أخلص العمل فإن الناقد بصير

أزهري أحمد محمود

الحمد لله تعالى هدى إلى الرشاد

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله تعالى هدى إلى الرَّشاد. وتحبَّب بنعمه الجزيلة إلى العباد .. والصلاة والسلام على المرسل بالهدى. وعلى آله وأصحابه أعلام المكارم والندى. وبعد: الإخلاص! القلب النابض للأعمال الصالحات .. وقطب الرحى لسائر القربات! صاحبه فائز بأسنى المراتب .. وحائز على أشرف الرغائب! وبدونه؛ فالصالحات كرماد ذرَّهُ الرِّيح .. أو بضاعة مغبون عن الثمن الرِّبيح! {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]. وقف الصالحون عند عتباته .. ودندنوا حول درجاته! استسهلوا دونه الصِّعاب .. وخاضوا لأجله البحر العُبَاب! بضاعتهم التي بها يتَّجرون .. ورأس مالهم الذي به إلى سوق الصالحات يدفعون! حاسبوا النفوس لتنال مراتب الإخلاص .. وقهروا رغبات النفس لتنعم بالخلاص! فليت شعري! متى ظفر العابدون بسلعة تدانيها .. أم أنَّى لمن أراد قبول الصالحات أن يسلك غير واديها!

* فما هو الإخلاص

أخي المسلم: فهل استشعرت شرف هذا الركن؟ ! أم هل حاسبت النفس على اكتساب هذه الخصلة؟ ! فإلى هذه الوقفة .. نعبر إلى الكوامن .. ونفتش في أنحائها .. عسى أن نقف على مرض دفين .. أو عيب مكين .. فإلى طريق الإخلاص .. وقافلة المخلصين .. * فما هو الإخلاص؟ ! : الإخلاص! تلك البضاعة النادرة! ما هو؟ ! وما هي حقيقته؟ ! وقفةٌ مع العلماء الربانيين يخبرونك عن حقيقة هذه الكلمة العظيمة! * قال الحواريون لعيسى - عليه السلام -: ما الخالص من الأعمال؟ فقال: «الذي يعمل لله تعالى، لا يحب أن يحمده عليه أحد». * وقال الجنيد: "الإخلاص تصفية العمل من الكدورات". * وقال إبراهيم بن أدهم: "الإخلاص صدق النية مع الله تعالى". * وقال سهل بن عبد الله: "الإخلاص أن يكون سكون العبد، وحركاته لله تعالى". * وقال يعقوب المكفوف: "المخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته". * وقيل: "الإخلاص دوام المراقبة، ونسيان الحظوظ كلها".

* كنز عجيب

ذاك هو الإخلاص كما جلاَّهُ لك العلماء الربانيون .. فهل وقفتَ - أيها العاقل - على هذا المعنى؟ ! والوقوف هنا لا يعني وقوف النظر؛ بل وقوف القلب .. والذي بدونه لا ثمرة للعلم! * كنز عجيب! : أخي المسلم: الإخلاص دوحة باسقة الفروع .. ثابتة الأصول. يانعة الثمار .. ظلها ظليل! والظافر بمرتبة الإخلاص؛ ظافر بكنز عجيب .. وشرف فريد! فربك تعالى - أيها الموفق - لا ينظر إلى الصور والأشكال .. ولكن ينظر إلى القلوب! قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم» وأشار بأصابعه إلى صدره. [رواه مسلم]. وفي رواية في مسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم». وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «أفضل الأعمال؛ أداء ما افترض الله تعالى، والورع عمَّا حرَّم الله تعالى، وصدق النية فيما عند الله تعالى». وقال سليمان الداراني: "طوبى لمن صحَّت له خطوة واحدة لا يريد بها إلا الله تعالى".

* أول عتبات الإخلاص

وصدق الإخلاص - يا طالب السعادة - طريق مأمون يبلِّغك إليها سريعًا! قال محمد بن سعيد المروزي: "الأمر كله يرجع إلى أصلين: فعل منه بك، وفعل منك له، فترضى ما فعل، وتخلص فيما تعمل، فإذا أنت قد سعدت بهذين، وفزت في الدارين"! * أول عتبات الإخلاص: أخي المسلم: إن أول منازل الإخلاص وأشرفها؛ إخلاصك في كلمة التوحيد .. وإفرادك لله تعالى بكامل العبودية .. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قلت: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة. فقال: «لقد ظننتُ يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أوَّلَ منك لما رأيتُ من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة؛ من قال: لا إله إلا الله، خالصًا من قِبَلِ نفسِهِ» [رواه البخاري]. ولقد حذَّرك الله تعالى من الإخلال بشرط الإخلاص في عبادته تبارك وتعالى .. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشُّركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري؛ تركته وشركه» [رواه مسلم]. وبشَّرك النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بالنَّجاة من النَّار؛ إن كنت من المخلصين في كلمة التوحيد ..

* الإخلاص قبل العمل

عن عتبان بن مالك الأنصاري - رضي الله عنه - قال: غَدَا علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «لن يُوافي عبدٌ يوم القيامة، يقول لا إله إلا الله، يبتغي بها وجه الله؛ إلا حرم الله عليه النَّار»! [رواه البخاري]. * الإخلاص قبل العمل: أخي المسلم: إن الإخلاص روح العمل الصالح .. وبغير الإخلاص؛ فلا معنى للعمل .. لذلك كان استحضار النية الصادقة من أسس العمل الصالح .. قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ... » [رواه البخاري ومسلم]. فيا طالبًا لصحيح العمل .. هل تأملت في نيتك وأنت تدخل في العمل الصالح؟ ! نعم .. ما أشد الإخلاص على القلوب! قال أيوب السختياني: "تخليص النيات على العمَّال، أشد عليهم من جميع الأعمال"! . فانظر - أيها المسلم - في قلبك وأنت تدخل في العمل الصالح .. وراقب الله تعالى في ذلك .. فما أيسر أن تخرج من أعمالك صفر اليدين؛ إن لم تكن النية صادقة .. وما أيسر أن ترجع بالربح الوفير إن صدقت النية! قال بعض العلماء: "اطلب النيَّة للعمل قبل العمل، وما دمت تنوي الخير فأنت بخير".

* كنوز الإخلاص

وقال سري السقطي: "لأن تصلي ركعتين في خلوة تخلصهما، خير لك من أن تكتب سبعين حديثًا، أو سبعمائة بعُلُوِّ سند " ومن أجل ذلك؛ كان الصالحون يحرصون على النية الصادقة .. وتصفية الأعمال من الكدورات .. قال الثوري: "كانوا يتعلَّمون النية للعمل، كما تتعلَّمون العمل"! واعلم - أيها الموفق - أنك تنال ثواب عملك بقدر نيتك .. وصدق إخلاصك .. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من اتَّبع جنازةَ مسلم إيمانًا واحتسابًا، وكان معه حتى يُصلَّى عليها، ويُفْرَغَ من دفنها، فإنَّه يرجعَ من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد! ومن صلى عليها، ثم رجع قبل أن تُدفن، فإنه يرجع بقيراط» [رواه البخاري ومسلم]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» [رواه البخاري ومسلم]. * كنوز الإخلاص! : أخي المسلم: أهل الإخلاص فائزون بأنواع من الخيرات .. وفي كل واحدة ما يدعو العاملين إلى تحصيل هذه المرتبة السامية .. * الإخلاص نجاة: قال بعضهم: "في إخلاص ساعة نجاة الأبد، ولكن الإخلاص عزيز"!

* ارتفاع أهل الإخلاص

وكان معروف الكرخي رحمه الله يضرب نفسه، ويقول: "يا نفس، أخلصي تتخلصي"! * ارتفاع أهل الإخلاص: سُئل الإمام أحمد بن حنبل عن الصدق والإخلاص؟ فقال: "بهذا ارتفع القوم"! * في الإخلاص عون الله تعالى ووقايته: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: «من خلصت نيته؛ كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس». وكتب سالم بن عبد الله بن عمر إلى عمر بن عبد العزيز: "اعلم أن عون الله تعالى للعبد على قدر نيته، فمن تمت نيته؛ ثمَّ عون الله له، وإن نقصت نقص بقدره". * الإخلاص صفاء للأعمال: قال يحيى بن معاذ: "الإخلاص يميز العمل من العيوب كتمييز اللبن من الفرث والدم"! * في الإخلاص صلاح الأمور: قال بلال بن سعد: "إن العبد ليقول قول مؤمن، فلا يدعه الله عز وجل وقوله؛ حتى ينظر في عمله، فإذا عمل لم يدعه حتى ينظر ماذا نوى؟ فإن صلحت نيته؛ فبالحري أن يصلح ما دون ذلك".

* الإخلاص يحث على أعمال البر كلها

* الإخلاص يحث على أعمال البر كلها: قال الجنيد: "إن لله عبادًا عقلوا، فلما عقلوا عملوا، فلما عملوا أخلصوا، فاستدعاهما الإخلاص إلى أبواب البرِّ أجمع"! * نماذج رائعة لأهل الإخلاص: أخي المسلم: إليك هذه النماذج لرجال ظفروا بأغلى تجارة (الإخلاص! ) لترى كيف كان حرص القوم على تصفية الأعمال من الشوائب .. فكانوا بحق نماذج رائعة لمن أراد أن يحتذي الأثر .. * كان لعمر بن عبد العزيز درَّاعة من شعر وغل، وكان له بيت في جوف بيت يصلي فيه، لا يدخل فيه أحد، فإذا كان في آخر الليل؛ فتح ذلك السفط، ولبس تلك الدرَّاعة، ووضع الغل في عنقه، فلا يزال يناجي ربه ويبكي، حتى يطلع الفجر! * وتقول زوجة حسان بن أبي سنان: كان يجيء فيدخل في فراشي، ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيَّها، فإذا علم أنِّي نمت؛ سلَّ نفسه فخرج، ثم يقوم فيصلي! قالت: فقلت له: يا أبا عبد الله، كم تعذب نفسك! ارفق بنفسك. فقال: اسكتي، ويحك! فيوشك أن أرقد رقدة لا أقوم منها زمانًا! * وكان علي بن الحسين (زين العابدين) يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل، فيتصدق به، ويقول: «إنَّ صدقة السر تطفئ غضب الرَّب عزَّ وجلَّ».

* وعن محمد بن عيسى قال

وكان علي بن الحسين يُبَخَّل، فلما مات وجدوه يقوت مائة أهل بيت بالمدينة! وقال محمد بن إسحاق: "كان ناس من أهل المدينة يعيشون، لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين؛ فقدوا ما كانوا يؤتون به في الليل"! * وعن محمد بن عيسى قال: "كان ابن المبارك كثير الاختلاف إلى طرسوس، وكان ينزل الرَّقَّة في خان، فكان شاب يختلف إليه، ويقوم بحوائجه، ويسمع منه الحديث، فقدم عبد الله مرة فلم يره، فخرج في النفير مستعجلاً، فلما رجع سأل عن الشاب، فقال: محبوس على عشرة آلاف درهم. فاستدلَّ على الغريم، ووزن له عشرة آلاف وحلَّفه ألا يخبر أحدًا ما عاش! فأخرج الرجل، وسرى ابن المبارك، فلحقه الفتى على مرحلتين من الرقة، فقال له: يا فتى، أين كنت، لم أرك؟ ! قال: يا أبا عبد الرحمن، كنت محبوسًا بدين. قال: وكيف خلصت؟ ! قال: جاء رجل فقضى دَيْني ولم أدر! قال: فاحمد الله، ولم يعلم الرجل إلا بعد موت عبد الله بن المبارك"! * وعن عاصم، قال: "كان أبو وائل إذا صلَّى في بيته ينشج نشيجًا، ولو جُعلت له الدنيا على أن يفعله وأحد يراه ما فعله"! * وقال محمد بن واسع: "لقد أدركت رجالاً، كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة، قد بلَّ ما تحت خدِّه من دموعه، لا تشعر به امرأته! ولقد أدركت رجالاً، يقوم أحدهم في الصفِّ، فتسيل دموعه على خده، ولا يشعر به الذي إلى جنبه"!

* وكان محمد بن يوسف الأصبهاني

* وكان محمد بن يوسف الأصبهاني لا يشتري زاده من خبَّاز واحد. قال: "لعلهم يعرفوني فيحابوني، فأكون ممن أعيش بديني"! * ودخل ابن محيريز حانوتًا، وهو يريد أن يشتري ثوبًا، فقال رجل لصاحب الحانوت: هذا ابن محيريز، فأحسن بيعه. فغضب ابن محيريز وخرج وقال: "إنما نشتري بأموالنا، لسنا نشتري بديننا"! * ومرَّ الحسن البصري على طاوس وهو يملي الحديث في الحرم في حلقة كبيرة، فقرب منه، وأسر إليه في أذنه: "إن كانت نفسك تعجبك فقم من هذا المجلس"! فقام طاوس سريعًا! أخي المسلم: كانت تلك نماذج موجزة لأقوام آثروا ما عند الله تعالى .. وأعرضوا عن العَرَض الزائل .. بل جعلوا تلقاء أعينهم؛ ثواب من يتعاملون معه .. فاستحقروا إلى جنب ثوابه كل ثواب .. فأفردوه تبارك وتعلى بخالص العبادة .. ولكن كان حالهم كالمسك؛ مهما أخفي فلابد لريحه أن يفوح! فكن - أيها الموفق - ممن ينتظر ثواب من بيده خزائن كل شيء .. ولا تخلطنَّ أعمالك بالأكدار والأوساخ .. حتى لا يكون حالك كما قال ابن القيم: "العمل بغير إخلاص ولا اقتداء؛ كالمسافر يملأ جرابه رملاً ينقله ولا ينفعه"! جعلني الله تعالى وإياك من أهل الصواب والإخلاص في القول والعمل .. وجنَّبني وإيَّاك مواطن الزَّلل .. والحمد لله تعالى .. والصلاة والسلام على النبي والآل والأصحاب .. أزهري أحمد محمود

§1/1