشخص لا يتصور أن يوجد من يجرؤ على الكذب على الله عز وجل إلى هذا الحد الذي يخرج من الملة، وكل من صفق له حينها أو أقر هذا فهو خارج من الملة، ولا نقول: إنه جاهل؛ وهل يجهل أحد أن الله يطلب المدد من عبد من عبيده؟ لا، ولا يحتمل الجهل بهذا أصلاً، بل هذا هو جهل أبي جهل، وجهل فرعون؛ إذ الجهل أنواع مختلفة. خامساً: غلاة الجبرية الذين يصرحون بنسبة الظلم إلى الله. يعني: أن ربنا ظلم العباد، ولا يوجد مسلم يقبل بهذا أبداً، لكن الذي يقول مثلاً: ظلمنا، أو يقول: قدر أحمق الخطى سحقت هامتي خطاه، ومعنى كلامه: القدر ظالم وأنا مدفون تحته، وهذا قول كامل الشناوي ونحن نقصد بالغلاة من يصرح بالظلم أو بالإباحية. يقول: فلا يحرمون ما علم تحريمه بالضرورة، فالزنا عنده غير حرام طالما وافق القدر، فمن وصل منهم لدرجة اليقين -الذي هو فوق القدر- فليس عليه واجبات ولا فرائض ولا غسل للجنابة ولا صلاة ولا يحرم عليه الزنا، وهؤلاء خارجون من الملة بالإجماع شخصياً بأعيانهم. جاءت إلي امرأة وقالت: إن زوجها يقول لها: لن أغتسل من الجنابة ولن أصوم رمضان، ولن أصلي الصلوات الخمس ونحو ذلك. ولو أتاني إنسان وقال لي هذا، لقلت له: إن هذه ليست زوجتك، وهذا ليس زوجك، وهو مرتد عن الإسلام، خارج من الملة، كمثل أتباع الرجل الذي ادعى الألوهية يعتبرون خارجين من الملة نوعاً وعيناً؛ لأنهم يقولون: إن ربنا يحل فيه. وهم كذلك يحللون المحرمات المعلومة من الدين بالضرورة، ولا يوجبون الفرائض المعلومة بالضرورة كالصلاة والصيام وارتفاع التكليف، ومثلهم الإباحية من غلاة الإرجاء، والإباحية إنما تفعل ذلك من طريق الجبر، أو الإرجاء، وأنه لا يكون مع الإيمان معصية، فيقول: أنا مؤمن كامل الإيمان طالما قلت: الزنا حرام والخمر حرام. فلا يلزمه أن يترك شرب الخمر، لكن يلزمه أنه يقول: الخمر حرام، وهذا هو قول الإباحية الذين كفرهم الإمام أحمد رحمه الله وغيره. سادساً: غلاة الرافضة الذين يعتقدون الألهية في غير الله، كالعلويين في علي والحاكم بأمر الله، والطوائف الباطنية في أئمتهم. هؤلاء كفرة من جهتين: من جهة الأسماء والصفات، لقولهم بنفي النقيضين، ومن جهة الغلو في أئمة آل البيت. وكذلك الذين يعتقدون بنبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم غير عيسى عليه السلام، كالقديانية والبهائية، وهؤلاء هم من غلاة الشيعة الذين يعتقدون بنبوة الباب ثم البهاء والعياذ بالله، ويعتبرون البهاء تجلى عليه مظهر من مظاهر الإله، وكذلك من يعتقدون تحريف القرآن، ويرفعون الأئمة والأولياء فوق الأنبياء والمرسلين، وهؤلاء شر منهم، فمن يقول عن الأولياء: إنهم أنبياء. كافر، فضلاً عن قوله: إنهم أعلى من الأنبياء. وكذلك الذين يعتقدون أن الشريعة الإسلامية غير صالحة إما مطلقاً أو لهذا الزمان من العلمانيين المصرحين بالعلمانية، يعني: يقول: هذه الشريعة عبارة عن ضلالات القرون الوسطى، أو أنها كانت تصلح من قبل، لكن الآن لم تعد تصلح، ويفضل عليها شرائع البشر الوضعية، أو يساويها، أو يلزم الناس بها ويحرم عليهم شرع الله. ومثله من يعتقد مساواة الملل، وعدم بغض اليهود والنصارى. بما في ذلك من نقض لمسألة الولاء والبراء، ويقول: إن اليهود والنصارى ليسوا كفرة، هذه المسائل مما لا يختلف أهل السنة في تكفير المخالف للحق فيها، فضابط تكفير النوع والعين عندهم هو انتشار الأمر واستفاضة العلم به

ضوابط العذر بالجهل في المسائل الاعتقادية والعلمية

ضوابط العذر بالجهل في المسائل الاعتقادية والعلمية إن ما لم ينتشر علمه بين عموم المسلمين في مكان ما ولو كان من هذه المسائل، فلا يكفر من يجهله حتى تقام عليه الحجة التي يكفر المخالف فيها، فيفرق في هذا النوع من المسائل بين كفر النوع وكفر العين، بخلاف ما انتشر علمه فلا فرق فيه بل يكفر نوعاً وعيناً، ومن هنا يتبين لك أن تكفير الغلاة من أهل البدع كغلاة الروافض والجهمية والفلاسفة وغيرهم مما ذكرنا هو في العموم بلا فرق بين النوع والعين؛ لأن العلم منتشر. وما ذكر من قبل في تكفير الطوائف نوعاً وعيناً هو باستقراء الواقع الذي نشاهده في زماننا وواقعنا، وهو كذلك في الأغلب الأعم عبر العصور والبلاد المختلفة إلا أن ذلك لا يعني أنه إن وجد من يحتمل جهله في شيء منها ببعض الأخطاء فلا بد من تكفيره بعينه -لا يعني هذا- بل ربما وجد في البعض من هذه المسائل اختلاف في كثير من البلاد، مثل مسألة عدم كفر اليهود والنصارى؛ فإن الشبه تقوى لدى كثيرين من جراء ما يضلل به المجرمون، وما يموه به مشائخ الضلال أتباعهم من المحبة والمودة والمساواة بين هذه الملل. ولكن ولله الحمد لا زال كثير من المسلمين لا زال عندهم مفاصلة في ذلك، فهم يعتقدون بلا شك أن الإسلام حق وما سواه باطل حتى الفساق منهم ولو كان حتى لا يظهره إلا أنه يكره الكفار من اليهود والنصارى ويكفرهم، ولكن الشبهة وردت من الفئة التي أتت بعد الثورة التي تبنت بعض مبادئ العلمانية، وعلى أي حال فإقامة الحجة في مثل هذه المسألة بتلاوة الآيات القاطعة في كفرهم، كقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، وقوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء:150 - 151]. فمن يقول لك صراحة: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، فهذا إنكار منه لصريح القرآن. أما في حق غلاة الصوفية فإننا نقصد بتكفير من صرح منهم بترك الأداء، وصرف العبادة للأولياء، كمن يقول: أنا ماذا أعبد؟ والعياذ بالله. أو كأصحاب الحلول والاتحاد، كمن قال: إن الله حل في فلان، ومن قال: أنا الله، أو كالقائل: أنا الله أمامك. فهذا معتقد لمبدأ الحلولية فلا شك في كفره حينئذ عيناً. أما من يصرف العبادة حقيقة دون أن يقر بذلك لفظاً، كمن سألته: هل تعبد البدوي يقول لك: لا أنا أعبد الله دون أن يقر بذلك لفظاً، كمن يسأل غير الله المدد والشفاء، ونحو ذلك، فإذا أنكر أنه يعبده، وأنه عنده وسيلة فقط، فهذا لا نشك في بلادنا إلى الحاجة إلى إقامة الحجة فيه على المخالف قبل تكفيره بعينه، وإن كان لا خلاف عند أهل الحق في كفر هذا النوع في هذه المسائل، أما في بلاد المملكة العربية السعودية فإنه يظهر جلياً أن الحجة قد قامت بهذا على كل أحد؛ إذ يعلَم الناس جميعاً صغيرهم وكبيرهم مسائل التوحيد، فلو قال ذلك من نشأ في ذلك المجتمع فإنه يكفر بعينه، والله اعلم. كلام الإمام الطهطاوي بعد أن ذكر أن مانعي الزكاة في عهد أبي بكر رضي الله عنه هم أهل بغي على الحقيقة، قال: فإن قيل: كيف تأولت أمر هذه الطائفة التي منعت الزكاة وجعلتهم أهل بغي؟ وهل إذا أنكرت طائفة من المسلمين في زماننا فرض الزكاة وامتنعوا عن أدائها يكون حكمهم كحكم أولئك؟ قلنا: لا، فإن من أنكر فرض الزكاة في هذه الأزمان كان كافراً بإجماع المسلمين، والفرق بين هؤلاء وأولئك: أنهم عذروا بأمور لا يحدث مثلها في هذا الزمان، منها: قرب العهد بزمان الشريعة التي كان يقع فيها تبديل الأحكام والنسخ. ومنها: أن القوم كانوا جهالاً في أمور الدين، وكان عهدهم بالإسلام قريباً، فدخلتهم الشبهة لضعفهم، فأما اليوم وقد شاع دين الإسلام، واستفاض في المسلمين علم وجوب الزكاة حتى عند الخاص والعام، واشترك فيه العالم والجاهل، فلا يعذر أحد بتأويل يتأوله في إنكارها، وكذلك الأمر في كل من أنكر شيئاً مما أجمعت عليه الأمة من أمور الدين إذا كان علمه منتشراً، كصلاة القصر وصوم شهر رمضان، وتحريم الزنا والخمر، ونكاح ذوات المحارم ومثلها من الأحكام، إلا أن يكون رجلاً حديث عهد بالإسلام، ولا يعرف حدوده؛ فإنه إذا أنكر شيئاً منه جهلاً به لم يكفر، وكان سبيله سبيل أولئك القوم في بقاء اسم الدين عليه. أما ما كان الإجماع فيه معلوماً من طريق علم الخاصة، كتحريم زواج المرأة على عمتها وخالتها، وأن القاتل عمداً لا يرث، وأن للجدة السدس، وما أشبه ذلك من الأحكام؛ فإن من أنكرها لا يكفر، بل يعذر فيها لعدم استفاضة علمها في العامة. هذا كلام الطهطاوي نقلاً عن مراتب الإجماع. قال ابن قدامة: لا خلاف بين أهل العلم في كفر من تركها - يعني الصلاة- جاحداً لوجوبها إذا كان ممن لا يجهل مثله ذلك، فإن كان ممن لا يعرف الوضوء كحديث الإسلام، والناشئ في غير دار الإسلام، أو بادية بعيدة عن الأمصار وأهل العلم لم يحكم بكفره، ويعرَّف ذلك، وتذكر له أدلة وجوبها؛ فإن جحدها بعد ذلك كفر. وأما إذا كان الجاحد ناشئاً في الأمصار بين أهل العلم؛ فإنه يكفر بمجرد جحدها. انتهى من المغني. قال ابن حزم في الفصل: وأما من قال: إن الله عز وجل هو فلان لإنسان بعينه، أو إن الله تعالى يحل في جسم خلقه، أو إن بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبياً غير عيسى بن مريم؛ فإنه لا يختلف اثنان في تكفيره؛ لصحة قيام الحجة بكل هذا على كل أحد. ولو أمكن أن يوجد أحد يدين بهذا لم يبلغه قط خلافه لما وجب تكفيره حتى تقوم الحجة عليه.

أدب الخلاف [8]

أدب الخلاف [8] من مراتب خلاف التضاد غير السائغ ما يبدع صاحبه عيناً مع تكفير النوع، ومن الفرق التي كفرت أنواعها ولم يكفر أعيان أتباعها المعتزلة والرافضة غير الغلاة والقدرية والجبرية من غير الإباحية منهم والصوفية غير الغلاة. والأقوال البدعية لهذه الفرق هي أقواك كفرية، ولكن لانتشار الجهل بين أفرادها عدل عن تكفير الأعيان إلى تبديعهم حتى تقام عليهم الحجة.

الخلاف في الأمور الاعتقادية والعملية الذي اتفق فيه على تبديع العين وتكفير النوع

الخلاف في الأمور الاعتقادية والعملية الذي اتفق فيه على تبديع العين وتكفير النوع الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، أما بعد: سبق وأن ذكرنا الفرق المتفق على تكفيرها نوعاً وعيناً، وأنها خارج الثنتين والسبعين فرقة، بل خارجة عن ملة الإسلام بالكلية. أما النوع الثاني من البدع فهو: الأمور الاعتقادية والعلمية التي يبدع فيها المخالف باتفاق العلماء، ولكن يختلفون في تكفيره -أي: المعين- والبعض قد يطلق أن خلاف التكفير حتى في النوع، وهذه مسألة مما اشتبهت على كثير من المتأخرين، وظن خاطئ ظنه بعض المتأخرين من كلام الأئمة المتقدمين كالإمام أحمد وغيره من العلماء حين تكلموا على تكفير من قال بخلق القرآن مثلاً، وتكفير من أنكر الاستواء أو نحو هذا ممن لا يصرح بنقيض القرآن؛ فمن صرح بنقيض القرآن فهو كافر باتفاق. لكن هؤلاء اختلف فيهم العلماء المتأخرون، وذلك أن من العلماء من أطلق كفر من قال هذا، ولكن في نفس الوقت وجد أنه لا يعامل من قال بهذه الأقوال -حتى من دعا الناس إليها- معاملة الكافر، فالإمام أحمد يقول بتكفير من قال بخلق القرآن، وهو في نفس الوقت لما سألوه عن الخروج على الخليفة؟ قال: لا ننزع يداً من طاعة، وذكر الأحاديث في عدم الخروج على الإمام المسلم، وكان يقول عنه: أمير المؤمنين، وهذا يدل على عدم تكفيره، ومن هنا قال بعض العلماء: إن للإمام قولان: قول بالتكفير، وقول بعدم التكفير، أو أن أكثرهم قالوا: إن الراجح عدم التكفير، والصحيح أن قوله بالتكفير يحمل على كفر دون كفر، وهذا قول غير صحيح؛ فإن المتأمل في نصوص العلماء وكلامهم يدل على أنهم يقصدون الكفر الناقل عن الملة، وأقوالهم في كفر من قام بالبدع الغليظة كبدعة القدر ونفي الأسماء والصفات أو الجهمية والمعتزلة ونحو ذلك ظاهرة، وبين المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو أنه إنما قصد الإمام كفر النوع، وأما تكفير المعين فإنه امتنع منه لانتفاء بعض شروط التكفير، ولوجود مانع من موانع التكفير، مع أن الفعل والقول هو قول كفري. وهذا أصح الأقوال في هذه المسألة. لكن هل المسألة اختلفت فيها أنظار العلماء؟ نعم، فنجد مثلاً المنقول عن الشافعي رحمه الله وعن كل الشافعية: أن جميع أهل الأهواء لا يكفرون، وذلك أن الإمام الشافعي قبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية؛ لأنهم طائفة من الشيعة يستحلون الكذب، فدل ذلك على أنه لا يكفر الرافضة، وهذا ظاهر في تصرفات الأئمة عموماً، ولم يزل الرافضة موجودون في وسط أهل السنة ولم يطلب ولم يسع العلماء إلى إقامة حد الردة عليه مع أن في كلامهم من الكفر ما هو معلوم. إذاً: الراجح في هذا النوع الثاني أنه مما يبدع فيه باتفاق أهل السنة. أما أنه كافر أو غير كافر فهذا فيه اختلاف، والراجح أنه لا يكفر المعين، ويقال بكفر النوع، فأصح الأقوال وسط ما بين قولين: القول الأول: وهو يقول بكفر هؤلاء، خصوصاً الرافضة والجهمية؛ فإن من العلماء من أخرجهم من الثنتين والسبعين فرقة، وقال بكفر النوع كالخوارج، وطائفة من أهل الحديث كفرت الخوارج بالذات. القول الثاني يقول بعدم التكفير، وأن هذا كفر دون كفر، إذاً: هو يكفر النوع والعين. والراجح في الباب: أنه كافر نوعاً لا عيناً، وأن من قال كذا فهو كافر، وأما فلان من الناس فلا بد من استيفاء الشروط وانتفاء الموانع، وهي: أولاً: البلوغ، فلو كان صغيراً، كان الصغر مانعاً من موانع التكفير. ثانياً: العقل والتكليف: فلو كان مجنوناً فهذا مانع من موانع التكفير ولو كان عاقلاً فهذا شرط من شروطه. ثالثاً: الاستيقاظ: فلو تكلم بالكفر وهو نائم فذلك مرفوع عنه القلم حتى يستيقظ. رابعاً: القصد الذي ضده الخطأ، فلو أنه قال كفراً خطأ بالتلفظ، كمن قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، فهذا مانع من موانع التكفير، والقصد من شروط التكفير، والخطأ من موانعه. خامساً: النسيان من موانع التكفير والتذكر من شروطه: كمن أسقط آية ناسياً. سادساً: بلوغ الحجة التي يكفر المخالف لها شرط من شروط التكفير. سابعاً: وجود الجهل الناشئ عن عدم البلاغ مانع من موانع التكفير. ثامناً: الإكراه وعدم الاختيار، وعدم التأويل من شروط التكفير. هذا بالنسبة للمعين. فهذه الثمانية التي تعرض لأهلية الإنسان فتجعله لا يحاسب على تصرفاته كما يحاسب من اكتملت أهليته في الدنيا. إذاً: الراجح في هذا الباب هو القول الوسط ما بين القولين، وهو ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه كافر نوعاً وليس عيناً. ونعني بقولنا: ليس عيناً: أنه يمكن أن يكفر الشخص إذا أقيمت عليه الحجة وثبتت، ونفيت شبهة التأويل التي عنده، وأزيلت الشبهة بحق. وقد عرفهم بقوله: هم المقرون بأصول الإيمان إجمالاً. وقد ذكرنا النوع الأول المتفق عليه نوعاً وعيناً: أنهم ينكرون أحد أصول الإيمان إجمالاً، كمن يقول: إن ربنا إنسان بعينه، أو يخالف في النبوة، أو يقول: لا قدر، بخلاف من قال: أنا أؤمن بالقدر، ولكنه يفسره على نفي القدر مثل المعتزلة، فهؤلاء يقرون في الجملة بأصول الإيمان الستة، فيقولون: هناك إيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وهم مخالفون لفهم أهل السنة في أصل كلي من أصول الاعتقاد كالأسماء والصفات، وهي مخالفة في أصل الدين، ونذكر على سبيل المثال: لو خالف شخص في مسألة من ضمن مسائل الإيمان باليوم الآخر، فأنكر المسيح الدجال، فقد ارتكب بدعة، لكن لم يصبح فرقة من الفرق النارية؛ لأنها جزئية يسيرة، لكن عندما يخالف في أصل كلي فهذا لا شك أنه من الفرق النارية. فضابط الحكم عليه: أنه يخالف أصلاً كلياً، أو في فروع كثيرة جداً تجتمع وتصل إلى مرتبة الأصل الكلي، والأصول هذه مبناها على الأسماء والصفات، والقدر، والإيمان بالوعد والوعيد -أي: الإيمان والكفر- والاعتقاد في الصحابة. هذه أربع مسائل كبرى حصل فيها الافتراق: قضايا الأسماء والصفات، وقضايا القضاء والقدر، وقضايا الإيمان بالوعد والوعيد الذي هو مسمى الإيمان وحقيقته، هل هو: قول وعمل، أو قول فقط، أو اعتقاد فقط أو كل عمل من الأعمال ركن من أركان الإيمان يزول بزواله إذا تركه، وهذا قول المعتزلة والخوارج. والاعتقاد في الصحابة والإمامة وأهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام، ومن الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي.

أمثلة لكفار النوع

أمثلة لكفار النوع من أمثلة كفار النوع: المعتزلة الذين يثبتون الأسماء وينفون الصفات، وهؤلاء قد انقرضوا إلا بعض العقلانيين المتأثرين بهم في بعض الجامعات، وهم موجودون لكن بقلة، وليسوا منتشرين في عامة المسلمين، وليس هناك أحد يمتحن الناس أو يدعو الناس لذلك علانية، والمنتشر ممن يتدين بهذا الدين الأشاعرة، لكن هؤلاء الأشاعرة ليسوا من الفرق المختلف في تكفيرها، وعامة أهل العلم لا يكفرون الأشاعرة. كذلك الخوارج الذين يكفرون الصحابة رضي الله عنهم، ويكفرون مرتكب الكبيرة، ويخلدونه في النار، وهؤلاء مثل الإباضية الذين ينتشرون في عمان وليبيا، وكفرق التكفير المعاصرة -مثل جماعة شكري مصطفى وأمثالها- هي من فرق الخوارج وتصرح بتكفير مرتكب الكبيرة ونحو ذلك. ومن الأمثلة: الرافضة الذين يسبون الصحابة رضي الله عنهم، وربما كفروا بعضهم، ويسبون أبا بكر وعمر، ويعتقدون أن أول الخلفاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهم الإمامية الإثنا عشرية، وهم منتشرون بالعراق وإيران، وبعض الجمهوريات الإسلامية في آسيا. ومن الأمثلة: القدرية الذين يثبتون علم الله، وكتابة المقادير، وينفون المشيئة، وخلقه تعالى لأفعال العباد، وهذه العقيدة للأسف تنتشر بين أوساط من يسمون بالمثقفين في بلادنا وغيرها، بل وينصرها بعض المشايخ الذين يتصدرون للدعوة في بعض الجماعات، وهناك كتاب سيئ صاحبه اسمه مصطفى درويش من أنصار السنة، دافع فيه عن القدرية، مع أنه منتسب لجماعة سنية، والشيخ الشعراوي في كتاب القضاء والقدر خلاصة كلامه يدل على إثبات عقيدة القدرية أيضاً، وإن كان هو في أماكن أخرى يتكلم كلاماً حسناً، لكنه في كتاب القضاء والقدر الذي هو أول لقاءاته واشتهر به، ينقل فيه عقيدة القدرية. ومن الأمثلة: الجبرية وإن كان يفترض أن القدرية تذكر في مقابل الجبرية. أما من يصل إلى درجة الإباحية من الجبرية، ويقول: إن المعاصي لا تضر فهو كافر من النوع الأول. ومن الأمثلة: الصوفية الذين يطوفون بقبور الأولياء، ويطلبون منهم المدد، ويذبحون لهم وينذرون، وهؤلاء مختلف في تكفيرهم وذكروا في هذا الباب، وإن كان النوع بلا شك كفر، ولكن الخلاف على أساس انتشار الجهل في هذا الأمر في كثير من المتأخرين منع من الحكم عليهم بالتكفير، فهم أولاً ذكروا في النوع الأول ضمن غلاة الصوفية، الذين يقولون: أنا أعبد الولي فلاناً، ويصرح بعبادة غير الله، أو يصرح أنه الله، أو أن الولي فلاناً هو الله، فهؤلاء لا يوجد نزاع بأنهم كفار نوعاً وعيناً، أما هؤلاء ممن يطوفون بالقبور عندما تقول له: هل أنت تعبد البدوي؟ يقول لك: أعوذ بالله، أنا لا أعبد البدوي. فهو يأبى أن يقر بعبادة غير الله، مع أن هذا الذي يفعله عبادة، تماماً كالرافضي الذي يسب أبا بكر رضي الله عنه، فهذا تكذيب للقرآن ومناقضة له، لكن هل يلتزم ذلك، ويصرح بأنه يخالف القرآن؟ لا، وإذا كان هكذا فقد خرج من الملة في ساعته وتوه، لكنه يقول لك: هذا الكلام غير صحيح، أو أنه يؤول الكلام على غير وجهه، ويقول لك: هذا لما كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد، ويحرف معنى الكلام، ومثل اعتقاد الخوارج كفر علي بن أبي طالب والصحابة، فهذا يعتبر كفراً، ومعلوم بلا شك أن الشرع أتى بخلاف عقائدهم، بل مقطوع بكفر هذا القول، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بخروجهم من الدين، ومن تقام عليه الحجة منهم ثم يصر على هذه العقائد فهو كافر. فالصوفي يقول: أنا أعمل هذا العمل تبركاً بالولي، وأنا لا أذبح له تعظيماً له وعبادة له، ومن فعل ذلك فهو كافر، أما من لا يعلم أن الذبح عبادة، فلا بد من إقامة الحجة عليه. أما من يذبح لله عند البدوي، فهذه بدعة وضلالة، ومما لا يختلف في عدم تكفيره، وهو غير مشرك باتفاق، لكن هذا ذريعة إلى الشرك والكفر. والصحيح في هذا النوع من الخلاف: أن هذه الأقوال البدعية أقوال كفرية، ولكن لكثرة الجهل، وانتشار البدع، وعدم تميز أصحاب العقائد الكفرية عن غيرهم من أهل البدع غير المكفرة لم يُمكن إطلاق الكفر على عمومهم وعوامهم قبل إقامة الحجة على أعيانهم، فمثلاً الدروز طائفة كافرة بأعيان أفرادها، وهي متميزة بالعقيدة الكفرية المخالفة للمعلوم بالضرورة كما سبق في النوع الأول، وكذا الإسماعيلية والبهرة والقاديانية والبهائية، أما الروافض فما في كتبهم كالكافي وغيره كفر بلا نزاع، ولكن كثيراً منهم بل جُلُّ عوامهم لا يعرفون شيئاً عنها ولا عن غيرها، بل هؤلاء من أجهل الجهلة، وهم كما لو قلنا: عوام المسلمين من أهل السنة ماذا يعرفون عن البخاري؟ هم يعظمون البخاري، لكنهم لا يعرفون شيئاً عن حياته، لكن هؤلاء مع ذلك أعلم من الشيعة، فعوام أهل السنة كثير منهم عرب، ويدركون كثيراً جداً من المعاني عندما يقرءونها، أما الروافض فمعظمهم من الأعاجم، حتى عندما يقرأ القرآن لا يفهمه، فضلاً عما هو في تلك الكتب الكفرية، فمعظمهم لا يعرفون شيئاً عنها، إنما عنده أن الكافي كتاب عظيم القدر، أو هو الكتاب المعتمد الأول بعد القرآن، فهم لا يعرفون عن هذه الكتب شيئاً ولا عن غيرها، وإنما هم مقلدون لأئمتهم في الضلال، ولا يثبت أن الحجة قد قامت على أعيانهم في سب أبي بكر وعمر، ولو ثبتت إقامة الحجة على أحدهم يكفر؛ فالراجح عدم تكفير عوامهم، أو عدم تكفيرهم بالعموم، ولذلك لو أنهم يحجون ويصومون ويصلون معنا، ولا يعلمون شيئاً عما في كتبهم، فهم منا، ولكنهم يبغضون على بدعتهم، ولا يحكم أن هذه الفرقة كلها كافرة؛ لأن فيهم من لم تقم عليه الحجة، وهكذا الصوفية، فلا شك في كفر كثير من أقوالهم، ولكن يوجد فيهم من لا يعتقد هذه الأقوال الكفرية، ويوجد في من يعتقدها من يتأول الأدلة تأويلاً لا يصل في حقه أن يكون مخالفاً للمستفيض المعلوم بالضرورة، فهو يتأول الأدلة بطريقة تجعلنا نقول: تأويله هذا لا بد فيه من أن تقام عليه الحجة، أو تزال شبهاته قبل أن يحكم عليه بالكفر، لأنه غير مخالف للمعلوم بالدين بالضرورة في حقه هو. أما صاحب الكافي الكليني فالظاهر أنه زنديق منافق، ومن قرأ كلامه يكاد يجزم بكفره، وهذه قناعة أكيدة في أن هذه بدعة، كما لا شك أن مؤلف هذا الكتاب زنديق منافق في الدرك الأسفل من النار. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ونحن نعلم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأحياء والأموات، ولا الأنبياء ولا غيرهم، لا بلفظ الاستعانة، ولا بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرهما، كما أنه لم يشرع لهم صلى الله عليه وسلم السجود لميت ولا إلى ميت -يعني: إلى قبر يستقبله- ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن ذلك كله، وأنه من الشرك الذي حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين لهم ما جاء به صلى الله عليه وسلم. لأن البعض مثل أبي بصير، وهو من مؤلفي كثير من الكتب والرسائل في الدعوة الوهابية، وكثير ممن تبعه على ذلك، يقول: إن العذر بالجهل يدخل في المسائل الخفية كبعض مسائل الصلاة والوضوء. وهذا كلام خطأ، فإن مسائل الوضوء والصلاة ليست من مسائل التكفير أصلاً، ولكن الذي يقول: إن هذا كفر لا بد أن يكون في مسائل الاعتقاد، أو مسائل عملية مشهورة جداً، ومع ذلك فالأمر عند شيخ الإسلام ابن تيمية أن الاستغاثة بالأموات، والاستعانة بهم، والسجود لهم وإليهم هذا لا يكفر به حتى تقام الحجة، وهذا واضح من كلام شيخ الإسلام: لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين لهم ما جاء به صلى الله عليه وسلم.

الحكم على الفرق المنشئة للبدع

الحكم على الفرق المنشئة للبدع وقال أيضاً رحمه الله: وأما القدرية المقرون بالعلم، والروافض الذين ليسوا من الغالية، أي: الذين لا يقولون: إن علياً هو الله، أو إنه النبي، أو بتحريف القرآن، فهؤلاء الغلاة من النوع الأول. يقول: والجهمية، والخوارج -قصده بالجهمية المعتزلة- فيذكر عنه -يعني: عن الإمام أحمد رحمه الله- في تكفيرهم روايتان، هذا حقيقة قوله المطلق مع أن الغالب عليه -يعني: الإمام أحمد - التوقف عن تكفير القدرية المقرين بالعلم والخوارج. ما الذي جعل الإمام أحمد يتوقف عن تكفير الخوارج، مع أن الأدلة في تكفيرهم فيها قوة؟ سبب ذلك: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يكن يكفرهم، وهم كفروه شخصياً، حتى الصحابة الذين كانوا معه لم يكفروهم، وهو إنما قاتلهم عندما سفكوا الدم الحرام، فهم أظهروا البدعة أولاً، وكفروه، ومع هذا ما قاتلهم، ولما قاتلهم لم يقسم أموالهم، مع أن شيخ الإسلام يرجح أنه قسم أموالهم، وبالإجماع أنه لم يسب نساءهم، والذي بقي منهم أمر بتفريقه في البلاد، وهذه كلها معاملة تدل على عدم تكفيره لهم، ثم قد أتت الأحاديث بإثبات أنه شك في آخرهم، فهذا يدل على أن كثيراً من الرؤساء خرجوا بالفعل، لكن لوجود شك في الأتباع المتأخرين العوام يمتنع التكفير بالعموم. يقول: والغالب على الإمام أحمد التوقف عن تكفير القدرية المقرين بالعلم، والخوارج مع قوله: ما أعلم قوماً شراً من الخوارج. ثم طائفة من أصحابه يحكون عنه في تكفير أهل البدع مطلقاً روايتين، حتى يجعلوا المرجئة داخلين في ذلك وليس الأمر كذلك -أي المرجئة الذين ليسوا إباحية- وعنه في تكفير من لا يكَّفر روايتان: أصحهما لا يكَّفر، وربما جعل بعضهم الخلاف في تكفير من لا يكَّفر مطلقاً وهو خطأ محض. والجهمية عند كثير من السلف مثل: عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط وطائفة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة التي افترقت عليها هذه الأمة، فالأصول الكفرية منشؤها من عند الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية. يعني: أصول الفرق الضالة الاثنين والسبعين: الخوارج، والشيعة، والمرجئة، والقدرية، ويخرجون الجهمية خارج الثنتين والسبعين فرقة، لكن قلنا: الراجح أن هؤلاء ضمن الثنتين والسبعين، وغلاة الجهمية هم الكفار الخارجون عن الثنتين والسبعين، وهم الحلولية الذين يصرحون بنقيض القرآن، ويقولون: لم يستو الله على العرش. ولا شك أن هذا هو الراجح. أما المعتزلة الذين خلاصة قولهم ولازمه هو قول الجهمية لكنهم لا يلتزمون به، فلا يقولون: لم يستو الله على العرش، لكن يقولون: استوى بمعنى: استولى، فهناك فرق بين الاثنين. فيقول: إن الإمام أحمد يتوقف في تكفير هؤلاء. يقول: وهذا المأثور عن أحمد، وهو المأثور عن عامة أئمة السنة والحديث أنهم كانوا يقولون: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ثم حكى أبو نصر السجزي عنهم في هذا قولين: أحدهما: أنه كفر ينقل عن الملة وهو قول الأكثرين. والثاني: أنه كفر لا ينقل، ولذلك قال الخطابي: إن هذا قالوه على سبيل التغليظ. إلى أن قال: وسبب هذا التنازع تعارض الأدلة؛ فإنهم يرون أدلة توجب إلحاق أحكام الكفر بهم، ثم إنهم يرون من الأعيان - الأفراد- الذين قالوا تلك المقالات من قام به من الإيمان ما يمتنع معه أن يكون كافراً. كرجل يحافظ على الصلاة والصيام وتعظيم الشرع، بل ربما يأمر بقتل المخالف تعظيماً للشرع، وتجده يقرأ القرآن، فيقول: هذا يمنع أن يكون كافراً. يقول: فتعارض عندهم الدليلان وحقيقة الأمر أنهم أصابهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما أصاب الأولين في ألفاظ العموم في نصوص الشرع، كلما رأوهم قالوا: من قال كذا فهو كافر -يعني: كلما رأوا أن الأئمة يقولون: من قال كذا فهو كافر- اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل من قاله -يعني: لا يوجد فرق بين النوع والعين- ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع. وهي الثمانية التي ذكرناها. يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه -أمثال الذين قالوا: القرآن مخلوق، في عصرهم- وتفوهوا بما وصفه الأئمة بأنه كفر، ومع ذلك امتنعوا عن التكفير للعين. قال: وأيضاً فإن الكتاب والسنة قد دلا على أن الله لا يعذب أحداً إلا بعد إبلاغ الرسالة، فمن لم تبلغه جملة لم يعذب أصلاً، ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل لم يعذبه إلا على إنكار ما قامت به الحجة بذلك. هذا من أهم الكلام الذي لا بد من فهمه من حيث الجملة والتفصيل، فعندما يقول مبتدع ضال من فرق التكفير: لم لا تعذرون اليهود والنصارى بالجهل، وكذلك الذي يطوف بالقبور، أو يذبح لها، أو يتحاكم لغير الشرع جاهلاً أو متأولاً؟ فنقول له: لأن هذا بلغه الإجمال فكذب به، أي: اليهودي والنصراني، بخلاف هذا فقد بلغه الإجمال وصدق به، لكن لم يبلغه التفصيل. وقال أيضاً: وأهل السنة والجماعة متفقون على أن المعروفين بالخير كالصحابة وغيرهم من أهل الجمل وصفين من الجانبين لا يفسق أحد منهم فضلاً عن أن يكفر. قال: مع العلم بأن كثيراً من المبتدعة منافقون النفاق الأكبر، وأولئك كفار في الدرك الأسفل من النار، فما أكثر ما يوجد في الرافضة والجهمية ونحوهم زنادقة منافقون، بل أصل هذه البدع هو من المنافقين والزنادقة ممن يكون أصل زندقته عن الصابئين والمشركين -هؤلاء أصلاً الذين اخترعوا هذه البدعة تدثروا بالإسلام، ولأجل أن يخدعوا الناس ألفوا هذه البدعة- فهؤلاء كفار في الباطن، ومن علم حاله فهو كافر في الظاهر أيضاً. إلى أن قال: فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة بالرسالة التي يبين بها لهم أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر -لكن الشخص القائل لها يبين له أولاً- وهذا كلام في تكفير جميع المعينين مع أن بعض هذه البدع أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض، فليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقوم عليه الحجة وتبين له، ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة. انتهى مختصراً من الجزء الثاني عشر في الفتاوى (من 414 إلى 501). وينبغي أن يدخل في هذا النوع من الخلاف غير السائغ: الخلاف في حكم من يُلزم الناس بقول مخالف لشريعة الإسلام في التشريع العام، ويحتمه عليهم، فلا شك أن هذا من الكفر الأكبر. أما تكفير المعين فمبناه على استيفاء الشروط وانتفاء الموانع. كقاضٍ يحكم بغير ما أنزل الله، مع أنه يصلي ويصوم ويخاف الله، ولكنه متأول، أو أن بعض المشايخ قال له: دافع عن الإسلام في هذا المكان، ولعلك تقلل من الشر، وهل هو سيدافع فعلاً أم أنه سيقع في الكفر؟! هذا كلام خطير جداً، فهذا المفتي أجهل من القاضي؛ لأنه يفتيه بأن عمله هذا صحيح، وهذا بلا شك كلام عظيم النكارة، بل هو كلام كفر في الحقيقة.

التوسل الممنوع ومراتبه

التوسل الممنوع ومراتبه من هذا النوع التوسل البدعي بطلب الدعاء من الأموات والغائبين. نحن قلنا بأن دعاء غير الله، وطلب المدد من النوع الوسط، وهو كفر النوع، والمعين يحتاج إلى إقامة الحجة عليه. فمن يقول للشيخ: يا شيخ فلان! ادع الله لي، فهذا بدعة بالاتفاق، لكن من جهة أنه كفر فهو ليس بكفر؛ لأنه لم يصرف العبادة لغير الله، ونحن نقول: الشرك والكفر لا بد أن يكون فيه صرف للعبادة لغير الله، أو تكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم، من أجل هذا نقول: إن التوسل البدعي بطلب الدعاء من الأموات والغائبين كقوله: يا سيدي فلان! ادع الله لي. هذا شرك أصغر؛ لأنه ذريعة إلى الشرك الأكبر، ولا يكفر صاحبه باتفاق؛ لأنه لم يصرف العبادة لغير الله، وإنما خاطب الميت بما لا يشرع، فقد ذكر شيخ الإسلام في قاعدة جليلة: أن مراتب التوسل غير المشروع ثلاثة: الأولى: أن يدعو غير الله وهو ميت أو غائب، سواء كان من الأنبياء والصالحين أو غيرهم، فيقول: يا سيدي فلان! أغثني أو أنا أستجير بك، أو أستغيث بك، أو انصرني على عدوي، وأعظم من ذلك أن يقول: اغفر لي وتب علي، كما يفعله طائفة من الجهال المشركين، فهذا شرك بهم، وإن كان يقع كثير من الناس في بعضه، وهذا إذا كان جاهلاً لا يكفر حتى تقام عليه الحجة. الثانية: أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين: ادع الله لي، أو ادع لنا ربك، أو اسأل الله لنا، كما تقول النصارى لمريم وغيرها، فهذا لا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة. وقال: فعلم أنه لا يجوز أن يسأل الميت شيئاً، لا يطلب منه أن يدعو الله ولا غير ذلك، ولا يجوز أن يشتكى إليه شيء من مصائب الدنيا والدين، ولو جاز أن يشتكى إليه ذلك في حياته فإن ذلك في حياته لا يفضي إلى الشرك، وهذا يفضي إلى الشرك. وواضح جداً في أن هذا من الذارئع وليس من الشرك. الثالثة: أن يقول: أسألك بفلان أو بجاه فلان عندك ونحو ذلك، فهذا الذي تقدم عن أبي حنيفة وعن أبي يوسف وغيرهما أنه منهي عنه، وتقدم أيضاً أن هذا ليس بمشهور عن الصحابة، بل عدلوا عنه إلى التوسل بدعاء العباس وغيره. وهذا النوع الأخير فيه خلاف، والراجح فيه أنه بدعة، ولكن هذه من مسائل النوع الثاني من أنواع الاختلاف، وهو الذي يعد من الخلاف السائغ، مع ترجيحنا لبدعيته. ونقلنا قبل هذا كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في هذا الباب، وأن هذا الخلاف منقول عن الإمام أحمد في المناسك، رواه المروزي عنه، وكذلك العز بن عبد السلام والشوكاني ومحمد بن عبد الوهاب رحمه الله يقول: إننا نرى أن هذا بدعة، لكننا لا نبدع ولا ننكر على فاعله بالتغليظ، كما في الجزء الرابع صفحة ستة وثمانين من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فهو يصرح بأن هذه مسألة خلافية. مثال ذلك إذا سمعنا أحدهم يقول: اللهم ارحمني بحق جاه النبي، فهذا عندنا بدعة، لكننا لا نغلظ فيها الإنكار؛ لأنها من الخلاف السائغ؛ ولأنها مسألة فيها اجتهاد، ونقلت خطأً عن عثمان بن حنيف، والنقل فيها ضعيف السند، ورواية الدارقطني التي فيها زيادة عن عثمان بن حنيف: أنه قال لرجل عنده حاجة عند عثمان بن عفان: (ائت ميضأة ثم توضأ وصل ركعتين، وقل: يا محمد نبي الرحمة إني أتوجه بك إلى ربك)، وهذا الحديث الراجح أنه ضعيف؛ لأن هذه الزيادة شاذة بل منكرة، لكن هناك من صحح هذه الزيادة، فبضعهم قالوا: إنه ثبت عن الصحابة هذا النوع من التوسل، ونحن نرجح عدم ثبوته عنهم؛ لأنه توسل بدعي، ولكن هذه المسألة هي خلاف في الفروع. نقول: ما يبدع فيه المخالف مع الاتفاق على عدم تكفيره هو النوع الثالث، ونحن لدينا نوع توسل واحد مما يكفر فيه المخالف تكفير نوع لا عين حتى تقام عليه الحجة، وهو من يقول: ارحمني، أغثني، المدد يا سيدي فلان. ونوع متفق على بدعيته ولكن لا يكفر صاحبه وهو قوله: ادع الله لي يا سيدي فلان ادع لنا ربك اسأل لنا ربك. وهذا شرك أصغر وهو ذريعة إلى الشرك الأكبر. ونوع مختلف فيه والراجح منعه، وهو من ضمن الخلاف السائغ، ولا نقول عن فاعله: رجل مبتدع، بل نقول: أخطأ في هذه المسألة. فالنوع الأول هو من يقول: يا سيدي فلان أغثني، فهذا شرك أكبر، لكن يحتاج إلى إقامة الحجة؛ لأن هؤلاء الناس جهلة، ولم تبلغهم الحجة التفصيلية، وشيخ الإسلام يقول: لا يمكن تكفيرهم حتى تقام عليهم الحجة التي يكفر المخالف لها. فالذي يقول: إني أسألك مرافقتك في الجنة. لا يسأله لأن الرسول سوف يعطيها له، لكنه يقصد: دلني على عمل أكون به من مرافقيك في الجنة، وهذا هو معنى الكلام، فهو يقول: قصدي من قولي: اغفر لي، يعني: ادع الله أن يغفر لي، فنقول له: إن قولك (اغفر لي) التلفظ بها شرك وكفر، ونقيم عليه الحجة بأن المغفرة لا تكون إلا من الله {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135]. والنوع الثالث هو ما يبدع فيه المخالف مع الاتفاق على عدم تكفيره، وقد مضى من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية أن قول أحمد لا يختلف على عدم تكفير الشيعة المفضلة وهم الزيدية الذين يقرون بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان ويفضلون عليهم علياً رضي الله عنهم أجمعين. وكذا المرجئة فإن الإمام أحمد لا يكفرهم -انظر (12/ 885 - 886) من الفتاوى- بل هم من ضمن فرق الأمة رغم أنهم مبتدعة في المسائل الاعتقادية، ومثل هؤلاء الأشاعرة والماتريدية الذين يؤولون بعض الصفات دون بعض. وهؤلاء لا نعلم أحداً من أهل العلم يقول بتكفيرهم، ومن هذا النوع: إنكار أصل أن الله لا يعذب أحداً قبل بلوغه الحجة، وبالذات في العقيدة باتفاق، ونحن لن نكفر المخالف الذي يقول: يمكن أن يعذب الله البعض قبل بلوغ الحجة؛ لأنهم لا يعذرون بالجهل، وعندنا أن العذر بالجهل يثبت في حق من لم يبلغه شيء، ولم تصله الحجة، ومن زعم أنه معذب فقوله بدعة اعتقادية باتفاق، ولكن لا نكفر هذا المبتدع، وقد نقل عليه الإجماع ابن تيمية وابن حزم.

أمثلة الخلاف غير السائغ في المسائل العملية

أمثلة الخلاف غير السائغ في المسائل العملية من هذا النوع من الخلاف القولي: جواز ربا الفضل، وأن المحرم هو ربا النسيئة فقط، هذا يروى عن ابن عباس ويروى رجوعه عنه، وقد استفاضت الأحاديث بتحريمه، وهو ذهب بذهب مع التفاضل، أو قبض بقبض مع التفاضل. ومنه: القول بجواز شرب النبيذ المسكر الكثير من غير عصير العنب، وهو قول أهل العراق، وهو خلاف نص الحديث الصحيح: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام). ومنه: القول بجواز نكاح المتعة، وهو قول ابن عباس، ويروى أيضاً رجوعه عنه. يلاحظ: أننا قلنا بأنه خلاف غير سائغ، ونقول بأن هذا قول ابن عباس، وثابت عنه، لكن لأن السنة مستفيضة في النهي واتفق على خطأ ابن عباس رضي الله عنه الله عنه في ذلك، ويروى عنه رجوعه، وممكن أن يكون هذا أيضاً منقول عن بعض الصحابة، لكن اشتهر جداً الدليل المخالف له، فيهجر بالاتفاق. وقد ثبت النهي عن نكاح المتعة في الصحيحين، ونسخ جوازه عام الفتح، وأجمع عليه أهل السنة، ولم يخالف فيه إلا الشيعة الروافض. ومنه: القول بصحة النكاح دون ولي. الحقيقة أن هذه المسألة عند أكثر العلماء ضمن الخلاف السائغ، فعند الشافعية والحنابلة أن النكاح بدون ولي عندهم من الخلاف السائغ، وأنا لصحة النص بوضوح شديد أرجح قول بعض الشافعية والحنابلة مع أنهم قلة جداً، وهو في المذهب يعد شذوذاً، لكن من جهة الدليل أنا صراحة أقول: إن هذا القول غير سائغ، وأعتبر أن المخالف فيه مخالف خلافاً غير سائغ، وينبني على هذا: أن من يقول: هذا خلاف سائغ. يقول: حتى ولو كان عالماً بأن نكاحه باطل لا يقام عليه الحد، ومن يقول: إن الخلاف غير سائغ يقول: إذا كان متأولاً فلن نقيم عليه حد الزنا، وإذا كان غير متأول ووصلته الأدلة، وعالم بأن نكاحه باطل يقام عليه حد الزنا، والقول بصحة النكاح بدون ولي هو قول الحنفية، وهو مصادم لنص الحديث الصحيح: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل. قال ذلك ثلاث). ونص ابن قدامة في المغني على أنه: لو حكم حاكم بصحة النكاح بدون ولي يثبت حكمه ولا ينقض ذلك النكاح، لكن الصحيح: أنه ينقض حكمه؛ لأن هذا مخالف للنص، ولا يوجد احتمال لتفسير (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها)، ثم هم أيضاً لا يقولون ذلك في البكر، بل في المرأة الرشيدة، فهو مذهب مصادم لنص، والمحتمل أن يكون هذا من الخلاف السائغ في الثيب، فيقول: هذا عام وقابل للتخصيص لكنه يقول: أي امرأة رشيدة بلغت تزوج نفسها. هذا القول مصادم للنص مائة في المائة. ومنه: القول بجواز المعازف وسماعها، وهو قول ابن حزم، وهو مصادم لنص الحديث الصحيح: (ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف). أقول أيضاً: إن بعض الفقهاء قالوا بأن هذا من الخلاف السائغ. وهذا مشهور جداً عند أناس مثل الدكتور يوسف القرضاوي وغيره، لكن الحقيقة أن هذا القول خلاف غير سائغ، والإمام أحمد والغزالي وغيرهما يجوزون للمحتسب كسر آلات المعازف، وهذا دليل على أنه ليس بخلاف سائغ أبداً عندهم؛ لأن المحتسب عندهم ليس له أن يحمل الناس على مذهبه في مسائل الخلاف. ومنه: القول بجواز تصوير ذوات الأرواح إذا لم يكن للصورة ظل -يعني: غير مجسمة- أي: جواز رسم اليد، وهو قول بعض السلف، وابن حجر يراه من الخلاف السائغ، ويعترض على النووي في قوله: وهذا مذهب باطل؛ لأن القرام الذي سترت به عائشة السهوة كان بلا شك بلا ظل، فـ ابن حجر يعترض على النووي ويقول في الشرح: وأما قوله: مذهب باطل. فهذا فيه نظر؛ فإن حديث: (إلا رقماً في ثوب) قد يدل على الجواز، يعني: ابن حجر يرجح عدم جواز تصوير ذوات الأرواح، لكنه يرى وجود خلاف سائغ، وعليه فلا ينبغي أن يقال عنه: باطل؛ لأن الشافعية عندهم تدقيق قوي في هذه المسائل، فعندما يقول: هو الراجح أو هو الصحيح غير كلمة الأصح، فالأخيرة تدل على قرب الكلمتين في الصحة، ولا يقولون في خلاف الأصح: إنه ضعيف أو مرجوح. وعندما يقولون: الصحيح. فهو ضد الخطأ أو الضعيف في القول، لكن عنده هذا خلاف سائغ، وعندما يقول: هذا صواب، فهو ضد الباطل، فهم مدققون جداً في هذا، فقولهم: هذا باطل أي: غير سائغ، وقول النووي: الصحيح بل الصواب إضراب عن كلمة الصحيح، أي: أن الخلاف هنا غير سائغ ويظهر الفرق فيما لو دخل شخص إلى بيت آخر ورأى الصور فنزعها فقد أتى بعمل مشروع. والصواب: أنه خلاف غير سائغ، والراجح هو قول الإمام النووي، وحديث عائشة نص في ذلك؛ لأنه لا يحتمل التخصيص بما ليس له ضد، بخلاف حديث زيد بن خالد فإنه يحتمل التخصيص بغير ذوات الأرواح: (إلا رقماً في ثوب)، فهو عام يشمل كل ما في الثياب، ويمكن أن يخصص بالجواز بما ليس فيه روح، وعمومه يفيد الحرمة في غير ذوات الأرواح، أما حديث عائشة (يا عائشة! إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون)، فلا نخصصه بالمجسم وغير المجسم بدليل حديث زيد بن خالد -هذا كلام ابن حجر - لأن حديث عائشة: (إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون) ورد على المرسوم باليد، وهو ما ليس فيه ظل، أو ليس بمجسم وهذا يجعله قطعي الدخول فيه، وبالتالي فهو لا يتخرج منه؛ لأن ورود العام على سبب يجعل ذلك السبب قطعي الدخول فيه، ولا يمكن تخصيص هذا الجزء منه، وبالتالي أصبح عندنا نص في موطن النزاع، وبالتالي المخالف للنص لا يحتمل أن يكون خلافاً سائغاً. وهذا مثل حديث النمرقة، وهي قطعاً غير مجسمة. ومنه: القول بتحريم الذهب المحلق على النساء، وهو قول الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله، فمن يقول بأن الذهب المحلق بأي حلقة حرام على النساء مخالف للإجماع، وأنا أعتقد وأجزم أن الأمة الإسلامية ما عرفت هذا القول طيلة أربعة عشر قرناً، حتى أتى صديق حسن خان بهذا الكلام، ثم أخذه عنه الشيخ الألباني، وهذه لا تصلح أن تكون علة إلا للتفرقة بين الأشياء، وهذا عدم التفات إلى مقاصد الشرع في التحريم، فحديث: (من أراد أن يحلق حبيبه حلقة من نار فليحلق حلقة من ذهب)، يمكن أن يعلق عليه أكثر من وصف، فقوله: (من أراد أن يحلق حبيبه) لعله يراد به الرحل، فالحديث يحمل عليه وهل هو حرام على الذي يحبه وحلال لمن لا يحبه؟ وهذا لا يصح؛ لأن الشرع لا يلتفت إلى مثل هذه التفريقات، وأن من تحبه له حكم، ومن تكرهه له حكم آخر، و (من أراد) لفظ مذكر، والصواب أن الشرع لا يلتفت إلى مثل التفرقة بين أراد وأرادت. ومثل هذا أخذ مفهوم المخالفة من كلمة حلقة، فيفهم من كلمة (حلقة من ذهب) أن ما ليس بحلقة جائز، والحلقة هي المحرمة، وهذا التفات إلى ما لا يلتفت إليه الشرع نهائياً. ومثله من يأتي إلى حديث الأعرابي ويقول: تحريم بول الأعراب في المسجد، وهذا فهم باطل باتفاق؛ لأن الأعراب مثل الهنود ومثل الحبشة وبول كل الناس داخل في هذا فهذا التفات إلى ما لا يلتفت إليه الشرع، وتعليل الحكم بوصف فردي غير مقصود شرعاً ولم يعهد التفات الشرع إليه، فبالتالي كان هذا استحداث قول بدعة بالتأكيد، مع أن المسألة عملية، لكن لا يوجد أحد قال بالتفرقة بين المحلق وغيره عبر القرون، والنقل المتفق عليه هو انتهاء الخلاف في أن الذهب حرام على النساء كله، وهذا هو المنقول عن أبي هريرة بإسناد صحيح، لكن ليس التحريم صراحة، إنما أبو هريرة يبرر فعله في عدم تحليته بالذهب: أخاف عليها من النار، هو حمله على المحلق أيضاً، وهذا كلام غلط قطعاً؛ لأن العلة المرعية شرعاً: أنها عندما تظهر الزينة سيخاف عليها من النار، أو لا تؤدي زكاته، فلا يحليها بالذهب حتى لا يبلغ النصاب وهي لا تدري فتعذب لعدم إخراج زكاته، وأصح الأقوال حملها على هذا الأصل، وهو أن الذهب محرم على النساء إذا لم تكن تؤدي زكاته؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيسركما أن يسوركما الله بسوارين من نار؟ قالتا: لا، قال: أديا زكاته)، فهو لم يأمرهما بنزعه، ولكن أمر بأداء زكاته، ولم يتعرض لكونهما حلقة أم لا، فهذا نص في إباحة الذهب المحلق فضلاً عن الإجماع الصحيح الذي يطعن الشيخ فيه. فعندما ينقل الإجماع أحد الأئمة المعروفين بمعرفة أقوال العلماء عبر العصور مثل المروزي أو إسحاق أو ابن المنذر فكلهم مشهور بمعرفة أقوال المتقدمين من الصحابة إلى زمانهم، أو حتى من المتأخرين مثل أبي عمر بن عبد البر، أو شيخ الإسلام ابن تيمية، ويؤكدون اتفاق أكثر من عالم على النقل ويقولون: هذا إجماع إجماع إجماع، فلا يصح أن ينفي أحد هذا. مثلاً: نجاسة الدم، نقل الإجماع فيه ابن حزم والنووي، وابن القيم، وابن رشد إلا الحيوان البحري، فهؤلاء كلهم ينقلون الإجماع على ذلك، فعلى من ينكر ذلك أن يأتي بالمخالف الذي قال بطهارة الدم. ففي مسألة الذهب الأغلب أنه يكون محلقاً، والذهب المقطع قليل جداً، فلما ينقل الاتفاق على جوازه، وجواز خاتم الذهب للنساء ونحو ذلك، تقول: من ادعى الإجماع فقد كذب، إذاً: لا بد أن تأتي بمن نقض الإجماع، ولولا أن هذا غير معلوم من الدين بالضرورة لوضعنا المسألة في باب أغلظ من ذلك، لكن هذا غير معلوم من الدين بالضرورة في هذا المقام. فالشيخ لم يأت بقائل يقول بحرمة الذهب المحلق، إنما أتى بأقوال متقدمين قالوا: الذهب محرم على النساء؛ لأنها لا تؤدي زكاته بعد بلوغه النصاب أو لأنها تظهره للرجال، فهو لم ينقل تصريح أحد من المتقدمين على التفريق بين المحلق وغير المحلق، ولكن أوهم القارئ أن هـ

أدب الخلاف [9]

أدب الخلاف [9] إن الأقوال البدعية قد تصدر عن بعض أهل البدع ممن أفنى عمره فيها وانتدب نفسه للدفاع عنها، ومثل هذا يبدع ويغلظ عليه ويحذر منه، كما أن من أهل العلم والصلاح والتقى من يصدر عنه أقوال بدعية، وقد صدر مثل هذا عن أئمة أعلام، فمثل هذا يبين الخطأ في قوله، والتحذير من بدعته مع الثناء عليه، وذكره بالحسن الجميل، ومعرفة قدره، وغمر خطئه في بحار حسناته.

الموقف من العلماء الذين قالوا ببعض البدع

الموقف من العلماء الذين قالوا ببعض البدع فنتناول هنا مسألة الموقف من العلماء الذين قالوا ببعض البدع، أو بالأقوال الباطلة التي عددناها ضمن الخلاف غير السائغ نقول: لا شك أن أهل العلم وطلابه عند مطالعتهم لكثير من كتب بعض العلماء المتقدمين وفتاويهم يصطدمون بأقوال من التي سبق عدها في الخلاف غير السائغ، سواء كان ذلك في مسألة الاعتقاد، كمسألة التأويل في الأسماء والصفات، فإنه يقول بها خلائق من أهل العلم المنتسبين للأئمة الأربعة من المذاهب الفقهية، وللأشعري في كثير من المسائل الاعتقادية كالإمام النووي وابن حجر رحمهما الله، وكمسألة فناء النار ومخلوقات لا أول لها التي تنسب إلى ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، وانتصر له ابن القيم في مصنفات عدة. فانتصر لها في حادي الأرواح، وشفاء العليل وغير ذلك، ونسبة القول بفناء النار محتمل النسبة إلى شيخ الإسلام لأن ابن القيم في شفاء العليل قال: إنه سئل عنها، فقال: هذه مسألة عظيمة وفيها نزاع، لكن مخلوقات لا أول لها ظاهر كلام ابن تيمية بأنه يقول بها، ومعنى: مخلوقات لا أول لها أي: ما من مخلوق إلا وقبله مخلوق بلا بداية في الأزل، مثلما نقول: مخلوقات لا آخر لها، مثل النار والجنة وأهلهما مخلوقات لا آخر لها، وما من نعيم إلا وبعده نعيم لأهل الجنة، وما من عذاب إلا وبعده عذاب لأهل النار بلا نهاية، فقال هو: وفي البداية وجد هذا، وخلاصة ذلك: أن جنس المخلوقات قديم وأنواعه حادثة، وهذا كلام باطل، نعم هناك حوادث لا أول لها، والصحيح فيها: أن أفعال الرب عز وجل تسمى حادثة وهي لا أول لها، فلم يزل الرب فعالاً لما يريد، فحمل كلام حوادث لا أول لها على المخلوقات يظهر من كلام شيخ الإسلام. نقول: وفي المسائل الفقهية كالقول بجواز ربا الفضل، ونكاح المتعة، كلاهما ثابت عن ابن عباس، وعددنا ذلك من الخلاف غير السائغ، رغم وجود خلاف الصحابة رضي الله عنهم فيه؛ لأن المسألة ثبت فيها حد الخلاف غير السائغ وهو وجود النص وليس الدليل فقط، وقلنا في هذا الحد: هو ما يخالف نصاً من كتاب أو سنة أو إجماعاً أو قياساً جلياً، فهناك نص جلي في منتهى البيان بأن ربا الفضل يجري في أصناف ستة. ويروى رجوع ابن عباس عنهما، وغير ذلك مما سبق، فكيف يعامل هؤلاء العلماء وإن قالوا بما ندين الله به أنه بدعة ضلالة أو خطأ وباطل قطعاً؟ و A أن أهل السنة لا يتفقون على عدم ذم من اجتهد فأخطأ كائناً من كان خطؤه ممن هو معروف بالخير والصلاح كالصحابة رضي الله عنهم، والأئمة الأعلام كالأربعة، وأئمة أهل الحديث، ومن سار على نهجهم، ولهم في الأمة الذكر الجميل والثناء الحسن. ولا يستوي عندهم من قضى عمره في العلم النافع والعمل الصالح، والدعوة إلى الحق، ونصرة السنة وأهلها، وبذل النفوس والأوقات والأموال في سبيل الله، وتحمل المشاق في سبيل الله، لا يستوي هؤلاء ومن قضى عمره في الصد عن سبيل الله، ومحاربة السنة ونشر البدعة والاجتهاد لنصرة الباطل. مثلاً: هل نقول الجهم بن صفوان اجتهد فأخطأ؟ لا؛ لأنه عاش عمره مناصراً للبدعة وصاداً عن السنة، وكذا الجعد بن درهم وبشر المريسي، بخلاف من وقع في شيء من الأخطاء، فالإمام النووي يقول بالتأويل، لكن هل الإمام النووي عاش عمره ينصر قضية التأويل، وهي القضية الأساسية، وكان يبتدع في الدين، أم أنه عاش عمره مناصراً للسنة، خادماً لها مؤيداً، ساع في نصر الدين والدعوة إلى الحق؟ لا شك أن الثاني هو الصحيح. أقول: لا يستوي هؤلاء العلماء ومن قضى عمره في الصد عن سبيل الله، ومحاربة السنة، ونشر البدعة، والاجتهاد في نصرة الباطل، والتعصب الممقوت عليه كـ الجهم بن صفوان والجعد بن درهم وبشر المريسي وغيلان القدري، فهؤلاء عرفوا بالبدعة وكونهم من رءوسها ودعاتها، ولم يكن لهم في العلم حظ ونصيب، بل ما حصلوا منه ما يؤهلهم لكونهم طلاباً؛ لذا كان وقوعهم في البدعة من جراء تقصيرهم، ولما ناظرهم العلماء وبينوا لهم الحق كان الإعراض من شأنهم؛ بسبب ترؤسهم بغير استحقاق، وتصدرهم بغير تأهيل. -فهم تصدروا بالفعل وصاروا رءوساً وصار لهم أتباع مثل: الخوارج- فكيف يستوون -أي: هؤلاء المبتدعون- مع من كانت جل أقوالهم وأعمالهم مطابقة للحق؟ فنقول في حق هؤلاء العلماء: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، ولا يعني ذلك أن تصحح الأقوال الباطلة، أو نسكت عن البدع المخالفة للحق. فمثلاً ابن القيم يقول في حق شيخه -وهو غير مباشر ولكنه شيخ له على مدى الزمن البعيد، ونقصد أنه متتلمذ على كتبه-: شيخ الإسلام حبيب إلى نفوسنا، ولكن الحق أحب إلينا منه، والبعض يظن أن قصده بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، والصواب أنه يقصد شيخ الإسلام الهروي، مع أن تسمية الهروي بشيخ الإسلام فيه نظر، والأقوال المنسوبة إليه من البدع فظيعة جداً، بل بعض الأقوال أقوال كفرية، فتسميته بشيخ الإسلام محل نظر، لكن هذا قول ابن القيم، وهو يحسن به الظن جداً. نقول: فلا بد من النظرة المتوازنة التي ترى الحسنات والسيئات معاً، وتزن كل الأقوال بميزان الشريعة، وتزن أصحابها بما عندهم من الخير والشر معاً. وقد سبق قول شيخ الإسلام ابن تيمية: وأهل السنة متفقون على أن المعروفين بالخير كالصحابة المعروفين وغيرهم من أهل الجمل وصفين من الجانبين لا يفسق أحد منهم فضلاً عن أن يكفر. مع أننا نجزم أن هناك فئة باغية، ومع ذلك لا يفسق ولا يبدع؛ لأنهم معروفون بالخير. وقال أيضاً رحمه الله: وأيضاً فإن السلف أخطأ كثير منهم في كثير من هذه المسائل، واتفقوا على عدم التكفير بذلك، مثلما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع بكاء الحي. وفي قول النبي عليه الصلاة والسلام لما خاطب أهل قليب بدر: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)، وليس معنى ندائه أنه يطلب منهم قضاء الحاجة. يقول: وأنكر بعضهم أن يكون المعراج يقظة، وأنكر بعضهم رؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه. والراجح في مسألة المعراج بيناه، وهل كان يقظة أو مناماً، أو أنه بالقلب، أم أنه بالبدن والروح معاً، وأما رؤية النبي لربه فهي مسألة خلافية من الخلاف السائغ أصلاً، والراجح أنه رآه بقلبه ولم يره بعينه. يقول: ولبعضهم في قتال بعض، ولعن بعض، وإطلاق تكفير بعض أقوال معروفة، وكان القاضي شريحاً ينكر قراءة من قرأ: (بل عجبتُ ويسخرون) ونحن نقرأ {بَلْ عَجِبْتَ} [الصافات:12]، لكن قراءة الجمهور قراءة ثابتة وسبعية، فقال: إن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي، فقال: إن شريح شاعر يعجبه كلامه، كان عبد الله بن مسعود أفقه منه وكان يقول: (بل عجبتُ)، فهذا قد أنكر قراءة ثابتة، وأنكر صفة دل عليها الكتاب والسنة، واتفقت الأمة على أنه إمام من الأئمة. وشريح القاضي كان في زمن علي رضي الله عنه. وكذلك أنكر بعض السلف حروفاً من القرآن -يعني: بعض حروف القرآن- مثل إنكار بعضهم قوله: {أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الرعد:31]، وقال إنما هي: أولم يتيقن الذين آمنوا. وإنكار الآخر قراءة قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، وقال إنما هي: ووصى ربك. فهي لم تبلغه سماعاً، ووجدها في المصحف: (وقضى) فقال بل هي: ووصى، وتجده ربما يقول: خطأ من الناسخ، واحتمل عنده ذلك بسبب أن القرآن لم يتواتر، ونحن الآن نجزم بخطأ من قال: إنها خطأ من الناسخ، بل لو جاء أحد اليوم وقال: هذا خطأ من الناسخ يكفر؛ لأن هذا الأمر مجمع عليه وأن تقرأ: {وَقَضَى رَبُّكَ} [الإسراء:23]، بل قراءة ووصى ربك فيها شذوذ؛ لأنها مخالفة لرسم المصحف. يقول: وبعضهم -يقصد عبد الله بن مسعود - كان يحذف المعوذتين، وآخر يكتب سورة القنوت -يقصد دعاء: (اهدني في من هديت) وهذا خطأ معلوم بالإجماع والنقل المتواتر. من ينكر المعوذتين من القرآن الآن كافر، وعبد الله بن مسعود ثابت عنه أنه أنكرهما وقال: إنهما ليستا من القرآن، وربما يقال: كان يقصد الذي يكتب في المصاحف وإنما يتعوذ بهما، لكن هذا خطأ بالإجماع، وكذا لو زاد أحد سورة القنوت؛ لأن هذا معلوم من الدين بالضرورة، ونحن قد نكفر المتأخرين في مسائل عذرنا فيها المتقدمين؛ لأنهم لم تبلغهم الحجة. يقول: ومع هذا فلما لم يكن قد تواتر النقل عندهم بذلك لم يكفروا، وإن كان يكفر بذلك من قامت عليه الحجة بالنقل المتواتر، فها هو شريح ينكر صفة من صفات الله، ويجمع أهل العلم على إمامته فلا يبدع ولا يفسق ولا يكفر، وإنكار كتابة المعوذتين في المصحف ثابتة عن ابن مسعود رضي الله عنه، ولا خلاف في عدالة الصحابة أجمعين، ولا يجرؤ على اتهام مثل ابن مسعود وابن عباس بشيء إلا ضال مجرم، رغم الجزم والقطع بخطأ القول المنسوب إليهم، بل قد يصل الأمر إلى ما هو أشد من ذلك فيمن ينكره اليوم؛ فإن من ينكر اليوم: {أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الرعد:31] أو {وَقَضَى رَبُّكَ} [الإسراء:23] فإنه يكفر لتواتر النقل بها في هذه الأعصار، وصارت معلومة من الدين بالضرورة. هذه أمثلة صارخة جداً تعتبر كفراً الآن، وهم قالوها ولم يكفروا، إذاً: الأولى أن نقول: إن هذا الإمام قال بهذه البدعة ولكنه ليس بمبتدع. يقول: ومن هنا فإن موقفنا من العلماء أمثال النووي وابن حجر وغيرهما ممن قال بالتأويل هو موقفنا

الإنكار في مسائل الخلاف غير السائغ

الإنكار في مسائل الخلاف غير السائغ ومسألة الإنكار في مسائل الخلاف غير السائغ هي مسألة مهمة جداً؛ لأن كثيراً من العلماء ممن تكلم في شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد أطلق أن من شروط إنكار المنكر أن يكون المنكر غير مختلف فيه، وربما قال بعضهم: ألا يكون منكراً في مذهب فاعله -هذا كلام الغزالي، يقول: لو كان مذهبه أن هذا ليس منكراً فلا ينكر عليه- وهذا الإطلاق رغم وجوده في كلام هؤلاء العلماء أنفسهم وغيرهم إلا أن في تطبيقاتهم وأمثلتهم ما يقيده. فـ الغزالي مثلاً يعد في إنكار المنكر تكسير آلات اللهو وهو يعرف أن فيها خلافاً، إذاً لم يقول: ألا يكون منكراً في مذهب فاعله، أو يكون غير مختلف فيه؟ وما قصده بهذا وهو يجوز تكسير آلات اللهو؟ هذا دليل على أن الخلاف عنده هو ما يخالف النص من الكتاب والسنة أو الإجماع أو القياس الجلي يرد فيه، وكذلك هو كلام الإمام النووي حيث يقول: ومن شرط المنكر أن يكون غير مختلف فيه، ثم يقول بعد ذلك: إلا أن يخالف نصاً من الكتاب والسنة أو الإجماع أو القياس الجلي. فبعض الجماعات والاتجاهات جعلت هذا الكلام على إطلاقه حجة في إنكار مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أي أمر خلافي دون اعتبار لنوع الخلاف، ولهذا كان بيان هذه المسألة، وهو مشروعية الإنكار في مسائل الخلاف غير السائغ بالأدلة وكلام أهل العلم من الأمور المهمة للدعوة والدعاة خاصة في هذه الأزمان التي تكلم فيها الزنديق بلسان الصديق، وصارت كل الأمور حتى البديهية والمجمع عليها محل خلاف عند طائفة من المنتسبين إلى الملة بل إلى العلم والعلماء أحياناً كثيرةً -فالربا خلاف سائغ، وبيع الخمر خلاف سائغ، والتوسل خلاف سائغ، ثم يصبح كل خلاف سائغاً لا أحد ينكر فيه، ويترتب على ذلك تضييع الدين -فنبدأ أولاً بذكر الأدلة وبيان طريقة الصحابة رضي الله عنهم، ثم نوضح كلام العلماء الذين احتج البعض بأقوالهم.

أدلة الكتاب والسنة في مشروعية الإنكار في الخلاف غير السائغ

أدلة الكتاب والسنة في مشروعية الإنكار في الخلاف غير السائغ أول دليل على مشروعية الإنكار هو عموم الأدلة القرآنية والنبوية، كقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره). المعروف: هو ما عرف في الشرع حكمه، والمنكر: هو ما استنكره الشرع واستقبحه، فإذا ثبت قطعاً بالنص أو الإجماع أن أمراً ما هو من الأمور المنكرة ومن المنكرات فهو داخل في هذا العموم ولا يضر مخالفة من خالف، يعني: لماذا يخرجه من المنكر وقد ثبت أن الرسول عده من المنكرات، والقرآن عده من المنكرات؟ إذاً: فهذا من المنكرات ولابد أن ينكر، حتى ولو خالف فيه فلان من الناس. إنما قلنا بترك الإنكار في مسائل الخلاف السائغ الذي لا يخالف نصاً ولا إجماعاً لاتفاق الصحابة على عدم الإنكار فيها، كما نقل شيخ الإسلام الاتفاق على أنهم لا ينكر بعضهم على بعض في بعض مسائل الخلاف السائغ؛ لأنه لم يلزم أن يكون منكراً بالقطع واليقين في الشرع، إنما يغلب على ظنه أن هذا منكر، وسيغلب على ظن الآخر أنه معروف، وبالتالي اتفق الصحابة على إخراج الخلاف السائغ، وقد مدح الله داود وسليمان وأثنى على سليمان بالفهم، وقال: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79]، مع أن حكم داود كان خطأ وحكم سليمان هو الصواب. فنقول كما قال ابن تيمية رحمه الله: اتفق الصحابة على عدم الإنكار فيها إلا على درجة التعريف، فهم متفقون على أنهم يعرفون أو يناظرون ويبينون، كما قال ابن تيمية رحمه الله: قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن من الخطأ في الدين ما لا يكفر مخالفه، بل ولا يفسق، بل ولا يأثم، فيبقى ما دل عليه النص أو الإجماع على الأصل وهو وجوب الإنكار. إذاً: أي منكر في الشرع لا يخرج من استحقاق الإنكار إلا ما أجمع عليه من الأمور التي هي محل خلاف سائغ، وجميع أدلة ذم البدع وإنكارها تدل بمجموعها على الإنكار في الخلاف غير السائغ. قال البخاري رحمه الله في صحيحه: باب إذا اجتهد العالم أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول صلى الله عليه وسلم من غير علم فحكمه مردود، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). وذكر حديث أبي سعيد وأبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أخا بني عدي الأنصاري واستعمله على خيبر، فقدم بتمر جنيب -جيد- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله! إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع)، والجمع هو: تمر رديء، قال: فأنا أشتري الصاع من هذا بصاعين من التمر الأقل جودة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تفعلوا، ولكن مثلاً بمثل، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا، وكذلك الميزان). وفي رواية في الصحيح قال: (أوه عين الربا لا تفعل)، وفي رواية قال: (ردوه)، فأمر برد البيع رغم أن الصحابي عمل في ذلك باجتهاده، وقد كان يريد أن يأتي للرسول صلى الله عليه وسلم بأحسن شيء. وقال أيضاً الإمام البخاري في كتاب الأحكام: باب إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد، وذكر فيه قصة قتل خالد للأسرى لما قالوا: صبأنا فأمر خالد بقتلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد)، مرتين، وكلمة أبرأ إليك مما صنع خالد صريحة في الإنكار على من خالف السنة ولو كان متأولاً مجتهداً كـ خالد لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أظهر الإنكار، بخلاف فعله في كثير من أفعال الصحابة مثل مسألة بني قريظة، بل الراجح في هذا -كما قلنا- أنه خلاف تنوع وأن كلاهما مصيب.

آثار الصحابة في مشروعية الإنكار في الخلاف غير السائغ

آثار الصحابة في مشروعية الإنكار في الخلاف غير السائغ روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل)، فقال ابن لـ عبد الله بن عمر: لا ندعهن يخرجن فيتخذنه دغلاً، قال: فزجره ابن عمر وقال: أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: لا ندعهن، وفي رواية فضربه في صدره، قال النووي: فيه تعزير المعترض على السنة المعارض لها برأيه مع أن له وجهة، وعائشة رضي الله عنها قالت: (لو علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن)، ومع ذلك ضرب ابن عمر ابنه لأنه عارض السنة برأيه لكي يعاقبه في رده لهذا الخبر. وفي رواية أبي عمر بن عبد البر في جامع العلم وفضله: قال بلال بن عبد الله بن عمر: أما أنا فسأمنع أهلي، فمن شاء فليسرح أهله -كلمة يسرح كلمة سيئة، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أذن- فالتفت إليه وقال: لعنك الله، لعنك الله، لعنك الله - ابن عمر رضي الله عنه يلعن ابنه- تسمعني أقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ألا يمنعن، فقام مغضباً. وروى أبو عمر أيضاً بسنده عن ابن عباس قال: (تمتع النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: عروة بن الزبير نهى أبو بكر وعمر عن المتعة، فقال ابن عباس: أراهم سيهلكون، أقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون: نهى أبو بكر وعمر، وفي رواية له قال: والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله، أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثوني عن أبي بكر وعمر)، مع أن ابن عباس يعرف قدر أبي بكر وعمر أعظم معرفة. قال أبو عمر يعني: متعة الحج، وهو فسخ الحج إلى العمرة. إذاً: الذي يعارض السنة بآراء الرجال فهذا خلاف غير سائغ، فعندهم إنكار على من يخالف السنة، مع أن عروة هو أحد الفقهاء السبعة، وأبو بكر وعمر هما أعلم من ابن عباس بكثير، لكن الذي يخالف السنة ينكر عليه، وهذا أصل عظيم في قضية الإنكار في مسائل الخلاف، وكان يقول: سيأتيكم عذاب ستنزل عليكم حجارة من السماء ستهلكون، وهذا إنكار غليظ. وروى أيضاً أبو عمر عن صفوان بن محرز: أنه سأل عبد الله بن عمر عن الصلاة في السفر، فقال: ركعتان، من خالف السنة كفر. مع أن المسألة قال بها عائشة وعثمان رضي الله عنهما، والمقصود هنا كفر النعمة وعدم شكرها كما بينه في التمهيد. وروى مسلم في صحيحه عن أبي الأشعث قال: غزونا غزاة وعلى الناس معاوية -أمير في عهد عمر - فغنمنا غنائم كثيرة، وكان فيما غنمنا آنية من فضة، فأمر معاوية رجلاً أن يبيعها في أعطية الناس، فتسارع الناس في ذلك، فبلغ عبادة بن الصامت، فقال: (إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواءً بسواء عيناً بعين، فمن زاد أو استزاد فقد أربى). فرد الناس ما أخذوا، فبلغ ذلك معاوية، فقام خطيباً فقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه، فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة. ومعلوم أن صحبة معاوية رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم كانت قليلة، وأما عبادة بن الصامت فهو من المبايعين الأوائل في بيعة العقبة، فلا شك أنه أعلم منه بالتأكيد، فـ معاوية لما قام فتكلم قام عبادة بن الصامت وأعاد عليه الحديث مع أن معاوية هو الأمير، ثم قال: لنحدثن بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية، أو قال: وإن رغم معاوية، ما أبالي ألا أصحبه في جنده، ليلة سوداء. يعني: الليلة التي يرد فيها الناس كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا إنكار منه على معاوية رضي الله عنه، ومعاوية ظن أنه أخطأ في النقل، لكن عبادة أغلظ له كثيراً جداً، وقال: تلك ليلة سوداء التي يتكلم فيها أحد عن أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، ورغماً عن الأمير سنقول. هذا إنكار شديد بلا شك. لذا نقول: غير معروف عند الصحابة أن رجلاً يخالف السنة ولا ينكر عليه، حتى ولو كان مجتهداً أو عالماً، فهم ينكرون على كل من خالف السنة، فضلاً عن أن يكون مخالفاً لنص من الكتاب، ومثله من يخالف الإجماع أو القياس الجلي. وروى أبو عمر عن أبي الدرداء قال: من يعذرني من معاوية؟ أحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني برأيه، لا أساكنك بأرض أنت فيها، وأرسل لـ عمر بن الخطاب، فقال له: لا بارك الله في أرض لست فيها، وأمر معاوية أن يرد كل البيوعات التي وقعت في الربا. وروى مسلم في صحيحه عن عروة بن الزبير: أن عبد الله بن الزبير قام بمكة وقال: إن ناساً أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة، يعرض برجل -يعني: ابن عباس رضي الله عنه- هل هناك تغليظ أكبر من هذا؟! وابن عباس كان قد عمي في آخر عمره، فيعرض بفتواه في جواز نكاح المتعة، فدعاه ابن عباس، فقال: إنك لجلف غليظ -هذا في الخطبة- لعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتقين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ابن الزبير: فجرب لنفسك، فوالله لئن فعلت لأرجمنك بأحذيتك. فرغم شدة هذه الأقوال بين الصحابة رضي الله عنهم إلا أنه يدل على اتفاقهم على الإنكار على من خالف السنة؛ لأن ابن عباس قال له: جلف غليظ؛ لأن ابن الزبير لديه حديث، ويجزم ببطلان ما عليه ابن عباس؛ لأن الحديث الذي رواه ابن عباس منسوخ، فهم اختلفوا في المسألة، لكن اتفقوا على التغليظ في الإنكار لمن خالف السنة. وقد سبق قول عائشة رضي الله عنها لأم ولد زيد بن أرقم: أبلغي زيد بن الأرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب. والأحاديث متواترة في الأمر بقتال الخوارج وذمهم مع أنهم كانوا يظنون أنفسهم من أحسن الناس، وكذلك أحاديث قتال مانعي الزكاة، وكلها في الصحاح والسنن والمسانيد، وهؤلاء كانوا متأولين ولأجل هذا لم يكفَّروا، لكنه لم يمنع من الإنكار عليهم بالقتال، والقتال أبلغ درجات الإنكار، وكذا الأمر بقتال الفئة الباغية إذا ظهر بغيها رغم تأويلها حتى تفيء إلى أمر الله. وجميع الأدلة والآثار السابقة وغيرها كثير تدلنا على طريقة الصحابة رضي الله عنهم في الإنكار على من خالف الكتاب والسنة إذا بلغته وعارضها بآراء الرجال.

أقوال العلماء في مشروعية الإنكار في الخلاف غير السائغ

أقوال العلماء في مشروعية الإنكار في الخلاف غير السائغ أما أقوال العلماء في مشروعية الإنكار في مسائل الخلاف غير السائغ فكثيرة جداً، قال ابن القيم رحمه الله في أعلام الموقعين: وقولهم: إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح -هذا من أوضح النقل- فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل، فأما الأول فإن كان القول يخالف سنة أو إجماعاً شائعاً وجب إنكاره اتفاقاً. ينقل ابن القيم اتفاق العلماء على الإنكار فيما يخالف السنة أو الإجماع الشائع. إذاً: ما يقال في هذا الزمان من أن أي مسألة فيها خلاف لا ينكر فيها. مذهب في منتهى البطلان مخالف للإجماع في الحقيقة. يقول: وإن لم يكن كذلك، فإن بيان باطله ومخالفته للدليل إنكار مثله، أي: ينكر الإنكار المناسب له، وهي درجة التعريف وبيان بطلان أو ضعف هذا القول، فالمسألة ليس فيها نص ولكن فيها اجتهاد فليبين. وهذا هو الإنكار المناسب، وهو درجة التعريف كما ذكرنا. يقول: وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار، وكيف يقول فقيه: لا إنكار في المسائل المختلف فيها، والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتاباً أو سنة -وهذا كلام الإمام البخاري، وكل الفقهاء يقولون بهذا: ينقض حكم القاضي إذا خالف كتاباً أو سنة- وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء، أما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغ، لم ينكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً. (الأعلام 3/ 300). قال ابن رجب رحمه الله في جامع العلوم والحكم (ص:184): والمنكر الذي يجب إنكاره مجمعاً عليه -أي: المنكر الذي يجب إنكاره هو المجمع عليه- فأما المختلف فيه فمن أصحابنا مثل القاضي أبو الخطاب من قال لا يجب إنكاره على من فعله مجتهداً أو مقلداً لمجتهد تقليداً سائغاً، واستثنى القاضي - أبو يعلى - في الأحكام السلطانية ما ضعف فيه الخلاف، أو إن كان ذريعة إلى محظور متفق عليه، فربا النقد -ربا الفضل- الخلاف فيه ضعيف وهو ذريعة إلى الربا، وذكر عن إسحاق بن شاقلا -من كبار أصحاب الإمام أحمد - أنه ذكر أن المتعة هي الزنا صراحاً، يعني: نكاح المتعة هو الزنا، وقد قلنا من قبل: إذا بلغه تحريم نكاح المتعة يقام عليه حد الزنا، ونقول في مسألة النكاح بدون ولي مثل ذلك رغم أنه قول قلة من العلماء كما ذكرنا، يعني: لو تزوج رجل بدون ولي وهو يعلم بطلان الزواج بدون ولي يقام عليه حد الزنا، والجمهور يقولون: لا لأن هذا خلاف سائغ عندهم، لكن عندي أن النص واضح، فهذا خلاف غير سائغ. وعن ابن بطة قال: لا يفسخ نكاح حكم به قاض إن كان قد تأول فيه تأويلاً، إلا أن يكون قضى لرجل بعقد متعة، أو طلق ثلاثاً في لفظ واحد وحكم بالمراجعة من غير زوج، فحكمه مردود، وعلى فاعله العقوبة والنكال. التمثيل بهذه المسألة خطأ، فهو يقول: لو طلق رجل زوجته ثلاثاً فقضى قاض برجوعها إليه وحسبها واحدة فقط فهذا من الخلاف غير السائغ، ونحن عندنا أن هذا خلاف سائغ، بل الصحيح في المسألة أنها تجعل واحدة؛ لأن المسألة فيها اجتهاد، لكن تمثيله بمن قضى لرجل بنكاح متعة هو مصيب فيه بلا شك؛ لأن النصوص صريحة جداً في بطلان نكاح المتعة. يقول: والمنصوص عن أحمد الإنكار على اللاعب بالشطرنج، فتأوله القاضي من لعب فيها بغير اجتهاد - القاضي أبو يعلى - أو تقليد سائغ. يقول ابن رجب: وفيه نظر. فإن النصوص عنه -عن أحمد - أنه يحد شارب النبيذ المختلف فيه، وإقامة الحد أبلغ مراتب الإنكار، مع أنه لا يفسق عنده بذلك، فدل على أنه ينكر كل مختلف فيه ضعف الخلاف فيه لدلالة السنة على تحريمه، ولا يخرج فاعله المتأول من العدالة بذلك، والله أعلم. وكذلك نص أحمد على الإنكار على من لا يتم صلاته، ولا يقيم صلبه من الركوع والسجود مع وجود الاختلاف في وجوب ذلك. فـ أبو حنيفة يقول: لا يجب، ومع ذلك الإمام أحمد ينكر على من فعل؛ لأن السنة صريحة جداً في وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود وإقامة الصلب حين الرفع من الركوع. قال النووي رحمه الله في شرح مسلم: ثم العلماء ينكرون ما أجمع عليه، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه وهذا ما يحتج به من كلامه على أنه لا ينكر في مسائل الاختلاف، لكن بالنظر إلى تتمة كلامه يعلم المقصود -لأنه على أحد المذهبين: كل مجتهد مصيب- ونحن بينا بطلان هذا القول، وأن المراد أنه فعل ما عليه، أما أنه أصاب الصواب فلا. وهذا هو المختار عند كثير من المحققين أو أكثرهم، وعلى المذهب الآخر: المصيب واحد والمخطئ غير متعين لنا -على سبيل القطع- والإثم مرفوع عنهم، لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة أو وقوع في اختلاف آخر. يعني: إذا قال له: الأفضل أنك تخرج من خلاف العلماء، ونصحه بالقول الأحوط إذا لم تكن نصيحته تخرجه إلى خلاف آخر أو يضيع سنة. يقول: وذكر أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي البصري الشافعي -وهو معتزلي في العقيدة وشافعي في الفقه- في كتابه الأحكام السلطانية خلافاً بين العلماء: أن من قلده السلطان الحسبة هل له أن يحمل الناس على مذهبه فيما اختلف فيه الفقهاء إذا كان المحتسب من أهل الاجتهاد، أم لا يغير ما كان على مذهب غيره؟ والأصح أنه لا يغير لما ذكرناه، ولم يزل الخلاف في الفروع بين الصحابة والتابعين فمن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين، ولا ينكر محتسب ولا غيره على غيره، وكذلك قالوا: ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً، وهذا القيد واضح جداً. إذاً: هناك كلام للنووي يبين مقصوده من أن المقصود بالمختلف فيه والذي لا إنكار فيه، أي: إذا لم يخالف نصاً من الكتاب والسنة والإجماع، وهذا حد الخلاف السائغ كما ذكرنا، أما ما خالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً فهذا ينكر، ويعترض عليه، وينقض فيه حكم الحاكم وقضاء القاضي، وقد سبق مثل هذا في تبويب الإمام البخاري: إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد، وتبويبه: إذا اجتهد العالم أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول صلى الله عليه وسلم من غير علم فحكمه مردود. وقد ذكر الغزالي في الإحياء الكلام على عدم ضمان من كسر آلات اللهو والمعازف، مع وجود الاختلاف في حرمة المعازف، ومثله الماوردي في الأحكام السلطانية، قال عن آلات الملاهي: فعلى المحتسب أن يبطلها حتى تصير خشباً، لتزول عن حكم الملاهي، ويؤدب على المجاهرة بها، ولا يكسرها إن كان خشبها يصلح لغير الملاهي فهو عندهم خلاف غير سائغ مع أنهم يعلمون الخلاف فيها، وابن حزم يقول: تجوز الملاهي، ومع ذلك يجيزون للمحتسب أن يكسرها. إذاً: كل هؤلاء عندما يقولون: لا ينكر إلا في المجمع عليه، أو لا ينكر ما كان مختلفاً فيه، والمراد الخلاف السائغ وليس أي خلاف، فلا يؤخذ جزء من كلامهم دون تفاصيله لكي تقول: كل خلاف لا ينكر فيه على المخالف. قال القاضي أبو يعلى الفراء في الأحكام السلطانية -وهو حنبلي-: وأما المجاهرة بإظهار الملاهي المحرمة فعلى المحتسب كسرها ولا يتساهل بتفصيلها سواء كان خشبها يصلح لغير الملاهي أو لا يصلح. يعني: يكسرها حتى ولو كانت للاستخدام في غير الملاهي، مع العلم أن ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معروفة من المفسدة والمصلحة، لكن على المحتسب المعين عندهم أن يقوم بذلك من باب العقاب والتعزير. هؤلاء العلماء هم الذين يحتج البعض بأقوالهم في عدم الإنكار في مسائل الخلاف، فسمعنا كلام القاضي أبي يعلى في الإنكار على اللاعب بالشطرنج أنه متأول إذا كان فعله بغير اجتهاد أو تقليد سائغ، فرد كلامه ابن رجب، وهذا يدل على أن هذا من المتفق عندهم، لكن عند القاضي اللعب بالشطرنج خلاف سائغ وعند ابن رجب خلاف ضعيف. يقول: هؤلاء العلماء هم الذين يحتج البعض بأقوالهم في عدم الإنكار في مسائل الخلاف، وأنت تجدهم جميعاً يصرحون بنقض حكم الحاكم فيما يخالف النص والإجماع، وأن على المحتسب إزالة المنكر من آلات اللهو كالعود ونحوه بالكسر وغيره مع اختلافهم في إبقاء الخشب أو جواز كسره حتى ولو أمكن فصله عن بعضه، وفيما نقل كفاية لمن أراد معرفة الحق. أما هل تحتاج المسألة إلى اجتهاد؟ نعم، من أجل أن نعرف إذا كانت من الخلاف السائغ أو غير السائغ. قد يكون الأمر مختلفاً فيه بين الفقهاء حسب ظهور الدليل عندهم وقد لا يظهر، فكما يلزم الاجتهاد لمعرفة درجة الخلاف في المسألة، وهل للدليل فيها نص أو إجماع أو قياس أو غير ذلك من أدلة المجتهدين. يعني: كما يلزم الاجتهاد لمعرفة الحكم يلزم الاجتهاد في معرفة درجة الخلاف، وقولنا: الدليل هنا ظاهر الحديث، بخلاف قولنا: الدليل هنا نص الحديث، فلو قلت: ظاهر الحديث؛ إذاً المسألة فيها اجتهاد، ولو قلت: نص الحديث؛ إذاً أنا عندي على الأقل خلاف غير سائغ والاجتهاد فيه خطأ بين. قال القاضي أبو يعلى ناقلاً الخلاف في الإنكار على غير اللعب -العرائس، وهذا أيضاً في الأحكام السلطانية-: أما اللعب فليس يقصد بها المعاصي، وإنما يقصد بها إلف البنات بتربية الأولاد، ففيها من وجوه التدبير ما تقارنه معصيتهم بتصوير الأرواح ومشابهة الأصنام، فللتمكين منها وجه، وللمنع منها وجه، وبحسب ما تقتضيه شواهد الأحوال يكون إنكاره وإقراره. يقول: هذه فيها احتمال لأن ننكر واحتمال لئلا ننكر. يقول: وظاهر كلام أحمد رحمه الله المنع منها وإنكارها إذا كانت على صورة ذوات الأرواح، إلى أن قال: وقد حكي أن أبا سعيد الإصطخري من أصحاب الشافعي قلد حسبة بغداد في أيام المقتدر، فأزال س

نوع الخلاف الواقع بين المسلمين اليوم

نوع الخلاف الواقع بين المسلمين اليوم بعد استعراض أنواع الخلاف، نقول: الخلاف في واقع المسلمين اليوم ينتمي إلى أي نوع من أنواع الخلاف حتى أعرف كيف أتعامل معه؟ بالنظر إلى أحوال المسلمين وواقعهم اليوم نجد الساحة الإسلامية تموج بالاختلافات بل المنازعات والصراعات، فتختلف وجهات النظر من الحريصين على وحدة العمل الإسلامي ومستقبل الصحوة حول وسائل معالجة هذا الواقع، فيرى البعض أن التعدد الحاصل بين الاتجاهات الإسلامية والجماعات الإسلامية لا ضرر منه ولا حرج شرعاً من وجوده، ولا يطلب من الجماعات المختلفة أن تسعى إلى الاجتماع؛ لأن كلاً منها على خير وعلى مصالح، ولا شك أن هذه النظرة إنما تصح على بعض أنواع الاختلاف الذي هو اختلاف التنوع، فاختلاف التنوع كله على خير، وهو اختلاف سائغ لأنه عمل صالح. أما القول بأنه لا يطلب شرعاً السعي إلى الاجتماع فغفلة كبيرة عن الفساد والمنكرات والمعاصي الحاصلة بين الاتجاهات المختلفة بسبب التفرق، والمفترض في اختلاف التنوع التكامل والتعاضد، وهو أمر مفقود إلى حد كبير في أبناء الصحوة باتجاهاتها المختلفة. وذلك لعدم الانضباط بالضوابط التي حددناها في اختلاف التنوع، منها: ألا يكون هناك تعصب على العمل، أو تحقير لأعمال الآخرين، وأن كل أحد لا يكون تاركاً للواجبات التي عليه بزعم أنه يؤدي هذا الواجب، إذ لا بد أن يحافظ على جميع الواجبات وما فرض عليه من فرض العين ولا يفرط فيه من أجل النوع الآخر من الواجبات التي يقوم بها، فهو من أجل الجهاد يترك طلب العلم الواجب أو الصلاة، أو لأنه يدعو إلى الله عز وجل يترك الجهاد في سبيله، أو لأجل الجهاد يترك العلم الواجب أو الدعوة إلى الله، بل لا بد عليه أن يؤدي فرض العين الذي عليه، ثم بعد ذلك ينشغل بفروض الكفاية، وفي نفس الوقت لا يكون هناك تحقير لعمل الآخرين، من أجل هذا لم يحصل التكامل نتيجة عدم وجود هذه الضوابط. ويرى البعض أن هذا التعدد والافتراق خير للمسلمين من جهة أن أعداءهم سوف يتركونهم في دعوتهم طالما كانوا مفترقين، أما لو اجتمعوا فسيكون ذلك معجلاً لضربهم. وهذه النظرة أيضاً قاصرة عن التفريق بين الأمر الشرعي والأمر القدري, فالحكم والمصالح التي يقدرها الله عز وجل من تقدير السيئات، ومن السيئات الافتراق والاختلاف المذموم والتنافس على الدنيا والغيبة والنميمة والوقيعة بين المسلمين. هذه الحكم لا تجعل طلب السيئات والحرص عليها والفرح بوجودها مشروعاً، بل يجب كراهيتها، حتى لو كان فيها مصلحة، يعني: صحيح أن الفرقة من حكم ربنا وأنه قدرها، لكن لا نقول: دعونا مختلفين، وما يدريك ما يقدره الله في الطاعات لو أطعناه واجتمعنا على كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ربنا سيدفع عنا بسبب ذلك. نقول: لعل ما يقدره الله في الاجتماع من الخيرات والبر والبركات أضعاف ما نحسبه من حكمة ومصلحة من وراء السيئات، فلا بد أن يكون سعينا للاجتماع -وهو مطلب شرعي سبق بيانه- وعدم الرضا بالافتراق الحاصل، وكثير منه من النوع المذموم بدلالة نتائجه على قلوب أبناء الصحوة. ولا بد أن نفرق بين الاحتجاج بالقدر والحكمة القدرية على أمر قد مضى وصار من المصائب، وإن كان معه ذنب فتلزم التوبة منه، وبين الاحتجاج بهذه الحكم القدرية في إبقاء هذا الواقع والرضا به واستمراره في المستقبل، فهذا الثاني من جنس الاحتجاج بالقدر على المعائب والذنوب ولا خلاف بين أهل السنة في ذم ذلك. لماذا نفترض دائماً أن الأعداء إذا أرادوا ضرب المسلمين تم لهم ما أرادوا على الوجه الذي خططوه؟ فليكن لنا في البوسنة دروس، فقد خططوا لإبادة المسلمين لمجرد اسم الإسلام دون حقيقة العمل به، ومع ذلك إذا بالنائم الكامن في النفوس يخرج من نومه وخموله ليقلب موازينهم عليهم. وهل نظن أننا إذا أطعنا الله سلط الله علينا عدونا أكثر من تسليطه علينا إذا افترقنا، هل هذا من حسن الظن بالله؟ ثم إنه من الممكن أن يتفق المسلمون، ويظهروا عدم اتفاقهم إذا رأوا المصلحة في ذلك، ولكن الجميع يعلم أن هذا غير حق، رغم أن البعض من الأعداء يتوهم ذلك، ويقول للناس: إنها أدوار قسموها فيما بينهم، ويا ليتها تكون أدواراً. ويحاول البعض الوقوف موقف التوسط بين الاتجاهات الإسلامية المتباينة، ليكون قريباً من الجميع، وهذه كثيرة جداً وبكتابات متعددة، حتى إن بعض أصحاب المشارب السلفية يحاول أن يكون قريباً من الجمع، ويقول: هذا قريب وهذا قريب وهذا خلاف سائغ، ويرى أن الاختلافات المعاصرة كلها من جنس الاختلاف السائغ الذي لا يفسد للود قضية. ولا شك أيضاً أن هذا الموقف قاصر في نظرته على بعض الاختلافات لا على كل أنواعها، فإن منها بلا شك ما هو مذموم لا تصلح الوسطية المتوهمة فيه، كما أن هذا الموقف يمكن أن يسع أفراداً لكنه لا يسع جماعة أو جمعاً غفيراً من الأفراد؛ لأنهم بذلك الموقف سوف يصبحون تياراً جديداً واتجاهاً جديداً له أنصاره وخصومه ومنازعاته. وقد أراح البعض نفسه بأن أقنع نفسه وغيره بإنكار التجمع مطلقاً، معللاً ذلك بالعيوب الناشئة عن الجماعات والعصبية الممقوتة التي تظهر في أتباعها، وآثر العمل الفردي وظهرت التجمعات حول أشخاص الدعاة دون وجود أي نظام للعمل على استكمال العمل الإسلامي، والقيام بفروض الكفايات إلا نظام الشيخ والتلميذ، وما قد يقتنع به البعض من أعمال الخير. ولا يخفى أن هذه النظرة تفتقد الرؤية الصحيحة لمستقبل العمل الإسلامي، ولا تحدد خطوات محددة لتطور العمل والقيام بفروض الكفايات الضائعة، كما أن هذه التجمعات إن قويت فهي جماعة دون مسمى، أو أن مسماها هو ألا جماعة، أو هو اسم قائدها ومعلمها وآراؤه، وليس منهجاً متكاملاً قابلاً للاستمرار والبقاء بعد غياب القائد لموت أو عجز أو غيره، وهذا ما لابد في الصحوة أن تنتبه له، فعمر الأمم والدعوات ليس بعمر الأشخاص، بل عمرها يقاس بالأجيال، وتغيرات الشعوب بما يحتاج إلى عقود أو قرون، فهل نعد دعوتنا لتحمل هذه الرحلة الشاقة؟ أم هي مرتبطة بأشخاصها تذهب بذهابها، وتمرض بمرضها، وتموت بموتها؟ لا شك أن البقاء بإذن الله لا بالنظام والمنهج والجماعة. والبعض من أصحاب الاتجاهات الإسلامية يعتبر أن جماعته هي المصيبة دائماً في كل خلاف، وأن كل من خالفها فعليه أن يترك جماعته لينضم إليها، فهي نظرة ضيقة فيها الغلو وعدم تقدير واقع أي من الجماعات والاتجاهات الموجودة في هذه الساحة. بعد هذا الاستعراض السريع لوجهات النظر، فما هو الموقف الذي نراه؟ الجواب وبالله التوفيق: إننا قد ذكرنا خلال بحثنا أنواع الاختلاف، وأمثلةً لكل نوع، وكثير مما ذكرناه هو من واقع العمل الإسلامي والحركات الإسلامية، ويمكننا أن نخلص من الأمثلة المذكورة إلى أن أنواع الاختلاف الثلاثة المذكورة -يعني: أنواع الاختلاف الموجود بين المسلمين هو في الحقيقة يرجع إلى الثلاثة أنواع المذكورة- فمنها ما يرجع إلى اختلاف التنوع، وهذا يجب استثماره والتعاون عليه، ولا يصح أن نسعى لإلغاء هذا الاختلاف؛ لأنه بالتكامل فيه يتم الواجب ويتحقق المقصود بإذن الله بالشروط التي ذكرناها. ومنها ما يرجع إلى اختلاف التضاد السائغ، وهذا يجب احتماله، وأن يسعنا كما وسع سلفنا الصالح، ولا يفسد الود والمحبة بيننا لوجود هذا النوع من الاختلاف، ولكن يلزم ضبطه جيداً، وبذل الوسع في تحقيقه، والرجوع إلى أمثل أهل العلم عند الاختلاف مع الالتزام بقواعد أهل السنة بذلك. ومنها ما يرجع إلى اختلاف التضاد غير السائغ، وهذا يجب علاجه، وذلك بمحاربة البدع والضلالات والأقوال الباطلة، والاجتماع على منهج أهل السنة والجماعة، والعمل على نشره بتفاصيله، وهذا يقتضي تحقيق هذا المنهج، وتحديده تحديداً مفصلاً في قضايا العقيدة والعمل والدعوة ومناهج التغيير وغير ذلك. ولا شك أن أفضل المؤهلين في تحقيق هذه المعالجة المطلوبة هم الجماعات الملتزمة بمنهج أهل السنة على طريقة السلف، فهي تحتاج إلى ترتيب جهودها، وتقارب صفوفها، وبذل الوسع في نشر منهجها، ووحدتها واجتماعها فريضة منشودة، فإن تعدد القيادة في مكان واحد في زمان واحد من الاختلاف المذموم الذي يجر إلى الصراع على الرئاسة وما معه من مفاسد ومحن، نسأل الله العافية منها. فلا بد لهذه الاتجاهات أن تضع في أولويات عملها تحقيق التواصل فيما بينها للوصول إلى هذه الغاية المطلوبة ووجود منهج أهل السنة في جماعة واحدة قوية كفيل بإذهاب الدخن من الاتجاهات الأخرى على الأقل إن لم يوحد صفوف الأمة كلها خلف قيادة أهل العلم من أهل السنة وتحت لوائها. {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17]. وليست هذه أحلاماً وردية غير قابلة للتطبيق بل مع التجرد والإخلاص والعمل المستمر، نرجو الله أن يمن على هذه الأمة بوحدتها ورشدها وصلاحها. فنسأل الله عز وجل أن يؤلف بين قلوبنا، وأن يصلح ذات بيننا، وأن ينصرنا على عدوه وعدونا، اللهم اهدنا سبل السلام وأخرجنا برحمتك إلى النور، واجعلنا هداة مهتدين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

§1/1