أخطاء وأوهام في أضخم مشروع تعسفي لهدم السنة

عبد العظيم المطعني

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الكتاب: أخطاء وأوهام في أضخم مشروع تعسفي لهدم السنة المؤلف: د. عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني الناشر: مكتبة وهبة الطبعة الأولى 1419 هـ - 1999 م عدد الأجزاء: 1 تنبيه: [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] جَزَى اللَّهُ كَاتِبَهُ وَمَنْ تَحَمَّلَ نَفَقَةَ الْكِتَابَةِ خَيرَ الجَزَاءِ وَأَوفَاهُ.

تقديم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تقديم هذا الكتاب الذي بين يديك عبارة عن مقالات نشرت في جريدة "عقيدتي" الأسبوعية التي تصدر عن دار التحرير للطبع والنشر والتوزيع "الجمهورية". وقد تم نشرها تباعاً فيما بين عامى 1996 - 1997 م وقد أثرنا نشرها في هذا الكتاب في (سلسلة لا بد من دين الله لدنيا الناس) تلبية لرغبة أبداها بعض الغيورين على دينهم، ولتيسير الإطلاع عليها، نظراً لخطورة الموضوع الذي تصدت له، والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين. القاهرة - الظاهر 1419 هـ - 1998 م المؤلف عفا الله عنه

(1) الهجوم على السنة قديما وحديثا

(1) الهجوم على السُّنة قديماً وحديثاً تعرضت السنة النبوية الشريفة؛ وهي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بعد كتاب الله العزيز، لتهجمات، وانتقاضات منذ زمن بعيد. وفي العصر الحديث تلقف المبشرون والمستشرقون كرة هذه اللعبة الشيطانية الخبيثة، وطفقوا يقذفونها في كل اتجاه دون إصابة الهدف منها، ثم توقف دورهم بعد طول يأس. وانتقلت (اللعبة الماكرة) إلى أيدي فريق من المسلمين، واقتحموا (الخطوط الحمراء) ، ورددوا شبهات المبشرين والمستشرقين، منهم من يكتفي بالمقالات السيارة، ومنهم من يؤلف كتباً، يظهرون في (الملعب) واحداً إثر آخر. وعلى الرغم من زيف أعيرتهم الطائشة في غير وازع من دين أو خلق. وعلى كثرة ما أطلعت عليه من محاولاتهم اليتئسة في هدم السنة، أو التقليل من شأنها، فإنه لم يتفق لي بعد كتاب (أضواء على السنة المحمدية) لأبي رية أن أطلعت على مشروع تعسفي ضخم لهدم السُّنة النبوية والتهجم على علماء الحديث وأئمة الفقه وأصوله وبعض الصحابة من هذا المشروع الذي نتعرض له - هنا - وقد أطلق عليه واضعه اسم (تبصير الأمة بحقيقة السنة) .

هذا المشروع التعسفي الضخم له هدف واحد - وهو: عزل سنة صاحب الدعوة عن الواقع العملي في حياة الأمة. وإبعاد صاحب الدعوة - نفسه - عن أي دور عملي في إطار الرسالة. فهو أشبه ما يكون - في هذا المشروع - بآلة صماء تحمي ما يقال. إنه مجرد "مبلغ" أما أقواله، وأفعاله، وتقريراته، فهي "هوامش" مزورة مفتراة، وتسجيلها في كتب الحديث أول نكبة حلت بالأمة, فضلت بعد هدى، وأنحرفت بعد استقامة، وتفرقت بعد اجتماع، وضعفت بعد قوة. وصاحب المشروع التعسفي الضخم أوتى قوة هائلة على الجدل التحكمي، والحجاج العضلي، والإسهاب العليل، والإسراف في رمي سلف الأمة الصالح بالجهل والغفلة، والكذب والخيانة، وهذا قوله بالحرف الواحد-: "إن الأصل في رواية الحديث كان الكذب والخيانة، وأن الاستثناء من ذلك كان الصدق والأمانة"!! وقال في وصف الحديث النبوي الذي اهتم السلف الصالح بجمعه وحفظه: "وصار للحديث كيان تفصيلي جديد، وإن كان هشاً، حتى دخل في حياة المسلمين كأنه من أساسيات الدين" وهذا المشروع دعوة إلى أن ترفع الأمة "سنة خاتم النبيين" وتضع مكانها هذا "المشروع التعسفي الضخم". وتحرق كتب الحديث كلها لتذروها الرياح؛ لأنها كتبت بغير إذن من الشرع، ولأن الذين كتبوها غاب عنهم المنهج العلمي الصحيح؛ فكذبوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ واستخفوا عقول الأمة!!

وقد آن الأوان بعد أربع عشر قرنا عاشتها الأمة الإسلامية في ضلال أن يبصرها "رجل واحد" اهتدى إلى المنهج العلمي الصحيح؛ الذي غاب طوال هذه المدة عن مليون عالم من المحدثين، والمفسرين، والأصوليين، والفقهاء!! هذه هي خلاصة ما يدعو إليه صاحب هذا المشروع "العميل"؟. وقد وصفنا هذا المشروع بأنه "ضخم" لأن الذي بين أيدينا (الجزء الأول) من ثلاثة أجزاء وعد المؤلف بإنجازها. وقد تجاوزت صفحات الجزء الأول ستمائة صفحة من القطع الكبير، أي أن هذا المشروع من المتوقع أن يبلغ ألفى صفحة أو تزيد، وهذا "الكم الهائل" من الصفحات لم يعرف له مثيل في "موضوعه". * أما أنا "تعسفي" فإن منهج المؤلف فيه منهج عضلي هجومي، قائم على الأخطاء الفاحشة، والأوهاوم الطائشة والأكاذيب الماكرة. وأكاد أجزم أن كل صفحة لا تخلو من خطأ أو وهم. وليأذن لي القارئ الكريم في إغفال اسم المؤلف، والإكتفاء بكشف ما في مشروعه من أخطاء وأوهام، وجرأة غير محمودة على تسفيه علماء الأمة، وبخاصة علماء الحديث - رضي الله عنهم - حيث لم يسلم من تسفيه أحد منهم، لا البخاري، ولا مسلم، ولا غيرهما. أما "السُّنة النبوية" فهي المقصودة بالهدم الكامل، إلا طائفة من الأحاديث تفضل صاحب المشروع التعسفي بالرضا عنها، والسماح لها بالوجود، ولكنه رضا "زي قلته" - كما يقول المثل العامي المعروف - لأن صاحب المشروع يسمح لها بالوجود لفظاً؛ أما أن يكون لها دور في حياة المسلم فلا؛ بل وألف لا!

وتسأله عن السبب في هدم السنة فيجيبك على الفور، ومرات متعددة - ويقول: "القرآن وحده يكفي!! ولسنا في حاجة إلى أي شيء غيره!! لا في عقائد، ولا في عبادات، ولا في معاملات، ولا في أي شيء كان"!! ووصفنا هذا العمل بأنه: "مشروع تعسفي ضخم" لأن صاحبه يدعو الأمة إلى العمل به وطرح ما عداه ليكون لها مصدر تشريعي واحد، هو القرآن؟ ويصف "المؤلف" علماء الأمة بالسفة والغفلة، لأنهم كتبوا حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي ذلك يقول: "لو أنهم التزموا منهاج نبيهم - صلى الله عليه وسلم - بعدم كتابة الحديث النبوي بأي سبيل". هذا كلامه - بالحرف الواحد - وهو يدل دلالة قاطعة على مراد مؤلف هذا المشروع، وهو: أولاً: هد السنُّة النبوية من الأساس. ثانياً: تسفيه علماء الأمة: وفي مقدمتهم علماء الحديث، والفقه "الذين اعتمدوا تلك الصياغة المزيفة" - في نظر صاحب المشروع - واتخذوها مصدراً ثانياً للتشريع، فحدث للأمة - بسببها - ما حدث من نكبات"!! وبجانب هذا الهدف "الأم" من المشروع فتح المؤلف جبهات متعددة، وأطلق صوبها أعيرة صوتية طائشة. وقد نبهني بعض الغيورين على الدين إلى وجود هذا المشروع، وأن بعضاً من أئمة المساجد الضعيفي التكوين علمياً، قد تأثروا به؛ وصدقوا ما فيه من ادعاءات. وهذا ما حملنا على مواجهته، وكشف زيفه. تطويقاً للفتنة، مع العلم أننا في هذه المواجهة سنكتفي بما يظهر للناس أوهام هذا المشروع،

وزيفه، وأباطيله، أما أن نتصدى لكل ما فيه؛ فهذا يحتاج إلى صفحات أضعاف ما كتب هو؛ لأن في كل صفحة من المشروع باطلاً يرد عليه. وفي المقال الآتي نبدأ بمواجهة أباطيل هذا المشروع - وأولها: هل كان جمع الحديث النبوي وكتابته بدعة وضلالة لم يأذن بها الدين؟ وهل كان العمل بالحديث هو سبب النكبة عند المسلمين؟ * * *

(2) كتابة الحديث النبوي

(2) كتابة الحديث النبوي أشرنا فيما سبق إلى أن أول خطأ نواجهه في المشروع التعسفي الضخم لهدم السنُّ النبوية، وإقصائها عن المجالات العملية في حياة الأمة، هو إدعاء صاحب المشروع أن كتابة الحديث النبوي وجمعه في كتب الحديث لم يكن مأذوناً فيه شرعاً. بل هو بدعة ضالة حدثت بعد صدر الإسلام الأول (عصر الرسول والخلفاء الراشدين) وأن هذه البدعة هي سبب نكبة المسلمين، وارتدادهم من الهدى إلى الضلال، وأن الأمة لم تكن في حاجة إلى أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولم يتورع صاحب المشروع من وصف ـأحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها خرافات! بل قال - بالحرف الواحد -: "وهكذا يتضح لك كم غيبوا عقول الأمة - يقصد علماء الحديث - وحجبوها عن الحق، وطمسوا أعينها عن النور"!! الخطأ والوهم في هذا الكلام: هذا الكلام الذي نقلناه عن صاحب المشروع مبنى على خطأ شنيع، ووهم أوهى من بيت العنكبوت، فقد تصور المؤلف أن هناك عداء حاداً بين القرآن وبين السنُّة. القرآن يقول للسنُّة: إما أنا وإما أنت؟ والسنة تقول للقرآن: إما أنا وإما أنتظ فهما عند صاحب هذا المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية نقيضان لا يجتمعان معاً في حياة الأمة وتوجيهها، ولو لم يكن هذا التصور هو عقيدة صاحب المشروع لما ضاق ذرعاً بمجاورة النة للقرآن. وهذا - كما يدرك القارئ - خطأ شنيع، ووهم بالغ، فالقرآن والسنة خيطان في نسيج واحد.

فالقرآن - مثلاً - أعلن كلمة التوحيد مرات عديدة، وحث على الصلاة؛ والزكاة؛ والصيام؛ والحج في آيات متعددات. فإذا جاء في الحديث الذي رواه الشيخان عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان" يكون بين القرآن والسنة عداء ومخالفة؟! فأين العداء والمخالفة بين القرآن والسنة في هذا الحديث والآيات التي تقرر هذه الدعائم الخمس التي هي أركان الإسلام؟ هذا مثال. ومثال ثان: القرآن يأمر بأداء الأمانات إلى أ÷لها، فيقول في ذلك {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) فهل إذا جاء في الحديث النبوي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أدَ الأمانة إلى من إئتمنك، ولا تخن من خانك" يقال أن بين القرآن وبين السنة نفاراً شديداً، وأن أحدهما يحل محل الآخر، ومحال أن يجتمعا؟ ومثال ثالث: ينهى القرآن الحكيم عن الفرار يوم الزحف من مواجهة العدو، فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} (الأنفال: آية 10)

وجاءت السنة النبوية وعدت التولى يوم الزحف من الكبائر، فهل يكون بينها وبين القرآن اختلاف أم ائتلاف؟ لقد وهم صاحب المشروع التعسفي لهدم السنة. فأوقعه وهمه في هذا الخطأ الشنيع. ويقيناً أن هذا عمل عدواني متعمد من صاحب المشروع، ليس منشؤه الجهل بصلة السنة بالكتاب؛ لأننا قد تأكدنا من الإطلاع على الجزء الأول من مشروعه أنه يعلم ما قاله علماء الأمة عن صلة السنة بالكتاب. وهي: *سنة شارحة لما في الكتاب من إجمال. *وسنة مقررة مؤكدة لما في الكتاب من أوامر ونواه وغيرهما. *وسنة مستقلة تقرر أحكاماً، أو تضيف قيداً لما في القرآن. وهذا النوع قليل جداً، ومأذون فيه للنبي - صلى الله عليه وسلم - وسيأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى. أقول: مع علم صاحب المشروع بهذه الحقائق فقد أصر مئات المرات على رفض السنة، وعد اعتبارها والعمل بها زيادة في الدين. وأتهم السلف الصالح من علماء الأمة بالجها، والغفلة، والكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -..!! النهي عن كتابة الحديث النبوي: ومن الشبهات الني أستند إليها صاحب المشروع التعسفي الضخم لهدم السنة النبوية، ما ذهب إليه من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى الصحابة عن أن يكتبوا عنه شيئاً غير القرآن، وأن الصحابة التزموا بهذا المنهاج حتى نهاية عصر

الخلفاء الراشدين، وكان ذلك هو سبب قوتهم، ولكن حين ابتدع التابعون وتابعوهم بدعة رواية الحديث وكتابته في صحف ومسانيد؛ حدث التحول الخطير من الهدى إلى الضلال -هذا ملخص ما قال. دحض هذه الشبهة: تمسك صاحب المشروع بشبهة ثانية نشأت عن قصور فهمه وفهم أمثاله لما ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" رواه مسلم في "صحيحه". وهذا الحديث لا تنازع في ثبوته، ومع هذا فإنه لا حجة فيه لصاحب المشروع؛ ولا لأمثاله من قبله ومن بعده على أن السنة ليست من الدين، أو أن الأمة ليست بحاجة إليها. ولو أن صاحب المشروع التعسفي لهدن السنة النبوية تنبه إلى ما ورد في الحديث من الإذن بالتحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - بلا أدنى حرج، ومن التحذير من الكذب عليه في الرواية، لو فطن إلى هذا لما ساغ له أن يقول حرفاً واحداً مما قاله في هدم السنة النبوية. فالحديث ليس فيه إلا النهي عن الكتابة، أما السماع عنه - صلى الله عليه وسلم - ثم تبليغ ما قاله فليس هذا بمحظور، وإنما المحظور هو تعمد الكذب عليه - صلى الله عليه وسلم -. فكان حرياً بصاحب المشروع أن يفطن إلى هذه "الخصوصية"، ثم يبحث عن علة النهي عن الكتابة، مع الإقرار برواية المكتوب. وعلماء الحديث الذين رماهم صاحب المشروع بالسفه، والجهل،

والكذب، والخيانة لفت نظرهم النهي عن الكتابة، كما وقفوا على "الخصوصية" الدقيقة التي عجز فهم صاحب المشروع عن الوصول إليها، ثم انتهوا إلى غير ما انتهى هو إليه. لم يفهموا كما فهم أن السنة "منكر" ليست من الدين، ولكنهم فهموا من النهي عن كتابة الحديث في أول الأمر أنه كان خشية أن يختلط نص الحديث بنصوص القرآن التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بكتابتها فور تلقيها من أمين الوحي جبريل عليه السلام - وهذا هو الحق الذي يهدي الله إليه طالبي الحق، كما قال - عز وجل -: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} . فالنهي عن كتابة الحديث كان "سياسة مرحلية"، الحكمة فيه ما أشرنا إليه نقلاً عن علمائنا الأتقياء، وليس لأن الحديث ليس من الدين، وأن الأمة ليست في حاجة إليه - كما أدعى صاحب المشروع التعسفي. ومن أقطع الأطلة على ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر في مرحلة تالية لمرحلة النهي، أمر بكتابة الحديث عنه لما زال المانع منها وبانت خصائص القرآن وظهرت سماته المميزة له عن كلام البشر. فقد أخرج ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله": أن عبد الله بن عمر بن العاص كان يكتب كل شيء يسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له بعض الصحابة: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشر قد يغضب فيقول ما لا يتخذ شرعاً عاماً. فرجع عبد الله بن عمرو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر له ذلك فقال له - عليه الصلاة والسلام -: "

أكتب عني، فوالذي نفسي بيده ما خرج من فمي إلا الحق". علماء الحديث لم يرفضوا الحديث الأول الناهي عن الكتابة، وجمعوا بينه وبين حديث الإذن بالكتابة، فقالوا: إن حديث النهي كان أولاً، وحديث الإذن كان ثانياً. فصار الإذن ناسخاً للنهي. وهذه هي سمة العلماء المخلصين. أما صاحب المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية فقد تمسك بحديث النهي وأنكر حديث الإذن. وليس هنا من شيم البحث العلمي النزية. * * *

(3) تحرج الصحابة من كتابة الحديث وروايته

(3) تحرج الصحابة من كتابة الحديث وروايته ومن الشبهات التي تذرع بها صاحب المشروع أن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يتحرجون من رواية الحديث وكتابته، وأن الخلفاء الراشدين كانوا ينهون حفاظ الحديث عن التحديث به، بل كانوا يزجرون من يكثر من التحديث عنه - صلى الله عليه وسلم -. وهذه الشبهه لم ينفرد بها صاحب المشروع بل قال بها غيره. دحض هذه الشبهة: لا تنازع في أن كثيراً من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يتحرجون من رواية الحديث - أي - من ترديده، وأنهم كثيراً ما كانوا يتثبتون حينما يسمعون حديثاً من أحد الرواة، وليس معنى هذا رفضهم للسنة، أو أنها ليست من الدين، بل كانوا يقفون هذا الموقف حتى يتأكدوا من صحة ما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا ظاهر من رواية ذكرها صاحب المشروع من أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - كان قد جمع أحاديث من غيره في صحيفة، ثم أمر بنته عائشة - رضي الله عنها- بحرقها. فقالت له: لم تحرقها؟!! فقال لها: خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد أئتمنته ووثقت به، ولم يكن كما حدثني، فأكون قد نقلت ذلك، وهذا لا يصلح. هذه الرواية تدل على حرص الصحابة - رضوان الله عليهم - على التدقيق فيما يروى عن صاحب الدعوة - صلى الله عليه وسلم -، وهذه محمدة لهم تبعث في

قلوبنا الإطمئنان بما ينسب عن الثقات إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أما صاحب المشروع التعسفي لهدم السنُّة النبوية فقد عقل عليها قائلاً: "وحسب المصنف - يعني (نفسه) أن يرى هذه الرواية. . . ويتأمل فيها ليعلم حقيقة الكارثة التي أصابت الخلق - يعني (علماء الحديث) من هذه الأمة بترك منهاج السلف. . الذين لم يقبلوا - ليلة واحدة - أن يبيت أحدهم - يعني (أبا بكر) وعنده بعض الأحاديث المكتوبة. .". ثم يقول: "وهل يمكن لأحد أن يجد بعد هذه الرواية مخرجاً لتبرير وجمع وتدوين الحديث". وغير خاف على القارئ الكريم أن الواقعة في واد وأن ما بناه عليها صاحب المشروع في واد آخر. فأبو بكر أحرق الصحيفة خشية أن يكون فيها حديث لا يصح إسناده إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وصاحب المشروع عزا سبب إحراقها إلى أن بها أحاديث مكتوبة. وهذا ما يدعو إلى العجب من حال رجل يزعم أنه يسير على منهج بحث علمي دقيق. وكأن الشاعر عناه بقوله الحكيم: سارت مشرقة وسرت مغرباً شتان بين مشرق ومغرب أما شبهة نهي الخلفاء عن الإكثار من التحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي كانت محفوظة في صدور الرجال، فكان نت الحيطة الاقتصاد في سوقها، وعدم الإسراف في التحديث بها. على أن هناك حقيقة يجب أن نضعها في الاعتبار هي:

أن كراهة كثرة التحديث في عصر الخلفاء لم تكن شاملة لكل الأحاديث، بل كانت مقصورة على أحاديث الرخُص خشية أن يركن إليها الناس ويتركوا أحاديث العزائم. كذلك كانوا يكرهون ذكر الأحاديث التي قد يكون فيها "مشكلات" يصعب فهمها على عامة الناس. وقد اعتنى علماء الحديث من بعد بهذا النوع وعالجوه علاجاً علمياً جيداً، مثل "مشكل الآثار" للطحاوي، و"تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة. هذا النوعان هما اللذان كانا موضع كراهة الإكثار منهما. أما أحاديث العمل والأحكام الفقهية وكل ما يتعلق بأعمال المكلفين إيجاباً وحظراً، فهذه لم تكن محظروة ولا منهياً عنها. وهذا ما غفل عنه، أو تغافل عنه دعاة هدم السنة النبوية ومنهم صاحب هذا المشروع التعسفي. ثم من أين علم صاحب المشروع أن الخلف انحرفوا عن منهج السلف في رواية الحديث وتدوينه؟ مع أنهم - في حقيقة الأمر - ساروا على المنهج نفسه. ووضعوا ضوابط دقيقة لمن تقبل روايته ولمن ترد روايته. وفحصوا أحوال الرواة فحصاً دقيقاً، وصنفوهم طبقات على حسب سرتهم، ووضعوا درجات لكل طبقة - مثل: "ثقة - صدوق - مقبول - مردود.... إلخ"، وإذا روى الحديث عن ثقات وكان في سلسلة الرواة من ليس "ثقة" حكموا على الحديث بحكم يليق به من الضعف وغيره، وصنفوا الأحاديث أصنافاً ثلاثة: صحيح، وحسن، وضعيف.

كما وضعوا لسند الحديث ومتنه ضوابط حكيمة من خلالها نستطيع أن نحكم على الحديث بالقبول أو الرد. وكان جُماع الحديث يشدون الرحال - أحياناً - ويقطعون آلاف الأميال طلباً لسماع حديث واحد من راويه. ومن العجيب أن صاحب المشروع يعرف ذلك كله، وقد استفاد منه كثيراً في مشروعه، ومع هذا ينكر فضل علماء الحديث، ويرميهم بكل نقيصة، ويتوعدهم بالويل والثبور وعظائم الزمور؟ ولولا جهود علماء الحديث وثروتهم العلمية لضمر الجزء الأول من مشروعه "الوارم" إلى عُشر ما هو علية. وعلى عكس ما يرمى به صاحب المشروع علماء الحديث من الخلف - بعد عصر الخلفاء الراشدين -، فإننا نقول بكل ثقة. "إن أحاديث رسوا الله - صلى الله عليه وسلم - نالت من العناية والاهتمام والتمحيص على أيدي هؤلاء العلماء الأفذاذ ما لم تحظى به في عصر سابق أو لاحق". وبخاصة حين ظهر الوضع والإفتراء في الحديث بعد عصر الخلفاء، فقيض الله جل وعلا لسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - جيشاً جراراً من العلماء الأتقياء الأبرار وجمعوا ما صح وما حسن من الأحاديث بسندها ومتنها بمختلف طرقها، ونصوا على أسباب الصحة والحسن فيها. كما جمعوا الأحاديث الضعيفة وبينوا أسباب ضعفها، ثم جمعوا ما شاع من أحاديث مكذوبة ونصوا على أسباب وضعها. وفي منهج الإمام البخاري ما يدحض إفتراءات صاحب المشروع على علماء الخلف - رضي الله عنهم -.

فقد توخى الإمام البخاري في "جامعه الصحيح" الروية والأناة، حيث صنفه في ستة عشر عاماً وقد جمع فيه تسعة آلاف واثنين وثمانين حديثاً (بالمكرر) وفي ذلك يقول: "أخرجت هذا الكتاب - يعني (الجامع الصحيح) . . . من نحو ستمائة ألف حديث، وصنفته في ست عشرة سنة، وجعلته بيني وبين الله" وهذا يدل على حرصه الشديد على أنه لا يكتب في "صحيحه" حديثاً إلا بعد التحري عنه والتثبت منه، فكان يدون كل يوم حديثين فقط، وقد عهد على نفسه أن يتوضأ ويصلي ركعتين بنية الإستخارة لكل حديث - يقول: "ما وضعت في الصحيح حديثاً إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين" فإذا شرح الله صدره للحديث المستخار من أجله كتبه، وإلا فلا، فأين التساهل في النقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند هؤلاء الأتقياء البررة. إن من علامات الساعة الصغرى: "أن يسب أخر الأمة أولها". نبرأ إلى الله - سبجانه وتعالى - من هذا السلوك الطائش. * * *

(4) الرواية بالمعنى

(4) الرواية بالمعنى من الشبهات التي أثارها صاحب المشروع، متابعاً في إثارتها غيره من خصم السنة - قديماً - والمبشرين والمستشرقين - حديثاً -، مثل المستشرق اليهودي المجري: جولد تسيهر. عدو السنة الألد. ومحمود أبو رية صاحب كتاب: "أضواء على السنة المحمدية". من تلك الشبهات شبهة أن الأصل في رواية الحديث النبوي كانت بالمعنى لا باللفظ، - يعني - أن راوي الحديث كان بعد سماعه الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يردده بألفاظ من عنده لا بالألفاظ التي سمعها. وهي شبهة قديمة - كما تقدم -، وقد تصدى لها علماء الحديث وكشفوا عن زيفها. يقول صاحب المشروع التعسفي لهدم السٌنة النبوية: "إن الرواية بالمعنى كانت هي الأصل بالفعل عند السابقين، ولكن علماء الحديث ظلوا يخففون من ثقل هذه الحيقيقة على العقول، حتى لا يفزع الناس من تلقي أحكام تقال في الدين عبر أجيال متلاحقة بطريق الرواية بالمعنى، حتى أن الإمام الشافعي جعل ذلك أصلاً من الأصول الشرعية التي لا ينبغي أن يفزع الناس منها". وقد رتب صاحب المشروع على هذا الأصل الذي أدعاه؛ وهو رواية الحديث بالمعنى أموراً، منها: * أن ما اشتملت عليه كتب الحديث من أقوال منسوبة إلى

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي ليست أقواله: وإنما هي أقوال رجال يخطئون ويصيبون ولا يوثوق بهم؟!. * أن الأحكام التي تُفْهم من هذه الأقوال إنما هي آراء أولئك الرجال، وليست أحاكاً شرعية؟!. * أن رجال الحديث خدعوا الأمة طوال أربعة عشر قرناً، وأوهموها بأن الأحاديث هي من كلام رسول الله، وهي ليست من كلامه، ولم يصرحوا للأمة بحقيقة الأمر لئلا تفزع من تلك الحقيقة؟! * وأن الإمام الشافعي له ضلع في تلك الجرائم، وكذلك أئمة المذاهب الفقهية الأخرى؛ حيث جعلوا تلك الأحاديث المزورة أصلاً ثانياً من أصول التشريع؟!. هذا ما يسعى إليه صاحب المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية؛ حيث يروج في مشروعه الخبيث التشكيك في السنة جملة وتفضيلاً، وهو يزعم أنه حامل مشعل التبصير، ورائد المنهج العلمي الصحيح، الذي جهله أو تجاهله حماة السنة وعلماؤها الأفذاذ؟!. دحض هذه الافتراءات: الصواب الذي لا محيد عنه أن الأصل المجمع عليه في رواية الحديث أن روايته كانت بالألفاظ لا بالمعاني؛ كما زعم صاحب المشروع - ناعقاً بما نعق به أمثاله من قبل. أما رواية الحديث بالمعنى فهو موضع حرج شديد عند الرواة، وهم جميعاً

من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم هم وحدهم الذين روَوا ونقلوا ما سمعوه منه، ولم يشاركهم في ذلك أحد. أما التلبعون فهم الذين سمعوا الحديث من أصحابه، والصحابة مشهود لهم بالعدل والاستقامة بصريح القرآن في قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117] وكذلك التابعون في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] وفي الحديث الصحيح: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم". وعن هؤلاء البررة الكرام وصل إلينا كتاب الله العزيز، وعنهم أخذنا السنة النبوية الطاهرة، فهل يقع في وًهْم واهم - غير صاحب المشروع - أن هؤلاء الصفوة من الأصحاب، ثم التابعين يتهاونون في النقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويزورون أحاديثه!! ومن الذي قاوم ظاهرة وضع الحديث ووقف لها بالمرصاد إلا التابعون الذين رماهم صاحب المشروع بالسفة والكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتغرير بالأمة، وخداعهم إياها. والراوية بالمعنى التي استسمن صاحب

المشروع ورمها، واتخذ منها وسيلة لهدم السنة، لم تقع بالصورة التي زعم أنها شملت الأحاديق كلها؛ بل إن الثابت أنها كانت ضرورة، أو رخصة في أضيق الحدود إذا اضطر الراوي إليها. وأنها كانت تقع في بعض الألفاظ - أحياناً - مثل وضع كلمة مكان أخرى يؤدي معناها، أو في أداة من أدوات العطف. وأنها لم تقع تعمداً ولا اختياراً، بل إذا نسى الراوي لفظاً في حديث يسوقه للاستشهاد به على أمر. وأنها كانت تقع في الراوية الشفيهة العابرة لا في تدوين الحديث وكتابته، وأن من كان يروى أمراً بالمعنى كان ينبه إلى تلك الراوية حتى لا يفهم السامع أنها من كلام النبي - عليه الصلاة والسلام. وهذا كله كان في القرن الأول قبل تدوين الحديث، فلما أستقر تدوين الحديث بلفظه ومعناه منع العلماء روايته بالمعنى. قال الماوردي: "إذا نسى اللفظ جاز - يعني (الرواية بالمعنى) - لا سيما أن تركه قد يكون كتماناً للأحكام، فإن لم ينسه لم يجز أن يورده بغيره؛ لأن في كلامه - صلى الله عليه وسلم - من الفصاحة ما ليس في غيره". وقال السيوطى عن الصحابة إذا روَوْا بالمعنى: "وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اضطروا إلى الرواية بالمعنى، أو شكوا في اللفظ النبوي، أو في بعضه، أوردوا عقب الحديث لفظاً يفيد التصون والتحوط، وهم أعلم الناس بمعاني الكلام، لعلمهم بما في الرواية بالمعنى من الخطر، - يعني - أن الصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا إذا روَوْا شيئاً من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمعنى - اضطراراً لا اختياراً - نبهوا بعد الفراغ من سوق الحديث إلى ما رووه منه بالمعنى. ولهذا التنبيه قائدتان:

الأولي: دفع اعتقاد السامع أن اللفظ المروي بالمعنى من كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -. الثانية: الحث على التثبيت عند تدوين الحديث من اللفظ النبوي الذي عبر عنه بلفظ أخر يؤدي معناه. كل هذه الحقائق الثوابت جهلها أو تجاهلها صاحب المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية. فهل إذا أساء به الظن قراء مشروعه يكونون قد تجاوزوا الحقيقة؟ إن كلامه الذي نقلنا بعضاً منه دعوة صريحة وملحة إلى التشكيك في كل ما رواه حتى الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكفى بذلك هدماً للسنة النبوية: مع ما لها في حياة المجتمعات الإسلامية من رسوخ؛ وسعة توجيه في عظائم الأمور ودقائقها. ويضيف إلى هذه الشبهة شبهة أخرى واهية؛ وهي أن علماء اللغة رفضوا الاستشهاد بالأحاديث لشكهم فيها؟! وهذا غير مسلم على إطلاقه. فالذي تحرج من الاستشهاد بها نقرمنهم، والجمهور على خلافهم، ومن يطلع - ولو عابراً - على كتب النحو، والصرف، ومعاجم اللغة، وفقه اللغة يجد المئات من الأحاديث التي أوردها اللغويون في مصنفاتهم. ولولا خشية الإطالة لذكرنا بعضاً منها. ولو فرضنا جدلاً أن هذا موقف اللغويين جميعاً - لا سمح الله - فإنه يكون موقفاً شاذاً لا تأثير على سلامه السنة من التزوير، وعلماء الحديث - بلا نزاع - كانوا أكثر ضبطاً، وأحكام مناهج، وأشد احتياطاً من علماء اللغة في تمحيص الرواية، والتمييز بين صحيحها وعليلها.

(5) الخروج عن المنهج العلمي

(5) الخروج عن المنهج العلمي من يزعم أن ينتهج المنهج العلمي الصحيح في موضوع ما من موضوعات البحث والدارسة، فإن عليه أولاً: أن يحدد سمات ذلك المنهج، وعليه ثانياً: أن يلتزمه بكل حرص في أثناء العمل، وأن ينحى عواطفه وأهواءه جانباً، وعليه ثالثاً: أن لا يزن بميزانين، ولا يكيل بمعيارين؛ بل يحكم المنهج العلمي الذي ارتضاه بغية الوصول إلى "نتائج" سليمة. وهذا ما لم نره عند صاحب المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية، ولخروجه عن المنهج العلمي الذي يقره العقلاء والعلاماء. ولهذا الخروج عند صاحب المشروع صور عديدة. تعرى مشروعه "العاري" بالطبع عَّرياً بعد عُرى، وهذه "الخروجات" تنسف مشروعه "المنسوف" بطبعه نسفاً بعد نسف. ولكي يطمئن القارئ إلى صحة ما نقول، نضع بين ناظرية بعض الأمثلة: "الكتابة" لا..... "الحفظ" نعم! : تقدم لنا صاحب المشروع رافض كل الرفض لكتابة الحديث النبوي في مصنفات أياً كانت: مسانيد، أو صحاحاً، أو جوامع، أو سننا. وحكم بأن تدوين الأحاديث في كتب بدعة ضالة أحلت الأمة دار البوار. وكم كان طرويا نشوان بالرواية التي ذكرها عن أبي بكر - رضي الله عنه - حين أمر بإحراق

صحيفة كان قد كتب فيها بعض أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعلل صاحب المشروع - كما تقدم - إحراقها بأنها كانت بها أحاديث مكتوبة! هذا موقفه من كتابة الحديث النبوي. ونريد - الآن - أن نسأل سؤالاً، ثم نجيب عليه نحن معاً - الكاتب والقراء -، ثم ندع الإجابة إلى أن تعود إليها في وقتها. السؤال: ما المقصود من كتابة أي شيء؟ الجواب: هو الحفظ، والتوثيق ليكون المكتوب موجوداً إذا نسيته الذاكرة هذا ما يقصده العقلاء من كتابة أي شيء، فالكتابة إذن هي: تدويم الحفظ واستمراره. وقد عرفناه أن صاحب المشروع يقول بالنسبة للحديث النبوي: "الكتابة" لا، أما "الحفظ" عن ظهر قلب أي حفظ الحديث النبوي والتحديث به، فلا مانع منه عند صاحب المشروع. وأغلب الظن أن صاحب المشروع أررااد أن يملص من مواجهة معارضيه الذين يقرون بكتابة الحديث والتحديث به، ويرووت في ذلك أحاديث عن صاحب الدعوة أمر فيها برواية الحديث عنه وتحديث الناس بها، شريطة أن يتحروا الصدق في تحمل الحديث عنه، وتبليغ الناس به، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - ".... وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "نضَّر الله أمراً سمع مني شيئاً فبلغه كما سمع، فرب مبلغ أوعى من سامع".

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "نضَّر الله أمراً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه، فرب مبلغ أحفظ له من سامع". هذه الأحاديث ذكرها صاحب المشروع، ثم قصر دلالتها على الحفظ في الصدور، والتبليغ الشفهي لا غير، دون الكتابة، والتدوين، والتوثيق. ثم أضاف إليها حديثاً أخرجه البخاري في "صحيحه" نصه: "ليبلغ الشاهد الغائب؛ فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى منه". ثم يعلق صاحب المشروع على هذه الأحاديث فيقول: " ... وهذا يوضح تمام الوضوح؛ أن المراد هو الحفظ الذي يصلالناس منه إلى ما يعينهم على فهم الآيات الكريمة، وتعديل الأيام فيه [؟!] فتثبت وتنفى، وترفع وتخفض؛ بحيث لا يبقى بجانب القرآن الكريم إلا ما يصلح بالفعل - بحكم الواقع والمدارسة الواعية - لما يقال من روايات، له أن يبقى معه - أي مع القرآن - دون أدنى تكلف ... "!! تأمل هذا الكلام تجده ملئياً بالأوهام والدسائس الشنيعة، فمثلاً: من أين فهم صاحب المشروع أن هذه الأحاديث تمنع من كتابة السنة وتدوينها وتوثيقها؟ ثم أليس توثيق كتابة الحديث مثل حفظه ذهنياً؟ بل هو وسيلة ذان شأن عظيم في الإعانة على الحفظ الذهني والتثبت إذا اعترى الذاكرة سهو، أو نسيان، أو شك، أو اختلاط. وعلى أي أساس علمي صحيح فرق صاحب المشروع بين الحفظ الذهني والحفظ التدويني؟

وإذا غضضنا الطرف عن هذه المغالطات؟ فإنا نقف أمام عبارة صاحب المشروع: "وتُعدل الأيام فيه" يعني - في الحديث الذي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظه ذهنياً، وتبليغه شفهياً. "فثبت وتنفى، وترفع وتخفض. . ." هذا هو تعديل الأيام في الحديث المحفوظ. ولنا أن نتساءل - مع القارئ -: أليس هذا الكلام دعوة صريحة لتحريف السنة المحفوظة؟ تحريف بالإثبات مرة، وبالحذف مرة، وهذا عدوان على "سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يود صاحب المشروع لو كان قد حدث. ثم تحريف أخر في نطق الفاظ الحديث نطقاً بغير معناها. لا مناص من هذا الفهم الذي فهمناه، وهذا يفسر لنا لماذا كره صاحب المشروع كتابة الحديث وتدوينه في مجلدات، لأن كتابة الحديث تحميه من التحريف بكل صوره، سواء ان تحريفاً بالنقص، أو تحريفاً بالزيادة، أو تحريفاً باللحن في الضبط النحوي والصرفي. أما لو ظل الحديث غير مكتوب، فإنه يتعرض لعوامل التعرية والقرض، والمحو، والتغيير، والتبديل. والكلام الذي نقلناه عن صاحب المشروع - آنفاً - له نظير آخر يقول فيه بالحرف: "ومنه نرى أن السنة لم يكن لها لتكتب بأي حال من الأحوال ... "

وقال أيضاً: "وبذلك نرى أن كل الأحاديث الواردة في هذا الشأن بصريح اللفظ إنما جاءت بصيغة تدل على كون المراد من رواية الحديث - أصلاً وفرغاً - إنما هو البلاغ الشفهي، الذي يقوم كبيان توضيحي يأخذ منه الناس بقدر ما يحفظون، وتبقى النصوص القرآنية مقدمة كما أنزلت". صاحب المشروع التعسفي مُصِرٌ كل الإصرار على أن كتابة السنة كانت خطأ ويوضح - هنا - سراً جديداً لم يعرفه أحد من قبل. ذلك السر هو: أن كتابة أي شيء معناه: التقديس. والتقديس لا يكون لكلام إلا للقرآن وحده، فكان ينبغي عدم كتابة السنة لئلا تنطبق عليها خصائص التقديس بمجرد أن تكتب"؟! الناس - عامتهم وخاصتهم - يعلمون أن سمات التقديس وخصائصه لها اعتبارات معلومة، وليس منها الكتابة، وأن المقدس مقدس كتب أو لم يكتب، وأن غير المقدسيظل غير مقدس كتب أو لم يكتب. هذا هو ما يعرفه الناس علماء وغير علماء. ولكن صاحب المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية، وهو في الوقت نفسه صاحب المنهاج العلمي الوحيد في تمحيص السنة وعلوم الأولين والآخرين، يفاجئ القراء بمنهج علمي فذ منقطع النظير: * يفرق بين المتساويين كما فرق بين الحفظ الذهني والحفظ التوثيقي، وكلاهما يعاضد الآخر.

* ثم يضيف إلى مصطلحات العلوم والفنون؛ مصطلحاً جديداً مبتكراً لا علم لأحد به: فالكتابة هي مصدر التقديس، وما لا يكتب لا قدسية له. وبناءً على هذا المصطلح فإن خمريات امرئ القيس، وأبي نواس نصوص مقدسة. ولماذا؟ لأنها نصوص مكتوبة. هذا هو المنهج العلمي الصحيح الواعي الذي يستخدمه صاحب المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية؟! * * *

(6) تحري معاني النصوص

(6) تحري معاني النصوص في إطار التعسف العضلى الذي يسود ما لدينا من أعمال المشروع الذي نكشف زيفه في هذه العجالات، نرى صاحبه يعمد إلى نصوص من القرآن، ومن السنة ويتعسف في إخضاعها لمراده الكريه، وهدمه للسنة الشريفة، وهو يزعم بين الحين والحين أنه ينهج نهجاً علمياً صحيحاً مائة في المائة. ولكي يشاركنا القارئ في الحكم على المنهج الذي سلكه صاحب المشروع، وبيان عوره، نسوق المثال الآتي: المثال: هو قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران الآية 144 - 145] هاتان الآيتان نزلتا عقيب غزوة أحد، تنكر على من فر من المسلمين من ميدان القتال، متأثراً بالشائعة التي أطلقت والقتال دائر. بأن محمداً قتل في المعركة، فنزلت الآيتان تنعيان على الذين تأثروا بالشائعة ولاذوا بالفرار. موضحتين أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - بشر ورسول، وهو لابد أن يموت كما مات من قبله من الرسل - عليهم السلام - وقوله تعالى في الآية الأولى:

{انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} تمثيل رائع لما حدث منهم فروا من ميدان القتال، حتى لكأنهم سقطوا فعلاً على أقفائهم هاوين إلى الأرض هرباً من الموت، والموت الذي لا يقربه صمود، ولا يدفعه هروب. هذه مجمل معنى الآيتين، ولكن صاحب المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية، طبق منهاجه العلمي العجيب فاستخراج لنا من الآيتين معنى غريباً كل الغرابة، لا يتصوره من الآيتين جن أو إنس ولا ملك! ؟ المعنى الذي استخرجه صاحب المشروع هل تتصور عزيزي القارء أن صاحب المشروع فهم من قول الله تعالى: {انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} أن المراد: كتابة السنو النبوية، وتدوين الأحاديث، وإشراكها مع القرآن في هداية الأمة!!! وأن هذا تحويل خطير، ونكسة أشار إليها القرآن، وأنها ستحدث بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -؟! ولكي يطمئن القارئ إلى صحة ما نقول نسرد عليه بعضاً من أقوال صاحب المشروع في معنى الآيتين: صاحب المشروع يجزم بأن من التحول الخطير في أوضاع الأمة بعد وفاة النبي، وانقضاء عهد الخلفاء الراشدين؛ هو بدعة كتابة الحديث النبوي، وجعله مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي، وفي ذلك يقول: "وهكذا كان الأمر ... وفي غفلة من التحقيق العلمي القاطع، ونشوة من التقليد "الظني الذائع، قام للحديث المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كيان، وأصبح له مكانه طارئة بجانب قدسية القرآن الكريم".

"وهو وضع شاذ؛ لأن الأمر لم يكن كذلك أيام النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أيام صحابته الأفاضل ولا أيام الخلفاء الراشدين على وجه الخصوص، حيث اكتفت هذه العصور بالقرآن الكريم دستوراً أوحد، لا يشركه أي شيء أخر على الإطلاق"! ويقول: "وهكذا ذاع الأمر، وشيئاً فشيئاً تتابع عليه الأئمة الأربعة. وعلماء كثيرون من بعدهم.... كأنما أمرهم بذلك القرآن الكريم ... وكل ذلك ليس له وجود بأي حال من الأحوال"! ويقول في الحديث عن الفقهاء، والأصوليين، وعلماء الحديث: "قد حاولوا تضليل عوام الأمة بصرفهم عن الحقيقة بأقوال هشة، وآراء واهية، وروايات فاسدة - يعني أحاديث النبي جملة - جعلت الكثير منهم - أي من عوام الأمة - يلتبس عليهم أمرهم - أي أمر علماء الحديث، والفقه، والأصول، - حتى ظنوا بدين الله غير الحق، ووهموا في أحكام الشريعة البينة، فحسبوا أن التقرب إلى الله يكون باتباع الكتاب والحديث معاً، وهو زيادة على الحق، ودعوى بغير دليل، وافتراء على الله رب العالمين"!! * تعقيب: صاحب المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية، أفصح عن مراده من هذا المشروع في هذه الأقوال التي نقلناها عنه، أفصح عن مراده بكل وضوح حيث عدَّ كتابة الحديث نوعاً من التحول الخطير الذي حدث بعد وفاة النبي، وهو التحول الذي حذرت منه - على حد قوله - أيتا آل عمران السابقتان، وحيث جعل اتباع الحديث النبوي مع القرآن زيادة

في الدين، ودعوى بغير دليل، وافتراء على الله رب العالمين. وهنا نقول: إن هذا المشروع التعسفي، وإن كان الظاهر منه هو هدم السنة النبوية، فإنه في الواقع مشروع لهدم الإسلام كله. ذلك لأننا بمقتضى هذا المشروع - إذا أصابتنا لوثته - ينبغي أن نبادر فوراُ إلى: أولاً: إحراق كل كتب الحديث، وفي مقدمتها: كتب البخاري، ومسلم، والترمذي، وأبي داود، وابن حبان، وابن ماجه، وأحمد، والدارمي، وابن خزيمة، والنسائي، والدارقطنى.... إلخ. ثم نحرق شروح هذه الكتب، وما أكثرها. ثانياً: إحراق كتب أصول الفقه، وفي مقدمتها "الرسالة" للإمام الشافعي، و"البرهان" لإمام الحرمين الجويني، و"المحصول" للرازي، و"المستصفى" للغزالي، و"البحر المحيط" للزركشي، و"الأحكام" للآمدى، ونظيره لابن حزم ... إلخ. ثالثاً: إحراق كتب الفقه، وفي مقدمتها: كتاب "الأم" للإمام الشافعي، و"الموطأ" للإمام مالك، ثم "المدونه الكبرى" له أيضاً، و"المغنى" لابن قدامة، و"بدايع الصنائع" للكاسانى، ثم كل ما يتعلق بالفقه الإسلامي مما لا حصر له. والسبب - كما يوضح صاحب المشروع التعسفي - أن هذه الكتب ونظائرها إما قائمة على الحديث النبوي وحده، وهو ليس من الدين في شيء أو أشركت الحديث مع القرآن.!! ويترتب على هذا - لا قدر الله - هدم أركان الإسلام، فلا ندري كيف

نجمع بين الشهادتين، ولا ندري كيف نصلي، ولا كيف نزكي، ولا كيف نؤدي الصيام صحيحاً، ولا كيف نحج ولا نعتمر، ثم تنهدم معالم المعاملات من بيع وشراء، ورهن وحواله، ووكالة وسلم، ومزارعة، ومساقاة، وجعل، وعقود زواج،. . . . إلخ ثم تصبح الأمة في أمس الحاجة إلى رسول جديد يبين لها ما أنزل الله في كتابه. ولكن بشرط أن نأمن من ظهور مشروع تعسفي أخر يحكم على الرسول الجديد بمثل ما حكم به هذا المشروع على هدم سنة خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - وسبحان الله القائل في محكم كتابه الخاتم: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: الآية 71] * * *

(7) نصوص أخرى حرف معناها

(7) نصوص أخرى حُرِّف معناها يخطو صاحب المشروع خطوة تعسفية أخرى في هدم السنة النبوية، فيسرق نصوصاً وَهِمَ كل الوهم في فهمها إن كان فعلاً صاحب منهج علمي صحيح - كما يدعي، أو خاب كل الخيبة في الاستدلال بها على صحة دعواه بأن "الأحاديث المدونة في كتب الصحاح، والمسانيد، والجوامع، والسنن، مكذوبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -...."!! ونذكر للقارئ بعض الأمثلة على "جهل صاحب المشروع الموضوع لهدم السنة النبوية" فضحاً لسوء فهمه، وشناعة عدوانه على مصدر تشريعي ذي شأن عظيم في الإسلام. * فمثلاً: هو يدعي أن القرآن - وحده - يكفي الأمة في الالتزام بطاعة الله في العقائد، والعبادات، والمعاملات، وكل ما يتصل بالعلاقة بين الخالق والمخلوق، وبين الخلق بعضهم ببعض....إلخ. أما السنة كلها أقوالاً، وأفعالاً، وتقريرات، فلا حاجة إليها في حياة المسلمين أفراداً، وجماعات. هذه هي الدعوى، فبم استدل صاحب المشروع عليها؟ هو في الواقع حاطب ليل، يقبض بيده على "الثعبان" يحسبه "خشبة"، وعلى "العقرب" يحسبها "ثمرة"! فأنظر معي في هذا الدليل الذي ذكره:

{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51] هذه الآية أحد أدلته على اعتماد القرآن وحده في كفاية الأمة في مجال التشريع كله، والهداية كلها. ونقول: إن الآية الكريمة في واد، وفهم صاحب المشروع في واد آخر! فتعال ننظر معاً في الآيات التي سبقت هذه الآية في نفس السورة؟ {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 48: 51] المقام الذي وردت فيه هذه الايات هو مقام الحديث عن معجزة صاحب الرسالة - صلى الله عليه وسلم - وهي "القرآن" بلا نزاع، ومع أن القرآن كان معروفاً للمشركين، وهم مقرون بأنه "طراز فريد من البيان". ومع هذا كانوا يتطلعون إلى معجزة غير القرآن تثبت بها صحة الرسالة، فرد الله عليهم هذا الإسراف في العناد، وأشار إلى أن القرآن وحده كاف في إثبات صدق الرسالة: يعني - أن القرآن في مجال الإعجاز هو وحده معجزة كبرى، فكان حرياً بهم - لو كانوا طالبي حق - أن يعتمدوه معجزة تفوق كل المعجزات".

هذا هو المقصود من الآية، أما صاحب المشروع قد جهل أو تجاهل هذا المعنى الواضح وضوح الشمس في رائعة النهار، وحرف معنى الآية وجعلها في غير مقامها الذي وردت فيه، ليضلل من يستطيع من قراء مشروعه بأن المسلمين لا حاجة بهم إلى أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن القرآن وحده يكفيهم!! * مقال ثان ساقه مع تحريف معناه: هو حديث رواه الشيخان: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال" "ليردنَّ عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم - يعني: يوم القيامة - فأقوم: إنهم مني؟!. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاًسحقاً لمن غير بعدي". استدل صاحي المشروع بهذا الحديث على أن الزيادة أو التغير الذي حدث بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - وبسببه حيل بين النبي يوم القيامة وبين الذين زادوا وغيروا؟ هو أمرآن: الأول: رواية أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وتدوينها. الثاني: اعتماد السنة مصدراً ثانياً في التشريع بعد القرآن. مع أن المسلمين ليسوا بحاجة إليها لا من قريب ولا من بعيد!! وهذا الذي زعمه صاحب المشروع "رجس من عمل الشيطان". ولو كان الأمر كما قال - وما أكذب ما قال - لكان جميع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجميع التابعين، وتابعيهم، وتابعي تابعيهم، مغضوباً عليهم من الله، ومدعوا عليهم بالهلاك من الرسول نفسه؛ "سحقاً سحقاً لمن غير بعدب" لأن رجال القرون الثلاثة الأولى هم الذين رووا للأجيال سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم الذين جمعوها في الكتب، وهم الذين دافعوا عنها ونقوها من الشوائب.

ولن يقف الأمر عند هذا الحد، بل سيدخل في الغضب الإلهي وفي دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالهلاك، جميع علماء الأمة من بعد الصحابة، والتابعين، بجميع طبقاتهم، وجميع الذين اقتدوا بالأحاديث النبوية مع القرآن! وجريمتهم التي اقترفوها عند صاحب المشروع - الشيطاني اللعين هي الجمع بين القرآن والأحاديث النبوية في الإيمان بهما مصدرين للتشريع، وفي العمل بهما في شئون الدنيا والدين! وإذا كان هؤلاء جميعاً مغضوباً عليهم وهالكين، فيا ترى: من سيبقى ناجياً من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -؟! ومن الذي سيبعث مع محمد - صلى الله عليه وسلم - يمثل الأمة يوم يبعث الأنبياء مع أممهم؟! ما هو الجواب على هذا التساؤل عزيزي القارئ؟ الجواب: بكل وضوح - هو صاحب المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية، هو وحده سيكون أمة الإسلام يوم القيامة! وبهذا السخف واهراء يكون نوح (عليه السلام) أكثر اتباعاً من خاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم -، لأن نوحاً أمن به ثمانون تابعاً، أما خاتم الأنبياء فلم يؤمن به إلا رجل "فذ" واحد هو صاحب المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية! ويا ترى: من منا يسره أن يؤمن كما أمن هذا الرجل الفذ، الذي أوتى علم الأولين والآخرين؟ من؟ من؟ - لا أحد - إن دلالة هذا الحديث أبعد من هذا السخف الذي هرف به صاحب المشروع كبعد السماء من الأرض. فدلالته هي: التحذير من الابتداع في العقائد، والعبادات، والمعاملات،

والأخلاق، وما أكثرها في دنيا الناس، بل إن مشروع هذا الدعي من أضل البدع وأشنعها، والتي جاء الوعيد الشديد لفاعليها في هذا الحديث النبوي المتفق عليه عند تاشيخين الجليلين الورعين: البخاري ومسلم (رضى الله عنهما) . * مثال ثالث: معروف عند علماء الحديث أن البخاري - رضي الله عنه - كان يحفظ ستمائة ألف حديث. وأنه لم يدون منها في "صحيحه" سوى أربعة آلاف حديث غير المكرر. ومعروف أن البخاري لم يكن يكتب في اليوم الواحد غير حديثين، وأن الزمن الذي استغرقه في تدوين الأربعة الاف حديث بلغ ست عشرة سنة كاملة، لأنه كان يثبت بكل دقة فيما يكتب، واكتفاءه بهذا القدر الضئيل (أربعة ألاف حديث) بالنسبة لما كان يحفظ يرجع إلى سببين: الأول: شدة التحري في تدوين الحديث الثاني: عد الإطالة التي تحتاج إلى وقت فير متاح. وهذا هو الحق المشهود به عند العلماء، أما صاحب المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية، فيفسر سلوك البخاري الذي قدمناه بقوله: "لم يكن يصح في نظر البخاري إلا حديث واحد من بين مائتين وخمسين حديثاً. وتلك ظاهرة خطيرة كانت تحتم على كل منصف عدم كتابة الحديث على الإطلاق"! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} . [الكهف: 5] * * *

(8) مهمة النبي عند صاحب المشروع

(8) مهمة النبي عند صاحب المشروع الهدف المقصود أولاً وبالذات لصاحب هذا المشروع هو إزاحة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ساحة المسلمين، وإذا قلنا أن الهدف هو إعدام السنة النبوية تماماً كنا صادقين تمام الصدق ذلك هو هدف صاحب المشروع، ومن تتاح له فرصة الإطلاع على هذا المشروع لا يخالجه أدنى شك فيما قلناه. ولما كان هذا مطلباً بعيد المنال فإنه يمهد له بمقدمات ضافية استغرقت الجزء الأول كله، فصب جام غضبه على السنة النبوية سنداً ومتناً، ووصف روأة الحديث، وجامعية، وعلماء الأصول، والفقه، بالكذب، والخيانة" وتضليل الأمة، والذي ذكرناه في الحلقات السبع الماضية غيض من فيض مما حواه الجزء الأول من هذا المشروع الخبيث. وصاحب المشروع يناور أحياناً حتى لا توجه إليه نهمه "إنكار السنة النبوية" تماماً من ألفها إلى يائها، لذلك تراه هويلة يقر بمقدار ضئيل من الأحاديث، منها: أحاديث رأها توافق هواه، كحديث النهي عن كتابة السنة، أما بقية الأحاديث التي يقرها فهي عنده أشبه ما تكون بجثث "محنطة" لا روح فيها. أما أن يكون للحديث النبوي دور في التشريع، أو في هداية الأمة، فهذا عمىّ وضلال، مدعياً أن القرآن وحده هو مصدر التشريع الوحيد للأمة! وفي ذلك يقول: "ذلك أن في القرآن الكريم وحده الكفاية كل الكفاية للأمة الإسلامية، ولغيرها من جميع الوجوه كما قال سبحانه: "أو لم

يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم" وقد بينا من قبل خطأ الاستدلال بهذه الآية". أما مهمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند خذا "المهووس"! فقد اقتصرت هدايته للمسلمين، على تلاوة واتباع القرآن الكريم. وهذا هو أساس الدسن، وأصل التشريع، والمنهاج الحق، والدستور القويم"!! - يعني - أن مهمة الرسول - عند هذا الضال - هي أن يبدأ تلاوة القرآن بـ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" ثم يختمها بـ "صدق الله العظيم" وإذا ما تكلام صاحب المشروع على الرسول فإنه يسمح له بتفسير القرآن فقط، ومع هذا التكرم "الحاتميط من صاحب المشروع على سيد ولد آدم فإنه ينسف ما تكرم به فيقول: "لا تصدقوا أن ما في كتب الحديث المعتمدة كلها هي كلام رسول الله.؛ لا. إنما هي أقوال رجال، نقلت عبر أجيال من خلال أناس كثيرين غير معصومين، يخطئون ويصيبون، وينسون ويذكرون، ويفرحون ويغضبون، وهذا النقل كان بعد مائتي سنة من وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -"!! ومعنى هذا الكلام - بكل وضوح - أن الأمة الإسلامية لم يصلها من كلام رسول - صلى الله عليه وسلم - شيء على الإطلاق، ولذلك فإن صاحب المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية يسخر من العلماء حين يقولون: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويرميهم بالكذب، والإفتراء على خاتم الأنبياء! أليس هذا هدماً حقيقياً لا مبالغة فيه لسنة من أرسله الله للناس كافة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً؟! إن المبشرين والمستشرقين الحاقدين على صاحب الرسالة الخاتمة، لم

يبلغوا عشر معشار لجاجة هذا الرجل، وقبح بهتانه على الإسلام، وكتاب الإسلام، ورسول الإسلام. والقارئ الكريم الذي صحبنا في هذه الحلقات، قد يظن أن صاحب المشروع هذا ينقد بعضاً من الأحاديث ويترك بعضاً - وإن أدعىهو ذلك وهذا الظن مدفوع - لأن الرجل يفصح - بكل صراحة ووقاحة - أنه يريد هدم السنة النبوية كلها، مهما بلغت من الصحة والحسن، وفي ذلك يقول بالحرف: "إننا تحب أن نؤكد أخيراً - كمت قلنا قبل ذلك - أننا لم نقصد بنقدنا للحديث المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما هو معمول به عند فرقة بعينها من فرق المسلمين، كأهل السنة، أو الشيعة، أو غيرهما. وإنما نحن نقصد بذلك رواية الحديث على العموم! ولو كانت عند كل فرق المسلمين جميعاً، لأننا نناقش المسألة من حيث المبدأ، وليس من حيث التخصيص، أو التعيين، قاصدين من وراء ذلك أن نبين أن أدلة الأحكام، ليست إلا القرآن الكريم، وليس لأيو رواية - مهما صحت - من روايات الحديث"!! واضح من كلامه هذا أنه ينكر السنة النبوية تماماً، ويحاول جاهعهداً أن يمحو أثرها من واقع المسلمين، بل ومن كونها المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي! السنة كالتوارة المحرفة! وقد علم - مما سبق - أن صاحب المشروع لا يؤمن بأي حديث من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك فالأحاديث عنده مثل التوارة المحرفة التي هي بحوزة اليهود الآن، وهذا ليس افتراء منا على صاحب المشروع، بل هو كلامه

بلفظه ومعناه، وها نحن ننقلع بكل أمانه: "ولذلك فإننا ننبه إلى أننا أوردنا حديثاً في كلامنا، فإنما نورده لنقيم به الحجة على الخصم الذي يأخذ - يعني "يؤمن" - به، وليس لآنه عندنا مما تثبت به الأحكام، فإن رد المجادل إلى ما يؤمن به هو أدعى إلى ظهور الحق من رده إلى ما لا يؤمن به، وتلد قاعدة شرعية وعقلية ثابتة عند سائر العقلاء من الناس دون استثناء. "وهي في الأحكام الشرعية، كما نحتج على أهل التوراة بالتوراة التي بين أيديهم، وعلى أهل الإنجيل بالإنجيل الذي هو معهم ... "!! أيها القارئ الكريم: هل بقى لديك أدنى شك في خبث هذا المشروع وصاحبه، بعد أن تأكد لك من كلامه أنه ينكر السنة النبوية كلها، بل يريد هدمها من أساسها، وهدم السنة معناه هدم للإسلام؟! ثم يقول كاشفاً لقراء مشروعه عن خبث طويته: "وهذا ما يشرح للقارئ سبب إيرادنا لبعض الأحاديث ... ثم عودتنا بعد ذلك لنقده أو رفض متنه والحكم عليه بالفساد"! - يعني - أنه لا يؤمن بأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يضطر لذكر بعضها جدلاً ومماحة، وهو إن ذكرها في موضع بلا نقد، عا في موضع أخر فنقدها، وحكم عليها بالفساد. وقد يدهشك - عزيزي القارئ - إذا قلت لك: إن صاحب هذا المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية، أستاذ في إحدى جامعاتنا المصرية يعمل في بعض فروع الطب البيطري؟!. * * *

(9) تساؤلات وإجابات

(9) تساؤلات وإجابات رأينا - فيما تقدم - إلى أي مدى يمقت صاحب هذا المشروع سنة خاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم -، ومدى توهمه أن بين القرآن والسنة عداءّ، وخصومة، وتنافراً، فراح يزب عن القرآن ويحميه من جور السنة. وقد علمت أن فريقاً من جهلة الشباب وقعوا فريسة لأضاليله؛ فهم لا يقولون - كما يقول المسلمون -: - صلى الله عليه وسلم - وينكرون الشفاعة العظمى؛ لأنها لم ترد في القرآن؛ بل وردت في السنة: والسنة عند صاحب المشروع ومن اتخدع به؛ هي مجموعة من الافتراءات والأكاذيب؛ قالها أقوام غير أمناء؛ ولم يقلها النبي - صلى الله عليه وسلم -. كما علمنا - أيضاً - أن صاحب المشروع لا يطرح مشروعه في المكتبات العامة؛ ولكن يتصرف فيه بمعرفته هو وحده؛ يعطيه أو يبيعه لمن يثق هو فيه؛ أو لمن يزكيه واحد ممن يثق هو فيهم، وهذه خطة ماكرة، وكأن صاحب المشروع يريد أم يُكَون له "حزب شيطاني" في الظلام، فإذا كثر اتباعه، وقويت شوكتهم، فلا بأس من الجهر والإعلام به ورفع راية الجهاد في سبيل الله؟!. وفي هذه الحلقة نطرح بعض التساؤلات؛ ثم نجيب عليها في إيجاز؛ تطويقاً لهذه "السموم"؛ التي يصنعها هذا الرجل الغريب الأطوار. صاحب المشروع يدعو الأمة إلى طاعة الله وفق ما جاء في القرآن وحده، ويحذرها من اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. هذا هو هدف المشروع. وبناءً عليه

نسأل هذا السؤال: هل صاحب المشروع مطبع لله وفق ما جاء في القرآن وحده؟ والجواب - بكل اختصار - لا. فليس هو بطائع لله وفق ما جاء في القرآن - كما يروج في مشروعه - وهذا للأسباب الآتية: 1- قوله تعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] نادى الله المؤمنين من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأمرهم بطاعته، وطاعة رسوله مع تكرار فعل الأمر {أَطِيعُوا اللَّهَ} و {أَطِيعُوا الرَّسُولَ} وطاعة الرسول تكون بأمرين: الأول - اتباع القرآن الذي نزل عليه نزل. الثاني: اتباع هديه المتمثل في أقواله، وأفعاله، وتقريراته، المتصلة بالدعوة والتبليغ. ثم أمر الأمة لأمراً ضمنياً مندرجاً في طاعة الله، وطاعة رسوله؛ وهو: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ولك أن تسأل: لماذا أفرد الله طاعة رسوله بعد طاعته هو، ثم أدرج طاعة أولي الأمر ولم يفردها، فهم لم يقل: "وأطيعوا أولي الأمر منكم". والجواب: إن طاعة الرسول طاعة مطلقة، لأنه لم يدع إلا إلى ما أمر الله تعالى به؛ أو نهى هنه؛ فهم معصوم من الأخطاء. والأهواء؛ في مقام التبليغ عن

ربه جل وعلا {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 2 - 3] أما أولو الأمر - امراء وعلماء - فليسوا معصومين، لذلك أدرج الله طاعتهم وفي طاعة رسوله، فإذا أمروا أو نهوا بغير ما أنزل الله وقال رسوله، فلا طاعة لهم، وفي ذلك يقول - صلى الله عليه وسلم -: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". وبهذا يتبين أن صاحب المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية، حين رفض طاعة رسول الله، رفض في الوقت نفسه طاعة الله وفق ما جاء في القرآن الذي يتشدق بحبه، ويتظاهر بعطفه عليه! ولو كان طائعاً لله لأطاع رسوله - صلى الله عليه وسلم - {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} . 2- وقال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] والرسول لم يؤتنا القرآن وحده، وإنما أتانا القرآن والسنة معاً، كما قال هو - صلى الله عليه وسلم -. "أتيت القرآن ومثله معه"، والأمة الراشدة أخذت في كل عصورها، حتى في عصور ضعفها، ما أتاها به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كتاب وسنة، تنفيذاً لأمر ربها جل وعلا. أما صاحب المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية فقد رفض أخذ الإثنين معاً: رفض السنة، فرفض القرآن الآمر بأخذها، فليس هو بطائع لله، ولا وفق السنة، لأنه يرفضها، ولا وفق القرآن، لأنه رفض ما أمر به القرآن، وما نهى عنه، فلم ينته عما نهى عنه ىالقرآن، ولم يمتثل بما أمر به القرآن، "وذلك هو الخسران المبين".

3 قوله الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] فالله سبحانه وتعالى قضى في كتابه العزيز أمراً، وهو طلعته جل وعلا وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ورسوله قضى الأمر نفسه الذي قضاه الله، فدعي إلى طاعة الله، وإلى طاعته هو نفسه فيما يبلغ عن الله، سواء كان المبلغ به قرآناً، أو سنة. وصاحب المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية يزعم أنه يتبع ما قضي الله تعالى به. وهذا خطأ ووهم. لأنه رفض ما قضي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما هو تصنيفه حسب هذه الآية؟ هو بلا نزاع داخل في الضلال المبين {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} لأنه ليس قاضياً بما قضى به الله، ولا بما قضى به رسول الله، وتلك هي المعصية التي يتصف مرتكبها - حسب دلالة الآية القطعية - بـ "الضلال المبين". 4- وقال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] في هذه الآية الكريمة يحدد الله لعباده المؤمنين من أمة سيد المرسلين وخاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - إذا اختلفوا في شيء ما، يحدد لهم طريقين أو مرجعين لحسم النزاع:

الأول - ما أنزل الله في كتابه العزيز وهو "القرآن" المصدر الأول للهداية والتشريع في الإسلام. الثاني: فإذا لم نجد في كتاب الله تعالى حكماً فاصلاً في المسائل المتنازع فيها انتقلنا إلي "سنة النبي" - صلى الله عليه وسلم - وهي المصدر الثاني للهداية والتشريع في الإسلام. و"السنة" أخذاً بدلالة هذه الآية الحكيمة المحكمة، ركن ركين من أركان الإسلام، إعتقاداً، وتشريعاً، وتطبيقاً، وطاعة، وصاحب المشروع الذي يتظاهر بالعوة إلى العمل بالقرآن، في الوقت نفسه يرفض سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبالتالي يترتب على هذا رفضه للعمل بالقرآن، لأنه رفض السنة التي أمر بالرجوع إليها القرآن، فلا هو بالقرآن عامل، ولا لربه مطيع فكيف يتحمس للعوة للعمل بالقرآن، ولطاعة الله وفق ما جاء في القرآن وهو من الذين جعلوا القرآن "عضين" يؤمنون ببعضه، ويكفرون ببعض؟! إنه ليس بتابع للقرآن، ولا بتابع للسنة، ولا بتابع لهما معاً. 5- وقال جل شأنه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] في هذه الآية الحكيمة المحكمة يقسم الله بذاته العلية أن قوماً لا يرتضون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكماً عدلاً بينهم، ولا يرضون الرضا القلبي الخالص بكل حكم يحكم به، أو قضاء يقضيه، أو قول يبلغه فإن هؤلاء القوم لا يكونون مؤمنين.

ولا فرق بين أن يحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحكم نزل به القرآن، أو حكم صدر عنه بقول من عنده باعتباره رسولاً مأذوناً له بالحديث عن الله جل وعلا. ولا فرق بين هذا ولا ذاك، لأنه في مقام التبليغ، وفي مقام تقرير الأحكام الشرعية معصوم عن الخطأ، كما قال هو - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمرو بن العاص: "أكتب عني، فوالذي نفسي بيده لا يخرج من فمي إلا الحق". ولو كان المقصود من الاية الحكم بما في القرآن وحده لقيل: "حتى يحكموك بالقرآن فيما شجر بينهم". ولما خلت الآية من هذا القيد صارت دلالتها العموم الشامل للقرآن الكريم، وللسنة النبوية الشريفة. وصاحب المشروع لا يعترف بالسنة مطلقاً، وإن راوغ في بعض المواضع، فضلاً عن أن يؤمن بها مصدراً للتشريع فهل هو بذلك طائع لله - كما يدعي - وفق ما جاء به القرآن؟! تأمل عزيزي القارئ - ثم أحكم. * * *

(10) أدلة الأحكام المتفق عليها

(10) أدلة الأحكام المتفق عليها وفقنا في الحلقة السابقة على صور من المخالفات القطعية الصارخة، التي وقع فيها صاحب المشروع بالنسبة للقرآن نفسه، الذي يزعم أنه المصدر "الأوحد" في الهداية والتشريع. ثم رفضه للسنة النبوية رفضاً كلياً، ووصفه للأحاديث التي رواهاى الصحابة، ونقلها عنهم التابعون - بكل طبقاتهم - بأنها خرافات وأكاذيب!! وفي هذه الحلقة نكشف - بعون الله تعالى - عن وجه أخر قبيح كل القبح لهذا المشروع الرامي لهدم الإسلام كله، وليس هدم السنة النبوية وحدها. الخروج عن إجماع الأمة: لقد خرج هذا المشروع على إجماع كل طوائف الأمة، خاتصتها وعامتها، وش عن النهج السوي الذي سارت عليه الأمة سلفاً وخلفاً. فسلف الأمة وخلفها بعد تقديمهم القرآن على كل ما عداه في الهداية والتشريع، أفسحوا صدورهم ببشاشة الإيمان، وسماحة الإسلام، ومرونة أصول الأحكام، فاتفقوا على أن "أدلة الأحكام" في الشريعة الإسلامية هي الأصول الأربعة على هذا الترتيب: الأصل الأول - (الكتاب) : والمراد بعه "القرآن العظيم"، وهو مصدر كل المصادر، وبه يبدأُ، ولا يلتفت إلى غيره إذا ظفرت الأمة بحاجتها فيه.

الأصل الثاني - (السنة) : وهي كل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أقواله، وأفعاله، وتقريراته، فيما يتصل بالبلاغ والتشريع. وهي مقدمة على ما بعدها، تالية لما قبلها (وهو الكتاب) في المرتبة والعمل. وإذا وجدنا فيها الحكم الذي نبغيه، فلا ناتفت إلى شيء بعدها. الأصل الثالث - (الإجماع) : وهو اتفاق علماء المسلمين في أي عصر من العصور على حكم شرعي في مسألة ما، حيث لا يعرف لهم مخالف، فيصير هذا الإجماع مصدراً من مصادر التشريع. والدليل على هذا آية من القرآن، وحديث من السنة: - أما الآية فهي قول الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] فقوله {سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} هو الإجماع. - وأما الحديث فهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" وله نظائر أخرى من لفطه وبمعناه تعاضده وتقويه.

الأصل الرابع - (القياس) : وهو مصدر مرن يمكن أن نطلق عليه "ميزان الطوارئ" أي ما يطرأ في الحياة من وقائع ليس لها حكم معين، لا في الكتاب، ولا في السنة، ولا في الإجماع. وطريق معرفة حكمها هو الإجتهاد عن طريق القياس، فيبحث المجتهدون عن أشباه ونظائر لها ويقيسون حكمها عليها، فإذا أتحدث علة الحكم في السابق واللاحق حكم للاحق بحكم السابق. * وللقياس ضوابط شتى نختار منها هذا الضابط. "القياس: _ هو حمل مجهول على معلوم لاشتراكه في علة حكمه" وهذا القياس وقع في عصر النبوة على لسان النبي نفسه، وفي عصر الخلفاء الراشدين، وفي العصور التالية، وله مبحث مهم عند علماء "أصول الفقه" لم يخل منه كتاب من كتبهم، ثم عند الفقهاء في مجال العمل والتطبيق واستباط الأحكام. وكل قياس لابد له من سندٍ شرعي من كتاب أو سنة أو إجماع. هذه الأصول الأربعة قد أجمع عليها علماء الأمة، ولم يشذ عنها أحد، اللهم إلا القياس ففيه خلاف لا يعتد به. وتسمى هذه المصادر الأربعة - عند الأصوليين - بـ "أدلة الأحكام المتفق عليها". فإذا عدنا إلى صاحب المشروع وجدناه قد خرق هذا الإجماع خرقاً شنيعاً، حيث لم يعترف بثلاثة مصادر تشريعية مجمع عليها وهي: _

* السنة المطهرة. * الإجماع القائم. * القياس المؤسس على سند شرعي. وهذا ما حدث منه الآية الكريمة الحكيمة: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115] فهو قد شاقق الرسول فرفض السنة ورفض الإجماع وهو سبيل المؤمنين ورفض القياس وهو معتمد عند الرسول وأصحابه والمؤمنين جميعاً وصاحب المشروع حر - في الدنيا- فيما يعتقد، أما أن يفرض أخطاءه، وأوهامه، وأضاليله على الأمة، فيقدم لها هذا المشروع بقصد تبصيرها - كما يدعى - فهذا يجب أن يحاصر ويقاوم، ويقضي على هذه الفتنة فتوأد في مهدها. صورة أخرى للخروج: إذا كان صاحب المشروع قد خرق الإجماع القائم بين علماء الأمة سلفاً وخلفاً بإعدامه ثلاثة أصول تشريعية قام الإجماع عليها، فإن له صورة أخرى خرج فيها عن منهاج المسلمين. فهو مع إنكاره مصادر التشريع الثلاثة المجمع عليها أنكر أيضاً مصادر أخرى للتشريع. وذلك أن علماء الأمة واجهوا مستجدات الحياة، وهي في ازدياد جيلاً لعد جيل، واجهوها بمناهج تشريعية أخرى مستعدة أساساً من القرآن الكريم، والسنة المطهرة، ومقاصد الإسلام

المتفق عليها، وبتلك المناهج ظهرت مرونة الشريعة الإسلامية، وصلاحها - فعلاً - لكل زمانٍ ومكانٍ. وهذه المكناهج تسمى بـ: "أدلة الأحكام المختلف فيها" أي أن الفقهاء توزعوها فمنهم من يرى العمل بطائفة منها ويرد الطائفة الأخرى، ولكنها معمول بها كلها عند مجموعهم، وهي في إيجاز: (الاستحسان - الاستصحاب - المصالح المرسلة - سد الذرائع - شرع من قبلنا - قول الصحابى - عمل أهل المدينة - العرف والعادة) هذه المناهج أو المصادر قد ساعدت على تطويق كل ما يجد في الحياة، وللعمل بها شروط - عند الأصوليين -، وكلها تستند إلى النصوص والمقاصد الشرعية، فمثلاً: عمل أهل المدينة من أدلة الأحكام عن الإمام مالك - رحمه الله -، وعمل أهل المدينة المستمر إذا تعارض مع حديث أحاد قدم العمل به على العمل بالحديث. وحجة الإمام مالك في ذلك: أن أهل المدينة عايشوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، وهم أحفظ من غيرهم للسنن العملية وسلوك النبي في حياته. وتقديم السنة العملية على السنة القولية إذا تعارضت السنتان أرجح، لجواز أن تكون ناسخة للحديث القولي. ومثلاً أخر: أن قول الصحابي يتعين الأخذ به عند الإمام الشافعي - رحمه الله - إذا لم يعرف له مخالف من أدلة الشرع. هذه السياحة الواسعة في مجال التشريع، يحاول صاحب المشروع أن يقلصها أو يقضي عليها تماماً، وهو بهذا ينسف جهود مليون عالم مسلم، على مدى أربعة عشر قرناً من الزمان، ويزج بالأمة إلى الضيق والحرج، وهو يتبع غير سبيل المؤمنين. * * *

(11) أدلة الأحكام من القرآن

(11) أدلة الأحكام من القرآن يهدف المشروع - كما تقدم - إلى هدم السنة النبوية جملة وتفصيلاً، وهدم السنة وهي المصدر الثاني في التشريع الإسلامي، توطئة لهدم كل الأدلة الأحكام؛ سواء كانت متفقاً عليها؛ كالإجماع، والقياس؛ أو مختلفاً فيها اختلافاً نسبياً: كسد الذرائع؛ والاستحسان؛ والمصالح المرسلة؛ والاستصحاب؛ وشرع من قبلنا؛ وعمل أهل المدينة - في حياة الرسول وبعدها - عند الإمام مالك خاصة. هذه دعوى ماكرة؛ وإن طلاها مروجها بالعسل؛ متدثراً بدعوى الاكتفاء بالقرآن؛ وهي كلمة حق أريد بها باطل؛ درى صاحب المشروع أم لم يدر. وهو في هذه الدعوى مخالف للقرآن؛ مشاق لرسول الإسلام؛ متبع غير سبيل المؤمنين. لأن أدلة الأحكام كلها - المتفق عليها؛ والمختلف فيها - أسلاك مضيئة؛ تستمد ضوءها من القرآن؛ ولا تخرج عنه؛ ولا عن هداه؛ وكليات أوامره؛ ونواهيه؛ وتوجيهاته؛ هي المرجع الذي لا محيد عنه في كل دليل من أدلة الأحكام؛ وتوجيهاته؛ هي المرجع الذي لا محيد عنه في كل دليل من أدلة الأحكام؛ والقرآن نفسه هو الذي دل عليها؛ أو أوما إليها؛ ولا يوجد دليل منها ليس له بالقرآن صلة. السنة عند علماء الأمة: العمل بالسنة النبوية وهي المصدر الثاني للتشريع في الإسلام، دل على العمل بها القرآن في آيتين آمرتين لا نزاع فيهما:

الآية الأولى: قول الله تعالى: {. . . فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] . فلا خلاف بين العلماء في أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه العزيز - القرآن - فهو أصل الأصول في الإسلام، ويجب الرجوع إليه عند الخلاف. أما الآية الثانية فهي قوله تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] أما الإجماع فدليله من القرآن هو قوله تعالى {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] . ودليله من السنة: هو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجتمع أمتي على ضلالة". فالإجماع أصل من أصول التشريع الإسلامي، وليس معنى كونه أصلاً أن يكون مستقلاً بنفسه بل لابد له من سند من الكتاب أو السنة. أما القياس: فهو النوع الرابع من أدلة الأحكام المتفق عليها، وهو حجة عند علماء الشريعة، ودليله من القرآن - كما ذكر العلماء - قول الله تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] . ونحن نضيف إلى هذه الآية آية أخرى من سورة النساء أيضاً، آخذين فيها بالقاعدة الأصولية: "العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب" وهي قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى

الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [سورة النساء: 83] . فاللجوء عند احتدام المشكلات يكون إلى أهل الذكر؛ وهو قادرون - بتوفيق الله - "بعد البحث والنظر" على فهم وعلم ما الأمة في حاجة إليه. كما نضيف آية ثالثة، وهي قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] . والمشاورة اجتهاد، والاجتهاد بحث للوصول إلى الحق ولو بغلبة الظن والترجيح، وطريقة القياس. سد الذرائع: إن علماءنا الأفذاذ البررة لم يبتدعوا شيئاً ليس له صلة بالقرآن، بل كل ما توصلوا إليه من أدلة الأحكام قبسات منيرة من أضواء القرآن الوهاجة. وقد عرضنا - فيما سبق - أدلة الأحكام المتفق عليها عند علماء الأمة، وبينا أخطاء وأوهام صاحب المشروع التعسفي في إنكاره لهذه الأدلة. وها نحن نبين أخطاءه في هدم الأدلة المختلف فيها. وقد ذكرنا هنا سد الذرائع للتنبيه على ما يحمله المشروع التعسفي من دعاوى ماكرة ليس لها وجه من الصواب. فـ "الذريعة" هي الوسيلة إلى الشيء، والمراد من "سدها" عند العلماء غلقها وتعطيلها إذا كانت تؤدي إلى مفسدة أو ضرر. وهي من الأدلة المختلف فيها:

- فالمالكية، والحنابلة: يتوسعون في العمل بسد الذرائع. - والحنفية، والشافعية: يضيقون العمل بها. وسد الذرائع معناه: إغلاق المنافذ التي يترتب عليها مفسدة أو ضرر، وبيان ذلك في إيجاز: * رجل أشاد عمارة لتأجير وحداتها. فعل يجوز له أن يؤجر "محلاً" لرجل علم أنه يبيع فيه الخمور ويتاجر في المحظور شرعاً وقانوناً؟ الجواب: أن الأصل في التأجير الإباحة. لكن لما كان هذا التأجير طريقاً للضرر والإفساد، فإن الفقهاء يحرمونه، وهم هنا يحكمون على الوسيلة بحكم الغاية منها. * تاجر سلاح جاءه نفر يشترون منه أسلحة، ولكنه علم أنهم سيقطعون الطريق بهذا السلاح، ويعتدون به على الأبرياء، وينتهكون الأعراض. فهل يجوز له أن يبيعهم السلاح؟ الجواب: أن البيع في الأصل مباح. ولكنه لما كان وسيلة إلى محرم، فإن الفقهاء - بإعمال سد الذرائع - يجعلون هذا البيع حراماً، لأنه سيكون وسيلة للحرام. فانظر إلى سعة أفق شريعتنا الطاهرة، وإلى صلاحيتها لاستيعاب كل ما يحتاج إليه الأمة لتحقيق سلامتها وأمنها، وملاحقة كل التصرفات، وإخضاعها للتوجيه السامي، المنبثق من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى طرافة هذا المبدأ "سد الذرائع" فإن العلماء التمسوا لشريعته دليلاً من القرآن الحكيم.

فوجدوه - بفضل الله تعالى ومنه - في قوله سبحانه: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ. . . .} [الأنعام: 108] . نهى الله المؤمنين أن يسبوا أصنام المشركين: لا لأن سب الأصنام حرام؛ ولكن لأنه وسيلة ينقذ منها المشركون إلى سب الله سبحانه. وأزن بين سعة أفق هؤلاء العلماء، وبين ضيق أفق صاحب المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية. ثم أحكم على المشروع وصاحبه، بما يحكم به على كل من يشق عصى الطاعة ويحارب الله ورسوله والمؤمنين. * * *

(12) عرضنا - فيما سبق - وضع، السنة ومكانتها الرفيعة عند علماء الأمة

(12) عرضنا - فيما سبق - وضع، السنة ومكانتها الرفيعة عند علماء الأمة، وعرفنا كيف احتفوا بها؛ وأنزلوها حيث أمرهم الله، فكانت عندهم هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، الملتئمة مع القرآن تمام الإلتئام. كان القرآن والسنة مزيجاً من العداية والنور؛ يكونان شيئاً واحداً هو دين الله عز وجل، كما يتكون الماء الذي جعله الله سبباً للحياة ونمائها من عنصري الهيدروجين والأكسوجين، لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، مادام الدين هو الدين، والماء هو الماء. ونريد أن نوجز الحديث الآن عن السنة ودورها العظيم المبارك في حياة الأمة العملية بعد أن بينا مكانتها عند علماء الأمة. السنة في حياة الأمة: احتياج المسلم في حياته اليومية إلى العمل بسنة الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - أشد من احتياجه إلى الماء والهواء، في كل ما يفعل لدنياه ودينه. وفي السطور الآتية نماذج سريعة للعمل بالسنة في مختلف المجالات: الطهارة: اشترط القرآن لقربان الصلاة "الطهارة" ولكنه لم يفصل أحوال تلك الطهارة بعد الإشارة إلى الماء والتراب أداتين للتطهر، "الماء" أصل، و"التراب" -

الصعيد الطيب - بدل من ذلك الأصل، فجاءت السنة وبينت أن المطلوب تطهيره هو ثلاثة أشياء: البدن والتوب والمكان. كما أن القرآن لم يبين الماء الذي تصح به الطهارة الشرعية، فبينته السنة بأنه الذي لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة وهي: الطعم واللون والرائحة كما وضحت السنة متى يتنجس الماء؛ ومتى لا يتنجس. ولم يبين القرآن حدود الأجزاء التي يجب غسلها أو مسحها بالماء في الوضوء، وتكفلت السنة ببيان ذلك كله. والقرآن لم يذكر إلا سبباً واحداً لاستعمال التراب في الطهارة "التيمم" ذلك السبب هو: فقد الماء. والسنة أضافت سببين - وهما: وجود الماء مع عدم القدرة على استعماله؛ أو شدة الحاجة إليه. أو أدى استعمال الماء إلى زيادة مرض؛ أو تأخر الشفاء منه. الصلاة: ليس في القرآن إلا الأمر بإقامة الصلاة؛ والثناء على الذين يقيمونها. أما كيف ندخل في الصلاة؛ وكيف نركع؛ وكيف نسجد؟ وما هي الصلوات المفروضة وغير المفروضة؛ وبداية ونهاية كل فرض منها زمنياً؟ وماذا نقرأ وجوباً فيها واختياراً؛ وماذا نقول في حالتي الركوع والسجود والجلوس الأوسط والأخير؟ وما الذي تصير به الصلاة صحيحة؛ وما الذي يبطلها؟ وكم عدد الركعات في كل فرض؟ وكيفية القراءة في الصلوات النهارية والليلية؟ وما هي أركان الصلاة وسننها ومندوباتها ومكروهاتها؟ كل ذلك ليس له تفصيل

في القرآن. وسكون القرآن عن بيان هذه الأمور ليس عجزاً؛ بل لحكمة يعرفها من شرح الله صدره للإسلام. فجاءت السنة وأوضحت ذلك كله. فقالت لنا السنة؛ الدخول في الصلاة يكون بـ"التكبير"؛ والخروج منها يكون بـ"التسليم" والقراءة الواجبة هي "أم الكتاب (الفاتحة) "؛ والقراءة الاختيارية هي أي سورة من سور القرآن، أو بضع آيات؛ أو آية واحدة كاملة المعنى. ثم أجابت عن كل التساؤلات المتعلقة بالصلاة سواء التي ذكرناها والتي لم نذكرها. وبينت ما أجعل في القرآن من مثل قوله: "أركعوا واسجدوا" وإن الركوع هو - الإنحناء الذي يشبه خطين يصنفان زاوية مستقيمة يسوي فيها الراكع ظهره بصلبه غير منكس الرأس ولا شاخصه، وأن السجود يكون بلصق سبعة أعضاء على الأرض: الجبهة، واليدان؛ والركبتان؛ والرجلان. وأن في كل ركعة سجدتين. ونسأل صاحب المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية؛ كيف نستخرج هذه الدقائق الخفية من القرآن؟ وهل بين تفصيل السنة لها وبين القرآن عداوة وجفاء؟ إن السنة ما هي إلا إمتداد للقرآن. تبين إذا أبهم، وتفصل إذا أجمل، وتتكلم إذا سكت. ولا يفيد صاحب المشروع التعسفي أن يقول أن الصلاة ركن عملي؛ تكفي فيه حكاية الأفعال؛ لأن هذا الركن العملي له فقه قولي: رواه الثقات من

الرجال؛ ونقلوه لنا بأمانة؛ مثل قوله (عليه الصلاة والسلام) ؛ "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب" وغير ذلك كثير.... كثير. الصيام: في القرآن لا نجد سوى الأمر بالصيام إذا جاء وقته، ثم حدد - بعد ذلك - بدايته ونهايته هما: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، كونه إمساكاً عن شهوة البطن. لكن جاءت السنة بإضافات كثيرة في هذا الواجب، فبينت أن الكف عن شهوة الفرج واجب في حال الضيام، كما بينت مكروهات الصيام ومبطلاته، وكيفية قضائه، والكفارات الواجبة عن تعمد الإفطار بغير عذر. كما أوضحت السنة أموراً أخرى متعلقة بالصيام يضيق عن ذكرها المقام. الزكاة: في الزكاة اكتفى القرآن بوجوب إخراجها: والمصارف التي تستفيد منها؛ والثناء على مخرجيها، المقرون - غالباً - بالثناء على مقيمي الصلاة. ولكننا لا نجد في القرآن تحديد "الأموال" التي تجب فيها الزكاة والتي لا تجب فيها، ولا المقدار المخصوص الذي إذا بلغه المال وجبت فيه الزكاة، ولا النسبة التي يجب إخراجها، ولا تحديد الزمن الذي يبقى فيه المال في يد "المالك"، وهو - مرور حول كامل، كشرط مهم لإيجاب الزكاة فيه، وإيجاب إخراجها. لكن السنة النبوية المطهرة تكفلت ببيان ذلك كله، وفصلت القول فيه

تفصيلاً مما يسر على المكلفين فهم هذا الركن "الزكاة" الذي هو أحد دعائم الإسلام، ولولا بيانات السنة لـ "كليات" القرآن لما أهتدى أحد إلى تأدية هذا الركن العظيم. وما أكثر بيانات السنة في هذا المجال الإسلامي الحيوي. الحج: يلحظ من له صلة وثيقة بالقرآن؛ أنه توسع في ذكر الأحكام التفصيلية المتعلقة بمناسك الحج، ومع هذا النوسع فقد ترك للسنة النبوية فراغات هائلة لتقوم هي بملئها، ومع ذلك: * الميقات الزمني الذي تؤدى فيه هذه الفريضة المقدسة، فالذي في القرآن والحج أشهر معلومات فجاءت السنة وبينت المراد من هذه الأشهر. * المواقيت المكنية التي ينبغي أن يبدأ عندها الإرام بالحج، أو العمرة، بالنسبة لكل الأقطار الإسلامية. * تحديد مرات السعي بين الصفا والمروة بـ "بسبعة أشواط"، وتحديد الطواف حول البيت بـ "سبعة" كذلك. * بيان أهم أركان الحج "الوقوف بعرفة" وتحديد الزمن الذي يكون فيه من أيام ذي الحجة. * بيان واجبات الحج والواجب في الحج ما ينجبر بالدم، وهو دون الركن، ولا يبطل الحج بتركه.

* كيفية الإحرام، وما يحرم فعله وقت الإحرام بالحج أو العمرة أو هما معاً. * تحديد عدد الجمرات ووقت رميها. هذا قليل من كثير من بيانات السنة النبوية الشريفة في أركان الإسلام العملية. وهذا العرض الموجز يرينا إلى أي مدى بلغ المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية في الإفتراء على الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، والتطاول على رجالات الأمة؛ الذين جاهدوا في الله حق جهاده فهداهم سبله، تحقيقاً لوعده الكريم: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} . تأصيل الأعمال: أي عمل يبذله المكلف له شرط عظيم في تمييزه وتأصيله: حتى يؤتي ثمرته المرجوة منه. وهذا الشرط أصل من أصول الدين، وهو "النية". وقد تكلفت السنة النبوية الطاعرة ببيانه في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" والنية مطلوبة في جميع العبادات والقربات، والله - عز وجل - يعامل عباده حسبنياتهم، وأي عمل صالح يخلو من النية والقصد فهو رد على صاحبه. فهل يستطيع صاحب المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية أن يدلنا على موضع وجوبها في آيات الذكر الحكيم؟ أم أن القرآن تركها لبيان صاحب الرسالة الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ؟!

(13) الأذان والربا

(13) الأذان والربا في مواجهة مشروع هدم السنة النبوية نواصل الحديث الآن - إتماماً لما قدمناه في الحلقة الماضية - عن أهمية السنة في حياة الأمة: في كل صغيرة وكبيرة؛ في شئون الحياة، ولنبدأ حديثنا بـ: الأذان: الأذان هو النداء الإسلامي الخالد، الذي يكرر في البيئات الإسلامية في المسجد الواحد في اليوم والليلة خمس مرات. وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن كلمات الآذان لا تنقطع عن الرفع ولا دقيقة واحدة؛ حشب خطوط الطول على سطح الكرة الأرضية، إذ من المعلوم - جغرافياً - أن المسافة بين خطي طول هي أربع دقائق، وأن صيغة الآان حسب الأداء الشرعي تستغرق أربع دقائق، فإذا أذن لصلاة الفجر في المساجد الواقعة على خط الطول رقم "واحد"، فإن المؤذنين لا يكادون ينتهون من "لا إله إلا الله" وهي الجملة الأخيرة في الأذان. نقول: لا يكادون يفرغون منها إلا وقد بدأ مؤذنو المساجد الواقعة على خط طول رقم "إثنان" بالجمل الأولى من الآذان: الله أكبر. الله أكبر ... وهكذا حتى آخر خط طول رقم "360" من ناحية المغرب.

ومعنى هذا أن الأذان يردد في النهار والليلة "1440" دقيقة، وهي حاصل ضرب "4 × 360" بعدد خطوط الطول شرقاً وغرباً. ووظيفة الأذان هي - الإعلام بدخول وقت الصلاة ليؤديها المكلفون في وقتها، وتأدية الصلاة في وقتها من أفضل الأعمال - كما جاء في الحديث الشريف. وهي تشتمل على تعظيم الله (الله أكبر) ، والإقرار له بالوجدانية (أشهد أن لا إله إلا الله) ، ولرسوله بصدق رسالته (أشهد أن محمداً رسول الله) ، والدعوة إلى الإقبال على الصلاة وترك العوائق الشاغلة عنها (حي على الصلاة) ، والإقبال على الفلاح (حي على الفلاح) ثم تكرر تعظيم الله مرة أخرى، (الله أكبر. الله أكبر) ثم ختم النداء بتقرير الوحدانية (لا إله إلا الله) . وصاحب المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية له في هذا دعويان: * دعوى إكتفاء المسلمين بالقرآن وحده دون أي شيء آخر. * دعوى إزاحة السنة عن واقع المسلمين؛ لأنها أقوال مكذوبة عن رسول الله؛ إبتدعها التابعون بعد مائتي سنة من وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -! إننا نسأل صاحب هذا المشروع التعسفي وأمثاله؛ ممن ينكرون حجية السنة؛ نسألهم فرادى ومجتمعين: أين نجد صيغة الأذان التالية في القرآن؟ الله أكبر. الله أكبر الله أكبر. الله أكبر.

أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله أين نجد هذه الصيغة في القرآن؟ ليس لهم على هذا السؤال جواب؟ لأن كل ما في القرآن عن الأذان آيتان؛ سمي الأذان فيهما بالنداء؛ وهما: - الآية الأولى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 85] - الآية الثانية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9]

ومع هذه الإشارات القرآنية يبقى الأذان؛ أو تبقى الأمة في أمس الحاجة إلى الإجابة على هذا السؤال: ما هو الأذان؟ بل ما هي مفرداته؟ وجمله؟ وتراكيبه؟ سكت القرآن عن كل هذا لا سهواً ولا نسياناً، لأن لله رسولاً أميناً، صادقاً، مأذوناً له بالحديث عن الله تعالى كما يريه الله سبحانه جاءت السنة بتفصيل كل تلك الحقائق رواية عنه. فهل الذين رووا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذبوت عنه؛ وهم أصحابه المشهود لهم بالفضل؟! وهل التابعون الذين نقلوا لنا هذه الروايات؛ افتروا على رسول الله فنسبوا إليه ما لم يقله - كما يدعي صاحب المشروع؟ وهل السنة النبوية زيادة في الدين - كما توهم صاحب المشروع؟ أم أن الأمر كما قال الله سبحانه وتعالى {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} الربا: الربا في الإسلام من الكسب الخبيث، وقد حمل القرآن الحكيم على الربا والمرابين حملة عنيفة، وتهددهم بالخسران في الدنيا وسوء المصير في الآخرة، ونفر الناس من أخذ الربا، وحذر المؤمنين ودعاهم إلى التخلص منه

فوراً، وإلا فإن الحرب من الله ورسوله ستحل عليهم، والويل كل الويل لمن يحاربه الله تعالى ويحاربه رسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال الله - عز وجل - {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] وقال - تعالى {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} [البقرة: 276] وقال - سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278 - 279] وقال - جل وعلا - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 130 - 131] هذه الحملة القرآنية العنيفة ترينا أن الربا تجارة خاسرة في الدنيا {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} وتؤكد هذا المعنى آية أخرى {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39] وأن المرابين مسخوط عليهم من الله ورسوله، وأن سوء المصير هو نهايتهم ومع هذا يبين القرآن ما هو الربا حتى يحذره المؤمنون، ويمتثلوا أمر الله فيجتنبوه. كما لم يبين القرآن المعاملات الربوية من قروض وبيوع وعقود، ولم يذكر الأموال التي يوصف التعامل بها بالربا في بعض الحالات.

هذا كله سكت عنه القرآن، ومحال أن ينهي القرآن أو يأمر بمجهول لا يعلمه المكلفون. والتكليف عموماً لا يتعلق بالمجهولات، وسكوت القرآن عن بيان هذه الأمور المشار إليها في تحريم الربا، دليل "قرآني" قاطع على ما للسنة النبوية من شأن عظيم في مجال التشريع؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - يقول: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] وهاهو ذا الربا ليس له تفصيل في القرآن، وهذا دليل أخر على أن السنة الثانتة ليست صادرة عن النبي شخصياً؛ وإنما هي بيان من الله يجريه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتشريع مأذون فيه لصاحب الدعوة، لأنه من أمر الله الذي يجب على الرسول تبليغه للناس. ولا نمل من تكرار قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إني أوتيت القرآن ومثله معه". ولذلك جاءت السنة ففصلت أحكام الربا كما فصلت غيرها من الأحكام المتلقة بأفعال المكلفين. فبينت البيوع الربوية؛ والمعاملات الربوية؛ والقروض الربوية. كما قسمت الربا قسمين: - ربا فضل - وربا نسيئة وأضافت إلى ذاك محظورات أخرى تتعلق بإجراءات العقود الربوية؛ ومن كتابة× وإشهاد، وغيرها. وهي في كل ذلك امتداد لبيان القرآن، تخصص ما عمم القرآن، وتقيد ما أطلق القرآن، وليس بينها وبين القرآن اختلاف، ولا خصومة، وهذا ما توهمه صاحب المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية، "فزين له الشيطان سوء عمله فرأه حسناً" وقل لي بربك - بعد ما تقدم من بيان رسوخ السنة في حياة الأمة - هل يمكن عقلاً وواقعاً، وديناً وشرعاً أن تستغنى الأمة عن السنة النبوية،

وهي القائمة على منهج القرآن، ولولاها لغابت عنا حقائق لا تحصى ولا تعد يقوم عليها أمر التكليف؟ ألا تباً لهذا المشروع؛ وتبًا للأوهام التي سيطرت على واضعه. * * *

(14) صلة السنة بالكتاب

(14) صلة السنة بالكتاب السنة النبوية عند جميع علماء الأمة على اختلاف منازعهم وتحصصاتهم ثلاثة أقسام: * الأول - السنة المؤكدة المقررة لما ورد في القرآن: وضابطها: أن يأمر القرآن بأشياء، أو ينهي عن أشياء، فتأتي السنة مؤكدة ومقررة للأمر والنهي وما يشبههما. فمثلاً: حرم الله الزنا وسماه فاحشة. فورد في السنة أحاديث تؤكد هذه المعاني، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن". ومثلاً آخر: قبح القرآن النفاق، وذم المنافقين. وجاء في السنة أحاديث تقرر هذه المعاني، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "آية المنافق ثلاثة: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أئتمن خان". ومع مواكبة السنة للقرآن في هذا الحديث؛ فإن فيه نوعاً من التفصيل الشارح للنفاق. * الثاني: السنة الشارحة أو المبينة: وضابطها: أن تشرح، وتبين، وتفصل، وتخصص، وتقيد، ما يكون في القرآن من الآيات التي تحتاج إلي بيان، أو تفصيل، أو تخصيص، أو تقييد. وقد تقدم لنا جمل زافيو في بيان هذا القسم؛ وأهميته في حياة الأمة.

*الثالث: السنة الشارعة: وهو نوعان: * النوع الأول: شارعة تشريعاً مفصلاً لأحكام وردت في القرآن مجملة لا تفصيل فيها. وهذا النوع كما يطلق عليه شارعاً يطلق عليه أيضاً شارحاً. ومن أمثلته: تفصيل أحكام الربا الذي ورد تخريمه والنهي عنه في القرآن، فأحكام الربا التفصيلية طريقها السنة، والنهي عنه وتحريمه طريقه القرآن ومثله أيضاً: أحكام الصلاة، فالموجود في القرآن الأمر بإقامتها وفرضيتها، ثم تكلفت السنة بأحكامها التفصلية، التي تعددت الأحاديث النبوية في بيانها، والتي حفلت بها كتب الفقه، وكتب أحاديث الأحكام - مثل - "بلوغ المرام" لابن حجر العسقلاني، و"نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية" للزيلعى و"إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد" و"صحيح ابن خزيمة"، و"نيل الأوطار" للشوكاني، ومن قبل ذلك كله "الموطأ" للإمام مالك. وهذه الكتب لا تقتصر على بيان السنة في الصلاة فقط بل تعم كل أعمال المكلفين. * أما النوع الثاني من السنة الشارعة، فهي التي تتعلق بأشياء أخرى تحليلاً أو تحريماً: إضافة إلى ما ورد في القرآن من أحكام. وهذا النوع قليل جداً في نفسه وبالنسبة لما عداه من أقسام السنة، ومن أمثلته ما يأتي: 1- حرم القرآن الأمهات والأخوات من الرضاعة. فقال تعالى {.... وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]

ولم يحرم القرآن نكاح غير الأمهات الأخوات من الرضاعة وجاءت السنة ووسعت دائرة التحريم من الرضاعة فقال - صلى الله عليه وسلم -: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". - أي - البنات من الرضاعة، والعمات من الرضاعة، والخالات من الرضاعة، وبنات الأخوة من الرضاعة، وبنات الأخت من الرضاعة ... إلخ كذلك حرم القرآن الجمع بين الأختين في عصمة زوج واحد في وقت واحد، وصل في قوله تعالى - عطفاً على الأنكحة المحرمة -: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} ثم أضافت السنة تحريم الجمع بين البنت وعمتها، وبين البنت وخالتها. وبين - صلى الله عليه وسلم - علة التحريم بقوله: "إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم". 2- زكاة عيد الفطر، والحكمة من تشريعها "التوسعة على الفقراء والمساكين". وهذه الزكاة والأحكام المتعلقة بها: من يخرجها؟ وعمن يخرجها؟ ووقت إخراجها؟ والأنواع التي تخرج منها؟ ومقاديرها؟ ... كل هذا ليس له ذكر في القرآن، وإنما طريقه السنة الثانية. 3- في التحريم الناشئ عن الرضاع، لم يرد في القرآن متى يحرم الرضاع النكاح، ولا القدر الذي يثبت به التحريم. لقد سكت القرآن عن هذا، ثم بينه السنة زمناً وقدراً:

زمناً: أن يكون الرضاع قبل أن يفطم الرضيع، ويستغنى بالطعام عن اللبن. - وقدراً: أن يكون المحرم خمس رضعات مشبعات مافرقات. وفي كل هذا - وغيره- لم تخاتلف السنة الكتاب؛ لأن المخالفة تكون لو كانت السنة تأمر، بما نهى عنه الكتاب، أو تنهي عما أمر به الكتاب؛ وهذا لم يحدث قط. وحاشا أن يكون الرسول في هذا مشرعاً من تلقاء نفسه؛ لأن الشريع بلاغ، والبلاغ لا يكون إلا عن الله الذي اصطفاه رسولاً، وأنزل عليه وحيه الأمين، ولو كان الرسول تجاوز ما لم يأذن الله تعالى له فيه لما سكت القرآن عنه لحظة؛ والله هو القائل: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44 - 46] ولم يحدث للنبي عقاب من الله، بل حدث في حجة الوداع أن أعلن الله كمال الدين فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينً} [المائدة: 3] فهل - يا ترى - كان هذا الإعلان الإلهي سيكون لو كان محمد - صلى الله عليه وسلم - زاد في الدين شيئاً لم يأذن الله له فيه؟ هذا، وقد أثبت بعض الباحثين الأصولين أن: كل تشريع مستقل حاءت به السنة - على ندرته - له أصل أصيل في كتاب الله العزيز. ولولا خشية الإطالة لذكرنا ما قيل في هذا المجال. وهكذا يبدو التوافق التام بين الكتاب والسنة، وإن غاب على بعض المتعجلين، والأمر كما قال الشاعر: ماضر شمس الضحى في الأفق طالعة * إن لم ير ضوءها من ليس ذا بصر

وبهذا تتهاوى شبهات صاحب المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية هوياً إثر هوى. السنة من عند الله: السنة الثابتة هي من عند الله تعالى مثل الكتاب العزيز وإن اختلفت طرق التلقي فيهما. وهذا حق نجده في القرآن وليس دعوى. {وبالبينات والزبر بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} وفي هذا الخطاب تحديد جلي لصلة السنة بالكتاب، فكل ما صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أقوال. وأفعال في مجال التبليغ كأن بياناً للكتاب. وهذا هو صريح القرآن. - ثم في سورة القيامة (الآيات - 16 - 19) خاطب الله رسوله الكريم خطاباً ثانياً جاء فيه: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} قارن بين البيانين في كل من سورتى (النحل) و (القيامة) تجد البيان في النحل موكولاً إلى النبي "أي لتبين" أنت يا محمد للناس الذكر - بمعنى - القرآن الذي أنوله الله إلى الناس. وتجد البيان في سورة القيامة صادراً من الله - عز وجل - {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} .

ومعنى هذا بكل وضوح: إن أقوال النبي وأفعاله وتقريراته التي بين بها الكتاب هي بيان الله، وإن أسند إلى النبي. فالسنة - إذن - من عند الله تعالى، ولم يقل محمد - صلى الله عليه وسلم - شيئاً من تلقاء نفسه. وصاحب المشروع يكرر كثيراً وجوب إلى القرآن وحده، وها هو ذا القرآن يضيف السنة إلى الله تعالى، فعليه إن كان مخلصاً في دعواه؛ أن يؤمن بالسنة طاعة لله وفق ما جاء في القرآن. * * *

(15) وقف أحاديث الآحاد

(15) وقف أحاديث الآحاد باشر صاحب المشروع العمل في مشروعه، وهو يحمل فكرة شنيعة سيطرت عليه سيطرة تامة، فأرته الحق باطلاً، والباطل حقاً، وراح يتتبع كل شبهة تفيده في الإنتصار لما يريد. وتلك الفكرة مكونة من ادعاءين: الأول: كفاية القرآن لمتطلبات الأمة في كل ما تحتاج إليه في الحياة دون إضافة أي شيء آخر مهما كان مصدره. الثاني: طرد السنة النبوية من حياة الأمة، واعتبار كتابة الأحاديث النبوية "كلها" بدعة؛ والعمل بها زيادة في الدين، وهي سبب نكبة المسلمين!! وقد عشنا من قبل مع كثير من أخطائه وأوهامه في الجزء الأول من مشروعه الضخم. وفي هذه الحلقة نتعرض لشبهة أخرى من شبهاته: وهي ما كتبه حول أحاديث الآحاد وترك العمل بها كلية فلا يقبل منها حديث واحد مهما بلغ من درجات التوثيق والصحة! قال هذا بعد إشاراته المتكرة بأن معظم الأحاديث المنسوبة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت من روايات الآحاد، وقليل منها موصوف بالتواتر، والموصوف بالتواتر عنهد هو أقوال الرواة إفتروها على الرسول كذباً وخداعاً؛ أو رووها عنه بالمعنى، فهي - إذن - ليست من كلامه - صلى الله عليه وسلم - كما يدعي صاحب المشروع!!

وبذلك ينسف السنة كلها نسفاً، فلا يبقى منها أثر واحد تطمئن إليه الأمة!! وحديث الآحاد: هو ما رواه عدد قليل - واحد، أو اثنان، أو ثلاثة، أو أربعة - ولم يبلغ حد التواتر. أما الحديث المتواتر: فهو ما رواه جماعة مستفيضة (كثيرة) من أول طبقة فيه إلى آخر طبقة ينتهي عندها سند الحديث. وهذه القضية (قضية العمل بالآحاد) محسومة من قديم: حسمها علماء الحديث، والأصوليون، والفقهاء، وجمهور الأمة. فقد نشأ الخلاف حول قبول حديث الآحاد والعمل به منذ قرون قبل مجيء صاحب المشروع؛ بل ومن عهد النبي نفسه، وخالفائه الراشدين، وجميع أصحابه، وعلى هذه السنة مضى أئمة المذاهب الفقهية وتلاميذهم وعلماء الأمصار وغيرهم. وصار من المعلوم لإسلامياً قبول حديث الآحاد والعمل به على وجه الوجوب، وللعمل به عند الجمهور شروط: الأول: أن يكون رواته من العدول الضابطين الثقات - أي - سلامة السند من النقد والطعن. الثاني: سلامة متن الحديث من النقد - أي أن يكون الحديث مذكوراً بكل ألفاظه، ولم يحذف منها شيء وأن لا يكون له خبر أخر معارض له: وأقوى منه.

وهكذا ترى جمهور الأمة يستوثقون من حديث الآحاد قبل العمل به، فإذا ردوا بعضاً منه لم يكن سبب الرد كونه حديث أحاد؛ وإنما يكون سبب الرد أمراً أخر خاصاً بالحديث الأحادى المردود. هذا هو مذهب جمهور العلماء في كل عصر ومصر، ولم يشذ عنهم إلا الخوارج والمعتزلة، فهم يرفضون حديث الآحاد جملة وتفصيلاً، وما أكثر ما شذ هؤلاء عن إجماع الأمة ولهم شبهات واهية - كشبهات صاحب هذا المشروع - تمسكوا بها في إسقاط خبر الآحاد، رغم أخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته به قولاً وعملاً، ويار الجمهور من بعدهم على مذهبهم إلى يومنا هذا. ثم جاء صاحب المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية ونهج على نهج المعتزلة والخوارج وبعض الأفراد. والذي نريد أن نوضحه - للقارئ الكريم - هنا هو أخطاء صاحب المشروع وأوهامه في رفض الأدلة التي أستند إليها الجمهور في قبول خبر الواحد؛ ووجوب العمل به بالشروط التي يجب توافرها في سنده ومتنه. فصاحب المشروع مجادل بارع؛ ولكنه ليس لد دارية بفقه اللغة ومرامي الكلام، فأخذ بهرف بمالاً يعرف دون أن ينتبه إلى عور ما يقول. ونسق إلى القراء الكرام بعض سقطاته في فهم النصوص القرآنية وغير القرآنية. استدل الجمهور على وجوب العمل بخبر الآحاد - بشروطه - بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرارت: 6] لأن الآية تفيد

وجوب التثبت من خبر الفاسق، وهذا يفهم منه قبول خبر غير الفاسق (العدل) ، وهذا يسمى بـ "دلالة المفهوم". ولتوضيحه نقول: إن المعانى نوعان: - معنى يفهم من اللفظ مباشرة - مثل أن تقول: - "إلزم مصاحبة الصالحين". فالأمر بمصاحبة الصالحين معنى مفهوم من اللفظ مباشرة، وهذا المعنى يفهم منه النهي عن مصاحبة غي الصالحين، فالمعنى الأول يسمى معنى منطوق اللفظ، والثاني معنى مفهوم من معنى اللفظ، أو هو معنى المعنى لا معنى اللفظ المباشر. وهذا ما استدل به الجمهور أما صاحب المشروع فيشَّنُع على الجمهور لاستدلالهم بالمعنى المفهوم من المعنى قال: "حيث زعموا أن الآية الكريمة دليل على قبول خبر الواحد متى كان عدلاً، نظراً لأن التبين المأمور به - هنا - إنما يتعلق بخبر الفاسق وحده، فصار عدم التثبيت ثابتاً في حق العدل من الناقلين" هذا قوله. ثم بنى عليه أن الاستدلال بالمعنى المفهوم باطل، وإنما يكون الاستدلال بالمعنى المنطوق، وراح يستدل على ذلك بذكر آيات ليعجز بها الجمهور منها: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184] ، ثم يقول: "الذي يكون من نتائج الأخذ بمفهوم المخالفة أن الصيام شر للصائمين إن كانوا لا يعلمون".

هذا ما فهمه صاحب المشروع التعسفي من الآية، وهو فهم مريض يدل على الجهل بمعاني الأساليب؛ لأن قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ليس شرطاً في خيرية الصيام كما فهم صاحب المشروع؛ بل هو أسلوب يراد به الإلهاب والتهييج وتحريك المشاعر للإقبال على الصيام، وأمثال هذا الموضع لا تكاد تحصى في القرآن الكريم. وقد أراد صاحب المشروع من قوله هذا أن يقول لعلماء الأمة: إن دلالة المفهوم باطلة؛ بدلالة ما فهمه هو وحده من أية الصيام هذه. ومثال ثان: هو قوله تعالى: {إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 10] حيث زعم أن مفهوم المخالفة - هنا - يفيد أن غير المرسلين - وإن كانوا أتقياء - يخافون لدى الله. وفهمه هما كفهمه في آية الصيام. منشأ هذا الفهم الباطل أن صاحب المشروع لا يعرف مقاصد المتكلم من كلامه، والمقصود من الآية - هنا - نفي خوف المرسلين لدى الله دون التعرض لخوف غيرهم أو أمنهم. ومثال ثالث: قوله تعالى: {ومَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: 51] فهم صاحب المشروع أن مفهوم المخالفة هنا هو أن الله يتخذ غير المضالين أعواناً ومساعدين، وهذا فهم سخيف؛ لأن الله ليس في حاجة إلى أعوان لا من الهادين ولا من المضلين، وإنما خص المضلون هنا بالحديث

لمناسبه المقام، فإن ما قبل هذه الآية وما بعدها حديث عن أولياء الشيطان والمشركين. (راجع سورة الكهف: 50: 53) قبول الظن ورفضه: ويتمسك صاحب المشروع في رفض خبر الآحاد بأن علماء الحديث قالوا: إنه يفيد الظن وسرعان ما يذكر قول الله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم: 28 - 29] هنا اعتمد صاحب المشروع التعسفي الظن لقتل حديث الآحاد. والظن ورد مرات أخرى في القرآن في مقام المدح والثناء، مثل ما حكى الله عمن يؤتي كتابه بيمينه: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20] ، ومثل: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 46] ، وعلى طريقته في اتباع هواه يفرق بين الظن الممدوح في القرآن وبين الظن الذي يفيده خبر الواحد، فالأول يقين، والثاني وهم، هذا هو المنهج العلمي الصحيح عند صاحب المشروع. الكيل بمعيارين. وهذا دأبة في مشروعه، وهو يعلم أن الظن الذي يفيده خبر الآحاد هو ما لا يمكن دفع الدلالة على الحق معه وليس الوهم. * * *

(16) حديث ضمة القبر

(16) حديث ضمة القبر في المقالات السابقة كانت موادهتنا للمنهج النظري الذي بنى عليه صاحب المشروع أخطاءه وأوهامه وعلى طول ما كتبنا لم نبلغ عشر معشار ما في هذا المشروع من أخطاء وأوهام، وحسبنا ما قلناه عن منهجه النظري المعوج كل الاعوجاج ونريد أن نعرض نماذج سريعة من أخطائه وأوهامه في تطبيقه منهجه المعوج على بعض الأحاديث. وبالطبع فإن كل تطبيقاته أصابها الاعوجاج الناشئ عن المنهج الذي جرى عليه التطبيق والأمر كما قال الشاعر * وهل يستقيم الظل والعود أعوج * وقبل التعرض لأخطائه وأوهامه في التطبيق نضع أمام القراء حقيقة لابد منها: تلك الحقيقة أن أكثر النماذج التي أخضعها صاحب المشروع للتطبيق، هي نماذج معلولة كان لعلماء الحديث فضل السبق في دراستها وتمحيصها، وتأويل ما احتاج إلى تأويل ميها. ولكن صاحب المشروع يريد أن يظهر لقراء مشروعه، أو ضحاياه أنه البطل الهمام الذي اهتدى إلى ما لم يهتد إليه الأقدمون. متمثلاً بلسان حاله أو مقاله قول الشاعر المزهو بنفسه: إني وإن كنت الأخير زمانه لآت بما بم تستطعه الأوائل

ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه، كما ورد في الحديث الشريف. ومن الأحاديث الصحيحة التي قضى الشروع بتزويره على النبي، حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال فيه: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قبر الميت أتاه ملكان أسودان....، ثم جاء في الحديث: فيقال للأرض التئمي عليه، فتلتئم عليه فتختلف أضلاعه فلا يزال معذباً حتى يبعثه الله" ثم ذكر حديثاً أخر عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن للقبر ضغطه" صاحب المشروع له كتاب خاص - غير هذا، ينفي فيه عذاب القبر أساساً، وليس ضمة القبر وحدها، ثم تراه بعد ذلك يسخر من هذا الحديث، ومن المؤمنين به، ويزعم أن هذه الضمة عند المؤمنين بها تكون للكافر عقاباً على كفره، وللمؤمن عقاباً على معاصيه؟! ثم يستخدم منهج بحثه العلمي الصحيح - كما يدعى - في تكذيب هذا الحديث فيقول: إن هذا الحديث مكذوب لإنه يخالف الحس والواقع، فما أكثر القبور التي تفتح بعد دفن الموتى فيها - سواء في ذلك قبور المؤمنين والكافرين - فلم يشاهد فاتحوها جدرران القبر قد التصقت ببعضها، ولا أضلاع الموتى قد تداخلت ولا أجسادهم قد تهتكت؟! هذا هو المنهج العلمي الصحيح في البحث والاستدلال. والقارئ يعلم أن صاحب المشروع لا يؤمن بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يؤمن بالقرآن وحده، فلنترك مواجهته بالحديث النبوي إلى مواجهته بالقرآن فنقول له: إن منهجك في تكذيب كل خبر أو قصة لا تقع تحت واحدة من الحواس الخمس منهج مطرد عندك بالطبع وعليك أن تلتزم به. وهذا أمر مفروغ منه يا

صاحب المشروع. فما رأيك إذا عرضنا عليك أخباراً وردت في القرآن الأمين مثل هذا الحديث الذي قضت ببطلانه جهلاً: وفي سورة [الأنفال: 50 - 51] جاء في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ما رأيك في هذا الخبر يا صاحب المشروع؟ هل هو مزور على الله؟ ومن وضع التابعين أو تابعيهم؟ أم هو قرآن نزل به الروح الأمين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. تنزيل من حكيم حميد. ليست هذه مشكلتك. وإنما مشكلتك أن هاتين الآيتين تثبتان أن الملائكة تضرب أهل الكفر عند الموت على وجوههم وعلى أدبارهم، وتقول لهم ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد. والموتى يموتون وأهلهم جلوس حولهم، وأحياناً غير أهلهم مع أهلهم، فهل سمعت أن أهل كافر سمعوا أصوات ضرب على الوجوه والأدبار، لو كان هذا يحدث لما بقى على وجه الأرض كافر، ولأمن من في الأرض كلهم جميعاً إذا عرضنا عليك هذا الخبر القرآني هل تصدقه مع أنه لم يقع تحت حس، أو على حسب تعبيرك أنت مخالف للحس، هل تصدقه لإنك - كما تقول - تؤمن بالقرآن وحده هادياً ومشرعاً؟ أم تكذبه وتطبق عليه بدعة مخالفة الحس التي طبقتها على الحديث وجزمت بتكذيبه. إنك من سوء حظك محكوم عليك لا محكوم لك في الإجابتين.

إذا قلت اصدقه لإني أوم بالقرآن قلنا لك يلزمك أن تؤمن بالحدث الذي حكمت عليه بالتزوير، لأنك أمنت بنظيره في القرآن، وكلاهما لم يقع تحت حسى. وإذا قلت لا أومن بالخبر القرآني ما دام لم يقع تحت حسى، قلنا لك. هذا فراق بيننا وبينك، والسلام على من أتبع الهدى؟! فها آن الآوان لتراجع نفسك؟ أم أنت مصر على ما تقول؟ إن الأفة القائلة، التي أصابتك - وأنت طبيب - أنك لم تفرق بين شئون الدنيا وشئون الآخرة، بل خلطت بينهما فاختلط عليك الأمر. لأن شئون الدنيا - يا صاحب المشروع الهدام - شهادة تقع تحت الحس. وشئون الآخرة غيب لا تقع تحت حس. ولو كنت اهتديت إلى هذا الفرق العظيم لما ورطت نفسك فيما لم يورط فيه نفسه أبو جهل وكم كان الشاعر حكيماً حين قال: وما انتظار أخي الدنيا بنافعه إذا استوت عنده الأنوار والظُلم

(17) حديث: إذا أنزل الله بقوم عذابا

(17) حديث: إذا أنزل الله بقوم عذاباً من الأحاديث التي قضى صاحب المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية - بتكذيبه - جهلاً كذلك - هذا الحديث الذي جعلناه عنواناً لهذه المقالة. وتمام الحديث كما جاء في صحيح البخاري رضى الله تعالى عنه: "إذا نزل الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم رواه ابن عمر، وصاحب المشروع حرف لفظا لم يرد في روايات الحديث كلها لا عند البخاري ولا عند مسلم الذي شارك البخاري في رواية هذا الحديث. تلك اللفظة هي "حسب أعمالهم" والوارد في جميع الروايات: إما "على أعمالهم" وإما "على نياتهم" هذه لمحة عابرة لا نعَّول عليها في المواجهة. أسباب التكذيب وأسباب تكذيب هذا الحديث عن المؤلف أمران: الأول: مخالفته للقرآن؟ الثاني: مخالفته للحس المشاهد والواقع. فقد زين الشيطان له سوء فهمه قرآم حسناً فقال: "فهذا الحديث أيضاً مما يكذبه الحس فضلاً عن تكذيب القرآن الكريم له"؟! ثم راح يسوق حشداً من الآيات بستشهد بها على أن القرآن يكذب هذا الحديث. الذي يقدح - كما يقول هو - في العدل الإلهي. ومن تلك الآيات التي أساء فهمها والاستشهاد بها على أوهامه ما يأتي:

{وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} - {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} - {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} ثم {لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ذكر صاحب المشروع هذه الآيات - وغيرها - وتوهم - أن بينها وبين الحديث الذي جزم بتكذيبه حرباً ضروساً فلم يملك إلا التجرؤ الشنيع على تكذيب الحديث. ولو كان صاحب المشروع ذا صلاحية علمية لما تصدى له من دراسة الحديث - تطاولاً - لما غلبه الشيطان على أمره وأكفر لسانه وقلمه. فالعدل الإلهي حقيقة لا يرتاب فيها مؤمن، وصَدِْقُ صاحب الرسالة فينا صحت روايته عنه حقيقة لا يرتاب فيها مؤمن، وإجتماع هاتين الحقيقتين معاً في الاعتقاد الجازم هو الإيمان المنجي، والإيمان بأحداهما دون الأخرى إيمان مردود على صاحبه ولا وزن له عند الله. وبعض هذه الآيات التي استشهد بها خاص بعذاب الاستئصال كما حدث لأهل سبأ، وقد أشار القرآن وهو ينذر مشركي العرب فقال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} ثم قال: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} ولهذه الآية نظائر في القرآن الكريم وبعضها خاص بالجزاء في الآخرة، ومنها قوله تعالى: {لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ومن أصول الإيمان أن الله لا يظلم أحداً لا في الدنيا ولا في الآخرة" وهذا ما أريد من تلك الآيات. ولم يخرج الحديث الذي قضي صاحب المشروع بتكذيبه عما دلت عليه الآيات. وإنما أبصر المؤلف جزءاً من الحديث وعمى عليه الجزء الآخر. الجزء الذي أبصره هو: "إذا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم".

والجزء الذي عمى عليه "ثم بعثوا على أعمالهم" فالحديث يقرر عدالة الله كما تقررها الآيات سواء بسواء. فإذا غضب الله على قوم وسلط عليهم عذاباً عاماً أو خاصاً فهلكوا أو ماتوا، وفيهم طائفة من الصالحين، فإنهم يستوون في المصير الدنيوي، ثم يفترقون في الدار الآخرة فريق في الجنة، وفريق في السعير بل إن السنة النبوية الشريفة ترفع هؤلاء الصالحين الذين يموتون في الكوارث إلى درجات الشهداء فأين الظلم الإلهي يا صاحب المشروع في هذا الحديث وأمثاله؟! هذه واحدة. أما الثانية فنقول لك فيها بصوت عال يسمع من في القبور: إن هذا الحديث الذي قضيت بتكذيبع متفق 100% مع القرآن، ولا يوجد بينهما مثقال ذرة من خلاف, وفي هذا الموضوع الذي تجادل أمت فيه ولم تملك من أدوات الجدال إلا الوهم. أفتح المصحف يا صاحب المشروع، وقف عند سورة الأنفال، ثم اتل أياتها، فإذا وصلت إلى الآية رقم (25) فستجدها تقول بصوت يجوب ما بين السماء والأرض. {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وأسأل نفسك وأنصفها في الحواب: ما الفرق بين هذه الآية الحكيمة الني لا سبيل لتكذيبها وبين الحديث الذي تجرأت على تكذيبه. ونزيدك وضوحاً: أرجع إلى كتب اللغة وابحث عن معنى الفتنة وستجد الإجابة أن الفتنة مشتقة من "الفتن" وهو وضع الذهب على النار ليظهر جيده

من رديئه، أو أصيله من مغشوشه. . . فإذا خطوت خطوة أخرى نحو علم البيان ستجده يقول لك: استعيرت الفتنة - بمعنى الفتن - من صَلْىِ الذهب بالنار للشدائد والمحن التي يبتلي الله بها عباده للتمييز بين الصادق والكاذب والصابر والجزع. ثم اقرأ سورة العنكبوت {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} واضمم إلى هذا كله [الأنبياء: 35] : {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} مخالفته للحس: مما تقدم ظهر بكل قوة وجلاء أن الحديث لا يخالف القرآن، بل هما في غاية الوفاق، وهو الأمر الذي جهله صاحب المشروع المشئوم. وبقى علينا أن نبطل شبهة صاحب المشروع الثانية التي زعم فيها أن هذا الحديث يخالف الحس والواقع المشاهد، وفيها يزعم أن الله إذا سلط كارثة، على قوم عزل الصالحين منهم وأهلك الظالمين. ولن نطيل معه هنا؛ لإن شبهته أو هي من بيت العنكبوت ويكفي أن نسوق هذه الأمثلة، من واقع حياتنا المعاصرة - نحن المصريين - فنقول: * حادث طائرة المصرية القادمة من ليبيا التي حطمتها إسرائيل في السبعينات على أرض سيناء، وفيها أكثر نت ثلاثمائة مدني: رجال - نساء - أطفال أليست هذه كارثة وقعت، ويعلم الله. فهل كان ركابها جميعاً هم

الظالمين في العالم كله؟ وهل الأطفال الأبرياء الذين لقوا مصرعهم كانوا مجرمين؟. وبقية المصريين ملائكة؟ أننهم شهداء بررة مظلومون لا ظالمون - أعني - ركاب الطائرة، أذن الله لإسرائيل أن ترتكب تلك الجريمة النكراء ليزيدهم الله طغياناً وطفرا، ونسأل المؤلف: لماذا لم يعزل الله الأطفال الذين قتلوا. . . .؟ هل تتهم الله بالظلم بناء على فهمك العاجز عن ادراك حقائق الإيمان؟ أم نقول إن هذه الكارثة لم تقع. - ومثال ثان: الزلزال الذي وقع بمصر عام 1992م هل الذين أضيروا فيه بالموت أو التشريد هم الظالمون الوحيدون في مصر، وأن جميع الذين نجوا ملائكة بررة؟ وما أكثر الأطفال الذين ماتوا في تلك الكوارث فلماذا لم يعزلهم الله، ثم يهلك من هلك من الكبار الظالمين، أتتهم الله بالظلم أو تقول لم يقع زلزال ولم يمت أطفال؟ ومثال أخير: حادث عمارة "مركز أشعة مصر" الذي وقع في الشتاء الماضي ومات فيه نساء ورجال وشباب وأطفال هل أولئك كانوا هم أظلم الظالمين في مصر، لذلك جمعهم الله في ذلك المكان ثم سَّوى طوابق العمارة عليهم, لا نزاع أن في كل كارثة يكون بين الضحايا أبرياء صالحون. ومع ذلك يصيبهم ما يصيب غيرهم. والإبتلاء هو سنة لله غي عباده. فدع الملك للمالك، واعتصم بكتاب الله وينة رسوله لتنجو من هذا الزلل، وناجه بما ناجاه به الشاعر الحكيم. يا حاكمى وحكيمى أفعالك الكل حكمة. هذا ما أردنا به كشف ما في كتاب "تبصير الأمة بحقيقة السنة" من

أخطاء وأوهام متعمدة، لئلا ينخدع أحد بما في هذا الكتاب "العميل" من اعتداءات على سنة إمام المرسلين {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} . * والحمد لله رب العالمين * المؤلف عفا الله عنه

§1/1