أخذ المال على أعمال القرب

عادل شاهين

الصندوق الخيري لنشر البحوث والرسائل العلمية (3) الدراسات الفقهية (3) أخذ المال على أعمال القُرَب تَأليف عَادِل شَاهِيْن محمَّد شَاهِيْن الجُزْءُ الأَوَّلُ كُنُوزْ إشْبِيْليَا للنشر والتوزيع

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أصل هذا الكتاب رسالة ماجستير قدمت إلى قسم الفقه بكلية الشّريعة، جامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلامية بالرياض، وتكونت لجنة المناقشة من: فضيلة الدكتور/ أحمد بن يوسف الدريويش ... رئيسًا فضيلة الدكتور/ إبراهيم بن عبد العزيز الغصن ... عضوًا فضيلة الدكتور/ صبري السعداوي مبارك ... عضوًا ونال بها الباحث درجة الماجستير بتقدير ممتاز.

أخذ المال على أعمال القُرَب

ح دار كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع، 1424هـ فهرسة مكتَبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر شاهين، عادل بن شاهين محمّد أخذ المال على أعمال القرب./ عادل بن شاهين بن محمّد شاهين - الرياض 1434 هـ 840 ص؛ 17 × 34 سم ردمك: 9 - 6 - 9461 - 960 (مجموعة) 7 - 7 - 9461 - 960 (ج 1) 1 - المعاملات (فقه إسلامي) ديوي 253 أ- العنوان 4763/ 1434 رقم الإيداع: 4763/ 1424 رمك:9 - 6 - 9461 - 960 (مجموعة) 7 - 7 - 9461 - 960 (ج 1) مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحى الخيرية Sulaiman bin Abdul Aziz Al Rajhi ChARITABLE FOUNDATION جَميْع الحقُوق مَحفُوظَة الطَّبْعةُ الأولى 1425 هـ -2004 م دار كُنُوزْ إشْبِيْليَا للنشر والتوزيع المملكة العربيّة السعودية ص. ب 13371 الرياض 11493 هاتف. 4742458 - 4773959 - 2910704 فاكس: 4787140 E-MAIL:[email protected]

مقدمة

مقدّمَة إنَّ الحمد لله، نحمَدُهُ ونستعينهُ، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إِلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النِّساء:1]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الأحزاب: 70، 71] أمّا بعد (¬1): فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمّد - صلّى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النّار. أمّا بعد: فإنَّ الله تبارك وتعالى قد امتنّ على هذه الأُمَّة بمنن كثيرة وجليلة، أعظم هذه المنن: دين الإسلام، الّذي جعله الله تبارك وتعالى خاتم الأديان، لا يقبل من أحد ¬

_ (¬1) هذه خطبة الحاجة الّتي كان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يعلمها أصحابه، وقد كان السلف رحمهم الله تعالى يقدمونها بين يدي دروسهم وخطبهم وكتبهم: أخرجها أبو داود، كتاب النِّكاح، باب في خِطبة النِّكاح: 2/ 238 (2118)، والنسالْي، كتاب الجمعة، باب كيفية الخُطبة: 3/ 116 (1403)، وهي صحيحة ثابتة، قام بجمع طرقها وتخريجها العلّامة الألباني في رسالته (خطبة الحاجة)، طبع المكتب الإسلامي بيروت سنة 1397 هـ، وقام بشرحها الشّيخ سليم الهلالي في كتابه (شرح خطبة الحاجة) دار الأضحى- عَمان سنة 1409 هـ

سواه، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]. أرسل به خاتم النببين وأفضلَهم محمدا - صلّى الله عليه وسلم -، فكانت بعثتُهُ مِنَّةً أخرى على المؤمنين، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]. جعل الله تعالى اتباعه فرضًا لازمًا، والتأسي به فوزًا وسعادةً في الدارين، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]. وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. فكان أسعد النَّاس باتباعه والتأسي به هم أهل العلم، من العلماء العاملين، والأئمة الربانيين، الذين اختصهم الله تعالى من بين عباده بخشيته، فقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. ثمّ أمر سائر النَّاس بسؤالهم والرجوع إلى أقوالهم، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43، الأنبياء: 17، وجعل علامة زيغهم وضلالهم ذهاب علمائهم، واتخاذهم الرؤوس من جُهَّالهم، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يقول: (إنَّ الله لايقبضُ العلّمَ انتزاعًا ينتزعُهُ من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتّى إذا لم يُبق عالمًا اتخذ النّاسُ رؤُوسًا جهالًا فسُئِلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ: كتاب العلم، باب كليف يقبض العلم: 1/ 234 (100) , ومسلم: كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه: 4/ 2058 (2673).

ومن أجل ذلك كان الفقه في الدِّين من أجل الأعمال وأحبها إلى الله تعالى، ومن وفقه الله إلى التفقه في الدِّين فقد أراد به الخير، كما جاء في حديث معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - قال: سمعت النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - يقول: (من يردّ الله به خيرًا يفقهه في الدِّين) (¬1). وإن من أشرفِ العلوم جمعًا، وأعظمِها خيرًا ونفعًا، علمَ الفقه، أو الفقه الإسلامي، فعظمة هذا العلم وشرفه تجل عن الوصف والإحاطة؛ ذلك أنّه أحكام تساير المسلم، وتلازمه في عموم مسالك حياته، سواء أكان ذلك فيما بينه وبين ربه تبارك وتعالى، أم فيما بينه وبين عباد الله تعالى. ولقد منَّ الله عليّ وهو الكريم المنَّان، حين يسر لي القدوم إلى هذا البلد الكريم، الطيب أهله، وشرفني أعظم تشريف حين يسر لي الانتساب إلى جامعة إسلامية عظيمة، ألَّا وهي جامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلامية، الّتي يشرف ويعتز كلّ طالب علم بالانتساب إليها، وقد نهلت من معين هذه الجامعة الّذي لا ينضب حين وفقني الله - عزَّ جلَّ -، للدراسة في كلية الشّريعة بالرياض - قسم الشّريعة -، فأنّهيت المرحلة الجامعية بتقدير (ممتاز)، ثمّ يسر الله -عَزَّ وَجَلَّ- التحاقي بالدراسات العلّيا، فأنّهيت السنة التمهيدية بتوفيق من الله تعالى، وبادرت البحثَ عن موضوع يصلح للتسجيل في درجة الماجستير في الفقه الإسلامي، فيسر الله سبحانه وتعالى هذا الموضوع، وهو: [أخذ المال على أعمال القُرب] أمّا أهمية هذا الموضوع وسبب اختياره، والخطة الّتي سرت عليها، والمنهج المتبع في دراسة مسالْل البحث، وما يتبع ذلك، فيتضح في النقاط التالية: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ: كتاب العلم، باب من يردّ الله به خيرًا يفقهه في الدِّين: 1/ 197 (71)، ومسلم: كتاب الزَّكاة، باب النّهي عن المسألة: 2/ 718 (1037).

أولا: أهمية الموضوع

أوَّلًا: أهمية الموضوع: ترجع أهمية هذا الموضوع لما يأتي: 1 - إنَّ هذا الموضوع يتعلّق بجانب مهم وخطير في حياة المسلم، بل ومن أهم الجوانب في حياته، ألَّا وهو: علاقته بربه في عبادته إياه، وتقربه إليه، بالعبادات العملية، والمعاملات والولايات الشرعية، فكان لابد من دراسة هذا الجانب، وبيانه حتّى يكون المسلم على بصيرة من أمره في تقربه إلى ربه. 2 - إنَّ هذا الموضوع يمسُّ كافة أفراد المجتمع, فهو يتعلّق بعباداتهم، ومعاملاتهم، وأهم ولاياتهم الشرعية، فهو يهم كلّ مسلم، فالحاجة إلى معرفة فقه هذا الموضوع عامة. 3 - كثرة وقوع مسائل هذا الموضوع ودورانها في حياة المسلم، حيث نرى كثيرًا من العبادات والمعاملات والولايات الشرعية يؤخذ عليها الأعواض، فكان لابد من معرفة حكم هذه الأعواض على هذه القُرب. ثانيًا: أسباب اختيارالموضوع: يعود اختيار هذا الموضوع في مجمله إلى الأسباب التالية: 1 - أهمية هذا الموضوع، وقد سبق بيأنّها. 2 - أن هذا الموضوع لم يسبق بحثه ولا جمعه على هذه الصورة - فيما أعلم -، وإنّما بحث الفقهاء جزئيات هذا الموضوع بحثًا مجملًا ثمّ بحثت بعض جوانبه من خلال بعض المؤلِّفات والرسائل العلمية, فجاءت هذه الرسالة لتجمع شتات هذا الموضوع في مكان واحد مع التوسع في دراسته، وترتيبه، والتفصيل فيه، وبيان الراجح في مسائله، وهذا ممّا يعود بالفائدة الكبرى على الباحث أوَّلًا، وعلى عموم المسلمين ثانيًا.

ثالثا: الدراسات السابقة حول الموضوع

3 - أن هذا الموضوع يمتاز بالشمولية، حيث شَمِلَ جُلَّ أبواب الفقه الإسلامي من عبادات ومعاملات وولايات شرعية، ممّا يمكّن الباحث من المرور بمعظم أبواب الفقه، ومسائله، وهذا ممّا يعود عليه بالفائدة الكبرى من حيث التحصيل العلّمي، والوقوف على نظام الفقه الإسلامي الشامخ. 4 - كثرة النوازل الّتي وقعت في هذا العصر، والتي يتوقف معرفة الحكم فيها على معرفة الحكم في مسائل هذا البحث، فهذا البحث يعد تأصيلًا لتلك النوازل، وقاعدة يتبين من خلالها معرفة حكم هذه النوازل، كما هو الحال في غالب أعمال المصارف، أو ما يسمى بالبنوك. 5 - تساهل كثير من المسلمين في هذا الجانب، وعدم مبالاتهم بمعرفة الحكم الشرعي في كثير من القرب من حيث أخذ العوض عليها، وقد يكون ذلك محرمًا، حتّى أضحى هذا الأمر كأنّه مجمع على جوازه لايجوز إنكاره، ولا الخوض فيه، إمّا لطول العهد بذلك، وإما لغلبة الشهوة، وحب المال، والحرص عليه، وجمعه من حلِّه ومن غير حلِّه، ممّا استدعى ذلك بحث كافة هذه القربات من حيث حكم أخذ العوض عليها، فيتضح ما يجوز من ذلك وما لايجوز. ثالثًا: الدراسات السابقة حول الموضوع: لقد كتبت حول هذا الموضوع بعض الكتب، والبحوث، تناولت بعض جوانب هذا الموضوع، وقد وقفت عليها، واستفدت من معظمها، فجزى الله تعالى أصحابها خيرًا، فبعض هذه المؤلِّفات وقفت عليها قبل تسجيل الموضوع، وقد ذكرتها في خطة البحث أثناء تسجيل الموضوع، والبعض الآخر وقفت عليه حين شارفت على الانتهاء من كتابة هذا البحث، ومن هذه المؤلِّفات: 1 - إقامة الدّليل والبرهان على تحريم الأجر على تلاوة القرآن: لفضيلة الشّيخ العلّامة محمّد بن عبد العزيز المانع (يرحمه الله تعالى) وهو كتيب صغير. وكما هو

ظاهر من عنوانه، فقد تناول مسألة واحدة، حيث جاء جوابًا على سؤال حول حكم الأجرة على تلاوة القرآن. 2 - تيسير العلّيم في أخذ الأجر على القرآن والتعليم: لعصام بن مرعي؛ تعرض فيه مؤلِّفه لمسألة أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلّم الشرعي. وقد اجتهد مؤلِّفُه في سرد بعض الروايات الحديثية المتعلّقة بالمسألة، واجتهد كذلك في نقل كلام العلماء حولها. 3 - القربات إهداؤها إلى الموتى والاستئجار عليها: للدكتور حسين عبد المجيد حسين أبو العلّا، وهو بحث صغير، كان الغرض من تأليفه بيان ما ينفع الميِّت في قبره، فجاء نصفه في مسألة: (هبة الثّواب)، ثمّ تكلم على بعض مسائل الموت، ثمّ ختم البحث بالكلام على إلاستئجار على بعض القرب على سبيل الإجمال. 4 - أخذ الأجرة على أعمال الطاعات والمعاصي: للدكتور عبد الله بن محمّد الطريقي، وهو كتاب متوسط الحجم، تعرض فيه المؤلِّف لمسألة الإجارة على الطاعات في حوالي (100) صفحة تقريبًا. تكلم فيه عن حكم الإجارة على بعض الطاعات، وبعض الولايات الشرعية، إِلَّا أنّه أجمل القول فيه جدًا، ووصل الحال في بعض المسائل إلى حدّ الإضمار الشديد، والكتاب مفيد في بابه , فجزى الله مؤلفه خيرًا. 5 - الاستئجار على فعل القربات الشرعية: لمؤلفه/ علي عبد الله حسن أبو يحيى، وهو كتاب مطبوع سنة 1418 هـ، كتب عليه: رسالة ماجستير بإشراف الدكتور/ عمر سليمان الأشقر. جاء الكتاب في حوالى (200) صفحة تقريبًا، هو على صغره، وعدم استيعابه جيد في بابه , إِلَّا أن مؤلفه لم يتعرض لتأصيل الموضوع، وكذلك لم يتعرض لكثير من المسائل ومن ذلك كلّ مسائل المعاملات الشرعية وتطبيقاته المعاصرة، وكثيرٍ من مسائل العبادات وخاصة مباحث النِّيابة التي

ينبني عليها حكم أخذ المال على هذه العبادات، وكذلك كثير من مسائل الولايات الشرعية، وإنّما تناول المسائل المشهورة في بعض الأبواب. 6 - الإجارة على الأعمال الدينية: لمؤلفه/ مصطفى رشاد عزمي عبد الخالق، وهو عبارة عن رسالة ماجستير، من كلية الشّريعة، جامعة الأزهر بالقاهرة، نبهني إليها فضيلة المشرف - حفظه الله - حين قمت بإحضار فهارس الرسائل العلمية من كلية الشّريعة بالأزهر، وعندما يسر الله لي السَّفر إلى القاهرة قمت بالاطلاع عليها، فوجدتها مثل الكتاب الّذي سبق الحديث عنه آنفًا من حيث الكم والكيف إِلَّا أنّها دونه في الجودة. ولعلّ الجديد في بحثي هذا، كما هو ملموس من خلال المقارنة بين مسائله كمًا وكيفًا، وبين ما ذكرته عن الدراسات السابقة في موضوعه يظهر فيما يأتي: 1 - أنّه قدم دراسة متكاملة عن جلّ مسائل القُرب الموجودة في أبواب الفقه الإسلامي، إنَّ لم تكن كلها فيما بلغه ظني. 2 - أنّه انفرد بمسائل كثيرة جدًا لم يتعرض لها أحد في الدراسات السابقة، ومن ذلك على سبيل المثال: الكلام عن المال والقرب بتفصيل واستيعاب، وكذلك ما يتعلّق بالقرب في أبواب المعاملات، وبخاصة عقود الإرفاق والإحسان، وتطبيقاتها المعاصرة في البنوك، أو المصارف، وكذلك بحث مسائل النِّيابة في العبادات بتفصيل، حيث إنها أصل هذا الباب من ناحية جواز أخذ العوض على هذه العبادات، أو عدم الجواز، وغير ذلك من المسائل الّتي تظهر من خلال الاطلاع على مسائل هذا البحث. 3 - التفصيل الدقيق في مسائل كلّ باب - في الغالب -، وبخاصة باب العبادات ومحاولة حصر كلّ المسائل المتعلّقة بكل عبادة من العبادات، وبيان القول فيها.

رابعا: خطة البحث

4 - التّحرِّي الشديد في نسبة الأقوال إلى قائليها، وفي نسبة المذاهب إلى أصحابها، وهذا من أكثر ما اعتنيت به في هذه الرسالة عناية فائقة، وبذلت في ذلك ما استطعته من وسع وطاقة. وأحسب أنّه إذا أضيف إلى ما ذكر، ما سيأتي، من دراسة في الباب التمهيدي، عن المال المأخوذ على القرب، وكذلك مفهوم القربة وأقسامها، وما تبع ذلك من تأصيل لهذا الموضوع، فإن ذلك قد يعطي دراسة متكاملة، أو تكاد عن القرب، وحكم أخذ المال عليها، ممّا قد يشكل - بمفهوم فقهاء العصر- نظرية متكاملة عن القرب، وما يتعلّق بها من أحكام، أو على أقل الأحوال يمهد الطريق لذلك، والله تعالى أعلم. رابعًا: خطة البحث: قمت بتقسيم مادة هذا البحث إلى مقدمة، وتمهيد، وبابين، وخاتمة، وهي إجمالًا على النحو التالي: المقدِّمة وهي تشتمل على ما يأتي: أوَّلًا: أهمية الموضوع. ثانيًا: أسباب اختياره. ثالثًا: الدراسات السابقة حول الموضوع. رابعًا: خطة البحث. خامسًا: المنهج الّذي سرت عليه في هذا البحث. سادسًا: الصعوبات الّتي عرضت أثناء البحث. سابعًا: الشكر والتقدير.

التمهيد في حقيقة المال والقرب وما يتعلّق بهما ويشتمل على مبحثين: المبحث الأوّل: حقيقة المال وما يتعلّق به. المبحث الثّاني: حقيقة القرب وما يتعلّق بها. الباب الأوّل أخذ المال على العبادات ويشتمل على خمسة فصول: الفصل الأوّل: أخذ المال على الصّلاة وما يتعلّق بها وتحته خمسة مباحث: المبحث الأوّل: أخذ المال على الصّلاة عن الغير. المبحث الثّاني: أخذ المال على الأذان والإقامة. المبحث الثّالث: أخذ المال على الإمامة والخطابة. المبحث الرّابع: أخذ المال على عمارة المساجد وصيانتها. المبحث الخامس: أخذ المال على الجنازة (تجهيز الميِّت ودفنه). الفصل الثّاني: أخذ المال على الزَّكاة والصيام وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأوّل: أخذ المال على الزَّكاة المبحث الثّاني: أخذ المال على الصِّيام وتحته مطلبان: المطلب الأوّل: أخذ المال على الصِّيام عن العاجز. المطلب الثّاني: أخذ المال على الصِّيام عن الميِّت.

المبحث الثّالث: أخذ المال على الاعتكاف وفيه مطلبان: المطلب الأوّل: أخذ المال على الاعتكاف عن الحي المطلب الثّاني. أخذ المال على الاعتكاف عن اليت الفصل الثّالث: أخذ المال على الحجِّ والعمرة وفيه أربعة مباحث: المبحث الأوّل: النِّيابة في الحجِّ والعمرة عن الحي وفيه مطلبان: المطلب الأوّل: النِّيابة في الحجِّ الواجب المطلب الثّاني: النِّيابة في حج التطوع المبحث الثّاني: النِّيابة في الحجِّ والعمرة عن الميِّت وفيه مطلبان: المطلب الأوّل: النِّيابة عن الميِّت في الحجِّ الواجب المطلب الثّاني: النِّيابة عن الميِّت في حج التطوع المبحث الثّالث: أنواع المال المأخوذ على الحجِّ والعمرة وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأوّل: النفقة وما في حكمها المطلب الثّاني: الجعالة المطلب الثّالث: الإجارة المبحث الرّابع: أخذ المال على ذبح الهدي والأضاحي ونحوهما وتحته مطلبان: المطلب الأوّل: النِّيابة في ذبح الهدي والأضاحي المطلب الثّاني: أخذ الأجرة على ذبح الهدي والأضاحي

الفصل الرّابع: أخذ المال على الجهاد وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأوّل: نفقة المجاهدين وتحته مطلبان: المطلب الأوّل: أخذ المجاهدين من الزَّكاة المطلب الثّاني: أخذ المجاهدين من بيت المال المبحث الثّاني: أخذ المال على القتال وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأوّل: استئجار المسلم للقتال المطلب الثّاني: أخذ الجعل على القتال المطلب الثّالث: إعطاء الأجير من الغنيمة المبحث الثّالث: أخذ المال على متعلّقات الجهاد وتحته ثلاثة مطالب: المطلب الأوّل: أخذ المال على المرابطة المطلب الثّاني: أخذ المال على حفظ الغنيمة المطلب الثّالث: ما يستحقه المعاون في الجهاد الفصل الخامس: أخذ المال على القرآن الكريم والعلّوم الشرعية وفيه مبحثان: المبحث الأوّل: أخذ المال على القرآن الكريم وفيه أربعة مطالب: المطلب الأوّل: أخذ المال على تعلم القرآن الكريم وتعليمه المطلب الثّاني: أخذ المال على تلاوة القرآن الكريم المطلب الثّالث: أخذ المال على كتابة المصحف وطباعته

المطلب الرّابع: أخذ المال على إجارة المصحف وبيعه المبحث الثّاني: أخذ المال على العلوم الشرعية وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأوّل: أخذ المال على طلب العلم المطلب الثّاني: أخذ المال على تعليم العلوم الشرعية المطلب الثّالث: أخذ المال على كتابة العلم الشرعي الباب الثّاني أخذ المال على المعاملات والولايات الشرعية وفيه فصلان: الفصل الأوّل: أخذ المال على المعاملات وفيه ستة مباحث: المبحث الأوّل: أخذ المال على القرض المبحث الثّاني: أخذ المال على الضمان والكفالة وفيه مطلبان: المطلب الأوّل: أخذ المال على الضمان المطلب الثّاني: أخذ المال على الكفالة المبحث الثّالث: أخذ المال على الصلح المبحث الرّابع: أخذ المال على الوديعة المبحث الخامس: أخذ المال على نظارة الوقف المبحث السّادس: أخذ المال على الوصايا الفصل الثّاني: أخذ المال على الولايات الشرعية وفيه أربعة مباحث:

المبحث الأوّل: أخذ المال على الإمامة العظمى (نفقة الإمام) المبحث الثّاني: أخذ المال على القضاء والشهادة وتحته مطلبان: المطلب الأوّل: أخذ المال على القضاء وفيه ثلاث مسائل: المسألة الأولى: ما يأخذه القاضي من مال على قضائه المسألة الثّانية: ما يأخذه أعوان القاضي المسألة الثّالثة: ما يأخذه المأذون الشرعي على عقود الأنكحة المسألة الرّابعة: ما يأخذه القسام المطلب الثّاني: أخذ المال على الشّهادة المبحث الثّالث: أخذ المال على الإفتاء المبحث الرّابع: أخذ المال على الحسبة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) الخاتمة وقد اشتملت على ملخص للرسالة مع إبراز أهم النتائج الّتي توصل إليها الباحث من خلال هذه الدراسة. الفهارس وهي عبارة عن: 1 - فهرس المصادر والمراجع 2 - فهرس الموضوعات

خامسا: منهج البحث

خامسًا: منهج البحث: اتبعت في هذا البحث المنهج التالي: 1 - صورت المسألة المراد بحثها تصويرًا دقيقًا، قبل بيان حكمها؛ وذلك ليتضح المقصود من دراستها. 2 - إذا كانت المسألة من مواضع الاتفاق، فقد ذكرت حكمها مقرونًا بدليله، مع توثيق الاتفاق من مظانه المعتبرة مع الإتيان بنصوص الفقهاء الدالة على ذلك عند الحاجة. 3 - إذا كانت المسألة من مسائل الخلاف، فقد اتبعت في دراستها ما يأتي: أ - تحرير محل الخلاف، إذا كانت بعض صور المسألة محل خلاف وبعضها محل اتفاق. ب - ذكر الأقوال في المسألة، وبيان من قال بهذه الأقوال من أهل العلم، ويكون عرض الخلاف حسب الاتجاهات الفقهية. ج - الاقتصار على المذاهب الفقهية المعتبرة، مع العناية بذكر ما تيسر الوقوف عليه، من أقوال السلف الصالح، وإذا لم أقف على المسألة في مذهب ما، فأسلك بها مسلك التخريج، ما استطعت إلى ذلك سبيلًا. د - توثيق الأقوال من كتب أهل المذهب نفسه مع مراعاة التّرتيب الزمني بين المذاهب , فأذكر المذهب الحنفي أوَّلًا، ثمّ المالكي، ثمّ الشّافعيّ، ثمّ الحنبلي، ثمّ الظاهري - إنَّ وجد - مع مراعاة التّرتيب الزمني كذلك للمصادر والمراجع داخل كلّ مذهب. هـ - استقصاء أدلة الأقوال ما أمكن، مع بيان وجه الدلالة، وذكر ما يردّ عليها من مناقشات، وما يجاب به عنها. و- ذكر الأقوال مرتبة بحسب قوتها؛ فاذكر القول الراجح أوَّلًا، ثمّ الّذي يليه في القوة، وهكذا، إلى أن أنتهي بأضعف الأقوال، وهي الأقوال المرجوحة.

و - ذكر الأقوال مرتبة بحسب قوتها , فأذكر القول الراجح أوَّلًا، ثمّ الّذي يليه في القوة، وهكذا، إلى أن أنتهي بأضعف الأقوال، وهي الأقوال المرجوحة. ز- عند ذكر أدلة الأقوال، فقد ذكرت أدلة القول الأضعف أوَّلًا، أو المرجوح، ثمّ الّذي يليه في القوة إلى أن أنتهي بأدلة القول الراجح. ح - ذكر سبب الخلاف، إنَّ وجد. ط - الترجيح بين الأقوال، مع بيان سببه، وذكر ثمرة الخلاف إنَّ وجدت. 4 - الاعتماد على أمهات المصادر والمراجع الأصيلة عند تحرير الأقوال، وتوثيق المذاهب، وتخريج الأقوال، وذكر الأدلة. 5 - العناية بضرب الأمثلة، وبخاصة الواقعية. 6 - التركيز على موضوع البحث وتجنب الاستطراد ما أمكن. 7 - تجنب ذكر الأقوال الشاذة. 8 - العناية بدراسة، ما جد من القضايا ممّا له صلة واضحة بالبحث. 9 - ترقيم الآيات وبيان أسماء السور. 10 - تخريج الأحاديث النبوية، بذكر من أخرجها من العلماء، مع بيان ما ذكره أهل الشأن في درجتها من حيث الصِّحَّة والضعف ما أمكنني ذلك، إِلَّا أن يكون الحديث في الصحيحين، أو أحدهما، فأكتفي بذلك. 11 - تخريج الآثار في مصادرها الأصيلة، وذكر الحكم عليها إنَّ وجد. 12 - التعريف بالمصطلحات، وشرح الغريب. 13 - العناية بقواعد اللُّغة العربيّة، والإملاء، وعلامات الترقيم. 14 - ترجمة الأعلام غير المشهورين، سواء أكانوا من الصّحابة، أم من غيرهم , وذلك عند ورود العلم لأول مرّة. 15 - جعلت خاتمة للبحث، وهي عبارة عن ملخص للرسالة، تعطي سورة واضحة لما تضمنته الرسالة، مع إبراز أهم النتائج.

سادسا: الصعوبات

16 - ذيلتُ الرسالة بفهارس علمية تقدّم ذكرها. سادسًا: الصعوبات: واجهتني بعض الصعوبات أثناء إعداد هذا البحث منها: 1 - طول البحث وسعة عناوينه، حيث شمل جلَّ أبواب الفقه، بدءًا من الأذان، وانتهاء بالشهادات، هذا عدا الباب التمهيدي وما فيه من مسائل كثيرة. 2 - كثرة وتنوع المال المأخوذ على القرب، من رزق، وإجارة، وجعالة، ونفقة، وهدية، وزكاة، وغير ذلك من الأنواع، ممّا يقتضي التنبه لذلك في كلّ مسألة، وبيان ما يجوز منها وما لا يجوز. 3 - تداخل كثير من مسائل البحث وتشابهها، ممّا اقتضى عند الفصل بينها وتحريرها جهدًا كبيرًا ومضنيًا. 4 - كثرة المصادر والمراجع الّتي يلزم الرجوع إليها في كلّ مسألة، وهذا يتطلب كثيرًا من الجهد، والوقت. 5 - تشعب مسائل البحث، وتفرقها في أبواب شتى، وأحيانًا في غير مظنها، ممّا اقتضى الرجوع في كلّ مسألة إلى أبواب كثيرة من أبواب الفقه، وقراءتها بكاملها غالبًا، ممّا اقتضى جهدًا، ووقتًا كبيرين. شكر وتقدير وعرفان: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (لا يشكرُ اللهَ من لا يشكرُ الناسَ). وفي رواية: (من لم يشكرِ الناسَ لم يشكرِ اللهَ) (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ في الأدب المفرد: 1/ 310 (218)، وأبو داود، كتاب الأدب، باب شكر المعروف: 4/ 355 (4811)، والترمذي: كتاب البرّ والصلة، باب ما جاء في الشكر لمن أحسن إليك: 4/ 299 (1955)، وصححه ابن حبّان: 8/ 199 (3408).

فإني بهذه المناسبة الكريمة المباركة، أرى لزامًا عليَّ - عملًا بقول النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، واعترافًا بالجميل، وإحقاقًا للحق - أن أتقدم بالشكر الجزيل، والثناء العاطر، والعرفان، لكل من أعان وساهم؛ حتّى وصلت إلى هذه المرحلة، ولترى هذه الرسالةُ النورَ، وإن أولى النَّاس بالشكر والتقدير، هذه المملكة الحبيبة، المملكة العربيّة السعودية ملكًا وحكومة وشعبًا، على ما قدموه، ويقدمونه للعلّم، وأهله، ليس في داخل المملكة فحسب، وإنّما في العالم أجمع، وما أنا وغيري من طلبة العلم إِلَّا ثمارًا من غراسهم , فاللهَ أسألُ - بمنه وكرمه - أن يجزي هذه البلادَ الطيبةَ وأهلها خير الجزاء، على ما يقومون به خدمةً للعلّم وأهله، وأخص بالشكر والتقدير والعرفان خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود - حفظه الله - ولي أمر هذه البلاد وراعي نهضتها، سائلًا الله أن يحفظه من كلّ سوء، وأن ينعم عليه بالصحة والعافية. كلما أخص بالشكر والثناء، جامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلامية، تلك الجامعة الفتية، زادها الله رفعة وتقدمًا ممثلة في مديرها، معالي الأستاذ الدكتور/ عبد الله بن يوسف الشبل - حفظه الله - على ما يقوم به من جهد مبارك للارتقاء بهذه الجامعة، حتّى تبلغ الذروة في عطائها والنهوض بأبنائها؛ لبلوغ ذرا المجد والتقدم والازدهار، وعلى ما خصني به من تفضله بقبولي في مرحلة الدراسات العلّيا بهذه الكلية المباركة، وكذا أصحاب الفضيلة وكلاء الجامعة، وكافة القائمين على شؤونها، لهم جميعًا جزيل الشكر والثناء. كما أرفع أسمى آيات الشكر والتقدير، إلى الكلية الحبيبة إلى نفوسنا جميعًا، إلى كلية الشّريعة بالرياض، ذلك الصرح العلّمي الشامخ، والتي سعدتُ كما سعد غيري بالتشرف بالانتساب إليها والدراسة فيها، ممثلة في فضيلة، أستاذي، الأستاذ الدكتور/ عبد الرّحمن بن محمّد السدحان، عميد الكلية - حفظه الله تعالى، ووكيليها

- وفقهما الله تعالى- على ما يقومون به من جهد مبارك تجاه أبنائهم من طلبة العلم في هذه الكلية. كما أتوجه بالشكر والثناء إلى فضيلة الشّيخ الدكتور رئيس قسم الفقه بالكلية، وكافة أعضاء هيئة التدريس بالقسم من أساتذة ومحاضرين ومعيدين، وكافة الزملاء، لهم جميعًا مني الشكر والثناء. هذا وأخص بالشكر والثناء العاطر، والمحبة الخالصة، فضيلة الشّيخ الدكتور/ أحمد بن يوسف الدريويش، شيخي، وأستاذي، الّذي تفضل، وتكرم بالإشراف على هذه الرسالة، والذي ما فتئ يتعهدُني بالرعاية والتوجيه والتسديد، والنصح، وفتح لي صدره، وأفسح لي في وقته وجهده، وأولاني بكل عناية ورعاية، وصبر على ما كان مني من أذى، فجزاه الله عني خير الجزاء، وأسأل الله أن يبارك في عمره وعمله، وأهله وماله كما أتوجه بالشكر والتقدير إلى الشيخين الكريمين والأستاذين الفاضلين، فضيلة الشّيخ الدكتور/ إبراهيم بن عبد العزيز الغصن عضو هيئة التدريس بكلية الشّريعة وأصول الدِّين بالقصيم، وفضيلة الشّيخ الدكتور/ صبري السعداوي مبارك عضو هيئة التدريس بكلية الشّريعة بالرياض على تفضلهما بقبول مناقشة هذه الرسالة والحكم عليها، وأرجو الله أن يجزيهما عني خير الجزاء وأن يجعل ذلك في موازين حسناتهما. كما أخص بالشكر والثناء كلّ من كان سببًا في قدومي إلى هذه البلاد الطيبة، والتحاقي بهذه الجامعة المباركة وهم: - فضيلة الشّيخ العلّامة/ محمّد بن صاع العثيمين، عضو هيئة كبار العلماء - رحمه الله -. - فضيلة الأستاذ الدكتور معالي الشّيخ/ عبد الله بن عمر نصيف، نائب رئيس مجلس الشورى، والأمين العام لرابطة العالم الإسلامي سابقًا، حيث كان له الفضل بعد فضل الله الواسع في قدومي إلى هذه المملكة الحبيبة، وقد أولاني بكل أنواع الرعاية والاهتمام فجزاه الله عني خير الجزاء.

كما أتوجه بالشكر والتقدير لفضيلة شيخي الشّيخ الأستاذ الدكتور/ عبد الله بن سعد الرشيد على ما أولاني به من رعاية أبوية كريمة , فجزاه الله عني خير الجزاء، كما أشكر كافة الإخوان الكرام الذين وقفوا يحانبي، حتّى أنجزت هذه الرسالة , فلهم جميعًا مني أسمى آيات الشكر والتقدير. وبعد: فإن هذه الرسالةَ جهدُ المقل، وحيلة العاجز، وهي قبل كلّ شيء عملٌ بشريٌّ يعتريه النقص والخطأ، فما كان فيها من صواب فالفضل فيه لله وحده منةً منه وكرمًا، وما كان فيها من خطأ فمني، ومن الشيطان، وأستغفر الله من ذلك، وأتوب إليه. وفي الختام أسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يدخره لي قربة إليه، كما أساله أن يرزقني العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يغفر لي ولوالدي، ولمشايخنا، ولجميع المسلمين الموحدين. وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

التمهيد حقيقة المال والقرب ومايتعلق بهما

التمهيد حقيقة المال والقُرَب ومايتعلّق بهما ويشتمل على مبحثين: المبحث الأوّل: حقيقة المال وما يتعلّق به المبحث الثّاني: حقيقة القرب وما يتعلّق بها

المبحث الأول حقيقة المال وما يتعلق به

المبحث الأوّل حقيقة المال وما يتعلّق به المطلب الأوّل التعريف بالمال وفيه فرعان: الفرع الأوّل تعريف المال في اللُّغة المال في اللُّغة، مأخوذ من مادة (مَوَلَ)، والميم، والواو، واللام كلمة واحدة، تقول: تموَّل الرَّجلُ؛ أي: اتخذ مالًا، ومال: يَمَال: إذا كثر ماله (¬1)، هذا ما يتعلّق بأصل الكلمة. وبالرجوع إلى معاجم اللُّغة العربيّة، يتبين أنّه لايوجد تعريف دقيق، ومحدد لهذه الكلمة، وهذا يُعطي دلالة واضحة على أن العرف له مدخل كبير في تحديد مفهوم هذه الكلمة، فكل ما عُدّ مالًا في العرف فهو داخل تحت مفهوم هذه الكلمة. ومن أجل ذلك قد تفاوتت عبارات أصحاب المعاجم عند تعريفهم للمال , فمرة يقولون في تعريفه: المال معروف (¬2)، وأخرى يقولون: المال: ما ملكته من كلّ شيء (¬3)، أو من جميع الأشياء (¬4). ¬

_ (¬1) معجم مقاييس اللُّغة لابن فارس: مادة (مول) 5/ 285. دار الجيل - بيروت، بتحقيق/ عبد السلام هارون. (¬2) كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي: 8/ 344، تحقيق د. مهدي المحزومي وآخرون. دار الحرية بغداد طبعة سنة 1406 هـ مختار الصحاح لأبي بكر الرازي: مادة "مول"، ص: 639، لسان العرب لابن منظور: مادة "مول" 11/ 635 - 636، المصباح المنير للفيومي: مادة "مول"، ص 586. (¬3) القاموس المحيط للفيروز آبادي: مادة "مول"، ص:1368. مؤسسة الرسالة. (¬4) لسان العرب لابن منظور، مادة: مول، 11/ 635 - 636.

وبعضهم يعرّف المال بذكر أنواعه , قال ابن الأثير (¬1): "المال في الأصل: ما يُملك من الذهب، والفضة، ثمّ أطلق على كلّ ما يُقتنى، وُيملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل , لأنّها كانت أكثر أموالهم" (¬2). وقيل: "المال: كلّ ما يملكه الفرد، أو تملكه جماعة من متاع، أو عروض تجارة، أو عقار، أو نقود، أو حيوان , وجمعه أموال، وأطلق في الجاهلية على الإبل" (¬3). هذا ما ذكره علماء اللُّغة، والذي يظهر أن تحديد مفهوم المال في اللُّغة إنّما هو راجع إلى عرف النَّاس في معاشهم بحسب ما يفهمون، ويألفون، والذي يدلُّ على ذلك ما يأتي؟ أوَّلًا: أن لفظة (مال) من الكلمات القديمة، والمشهورة في لغة العرب، فلا يعقل أن تترك كلّ هذه المدة دون أن يكون لها معنى، أو مفهوم واضح في حياة النَّاس، إذ المال قِوام الجماعة، وعصب حياتها. ثانيًا: أن لفظة (مال) قد تكررت في الكتاب والسُّنَّة عشرات المرات، ولم يأت من الشارع تحديد مفهوم لها , فعُلِمَ من ذلك أنّه تركها لعرف النَّاس، وفهمهم، ¬

_ (¬1) هو المبارك بن محمّد بن محمّد بن عبد الكريم، أبو السعادات الشيباني مجد الدِّين ابن الأثير الجزري الموصلّي المحدث اللغوي المفسر، عرضت عليه الوزارة فرفضها، وعزف عن الدنيا، وأقبل على العلم، من مؤلفاته: النهاية في غريب الحديث، جامع الأصول في أحاديث الرسول، تجريد أسماء الصّحابة، وغيرها، توفي بالموصل سنة: 606 هـ: طبقات الشّافعيّة الكبرى لابن السبكي: 8/ 366، بغية الوعاة في تراجم النحاة للسيوطي: 2/ 274. (¬2) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير الجزري: 4/ 373 طبع المكتبة الإسلامية. (¬3) المعجم الوسيط لإبراهيم مصطفى وجماعة: ص: 892 دار الدّعوة - تركيا.

الفرع الثاني المال في الاصطلاح الشرعي

فكل ما عُدّ مالًا في العرف فهو مال، ولذا قال الفيومي (¬1) في المصباح المنير: "فقول الفقهاء: ما يتموّل. أي: ما يعدّ مالًا في العرف" (¬2). والذي نأخذه من المعاجم اللغوية: أن المال: هو ما تملّكه الإنسان، وحازه بالفعل من كلّ شيء، وهذا الإطلاق يشمل العين، والمنفعة؛ فالأعيان نحو ما مثلوا به، كالذهب، والفضة، والحيوان، والنبات، وغير ذلك. والمنفعة: نحو الرُّكوب للدابة، واللبس للثوب، والسكنى للدار، وغير ذلك. وأمّا ما لايملكه الإنسان، ولم يدخل في حيازته بالفعل فلا يُعد مالًا في اللُّغة. الفرع الثّاني المال في الاصطلاح الشرعي اتّجه الفقهاء، في تعريفهم للمال، إلى اتجاهين مختلفين، وهذا الاختلاف مردّه إلى اختلافهم، في مالية المنافع، وعدم ماليتها. فأصحاب الاتجاه الأوّل: وهم جمهور الفقهاء، يرون أن المنافع أموال. وبناء على ذلك، فقد اشتملت تعريفاتهم للمال على المنفعة. وأمّا أصحاب الاتجاه الآخر: وهم الحنفية، فإنهم لايرون أن المنافع تُعد مالًا، وبالتالي لم يدخلوها في تعريفاتهم للمال. فيتحصل لنا ممّا سبق أنّه يوجد اصطلاحان للمال: ¬

_ (¬1) هو أحمد بن محمّد بن علي الفيومي الحموي أبو العباس لغوي فقيه، من أبرز مؤلفاته: المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، ونثر الجمان في تراجم الأعيان وديوان الخطب، توفي نحو سنة 770 هـ: الدرر الكامنة لابن حجر: 1/ 413، بغية الوعاة في طبقات اللغوبين والنحاة للسيوطي 1/ 389. (¬2) المصباح المنير للفيومي: ص: 586.

أولا: تعريف المال اصطلاح الحنفية

الاصطلاح الأوّل: اصطلاح الجمهور. الاصطلاح الآخر: اصطلاح الحنفية. وسوف أذكر أوَّلًا تعريف الحنفية للمال، ثمّ أعقبه بتعريف الجمهور على النحو التالي: أوَّلًا: تعريف المال اصطلاح الحنفية: يذكر الحنفية في مؤلفاتهم تعريفات كثيرة للمال، وهم وإن اتفقوا فيما بينهم على فهم حقيقة المال، وتحديد ذلك المفهوم عندهم، إِلَّا أنّهم اختلفوا في التعبير عن ذلك؛ فجاءت عباراتهم متنوعة، وما ذلك إِلَّا طمعًا في الوصول إلى تعريف دقيق لمفهوم المال في الاصطلاح الشرعي. وأكثر من تعرض لتعريف المال هو ابن نجيم (¬1)، حيث نقل عدة تعريفات للمال عن كثير من علماء الحنفية المتقدمين. وسأسوق هذه التعريفات، وغيرها ممّا هو موجود في كتب الحنفية حتّى يتضح من خلالها مفهوم المال عندهم. فمن تلك التعريفات ما يلي: التعريف الأوّل: قالوا في تعريفه: (هو اسم لما هو مخلوق لإقامة مصالحنا به، ولكن باعتبار صفة ¬

_ (¬1) هو زين الدِّين بن إبراهيم بن محمّد بن بكر الشهير بابن نجيم، أحد فقهاء الحنفية الكبار، ولد في القاهرة سنة (926 هـ)، وبها توفي سنة (970 هـ)، وخلف مصنفات كثيرة منها: البحر الرائق شرح كنز الدقائق في الفقه، والأشباه والنظائر، وشرح المنار في الأصول، وغيرها. انظر: (التعليقات السنية للكنوي بهامش الفوائد البهية، ص: 134 و 135، شذرات الذهب لابن العماد: 8/ 358، معجم المؤلِّفين 4/ 192.

التعريف الثاني

التمول والإحراز) (¬1). التعريف الثّاني: قالوا: (هو ما من شأنّه أن يدخر للانتفاع به وقت الحاجة) (¬2). التعريف الثّالث: أن المال هو: "كلّ ما يتملكه النَّاس، من نقد، وعروض، وحيوان، وغير ذلك" (¬3). وعقب على هذ"لتعريف ابن نجيم بقوله: "إِلَّا أن في عُرفنا يتبادر من اسم المال النقد، والعروض" (¬4). التعريف الرّابع: أن المال هو: "ما يتمول، ويدخر للحاجة"، وسيأتي تعريف التمول. وعقب عليه ابن نجيم بقوله: "وهو خاص بالأعيان، فخرج تمليك النافع" (¬5). التعريف الخامس: أن المال هو: "ما يميل إليه الطبع، ويمكن ادخاره لوقت الحاجة". وقد عقب صاحب هذا التعريف عليه بقوله: "والمالية إنّما تثبت بتمول النَّاس كافة، أو بتقوم البعض، والتقوم يثبت بها، وبإباحة الانتفاع له شرعًا. فما يكون مباح الانتفاع بدون ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي: 7/ 79. (¬2) التلويح على التوضيح للتفتازاني: 1/ 171 دار الكتب العلمية بيروت. (¬3) البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم: 2/ 242. دار الكتاب الإسلامي - القاهرة. (¬4) البحر الرئق لابن نجيم: 2/ 242. (¬5) البحر الرائق لابن نجيم: 2/ 217.

التعريف السادس

تمول النَّاس لايكون مالًا ,كحبة حنطة، وما يكون مالًا بين النَّاس، ولا يكون مباح الانتفاع، لا يكون متقومًا؛ كالخمر. وإذا عدم الأمران لم يثبت واحد منهما؛ كالدم" (¬1). اهـ. وقد نقل هذا التعريف ابن عابدين (¬2) في حاشيته، وعلق عليه بقوله: "وأنّه خرج بالإدخار المنفعة، فهي ملك لا مال , لأنّ الملك ما من شأنّه أن يتصرف فيه بوصف الاختصاص" (¬3). التعريف السّادس: أن المال هو: "اسم لغير الأدمي، خلق لمصالح الآدمي، وأمكن إحرازه، والتصرف فيه على وجه الاختيار" (¬4). وقد عقب صاحب هذا التعريف عليه بقوله: "والعبد وان كان فيه معنى المالية، لكنه ليس بمال حقيقة، حتّى لايجوز قتله، وإهلاكه" (¬5). وقد ذكلر ابن عابدين التعريف السابق، والتعقيب عليه في حاشيته، ثمّ عقب على ذلك كله بقوله: " قلتُ: وفيه نظر , لأنّ المال المنتفع به في التصرف على وجه الاختيار، والقتل، والإهلاك ليس بانتفاع، ولأن الانتفاع بالمال يعتبر في كلّ شيء بما ¬

_ (¬1) البحر الرائق: 5/ 277 نقلًا عن صاحب الكشف الكبير، وانظر: حاشية ابن عابدين: 4/ 3. (¬2) هو محمّد أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين الدمشقي، فقيه بلاد الشّام، وإمام الحنفية في عصره، ولد بدمشق سنة 1198 هـ، وبها توفي سنة 1252 هـ، وخلف مصنفات كثيرة منها: حاشيته المشهورة على الدر المختار المسماة: ردّ المحتار، وحاشيته على البحر الرائق، وتسمى: منحة الخالق، وغيرها كثير. انظر: (حلية البشر للبيطار: 3/ 1230، الأعلام للزركلي: 6/ 42). (¬3) حاشية ابن عابدين: 4/ 100. (¬4) البحر الرائق: 5/ 277. (¬5) البحر الرائق: 5/ 277.

التعريف السابع

يصلح له، ولايجوز إهلاك شيء من المال بلا انتفاع أصلًا , كقتل الدابة بلا سبب موجب" (¬1). وهذا التعريف قد اختاره الشّيخ محمّد أبو زهرة (¬2)، وقد علّق عليه بقوله: "وهذا التعريف كامل صحيح، وإن كان فيه نقص، فهو أنّه لم يشمل الإنسان المسترق، وهو نقص فيه كمال؛ لأنّ الإنسان لايعتبر مالًا في أصله، والمالية أمر عارض للعبيد، ويحسن رفعها ما استطاع الإنسان إلى ذلك سبيلًا، وهذا أمر مقرر في الإسلام" (¬3). التعريف السابع: أن المال هو: "موجود يميل إليه الطبع، ويجرى فيه البذل، والمنع" (¬4). وقد نقل ابن عابدين هذا التعريف في حاشيته، واختاره، وعلّق عليه بقوله: "فالأولى ما في الدرر من قوله: المال: موجود يميل إليه الطبع ... إلخ، فإنّه يخرج بالموجود: المنفعلة، فافهم، ولايرد أن المنفعة تملك بالإجارة، لأنّ ذلك تمليك لا بيع حقيقة، ولذا قالوا: إنَّ الإجارة بيع المنافع حكمًا أي: أن فيها حكم البيع، وهو التمليك لا حقيقته ... " (¬5). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين: 4/ 3. (¬2) هو: محمّد بن أحمد أبو زهرة، من علماء الأزهر الكبار في عصره، ولد سنة 1316 هـ بمدينة المحلة الكبرى المصرية، وكان أستاذًا للدراسات العلّيا في جامعة الأزهر، وعضوًا بالمجلس الأعلى للبحوث الإسلامية، توفي بالقاهرة سنة 1394 هـ، وخلف مؤلفات كثيرة منها: الملكية في الشّريعة الإسلامية، وأصول الفقه، ودراسات موسعة حول كلثير من الأئمة، وخاصة الأئمة الأربعة انظر: الأعلام للزركلي: 6/ 25، 26. (¬3) الملكية ونظرية العقد لمحمد أبو زهرة: ص / 25. (¬4) درر الحكام شرح غرر الأحكام لمنلاخسرو: 2/ 168. طبعة كراتشي - باكستان. (¬5) حاشية ابن عابدين: 4/ 100، 101.

التعريف الثامن

التعريف الثّامن: وهو تعريف مجلة الأحكام العدلية (¬1)، وقد جاء فيه أن المال هو: "ما يميل إليه الطبع، ويمكن ادخاره لوقت الحاجة، منقولًا كان، أو غير منقول" (¬2). هذه مجمل التعريفات الّتي وقفت عليها في كتب الحنفية. وهذه التعريفات على الرغم من تنوعها، وكثرتها، لم تسلم من النقض من متأخري الحنفية، وقد اعتُرض عليها بما يأتي: أوَّلًا: أن طباع النَّاس تختلف في ميلها، وتناقضها , فلا تصلح أن تكون أساسًا، ولا مقياسًا لتمييز المال من غير المال. ثانيًا: أن من المال أنواعًا لا يمكن ادخارها؛ كالخضراوات، والثمار الطازجة مع أنّها أموال مهمة بين النَّاس. ثالثًا: أن من الأموال ما تعافه النفس، ولا يميل إليه الطبع , كالأدوية الكريهة، وهي أموال ثمينة لا يشملها التعريف (¬3). ولما كانت هذه التعريفات لا تعبر عن حقيقة المال في الذهب الحنفي فقد حاول بعض الباحثين المعاصرين تعريف المال تعريفًا سليمًا خاليًا من الاعتراضات السابقة؛ ¬

_ (¬1) مجلة الأحكام العدلية: قام على هذه المجلة مجموعة من العلماء في الدولة العثمانية سنة 1286 هـ، وهي عبارة عن مجموعة من أحكام المعاملات، والدعاوى، والبينات، وتمت صياغة المجلة على هيئة مواد ذات أرقام متسلسلة على نمط القوانين الحديثة بلغت: 1851 مادة، وهي تشبه ما يسمى في العصر الحديث بالقانون المدني، وتم ترتيب المواد فيها على الكتب، والأبواب الفقهية المعروفة بدءا من كتاب البيوع، وانتهاءً بكتاب القضاء. انظر: المدخل الفقهي للزرقاء 1/ 196 - 199، مرجع العلوم الإسلامية للدكتور محمّد الزحيلي: ص 497. (¬2) مجلة الأحكام العدلية مع شرحها: درر الأحكام لعلّي حيدر: مادة/ 126، 1/ 100. دار الكتب العلمية- بيروت. (¬3) المدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقاء 3/ 114، 115. دار الفكر - بيروت.

فعرّف المال في نظر فقهاء المذهب الحنفي بأنّه: "كلّ عين ذات قيمة مادية بين النَّاس" (¬1). وعرّفه بعضهم بقوله: "ما يمكن حيازته، وإحرازه، والانتفاع به انتفاعًا معتادًا (¬2). من خلال تعريفات الحنفية السابقة للمال يلحظ أنّهم يشترطون لتحقق مالية الشيء أمرين: الأمر الأوّل: أن يكون هذا الشيء ماديًا يمكن إحرازه، وحيازته. وعليه، فلا تكون المنافع، والديون، والحقوق المحضة مثل حق التعلي (¬3)، والشُّفعَةِ (¬4)، ونحوها، لا تكون أموالًا، كذلك الأمور المعنوية , كالشرف، والذكاء، والصحة، لا تكون أموالًا. ولا يشترط كذلك أن يكون الشيء مملوكًا بالفعل حتّى يكون مالًا، بل يكفي إمكان تملُّكه، وحيازته. وعليه، فالصَّيد في الفلاة، والطير في السَّماء يعتبر مالًا؛ لإمكان إحرازه، وتملكه. الأمر الآخر: أن يكون هذا الشيء منتفعًا به، ويكون هذا الانتفاع معتادًا. ¬

_ (¬1) المدخل الفقهي العام للزرقاء 3/ 118. ذكر هذا التعريف الأستاذ مصطفى الزرقاء وشرحه فقال: (فبالعين: خرجت المنافع والحقوق المحضة ممّا عدوه ملكًا لا مالًا، وبالقيمة المادية: خرجت الأعيان الّتي لا قيمة لها بين النَّاس كحبة القمح والجيفة ...). (¬2) المدخل في التعريف بالفقه الإسلامي/ محمّد مصطفى شلبى ص 330، 1 (¬3) التعلي في اللُّغة: من العلّو، وهو الارتفاع. وفي الاصطلاح: هو رفع بناء فوق بناء آخر. انظر: الموسوعة الفقهية - الكويت: 12/ 292. (¬4) الشُّفعَةِ في اللُّغة: من الشفع، وهو الزوج. وفي الاصطلاح: "هي استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكة ممّن انتقلت إليه بعوض مالي" انظر: الروض المربع مع حاشية ابن قاسم: 5/ 426.

ثانيا: المال في اصطلاح الجمهور

وعليه، فالطعام الفاسد، ولحم الميِّتة، ليسا بمالٍ؛ لأنّه لا ينتفعٍ بهما أصلًا. وحبة القمح، وقطرة الماء ليستا بمال , لأنّهما لا ينتفع بهما انتفاعًا معتادًا. والمراد بالانتفاع هنا: هو الانتفاع الشروع في حالة السعة، والاختيار، دون حالة الضّرورة، فجواز الانتفاع بلحم الميِّتة في حال الضّرورة لا يجعل منه مالًا. وليس المقصود بالانتفاع هنا انتفاع النَّاس كافة. بل يكفي انتفاع بعضهم. وعليه، فلا تزول مالية الشيء إِلَّا إذا ترك النَّاس كلهم تموُّله، ولم تكن له منفعة أصلًا، أمّا إذا ترك بعض النَّاس تموله، وبقي منتفعًا به عند بعضهم فلا تزول ماليته كالملابس القديمة الّتي يستعملها بعض النَّاس دون البعض الآخر" (¬1). ثانيًا: المال في اصطلاح الجمهور: تقدّم معنا أن اختلاف الجمهور مع الحنفية في تعريف المال في الاصطلاح راجع إلى أن الحنفية لا يرون مالية المنافع، بخلاف الجمهور، الّذي يرى أن المنافع أموال. وعليه، فإن تعريف الجمهور للمال سيكون أوسع من تعريف الحنفية، حيث يشتمل على المنافع، بل تتسع دائرة الأموال عند الجمهور لتشمل ما يُعرف في هذا العصر بالحقوق المعنوية. وسأذكر جملة من تعربفات الجمهور للمال ثمّ أذكر التعريف المختار. أوَّلًا: المال عند المالكية: التعريف الأوّل: عرّفه ابن عبد البرّ (¬2) بقوله: "المعروف من كلام العرب: أن كلّ ¬

_ (¬1) المدخل لمصطفى شلبي: ص/ 330، 331، أحكام المعاملات الشرعية للأستاذ الشّيخ علي الخفيف، ص/ 25 دار الفكر - بيروت وانظر الملكية للعبادي: 1/ 174 - 175. (¬2) هو الإمام الحافظ أبو عمر، يوسف بن عبد الله بن محمّد بن عبد البر النمري القرطبي الأندلسي المالكي، الفقيه المحدث، ولد سنة 368 هـ - على التصحيح -، برع في العلم، وأصبح من أئمة الدنيا،

تُمول، وتملك فهو مال" (¬1). ثمّ ذكر في موضع آخر تعريف المال فقال: "والعلّم محيط، واللسان شاهد في أن ما تملك، وتمول يسمى مالًا" (¬2). وعلى هذا، فتعريف المال عند ابن عبد البر هو: "كلّ ما تُمول، وتُملك". فقوله: "كلّ ما تُمُوِّل، وتملك"، يشمل الأعيان، والمنافع. التعريف الثّاني: عرّفه الشاطبي (¬3) بأنّه: "ما يقع عليه الملك، ويستبد به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه" (¬4). فقوله: "ما يقع عليه الملك". حيث انطلق في تعريفه من كون المال محلًا للملك، والملك في حقيقته اختصاص المالك بهذا الشيء، بحيث يكون له الانتفاع، والتصرف فيه بكل أنواع الانتفاع، والتصرف، والاختصاص لايتعلّق إِلَّا بماله قيمة مادية بين النَّاس، وإلا فلا معنى للاختصاص به، وعلى هذا فيكون قوله: "ويستبد به المالك ¬

_ = وله مؤلفات كثيرة في كلّ فن منها: الكافي في فروع المالكية، والتمهيد لما في الموطَّأ من المعاني والأسانيد، والاستذكار - وكلاهما في الحديث - والاستيعاب في معرفة الأصحاب، وغيرها كثير، وقد توفي سنة 463 هـ أنظر: سير أعلام النُّبَلاء للذهبي: 18/ 153 - 163، وترتيب المدارك للقاضي عياض: 4/ 808 - 810. (¬1) التمهيد لابن عبد البرّ: 2/ 5. (¬2) التمهيد لابن عبد البرّ: 2/ 5، 6، وقد بين ابن عبد البر معنى المال، وردٌ على من زعم أن العين لاتسمى مالًا، وهم دوس، والمراد بالعين هنا: الذهب، والفضة. (¬3) هو أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المالكي الشهير بالشاطبي، من علماء المالكلية، كان إمامًا محققًا وفقيهًا أصوليًا، له مصنفات كثيرة في مختلف علوم الشّريعة منها: الموافقات في أصول الشّريعة - وهو أهم كتبه -، والاعتصام في الحوادث والبدع، وأصول الفقه، توفي سنة 790 هـ انظر: شجرة النور الزكية لمخلوف: 1/ 231، ونيل الابتهاج لبابا التنبكتي ص 46. (¬4) الموافقات للشاطبي: 2/ 14. دار الكتب العلمية تحقيق الشّيخ عبد الله دراز.

عن غيره" مجرد زيادة للتوضيح، والبيان , لأنّ الملك - كما سبق - يقتضي الاختصاص، والاستبداد بالشيء. وقوله: "إذا أخذه من وجهه"، الراد به هو التملك المشروع. ويستفاد من تعريف الشاطبي شمول المال للعين، والمنفعة , وذلك من قوله: "ما يقع عليه الملك"، فإن كلمة (ما) جنس في التعريف، فهي تشمل العين، والمنفعة، وكذلك فإن المنفعة تمليك، ويقع عليها الملك، فلا خلاف في أنّها تكون محلًا للملك كما سبق (¬1). التعريف الثّالث: عرّفه بعض المالكية بقوله: "هو كلّ ما مُلك شرعًا، ولو قلَّ" (¬2). وبمثل هذا التعريف عرَّفه الدردير (¬3) بقوله: "كلّ ما يملك شرعًا ولو قل" (¬4). ¬

_ (¬1) أمّا عند الجمهور فمحل اتفاق في أن المنفعة مال، فضلًا عن كونها محلًا للملك، وأمّا عند الحنفية فالمنفعة ليست بمال، ولكنها تكون محلًا للملك، كما في عقد الإجارة. انظر: حاشية ابن عابدين: 4/ 100، والملكية للعبادي 1/ 184. وانظر: ص: 10 من هذا البحث. (¬2) الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني لأحمد بن غنيم الأزهري: 2/ 372. دار الفكر - بيروت. (¬3) هو الإمام أبو البركات: أحمد بن أحمد بن أبي حامد العدوي المالكي الأزهري الشهير بالدردير، ولد ببني عدي من صعيد مصر سنة 1127 هـ، برع في المذهب المالكي حتّى سُمي مالكًا الصغير، له مؤلفات كثيرة في شتى العلوم منها: أقرب المسالك لمذهب الإمام مالك في الفقه المالكي، والشرح الصغير عليه، توفي سنة 1201 هـ بالقاهرة، انظر: شجرة النور الزكية: 1/ 359، والأعلام للزركلى: 1/ 232. (¬4) الشرح الصغير على أقرب المسالك للدردير: 4/ 742. دار المعارف - مصر. وضابط القلة والكثرة عند المالكية: أن القليل هو ما دون الكثير، وفوق التافه والكثير: هو ما فوق الدّينار. والتافه: هو ما دون الدرهم، وما بينهما هو القليل: مواهب الجليل للحطاب: 6/ 73، حاشية الدسوقي:4/ 120.

ثانيا: المال عند الشافعية

وهذه التعريفات تدل على شمول مفهوم المال للعين، والمنفعة عند المالكية (¬1)، حيث إنَّ المنفعة تملك شرعًا، فتكون محلًا للملك، كما في الإجارة، وهذا القدر متفق عليه بين الفقهاء، كما سبق بيانه. ثانيًا: المال عند الشّافعيّة: عرّف الشّافعيّة المال بتعريفات عديدة منها: التعريف الأوّل: ما نقل عن الإمام الشّافعيّ أنّه عرّف المال بأنّه "ما له قيمة يباع بها، وتلزم متلفه، وإن قلّت" (¬2). ويتضح هذا التعريف عند التعليق على التعريف التالي: التعريف الثّاني: عرّفه النووي (¬3) بقوله: "كلّ ما يتموّل وإن قلّ" (¬4). وقد بين الإمام الشربيني (¬5) هذا التعريف بقوله: "وهو كما قال الإمام: ما يسدّ مسدًا، أو يقع موقفًا من جلب نفع، أو دفع ضرر" (¬6). ¬

_ (¬1) الفروق للقرافي: 3/ 232. (¬2) الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 533، تحقيق/ محمّد المعتصم بالله البغدادي - دار الكتاب العربي. (¬3) هو الإمام محيي الدِّين أبو زكريا، يحيى بن شرف بن مُرِي بن حسن الحزامي الحوراني، الفقيه الشّافعيّ المحدث الزاهد الورع، ولد سنة 631 هـ بنوى من قرى حوران بسورية، برع في شتى العلوم، وبلغ فيها رتبة الاجتهاد، وألف في شتى العلوم، ومن ذلك: المجموع شرح المهذب، ولم يتمه، ومنهاج الطالبين، وروضة الطالبين، كلّ ذلك في الفقه، وشرح صحيح مسلم، والأذكار في الحديث، وغير ذلك كثير، توفي بنوى سنة 676 هـ انظر: طبقات الشّافعيّة الكبرى 8/ 395، وتذكرة الحفاظ للذهبي: 4/ 1470. (¬4) المنهاج للنووي مع شرحه مغني المحتاج للشربيني: 2/ 247. دار الفكر - بيررت. (¬5) هو: محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني، القاهري، المصري، الفقيه الشّافعيّ، المفسر، النحوي، اشتغل بالتدريس والإفتاء، وبرع في التأليف، وخلف مؤلفات كثيرة منها: الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، ومغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للنووي، وهو من أهم كتبه وأنفعها، توفي سنة 977 هـ انظر: شذرات الذهب لابن العماد: 10/ 561، 562، ومعجم المؤلِّفين: 8/ 269، والأعلام: 6/ 6. (¬6) مغني المحتاج للشربيني: 2/ 247.

وهذا هو معنى قول الإمام الشّافعيّ السابق: "ما له قيمة". أمّا قوله: "يتموّل" فقد صردت هذه الكلمة كثيرًا فيما مرّ معنا من تعريفات، وقد نقل الإمام السيوطيّ (¬1) ضابطًا لهذه الكلمة عن الإمام الشّافعيّ؛ قال: "وأمّا المتموَّل فذكر الإمام له في باب اللقطة ضابطين: أحدهما: أن كلّ ما يقدر له أثر في النفع فهو متمول، وكل ما لا يظهر له أثر في الانتفاع فهو لقلته خارج عن المتمول. الآخر: أن المتمول هو الّذي يعرض له قيمة عند غلاء الأسعار، والخارج عن المتمول: هو الّذي لا يعرض فيه ذلك" (¬2). التعريف الثّالث: عرّفه الزركشي (¬3)، فقال: "المال: ما كان منتفعًا به، أو: مستعدًا لأنّ ينتفع به". ¬

_ (¬1) هو: عبد الرّحمن بن أبي بكر بن محمّد بن سابق الدِّين الخضري السيوطيّ الملقب بجلال الدِّين، الفقيه المحدث المؤرخ النحوي المفسر الأصولي، أحد علماء الشّافعيّة، ادعى رتبة الاجتهاد، ولد في القاهرة سنة 849 هـ، كان من المكثرين في التأليف، حيث بلغت مؤلفاته حوالى ستمائة مصنف في كلّ العلوم من أهمها: الإتقان في علوم القرآن , الدر المنثور في التفسير بالمأثورة؛ تدريب الراوي في المصطلح، والأشباه والنظائر في قواعد الفقه الشّافعيّ، توفي بالقاهرة سنة 911 هـ انظر: حسن المحاضرة للسيوطي 1/ 335 - 344، وشذرات الذهب لابن العماد: 10/ 74 - 75. (¬2) الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 533. (¬3) الزركشي هو: بدر الدِّين أبو عبد الله محمّد بن بهادر بن عبد الله المصري مولدًا ونشاة ووفاة، إمام من أئمة الإسلام، وعلم من أعلام الشّافعيّة، ومفخرة العلماء بالديار المصرية، ولد سنة 745 هـ بمصر، وبها توفي سنة،794 هـ له مؤلفات كثيرة في شتى العلوم منها: البحر المحيط في أصول الفقه، والمنثور في القواعد، وخبايا الزوايا في الفروع، وغيرها كثير. انظر: الدرر الكامنة لابن حجر 3/ 397، شذرات الذهب: 8/ 572، 573.

ثالثا: تعريف المال عند الحنابلة

ثمّ قال: "وهو إمّا أعيان، أو منافع، والأعيان قسمان: جماد، وحيوان؛ فالجماد مال في كلّ أحواله، والحيوان ينقسم إلى ما ليس له بنية صالحة للانتفاع، فلا يكون مالًا، كالذباب، والبعوض، والخنافس، والحشرات. وإلى ما له بنية صالحة. وهذا ينقسم إلى: ما جبلت طبيعته على الشر، والإيذاء , كالأسد، والذئب، فليست مالًا، وإلى ما جبلت طبيعته على الاستسلام، والانقياد , كالبهائم، والمواشي فهي أموال. والسر فيه: أن استعمال الجمادات ممكن على سبيل القهر , إذ ليس لها قدرة، ولا إرادة يتصور منها الامتناع، وأمّا الحيوان فهو مختار في الفعل، فلا يتصور استعمالها إِلَّا بمساعدة منها، فإذا كانت مجبولة على طبيعة الاستسلام أمكن استعمالها، واستسخارها في المقاصد، بخلاف ما طبيعته الشر والإيذاء، فإنها تمتنع، وتستعصي، وتنتهي إلى ضد غرض المستعمل، ولهذا إذا صالت تلك الحيوانات التحقت بالمؤذيات طبعًا، في الإهدار" (¬1). ممّا سبق من تعريفات عند الشّافعيّة، يتبين لنا أن المالية قائمة بالمنافع، كما هي قائمة بالأعيان، وقد نصّ كثير من الشّافعيّة على ذلك (¬2). ثالثًا: تعريف المال عند الحنابلة: عرّف الحنابلة المال بتعريفات كثيرة منها: التعريف الأوّل: عرّفه ابن قدامة (¬3) بقوله: "هو ما فيه منفعة مباحة لغير ضرورة" (¬4). ¬

_ (¬1) المنثور في القواعد للزركشي: 3/ 222 وزارة الأوقاف الكويتية بتحقيق د/ تيسير فائق 1402 هـ (¬2) حاشية قليوبي على شرح المنهاج لجلال الدِّين المحلي: 4/ 3 مطبعة الحلبي وأولاده - مصر ط3، 1375 هـ، الملكية في الشّريعة الإسلامية للعبادي 1/ 177. (¬3) ابن قدامة: هو الإمام الحجة موفق الدِّين أبو محمّد عبد الله بن أحمد بن محمّد بن قدامة المقدسي الدمشقي، أحد الأعلام، ولد سنة 541 هـ بجماعيل، إمام الحنابلة في وقته، وإمام الدنيا، توفي سنة 620 هـ، تصانيفه كثيرة اشتهرت في الدنيا كلها منها: المغني، والكافي والمقنع والعدة في الفقه، والروضة في الأصول، وغيرها كثير. انظر: ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب: 2/ 133، سير أعلام النُّبَلاء للذهبى 22/ 165 - 173. (¬4) المقنع لابن قدامة: 2/ 5 مكتبة الرياض الحديثة - الرياض 1400 هـ

فخرج بقوله "منفعة": ما لا نفع فيه، كالحشرات. وبقوله "مباحة": ما فيه منفعة محرّمة , كالخمر، والخنزير، ونحوهما. وبقوله: "لغير ضرورة": ما فيه منفعة مباحة للضرورة , كالكلب (¬1). التعريف الثّاني: عرّفه بعضهم بقوله: "وهو ما يباح نفعه مطلقًا، أو اقتناؤه بلا حاجة" (¬2). وهو قريب من التعريف الأوّل، وسبق بيان مفرداته. التعريف الثّالث: عرّفه بعضهم بقوله:"هو ما فيه منفعة مباحة لغير حاجة، أو ضرورة" (¬3) وجاء في شرح التعريف: "فخرج ما لا نفع فيه أصلًا كالحشرات، وما فيه منفعة محرّمة كالخمر، وما فيه منفعة مباحة للحاجة كالكلب، وما فيه منفعة تباح للضرورة كالميِّتة في حال المخمصة، وخمر لدفع لقمة غص بها". ثمّ قال: "تنبيه" ظاهر كلامه هنا كغيره: أن النفع لا يصح بيعه، مع أنّه ذكَر في حدّ البيع صحته، فكان ينبغي أن ¬

_ (¬1) حاشية الشّيخ سليمان بن عبد الله بن محمّد بن عبد الوهّاب على المقنع 2/ 5. (¬2) منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح والزيادات لتقي الدِّين محمّد بن أحمد الفتوحي (ابن النجار) توفي سنة 972 هـ 1/ 339، عالم الكتب - بيروت. تحقيق الشّيخ عبد الغني عبد الخالق، مطالب أولي النهى 3/ 12. (¬3) الإقناع لشرف الدِّين الحجاوي: 2/ 59.

يقال هنا: كون المبيع مالًا، أو نفعًا مباحًا مطلقًا، أو يعرّف المال بما يعم الأعيان والمنافع" (¬1). وبالنظر في تعريفات الحنابلة السابقة يظهر أن الأمر كما قال صاحب الكشاف: أن هذه التعريفات لا توضح معنى المال عند الحنابلة؛ لعدم دخول المنافع فيها، وهي مال عندهم، فهي تعريفات غير جامعة. ومن مجمل تعريفات الجمهور السابقة للمال استخلص بعض الباحثين تعريفًا للمال بأنّه: "ما كان له قيمة مادية بين النَّاس، وجاز شرعاً الانتفاع به في حال السعة، والاختيار" (¬2). وقد بيّن مراده بالتعريف فقال مبينًا مفرداته: - ما: جنس يشمل أي شيء سواء أكان عينًا أم منفعة، وسواء أكان شيئًا ماديًا أو معنويًا. - له قيمة مادية بين النَّاس: قيد لإخراج الأعيان، والمنافع الّتي لا قيمة لها بين النَّاس؛ كحبة قمح، أو قطرة ماء، وكمنفعة شم تفاحة. - وجاز شرعًا الانتفاع به: قيد لإخراج الأعيان، والمنافع الّتي لها قيمة بين النَّاس، ولكن الشّريعة أهدرت قيمتها، ومنعت الانتفاع بها , كالخمر، والخنزير، ولحم الميِّتة، ومنفعة آلات اللهو المحرمة. - في حال السعة والاختيار: قيد جيء به لبيان أن الراد بالانتفاع هو الانتفاع المشروع في حالة السعة والاختيار، دون حال الضّرورة، فجواز الانتفاع بلحم. ¬

_ (¬1) كشاف القناع عن متن الإقناع/ منصور بن يونس بن إدريس اليهوتي توفي سنة 1051 هـ: 3/ 152، دار عالم الكتب - بيروت. (¬2) الملكية للعبادي: 1/ 179.

الميِّتة، أو الخّمْرِ، أو غيرهما من الأعيان المحرمة، لا يجعلها مالًا في نظر الشّريعة (¬1). وهذا التعريف متين وقوي، إِلَّا ما قد يردّ عليه في قوله: "قيمة مادية"، فإنّه قد يفهم منها إرادة الأعيان دون المنافع، ودون الأمور المعنوية , لأنّ كلمة: (مادية)، بالرجوع إلى معناها في اللُّغة نجد أنّها مشتقة من كلمة (مادة)، وهي لا تطلق إِلَّا على ما له جسم، ويشغل حيزًا من الفراغ (¬2). وكذلك فإنّه في الاستعمال العربي يستعمل الشيء المادي في مقابلة الشيء المعنوي. وعليه، فكان عليه إطلاق القيمة دون تقييدها بالمادية، كما ورد في تعريف الإمام الشّافعيّ للمال - كما سبق - لتشمل أي قيمة، سواء أكانت قيمة مادية أم قيمة معنوية، وبهذا يتسع التعريف ليشمل كلّ الحقوق الّتي تكون محلًا للملك، سواء أكانت حقوقًا عينية، أم منافع، أم حقوقًا معنوية بكافة صورها، وأشكالها. وبناءً على ما ذكرته من تعريفات للمال عند الجمهور يتبين أن أساس المالية في نظرهم أمران: الأمر الأوّل: أن يكون الشيء له قيمة بين النَّاس مطلقًا، سواء أكان عينًا أم منفعة، أمّا إذا كان الشيء تافهًا لا قيمة له بين النَّاس , كحبة قمح، أو قطرة ماء، وغيرهما، كالحشرات، والهوام فإنّه لا يعدّ مالًا. الأمر الآخر: أنغ تكون القيمة ناتجة من الانتفاع بهذا الشيء انتفاعًا مشروعًا في حالة السعة والاختيار، فإن كان الشيء له قيمة بين النَّاس ولكن الشّريعة أهدرت ¬

_ (¬1) الملكية للعبادي: 1/ 179. (¬2) المعجم الوسيط: ص 858.

قيمته، ومنعت الانتفاع به كالخمر، والخنزير، ومنفعة آلات اللهو المحرمة فإنّه لا يعدّ مالًا، وكذا ما كان الانتفاع به في حال الضّرورة؛ كلحم الميِّتة، أو الخّمْرِ، ونحوهما للمضطر فإنها لا تعدّ مالًا. لأنّ الضّرورة تقدر بقدرها (¬1). ويلحظ كذلك أن الجمهور قد اتفقت كلمتهم على اعتبار المنافع أموالًا لإمكان حيازتها بحيازة أصلها، ولأنّها المقصودة من الأعيان، ولولاها ما طلبت، والطبع يميل إليها كذلك (¬2). ومما لا شك فيه: أن تعريف الجمهور للمال هو الأولى بالأخذ والاعتبارة ذلك أن الأعيان لا تقصد الذاتها، بل لمنافعها، وعلى هذا أعراف النَّاس، ومعاملاتهم، وقد اعتبر الشّرع المنفعة مالًا، إذ جعلها مهرًا في النِّكاح. قال تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (¬3)، فاشترط أن يكون المهر مالًا، فدل على كون المنفعة مالًا، ولولا ذلك لما جعلها مهرًا في النِّكاح (¬4). وقد اعتبر الشارع المنفعة مالًا كما في عقد الإجارة، وإن كان للحنفية تأويل لذلك سبق بيانه، كما أننا نجد أن الحنفية يطلقون المال بما يشمل المنفعة في كثير من المواطن، ومن ذلك ما جاء في "بدائع الصنائع" في أكثر من موطن. ومن ذلك: 1 - جاء في بيان شرائط الموصى به، فذكر من شروطه ما نصه: ¬

_ (¬1) الملكية للعبادي: 1/ 179، الوظائف الاقتصادية للدولة في الإسلام/ للدكتور أحمد الدريويش: 2/ 760. (¬2) الملكية للعبادي: 1/ 184، والمدخل في التعريف بالفقه الإسلامي/ محمّد مصطفى شلبي ص 332. (¬3) سورة النِّساء، آية 24. (¬4) انظر: الملكية للعبادي: 1/ 184 وجعل المنفعة مهرًا في النِّكاح يؤخذ من قصة المرأة الّتي وهبت نفسها للنبي - صلّى الله عليه وسلم -، ولكن الرسول - صلّى الله عليه وسلم - زوجها لأحد الصّحابة على أن يعلمها من القرآن وستأتي هذه القصة في مبحث القرآن الكريم.

أولا: في باب الغصب

"وأمّا ما يرجع إلى الموصى به فأنواع منها أن يكون مالًا ... ومنها أن يكون مالًا متقومًا .... سواء" كان المال عينًا، أو منفعة عند عامة العلماء" (¬1). وقال في بيان حكم الوصيَّة: " .. أمّا الوصيَّة بالمال فحكمها ثبوت الملك في المال الموصى به للموصى له، والمال قد يكون عينًا، وقد يكون منفعة ..... " (¬2). وهذا تصريح من الحنفية بأن المنفعة تكون مالًا. - كما أن الأخذ بمفهوم الجمهور للمال يسمح بتوسيع دائرة المال في هذا العصر لتشمل أشياء كثيرة لم تكن معروفة من قبل، مثل الأشياء المعنوية، وهي المعروفة بالحقوق الذهنية، وحقوق الابتكار، وهو ما سيأتي الكلام عليه من حيث حكم أخذ المال على هذه الحقوق - إن شاء الله تعالى -. - كما أن في إهدار المنافع، وعدم اعتبارها أموالًا، ضياعًا للحقوق، وتسليطًا للظلمة على منافع الأعيان الّتي يمتلكها غيرهم (¬3). - وتظهر ثمرة الخلاف بين الحنفية والجمهور في مسائل منها: أوَّلًا: في باب الغصب: فمن غصب شيئًا، وانتفع به مدة، ثمّ ردّه إلى صاحبه، فعند الحنفية لا يضمن قيمة المنافع، إِلَّا إذا كان المغصوب عينًا موقوفة، أو مملوكة ليتيم، أو شيئًا معدًا للاستغلال، وهذا الاستثناء عند المتأخرين منهم فقط، وعند الجمهور يضمن قيمة المنافع؛ لأنّها أموال. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني 7/ 352. (¬2) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني 7/ 385، وانظر: البحر الرائق لابن نجيم 2/ 217. (¬3) الملكية للعبادي: 1/ 184.

ثانيا: في باب الإجارة

ثانيًا: في باب الإجارة: إذا استأجر شخص دارًا مدة معينة، ثمّ مات قبل انتهاء مدة الإجارة، فعند الحنفية: ينتهي العقد بموت المستأجر؛ لأنّ المنفعة ليست مالًا حتّى تورث، بينما الجمهور يقولون: إنَّ الورثة يحلون محل الميِّت حتّى تنتهي مدة الإجارة (¬1). بقيت كلمة فيما يتعلّق بمفهوم المال في الاصطلاح، وهي: أن الفقهاء، وإن اختلفوا في مالية المنافع، لكنهم متفقون على أنّها تكون محلًا للملك، فهم يقررون في كتاب الإجارة مثلًا - وقد سبق أن بينت ذلك -: أن المستأجر مالك لمنفعة العين المؤجرة، ويرددون ذلك في فروع كثيرة (¬2). ¬

_ (¬1) تاسيس النظر للدبوسي/ أبي زيد عبيد الله بن عيسى الدبوسي الحنفي: ص 128 - 129 تحقيق مصطفى القباني، دار ابن زيدون - بيروت. (¬2) انظر: حاشية ابن عابدين: 4/ 100، 101، الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 351، 352. وانظر: الملكية للعبادي: 1/ 184.

المطلب الثاني أنواع المال المأخوذ على القرب

المطلب الثّاني أنواع المال المأخوذ على القرب يتتبع كلام العلماء حول أنواع المال المأخوذ على أعمال القرب تبين أنّها في مجملها سبعة أنواع، وسيكون الحديث عنها في الفروع الآتية: الفرع الأوّل: الرزق، والعطاء، والفرق بينهما. الفرع الثّاني: الإجارة. الفرع الثّالث: الجعالة. الفرع الرّابع: الهِبَة، والفرق بينها، وبين الهدية، والصدقة. الفرع الخامس: الوقف. الفرع السّادس: الوصيَّة. الفرع السابع: الزَّكاة.

الفرع الأول الرزق، والعطاء، والفرق بينهما

الفرع الأوّل الرزق، والعطاء، والفرق بينهما أوَّلًا: تعريف الرزق: 1 - الرزق في اللُّغة: - بكسر الراء -: ما ينتفع به، - وبفتحها -: العطاء أو العطاء الجاري. فالرِّزق: بالكسر مأخوذ من رَزَقَ، وهو: ما ينتفع به، والجمع أرزاق. والرَّزق: بالفتح: هو العطاء، أو العطاء الجاري. يقال: كم رزقك في الشهر؟: كم راتبك؟. يقال: رزَق الخلقَ رَزقًا ورِزقًا، فالرَّزق - بفتح الراء - هو المصدر الحقيقي، وبالكسر: الاسم. ويجوز أن يوضع موضع المصدر (¬1). والأرزاق نوعان: ظاهرة للأبدان , كالأقوات. وباطنة للقلوب، والنفوس؛ كالمعارف، والعلّوم. والرزق يقال للعطاء الجاري تارة، دنيويًا كان، أو أخرويًا، وللنصيب تارة، ولما يصل إلى الجوف، ويتغذى به تارة، يقال: أعطى السلطان رزق الجند، ورزقت علمًا (¬2). 2 - الرزق في الاصطلاح: عرّف العلماء الرزق بتعريفات عدة منها: التعريف الأوّل: "أنّه: ما يفرض في بيت المال بقدر الحاجة، والكفاية مشاهرة، أو مياومة (¬3). ¬

_ (¬1) لسان العرب لابن منظور: 10/ 115، المصباح المنير للفيومي: ص 225، مختار الصحاح للرازي: ص 241. (¬2) المفردات للراغب ص 351، المعجم الوسيط لإبراهيم مصطفى وجماعة: ص/ 342. (¬3) الدر المختار شرح تنوير الأبصار للحصفكي مع حاشيته رد المحتار: 5/ 411، نتائج الأفكار تكملة فتح القدير: 8/ 406.

التعريف المختار

التعريف الثّاني: "أنّه: ما يجعل لفقراء المسلمين، إذا لم يكونوا مقاتلين" (¬1). التعريف الثّالث: "أنّه: ما يخرجه الإمام كلّ شهر للمرتزقة من بيت المال" (¬2). التعريف الرّابع: "أنّه: هو ما يرتبه الإمام من بيت المال لمن يقوم بمصالح السلمين" (¬3). التعريف المختار: التعريفات السابقة في مجملها متقاربة، وأرجحها هو التعريف الأخير لما يأتي: 1 - أنّه جمع كلّ القيود في التعريفات قبله , لأنّ الإمام يرتب الأرزاق حسب المصلحة، فإذا اقتضت المصلحة جعل الرزق يوميًا - جاز ذلك، أو شهريًا جاز، أو سنويًا جاز كذلك. 2 - أن قوله: "لمن يقوم بمصالحع المسلمين" يشمل كلّ أنواع المرتزقة من قضاة، وجند، ومدرسين، ونحو ذلك، وهذا هو المراد بالبحث هنا، وهذا هو الرزق بمعناه الخاص عند الفقهاء، وهو الرزقال في يكون من بيت المال، وسيأتي الرزق بمعناه العام، وهو ما يأخذ من بيت المال، ومن غيره. ثانيًا: تعريف العطاء: 1 - العطاء في اللُّغة: هو التناول، واسم لما يعطى , فالعطاء مأخوذ من العطو، وهو: التناول، ومنه المعاطاة، وهي: المناولة: والعطاء والعطية: اسم لما يُعطى، والجمع: عطايا، وأعطية، وأُعطيات (¬4). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين: 5/ 411. (¬2) المغرب للمطرزي: ص/ 319. (¬3) فتح البارى شرح صحيح البخاريّ لابن حجر: 13/ 160. المكتبة السلفية بالقاهرة. (¬4) لسان العرب لابن منظور: 15/ 68 - 69 مادة (عطو)، المصباح المنير للفيومي: ص 417، مختار الصحاح ص: 440.

ثالثا: الفرق بين الرزق والعطاء

2 - العطاء في الاصطلاح: عرّفه العلماء بعدة تعريفات منها: التعريف الأوّل: أنّه: "ما يفرض في بيت المال، في كلّ سنة، لا بقدر الحاجة، بل بصبره، وعنائه في أمر الدِّين" (¬1). التعريف الثّاني: أنّه: "ما يخرجه الإمام في كلّ عام للمرتزقة من بيت المال" (¬2). التعريف الثّالث: أنّه: "ما يفرض للمقاتل في بيت المال" (¬3). وهذه التعريفات كذلك متقاربة في المعنى. ثالثًا: الفرق بين الرزق والعطاء: هناك من العلماء من فرق بين الرزق والعطاء، ومنهم من لم يفرق بينهما. فأمّا الذين فرقوا فقد فرقوا بينهما من ناحيتين: الناحية الأولى: التفريق بينهما من جهة الآخذ: وهؤلاء خصوا الرزق بما يعطى لفقراء المسلمين، وبعضهم خصه بمن يقوم بمصالح المسلمين، وأمّا العطاء فخصوه بالمقاتلة. الناحية الأخرى: التفريق بينهما من حيث الزمن: وهؤلاء فرقوا بين الرزق والعطاء من حيث الزمن، فجعلوا الرزق لما يكون كلّ شهر، أو كلّ يوم، والعطاء لما يكون في كلّ سنة. وهناك من العلماء من لم يفرق بين الرزق والعطاء، بل نجدهم في غالب استعمالاتهم لا يفرقون بينهما، فيطلقون الرزق على العطاء، والعطاء على الرزق (¬4). ¬

_ (¬1) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين: 5/ 411. (¬2) المغرب للمطرزي: ص/ 319، وانظو: فتح الباري لابن حجر: 13/ 160. (¬3) حاشية ابن عابدين: 5/ 411، العناية شرح الهداية للبابرتي: 8/ 406، شرح حدود ابن عرفة: (¬4) روضة الطالبين: 6/ 363، وانظو: الموسوعة الفقهية/ الكويت 22/ 202.

رابعا: إطلاق لفظ الرزق، هل هو خاص بما يؤخذ من بيت المال؟

ومن ذلك: قول الماوردي (¬1): "وأمّا تقدير العطاء فمعتبر بالكفاية حتّى يستغني بها عن التماس مادة تقطعه عن حماية البيضة" (¬2). وقال النووي: "يفرق الإمام الأرزاق في كلّ عام مرّة، ويجعل له وقتًا معلومًا لايختلف، وإذا رأى مصلحة أن يفرق مشاهره ونحوها فعل" (¬3). وأصرح من ذلك ما ذكره صاحب تحرير المقال، حيث عرّف الرزق في اللُّغة بالعطاء، ثمّ عرّفه في الشّرع، فقال: "فعلم من هذا أن اسم الرزق في عرف الفقهاء لكل ما يجوز إخراجه من بيت المال، والمرتزق: كلّ من يرتبط به مصلحة" (¬4). فظهر من ذلك أن العلماء في استعمالاتهم لا يفرقون بين الرزق والعطاء، بل يطلقون الرزق على كلّ ما يخرج من بيت المال للمستحقين، سواء كانوا من الجند، أم من القضاة، والمفتين، أم من غيرهم. رابعًا: إطلاق لفظ الرزق، هل هو خاص بما يؤخذ من بيت المال؟: من المعلوم أن ما يُعطى على القرب الّتي تكون من مصالح المسلمين كالقضاء، والإفتاء، والإمامة، والأذان، ونحو ذلك، قد يكون من بيت المال، وقد يكون من ¬

_ (¬1) هو: علي بن محمّد بن حبيب أبو الحسن الماوردي، قاضي القضاة الفقيه الشّافعيّ الأصولي المفسر الأديب، ولد بالبصرة سنة 364 هـ، برز في العلم حتّى أصبح من كبار أئمة الشّافعيّة، من مؤلفاته: الحاوي الكبير في الفقه، والأحكام السلطانية، وأدب الدنيا والدين، وغيرها كثير، توفي سنة 450 هـ ببغداد: طبقات الشّافعيّة الكبرى:5/ 267، طبقات الفقهاء للشيرازي، ص/ 132. (¬2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 205، وانظر: الأحكام السلطانية لأبي يعلى 226. (¬3) روضة الطالبين 6/ 363، وانظر: مطالب أولي النهى 3/ 641، وكشف القناع 1/ 234. (¬4) تحرير المقال فيما يحل ويحرم من بيت المال لتقي الدينا البَلَاطُنُسي (ت: 936 هـ) ص 147 - 148. دار الوفاء - المنصورة 1409هـ.

غيره من الجمعيات الخيرية، أو الأفراد، ونحو ذلك، فهل يطلق على ما يؤخذ من غير بيت المال على هذه الأعمال رزقًا، أم أن إطلاق لفظ الرزق خاص بما يؤخذ من بيت المال؟ الّذي يظهر من كلام العلماء، أن لفظ الرزق ليس خاصًا بما يؤخذ من بيت المال، فقد يكون من فرد، أو جهة بر، ونحو ذلك، إِلَّا أن الغالب أن الرزق يكون من بيت المال، وعلى هذا يحمل كلام من خصه ببيت المال من العلماء، وتقدمت تعريفاتهم للرزق، وأن - غالبها يدور حول ما يكون من بيت المال. إِلَّا أنّه توجد نصوص كثيرة عن العلماء تفيد عدم خصوصية ذلك ببيت المال، ومن ذلك: 1 - ما قاله ابن قدامة في المغني: "فإن لم يكن للقاضي رزق، فقال: لا أقضي بينكما حتّى تجعلا لي رزقًا عليه جاز، ويحتمل أن لا يجوز" (¬1). والشّاهد من الكلام واضح، وهو أن الرزق قد يكون من الخصمين. 2 - ما قاله صاحب نهاية المحتاج (¬2): "ويجوز للواحد من الرعية أن يرزقه من ماله" (¬3). 3 - ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أمّا ما يؤخذ من بيت المال فليس عوضًا وأجرة، بل رزق للإعانة على الطّاعة، فمن عمل منهم لله أثيب، وما يأخذه ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة: 14/ 10. (¬2) هو: محمّد بن أحمد بن حمزة شمس الدِّين الرملي المنوفي المصري الشّافعيّ الشهير بالشّافعيّ الصغير، ولد بالقاهرة سنة 919هـ، وبرز في العلم حتّى أصبح فقيه الديار المصرية، له مؤلفات كثيرة منها: نهاية المحتاج في شرح المنهاج، وشرح التحرير لزكري"لأنصاري وشرح العقود في النحو، توفي سنة: 1004هـ بالقاهرة: خلا صة الأثر: 3/ 342، الأعلام للزركلي: 6/ 7. (¬3) نهاية المحتاج: 1/ 418.

فهو رزق للمعونة على الطّاعة، وكذلك المال الموقوف على أعمال البرّ، والموصى به كذلك، والمنذور كذلك ليس كالأجرة" (¬1). حيث جعل شيخ الإسلام ما يؤخذ من الأموال الموقوفة على أعمال البرّ، والموصى بها، والمنذورة، ونحوها رزقًا، وليس أجرة. فدل ذلك على أن إطلاق لفظ الرزق ليس خاصًا بما يؤخذ من بيت المال. وقد نقل الخلاف في ما يؤخذ من الوقف، واختار أنّه رزق؛ قال: "وما يأخذه الفقهاء من الوقف: هل هو إجارة، أو جعالة، أو كرزق من بيت المال؛ فيه أقوال ثالثها: المختار" (¬2). أي: أن المختار فيما يؤخذ من ريع الوقف أنّه رزق، وليس بأجرة، ولا جعالة. وعليه، فما يؤخذ على أعمال البرّ، ومصالح المسلمين سواء كان من بيت المال، أو من غيره فهو رزق، وعلى هذا جرى اصطلاح الفقهاء. قال النووي: "وللإمام أن يرزق من مال نفسه، ويجوز للواحد من الرعية، وحينئذ لا حجر، فيرزق كم شاء، ومتى شاء" (¬3). وقال في موضع آخر: "ولو رزق الإمام القاضي من مال نفسه، أو رزقه أهل ولايته أو واحد منهم .. لا يجوز له قبوله" (¬4). ¬

_ (¬1) الاختيارات الفقهية لابن تيمية جمع البعلي: ص 153. (¬2) الاختيارات الفقهية: ص 177، 182. (¬3) روضة الطالبين: 1/ 205. طبع المكتب الإسلامي - بيروت، وانظر: 11/ 137، 138. (¬4) روضة الطالبين: 11/ 137، وانظر في أخذ الرزق من غير بيت المال: إيضاح الأحكام لما ياخذه العمال والحكام لابن حجر الهيتمي الشّافعيّ: 1/ 413 تحقيق د. حسين بن محمّد آل الشّيخ رسالة دكتوراه من المعهد العالي للقضاء.

خامسا: تعريف الرزق بمعناه العام

وقد استفاض في جواز أخذ الرزق من غير بيت المال، إذا تعذر ذلك من بيت المال، الماوردي في الحاوي حيث قال: "وإذا تعذر رزق القاضي من بيت المال، وأراد أن يرتزق من الخصوم، فإن لم يقطعه النظر عن اكتساب المادة، إمّا لغنائه بما يستجده، وإما لقلة المحاكمات الّتي لا تمنعه من الاكتساب لم يجز أن يرتزق من الخصوم، وإن كان يقطعه النظر عن اكتساب المادة مع صدق الحاجة جاز له الارتزاق منهم" (¬1). ثمّ ذكر لجواز الارتزاق من غير بيت المال ثمانية شروط، ثمّ قال: "فإن اجتمع أهل البلد مع إعواز بيت المال على أن يجعلوا للقاضي من أموالهم رزقًا دارًا جاز، وكان أولى من أن يأخذه من أعيان الخصوم (¬2). فهذه نقول كثيرة وصريحة عن العلماء في أن الرزق ليس خاصًا بما يؤخذ من بيت المال، بل يجوز الارتزاق من غيره، وإن شددوا في ضوابط ذلك. وعليه، فسوف نعرّف الرزق بمعناه العام في المسألة التالية. خامسًا: تعريف الرزق بمعناه العام: بعد ما تقدّم من ذكر تعريفات الرزق، والعطاء، والفرق بينهما، وأنّه لا فرق بينهما في غالب استعمالات الفقهاء، وبعد بيان أن الرزق ليس خاصًا بما يؤخذ من بيت المال، بل قد يكون مصدره الإمام، أو الفرد، أو الجمعية الخيرية، ونحو ذلك من الهيئات الخيرية المختلفة، بعد كلّ ذلك يمكن تعريف الرزق بمفهومه العام بأنه: "ما يأخذه المسلم إعانة له على أعمال القرب الّتي يتعدى نفعها للمسلمين". ¬

_ (¬1) الحاوي للماوردي: 20/ 365. (¬2) المرجع السابق:. 20/ 365.

شرح التعريف

شرح التعريف: فقولنا: ما يأخذه المسلم: يشمل ما يأخذه المسلم سواء أكان ذلك من بيت المال، أوما ينوب منابه في هذا العصر على ما تقدّم بيانه، أم من أي جهة أخرى كالإمام، أو الفرد، أو الهيئات الخيرية المختلفة. وقولنا: المسلم: يخرج الكافر؛ لأنّه ليس من أهل الرزق، لأنّ الرزق يراعى فيه جانب الاحتساب، والتقرب إلى الله، لا المعاوضة، وحينئذ يكون ما يأخذه المسلم ليس عوضًا، بل إعانة على الطّاعة. والكافر مقصوده المعاوضة - لا غير -؛ لأنّه ليس من أهل القرب. وقولنا: إعانة له: يخرج ما كان على سبيل المعاوضة كالإجارة، والجعالة. وقولنا: على أعمال القرب: يخرج الأعمال الّتي ليست قربًا في نفسها؛ كالبناء، والخياط، ونحوهما. وهي الأعمال الّتي لا يختص المسلم بفعلها، بل يفعلها المسلم، والكافر. وقولنا: الّتي يتعدى نفعها للمسلمين: يخرج القرب الّتي لا يتعدى نفعها فاعلها؛ كصلاة الإنسان لنفسه، وحجه لنفسه، وصيامه لنفسه، وتطوعه لنفسه، ونحو ذلك.

الفرع الثاني الإجارة

الفرع الثّاني الإجارة نظرًا لأهمية الإجارة، وتعلّقها الشديد بمباحث الرسالة ولأن أخذ الأجرة على القربات ممّا جرى فيه الخلاف أكثر من غيره من أنواع المال، من أجل ذلك سوف أتكلم عنها بشيء من التفصيل وذلك في حدود ما يخدم مباحث هذه الرسالة - إن شاء الله تعالى - وذلك من خلال المسائل التالية وأقول وبالله التوفيق: المسألة الأولى: تعريف الإجارة: أوَّلًا: الإجارة في اللُّغة: هي العقد المعروف، وتطلق على الأجر: وهو الجزاءعلى العمل. فالإجارة: من أَجَرَ يأجر، وهو: ما أعطيت من أجر في عمل. والإجارة: اسم للأجرة، ثمّ اشتهرت في العقد. والأَجرة، والإِجارة، والأُجارة، والأَجارة: ما أعطيت من أجر. والأَجر: الجزاء على العمل، والجمع أجور. والأجر: الثّواب، وما يستحق على عمل الخير، ولذا يُدعى بها؛ يقال: أعظم الله أجرك (¬1). ثانيًا: الإجارة في الاصطلاح: عرّف العلماء الإجارة بتعريفات عديدة، لا تختلف فيما بينها كثيرًا، إِلَّا في بعض القيود الّتي يرى بعض العلماء أنّها ضرورية، فزادوها في التعريف، إِلَّا أن مفهوم ¬

_ (¬1) لسان العرب: 4/ 10 - 11، القاموس المحيط: ص 436، المعجم الوسيط: 1/ 7، مغني المحتاج 1/ 231، درر الحكام لعلّي حيدر 1/ 372.

الإجارة واضح تمامًا عند العلماء، وهم متفقون على معظم قيودها، سواء ذكروها، أم لا. وسأذكر طرفًا منها، ثمّ أبين الراجح منها - إن شاء الله تعالى -. التعريف الأوّل: عرّف الحنفية الإجارة بعدة تعريفات منها "أنّها عقد على المنفعة بعوض" (¬1). التعريف الثّاني: عرفها بعضهم بأنّها "عقد على منفعة معلومة، بعوض معلوم، إلى مدة معلومة" (¬2). التعريف الثّالث: عرفها المالكية بتعريفات كثيرة منها: "هي عقد معاوضة على تمليك منفعة بعوض" (¬3). التعريف الرّابع: عرّفها المالكية كذلك بأنّها "عقد معاوضة على تمليك منفعة كائنة، أو مجعولة في نظير عوض أمدًا معلومًا، أو قدرًا معلومًا" (¬4). التعريف الخامس: عرّفه"لشافعية بأنّها: "عقد على منفعة مقصودة معلومة قابلة للبذل، والإباحة بعوض معلوم" (¬5). التعريف السّادس: عرّفها الحنابلة بأنّها: "عقد على منفعة مباحة معلومة، مدة معلومة، من عين معينة، أو موصوفة في الذِّمَّة، أو عمل معلوم بعوض معلوم" (¬6). ولا تكاد تختلف عبارات الحنابلة كثيرًا في تعريفهم للإجارة. ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي: 15/ 74، وانظر: حاشية ابن عابدين: 5/ 302. (¬2) حاشية الشلبي على تببين الحقائق: 5/ 105. (¬3) الشرح الصغير للدردير: 4/ 6. (¬4) حاشية الصاوي على الشرح الصغير للدردير: 4/ 6. (¬5) مغني المحتاج للشربيني: 2/ 332. (¬6) منتهى الإرادات مع شرحه للبهوتي: 2/ 350، الروض المربع مع حاشية ابن قاسم: 5/ 293.

التعريف المختار

التعريف المختار: والذي أراه راجحًا من هذه التعريفات هو تعريف الحنابلة؛ لما يأتي: أوَّلًا: أنّه بيّن حقيقة الإجارة، وميزها عن غيرها بأوضح عبارة. ثانيًا: أنّه جمع معظم القيود الّتي جاء ذكرها في بقية التعريفات، وزاد عليها ببيان حقيقة الإجارة بنوعيها. بقي من المناسب ذكر تعريف الأجرة، أو الأجر: عرّفها العلماء بأنّها: "هي العوض الّذي يدفعه المستأجر للمؤجر في مقابلة المنفعة الّتي يأخذها منه" (¬1). وقيل: "هي العوض الّذي يُعطى مقابل منفعة الأعيان، أو منفعة الآدمي" (¬2). وهذه التعريفات هي المعنى الثّاني للإجارة حيث إنَّ لها معنيين، أو إطلاقين: الإطلاق الأوّل: أنّها تطلق على عقد الإجارة نفسه. والإطلاق الآخر: على الأجرة، أو العوض المأخوذ على المنفعة (¬3). المسألة الثّانية: حكم الإجارة وأدلة مشروعيتها: اتفق جمهور الفقهاء من المتقدمين، والمتأخرين، على مشروعية الإجارة لا خلاف بينهم في ذلك، وقد شذّت طائفة من المتأخرين كالأصم (¬4)، ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي: 4/ 2. (¬2) درر الأحكام في شرح غرر الأحكام للقاضي محمّد بن فراموز الشهير بمنلاخسرو: 1/ 372. إدارة القرآن - كراتشي، باكستان وهو مثلا التعريف الأوّل مع اختلاف العبارة. (¬3) المرجع السابق: 1/ 372. (¬4) هو: عبد الرّحمن بن كيسان، أبوبكر الأصم، فقيه معتزلي مفسر، له المقالات في الأصول، وقيل له تفسير عجيب، من تلامذته إبراهيم بن إسماعيل بن علية، توفي نحو سنة: 225 هـ: لسان الميزان لابن حجر: 3/ 427، الأعلام للزركلي: 3/ 323.

أولا: أدلة مشروعية الإجارة من الكتاب

وابن علية (¬1)، فقالا بعدم مشروعيتها - كلما حُكي عنهما -، وهذا شذوذ لا قيمة له، ولا يُعَدّ خرقًا للإجماع (¬2). قال الموفق ابن قدامة: "الأصل في جواز الإجارة الكتاب والسُّنَّة والإجماع"، ثمّ قال: "وأجمع أهل العلم في كلّ عصر، وكل مصر على جواز الإجارة، إِلَّا ما يُحكى عن عبد الرّحمن بن الأصم أنّه قال: لا يجوز؛ لأنّه غرر ... " (¬3). وقد دل على مشروعية الإجارة الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع: أوَّلًا: أدلة مشروعية الإجارة من الكتاب: وردت كثير من آيات الكتاب تدل على مشروعية الإجارة نذكر بعضًا منها: 1 - قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطّلاق: 6]. قال الشّافعيّ رحمه الله مبينًا وجه الاستدلال من هذه الآية: "فأجاز الإجارة على الرضاع، والرضاع يختلف لكثرة رضاع المولود، وقلته، وكثرة اللبن، وقلته، ولكن لما لم يوجد فيه إِلَّا هذا جازت الإجارة عليه، وإذا جازت عليه جازت على مثله، وما هو في معناه، وأحرى أن يكون أبين منه" (¬4). 2 - قوله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص: 26، 27]. ¬

_ (¬1) هو: إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي، أبو إسحاق، ابن علية. من رجال الحديث، مصري، كان جهميًا يقول بخلق القرآن، له شذوذ، ومذاهبه عند أهل السُّنَّة مهجورة، توفي ببغداد سنة: 218 هـ: لسان الميزان لابن حجر: 1/ 34، الأعلام للزركلي: 1/ 32. (¬2) بدائع الصنائع للكاساني: 4/ 17، بداية المجتهد لابن رشد الحفيد: 2/ 220، مكتبة مصطفى البابي الحلبي- مصر، الأم للشافعي: 4/ 26، المغني لابن قدامة: 8/ 5 - 6. (¬3) المغني 8/ 6. (¬4) الأم: 4/ 26.

ثانيا: الأدلة من السنة

قال الشّافعيّ: "قد ذكر الله سبحانه تعالي أن نبيًا من أنبيائه أجر نفسه حججًا مسماة ملكه بها بضع امرأة، فدل على تجويز الإجارة، على أنّه لا بأس بها على الحجج، إنَّ كان على الحجج استأجره، وإن كان استأجره على غير حجج فهو تجويز الإجارة بكل حال" (¬1). قال القرطبي (¬2) في تفسيره: "قوله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص: 26] دليل على أن الإجارة كانت عندهم مشروعة معلومة، وكذلك كانت في كلّ ملة، وهي من ضرورة الخليقة، ومصلحة الخلطة بين النَّاس، خلافًا للأصم حيث كان عن سماعها أصم" (¬3). ثانيًا: الأدلة من السُّنَّة: دلت نصوص كثيرة من السُّنَّة القولية، والفعلية، والتقريرية على مشروعية الإجارة أذكر منها: 1 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: (استأجر رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، وأبوبكر رجلًا من بني الدِّيل هاديًا خريتًا، هو على دين كفار قريش) (¬4). ¬

_ (¬1) الأم للشافعي: 4/ 26. (¬2) هو: محمّد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري القرطبي، أبو عبد الله المفسر المعروف من أئمة المالكية من مؤلفاته: الجامع لأحكام القرآن، التذكرة في أحوال الآخرة، والتذكار في أفضل الأذكار، توفي سنة: 671 هـ: الديباج المذهب لابن فرحون، ص/317، شجرة النور الزكية لمخلوف، ص/197. (¬3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 13/ 27. (¬4) أخرجه البخاريّ (فتح) في الإجارة: باب استئجار المشركين عند الضّرورة 4/ 517 (2263)، وفي باب: إذا استأجر أجيرًا ليعمل له بعد ثلاثة أيّام 4/ 518 (2264).

وجه الاستدلال

وجه الاستدلال: حيث دل هذا الحديث دلالة ظاهرة على مشروعية الإجارة، وهو من السُّنَّة الفعلية، حيث استأجر رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، وأبويك - رضي الله عنه - هذا الرَّجل ليدلُّهما على الطريق الموصلة إلى المدينة عندما هاجرا إليها. (2) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: (قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثمّ غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا استوفى منه ولم يعطه أجره" (¬1). وجه الاستدلال: حيث جاء التهديد والوعيد لمن منع أجرة الأجير بعد استيفاء المنفعة منه، فلو لم تكن الإجارة جائزة لما جاء هذا التهديد، ولجاء النّهي عنها؛ لأنّ النّهي عن المنكر واجب، فدل على جواز الإجارة. ثالثًا: الإجماع: ممّا يقطع بمشروعية الإجارة إجماع الصّحابة، والتابعين، ومن بعدهم من فقهاء الأُمَّة المعتبرين - ومنهم الأئمة الأربعة - على مشروعية الإجارة ليس بينهم في ذلك خلاف، وقد نقل الإجماع جمع من أهل العلم منهم: 1 - قال الشّافعيّ: "الخبر وإجماع الفقهاء بإجازة الإجارة ثابت عندنا (¬2). 2 - قال ابن المنذر (¬3): "وأجمعوا على أن اللإجارة ثابتة" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ في البيوع: باب إثم من باع حرًا: 4/ 487 (2227)، وفي الإجارة باب: إثم من منع أجر الأجير 4/ 523 (2270). (¬2) الأم للشافعي: 4/ 26، 27. (¬3) هو: محمّد بن إبراهيم بن المنذر أبوبكر النيسابوري الحافظ الفقيه، ولد سنة 242 هـ، له مؤلفات كثيرة وعظيمة منها: الإجماع، والأوسط، والإشراف، والإقناع، وكل هذه مطبوعة، وغيرها ممّا لم يطبع كثير، توفي رحمه الله سنة 318 هـ على الأصح: (سير أعلام النُّبَلاء للذهبي: 14/ 490، طبقات الفقهاء للشيرازي، ص/201. (¬4) الإجماع لابن المنذر: ص /618 إجماع رقم: (546).

المسألة الثالثة: أقسام الإجارة

3 - قال ابن قدامة: "أجمع أهل العلم في كلّ عصر، وفي كلّ مصر على جواز الإجارة" (¬1). وقد نقل الإجماع كثير من أهل العلم من كافة المذاهب، وفيما ذكرناه كفاية (¬2). المسألة الثّالثة: أقسام الإجارة: قسم الفقهاء الإجارة إلى ضربين: الضرب اللأول: إجارة عين. الضرب الآخر: إجارة الذِّمَّة. الضرب الأوّل: إجارة العين: وهي الّتي يلتزم فيها الأجير بتسليم نفسه للمستأجر؛ ليعمل عنده مدة من الزمن، أو تسليم عين معينة بالرؤية، أو الإشارة، أو الصِّفَة، حتّى يتمكن المستأجر من استيفاء المنفعة، سواء من ذلك الشخص، أو من تلك العين. وهذا الضرب ينقسم إلى قسمين: القسم الأوّل: أن تكون على مدة معلومة؛ نحو: إجارة الدَّار شهرًا، أو الأرض عامًا، أو عبدًا للخدمة، أو الرعي مدة محددة، أو أن يستأجر رجلًا يبني معه يومًا، أو يخيط له شهرًا. ويسمى هذا الأجير بالأجير الخاص؛ وذلك لأنّ المستأجر يختص بمنفعته في مدة الإجارة لا يشاركه فيها غيره. القسم الآخر: إجارة العين على عمل معلوم، نحو: إجارة الدابة للرُّكوب من موضع كذا إلى موضع كذا، أو إجارة بقر لحرث مكان، أو دياس زرع، أو استئجار ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة: 8/ 6. (¬2) ولمزيد من التفصيل راجع: بدائع الصنائع للكاساني: 4/ 174، حاشية الرهوني على الزرقاني 7/ 3، بداية المجتهد لابن رشد: 2/ 220، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي: 2/ 350.

الضرب الآخر: إجارة الذمة

عبد ليدلُّه على الطريق، ونحو ذلك. الضرب الآخر: إجارة الذِّمَّة: وهذا النوع خاص بالآدمي جائز التصرف؛ لأنّها عقد على منفعة في الذِّمَّة مضبوطة بصفات السلم (¬1). ويسمى الأجير فيها بالأجير المشترك. نحو الخيَّاط الّذي يتقبل لجماعة، وكذلك القصَّار (¬2)، ومن في معناه، فتكون منفعته مشتركة بينهم (¬3). المسألة الرّابعة: أركان عقد الإجارة: يختلف الفقهاء في عدد أركان عقد الإجارة؛ وذللث تبعًا لاختلافهم في مفهوم الركن، والخلاف في ذلك دائر بين الجمهور من جهة، وبين الأحناف من جهة. فالجمهور يرون: أن الركن هو ما "يتوقف عليه وجود الشيء، وإن لم يكن جزءًا من حقيقته". وبناء على ذلك كانت أركان عقد الإجارة ثلاثة على الإجمال، وستة على التفصيل (¬4): الركن الأوّل: الصيغة، وتشمل الإيجاب، والقبول. ¬

_ (¬1) السلم في اللُّغة: الإعطاء والتسليف: لسان العرب: 12/ 295، مادة: سَلَم. وفي الشّرع: هو (عقد على موصوف في الذِّمَّة مؤجل، بثمن مقبوض في مجلس العقد). الإقناع للحجاوي: 2/ 133. (¬2) مأخوذ من قصر الثّوب، قصاره، ومنه سمي القصَّار: وهو المحوَّر للثياب؛ لأنّه يدقها بالقصرة، والقصرة: هي القطعة من الخشب. لسان العرب لابن منظور: 5/ 104 مادة (قصر)، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي: ص/93. (¬3) تحفة الفقهاء للسمرقندي: 2/ 352، حاشية الدسوقي: 4/ 3، تحفة المحتاج لابن حجر الهيثمي: 6/ 124 - 125، الشرح الكبير على المقنع لشمس الدِّين ابن قدامة: 6/ 30. (¬4) حاشية الدسوقى: 4/ 2، شرح منتهى الإرادات للبهوتي: 2/ 351.

الركن الثّاني: العاقدان، وهما: المؤجر، والمستاجر. الركن الثّالث: العِوضان، وهما: الأجرة، والمنفعة. وعند الحنفية: أن الركن: هو "ما توقف عليه وجود الشيء، وكان داخلًا في الماهية". وعليه، فإن ماهية العقد عندهم، وحقيقته: هي الصيغة فقط. وهي ركن الإجارة الوحيد عندهم (¬1). وأمّا بقية الأركان الّتي ذكرها الجمهور، فهي عندهم شرط لتحقق الماهية، ومن أطراف العقد، ومقوماته. ورغم هذا الخلاف فإن الكل متفقون على أنّه لا قيام للعقد إِلَّا باجتماع ذلك كله، فآل الخلاف إلى خلاف لفظي، لا ثمرة له في الفروع - والله أعلم- (¬2). ممّا سبق يتبين لنا أن من أركان عقد الإجارة: المنفعة، بل هي المقصودة أصلًا من الإجارة، وما عقدت الإجارة إِلَّا من أجلها. ونظرًا لأهميتها، وتعلّقها بمباحث الرسالة نذكر شروطها إجمالًا، ومن خلال تلك الشروط يتبين لنا شيء من سبب الخلاف فيما يتعلّق بأخذ المال على القرب المختلفة. وهذه الشروط هي: الشرط الأوّل: أن تكون المنفعة معلومة (¬3). اشترط الفقهاء في المنفعة أن تكون معلومة علمًا يمنع المنازعة، ويرفع الخلاف؛ ¬

_ (¬1) تبين الحقائق للزيلعي: 5/ 105، بدائع الصنائع للكاساني: 4/ 174. (¬2) الإجارة الواردة على عمل الإنسان للدكتور/ شرف بن علي الشريف: ص 62، الموسوعة الفقهية - الكويت 1/ 254. (¬3) بدائع الصنائع للكاساني: 4/ 180، أسنى المطالب شرح منهج الطالب للأنصاري: 2/ 406، المغني لابن قدامة: 8/ 14، شرح منتهى الإرادات للبهوتي: 2/ 351.

لأنّها المعقود عليها، فاشترط العلم بها كالثّمن في البيع. الشرط الثّاني: أن تكون المنفعة مباحة لغير ضرورة (¬1). بمعنى: أن تباح مطلقًا، بخلاف ما يباح للضرورة، كاستئجار أواني الذهب، أو استئجار الكلب، ونحوهما، فإن هذه الأشياء لا يجوز العقد عليها إِلَّا للضرورة. الشرط الثّالث: أن تكون المنافع مقدورة على تسليمها (¬2). وهذا محل اتفاق بين العلماء؛ فما لا يقدرعلى تسليمه لا يجوز العقد عليه. الشرط الرّابع: ألَّا يترتب على استيفاء المنفعة استهلاك العين (¬3). اشترط الجمهور في المنفعة عدم استهلاك العين، نحو استئجار الشمع للإضاءة، والصابون للغسل به؛ لأنّ هذه الأشياء لا ينتفع بها إِلَّا بإتلاف عينها. الشرط الخامس: أن تكون للمنافع قيمة مالية (¬4). حتّى يتأتى بذل الأجرة في مقابلتها، فإن لم تكن لها قيمة مالية فلا يجوز العقد عليها. ومثال ذلك: الأعمال المحرمة كتعليم الموسيقى، والغناء، والعمل في مصانع الخمور، ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) كشاف الفناع: 3/ 559. (¬2) حاشية ابن عابدين: 4/ 505، حاشية الدسوقي: 4/ 218، مغني المحتاج للشربيني: 5/ 332، المقنع لابن قدامة: 2/ 201. (¬3) حاشية الدسوقي: 4/ 218، مغني المحتاج للشربيني: 2/ 334، أسنى المطالب للأنصاري: 2/ 410، شرح منتهى الإرادات للبهوتي: 2/ 357، مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: 20/ 550، إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية؛ 1/ 454. (¬4) حاشية الدسوقي: 4/ 218، مغني المحتاج لدشربيني: 2/ 334، أسنى المطالب للأنصاري: 2/ 410، شرح متهى الإرادات للبهوتي: 2/ 357، مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: 20/ 550، إعلام الموقعين لابن القيم: 1/ 454.

الشرط السّادس: أن تكون منفعة العمل حاصلة للمستأجر (¬1). اشترط الفقهاء لصحة عقد الإجارة أن تكون منفعة العمل حاصلة للمستأجر؛ لأنّها عوض الأجرة الّتي بذلها من أجل الحصول على المنفعة، فإن لم تكن حاصلة له كانت الإجارة باطلة، فإن كانت المنفعة راجعة للمؤجر، أو لغيرهما كانت الإجارة باطلة. وتكون كذلك في حالتين: الأولى: إذا كان العمل واجبًا على العامل. الأخرى: إذاكان العمل ليس واجبًا عليه، ولكنه لا يجزئ عن غيره، فلا يجوز لمسلم أن يصلّي الظهر بأجرة؛ لأنّ هذا العمل واجب عليه من الله تعالى فلا يستحق الأجرة عليه، وكذلك لا يجوز لأحد أن يستاجر من يصلّي عنه الظهر مثلًا؛ لأنّها عبادة بدنية لا تقبل النِّيابة، وكذلك جميع العبادات المتعينة. ومن هنا كان لهذ الشرط أثر كبير في اختلف العلماء في حكم أخذ المال على بعض القربات، وكان سبب الخلاف فيها وصول النفع إلى المستأجر أو عدم وصوله، وهذا ما سوف يكون محل البحث في مسائل هذه الرسالة- إن شاء الله تعالى-. وبعد أن ذكر الإمام النووي هذا الشرط قال: "وأكثر العناية في هذا الشرط بالقُرب" (¬2). ¬

_ (¬1) تببين الحقالْق للزيلعي: 5/ 124، حاشية الدسوقي: 4/ 18، الشرح الصغير للدردير: 4/ 10، الذّخيرة للقرافي: 5/ 414، الفروق للقرافي: 4/ 4، روضة الطالبين للنووي: 5/ 187، أسنى المطالب لزكريا الأنصاري: 2/ 410، مغني المحتاج للشربيني: 2/ 344، الشرح الكبير لشمس الدِّين ابن قدامة: 6/ 139، كشاف القناع للبهوتي: 4/ 15. (¬2) روضة الطالبين للنووي: 1/ 187. المكتب الإسلامي.

مسألة: الفرق بين الرزق والإجارة

مسألة: الفرق بين الرزق والإجارة: بعد بيان معنى الرزق، ومعنى الإجارة، من المهم أن أذكر الفرق بينهما، حيث إنَّ عليهما مدار البحث، ونجد غالبًا أن الرزق متفَق على جوازه، بخلاف الإجارة؛ فإنها محل خلاف في جلَّ ما يردّ معنا من مسائل. ومن الفروق الّتي ذكرها العلماء بين الرزق والإجارة ما يأتي:- أوَّلًا: أن الرزق أدخل قي باب الإحسان، وأبعد عن باب المعاوضة، والإجارة أدخل في باب المكايسة (¬1)، وأبعد من باب المسامحة، وإن كان كلّ منهما بذل مال بإزاء المنافع من الغير. ثانيًا: أن الأرزاق يجوز فيها الدفع، والقطع، والتقليل، والتكثير، والتغيير والإجارة لا يجوز فيها ذلك؛ لأنّها عقد، والوفاء بالعقود واجب. وأمّا الأرزاق فمعروف يصرف بحسب المصلحة. ثالثًا: أن الأجرة في الإجارات تُورث، ويستحقها الوارث، ويطالب بها، وأمّا الأرزاق فلا تورث، ولا يحق للوارث المطالبة بها؛ لأنّها معووف غير لازم لجهة معينة. رابعًا: أن الأرزاق يجوز نقلها من جهاتها إذا تعطلت، أو وجدت جهة أولى من الجهة الأولى، والإجارة لا يجوز فيها ذلك؛ لأنّها عقد، والوفاء به واجب (¬2). خامسًا: أن الأرزاق لا يشترط فيها ما يشترط في عقد الإجارة من حيث المدة، ¬

_ (¬1) المكايسة: المغالبة: وهي مأخوذة من مادة: كيَسَ؛ يقال: كايَسْتُ فلانًا فكِسْتُه أكيسه كَيسًا؛ أي: غلبته. لسان العرب: مادة كيَسَ: 6/ 201 - 202، القاموس المحيط: مادة كيس: ص: 373. (¬2) ذكر القرافي في كتابه "لفروق" كلّ هذه الفروق، وضرب. لها الأمثلة، وقد نقلتها هنا بتصرُّف. وانظر: الفروق: 3/ 3 - 5.

أو العمل المعين المعلوم. سادسًا: أن الرزق إذا أعطاه الإمامُ الشخصَ، وكان زائدًا عما يستحقه ذلك الشخص - سواء كان قد أعطاه غلطًا منه أو جورًا - فإن المعْطى لا يستحق ذلك الزائد، بل يبقى أمانة في يده، يجب ردّها إلى بيت المال، وللإمام نزعه منه، ولو كان إجارة، لم يجز للإمام انتزاع الزائد، وكان ملك المعطى ثابتًا عليها؛ لأنّ الإجارة تنعقد بأجرة المثل، وبأكثر منها، إذا كان الحال والاجتهاد اقتضى ذلك (¬1). سابعًا: أن الرزق يكون غالبًا مقدرًا بالكفاية، فيعطى العامل منه ما يكفيه وعياله، وأمّا الأجرة فتكون حسب التراضي بين الطرفين، لو زاد عن حد الكفاية، أو قلّ (¬2). ¬

_ (¬1) الفروق للقرافي: 3/ 5، وانظر: تحرير المقال فيما يحل ويحرم من بيت المال للبلاطنسي: ص:166. (¬2) المجموع للنووي: 3/ 127 - 128.

الفرع الثالث الجعالة

الفرع الثّالث الجعالة أوَّلًا: الجعالة في اللُّغة: الجعالة مثلثة الجيم؛ يقال: جُعالة، وجِعالة، وجَعالة. والجُعْل، والجُعالة، والجِعالة، والجَعالة، والجَعيلة: ما يُجعل للإنسان على الأمر يفعله. وهي أعم من الأجرة، والثواب (¬1). ثانيًا: الجعالة اصطلاح الفقهاء: أ- الجعالة عند الحنفية: إذا نظرنا في كتب الحنفية لا نجد بابًا، ولا فصلًا لما يسمى بالجعالة، كما هو الحال عند باقي المذاهب، وبالتالي فإنهم لم يعرَّفوها، وإن عرفوها، فإنّما يرجع ذلك إلى عدم مشروعية الجعالة عندهم. فالبعض يرى أنّها من الإجارة الفاسدة، والبعض يرى أنّها من الإجارة الباطلة، إِلَّا أن ثمَّة حالة واحدة يوجب فيها الحنفية الجعالة استحسانًا، وسوف يأتي بيان ذلك: أمّا من جعل الجعالة من الإجارة الفاسدة فقد عللوا ذلك بما يأتي: 1 - أن العقد في الجعالة لم يوجه إلى معين يقبل العقد ليتحقق الإيجاب والقبول. ومن المعلوم أن العامل في عقد الجعالة قد يكون مجهولًا، وفي هذه الحالة ينتفي العقد؛ قال السرخسي (¬2): "وهذا شيء يأباه القياس؛ لأنّ العقد مع المجهول لا ينعقد ¬

_ (¬1) معجم مقاييس اللُّغة لابن فارس: 1/ 460، المفردات للراغب: ص 197، لسان العرب لابن منظور: 11/ 111. (¬2) هو: هو: محمّد بن أحمد بن أبي سهل، أبوبكر، شمس الأئمة السرخسي: أحد أئمة الحنفية في الفقه والأصول، له مؤلفات كثيرة هي عمدة في المذهب منها: المبسوط في الفقه، وهو أهم كتبه، وأصول السرخسي في أصول الفقه، وشرح السير الكبير لمحمد بن الحسن، وغيرها، توفي سنة 483 هـ: الجواهر المضية للقرشي: 3/ 78، تاج التراجم لابن قطلوبغا، ص/182.

وبدون القبول كذلك ... " (¬1). 2 - أن في الجعالة تعليقًا للتملك على الخطر، وهو قمار، والقمار حرام؛ قال السرخسي: " .... ثمّ إنَّ هذا تعليق استحقاق المال بالخطر، وهو قمار، والقمار حرام في شريعتنا ... " (¬2). وعدّها ابن عابدين من الإجارة الباطلة، حيث جُهل الطرف الثّاني، أو علم، ولكنه أمكنه أخذ الجعل دون القيام بعمل، فلو قال رجل ضل له شيء: من دلني على كذا فله كذا، قال ابن عابدين: "فهو على وجهين: إن قال ذلك على سبيل العموم بأن قال: من دلني، فالإجارة باطلة؛ لأنّ الدلالة، والإشارة ليست بعمل يستحق به الأجر، وإن قال على سبيل الخصوص: بأن قال لرجل بعينه: إنَّ دللتني على كذا فلك كذا، إنَّ مشى له فدله، فله أجر المثل للمشي لأجله؛ لأنّ ذلك عمل يستحق بعقد الإجارة، إِلَّا أنّه غير مقدر بقدر، فيجب أجر المثل، وإن دله بغير مشي فهو والأول سواء" (¬3). فعلى هذا، إنَّ تعين العامل فهي فاسدة، وإلا فهي باطلة. وثمَّ حالة واحدة يوجب فيها الحنفية الجعالة كما سبق أن ذكرنا، وهي الجعالة الناتجة عن ردّ العبد الآبق؛ وذلك صيانة للمال من الضياع، ولاتفاق الصّحابة على ذلك، واستدلوا بما يأتي: ما روي من حديث سعيد بن المرزبان، عن أبي عمرو الشيباني؛ قال: كنت جالسًا عند عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، فجاء رجل، فقال: إنَّ فلانًا قدم بإباق من القوم ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي: 11/ 18، حاشية ابن عابدين: 5/ 58. (¬2) المبسوط للسرخسي: 11/ 18، حاشية ابن عابدين: 4/ 281، الاختيار لتعليل المختار للموصلّي: 3/ 34. قال الموصلّي: "وعن الكرخي في اللقطة: إذا قال: من وجدها فله كلذا، فله أجر مثله؛ لأنّها إجارة فاسدة" 3/ 34. (¬3) حاشية ابن عابدين: 5/ 58، 258، بدائع الصنائع: 6/ 203.

فقال القوم: لقد أصاب أجرًا؛ فقال عبد الله بن مسعود: "وجعلًا، إن شاء من كلّ رأس أربعين درهمًا" (¬1). قال السرخسي معقبًا على هذا الأثر: "وفي هذا الحديث بيان أن الراد يثاب؛ لأنّ عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - لم ينكر عليهم إطلاق القول بأنّه أصاب أجرًا، وفيه دليل على أنّه يستحق الجعل على مولاه، وهو استحسان أخذ به علماؤنا رحمهم الله، وفي القياس لا جعل، ولكنا تركنا القياس؛ لاتفاق الصّحابة - رضي الله عنهم -، فقد اتفقوا على وجوب الجعل، لأنّ ابن مسعود - رضي الله عنه - قال في مجلسه ما قال، وقد اشتهر عنه ذلك لا محالة ولم ينكر عليه أحد من أقرانه، وقد عرض قوله عليهم لا محالة، والسكوت بعد ذلك عن إظهار الخلاف لايحل لمن يعتقد خلافه، فمن هذا الوجه يثبت الإجماع منهم، ثمّ هم اتفقوا على أصل وجوب الجعل، وإن اختلفوا في مقداره ... " (¬2). غير أن ذلك ليس بمطّرد عند الحنفية، حيث لم يوجبوا الجعل في الحيوانات الضالة؛ لعدم تحقق الخطورة، ولذا قال الكاساني: "فكان استحقاق الجعل طريق صيانة الآبق عن الضياع، وصيانة المال عن الضياع واجب، فكان المالك شارطًا للأجر عند الأخذ والردّ دلالة، بخلاف الضالة؛ لأنّ الدابة إذا ضلت فإنها ترعى في ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: في اللقطة: باب الجعالة: 6/ 330 (12125)، وقال: "وهذا أمثل ما في هذا الباب" وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: كتاب البيوع والأقضية، باب: جعل الآبق: 6/ 541. وأخرجه عبد الرزاق في المصنِّف 8/ 207 (14911). وانظر: نصب الراية للزيلعي:/ 470، كتاب الإباق وسعيد بن المرزيان العبسي: ضعيف مدلس، وقد ورد الأثر من طريق سفيان عن عبد الله بن رباح عن أبي عمرو الشيباني، فذكره دون قوله (وجعلا) وفي سنده عبد الله بن رباح ذكره ابن حبّان في الثقات وأورده البخاريّ في تاريخه وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا: التاريخ الكبير للبخاري: 5/ 85 والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 5/ 52، الثقات لابن حبّان 70/ 34، وتقريب التهذيب رقم (4402). (¬2) المبسوط للسرخسي: 11/ 17، بدائع الصنائع: 6/ 203، شرح فتح القدير لابن الهمام: 4/ 435.

ب - الجعالة عند المالكية

المراعي المألوفة، فيمكن الوصول إليها بالطلب عادة، فلا تضيع دون الأخذ، فلا حاجة إلى الصيانة بالجعل" (¬1). تنبيه: ذكر بعض الحنفية تعريفًا للجعل، فقال: "وحقيقة الجعل: ما يجعل للإنسان في مقابلة شيء يفعله" (¬2). وهذا ليس تعريفًا اصطلاحيًا بالمعنى المعروف عند الفقهاء، وإنّما هو مفهوم الجعل في اللُّغة، وقد سبق ذكر ذلك. ب - الجعالة عند المالكية: عرّفها المالكية بأنّها: "عقد معاوضة على عمل آدمي بعوض غير ناشئ عن محله به، لا يجب إِلَّا بتمامه" (¬3). وقيل: "هي الإجارة على منفعة مظنون حصولها" (¬4). جـ - الجعالة عند الشّافعيّة: عرّفها الشّافعيّة بأنّها: "التزام عوض معلوم على عمل معين، أو مجهول، بمعين، أو مجهول" (¬5). د - الجعالة عند الحنابلة: عرّف الحنابلة الجعالة بتعريفات كثيرة أجمعها ما ذكره صاحب الإقناع بقوله: ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع: 6/ 204، الهداية شرح البداية للمرغيناني: 2/ 178. (¬2) شرح فتح القدير لابن الهمام: 4/ 283، وقد ذكر هذا التعريف في باب الجهاد عند كلامه على الجعائل في الجهاد. تنبيه: كتاب شرح فتح القدير اسمه الحقيقي: (فتح القدير) ولكن لما اشتهر بالأسم الأوّل في كلّ طبقات الكتاب فقد ذكرته بالاسم المشهور حتّى لا يلتبس على القاري. (¬3) شرح حدود ابن عرفة: 2/ 529 والمعنى: أنّه لا يجب العوض في الجعالة إِلَّا بتمام العمل. (¬4) بداية المجتهد لابن رشد: 2/ 235. (¬5) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج لشمس الدِّين الرملي: 5/ 465، دار الكتب العلمية.

مسألة: الفرق بين الإجارة والجعالة

"هي جعل شيء معلوم كلأجرة، لمن يعمل له عملًا مباحًا، ولو مجهولًا على مدة، ولو مجهولة" (¬1). فهذه التعريفات السابقة كلها متقاربة في المعنى ليس بينها اختلاف، وتؤدي الغرض، وهو بيان حقيقة الجعالة، إِلَّا أن تعريف الحنابلة زاد قيدًا مهمًا، وهو تقييد العمل في الجعالة بكونه "مباحًا"، وبهذا القيد تخرج الجعالة على الأشياء المحرمة، أو الّتي يكون فيها العمل محرمًا. وزاد المالكية قيدًا، وهو قوله: "لايجب إِلَّا بتمامه"، فإن الجعل في الجعالة لا يجب على الجاعل إِلَّا بعد تمام العمل، فإن كان الفسخ من الجاعل قبل تمام العمل فللعمل أجرة المثل على عمله. مسألة: الفرق بين الإجارة والجعالة: ذكر العلماء فروقًا كثيرة بين الإجارة والجعالة، وهي: أوَّلًا: أن الإجارة عقد لازم بين الطرفين، والأجرة تجب على العاقد، شيئًا فشيئًا للعامل. وأمّا الجعالة فعقد جائز من الطرفين لكل منهما فسخه، والعوض لايجب إِلَّا بعد إنجاز العمل، إِلَّا إذا كان الفسخ من الجاعل بعد الشروع في العمل فللعمل أجرة مثل عمله (¬2). ثانيًا: أن الجعالة تصح مع جهالة العمل، بخلاف الإجارة؛ فيجب فيها تعيين العمل (¬3). ¬

_ (¬1) الإقناع في فقه الإمام أحمد للحجاوي: 2/ 394. دار المعرفة - بيروت. (¬2) حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني: 2/ 169، الحاوي الكبير للماوردي: 20/ 364، مغني المحتاج للشربيني: 2/ 434، مجموع الفتاوى لابن تيمية: 30/ 227، الروض المربع للبهوتي مع حاشية ابن قاسم: 5/ 497، 498. (¬3) أحكام القرآن لابن العربي: 3/ 1096، مغني المحتاج للشربيني: 2/ 429 - ، الروض المربع للبهوتي: 5/ 495.

ثالثًا: أن الجعالة تصح مع العامل غير المعين، بينما الإجارة لا تصح إِلَّا مع تعيين العامل (¬1). رابعًا: لا يشترط في الجعالة تلفظ العامل بالقبول، بخلاف الإجارة، فإنها يشترط فيها قبول العامل؛ وذلك مقتضى لزوم عقد الإجارة (¬2). ¬

_ (¬1) المراجع السابقة، وانظر: مقدمات ابن رشد: 2/ 182، والمغني لابن قدامة: 8/ 327. (¬2) المراجع السابقة، وانظر: القواعد والأصول الجامعة للشيخ عبد الرّحمن السعدي: ص/ 142، 143. وقد ذكر رحمه الله فرقًا آخر، فقال: "والجعالة تجوز على أعمال القرب بخلاف الإجارة". قلت: وهذ الفرق كما لا يخفى جارٍ على مذهب الشّيخ، وإلا فالمسألة محل خلاف كبير بين العلماء - كما سيأتي -.

الفرع الرابع الهبة وما في معناها

الفرع الرّابع الهِبَة وما في معناها أوَّلًا: تعريف الهِبَة: 1 - الهِبَة في اللُّغة: الهِبَة في اللُّغة: العطيّة الخالية من الأعواض والأغراض. يقال: وهَبَ له الشيء، يَهَبُه وهْبًا، ووَهَبًا، وهبة: أعطاه إياه بلا عوض. والهِبَة: أن تجعل مِلْكَكَ لغيرك بغير عوض (¬1). والإيهاب: قبول الهِبَة، والاستيهاب: سؤال الهِبَة. ورجل وهَّاب، ووهَّابة: كثير الهِبَة، والهاء للمبالغة (¬2). 2 - الهبة في الاصطلاح: عرّف العلماء الهِبَة بتعريفات كثيرة اتفقت معظمها على أن الهِبَة هي: "تمليك مال بلا عوض" (¬3). وزاد بعض الحنفية، والشّافعيّة، والحنابلة "في الحياة" (¬4). وذلك لإخراج الوصيَّة؛ لأنّها تمليك مال بلا عوض بعد الموت. وزاد بعض الشّافعيّة، وبعض الحنابلة "تطوعًا" (¬5). ليخرج الواجب من الزَّكاة، والكفارة، ونحوهما. ¬

_ (¬1) المفرادات للراغب: ص / 884، 885 (¬2) لسان العرب لابن منظور: 1/ 503، 504، مختار الصحاح للرازي: ص: 737، المعجم الوسيط ص 1095. (¬3) نتائج الأفكار لقاضي زاده: 7/ 113، حاشية ابن عابدين: 4/ 508، حاشية الدسوقي: 4/ 97. (¬4) نتائج الأفكار: 7/ 113، مغني المحتاج للشربيني: 2/ 396، 397، منتهى الإرادات للبهوتي: 2/ 22. (¬5) مغني المحتاج للشربيني: 2/ 396، منتهى الإرادات للبهوتي: 2/ 22.

ثانيا: الفرق بين الهبة والهدية والصدقة والعطية

وبناء على ما تقدّم يمكن تعريف الهِبَة بأنّها: "تمليك مالٍ بلا عوضٍ في الحياة تطوعًا". ثانيًا: الفرق بين الهِبَة والهدية والصدقة والعطية: يجمع هذه المصطلحات الأربعة أن كلًا منها: "تمليك بلا عوض". وقد فرق العلماء بينها، فقالوا: - إنَّ التمليك بلا عوض هبة، وتكون على سبيل المواصلة، والوداد. - فإن انضم إليه حمل الموهوب من مكان إلى مكان الموهوب له إعظامًا له، أو إكرامًا فهو: هدية. - وإن كان التمليك للمحتاج تقربًا إلى الله، طلبًا لثواب الآخرة فهو صدقة. - ويعمها جميعًا لفظ العطيّة. - وقد يراد بالعطية: "الهِبَة في مرض الموت" (¬1). قال الإمام النووي: "والتمليك المحض ثلاثة أنواع: الهِبَة، والهدية، وصدقة التطوع، وسبيل ضبطها أن نقول: التمليك لا بعوض: هبة، فإن انضم إليه حمل الموهوب من مكان إلى مكان الموهوب له إعظامًا له، أو إكرامًا، فهو هدية، وإن انضم إليه كون التمليك للمحتاج تقربًا إلى الله تعالى، وطلبًا لثواب الآخرة، فهو صدقة، فامتياز الهدية عن الهِبَة بالنقل والحمل من موضع إلى موضع، ومنه إهداء النَّعم إلى الحرم، ولذلك لايدخل لفظ الهدية في العقار بحال؛ فلا يقال: أهدى إليه دارًا، ولا أرضًا، وإنّما يطلق ذلك في المنقولات كالثياب، والعبيد، فحصل من هذا أن هذه الأنواع تفترق بالعموم والخصوص، فكل هدية وصدقة هبة، ولا تنعكس (¬2). ¬

_ (¬1) تهذيب الأسماء واللغات للنووي: 4/ 197، منتهى الإرادات للبهوتي: 2/ 22، كشاف القناع للبهوتي: 4/ 299، المطلع غلى أبواب المقنع لشمس الدِّين أبي عبد الله محمّد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي (توفي سنة 709 هـ): ص/ 0291 المكتب الإسلامي- بيروت 1401 هـ/ 1981 م، درر الحكام شرح مجلة الأحكام العدلية لعلّي حيدر (مادة 833) 2/ 342. (¬2) روضة الطالبين للإمام النووي: 5/ 464، المكتب الإسلامي.

الفرع الخامس الوقف

الفرع الخامس الوقف تعريف الوقف: 1 - الوقف في اللُّغة: الوقف في اللُّغة: الحبس، وهو مصدر من قولك: وقَفْتُ الأرضَ على المساكين وقفًا: حبستُها. وقيل للموقوف: وقف؛ تسمية بالمصدر. وجمع على أوقاف، كوقت وأوقات (¬1). قال الإمام النووي: "الوقف، والتحبيس، والتسبيل، بمعنى واحد، وهي هذه الصَّدقة المعروفة" (¬2). 2 - الوقف في اصطلاح الفقهاء: اختلف الفقهاء في تحديد مفهوم الوقف في الشّرع، ويرجع سبب اختلافهم إلى ما يأتي: 1 - اختلافهم في لزوم الوقف، وعدم لزومه؛ حيث ذهب الأحناف إلى عدم لزومه، وخالفهم غيرهم (¬3). 2 - اختلافهم في الجهة المالكة للعين بعد وقفها على أقوال ثلاثة: ¬

_ (¬1) لسان العرب: 9/ 359، المصباح المنير ص 669، المغرب للمطرزي: ص 419، طلبة الطلبة لنجم الدِّين بن حفص النسفي (توفي سنة 537 هـ) ص 219، دار القلم بيروت. (¬2) تهذيب الأسماء واللغات: 4/ 194، وانظر: التعريفات لعلّي بن محمّد الجرجاني: ص 264. دار الكتاب لمصري 1411 هـ. (¬3) المبسوط للسرخسي: 12/ 27، حاشية ابن عابدين: 3/ 495، شرح فتح القدير: 5/ 40.

أولا: تعريف الحنفية للوقف

القول الأوّل: ذهب الشّافعيّة، وبعض الحنفية إلى أن العين تنتقل لملك الله تعالى (¬1). القول الثّاني: ذهب أبو حنيفة والمالكية إلى أن العين تبقى في ملك الواقف (¬2). القول الثّالث: ذهب الحنابلة إلى أن العين الموقوفة تنتقل إلى ملك الموقوف عليه (¬3). 3 - اختلافهم في اشتراط القربة في الوقف، وعدم اشتراطها؛ حيث ذهب بعض الشّافعيّة إلى اشتراطها (¬4)، وخالفهم غيرهم (¬5). من هنا جاءت تعريفات الفقهاء للوقف متغايرة، إِلَّا أنّه يمكن أخذ قدر مشترك بينهم جميعًا، وهو ما يبين حقيقة الوقف، وهو أن الوقف حبس الأصل والتصدق بالنفعة، ثمّ اختلفت قيودهم بعد ذلك تبعًا للأسباب الّتي ذكرت، وسوف أذكر بعض تعريفاتهم، ثمّ أبين الراجح منها - إن شاء الله تعالى -؛ فأقول: أوَّلًا: تعريف الحنفية للوقف: ممّا سبق يتبين أن الأحناف فريقان في مفهوم الوقف، ولذا نجد لهم في ذلك تعريفان: التعريف الأوّل: لأبي حنيفة، ومن تبعه، حيث عرفوا الوقف بأنّه: "حبس الملوك عن التمليك من الغير" (¬6). ¬

_ (¬1) نهاية المحتاج للرملي: 5/ 358، روضة الطالبين للنووي: 5/ 346، 347، تنوير الأبصار للتمرتاشي مع شرحه الدر المختار على هامش حاشية ابن عابدين: 3/ 494 - 495. (¬2) حاشية ابن عابدين: 4/ 494، 495، والبحر الرائق: 5/ 202، الشرح الصغير للدردير: 4/ 97. (¬3) المغني لابن قدامة: 8/ 188، شرح منتهى الإرادات: 2/ 497، كشاف القناع للبهوتي: 4/ 340. (¬4) تحرير ألفاظ التنبيه/ النووي ص 237، مغني المحتاج: 2/ 376. (¬5) المبسوط للسرخسي: 11/ 27، حاشية ابن عابدين: 3/ 494، 495. (¬6) المبسوط للسرخسي: 11/ 27.

ثانيا: تعريف المالكية

فقوله: حبس، جنس يشمل كلّ حَبْس؛ الرَّهْن، والحجر. وقوله: المملوك: احتراز عن غير المملوك؛ فلا يصح وقفه. وقوله* عن التمليك من الغير: احتراز عن أي تصرف من التصرفات من طرف المالك، فلا يباع، ولا يوهب، ولا يرهن، ولا يورث. وقوله: من الغير: يفيد بقاء العين على ملك الواقف (¬1). التعريف الثّاني: لبعض الحنفية: عرّفه بعضهم فقال: "هو حبس العين على ملك الله تعالى، وصرف منفعتها على من أحب" (¬2). وزاد ابن عابدين كلمة "حكم" بين قوله: على. وقوله: ملك الله؛ أي: هو "حبس العين على حكم ملك الله تعالى" (¬3). وذلك ليفيد أن العين لم تبق على ملك الواقف، ولا انتقلت إلى ملك غيره، بل صارت على حكم ملك الله تعالى، حيث كانت قبل الوقف في ملكه سبحانه فهو المالك قبل الوقف وبعده (¬4). ثانيًا: تعريف المالكية: عرّف المالكية الوقف بأنّه: "إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازمًا بقاؤه في ملك معطيه، ولو تقديرًا" (¬5). فقوله: إعطاء، مرادف هنا لكلمة "التمليك" (¬6)، وقوله: منفعة، أخرج به إعطاء ذات كالهِبَة، وكلمة "شيء" تعني: الشيء المتمول، وهي هنا أعم من المال، ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين: 3/ 494، 495. (¬2) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين: 3/ 495. (¬3) حاشية ابن عابدين: 3/ 495. (¬4) حاشية ابن عابدين: 3/ 495، شرح فتح القدير لابن الهمام: 5/ 40. (¬5) شرح حدود ابن عرفة: 2/ 539. (¬6) المرجع السابق.

ثالثا: تعريف الشافعية

وقد خصصت بقوله بعدها: "في ملك معطيه"، فدل على أنّه أراد الشيء المتمول. وباقي التعريف يدلُّ على أن ملك العين باقٍ للواقف لم تخرج العين الموقوفة عن ملكه. ثالثًا: تعريف الشّافعيّة: عرّف الشّافعيّة الوقف بتعريفات كثيرة، منها أنّه: "حبس مال يمكن الانتفاع به، مع بقاء عينه على مصرف مباح" (¬1). وهذه القيود الواردة في التعريف متفق عليها عند الفقهاء، ولكن زاد بعضهم قيودًا أخرى على التعريف، ومن ذلك: 1 - زاد بعضهم بعد قوله: "مع بقاء عينه" جملة: "بقطع التصرف في رقبته" (¬2)؛ وذلك لإخراج غير الوقف من أموال الحبس الأخرى، كالرهن، والحجْر. وهذ القيد لا حاجة إليه هنا؛ لأنّ كلمة (حبس) الواردة في التعريف تغني عنه لأنّها تعني المنع من التصرف، فهي تكرار لا معنى له إِلَّا لبيان معنى الحبس، وليست قيدًا في التعريف. 2 - وزاد الإمام النووي جملة "يصرف في جهة خير تقربًا إلى الله تعالى" (¬3). وهذا يعني: أن التقرب شرط لصحة الوقف، ولكن لم أقف على شيء من ذلك فيما وقفت عليه من كتب الإمام النووي، أو كتب المذهب، بل نصّ بعضهم على عدم اشتراط القربة (¬4). ¬

_ (¬1) حاشية قليوبي على شرح المنهاج للمحلي: 3/ 97. (¬2) تحرير ألفاظ التنبيه للنووي: ص 237، مغني المحتاج للشربيني: 2/ 376. (¬3) تحرير ألفاظ التنبيه للنووي: ص 237. (¬4) انظر: روضة الطالبين: 5/ 364، مغني المحتاج للشربيني: 2/ 376، نهاية المحتاج للرملي: 5/ 358.

رابعا: تعريف الحنابلة

رابعًا: تعريف الحنابلة: عرّف بعض الحنابلة الوقف بتعريف قريب جدًا من تعريف النووي السابق للوقف، مع اختلاف يسير جدًا، فقال في تعريفه: "الوقف: تحبيس مالكٍ مطلق التصرف ماله المنتفع به، مع بقاء عينه، بقطع تصرفه، وغيره في رقبته، يصرف ريعه إلى جهة برّ تقربًا إلى الله تعالى" (¬1). وعرّفه الإمام ابن قدامة بأنّه: "تحبيس الأصل، وتسبيل الثمرة" (¬2). التعريف المختار: بالنظر إلى ما سبق من تعريفات، نجد أن التعريف المختار منها هو ما ذكره ابن قدامة؛ وذلك لما يأتي: 1 - أن هذا التعريف مأخوذ من حديث رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، حيث أشار رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - على عمر، حين استشاره في الأرض الّتي أصابها في خيبر، فقال له النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: (إنَّ شئت حبست أصلها، وتصدقت بها" (¬3). 2 - أن هذا التعريف لا ترد عليه الاعتراضات الّتي وردت على غيره من التعريفات السابقة. 3 - أن هذا التعريف قد جاء فيه ذكر حقيقة الوقف دون زيادة، أو تفصيل، كما في بقية التعريفات الأخرى (¬4). ¬

_ (¬1) منتهى الإرادات لابن النجار الفتوحي: 2/ 3. (¬2) المغني لابن قدامة: 8/ 184. (¬3) أخرجه البخاريّ في كتاب الشروط، باب الشروط في الوقف: 5/ 418 (2737)، وفي كتاب الوصايا، باب: الوقف كيف يكتب: 5/ 468 (2772).ومسلم في كتاب الوصيَّة، باب الوقف: 3/ 1255 (1632). (¬4) انظر: أحكام الوقف للكبيسي: 1/ 88.

الفرع السادس الوصية

الفرع السّادس الوصيَّة أوَّلًا: تعريف الوصيَّة في اللُّغة: هي ما أوصيت به، ووصلت به غيرك. فالوصية مأخوذة من: وَصَيْتُ الشيءَ بكذا: إذا وصلتُهُ به. ويقال: وصَى الرجلَ وصْيًا: وصَلَه، ووصى الشيءَ بغيره وصْيًا: وصَلَه. والواصي: المتصل، وأوصى الرجلَ ووصَّاه: عهد إليه. والوصية: ما أوصيتَ به، والوصيُّ من الأضداد: الّذي يُوصي، والذي يوصى له. وسميت الوصيَّة بذلك لاتصالها بأمر الميِّت، أو لأنّه وَصَلَ ما كان في حياته بما بعده (¬1). ثانيًا: الوصيَّة في الشّرع: عرفها العلماء بأنّها: "تمليك مضاف لما بعد الموت" (¬2). والوصية قد حصل الاتفاق على حقيقتها عند العلماء، ولم تختلف عباراتهم في ذلك إِلَّا اختلافًا يسيرًا متعلّقًا بالعبارات، لا بحقيقة الوصيَّة ومفهومها، إِلَّا أنّه بالنَّظر في كلام الفقهاء، وفي عرفهم يتبين أن الوصيَّة قد تكون أعم ممّا ذكروه؛ وذلك لأنّ التعريف المذكور لايدخل فيه النِّيابة عن الميِّت في التصرف بعد الموت كقضاء ديونه، والقيام بحوائجه، ومصالح ورثته من بعده، وتنفيذ وصاياه، ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) لسان العرب: 15/ 394، المصباح المنير للفيومي: 662، تحرير ألفاظ التنبيه: ص: 241، 240. (¬2) تببين الحقائق للزيلعي: 6/ 182، حاشية ابن عابدين: 5/ 415، مغني المحتاج: 3/ 39، منتهى الإرادات لابن النجار: 2/ 37.

ولذلك فإن بعض الفقهاء قد عرفوها بما يشمل كلّ ذلك، فقد عرفها بعض المالكية بأنّها: "عقد يوجب حقًا في ثلث عاقده يلزم بموته، أو نيابة عنه" (¬1)، فاضاف جملة "أو نيابة عنه"؛ ليشمل كلّ ما ذكر، وهو بهذا أعمّ من التعريف الأوّل؛ وهو ما يتمشى مع عرف الفقهاء. وعرّفها بعض الحنابلة بأنّها: "الأمر بالتصرف بعد الموت" (¬2). فهذا التعريف أعمّ من التعريف الأوّل؛ فإنّه يشمل ما جاء في هذا التعريف، ويشمل كذلك الوصيَّة بإقامة نائب عنه بعد موته في النظر في شؤون الصغار، وتزويج البنات، وتفرقة الثلث، ونحو ذلك (¬3). وعليه، فيكون التعريف الّذي ذكروه، وهو كون الوصيَّة "تمليكًا مضافًا لما بعد الموت" ألصق بعرف علماء الفرائض - لا الفقهاء بعامة -، فإن ما ذكروه خاص بالوصية بالمال، والله أعلم. ¬

_ (¬1) شرح حدود ابن عرفة: 2/ 681، حاشية الدسوقي: 4/ 422، والشرح الصغير للدردير: 4/ 571 (¬2) كشاف القناع للبهوتي: 4/ 335. (¬3) والوصية هنا تكون كذلك على معنى الإيصاء، والتفريق بين الوصيَّة والإيصاء ليس عند علماء اللُّغة، إنّما الّذي فرق بينهما هم الفقهاء فقد استعملوا لفظ الوصيَّة في التصرف في المال المضاف لما بعد الموت، ولفظ الإيصاء في جعل الغير وصيًا على من يلي أمره بعد وفاته، واللَّه أعلم.

الفرع السابع الزكاة

الفرع السابع الزَّكاة أوَّلًا: الزَّكاة في اللُّغة: هي: النماء، والزيادة، والطهارة، والبركة. قال ابن فارس (¬1): "الزاء، والكاف والحرف المعتل: أصل يدلُّ على نماء وزيادة، ويقال: الطّهارة: زكاة المال؛ قال بعضهم: سُميت بذلك؛ لأنّها ممّا يرجى به زكاءُ المال، وهو: زيادته، ونماؤه. وقيل: سميت زكاة؛ لأنّها طهارة، وحجة ذلك قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، والأصل في ذلك كله راجع إلى هذين المعنبين، وهما: النماء، والطهارة" (¬2). ومعاني الزَّكاة كثيرة منها: الطّهارة، والنَّماء، والبركة، والمدح، والصلاح، وصفوة الشيء، يقال: زكا الشيء زكاة: نما، وازداد. وهي من الأسماء المشتركة؛ فتطلق على المخرَج: وهي الطائفة المزكى بها، وعلى المعنى، والفعل: وهو التزكية (¬3). ¬

_ (¬1) هو: أبو الحسين: أحمد بن فارس بن زكريا (القزويني المعروف بالرازي) المالكي اللغوي، كان إمامًا من أئمة اللُّغة والأدب كريمًا جوادًا، له مؤلفات كثيرة في اللُّغة وغيرها، منها: المجمل، وفقه اللُّغة، ومعجم مقاييس اللُّغة، وفتاوى فقيه العرب، واختلاف النحوبين، وحلية الفقهاء، توفي سنة (395 هـ) بالري: سير أعلام النُّبَلاء للذهبي: 17/ 103، بغية الوعاة للسيوطي: 1/ 352. (¬2) معجم مقاييس اللُّغة لابن فارس: 3/ 17. (¬3) معجم مقاييس اللُّغة لابن فارس: 3/ 17، لسان العرب لابن منظور: 14/ 308، مادة (زكى)، والمعجم الوسيط لإبراهيم مصطفى وجماعة: ص 396.

ثانيا: الزكاة في الاصطلاح الشرعي

ثانيًا: الزَّكاة في الاصطلاح الشرعي: تنوعت تعريفات الزَّكاة عند الفقهاء؛ وذلك لأنّ بعضهم عرفها تعريفًا اسميًا بمعنى أن تعريفه يركز على الجزء المخرج نفسه من المال (¬1). وعرفها البعض تعريفًا يركز على عملية الإخراج نفسها، وهو فعل التزكية (¬2). وبناء على ذلك فقد عرّفها الفقهاء بما يلي: 1 - الحنفية: عرفها الحنفية بأنّها: "تمليك جزء مخصوص، من مال مخصوص، لشخص مخصوص، لله تعالى" (¬3). 2 - المالكية: عرفها المالكية بأنّها: "إخراج مال مخصوص، من مال مخصوص، بلغ نصابًا لمستحقه" (¬4). يتضح لنا من تعريف الحنفية، والمالكية أن كلامهم تركز على عملية الإخراج نفسها؛ وذلك بيّن من قولهم: "تمليك"، وقولهم: "إخراج". 3 - الشّافعيّة: عرفها الشّافعيّة بأنّها: "اسم لقدر مخصوص من المال، يجب صرفه لأصناف مخصوصة بشرائط" (¬5). ¬

_ (¬1) عرفها بذلك: الشّافعيّة، والحنابلة. انظر: مغني المحتاج للشربيني: 1/ 368، حاشية الجمل: 2/ 217، والمغني لابن قدامة: 2/ 433، شرح منتهى الإرادات: 1/ 363. (¬2) عرفها بذلك: الحنفية، والمالكية. انظر: حاشية ابن عابدين: 2/ 2 - 4، اللباب شرح الكتاب: 1/ 136، وشرح حدود ابن عرفة: 1/ 140، والشرح الصغير للدردير: 1/ 581 - 587. (¬3) اللباب شرح الكتاب للغنيمي: 1/ 136 وانظر: تنوير الأبصار مع شرحه الدر المختار بهامش حاشية ابن عابدين: 2/ 2 - 4. (¬4) الشرح الصغير للدردير: 1/ 581 - 587، شرح حدود ابن عرفة: 1/ 140. (¬5) مغئي المحتاج للشربيني: 1/ 368، حاشية الجمل على شرح المنهج: 2/ 217.

4 - الحنابلة: عرفها الحنابلة بأنّها: "حق واجب، في مال خاص، لطائفة مخصوصة" (¬1). من خلال تعريف الشّافعيّة، والحنابلة للزكاة يتضح أنّها تتركز على الجزء المخرج نفسه في الزَّكاة. وعليه، فإن مصطلح الزَّكاة الشرعية، قد يراد به الحصة المقدرة من المال الّتي فرضها رب العالمين للمستحقين، وقد يراد بها كذلك عملية الإخراج نفسها والفعل، وهو التزكية. والأول أدق، وألصق بموضوعنا، وهو ما تسعفه النصوص الشرعية. ¬

_ (¬1) منتهى الإرادات مع شرحه: 1/ 363، كشاف القناع للبهوتي: 2/ 166، والروض المربع للبهوتي: 3/ 164.

المطلب الثالث مصادر المال المأخوذ على القرب

المطلب الثّالث مصادر المال المأخوذ على القرب وفيه فرعان: الفرع الأوّل بيت المال وفيه مسائل: المسألة الأولى: التعريف ببيت المال: أوَّلًا: بيت المال في اللُّغة: هو المكان المعدّ لحفظ المال، خاصًا كان أو عامًا. قال الراغب (¬1): أصل البيت: مأوى الإنسان باللّيل؛ لأنّه يقال: بات: أقام باللّيل، كما يقال: ظل بالنهار؛ ثمّ يقال للمسكن: بيت؛ من غير اعتبار اللّيل فيه. وجمعه: أبيات، وبُيُوت، لكن البيوت بالمسكن أخص. وعُبِّر عن مكان الشيء بأنّه بيت" (¬2). ¬

_ (¬1) هو: الحسين بن محمّد بن المفضل، وقيل: الحسين بن مفضل بن محمّد، وقيل: الحسين بن الفضل، وقبل: المفضل بن محمّد، ويرجع هذا الاختلاف في اسمه واسم أبيه إلى أنّه قد اشتهر بلقبه هو الراغب الأصفهاني، ولكن التصحيح أن اسمه الحسين، وعليه مشى غالب من ترجم له، وكما اختلف في اسمه واسم أبيه اختلف في عقيدته، ومذهبه الفقهي، وعصره، وتاريخ وفاته، وقد خلف مؤلفات كثيرة منها: المفردات في ألفاظ القرآن، والذريعة إلى مكارم الشّريعة، وغيرهما. وأمّا وفاته فقيل: سنة 412 هـ، وقيل: سنة 425 هـ، وهو التصحيح، وقيل غير ذلك، والله أعلم. انظر في ترجمته: (سير أعلام النُّبَلاء للذهبي: 18/ 120، بغية الوعاة للسيوطي: 2/ 297، معجم المؤلِّفين: 4/ 59. (¬2) المفردات للراغب: ص: 151، معجم المصطلحات الاقتصادية للدكتور نزيه حماد: ص 95.

ثانيا: بيت المال في الاصطلاح

ثانيًا: بيت المال في الاصطلاح: اختلف مفهوم بيت المال في صدر الإسلام، عن مفهومه في العصور الإسلامية اللاحقة؛ فقد استعمل مصطلح [بيت مال المسلمين]، أو [بيت مال الله] في صدر الإسلام للدلالة على المبنى والمكان الّذي تحفظ فيه الأموال العامة للدولة الإسلامية؛ وذلك من المنقولات كالفيء، وخمس الغنائم، ونحوهما، إلى أن تصرف في وجوهها، ثمّ اكتُفِي بكلمة [بيت المال]؛ للدلالة على ذلك، حتّى أصبح عند الإطلاق ينصرف إليه. ثمّ تطور بعد ذلك مفهوم (بيت المال) في العصور الإسلامية اللاحقة، حتّى صار يُطلق على الجهة الّتي تملك المال العام للمسلمين، من النقود، والعروض، والأراضي، وغيرها. والمراد بالمال العام: "هو كلّ مال ثبتت عليه اليد في بلاد المسلمين، ولم يتعين مالكه، بل هو لهم جميعًا" (¬1). قال الماوردي: "كلّ مال استحقه المسلمون، ولم يتعين مالكه منهم فهو من حقوق بيت المال، فإذا قُبض صار بالقبض مضافًا إلى حقوق بيت المال أُدخل حرزه، أم لم يُدخل؛ وذلك لأنّ بيت المال عبارة عن الجهة لا عن المكان". ثمّ قال: "وكل حق وجب صرفه في مصالحع المسلمين فهو حق على بيت المال، فإذا صرف في جهته، صار مضافًا إلى الخراج من بيت المال، سواء خرج من حرزه، أو لم يخرج؛ لأنّ ما صار إلى عمال المسلمين، أو خرج من أيديهم فحكم بيت المال جارٍ عليه في دخله إليه وخرجه" (¬2). ¬

_ (¬1) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 213، ولأبي يعلى: 235. (¬2) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 213.

المسألة الثانيه: موارد بيت المال

وبناء على ما سبق يتضح لنا أن بيت المال له إطلاقان: الإطلاق الأوّل: يطلق، ويراد به: المبنى، والمكان. وعلى هذا فنهو "المكان الّذي توضع فيه، وتصرف منه الأموال العامة للدولة" (¬1). وهذا كان في صدر الإسلام، كما سبق بيان ذلك (¬2). الإطلاق الآخر: يطلق ويراد به: الجهة. وعلى هذا يمكن تعريفه بأنّه: "هو الجهة الّتي تختص بكل ما يردّ إلى الدولة، أو يخرج منها ممّا يستحقه المسلمون من مال" (¬3). وبيت المال بهذا الإطلاق الأخير، يُعد شخصية اعتبارية، ويعامل معاملة الشخص الطبيعي، من خلال ممثليه، فله ذمة مالية، بحيث تثبت له الحقوق، وعليه، وترفع الدعوى منه، وعليه، وقد كان يمثله في السابق إمام المسلمين، أو من يعهد إليه بذلك، وحاليًا يشبه وزارة المالية، أو الخزانة، ويمثله وزير المالية، أو من يعهد إليه (¬4). المسألة الثّانيهَ: موارد بيت المال: موارد بيت المال كثيرة، أجملها الماوردي بقوله: "كلّ مال استحقه المسلمون، ولم يتعين مالكه منهم فهو من حقوق بيت المال" (¬5). وهذه الموارد على التفصيل هي: ¬

_ (¬1) الوظائف الاقتصادية للدولة في الإسلام د/ أحمد بن يوسف الدريويش: 1/ 336. (¬2) الخراج لأبي يوسف ص 144 - 145. الموسوعة الفقهية الكويتية 8/ 244. (¬3) الوظائف الاقتصادية د/ الدريويش: 1/ 336، الذِّمَّة والحق والالتزام د/ المكاشفي طه الكباشي: ص 39. مكتبة الحرمين بالرياض، ط/ 1، 1409 هـ، المدخل الفقهي للزرقاء: 3/ 258، والموسوعة الفقهية الكويتية: 8/ 242. (¬4) المدخل الفقهي للزرقاء: 3/ 258. (¬5) الأحكام السلطانية للماوردي: ص: 213.

أولا: الفيء

أوَّلًا: الفيء: وعرّفه العلماء بأنّه: "كلّ مال وصل من المشركين عفوًا من غير قتال، ولا بإيجاف خيل، ولا ركاب" (¬1). والفيء يشمل أنواعًا كثيرة من المال منها ما ذكره ابن قدامة بقوله: "الفيء هو ما أخذ من مال مشرك لم يوجف عليه بخيل، ولا ركاب، كالذي تركوه فزعًا من المسلمين وهربوا، والجزية، وعشر أموال أهل دار الحرب، إذا دخلوا إلينا تجارًا، ونصف عشر تجارات أهل الذِّمَّة، وخراج الأرضين، ومال من مات من المشركين، ولا وارث له" (¬2). ويلحق بالفيء كذلك: ما صولح عليه الحربيون من مالٍ يؤدونه إلى المسلمين، ومال المرتدّ إذا قتل أو مات، ومال الزنديق، إذا قتل أو مات، فلا يورث مالهما، بل هو فيء - وللأحناف في مال المرتد تفصيل -، ومال الذمي - إذا مات ولا وارث له -، وما فضل عن وارثه فهو فيء كذلك (¬3). ثانيًا: سهم الرسول - صلّى الله عليه وسلم - من الغنيمة: وذلك بعد وفاته - صلّى الله عليه وسلم -، وهو المذكور في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] (¬4). ¬

_ (¬1) الأم للشافعي: 4/ 154، الأحكام السلطانية للماوردي: ص 213، روضة الطالبين للنووي: 6/.354. المكتب الإسلامي. (¬2) المغني لابن قدامة: 9/ 281، حاشية ابن عابدين: 2/ 39 وما بعدها. (¬3) حاشية ابن عابدين: 3/ 300، جواهر الإكليل: 2/ 279، حاشية قليوبي: 3/ 191، شرح المحلي على المنهاج: 3/ 188، والمغني لابن قدامة: 9/ 159، 162 - 165. (¬4) انظر: الأحكام السلطانية للماوردي ص / 214.

ثالثًا: خمس الخارج من الأرض من المعادن من الذهب، والفضة، والحديد، وغيرها، وقيل مثلها المستخرج من البحر من لؤلؤ، وعنبر، وسواهما (¬1). رابعًا: الهبات، والتبرعات، والوصايا الّتي تقدّم لبيت المال للجهاد، أو لغيره من المصالح العامة (¬2). خامسًا: تركات المسلمين التي لا وارث لها، أو لها وارث لا يُردّ (¬3) عليه، وديات القتلى الذين لا أولياء لهم (¬4). سادسًا: الاموال الضائعة الّتي لم يُعرف أصحابها من لقطة، أو وديعة، أو رهن، وما يوجد مع اللصوص، ممّا لا طالب له، فكل ذلك يورد إلى بيت المال (¬5). قال القرافي (¬6): "الأموال المحرمة من الغصوب وغيرها، إذا علمت أربابها ردت ¬

_ (¬1) الخراج لأبي يوسف: ص 57، والمغني لابن قدامة: 4/ 244، حاشية ابن عابدين 2/ 43. (¬2) الموسوعة الفقهية الكويتية: 8/ 247. (¬3) الرَّدِّ لغة: الصّرف والرجع والإعادة والرفض: يقال: رده ردًا. ومردًا، ومردودًا بمعني: صرفه والارتداد: الرجوع: القاموس المحيط، مادة: ردد. شرعًا: (هو صرف الباقي عن الفروض على ذوي الفروض النسبية، بقدر فروضهم عند عدم عصبة): التحقيقات المرضية للشيخ الدكتور/ صالح الفوزان. (¬4) شرح فتح القدير: 5/ 277، حاشية ابن عابدين: 5/ 488، الشرح الصغير للدردير: 2/ 294 - 295، شرح المنهاج للمحلي: 3/ 136 - 137، الأحكام السلطانية لأبي يعلى: ص 215، العذب الفائض شرح عمدة الفارض للشيخ إبراهيم بن عبد الله الفرضي: 1/ 19. مطبعة الحلبي - مصر 1372 هـ / 1953 م. (¬5) بدائع الصنائع: 2/ 68، حاشية ابن عادين: 3/ 282، جواهر الإكليل: 2/ 59، روضة الطالبين: 5/ 279. (¬6) هو: أحمد بن إدريس بن عبد الرّحمن الصنهاجي شهاب الدِّين أبو العباس الشهير بالقرافي، أحد أئمة المالكية، برز في علوم شتى، وله مؤلفات كثيرة منها: الذّخيرة في فقه المالكية، والفروق ونفائس الأصول شرح المحصول، وشرح تنقيح الفصول وغيرها، توفي سنة 684هـ بالقاهرة: (الديباج المذهب لابن فرحون ص/62، شجرة النور الزكية لمخلوف ص/188، حسن المحاضرة للسيوطي: 1/ 316).

المسألة الثالثة: مصارف بيت المال

إليهم، والا فهي من أموال بيت المال تصرف في مصارفه ... " (¬1). سابعًا: زكاة الأموال الظاهرة: كالسوائم، والزروع، والثمار، من حقوق بيت المال- عند من يرى ذلك- (¬2). المسألة الثّالثة: مصارف بيت المال: ممّا سبق يتبين أن الأموال الّتي تأتي إلى بيت المال متنوعة المصادر، وهي كذلك متنوعة المصارف، فكثير منها لا يجوز صرفه في الوجوه الّتي تصرف فيها الأنواع الأخرى، ومن أجل ذلك احتاج العلماء إلى فصل أموال بيت المال بحسب مصارفها لأجل سهولة التصرف فيها. وقد وردت نصوص كثيرة عن العلماء في فصل بعض أموال بيت المال عن بعض. ومن ذلك: قال أبو يوسف (¬3): "لا ينبغي أن يُجمع مال الخراج إلى مال الصدقات، والعشور؛ لأنّ الخراج فيء لجميع المسلمين، والصدقات لمن سمى الله سبحانه وتعالي في كتابه" (¬4). ¬

_ (¬1) الذّخيرة للقرافي: 6/ 28 دار الغرب الإسلامي - بيروت. (¬2) بدائع الصنائع للكاساني: 2/ 69، تببين الحقائق للزيلعي: 3/ 283، البحر الرائق لابن نجيم: 5/ 128، الأحكام السلطانية للماوردي: ص 214، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 23 - 24. (¬3) هو: يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري، أبو يوسف، صاحب أبي حنيفة، الإمام المجتهد، قاضي القضاة، ولد سنة 113 هـ، وصحب أبا حنيفة 17 سنة، روى عن هشام بن عروة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعطاء بن السائب، وغيرهم، وعنه: يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وعلي بن الجعد، وغيرهم، توفي سنة 182 هـ: (سير أعلام النُّبَلاء للذهبي: 8/ 535، ميزان الاعتدال للذهبي: 4/ 447). (¬4) الخراج لأبي يوسف: ص 87.

البيت الأول: بيت الزكاة

وقال الزيلعي (¬1) من الحنفية: "وعلى الإمام أن يجعل لكل نوع بيتًا يخصه، وله أن يستقرض من أحدها ليصرفه للآخر ... " (¬2). وقد سلك الحنفية هذا المسلك، فقسموا موجودات بيت المال على أربعة بيوت، وهذالتقسيم، وإن لم نجده مصرحًا به في بقية المذاهب، إِلَّا أن قواعدهم لا تأباه، ويظهر ذلك من خلال كلامهم عن موارد بيت المال، ومصارفه (¬3). وسأذكر تقسيمات الحنفية لموجودات بيت المال ومصارفها بإيجاز على النحو الآتي: قسم الحنفية موجودات بيت المال إلى أربعة بيوت كالآتي: البيت الأوّل: بيت الزَّكاة (¬4): ونصيب هذا البيت من موارد بيت المال: زكاة السوائم، وعشور الأراضي الزكوية، والعشور الّتي تؤخذ من التجار المسلمين إذا مروا على العاشر، وزكاة الأموال الباطنة إن أخذها الإمام. ومصرف هذا البيت: المصادر الثمانية الّتي نصّ عليها القرآن الكريم في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ...} [التوبة: 60]. ¬

_ (¬1) هو: عثمان بن علي بن محجن بن يونس، فخر الدِّين أبو عمر الزيلعي، أحد علماء الحنفية، من مؤلفاته: تببين الحقائق شرح كنز الدقائق، وشرح على الجامع الكبير، وغيرهما، توفي بالقاهرة سنة: 743 هـ: (تاج التراجم لابن قطلوبغا: ص/ 144، الفوائد البهية، ص/115). (¬2) حاشية ابن عابدين: 3/ 282. (¬3) موسوعة الفقه الإسلامي/ الكويت: 8/ 248. (¬4) حاشية ابن عابدين: 2/ 57 - 58، الأحكام السلطانية للماوردي: ص 23، ولأبي يعلى: ص 24.

البيت الثاني: بيت الأخماس

البيت الثّاني: بيت الأخماس: وموارد هذا البيت: خمس الغنالْم المنقولة، وخمس ما يوجد من كنوز الجاهلية - عند من يرى أنّه ليس بزكاة -، وخمس أموال الفيء - عند من قال بتخميسه (¬1) - قال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ...} [الحشر: 7]. ومصرف هذا البيت: سهم لله ورسوله، وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل. وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ...} [الأنفال: 41] وكان السهم الأوّل منها لرسول الله - صلّى الله عليه وسلم - في حياته، ينفق منه على نفسه - صلّى الله عليه وسلم -، وعلى أزواجه، ويصرفه في مصالحه، ومصالح المسلمين، وبعد موته اختلف العلماء في هذا السهم لمن يكون، التصحيح من ذلك أنّه ينقل لبيت مال الفيء، ويصرف في مصالح المسلمين على رأي الإمام كأرزاق الجيش، وإعداد الكراع، والسلاح، وبناء الحصون، والقناطر، أرزاق القضاة، والأئمة، وما جرى هذا المجرى من وجوه المصالح (¬2). البيت الثّالث: بيت الضوائع: وموارد هذا البيت: هي الأموال الضائعة، ونحوها، من لقطة لا يُعرف صاحبها، أو مسروق لا يُعلم صاحبه، ونحوها، فتحفظ في هذا البيت محرزة لأصحابها، فإن حصل اليأس من معرفتهم صُرف في وجهه. ¬

_ (¬1) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 126 - 127، المغني لابن قدامة: 9/ 284. (¬2) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 127، ولأبي يعلى: ص 121، 235 - 236.

البيت الرابع: بيت الفيء

وذكر الزيلعي مصرف هذا البيت بقوله: "اللقيط الفقير، والفقراء الذين لا أولياء لهم، فيعطى منه نفقتهم، وأدويتهم، وكفنهم، وعقل جنايتهم" (¬1). وحاصل مصرف هذا البيت كما ذكر ابن عابدين: "أن مصرفه العاجزون والفقراء ... " (¬2). جاء في الموسوعة: "ولم نعثر لغير الحنفية على تخصيص هذا النوع من الأنواع بمصرف خاص، فالظاهر أنّها عندهم تصرف في المصالح العامة كالفيء، وهو ما صرح به الماوردي، وأبو يعلى (¬3)، في مال من مات بلا وارث؛ وبناء على ذلك تكون البيوت عندهم ثلاثة، لا أربعة" (¬4). البيت الرّابع: بيت الفيء: وموارد هذا البيت كثيرة جدًا، وهي تشمل كلّ أنواع الفيء المتقدم ذكرها بالإضافة إلى سهم رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - من الأخماس، والأراضي الّتي غنِمها المسلمون على القول بعدم قسمتها، وأنّها ليست من الوقف المصطلح عليه، وخراج الأرض الّتي غنمها المسلمون، وخمس الخارج من الأرض من معدن، أو نفط، ونحو ذلك، وخمس الكنوز الّتي لم يعلم صاحبها، وتطاول عليها الزمن، ومال من مات بلا وارث من المسلمين، ودينه كذلك، والضرائب الموظفة على الرعية لا لغرض معين ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين: 2/ 58. (¬2) حاشية ابن عابدين: 2/ 58. (¬3) هو: محمّد بن الحسين بن محمّد بن خلف، أبو يعلى الفراء الحنبلي القاضي، فقيه أصولي محدث مفسر، ولد ببغداد، وأصبح إمام الحنابلة في وقته، وبلغ رتبة الاجتهاد، له مؤلفات كثيرة منها: العدة في أصول الفقه، والأحكام السلطانية، وغيرهما كثير، توفي في بغداد سنة 458 هـ: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى: 1/ 244، المنهج الأحمد للعلّيمي: 2/ 354. (¬4) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 193، الأحكام السلطانية لأبي يعلى: ص 215، والموسوعة الفقهية/ الكويت: 8/ 250.

مصارف هذا البيت

بشروطها، وضوابطها الشرعية، والهدايا إلى القضاة، والعمال، والإمام (¬1). ويلحق بهذا البيت عند غير الحنفية: أموال بيت الضوائع السابق ذكرها. مصارف هذا البيت: مصارف هذا البيت هي المصالح العامة للمسلمين، فيكون تحت يد الإمام، يصرف منه بحسب نظره واجتهاده في المصلحة العامة، يدور معها حيث دارت. وهذا البيت هو المقصود عند الإطلاق؛ لأنّه المخصص للمصالح العامة، بخلاف غيره، فالحق فيه لجهات متعددة (¬2). ومن المصالح الّتي تصرف فيها أموال هذا البيت: 1 - العطاء: وهو نصيب كلّ مسلم من بيت المال، سواء كان من أهل القتال، أم لا، وهو أحد قولي الحنابلة، قدمه صاحب المغني، قال: "وظاهر كلام أحمد، والخرقي (¬3) أن سائر النَّاس لهم حق في الفيء، غنيهم، وفقيرهم، ذكر أحمد الفيء فقال: "فيه حق لكل المسلمين، وهو بين الغني والفقير" (¬4). وذهب بعض الحنابلة إلى أن أهل الفيء هم أهل الجهاد من المرابطين في الثغور، وجند المسلمين، ومن يقوم بمصالحهم (¬5). 2 - تكاليف الجهاد: وتشمل: الأسلحة، والمعدات، والتحصينات، وكافة ¬

_ (¬1) انظر: ص 70 من هذه الرسالة. (¬2) الموسوعة الفقهية/ الكويت: 8/ 251. (¬3) هو: عمر بن الحسين بن عبد الله، أبو القاسم الخرقي، البغدادي، أحد أئمة الحنابلة في بغداد، أخذ العلم عن أصحاب الإمام أحمد، احترقت كتبه، وبقي منها (المختصر) في الفقه، والمعروف بمختصر الخرقي، من أهم المتون في المذهب، قام بشرحه الإمام ابن قدامة في المغني، توفي سنة: 334 هـ ببغداد: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى: 2/ 75، المنهج الأحمد للعلّيمي: 2/ 266. (¬4) المغني لابن قدامة: 9/ 298. (¬5) المغني لابن قدامة: 9/ 298.

تكاليف الجهاد على اختلاف أنواعها (¬1). 3 - رواتب الموظفين: وهم الموظفون الذين يحتاج إليهم المسلمون، في أمورهم العامة من القضاة، والمحتسبين، ومن ينفذون الحدود، والمفتين، والأئمة، والمؤذنين، والمدرسين، ونحوهم، فكل من فرغ نفسه لعمل في مصلحة المسلمين، فيستحق الكفاية من بيت المال له، ولمن يعول. ويختلف ذلك باختلاف الأعصار والبلدان، ولاختلاف الأحوال والأسعار (¬2). 4 - القيام بشؤون فقراء المسلمين: ويشمل ذلك العجزة، واللقطاء، والمساجين، والفقراء الذين ليس لهم من ينفق عليهم، إلى غير ذلك من المصالح العامة للمسلمين (¬3). 5 - المصالح العامة لبلدان المسلمين: من إنشاء المساجد، والطرق، والجسور، والقناطر، والأنّهار، والمدارس، ونحو ذلك (¬4). وبالنظر فيما ذكره الحنفية من تقسيمات بيت المال إلى أربعة بيوت، أو ثلاثة بيوت على ما هو الممكن عند الجمهور، نجد أن حاصل ذلك كله يرجع إلى قسمين لا ثالث لهما: أوَّلًا: ما كان منصوصًا على مصارفه. ثانيًا: ما ليس منصوصًا على مصارفه. ¬

_ (¬1) الأحكام السلطانية للماوردي: 127، الأحكام السلطانية لأبي يعلى: ص 120 - 121، حاشية القليوبي على شرح المنهاج: 2/ 213، 3/ 189. (¬2) حاشية ابن عابدين: 3/ 280 - 281، بداية المجتهد لابن رشد: 1/ 402 - 403، طبعة الحلبي، المغني لابن قدامة: 9/ 298. (¬3) بدائع الصنائع: 2/ 69، تبيين الحقائق: 3/ 283، البحر الرائق: 5/ 128. (¬4) المغني لابن قدامة: 9/ 298، شرح المنهاج للمحلي: 3/ 95.

القسم الأول: المنصوص على مصارفه

القسم الأوَّل: المنصوص على مصارفه: هو القسم الّذي يشمل الزَّكاة الواجبة والصدقات المستحبة، وأربعة أخماس الفيء عند من قال بتخميسه، وأربعة أخماس خمس الغنيمة. ومصارف هذه الأموال محددة بنص القرآن؛ وذلك كما يلي: قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ...} [التوبة: 60]. فهذا مصرف الزَّكاة الواجبة. وأمّا أربعة أخماس الفيء فهي منصوص على مصارفها في قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ...} [الحشر: 7]. وأمّا أربعة أخماس خمس الغنيمة فمصرفه محدد بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ...} [الأنفال: 41] والقسم الأخر: ما ليس منصوصًا على مصارفه: وهذالقسم راجع إلى اجتهاد الإمام ونظره في المصلحة العامة، فتصرّفه فيها تصرف مصلحة يدور معها حيث دارت، وقد سبق الكلام على ذلك مفصلًا. وموارد هذ"لقسم كلّ أنواع المال الّتي تقدّم ذكرها عدا المنصوص على مصارفه منها، وهي المتقدمة في القسم الأوّل. المسألة الرّابعة: ضابط ما يؤخد من بيت المال: تقدّم فيما سبقه تعريف الرزق، والعطاء، والفرق بينهما، حيث تبين أن بعض العلماء حاول التفريق بينهما إِلَّا أن عرف الاستعمال عند الفقهاء لم يفرق بينهما فنراهم يستعلمون لفظ "الرزق" بمعنى العطاء، و "العطاء" بمعنى الرزق، والذي يهمنا

هنا أن الرزق مضبوط معروف عند العلماء، وبقي أن نعرف متى يكون المأخوذ من بيت المال رزقًا، ومتى يكون أجرة، أو نحوها؟ أمّا ما يخص الرزق من بيت المال فأمره واضح قد بينه العلماء، ومن ذلك ما سبق بيانه في تعريف الرزق، وأنّه ما يرتبه الإمام من بيت المال، لمن يقوم بمصالح المسلمين، ويلزم كي يكون رزقًا ما يأتي: 1 - أن يكون العامل مسلمًا. أي: من أهل القربة. 2 - أن يكون العمل ممّا يختص المسلم بفعله دون الكافر؛ كالأذان، والإمامة، ونحوهما. 3 - أن يكون هذا العمل في مصالح المسلمين. وهذا هو الّذي عناه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله: "أمّا ما يؤخذ من بيت المال فليس عوضًا، وأجرة، بل رزق، للإعانة على الطّاعة، فمن عمل منهم لله أثيب، وما يأخذه فهو رزق للمعونة على الطّاعة" (¬1). وعليه، فإذا اختلت الشروط السابقة بقي العمل مستحقًا بالأجرة. فإنّه بالشرط الأوّل يخرج العامل غير المسلم. وبالثّاني ما لا يختص المسلم بفعله؛ كبناء الجسور، والقناطر، والمساجد، ونحوها، فإن هذه الأعمال يعملها المسلم والكافر. الثّالث ما لا يكون في مصالح المسلمين؛ فلا يؤخذ عليه الرزق من بيت المال. ولهذا جاز للإمام الاستئجار على النفع الّذي لا يختص المسلم بفعله دون الكافر. قال شيخ الإسلام: "ومأخذ العلماء في عدم جواز الاستئجار على هذا النفع: أن هذه الأعمال يختص أن يكون فاعلها من أهل القرب بتعليم القرآن، والحديث، ¬

_ (¬1) الاختيارات الفقهية لابن تيمية للبعلي: ص 153 تحقيق/ محمّد حامد الفقي/ مكتبة السُّنَّة المحمدية بمصر. وانظر: الخراج لأبي يوسف، ص/ 202 وما بعدها، الفروق للقرافي: 3/ 5، المغني لابن قدامة: 6/ 142.

والفقه، والإمامة، والأذان، لا يجوز أن يفعله كافر، ولا يفعله إِلَّا مسلم، بخلاف النفع الّذي يفعله المسلم والكافر كالبناء، والخياط، والنسج، ونحو ذلك، وإذا فعل العمل بالأجرة لم يبق عبادة لله، فإنّه يبقى مستحقًا بالعوض معمولًا لأجله، والعمل إذا عمل للعوض، لم يبق عبادة كالصناعات الّتي تعمل بالأجرة" (¬1). وهذا ما صرح به ابن قدامة حيث قال: "وما لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة كتعليم الخط، والحساب، والشعر المباح، وأشباهه، وبناء المساجد، والقناطر جاز أخذ الأجر عليه؛ لأنّه يقع تارة قربة، وتارة غير قربة، فلم يمنع من الاستئجار لفعله؛ كغرس الأشجار، وبناء البيوت" (¬2). وحينئذ يجوز للإمام الاستئجار على هذه الأعمال، ويكون ما يأخذه العامل أجرة لا رزقًا. قال شمس الدِّين الرملي: "يكفي الإمام لا غيره إنَّ استأجر من بيت المال أن يقول: استأجرتك كلّ شهر بكذا ... " (¬3). ومما سبق يتضح أن ما يؤخذ من بيت المال تارة يكون رزقًا، وتارة يكون أجرة (¬4)؛ وذلك على حسب ما ذكر من ضوابط، وعلى ضوء ما نقل عن أهل العلم في ذلك. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: 30/ 206 - 207. (¬2) المغني لابن قدامة: 8/ 141. (¬3) نهاية المحتاج للرملي: 1/ 418، وانظر: روضة الطالبين: 1/ 206. (¬4) المحلى لابن حزم: 8/ 196، قال ابن حزم: "وإجارة الأمير من يقضي بين النَّاس مشاهرة جائزة". فهذا يدلُّ على أن ما يخرج من بيت المال قد يكون أجرة، كما قد يكون رزقًا.

الفرع الثاني ما يؤخذ من غير بيت المال

الفرع الثّاني ما يؤخذ من غير بيت المال من مصادر المال المأخوذ على القرب - عدا بيت المال - ما يكون من الأفراد، أو الهيئات، أو جهات البرّ المختلفة. ومن المعلوم أنّه قد وجدت في هذا العصر جهات بر متعددة تقوم بجمع المال من أهل الخير على اختلاف أنواعه، ثمّ القيام بصرفه في مصارفه الشرعية المختلفة. وهذه الجهات تتمثل في: الجمعيات الخيرية المتنوعة الّتي تعتني بمصالح المسلمين، وقضاء حوائجهم، سواء في داخل البلاد، أو خارجها، ومن هذه المؤسسات: 1 - جمعية البرّ السعودية. 2 - رابطة العالم الإسلامي. 3 - هيئة الإغاثة العالمية. 4 - الندوة العالمية للشباب الإسلامى. 5 - مؤسسة الحرمين الخيرية. 6 - الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم. وهناك غيرها الكثير، سواء أكانت هذه المؤسسات دائمة أم مؤقتة بحسب النوازل، والكوارث الّتي تحل بالمسلمين، ومثال ذلك: * الهيئة العلّيا لجمع التبرعات لمسلمي البوسنة والهرسك. وغيرها من مؤسسات الخير (¬1). ¬

_ (¬1) وقد ضربت المملكة العربيّة السعودية أروع المثل في ذلك؛ حيث قامت على إنشاء هذه المؤسسات، ورعايتها، والعناية بها، ومدّ يد العون والمساعدة، وقضاء حوائج المسلمين ومصالحهم في كافة أرجاء المعمورة، والعناية بكتاب الله العظيم حفظًا وتدريسًا وتطبيقًا وطباعة، ممّا كان له الأثر في العالم الإسلامي كله، بل وفي العالم أجمع.

أولا: تكييف عمل هذه المؤسسات من حيث كونها مصدرا للمال

وبما أن هذه المؤسسات تعدّ مصدرًا مهمًا من مصادر المال المأخوذ على أعمال القرب فكان لابد من تكييف عملها شرعًا، من حيث كونها مصدرًا، ومصرفًا للمال المأخوذ على أعمال القرب. وسيكون التكييف الشرعي لعمل هذه المؤسسات من ناحيتين: الناحية الأولى: من حيث كونها مصدرًا للمال المأخوذ على القرب. الناحية الثّانية: من حيث كونها مصرفًا للمال المأخوذ على القرب. وبيان ذلك تفصيلًا كالآتي: - أولًا: تكييف عمل هذه المؤسسات من حيث كونها مصدرًا للمال: تكييف عمل هذه المؤسسات مبني أساسًا على أنواع المال الوارد إليها، ولهذا كان من الضروري معرفة أنواع المال، وتكييف كلّ نوع على حدة. والمال الوارد إلى هذه المؤسسات لا يخلو: 1 - أن يكون زكاة واجبة: وهذه الزَّكاة، سواء أكانت زكاة أموال نقدية، أم عروض تجارة، أو نحوهما، منصوص على مصارفها من الشارع، فلا يجوز صرفها إِلَّا فيما نصّ عليه الشارع، وهم الأصناف الثمانية المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60]. وبناء على هذا، فإن عمل هذه المؤسسات في هذه الحالة هو القيام بتوزيع هذه الأموال في مصارفها نيابة عن أصحابها، فهم وكلاء عن أصحاب الأموال، ووجه تخريج ذلك على الوكالة ظاهر، فإن الوكالة هي استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النِّيابة، سواء أكان ذلك من حقوق الله، أم حقوق الآدميين (¬1)، وتنعقد ¬

_ (¬1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم: 5/ 203.

ثانيا: أن يكون هذا المال وقفا

الوكالة بكل قول، أو فعل دال عليها من حيث الإيجاب أو القبول، وسواء أكان القبول على الفور أم على التراخي، كما هو مقرر في باب الوكالة (¬1). قال ابن قدامة: "وأمّا العبادات، فما كان منها له تعلّق بالمال، كالزكاة، والصدقات، والمنذورات، والكفارات، جاز التوكيل في قبضها، وتفريقها، ويجوز للمخرِج التوكيل في إخراجها، ودفعها إلى مستحقِّها" (¬2). وبالجملة فقد اتفق الفقهاء على أنّه يجوز التوكيل في أداء الزَّكاة إلى أصحابها، على تفاوت بينهم في بعض الشروط والضوابط (¬3). ثانيًا: أن يكون هذا المال وقفًا: كأن يوقف بعض المحسنين عقارًا، أو نحوه على المؤسسة الخيرية المعينة، كجماعة تحفيظ القرآن الكريم، ونحوها، ينفق من غلة هذا الوقف على هذه الجهة المعينة. فالإنفاق في هذه الحالة إنّما يكون على شرط الواقف، ما لم يخالف كتابًا ولا سنة، بلا خلاف، ونص الواقف كنص الشارع في الفهم والدلالة، لا في وجوب العمل (¬4). والواقف في هذه الحالة، إمّا أن يكون قد جعل نظارة الوقف إلى هذه المؤسسة المعينة، أو عين للوقف ناظرًا، ففي الحالة الأولى يكون عمل الجماعة هو عمل ناظر الوقف في القيام بشؤونه، وصرف غلته فيما عينه الواقف، وفي الحالة الثّانية يكون ¬

_ (¬1) المرجع السابق، وانظر: بدائع الصنائع: 6/ 19، حاشية ابن عابدين: 4/ 417، الشرح الصغير للدردير: 3/ 505 - 506، مغني المحتاج: 2/ 217، 222، المغني لابن قدامة: 7/ 203 - 204. (¬2) المغني لابن قدامة: 7/ 202. (¬3) بدائع الصنائع: 2/ 40 وما بعدها، الدر المختار: 2/ 14 (بهامش رد المحتار)، والشرح الصغير للدردير: 1/ 666، المهذب للشيرازي: 1/ 168، والمغني لابن قدامة: 7/ 202. (¬4) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: 31/ 47 - 48.

ثالثا: أن يكون وصية

عملها هو عمل الوكيل في تسلُّم غلة الوقف من الناظر، والقيام بصرفها إلى أربابها نيابة عنه (¬1). ثالثًا: أن يكون وصية: إذا أوصى بشيء من ماله الثلث فما دونه لجهة بر معينة مؤسسة خيرية، أو جماعة خيرية لتحفيظ القرآن مثلًا نفذت الوصيَّة بشروطها المعروفة عند الفقهاء، وتكون هذه الجهة بمنزلة الموصى إليه في تنفيذ هذه الوصيَّة، وصرفها إلى مستحقيها، وإذا عين الموصي وصيًا في حياته في تنفيذ وصيته بعد موته، وكانت الوصيَّة إلى جهة بر معينة - كما سبق -، فإنّه يجوز للموصى إليه حينئذ أن يوصي إلى آخر، أو إلى الجهة الّتي عينها الموصي، سواء أذن له الموصي في حياته، أم لا، فإن له أن يوكل غيره، أو يوصي إلى غيره فيما لا يباشره مثله، أو يعجز عنه، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد، وعليه أكثر أهل العلم (¬2). وفي هذه الحالة فالجهة الموصى إليها تكون في حكم الموصى إليه، أو الوكيل في التصرف. رابعًا: أن يكون هبة، أو غيرها من التبرعات: الهِبَة - كما هو معلوم - تمليك بلا عوض، فتدخل في ملك الموهوب له، إمّا بالقبض، وإما بالعقد على خلاف، فإذا دخلت في ملك الموهوب له جاز له التصرف فيها بشتى أنواع التصرفات الشرعية، كما يتصرف في ملكه تمامًا. وعليه، فجهات البرّ المختلفة تتصرف فيما يوهب لها، في مصالحها المختلفة ¬

_ (¬1) الشرح الكبير حاشية الدسوقي: 4/ 89، مغني المحتاج: 2/ 393، كشاف القناع: 4/ 293، 297، 298، 301. (¬2) المغني لابن قدامة: 8/ 558، الروض المربع مع حاشية ابن قاسم: 6/ 79، حاشية ابن عابدين: 5/ 451 - 452، والشرح الصغير للدردير: 4/ 608.

ثانيا: تكييف عمل هذه المؤسسات من حيث كونها مصرفا للمال المأخوذ على القرب

والتي قامت من أجلها هذه الجهة (¬1). ثانيًا: تكييف عمل هذه المؤسسات من حيث كونها مصرفًا للمال المأخوذ على القرب: من المعلوم أن عمل هذه المؤسسات إنّما هو في مصالح المسلمين، وهي جهة قربة، فلا يخلو ما يُعطى منها من أن يكون رزقًا، أو أجرة، أو جعلًا، أو نحو ذلك، فما يختص فاعله أن يكون مسلمًا، ويتعدى نفعه إلى المسلمين، فيكون ما يأخذ رزقًا للإعانة على الطّاعة، وما لا يختص فاعله أن يكون مسلمًا كان ما يأخذه أجرة، وتجرى عليه أحكام الإجارات، إذا فعله غير المسلم، وإذا فعله المسلم على نيّة القربة كان حكمه حكم الّذي قبله. وأمّا الجعل فجائز أن تجعل مثلًا جماعة التحفيظ جعلًا لمن يحفظ القرآن، أو جزءًا منه، ويمكن القول إنَّ عمل هذه الهيئات كعمل بيت المال في الجملة، فيجرى عليها ما يجرى عليه من أحكام سواء بسواء فيما نحن بصدده. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع: 6/ 127، تنائج الأفكار لقاضي زاده: 7/ 129، حاشية الدسوقي: 4/ 110، المنتقى على الموطَّأ: 6/ 113 - 116، المغني لابن قدامة: 8/ 239 وما بعدها.

المبحث الثاني حقيقة القرب وما يتعلق بها

المبحث الثّاني حقيقة القُرَب وما يتعلّق بها المطلب الأوَّل تعريف القربة وفيه فرعان: الفرع الأوَّل تعريف القربة في اللُّغة قال ابن فارس: "القاف، والراء، والباء: أصل صحيح يدلُّ على خلاف البعد. يقال: "قَرُبَ يقرُبُ قرْبًا، والقربان: ما قرِّب إلى الله تعالى من نسيكة وغيرها" (¬1). قلت: اتفقت كلمة علماء اللُّغة على أن القُرْبة مأخوذة من (قَرُبَ) - بالضم -، بمعنى: دنا. يقال: قَرُبَ الشيء: يقْرُبُ قُرْبًا وقرْبةً: إذا دنا. ويقال: القُرْب في المكان، والقُرْبة في المنزلة، والمكانة. وقيل لما يُتقرَّب به إلى الله تعالى: قُرْبةٌ، والجمع: قُرَبٌ، وقُرُباتٌ. وتقرّب إلى الله بشيء: طلب به القربة عنده. والقُرْبان: ما يتقرب به إلى الله تعالى (¬2). ¬

_ (¬1) معجم مقاييس اللُّغة: 5/ 80 - 81. (¬2) المفردات للراغب: ص 664، مختار الصحاح: ص 527، لسان العرب: 1/ 662 وما بعدها، والمصباح المنير: ص 495، والقاموس المحيط: ص 157.

الفرع الثاني تعريف القربة في الاصطلاح الشرعي

الفرع الثّاني تعريف القربة في الاصطلاح الشرعي بالنظر في تعريفات للقربة العلماء تبين أن لهم في ذلك اتجاهين: الاتجاه الأوّل: هو اتجاه من نظر إلى القربة على أنّها الشيءُ المتقرَّبُ به إلى الله تعالى، ولذا جاءت تعريفاتهم منصبة على ذات القربة؛ إمّا بذكر جنسها الشامل لكل أنواعها، وإما بتعداد بعض القرب. وإلى هذا الاتجاه ذهب بعض الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشّافعيّة (¬3)، والحنابلة (¬4). واختار هذا الاتجاه جمع من أهل العلم (¬5). الاتجاه الآخر: هو اتجاه من نظر إلى القربة على أنّها فعل التقرب نفسه، دون النظر إلى ذات القربة من حيث جنسها. وإلى هذا الاتجاه ذهب بعض الحنفية (¬6)، والمالكية (¬7)، والشّافعيّة (¬8). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين: 2/ 237. (¬2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 4/ 296. (¬3) المصباح المنير للفيومي: ص 495، المنثور في القواعد للزركشي: 3/ 61، البحر المحيط للزركشي: 1/ 294. (¬4) المطلع على أبواب المقنع: ص 266. (¬5) فتح القدير للشوكاني: 2/ 396، جامع البيان للطبري: 3/ 197، التفسير الكبير للرازي: 10/ 126، الكليات لأبي البقاء الكفوي: 4/ 41. (¬6) حاشية ابن عابدين: 1/ 72. (¬7) شرح حدود ابن عرفة: 1/ 109. (¬8) المنثور في القواعد للزركشي: 3/ 61 - 62.

أولا: القربة عند أصحاب الاتجاه الأول

وسوف أذكر تعريفات القربة عند أصحاب الاتجاهين، ثمّ أبين الراجح والمختار من هذه التعريفات - إن شاء الله تعالى-. أوَّلًا: القربة عند أصحاب الاتجاه الأوّل: جاءت تعريفات أصحاب هذا الاتجاه متقاربة في معناها، وإن اختلفت في ألفاظها، ولذا سوف أذكر ما اتفقوا عليه من القيود، ثمّ أذكر القيود الّتي زادها بعضهم على ما اتفقوا عليه: أمّا التعريف الّذي اتفقوا على قيوده فهو أن القربة هي: "ما يتقرب به إلى الله تعالى" (¬1). وسوف أبين مفردات هذا التعريف، ثمّ أذكر القيود الّتي زادها بعضهم عليه. مفردات التعريف: ما: جنس يشمل كلّ ما يتقرب به؛ سواء أكان من العبادات، أم من غيرها كالتبرعات، ونحوها، ويشمل كذلك ما لايتقرب به من الأعمال؛ كالبناء، والخياط، ونحو ذلك، ممّا يفعل لأجل المال، وكذلك الأعمال الّتي يستوي في فعلها المسلم والكافر. يتقرب به: قيد لإخراج ما لايتقرب به من الأعمال الّتي لايختص فاعلها أن يكون من أهل القربة. إلى الله تعالى: قيد لإخراج التقرب إلى المخلوقين لحاجة، أو منفعة دنيوية، فهذا قيد جيء به لبيان أن التقرب المراد هو التقرب إلى الله تعالى، لا إلى غيره من المخلوقين. * أمّا القيود الّتي زادها بعض الفقهاء فهي على النحو التالي: ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين: 1/ 272، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 4/ 296، معالم التنزيل للبغوي: 2/ 144، المطلع على أبواب المقنع: ص 266.

ثانيا: القربة عند أصحاب الاتجاه الآخر

زاد بعض الحنفية على التعريف المتقدم قيدًا، وهو: " ... فقط، أو مع الإحسان إلى النَّاس كبناء الرِّباط والمسجد" (¬1). وذلك ليشمل نوعي القربة من حيث التعدي، وعدمه، فيشمل القرب غير المتعدية، وهي القرب المتعينة من صلاة، ونحوها، والقرب المتعدية كالأذان، والإمامة، والقضاء، والإفتاء، والتعليم. والذي أراه: أن هذا القيد لا حاجة إليه في التعريف؛ لأنّ كلمة (ما) تشمل كلّ أنواع القرب المتعدية الّتي فيها إحسان للناس، وغير المتعدية كما مثلنا من قبل. وزاد بعض المالكية (¬2)، والشّافعيّة (¬3) على التعريف المتقدم ما يأتي: " ... من نسيكة، وصدقة، وعمل صالح". وهذا بيان منهم لما يتقرب به إلى الله تعالى، وأرى كذلك أنّه لا حاجة إليه في التعريف؛ لأنّ كلمة (ما) تفيد العموم، والشمول؛ فتشمل ما ذكروه، وغيره ممّا يتقرب به إلى الله تعالى من الأعمال، سواء أكانت من العبادات، أو غيرها من الأعمال الصالحة. وعليه، فلا حاجة لتقييد القربة بما ذكروه، ثمّ إنَّ قولهم: "وعمل صالح"، يشمل جميع القرب. وبناء على ذلك فإن هذه الزيادة تكرار في التعريف، وزيادة لا داعي لها. وبالتالي يسلم التعريف الّذي اتفقوا على قيوده، ويعتبر حدًا لمفهوم القربة عند أصحاب هذا الاتجاه. ثانيًا: القربة عند أصحاب الاتجاه الآخر: وقد عرّف هؤلاء القربة بعدة تعريفات: ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين: 2/ 237. (¬2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 4/ 296. (¬3) معالم التنزيل للبغوي: 2/ 144.

التعريف الأوّل: أن القربة "هي فعل ما يثاب عليه، بعد معرفة من يتقرب إليه به، وإنَّ لم يتوقف على نيّة" (¬1). وهذا التعريف جارٍ على مذهب المتكلمين؛ وبيان ذلك: أن قوله: "بعد معرفة من يتقرب إليه به"، يدلُّ على أن من شرط القربة العلم بالمتقرَّب إليه، وأنّه لا يمكن أن توجد قربة إِلَّا بعد العلم بالمعبود سبحانه وتعالى، والعلّم بالله تعالى لا يكون إِلَّا بعد النظر، والاستدلال، أو القصد إلى النظر، كما يزعم أرباب الكلام، فإنهم يقولون: إنَّ أول واجب على المكلَّف هو النظر، أو القصد إلى النظر ... ولكن أهل السُّنَّة، وأئمة السلف متفقون على أن أول واجب على المكلَّف هو الشهادتان، والتوحيد أول ما يُدخَلُ به في الإسلام، وآخر ما يخرج به في الدنيا (¬2). والدّليل على ذلك هو قول النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: (أمرت أن أقاتل النَّاس حتّى يشهدوا أن لا إله إِلَّا لله، وأن محمدًا رسول الله ...). وفي رواية: (حتّى يقولوا لا إله إلا الله ...) (¬3). وهذا القيد ذكروه في التعريف؛ ليبينوا أن هناك من الأفعال ما يكون طاعة، ولكن لا يكون قربة، مثل قضية النظر المؤدي إلى معرفة الله الّتي ذكروها، فإنها عندهم طاعة، وليست بقربة؛ لعدم تحقق شرط القربة، وهو العلم بالمتقرب إليه. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين: 1/ 132، 2/ 72. (¬2) انظر: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز: 1/ 23: تحقيق د/ التركي، وانظر: المنثور في القواعد للزركشي: 3/ 61 - 62، حاشية ابن عابدين: 1/ 72. وانظر: درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية: 7/ 405، 464، 9/ 3 - 66. والفصل في الملل والنحل لابن حزم: 4/ 35 - 44. ففي هذين الكتابين ردّ وافر على أرباب هذه المقولة. (¬3) أخرجه البخاريّ في كتاب الإيمان، باب "فإن تابوا وأقاموا الصّلاة ... " 1/ 94 (25). ومسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال النَّاس حتّى يقولوا لا إله إِلَّا الله: 1/ 51 - 53 (32 - 36) من حديث أبي هريرة.

الأول: تمييز العبادات عن العادات.

وقوله: وإنَّ لم يتوقف على نيّة: قيد ذكِرَ لبيان أن من القرب ما لا يشترط فيه النية، ومنها ما يشترط فيه ذلك، فأمّا ما لا يشترط فيه النية فنحو: القرب الّتي لا لبس فيها كالإيمان بالله تعالى، وتعظيمه، وإجلاله، والخوف، والرجاء، والتوكل، والتسبيح، وقراءة القرآن، ونحو ذلك: قال القرافي: "القربات الّتي لا لبس فيها لا تحتاج إلى نيّة؛ كالإيمان بالله تعالى، وتعظيمه، وإجلاله، والخوف من نقمه، والرجاء لنعمه، والتوكل على كرمه، والحياء من جلاله، والمحبة لجماله، والمهابة من سلطانه. وكذلك التسبيح، والتهليل، وقراءة القرآن، وسائر الأذكار، فإنها متميزة لجنابه سبحانه وتعالى ... " (¬1). وأمّا القربات الّتي تحتاج إلى نيّة، وهي العبادات من صلاة، وصيام، وحج، وغيرها، سواء أكانت واجبة، أم مندوبة، فلابد فيها من نيّة؛ لأنّ سورة فعلها ليست كافية في تحصيل المصلحة المقصودة منها، وهي تعظيم الرب سبحانه وتعالى، والخضوع له، وإنّما يحصل ذلك إذا قصدت من أجله؛ لأنّ التعظيم بالفعل دون قصد المعظم محال، ولذلك اشترطت في هذه العبادات النية، وهي إخلاص العمل لله سبحانه وتعالى (¬2). وقد شرعت النية في هذا القسم لأمرين: الأوّل: تمييز العبادات عن العادات. فمثلًا: الغُسْل قد يكون تبردًا، وقد يكون عبادة شرعية، ولا يميز بينهما إِلَّا النية، وكذلك الذَّبح، قد يكون لمجرد الأكل، وقد يكون للتقرب إلى الله تعالى بإراقة ¬

_ (¬1) الذّخيرة للقرافي: 1/ 243، دار الغرب الإسلامي. وانظر: الأمنية في إدراك النية للمؤلف نفسه: ص 21. (¬2) الذّخيرة للقرافي: 1/ 245، المنثور في القواعد للزركشي: 3/ 285.

الآخر: تمييز مراتب العبادات

الدِّم، ولا يميز لنا ذلك إِلَّا النية (¬1). الآخر: تمييز مراتب العبادات: فالصلاة منها ما يكون فرضًا، ومنها ما يكون مندوبًا، والنية هنا لتمييز ما هو فرض ممّا هو غير ذلك. وكذلك الصَّدقة منها ما هو واجب، ومنها ما هو تطوع، ولايفرق بينهما إِلَّا النية، وكذلك الصوم، وغيره من العبادات (¬2). التعريف الثّاني: منهم من عرّفها بأنّها: "طلب القرب إلى الله تعالى، بما أمر به، وتجنب ما نهى عنه" (¬3). وهذا التعريف لا يختلف في مقصوده عن التعريف السابق؛ لأنّ قوله: طلب القرب إلى الله تعالى، يفيد أمرين: الأوّل: طلب القرب؛ وقد بينه بقوله: بما أمر به - أي: بفعل الأوامر، وتجنب ما نهى عنه. وهذا بعينه معنى قوله في التعريف السابق: "فعل ما يثاب عليه"، فإن اللإنسان يثاب على فعل ما أمره الله به، وترك ما نهاه عنه. الآخر: أن التقرب إلى الله تعالى لا يكون إِلَّا بعد معرفته سبحانه وتعالى؛ لأنّه هو المقصود بالقربة. التعريف الثّالث: ومنهم من عرّفها بأنّها: "ما كان معظم المقصود منه رجاء الثّواب من الله تعالى" (¬4). التعريف الرّابع: ومنهم من عرَّفها بأنّها: "ما يصير المتقرب به متقربًا" (¬5). ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 13، دار الفكر. الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 29، دار الكتب العلمية. المنثور في القواعد: 3/ 285. الذّخيرة للقرافي: 1/ 245. (¬2) المراجع السابقة، وانظر: قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 1/ 176 - 177. دار الكتب العلمية. (¬3) شرح حدود ابن عرفة: 1/ 109. (¬4) المنثور في القواعد للزركشي: 3/ 61، والبحر المحيط له: 1/ 294. (¬5) المنثور في القواعد: 3/ 61.

التعريف المختار

التعريف الخامس: ومنهم من عرّفها بأنّها: "الطّاعة" (¬1). وليس بصحيح؛ للفرق بين القربة والطاعة - وسيأتي -. التعريف المختار: والذي أراه راجحًا من تعريفات القربة هو: ما ذهب إليه أصحاب الاتجاه الأوّل، وهو أن القربة هي: "ما يتقرب به إلى الله تعالى". وذلك لما يأتي: أوَّلًا: أنّهم نظروا إلى حقيقة القربة في نفسها، وهو المطلوب في التعريف. ثانيًا: أنّه بالنظر إلى النصوص الواردة في الكتاب والسُّنَّة المتعلّقة - بالقربة نجد أن مفهوم القربة فيها دائر على الأعمال نفسها، ومن ذلك قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ} [التوبة: 99]. وقوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ ..} [المائدة: 27]. ومن السُّنَّة قول النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: (عليكم بقيام اللّيل، فإنّه دَأْبُ الصالحين قبلكم، وهو قربة إلى ربكم، ومكْفَرَةٌ للسيئات، ومنهاة للإثم) (¬2). وقوله - صلّى الله عليه وسلم -: (اللَّهُمَّ فأيَّما مؤمن سببته، فاجعل ذلك له قربة إليك يوم القيامة) (¬3). فهذه النصوص تدل على أن القربة تطلق في الغالب، ويراد بها أعمالها. ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه. (¬2) أخرجه التّرمذيّ من حديث بلال وأبي أمامة رضي الله عنهما: كتاب الدعوات: باب في دعاء النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - (3549)، 5/ 516 - 517. (¬3) أخرجه البخاريّ من حديث أبي هريرة في الدعوات: باب قوله - صلّى الله عليه وسلم -: من آذيته ... (6361) 11/ 175 (فتح). ومسلم في البرّ والصلة: باب من لعنه النَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - أو سبه ... (2601) 4/ 2009 (طبعة محمّد فؤاد عبد الباقي).

ثالثًا: أن هذا الاصطلاح هو ما عليه أكثر أهل العلم، واختاره كثير من المحققين، كما سبق أن ذكرنا، والله تعالى أعلم (¬1). ¬

_ (¬1) هناك من العلماء من فسر القربة من حيث النظر إلى الفاعل فبين أنّها: "ما يختص المسلم بفعله دون الكافر"، وهذا الّذي ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية قال: " ... ومآخذ العلماء في عدم جواز الاستئجار على هذا النفع: أن هذه الأعمال يختص أن يكون فاعلها من أهل القرب بتعليم القرآن، والحديث، والفقه، والإمامة، والأذان، لا يجوز أن يفعله كافر، ولا يفعله إِلَّا مسلم". قلت: وهذا لا يُعد تعريفًا بالمعنى الاصطلاحي، وإنّما هو تفسير للقرب المتمحضة الّتي لا يجوز إيقاعها على غير وجه العبادة، وأمّا الأعمال الّتي تقع تارة قربة، وتارة غير قربة، كبناء المساجد، والقناطر، فلا يشملها هذا المفهوم للقربة إذا فعلها المسلم على وجه العبادة. انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: 30/ 206 - 207.

المطلب الثاني الألفاظ ذات الصلة بالقربة

المطلب الثّاني الألفاظ ذات الصلة بالقربة الفرع الأوّل العبادة المسألة الأولى: العبادة في اللُّغة العبادة في اللُّغة هي: الطّاعة مع الخُضُوع، ومنه طريق مُعَبَّد، إذا كان مذللًا بكثرة الوطء، وقال ابن الأنباري (¬1): فلان عابد: وهو الخاضع لربه المستسلم لقضائه، المنقاد لأمره. وقوله تعالى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] أي: أطيعوا ربكم، وقيل في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5]: إياك نوحد، والعابد: الموحِّد (¬2). المسألة الثّانية: العبادة في الاصطلاح الشرعي عرّف العلماء العبادة بتعريفات كثيرة، إِلَّا أنّه يُلْحظ أنّهم انقسموا في تعريفها إلى فريقين: الفريق الأوّل: من اشترط في العبادة النية: وهم الحنفية. ومن تعريفات هؤلاء: ¬

_ (¬1) هو: محمّد بن القاسم بن بشار أبوبكر ابن الأنباري المُقرئ النحوي، ولد سنة 272 هـ، كان من أعلم النَّاس بنحو الكوفبين، وأكثرهم حفظًا للغة، وكان خيرًا من أهل السُّنَّة، له مؤلفات كثيرة منها: غريب الحديث، وكتاب الهاءات، وشرح الكافي، وكتاب المذكر والمؤنث، وغيرها، توفي سنة 327 هـ: (سير أعلام النُّبَلاء: 15/ 274، معجم الأدباء لياقوت: 18/ 312). (¬2) تهذيب اللُّغة للأزهري: 2/ 234، 236، ولسان العرب: 3/ 270 وما بعدها.

التعريف الأوّل: "هي ما يثاب على فعله، ويتوقف على نيّة" (¬1). التعريف الثّاني: "هي ما كان طاعة لله منويًا به، سواء كان فعلًا كالصلاة، أو تركًا كالزنا" (¬2). التعريف الثّالث: "هي ما افتقر من الطاعات إلى النية" (¬3). وبناء على هذه التعاريف قالوا: إنَّ الوضوء ليس بعبادة؛ لعدم افتقاره إلى النية. ومعني ذلك أن الوضوء يكون صحيحًا، وتصح به الصّلاة، لكنه لايسمى عبادة إِلَّا إذا نواه العبد. قال ابن عابدين: "وإنّما تسن النية في الوضوء، ليكون عبادة، فإنّه بدونها لا يسمى عبادة ... وإنَّ صحت به الصّلاة" (¬4). وردّ ذلك العلماء: بأن العبادة مشتقة من التعبد، وعدم النية لا يمنع كونه عبادة (¬5). الفريق الآخر: وهم الذين لم يشترطوا النية في العبادة، وقد عرفوها بتعريفات منها: التعريف الأوّل: "طاعة العبد لربه" (¬6). التعريف الثّاني: "هي موافقة الأمر" (¬7). التعريف الثّالث: "هي فعل المكلَّف على خلاف هوى نفسه تعظيمًا لربه" (¬8). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين: 1/ 72. (¬2) البحر المحيط للزركشي: 1/ 293. (¬3) المرجع السابق نفسه. (¬4) حاشية ابن عابدين: 1/ 72. (¬5) البحر المحيط للزركشي: 1/ 294. (¬6) شرح حدود ابن عرفة: 1/ 109. (¬7) البحر المحيط للزركشي: 1/ 293. (¬8) التعريفات للجرجاني ص/ 160.

التعريف المختار

التعريف الرّابع: "فعل لا يراد به إِلَّا تعظيم الله تعالى بأمره" (¬1). التعريف الخامس: "ما لا يجوز لغير الله تبارك وتعالى" (¬2). وهذه التعريفات وإنَّ اختلفت في العبارات إِلَّا أن مضمونها واحد، فإن طاعة العبد لربه لا تكون إِلَّا بموافقة أمره، ولايكون ذلك إِلَّا تعظيمًا لله تعالى، وتقديم طاعته على هوى النفس. وُيلحظ هنا: أن هذه التعريفات لم تتعرض للنية، ولم تجعلها شرطًا في العبادة. التعريف المختار: ما ذهب إليه أصحاب الفريق الثّاني هو الراجح والصّحيح، وهو الّذي عليه جمهور العلماء، فإن النية - كما تقدّم - شرعت؛ لتمييز العبادة عن العادة، وللتمييز بين مراتب العبادات، وأمّا العبادات الّتي لا تلتبس بعادة، فلا تجب فيها النية لتميزها بصورتها (¬3). ¬

_ (¬1) منحة الخالق على البحر الرائق لابن عابدين: 3/ 64. (¬2) المرجع السابق نفسه. (¬3) مغني المحتاج: 1/ 47، نهاية المحتاج: 1/ 158، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 12، وكشاف القناع: 2/ 60.

الفرع الثاني الطاعة

الفرع الثّاني الطّاعة وفيه مسائل: المسألة الأولى: الطّاعة في اللُّغة الطّاعة اسم من: أطاعه؛ أي: انقاد له، ولا تكون الطّاعة إِلَّا عن أمر. يقال: أمره، فأطاعه؛ فالطاعة هي الانقياد، والموافقة، وامتثال الأمر، والمضي فيه (¬1). المسألة الثّانية: الطّاعة في الاصطلاح الشرعي تقدّم معنا أن الطّاعة لا تكون إِلَّا عن أمر، فهي في حقيقتها امتثال الأمر، والنظر في التعريفات الاصطلاحية عند العلماء نجد أنّها متفقة من حيث المعنى، وإنَّ اختلفت في ألفاظها، وهي لاتكاد تخرج عن المعنى اللغوي لها. ومن هذه التعريفات: - التعريف الأوّل: "هي الإتيان بالمأمور به، والانتهاء عن المنهي عنه" (¬2). التعريف الثّاني: "هي امتثال الأمر" (¬3). التعريف الثّالث: "هي موافقة الأمر" (¬4). وزاد بعضهم "طوعًا" (¬5). التعريف الرّابع: "هي فعل المأمورات ولو ندبًا، وترك المنهيات ولو كُرهًا" (¬6). ¬

_ (¬1) تهذيب اللُّغة للأزهري: 3/ 103 - 104، لسان العرب لابن منظور: 8/ 240 وما بعدها، المصباح المنير الفيومي: ص 380. (¬2) فتح الباري لابن حجر: 13/ 12. (¬3) أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 451. (¬4) التعريفات للجرجاني: ص 153، دستور العلماء: 2/ 271، منحة الخالق لابن عابدين: 3/ 64 (بهامش البحر الرائق لابن نجيم). (¬5) المرجع السابق، وانظر: حاشية ابن عابدين: 1/ 72، فيما نقله عن الإمام اللامشي. (¬6) الكليات لأبي البقاء الكنوي: 3/ 155 وما بعدها.

المسألة الثالثة: الفرق بين القربه وبين العبادة والطاعة

التعريف الخامس: "هي فعل ما يثاب عليه، توقف على نيّة أم لا، عُرف من يفعله لأجله أم لا" (¬1). فهذه التعريفات تدور حول امتثال الأمر، سواء أكان أمرًا بالفعل - وهو الإتيان بالمأمورات -، أم كان أمرًا بالترك - وهو ترك المنهيات والانتهاء عنها -. المسألة الثّالثة: الفرق بين القربة وبين العبادة والطاعة فرق العلماء بين هذه المصطلحات الثّلاثة من جهتين: الجهة الأولى: النية. الجهة الأخرى: معرفة من يُفعل لأجله. وفي هذا يذكر ابن عابدين الفرق بين هذه المصطلحات الثّلاثة بقوله: "إنَّ الطّاعة فعل ما يثاب عليه، توقف على نيّة، أو لا عُرف من يفعله لأجله أو لا. والقربة: فعل ما يثاب عليه بعد معرفة من يتقرب إليه به، وإن لم يتوقف على نيّة. والعبادة: فعل ما يثاب عليه، ويتوقف على نيّة". ثمّ بيَّن ذلك بالمثال فقال: "فنحو الصلوات الخمس، والصوم، والزكاة، والحج، من كلّ ما يتوقف على النية: قربة، وطاعة، وعبادة، وقراءة القرآن، والوقوف، والعتق، والصدقة، ونحوها، ممّا لا يتوقف على نيّة: قربة، وطاعة، لا عبادة. والنظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى: طاعة، لا قربة، ولا عبادة" (¬2) ا. هـ. ثمّ قال ابن عابدين معقبًا على ذلك: "وقواعد مذهبنا لا تأباه" (¬3). وعليه، فالطاعة أعم من القربة، والعبادة، فكل قربة، وعبادة، طاعة، ولا ينعكس. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين، نقلًا عن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري: 1/ 72. (¬2) حاشية ابن عابدين: 1/ 72، نقلًا عن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري. (¬3) حاشية ابن عابدين: 1/ 72.

والقربة أعم من العبادة؛ فكل عبادة قربة، ولا ينعكس (¬1). وذلك لأنّ الطّاعة لا يشترط فيها النية، ولا يشترط معرفة من تُفعل لأجله، بينما القربة لا يشترط فيها النية، ولكن يشترط فيها معرفة المتقرَّب إليه، والعبادة يشترط فيها النية، ومعرفة من تُفعل لأجله، وهو رب العالمين. كذلك فإن العبادة ما لا يجوز لغير الله تعالى، والطاعة ما يجوز لغير الله تعالى (¬2)؛ قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النِّساء: 59]. ¬

_ (¬1) المنثور في القواعد للزركشي: 3/ 61 - 62، وشرح حدود ابن عرفة: 1/ 109. (¬2) منحة الخالق لابن عابدين (بهامش البحر الرائق): 3/ 64.

المطلب الثالث أنواع القرب

المطلب الثّالث أنواع القرب وفيه أربعة أفرع: الفرع الأوّل أنواع القرب من حيث العموم والخصوص وفيه مسألتان: المسألة الأولى: القرب الخاصة: وهي القرب الّتي تجب على الإنسان عينًا، أو تطوع بأدائها، ولا يتعدى نفعها إلى غيره؛ وذلك كالعبادات المحضة، مثل: صلاة الإنسان، وصومه، واعتكافه لنفسه، وحجه، وعمرته عن نفسه، أو أداء زكاته الواجبة عليه، ونحو ذلك، ممّا يتعين على المسلم فعله، أو يتطوع بأدائه عن نفسه؛ نحو قيام اللّيل، ونوافل العبادات المختلفة من صلاة، وصيام، وحج، وزكاة، وغيرها، ولا يتعدى نفعها إلى غيره، بل نفعها عائد إليه (¬1). المسألة الأخرى: القرب العامة: وهي القرب الّتي يتعدى نفعها فاعلها إلى غيره من المسلمين؛ كالأذان، والإقامة، والقضاء، والإفتاء، والحسبة، وتعليم القرآن، والعلّم الشرعي، ونحو ذلك (¬2). ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي: 4/ 158، بدائع الصنائع للكاساني: 4/ 191، الشرح الكبير للدردير: 4/ 21، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/ 21، 22، جواهر الإكليل للآبي: 2/ 189، مغني المحتاج للشربيني: 2/ 344، حاشية الرملي على أسنى المطالب: 2/ 410، المغني لابن قدامة: 8/ 141، المحلى لابن حزم: 8/ 191 - 192. (¬2) المبسوط للسرخسي: 4/ 158، أسنى المطالب للأنصاري: 2/ 410، المغني لابن قدامة: 8/ 136، مجموع الفتاوى لابن تيَمية: 30/ 206 - 207، كشاف القناع للبهوتي: 4/ 12.

الفرع الثاني أنواع القرب من حيث اشتراط النية وعدمه

الفرع الثّاني أنواع القرب من حيث اشتراط النية وعدمه قسم الشّافعيّة القرب من حيث اشتراط النية لها إلى قسمين: القسم الأوّل: قرب يتوقف الاعتداد بها على النيه. وهذا القسم على نوعين: النوع الأوّل: ما لا تدخله النِّيابة. وهذا القسم لا يجوز الاستئجار عليه. النوع الآخر: ما تدخله النِّيابة. وهذا يجوز الاستئجار عليه؛ كالحج، وتفرقة الزَّكاة. القسم الآخر: ما لا تتوقف صحته على النية. وهذا القسم نوعان كذلك: النوع الأوّل: فرض كفاية. وهذا النوع على ضربين: الضرب الأوّل: ما يختص افتراضه في الأصل بشخص، وموضع معين. ثمّ يؤمر به غيره عند عجزه؛ كتجهيز الميِّت بالغسل، والتكفين، والدفن، ونحو ذلك. قال النووي: "فإن هذه المؤن تختص بالتركة، فإن لم يكن، فعلى النَّاس القيام بها، فمثل هذا يجوز الاستئجار عليه؛ لأنّ الأجير غير مقصود بفعله حتّى يقع عنه" (¬1). ومن ذلك تعليم القرآن، ونحوه كما سيأتي. ¬

_ (¬1) روضة الطالبين للنووي: 5/ 187. ما ذكروه من جواز الاستئجار وعدمه محل تفصيل وخلاف يأتي بيانه في مواضعه، إن شاء الله تعالى.

الضرب الآخر: ما يثبت فرضه في الأصل شائعًا غير مختص كالجهاد. قال النووي: "فلا يجوز استئجار المسلم عليه، ويجوز استئجار الذمي على التصحيح" (¬1). النوع الآخر: شعار غير فرض: كالأذان تفريعًا على الأصح، وفي جواز الاستئجار عليه ثلاثة أوجه (¬2). ¬

_ (¬1) روضة الطالبين للنووي: 5/ 187. (¬2) انظر: روضة الطالبين للنووي: 5/ 187 - 188، مغني المحتاج للشربيني: 2/ 344، حاشية القليويي: 3/ 76.

الفرع الثالث أنواع القرب من حيث حكمها التكليفي

الفرع الثّالث أنواع القرب من حيث حكمها التكليفي يقسم العلماء القرب من حيث حكمها التكليفي إلى خمسة أقسام، وهي: القرب الواجبة، والمندوبة، والمباحة، والمحرمة، والمكروهة. أي أن القربة تعتريها الأحكام التكليفية الخمسة. وبيان ذلك كالآتي: أوَّلًا: القُرب الواجبة: وتشمل ما كان منها واجبًا بأصل الشّرع؛ كالفرائض الّتي افترضها الله على عباده من صلاة، وزكاة، وصوم، وحج، فهي عبادات مقصودة شرعت للتقرب بها إلى الله تعالى، وهذه هي الّتي يسميها العلماء بالقرب المقصودة (¬1). وتشمل كذلك ما كان واجبًا بإيجاب الإنسان على نفسه، وهي القرب الّتي يُلزم الإنسان بها نفسه بالنذر، كمن نذر صلاة، أو صيامًا، أو حجًا، أو اعتكافًا، أو عتقًا، فهذه تلزم بالنذر بلا خلاف (¬2). ثانيًا: القرب المندوبة: وتشمل نوافل العبادات من صلاة، وحج، وصيام، ونحوها، وقراءة القرآن، والوقف، والعتق، وصلة الرّحم، والصدقة، وعيادة المرضى، واتباع الجنائز. وهذا القسم يشمل ما كان فيه نصّ على استحبابه، وهو الندب الخاص، أو ما ندب إليه الشارع على سبيل العموم، وهو المأخوذ من قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحجِّ: 77]، والأول آكد من الثّاني (¬3). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع: 5/ 82، وروضة الطالبين: 3/ 301، وتحرير ألفاظ التنبيه: ص 237. (¬2) المراجع السابقة. وانظر: حاشية ابن عابدين: 1/ 72، الاختيار لتعليل المختار: 4/ 76 وما بعدها. وانظر: الفروق القرافي: 1/ 130، حاشية الدسوقي: 4/ 21 - 22. (¬3) تحرير ألفاظ التنبيه: ص 237، حاشية ابن عابدين: 1/ 72، والمنثور في القواعد: 3/ 61.

ثالثا: القرب المباحة

ثالثًا: القرب المباحة: من المعلوم أن المباحات في الأصل لا يتعلّق بها ثواب ولا عقاب، ولكن تختلف صفتها باعتبار ما قصدت لأجله، فإذا قصد بها التقوِّي على طاعة الله، أو التوصل إلى الطّاعة كانت بهذا القصد عبادة، وقربة إلى الله؛ كالأكل بنية التقوي على الطّاعة، وكالنوم، واكتساب المال، والوطء، وغيرها، إذا قصد بها طاعة الله، أو التوصل إلى طاعته سبحانه وتعالى كانت قربة إليه (¬1). ومما يدلُّ على ذلك ما جاء في قصة معاذ مع أبي موسى، حيث قال له معاذ: "فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي" (¬2). قال الحافظ ابن حجر (¬3): "ومعناه أنّه يطلب الثّواب في الراحة كما يطلبه في التعب؛ لأنّ الراحة إذا قصد بها الإعانة على العبادة حصَّلت الثّواب" (¬4). ¬

_ (¬1) المنثور في القواعد للزركشي: 3/ 287، الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 24. (¬2) أخرجه البخاريّ في التصحيح: كتاب المعازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن: 7/ 657 (4341 - 4345)، وأخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب النّهي عن طلب الإجارة والحرص عليها: 6/ 1453 (1733). (¬3) هو: أحمد بن علي بن محمّد بن حجر الكناني العسقلاني، الشّافعيّ، شهاب الدِّين أبو الفضل، ولد في مصر سنة 773 هـ، نشأ يتيمًا، رزقه الله بحافظة نادرة، وأشرب حب العلم وبخاصة الحديث حتّى أصبح أمير المؤمنين فيه، له مؤلفات عظيمة منها: فتح الباري شرح صحيح البخاريّ، والإصابة في تمييز الصّحابة، تهذيب التهذيب، وتقريب التهذيب، وغيرها، توفي سنة 752 هـ بالقاهرة: الضوء اللامع للسخاوي: 2/ 36 - 40، شذرات الذهب لابن العماد: 7/ 270. (¬4) فتح الباري لابن حجر: 7/ 659. وذكر الحافظ عدة فوائد من هذه القصة في كتاب استتابة المرتدين عند شرحه لهذه القصة فقال: "وإن المباحات يؤجر عليها بالنية إذا صارت وسائل للمقاصد الواجبة، أو المندوبة، أو تكميلًا لشيء منهما" الفتح: 12/ 288.

رابعا: القرب المحرمة

رابعًا: القرب المحرمة: وتكون في القربة البدنية؛ كالغلو في العبادة، والإتيان بها على ظن أنّها قربة، أو يتكلف من العبادة ما لا يقدر عليه، أو لا يطيق المدامة عليه، فمن تكلف ما لا يطيقه، فقد تسبب إلى تبغيض عبادة الله تعالى (¬1). ومما يدلُّ على ذلك: 1 - ما روته عائشة رضي الله عنها أن النّبيّ -صلّي الله عليه وسلم- بعث إلى عثمان بن مظعون، فجاءه، فقال: (يا عثمان، أرغبت عن سنتي؟). قال: لا، والله يا رسول الله، ولكن سنتك أطلب. قال: (فإني أنام، وأصلّي، وأصوم، وأفطر، وأنكح النِّساء؛ فاتق الله يا عثمان، فإن لأهلك عليك حقًا، وإن لضيفك عليك حقًا، وإن لنفسك عليك حقًا؛ فصم، وأفطر، وصلّ، ونم) (¬2). فقد أنكر النّبيّ-صلّي الله عليه وسلم- على عثمان بن مظعون التزامه قيام اللّيل، وصيام النهار، واجتناب النِّساء، وبيّن له أن فعله رغبة عن السُّنَّة، وغلو في الدِّين، وقد فعل عثمان ما فعل على ظن أنّه قربة. 2 - ما رواه أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النّبيّ، -صلّي الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النّبيّ، -صلّي الله عليه وسلم- فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: فأين نحن من رسول الله، -صلّي الله عليه وسلم- وقد غفر له ما تقدّم من ذنبه، وما تأخر؟ قال أحدهم: أمّا أنا فأصلّي اللّيل أبدًا. وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر، ولا أُفطِر. وقال الآخر: وأنا أعتزل النِّساء، ولا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله -صلّي الله عليه وسلم- إليهم، فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أمّا ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 2/ 174. (¬2) رواه أبو داود في سننه: كتاب الصّلاة: باب ما يؤمر به من القصد في الصّلاة: (1369)، 2/ 101. قال الألباني: صحيح: صحيح سنن أبي داود: 1/ 256 (1220).

خامسا: القربات المكروهة

والله، إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد، وأتزوج النِّساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) (¬1). فهؤلاء فعلوا ما فعلوا على ظن أن ما فعلوه قربة إلى الله تعالى، وقد أنكر عليهم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وَبَيَّنَ لهم أن ما فعلوه إنّما هو رغبة عن السُّنَّة، وغلو في الدِّين، فدلَّ على أن هذه القرب الّتي أتوها محرّمة. ومن الاقربات المحرمة كذلك القربات المالية، كالعتق، والوقف، والصدقة، والهِبَة، إذا فعلها الإنسان، وكان عليه دين، أو عنده من تلزمه نفقته ممّا لا يفضل عن حاجته؛ لأنّ ذلك حق واجب عليه، فلا يحل له تركه لسنة (¬2). خامسًا: القربات المكروهة: ومن هذه القربات المكروهة: من تصدق بجميع ما يملك، وكان في ذلك مشقة لا يصبر عليها؛ قال الإمام الشيرازي (¬3) في المهذب: "ويكره لمن لا يصبر على الإضافة" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ في النِّكاح باب الترغيب في النِّكاح رقم (5063) 5/ 9 (فتح)، وأخرجه مسلم واللفظ له في النِّكاح باب استحباب النِّكاح لمن تاقت نفسه إليه. رقم (1401) 2/ 1020 تحقيق محمّد فؤاد عبد الباقي. (¬2) المنثور في القواعد للزركشي: 3/ 278، والتنبيه للشيرازي: ص 64. دار عالم الكتب ط/ 1، 1403 هـ. (¬3) الشيرازي: هو جمال الدِّين أبو إسحاق: إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي الفييوزآبادي، أحد أعلام الشّافعيّة في وقته، ولد سنة 393 هـ بفييوزآباد (بلدة بفارس)، وتوفي ببغداد سنة 476 هـ، له مؤلفات كثيرة في الأصول والفروع منها: التنبيه والمهذب في الفقه، والتبصرة واللمع مع شرحها في الأصول، والمعونة في الجدل، وغيرها كثير. انظر: طبقات الشّافعيّة الكبرى: 4/ 215، سير أعلام النُّبَلاء:454/ 18. (¬4) التنبيه للشيرازي: ص 64، والإضاقة هي: الحاجة، والضيق. انظر: تحرير ألفاظ التنبيه للنووي: ص 121.

وكذلك الوصيَّة من الفقير إنَّ كان له ورثة محتاجون (¬1)، قال البهوتي (¬2) في الروض: "وتكره وصية فقير عرفًا، وارثه محتاج؛ لأنّه عدل عن أقاربه المحاويج إلى الأجانب" (¬3). ¬

_ (¬1) شرح منتهى الإرادات: 2/ 540. (¬2) هو: منصور بن يونس بن صلاح الدِّين بن حسن بن إدريس الشهير بالبهوتي، أحد علماء الحنابلة الكبار، له مؤلفات كثيرة منها: الروض المربع، كشاف القناع، شرح منتهى الإرادات، وجميعها في فقه الإمام أحمد، توفي سنة 1051 هـ: (النعت الأكمل لأصحاب الإمام أحمد، ص/ 210 - 213، خلاصة الأثر للمحبي: 4/ 426. (¬3) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم: 6/ 47.

الفرع الرابع أنواع القرب من حيث تعدي النفع وعدمه

الفرع الرّابع أنواع القرب من حيث تعدي النفع وعدمه قسم الفقهاء القربات من حيث تعدي النفع، وعدمه إلى نوعين هما: النوع الأوّل: ما لا يتعدى نفعه فاعِلَه. النوع الآخر: ما يتعدى نفعه فاعله. النوع الأوّل: ما لا يتعدى نفْعُهُ فاعِلَه: وهذا النوع يشمل العبادات المحضة؛ كصلاة الإنسان لنفسه، وصومه، واعتكافه لنفسه، وحجه، وعمرته عن نفسه، وأداء زكاة نفسه، وكل أمر واجب تعين على المرء أداؤه، فهو داخل في هذا النوع، وكذلك يشمل هذا النوع ما تطوع الإنسان بأدائه عن نفسه من نوافل العبادات المختلفة (¬1). وهذا النوع لا يجوز أخذ المال عليه بغير خلاف؛ قال ابن قدامة: "وأمّا ما لا يتعدى نفعُه فاعِلَه من العبادات المحضة، كالصيام، وصلاة الإنسان لنفسه، وحجه عن نفسه، وأداء زكاة نفسه، فلا يجوز أخذ الأجر عليها بغير بخلاف؛ لأنّ الأجر عوض عن الانتفاع، ولم يحصل لغيره ها هنا انتفاع، فأشبه إجارة الأعيان الّتي لا نفع فيها" (¬2). وقال ابن حزم (¬3): "وكذلك لا تجوز الإجارة على كلّ واجب تعين على المرء من ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي: 4/ 158، شرح العناية على الهداية: 7/ 179، بداية المجتهد لابن رشد: 8/ 220، والمغني لابن قدامة: 8/ 141، كشاف القناع: 4/ 12، المحلى لابن حزم: 8/ 191. (¬2) المغني لابن قدامة: 8/ 141. (¬3) هو: علي بن أحمد بن سعيد بن حزم أبو محمّد، أحد الأئمة الكبار، ولد بقرطبة سنة: 384 هـ، إمام مجتهد كبير، برز في كلّ العلوم، من مؤلفاته العظيمة: المحلى والإحكام في أصول الأحكام، الفصل في الملل والنحل، وغيرها كثير، توفي سنة 456 هـ: (سير أعلام النُّبَلاء للذهبي: 18/ 184،وفيات الأعيان لابن خلكان: 13/ 325).

النوع الآخر: ما يتعدى نفعه فاعله

صوم، أو صلاة، أو حج، أو فتيا، أو غير ذلك ... وكذلك تطوع المرء عن نفسه لا يجوز أيضًا اشتراط أخذ مال عليه؛ لأنّه حينئذٍ يكون لغير الله تعالى" (¬1). وقال الكاساني (¬2) في معرض ذكره لأنواع الإجارة الفاسدة: "ومنها أن لا يكون العمل المستأجر له فرضًا، ولا واجبًا، على الأجير قبل الإجارة، فإن كان فرضًا، أو واجبًا قبل الإجارة لم تصح الإجارة؛ لأنّ من أتي بعمل يُستحق عليه لا يَستحق الأجرة، كمن قضى دينًا عليه" (¬3). وكما أنّه لا يجوز أخذ الأجرة عليه، لا يجوز كذلك أخذ الجعل عليه. وفي هذا يقول ابن قدامة: "وما يختص فاعِلُه أن يكون من أهل القربة، ممّا لا يتعدى نفعُه فاعله، كالصلاة، والصيام، لا يجوز أخذ الجعل عليه" (¬4). النوع الآخر: ما يتعدى نفعه فاعِلَه: وهذا النوع ينقسم إلى قسمين: القسم الأوّل: ما يتعدى نفعُه فاعلَه، ولا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة. القسم الآخر: ما يتعدى نفعه فاعله، ويختص فاعله أن يكون من أهل القربة. القسم الأوّل: ما لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة: وهذا القسم لا يشترط في فاعله أن يكون من أهل القربة، وهو المسلم، بل يجوز أن يفعله الكافر؛ كتعليم الخط، والحساب، والشعر المباح، وبناء المساجد، والقناطر، وانشاء الطرق وتعبيدها، ونحو ذلك (¬5). ¬

_ (¬1) المحلى لابن حزم: 8/ 191 - 192. (¬2) هو: أبوبكر بن مسعود بن أحمد الكاساني، الحنفي، ملك العلماء، علاء الدِّين، أحد أئمة الحنفية، برع في كثير من العلوم، وله مؤلفات كثيرة منها: بدائع الصنائع، السلطان المبين في أصول الدِّين، توفي سنة: 587 هـ: الجواهر المضية للقرشي: 4/ 25، تاج التراجم، ص/ 84 - 85. (¬3) بدائع الصنائع: 4/ 141. (¬4) المغني لابن قدامة: 8/ 327. (¬5) المبسوط للسرخسي: 4/ 158، بدائع الصنائع للكاساني: 4/ 191، المغني: 8/ 141، مجموع الفتاوى: 30/ 206، كشاف القناع: 4/ 13، مطالب أولي النهى: 4/ 641 - 642.

القسم الآخر: ما يختص فاعله أن يكون من أهل القربة

وهذا القسم يجوز أخذ المال عليه بلا خلاف؛ قال ابن قدامة: "وما لا يختص فاعِلُه أن يكون من أهل القربة؛ كتعليم الخط، والحساب، والشعر المباح، وأشباهه، وبناء المساجد، والقناطر، جاز أخذ الأجر عليه؛ لأنّه يقع تارة قربة، وتارة غير قربة، فلم يُمنع من الاستئجار لفعله؛ كغرس الأشجار، وبناء البيوت ... " (¬1). وقال الكاساني: "ويجوز الاستئجار على تعليم اللُّغة والأدب؛ لأنّه ليس بفرض واجب، وكذا يجوز الاستئجار على بناء المساجد، والرباطات، والقناطر ... " (¬2). القسم الآخر: ما يختص فاعله أن يكون من أهل القربة: هذا هو القسم الآخر ممّا يتعدى نفعه فاعله، وهو ما يختص أن يكون فاعله من أهل القرب، وهو المسلم؛ أي: أنّه يشترط في فاعله الإسلام فلا يتأتى فعله من الكافر. ومن أمثلة هذا القسم: الإمامة في الصّلاة، والأذان، والقضاء، والفتيا، وتعليم القرآن، والفقه، والحديث، ونحوها من العلوم الشرعية، والحسبة، ونحوها. وهذا القسم: هو محل الخلاف بين الفقهاء من حيث جواز أخذ المال على القيام به، أو عدم جواز ذلك (¬3). والكلام على هذه المسائل المختلف فيها بالتفصيل، هو ما سيكون عليه مدار هذا البحث، إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) المغني: 8/ 141. (¬2) بدائع الصنائع: 4/ 191 - 192. (¬3) المبسوط للسرخسي: 4/ 158، شرح فتح القدير لابن هشام: 7/ 179، حاشية ابن عابدين: 5/ 34، مغني المحتاج للشربيني: 2/ 344، المغني لابن قدامة: 8/ 136، 327، كشاف القناع للبهوتي: 4/ 12.

الأول: وصول نفع هذه القرب إلى المستأجر، أو عدم وصوله.

ومن المناسب هنا أن نذكر الأسباب الّتي أدت إلى اختلاف العلماء في مسائل هذا القسم، ويمكن حصر هذه الأسباب إجمالًا فيما يأتي: الأوّل: وصول نفع هذه القرب إلى المستأجر، أو عدم وصوله. فمن قال من العلماء بوصول النفع إلى المستأجر جوز أخذ الأجرة على هذه القرب، ومن قال إنَّ النفع لا يحصل للمستأجر قال بعدم جواز أخذ الأجرة (¬1). وفي هذا يقول شيخ الإسلام: " ... ومن جوز ذلك - أي: أخذ الأجرة على القرب - قال: إنّه نفع يصل إلى المستأجر فجاز أخذ الأجرة عليه ... " (¬2). وقد تقدّم أن من شروط الإجارة: أن تكون المنفعة حاصلة للمستأجر؛ فإن لم تكن حاصلة للمستأجر فلا تصح الإجارة (¬3). الثّاني: كون هذه القرب ممّا يقبل النيابه أو لا: فإن كانت ممّا يقبل النِّيابة صح أخذ الأجرة عليها، وإلا فلا (¬4). وقد عد الشّافعيّ ذلك ضابطًا لم يجوز أخذ الأجرة عليه، وما لا يجوز. قال الشربيني في كتابه مغني المحتاج: "وضابط هذا: أن كلّ من تدخله النِّيابة من العبادة يجوز الاستئجار عليه، وما لا فلا" (¬5). ¬

_ (¬1) الذّخيرة للقرافي: 5/ 415، الشرح الصغير للدردير: 4/ 10، روضة الطالبين للنووي: 5/ 187. (¬2) مجموع الفتاوى لابن تيمية: 30/ 207. (¬3) الفروق للقرافي: 4/ 4، أسنى المطالب للأنصاري: 2/ 410، الشرح الكبير لشمس الدِّين ابن قدامة مع المغني: 6/ 139. (¬4) الخرشي على خليل: 7/ 23، حاشية العدوي على الخرشي: 7/ 23، جواهر الإكليل للآبي: 2/ 189، مغني المحتاج: 2/ 344. (¬5) مغني المحتاج: 2/ 344، وانظر: حاشية العدوي على الخرشي: 7/ 23.

الثالث: كون هذه القرب من فروض الكفاية، أو من فروض الأعيان

الثّالث: كون هذه القرب من فروض الكفاية (¬1)، أو من فروض الأعيان (¬2): فإن كانت من فروض الكفاية صح أخذ الأجرة عليها، وإلا فلا (¬3). قال القرطبي: "دلّ قوله تعالى: (وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا) على أن كلّ ما كان من فروض الكفاية كالساعي، والكاتب، والقسام، والعاشر، وغيرهم، فالقائم به يجوز له أخذ الأجرة عليه، ومن ذلك الإمامة، فإن الصّلاة، وإن كانت متوجهة على جميع الخلق، فإن تقدّم بعضهم بهم من فروض الكفايات، فلا جرم يجوز أخذ الأجرة عليها، وهذا أصل الباب" (¬4). الرّابع: كون القرب لا يختص فاعلها أن يكون من أهلها: ومعنى ذلك: أنّه لا يشترط فيها كون فاعلها مسلمًا. وعليه، فيجوز أن يفعلها غير المسلم؛ أي: أنّها تقع مرّة قربة، ومرة غير قربة - كما سبق بيانه -. فإذا كانت القربة ممّا يفعلها المسلم وغير المسلم فيجوز أخذ الأجرة عليها بلا خلاف - كما سبق -. وإن كانت ممّا يختص بفعلها المسلم دون الكافر فهذا ممّا جرى فيه الخلاف (¬5). ¬

_ (¬1) فرض الكفاية: "هو ما قصد الشارع حصوله من غير نظر إلى فاعله". مثاله: الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتجهيز الميِّت، وغير ذلك: (نهاية السول: 1/ 93، نشر البنود على مراقي السعود: 1/ 192، حاشية البناني على جمع الجوامع: 1/ 182). (¬2) فرض العين: "هو ما طلب الشارع حصوله من كلّ فرد من أفراد المكلفين به". مثاله: الصّلاة، والزكاة، والصيام، وغيرها: (المراجع السابقة في فرض الكفاية، وانظر: تقسيمات الواجب وأحكامه للدكتور مختار بابا آدو: ص/ 231). (¬3) جواهر الإكليل: 2/ 189، حاشية قليوبي: 4/ 213. (¬4) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 8/ 178، وانظر أحكام القرآن لابن العربي: 2/ 961. (¬5) المغني لابن قدامة: 8/ 141، مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: 30/ 206.

الخامس: كون القربة يشترط لها النيه أولا يشترط لها ذلك

الخامس: كون القربة يشترط لها النيه أولا يشترط لها ذلك: فإن كانت ممّا يشترط فيه النية فلا تجوز الأجرة عليه، وما لا يشترط له النية جاز أخذ الأجرة عليه (¬1). السّادس: كون فاعل القربة محتاجًا أو غير محتاج: فإن كان فاعل القربة محتاجًا جاز له أخذ الأجرة، وإن لم يكن محتاجًا فلا يجوز له أخذ الأجرة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن فرق بين المحتاج وغيره - وهو أقرب - قال: المحتاج - إذا اكتسب بها - أمكنه أن ينوي عملها لله، ويأخذ الأجرة؛ ليستعين بها على العبادة، فإن الكسب على العيال واجب أيضًا، فيؤدِّي الواجبات بها، بخلاف الغني؛ لأنّه لا يحتاج إلى الكسب، فلا حاجة تدعوه أن يعملها لغير الله، بل إذا كان الله قد أغناه، وهذه فرض على الكفاية، كان هو مخاطبًا به، وإذا لم يقم إِلَّا به كان ذلك واجبًا عليه عينًا، والله أعلم" (¬2). ملحوظة: يُلحَظ فيما سبق أن مآخذ العلماء، واختلافهم حول أخذ المال على القرب يتركز أكثر ما يكون على الإجارة دون غيرها، وهي أكثر ما جرى الخلاف في جوازه على القرب؛ نظرًا لأنّها أهم عقود المعاوضة على القرب، وقريب منها الجعالة؛ لأنّها في معناها. ولذا قال شيخ الإسلام: "وأمّا ما يؤخذ من بيت المال فليس عوضًا وأجرة، بل هو رزق للإعانة على الطّاعة؛ فمن عمل منهم لله أُثِيب، وما يأخذه فهو رزق للمعونة على الطّاعة، ¬

_ (¬1) مغني المحتاج: 2/ 344، حاشية قليوبي على شرح المحلي: 3/ 76. (¬2) مجموع الفتاوى: 30/ 207.

وكذلك المال الموقوف على أعمال البرّ، والموصى به كذلك، والمنذور كذلك ليس كالأجرة " (¬1). وعليه، فسيكون البحث فيما يأتي من مسائل متعلّقًا بحكم الإجارة، وإن وجدت خلافًا في غيرها ذكرته، ومن المناسب أن نذكر هنا قاعدة في الجعالة ذكرها ابن قدامة، فقال: "إنَّ ما جاز أخذ العوض عليه في الإجارة من الأعمال، جاز أخذه عليه في الجعالة، وما لا مجوز أخذ الأجرة عليه في الإجارة ... لا يجوز أخذ الجعل عليه" (¬2). ¬

_ (¬1) الاختيارات الفقهية: ص 153. (¬2) المغني لابن قدامة: 8/ 327. قلت: وهذه القاعدةُ ليست على إطلاقها؛ فإن الحنابلة يمنعون الأجرة على الحجِّ على المشهور، ومع ذلك: يجيزون الجعالة، كما سيأتي في مبحث الاستئجار على الحجِّ إن شاء الله تعالى.

الباب الأول أخذ المال على العبادات

الباب الأوّل أخذ المال على العبادات وفيه خمسة فصول: الفصل الأوّل: أخذ المال على الصّلاة وما يتعلّق بها الفصل الثّاني: أخذ المال على الزَّكاة والصيام الفصل الثّالث: أخذ المال على الحجِّ والعمرة الفصل الرّابع: أخذ المال على الجهاد الفصل الخامس: أخذ المال على القرأن الكريم والعلّوم الشرعية

الفصل الأول أخذ المال على الصلاة وما يتعلق بها

الفصل الأوّل أخذ المال على الصّلاة وما يتعلّق بها وفيه خمسة مباحث: المبحث الأوّل: أخذ المال على قضاء الصّلاة عن الغير المبحث الثّاني: أخذ المال على الأذان والإقامة المبحث الثّالث: أخذ المال على الإمامة والخطابة المبحث الرّابع: أخذ المال على عمارة المساجد وصيانتها المبحث الخامس: أخذ المال على الجنازة (تجهيز الميِّت ودفنه)

المبحث الأول أخذ المال على قضاء الصلاة عن الغير

المبحث الأوّل أخذ المال على قضاء الصّلاة عن الغير الصّلاة (¬1) إحدى دعائم الإسلام، وأحد مبانيه العظام، وهي الركن الثّاني من أركان الإسلام بعد الشهادتين. ومشروعية الصّلاة، وفرضيتها على المسلم أمر معلوم من الدِّين بالضرورة، جاء القطع بذلك في الكتاب، والسُّنَّة، وعلى هذا أجمع علماء الأُمَّة (¬2). فمن اعتقد خلاف ذلك فهو كافر بالله العظيم - إنَّ كان مثله ممّن لا يتصور جهله - نعوذ بالله العظيم من ذلك (¬3). ¬

_ (¬1) الصّلاة في اللُّغة: الدُّعاء والرّحمة، والتعظيم، والبركة، والاستغفار، وحسن الثّناء على الله تعالى، وعبادة فيها ركوع وسجود. (المصباح المنير ص/ 346، القاموس: مادة: صَلَى) ص/1681. وفي الاصطلاح: "هي عبادة ذات أقوال، وأفعال مخصوصة، من شخص مخصوص، في أوقات مخصوصة، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم". (الاختيار لتعليل المختار: 1/ 37، مواهب الجليل: 1/ 377، مغني المحتاج: 1/ 120، كشاف القناع: 1/ 221، وانظر: النِّيابة في العبادات للدكتور صالح الهليل: ص/36، مؤسسة الرسالة 1417 هـ ـ (¬2) الاختيار لتعليل المختار: 1/ 37، الشرح الصغير للدردير: 1/ 240، نهاية المحتاج: 1/ 359، المغني لابن قدامة: 2/ 6، كشاف القناع: 1/ 222. (¬3) الاختيار لتعليل المختار: 1/ 37، مواهب الجليل: 1/ 420، أسنى المطالب: 1/ 336، كشاف القناع: 1/ 227.

صورة المسألة

ونظرًا لهذه المكانة الخطيرة للصلاة في الإسلام، فقد اعتنى علماء الإسلام بفقه الصّلاة، وما يتعلّق بها من أحكام. ومن هذه الأحكام ما نحن بصدده، وهو حكم أخذ المال على قضاء الصّلاة عن الغير، وتفصيل ذلك كما يلي: ونظرًا لخطورة هذه المسألة وأهميتها، فسوف أقوم بتصويرها حتّى يتبين المراد بها، ثمّ أحرر محل النزاع فيها، ثمّ أتابع البحث فيها على نسق ما تقدّم. صورة المسألة: هل يجوز أخذ الأجرة على الصّلاة عن الغير؟ سواء أكان هذا الغير حيًا أم ميتًا؟ وسواء أكانت هذه الصّلاة واجبة تركها لعذر أم لغير عذر؟ أم كانت صلاة تطوع؟ تحرير محل النزاع: الإجارة على الصّلاة عن الغير لا تخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون عن حي. الحالة الأخرى: أن تكون عن ميت. الحالة الأولى: أن تكون عن حي: وهذه الحالة لا تخلو من أمرين: الأمر الأوّل: أن تكون عن صلاة واجبة. وهنا أجمع العلماء على أنّه لا يجوز الاستئجار على أداء الصّلاة الواجبة عن الحي سواء أكانت واجبة بأصل

الأمر الآخر: أن تكون الإجارة عن صلاة تطوع

الشّرع، وهي الفروض المعروفة، أم كانت واجبة بالنذر، ولا فرق أن يكون قد تركها متعمدًا أم لعذر، وسواء أكان صحيحًا أم مريضًا (¬1). الأمر الآخر: أن تكون الإجارة عن صلاة تطوع: اتفق الأئمة رحمهم الله تعالى على أنّه لا يجوز الاستئجار على صلاة تطوع عن الغير، وهذا ما عليه جماهير العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم (¬2). وقد خالف ابن حزم في ذلك، فقال بجواز الاستئجار على صلاة تطوع عن الغير، قال رحمه الله: "وجائز للمرء أن يأخذ الأجرة على فعل ذلك عن غيره، مثل أن يحج عنه التطوع، أو يصلّي عنه التطوع، أو يؤذن عنه التطوع، أو يصوم ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي: 4/ 152، بدائع الصنائع للكاساني: 2/ 212، 4/ 191، واللباب شرح الكتاب للغنيمي الميداني: 2/ 100، عارضة الأحوذي لأبي بكر بن العربي: 3/ 240، شرح الزرقاني على خليل: 2/ 238، الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي: 4/ 21 - 22، جواهر الإكليل: 2/ 189، المهذب للشيرازي: 1/ 187، مغني المحتاج للشربيني: 2/ 344، حاشية قليوبي وعميرة: 2/ 338، أسنى المطالب لزكريا الأنصاري: 2/ 410، المغني لابن قدامة: 8/ 141، مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: 30/ 203، كشاف القناع للبهوتي: 4/ 12، مطالب أولي النهى للرحيباني: 3/ 642، المحلى لابن حزم: 8/ 191. (¬2) الهداية شرح البداية للمرغيناني: 7/ 179، حاشية ابن عابدين: 1/ 237، عارضة الأحوذي لابن العربي: 3/ 240، الخرشي على خليل: 7/ 23، الشرح الكبير للدردير: 4/ 21 - 22، تهذيب الفروق للمالكي: 4/ 6، مغني المحتاج: 2/ 344، أسنى المطالب: 2/ 410، المغني لابن قدامة: 8/ 141، كشاف القناع: 4/ 12، مطالب أولي النهى: 3/ 642، مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: 30/ 203.

دليل ابن حزم على ما ذهب إليه

عنه التطوع ... (¬1). دليل ابن حزم على ما ذهب إليه: علل ابن حزم ما ذهب إليه من جواز التطوع عن الحي بأجرة بما يأتي: قال: " ... لأنّ كلّ ذلك ليس واجبًا على أحدهما، ولا عليهما؛ فالعامل يعمله عن غيره، لا عن نفسه، فلم يطع، ولا عصى، وأمّا المستأجر فأنفق ماله في ذلك تطوعًا لله تعالى، فله أجر ما اكتسب بماله" (¬2). فحاصل ما علل به ابن حزم أن التطوع ليس بواجب لا على الأجير، ولا على المستأجر، وإذا كان ليس بواجب على أحدهما، فيجوز أخذ الأجرة عليه عن الغير. مناقشة الاستدلال: نوقش ما علل به ابن حزم بما يأتي: أوَّلًا: لا نسلم أن عدم وجوب الصّلاة على الأجير، ولا على المستأجر سبب في جواز أخذ الأجرة؛ وذلك لأنّ الصّلاة عبادة بدنية محضة، لا تقبل النِّيابة في أصلها، وهو الفروض، وتجويز ذلك في التطوع يحتاج إلى دليل، إذ التطوع عن الغير عبادة، والعبادات توقيفية، ولم يردّ نصّ من كتاب، أو سنة يجيز ذلك (¬3). ¬

_ (¬1) المحلى لابن حزم: 8/ 191 - 192. (¬2) المرجع السابق: 8/ 192. (¬3) بدائع الصنائع للكاساني: 4/ 191، الفروق للقرافي: 2/ 205، الموافقات للشاطبي: 2/ 175 وما بعدها، شرح المحلي على المنهاج: 3/ 76، وحاشية قليوبي على شرح المحلي: 3/ 76.

الحالة الأخرى: الاستئجارعلى قضاء الصلاة عن الميت.

ثانيًا: أن الأدلة من الكتاب والسُّنَّة والإجماع دلت على المنع من الصّلاة عن الحي كما سيأتي، ولم تستثن صلاة دون صلاة؛ فيشمل ذلك ما كان واجبًا، وما كان تطوعًا (¬1). قال ابن عبد البر: "وأمّا الصّلاة فإجماع من العلماء أنّه لايصلّي أحد عن أحد فرضًا عليه من الصّلاة، ولا سنة، ولا تطوعًا .. * (¬2). ثالثًا: أن هذا القول انفرد به ابن حزم؛ إذ لا قائل به من العلماء، والأئمة، وأرباب المذاهب الفقهية المعتبرة، فهو قول غريب، فلا يعوَّل عليه (¬3). الحالة الأخرى: الاستئجارعلى قضاء الصّلاة عن الميِّت. والمراد بالصلاة هنا مطلق الصّلاة الواجبة، سواء أكانت صلاة فرض، أم صلاة نذر، وسواء أكان قد تركها لعذر، أم لغير عذر. وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله تعالى في حكم أخذ الأجرة على قضاء الصّلاة عن الميِّت على أربعة أقوال: القول الأوّل: يجوز أخذ الأجرة على قضاء الصّلاة المنذورة فقط عن الميِّت. وهذا القول هو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وهي المذهب عند ¬

_ (¬1) وستأتي أدلتهم مفصلة عند الحديث عن الأجرة في الصّلاة عن الميِّت. وانظر: حاشية قليوبي على شرح المحلي على المنهاج: 3/ 76. (¬2) الاستذكار لابن عبد البر: 10/ 166 - 167. (¬3) ما يتعلّق بأدلة الجمهور فسوف أذكرها عند بحث مسألة الإجارة على الصّلاة عن الميِّت - إن شاء الله.

الحنابلة، وعليها الأكثر (¬1). وتفصيل ذلك عند الحنابلة كالآتي: أن من مات وعليه صلاة نذر، فإنّه يستحب للولي (¬2) أن ينوب عنه فيها، وليس بواجب عليه، ولكن يستحب له ذلك على سبيل الصلة له، والمعروف. فإن أبى الولي ذلك فإنّه ينظر: إن كان للميت تركة، فإنّه يجب على الولي أن يدفع من هذه التركة إلى من يصلّي عنه صلاة النَّذْر الّتي تركها. وإن لم يخلف الميِّت تركة لم يلزم الولي شيء، ولكن يستحب له فعله عن الميِّت لتفرغ ذمته، كقضاء دينه (¬3). قال ابن النجار الفتوحي (¬4): "ومن مات وعليه نذر صوم في الذِّمَّة أو حج، ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامَة: 13/ 655، شرح الزركشي على الخرفي: 7/ 228، مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام: 30/ 203، الفروع لابن مفلح: 3/ 103 - 104،الإنصاف للمرداوي: 3/ 340، كشاف القناع للبهوتي: 2/ 336، الروض المربع مع حاشية ابن قاسم: 3/ 442. (¬2) الولي: المراد به الوارث، وقيل: القريب عصبة، أو نسبًا وارثًا، أو غيرِ وارث، وقيل: هو من له ولاية التصرف في مال الميِّت بوصاية، أو وراثة. (انظر: حاشية ابن عابدين: 1/ 492، وشرح مسلم للنووي: 8/ 26، الروض المربع مع حاشية ابن قاسم: 3/ 442. (¬3) المغني لابن قدامة: 13/ 655، كشاف القناع: 2/ 335 - 336، الروض المربع مع حاشية ابن قاسم: 3/ 443. (¬4) هو: محمّد بن أحمد بن عبد العزيز بن علي، تقي الدِّين، أبو البقاء الفتوحي الشهير بابن النجار، القاضي المصري، الفقيه الحنبلي، الأصولي. ولد بالقاهرة سنة 898 هـ، وأخذ العلم عن والده، وتبحر في العلوم، وانتهت إليه رياسة المذهب الحنبلي بمصر، له مصنفات قيمة منها: منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح، وزيادات في الفقه الحنبلي، ومعونة أولي النهى شرح المنتهى، وهو شرح للكتاب السابق، وهو كتاب ضخم طبع حديثًا في تسعة مجلدات كبار، وله مختصر التحرير وشرحه الكبير الكوكب المنير في أصول الفقه، توفي سنة 972 هـ في القاهرة. (السحب الوابلة لابن حميد: 2/ 854، النعت الأكمل للعامري: ص 114، مختصر طبقات الحنابلة لابن شطي: ص 96).

أو صلاةٍ، أو طوافٍ، أو اعتكافٍ، لم يفْعَل منه شيئًا - مع إمكان غير حج - سُنَّ لوليّه فعله ... وإن خلّف مالًا وجب، فيفعله وليه، أو يدفع لمن يفعل عنه" (¬1). والقول بقضاء الصّلاة المنذورة عن الميِّت إنّما هو مقيد بإمكان الفعل حال الحياة، ثمّ لم يفعل حتّى مات، فإنّه يقضى عنه، فإن مات قبل التمكن لم يفعل عنه. قال ابن النجار: "وعلم ممّا تقدّم أن غير الحجِّ، من الصوم، والصلاة، والطواف، والاعتكاف المنذور في الذِّمَّة إنّما يفعل عنه إذا تمكن من فعله قبل موته ولم يفعله؛ وذلك لأنّ النَّذْر، وإن تعلّق بالذِّمَّة، لكنه يتعلّق بالأيام الآتية بعد النَّذْر، فإن مات قبل أن يعيش المدة المقدرة تبينا أن مقدار ما بقي منها صادف نذره حالة موته، وهو يمنع الثبوت في الذِّمَّة، كما لو نذر صوم شهر معين فمات قبله، أو جُنَّ قبله، ودام الجنون حتّى انقضى الشهر المعين، فإن الشهر المنذور صومه لم يثبت في ذمته، ولا كذلك المقدار الّذي أدركه حيًا وهو مريض؛ لأنّ المرض لا ينافي ثبوت الصوم في الذِّمَّة بدليل وجوب قضاء رمضان على المريض" (¬2). القول الثّاني: يجوز أخذ الأجرة على قضاء الصّلاة المنذورة عن الميِّت، وكذلك قضاء صلاة الفرض الّتي نسيها، أو نام عنها، ولم يصلها حتّى مات. وهذا هو مذهب الظاهرية (¬3). ¬

_ (¬1) منتهى الإرادات لابن النجار: 1/ 225 - 226. (¬2) معونة أولي النهى شرح المنتهى لابن النجار: 3/ 88. (¬3) المحلى لابن حزم: 5/ 197، 7/ 8، 59. 8/ 27. 28، 192.

قال ابن حزم رحمه الله تعالى: "ومن مات وعليه نذر ففرضٌ أن يؤدى عنه من رأس ماله قبل ديون النَّاس كلها، فإن فضل شيء كان لديون النَّاس" (¬1). ثمّ قال: "فإن كان نذر صلاةً صلاها عنه وليه ... فإن أبى الولي استؤجر من رأس ماله من يؤدِّي دين الله تعالى ... وهو قول أبي سليمان (¬2)، وأصحابنا" (¬3). وقال في موضع آخر: " ... وأمّا الصّلاة المنسية، والمنوم عنها، والمنذورة فهي لازمة للمرء إلى حين موته، فهذه تؤدى عن الميِّت، فالإجارة في أدائها عنه جائزة ... (¬4). والتفصيل في مذهب الظاهرية هو كما مر معنا في مذهب الحنابلة بمعنى: أن على الولي أداء ذلك عن الميِّت استحبابًا، إِلَّا إنَّ خلف تركة ففرض على الأولياء أن يؤدوا ذلك عنه من رأس ماله (¬5). ¬

_ (¬1) المحلى: 8/ 27. وقد نسب ابن حزم هذا القول لإسحاق ابن راهويه. (¬2) هو: داود بن علي بن خلف، أبو سليمان، الأصبهاني، الملقب بالظاهري، إمام المذهب الظاهري، وإليه ينسب المذهب الظاهري، ولد بالكوفة سنة 200 هـ، وقيل: 201 هـ، كان في أول أمره شافعي المذهب، ثمّ استقل بمذهب، ذكر له مؤلفات كثيرة منها: إبطال القياس، وخبر الواحد، وكتاب الحجة، وغيرها. توفي في الكوفة سنة: 270 هـ: (طبقات الشّافعيّة الكبرى: 2/ 284، وفيات الأعيان: 2/ 255، شذرات الذهب: 3/ 297). (¬3) المحلى: 8/ 28. (¬4) المحلى: 8/ 192. (¬5) نقل الإمام ابن قدامة كما في المغني: 13/ 656، أن مذهب الظاهرية هو وجوب القضاء على الولي، وليس الاستحباب، ولم يظهر لي من خلال النظر في كلام ابن حزم ذلك، ولم ينص على وجوب ذلك على الولي، ولكنه نصّ على فرضية ذلك على الولي في مال الميِّت، كما نقلت ذلك عنه (انظر: المحلى: 7/ 27)؛ فمذهبه في ذلك كمذهب الحنابلة سواء بسواء، والله أعلم.

القول الثّالث: لا يجوز مطلقًا الاستئجار على قضاء الصّلاة عن الميِّت، سواء أكانت صلاة فرض، تركها لعذر، أو لغير عذر، أم كانت صلاة نذر. وإلى هذا ذهب جمهور العلماء من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشّافعيّة (¬3)، وهو الرِّواية الثّانية عند الحنابلة (¬4). ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي: 3/ 90، 4/ 152، بدائع الصنائع للكاساني: 2/ 212، 4/ 191 - 192، شرح فتح القدير لابن الهمام: 2/ 84، 85، 308 - 310، درر الحكام لمنلاخسرو: 1/ 209، والبحر الرائق لابن نجيم: 3/ 64 - 65، مجمع الأنّهر في شرح ملتقى الأبحر لداماد أفندي: 1/ 250، وحاشية ابن عابدين: 1/ 237، 492، 5/ 484. تنبيه: كما ذكرت، فإن مذهب الحنفية هو عدم جواز النِّيابة في قضاء الصّلاة عن الميِّت والاستئجار على ذلك، إِلَّا أنّهم ذهبوا إلى نوع آخر من البدل، ألَّا وهو الإطعام؛ فقالوا: إنَّ مات وعليه صلوات فائتة، بأن كان يقدر على أدائها، ولو بالإيماء فيلزم الإيصاء بها، فإن أوصى، فإنّه يطعم عن كلّ صلاة فرض تركها مسكينًا بمقدار نصف صالح من البرّ، أو صاع من غيره كالفطرة، أو قيمة ذلك، وهو الأفضل في الذهب، فإن كان لايقدر على أداء الصلوات الفائتة، ولو بالإيماء فلا يلزم الإيصاء، فإن كان يلزم الإيصاء على الصِّفَة الّتي ذكرنا قبلُ، ولم يوص فلا يلزم الولي شيئًا. وانظر: المبسوط: 3/ 90، حاشية ابن عابدين: 1/ 491 - 492. قلتُ: وهذا وجه عند الشّافعيّة كذلك. انظر: تحفة المحتاج: 3/ 439، حاشية قليوبي: 2/ 67. (¬2) عارضة الأحوذي لابن العربي: 3/ 240، الفروق للقرافي: 2/ 205 - 206، 3/ 186، مواهب الجليل للحطاب: 2/ 543 - 544، شرح الزرقاني على خليل: 2/ 238، 7/ 23 - 24، الخرشي على خليل: 7/ 23، منح الجليل لعلّيش: 1/ 202. (¬3) الأم للشافعي: 2/ 115، المجموع شرح المهذب: 6/ 372، 7/ 139، تحفة المحتاج: 6/ 155، مغني المحتاج: 2/ 344، شرح المحلي على المنهاج مع حاشيتي قليوبي وعميرة: 3/ 76، أسنى المطالب: 2/ 410، زاد المحتاج للكوهجي: 2/ 378. (¬4) المغني لابن قدامة: 8/ 141، 13/ 655، الكافي لابن قدامة: 2/ 304، المقنع لابن البنا: 3/ 1281، الشرح الكبير لشمس الدِّين ابن قدامة: 3/ 91 - 92، شرح الزركشي على الخرقي: 7/ 228، المبدع لإبراهيم بن مفلح: 3/ 49 - 50، الإنصاف. للمرداوي: 2/ 340، كشاف القناع: 4/ 12، وانظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام: 30/ 203.

القول الرّابع: يجوز مطلقًا الاستئجار على أداء الصّلاة عن الميِّت، سواء أكانت صلاة فرض، تركها لعذر، أو لغير عذر، أم كانت صلاة نذر. وإلى هذا ذهب أبو محمّد بن عبد الحكم (¬1) من أصحاب مالك (¬2)، وهو مذهب الشّافعيّ القديم (¬3)، وبه قال جمع من محققي المتأخرين؛ كتقي الدِّين السبكي (¬4)، وابن أبي عصرون (¬5)، وغيرهم (¬6)، وحُكي عن عطاء بن أبي ¬

_ (¬1) هو: عبد الله بن عبد الحكم بن أعين بن ليث بن رافع، أبو محمّد المصري، الفقيه المالكي الحافظ، صاحب الإمام مالك رحمه الله. ولد بالأسكندرية سنة 150 هـ، وكان من أعلم أصحاب مالك، وانتهت إليه رئاسة المذهب في مصر بعد أشهب، من مؤلفاته: سيرة عمر بن عبد العزيز، القضاء في البنيان، المناسك. توفي بالقاهرة سنة 214 هـ: (الديباج المذهب لابن فرحون: ص/ 134، شجرة النور الزكية لمخلوف: ص/ 59. (¬2) مواهب الجليل للحطاب: 2/ 543. (¬3) طبقات الشّافعيّة الكبرى لابن السبكي: 10/ 229، تحفة المحتاج مع حاشيتي الشرواني والعبادي: 3/ 439، حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج: 3/ 193، وانظر: شرح السُّنَّة للبغوي: 6/ 327. (¬4) هو: علي بن عبد الكافي، تقي الدِّين السبكي الشّافعيّ، وهو فقيه، محدث، مفسر، أصولي، لغوي، ولد سنة 683 هـ بسبك من أعمال المنوفية بمصر، وتوفي بالقاهرة سنة 756 هـ، من مؤلفاته: الابتهاج في شرح المنهاج في الفقه، والإبهاج في شرح المنهاج في أصول الفقه، أكمله ولده تاج الدِّين. (طبقات الشّافعيّة الكبرى: 10/ 139، البداية والنهاية لابن كثير: 14/ 149). (¬5) هو: عبد الله بن محمّد بن هبة الله بن علي، المعروف بابن أبي عصرون، الفقيه، الشّافعيّ، ولد بالموصل سنة 492 هـ، وتوفي بدمشق سنة 585 هـ له مؤلفات كثيرة منها: صفوة المذهب على نهاية المطلب، والانتصار والمرشد، وغيرها: (طبقات الشّافعيّة الكبرى: 7/ 132، البداية والنهاية لابن كثير: 12/ 355). (¬6) انظر: شرح صحيح مسلم للنووي: 1/ 90، تحفة المحتاج مع حواشيه: 3/ 439، إعانة الطالبين على فتح المعين البكري: 2/ 244.

الأدلة والمناقشة

رباح (¬1)، وإسحاق بن راهويه (¬2)، (¬3)، وهو قول أبي الخطّاب (¬4) من الحنابلة (¬5). الأدلة والمناقشة: تنبيه: يلحظ من خلال الأقوال السابقة أن العلماء رحمهم الله تعالى في هذه المسألة طرفان، ووسط: ¬

_ (¬1) هو: عطاء بن أبي رياح، وأبو رياح هذا اسمه (أسلم)، القرشي المكي، هو تابعي، فقيه من أجلاء الفقهاء، ثقة فاضل، مفتي أهل مكّة، ومحدثهم، ولد سنة 27 هـ في خلافة عثمان، وقيل في خلافة عمر، قال الحافظ ابن حجر: ثقة، فقيه، فاضل، لكنه كثير الإرسال، من الثّالثة، توفي سنة 114 هـ على التصحيح. (تذكرة الحفاظ للذهبي: 1/ 98، تهذيب التهذيب: 7/ 199، والتقريب: 677). (¬2) هو: إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي، أبو محمّد، وشهرته، إسحاق بن راهويه، المروزي، ولد سنة 161 هـ، وكان ثقة فقيهًا مجتهدًا حافظًا، وهو قرين لأحمد بن حنبل، قيل: إنّه تغير قبل موته بيسير، توفي سنة 238 هـ (ميزان الاعتدال للذهبي: 1/ 182، تهذيب التهذيب: 1/ 216، تقريب التهذيب: 2126. (¬3) شرح مسلم للنووي: 1/ 95، حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج: 4/ 193، المحلى لابن أحزم: 7/ 8. (¬4) هو: محفوظ بن أحمد بن الحسن بن أحمد الكلوذاني، أبو الخطّاب البغدادي، الفقيه الحنبلي الأصولي، كان أحد أئمة المذهب وأعيانه، من مؤلفاته: التمهيد في أصول الفقه، الهداية في الفقه، الانتصار للمسائل الكبار، التهذيب في الفرائض، وغيرها، توفي ببغداد سنة 510 هـ. (ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب: 1/ 116، المنهج الأحمد للعلّيمي: 3/ 57). (¬5) الفروع لابن مفلح: 3/ 95.

أولا: أدلة أصحاب القول الرابع

فالطرف الأوّل منع مطلقًا، وهم أصحاب القول الثّالث. والطرف الآخر أجاز مطلقًا، وهم أصحاب القول الرّابع. والوسط، وهم أصحاب القول الأوّل، والقول الثّاني لم يجيزوا مطلقًا، ولم يمنعوا مطلقًا، بل توسطوا بين الفريقين، على تفاوت بينهما في ذلك؛ فأصحاب القول الأوّل: أجازوا في النَّذْر فقط، ومنعوا في الباقي، وأصحاب القول الثّاني: أجازوا في النَّذْر، وما تركه من الفرائض بعذر شرعي؛ كالمنوم عنها، والمنسية. وبناءً على هذا، فإننا نلحظ تداخلًا في الاستدلال؛ فأدلة من منع مطلقًا - وهم أصحاب القول الثّالث - هي نفسها أدلة القول الأوّل، وأدلة القول الثّاني، إِلَّا أنّها عندهم، مخصصة بأدلة تدل على جواز ذلك في النَّذْر، أو في النَّذْر وما تركه من الفرائض لعذر، وأدلة من أجاز مطلقًا هي نفسها أدلة القول الأوّل، والقول الثّاني الخاصة بالفرائض المتروكة لعذر، والمنذورة؛ فأخذوا هذه الأدلة، وعمومها في باقي الفرائض، إضافة إلى بعض الأدلة الأخرى عندهم، كما سيأتي. أوَّلًا: أدلة أصحاب القول الرّابع: استدل أصحاب هذا القول القائلون بالجواز مطلقًا، بأدلة من الكتاب، والسُّنَّة، والمعقول. أ - أدلتهم من القرآن: قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النِّساء: 12].

مناقشة الاستدلال

وجه الاستدلال: دلت هذه الآية الكريمة أنّه يجب قضاء الديون الّتي على الميِّت، وهذه الديون مقدمة على حقوق الورثة، وكلمة (دين) في الآية الكريمة جاءت مطلقة؛ فتشمل ما كان دينًا لله -عَزَّ وَجَلَّ-، وما كان دينًا للآدمي، ومن هذه الديون الّتي لله -عَزَّ وَجَلَّ- الصّلاة؛ فإن مات وعليه صلاة فرض، أو نذر، ولم يصلها عنه وليه، أو تطوع بها عنه أجنبي، فإنّه يجب على الولي أن يستأجر من تركة الميِّت من يؤدِّي عنه الصلوات الّتي تركها (¬1). مناقشة الاستدلال: نوقش الاستدلال بهذه الآية الكريمة بما يأتي: (1) أن المراد بالدَّيْن في الآية هو دين الآدمبين دون فرض الله -عَزَّ وَجَلَّ-. وهذا ما يفهم من الآية عند الإطلاق؛ قال الجصاص (¬2): "وقوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصيُّةِ يُوصي بهَا أوْ دَيْنِ) يدلُّ على أن من ليس عليه دين لآدمي، ولم يوص بشيء ¬

_ (¬1) المحلى لابن حزم 8/ 8/ 27، تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنان للشيخ السعدي: 2/ 23، طبعة الإفتاء 1404 هـ (¬2) هو: أحمد بن علي، أبوبكر الرازي المعروف بالجصاص، الفقيه الحنفي الأصولي، المفسر، ولد سنة 305 هـ، وقدم بغداد، واستقر بها إلى أن مات، وإليه انتهت رئاسة المذهب الحنفي بها، وقد توفي سنة 370 هـ، له مؤلفات كثيرة في شتى العلوم منها: 1 - أحكام القرآن - هو في التفسير-، 2 - شرح مختصر الطحاوي، 3 - شرح الجامع لمحمد بن الحسن في الفقه. وغيرها كثير .. : الجواهر المضية للقرشي: 1/ 220، الدرر السنية للغزي: 1/ 412، تاج التراجم لابن قطلوبغا: ص 17.

الجواب عن هذة المناقشة

أن جميع ميراثه لورثته، وأنّه إنَّ كان عليه حج، أو زكاة لم يجب إخراجه إِلَّا أن يوصى به، وكذلك الكفارات، والنذور، فإن قيل: إنَّ الحجِّ دين، وكذلك كلّ ما يلزمه لله تعالى من القرب في المال؛ لقول النّبيّ -صلّي الله عليه وسلم- للخثعمية حين سألته عن الحجِّ عن أبيها: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزئ؟ "، قالت: نعم. قال: "فدين الله أحق بالقضاء" (¬1)، قيل له: إنَّ النّبيّ -صلّي الله عليه وسلم- إنّما سماه (دين الله تعالى)، ولم يسمه بهذا الاسم إِلَّا مقيدًا، فلا يتناول الإطلاق، وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} إنّما اقتضى التبدئة بما يسمى به على الإطلاق، فلا ينطوي تحته ما لا يسمى به إِلَّا مقيدًا؛ لأنّ في اللُّغة والشرع أسماء مطلقة، وأسماء مقيدة، فلا يتناول المطلق إِلَّا ما يقع الاسم عليه على الإطلاق، فإذا لم تتناول الآية ما كان حقًا لله تعالى من الديون لما وصفنا اقتضى قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} أنّه إذا لم يوص، ولم يكن عليه دين لآدمي أن يستحق الوارث جميع تركته" (¬2). الجواب عن هذة المناقشة: أجيب عن هذه المناقشة بما يأتي: أوَّلًا: أن اللُّغة والشرع يدلُّان على أن الصّلاة دين، وأنّها داخلة تحت هذه الآية. أمّا اللُّغة: فهي أن الدِّين عبارة عن الأمر الموجب للانقياد؛ قيل في الدعوات المشهورة: يا من دانت له الرقاب؛ أي: انقادت. وأمّا الشّرع: فلأنّه ثبت تسمية الصِّيام، والحج بذلك؛ فالصلاة من باب أولى (¬3). ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه مفصلًا عند ذكر الأدلة من السُّنَّة في ص/ 157. (¬2) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 31 - 32. دار إحياء التراث العربي - بيروت. (¬3) التفسير الكبير ومفاتيح الغيب للفخر الرازي: 9/ 232، دار الفكر - بيروت.

ب - الأدلة من السنة المطهرة

ثانيًا: أن ما ذكره الجصاص كلام لايستقيم؛ قال الفخر الرازي (¬1) ردًا على ما ذكره الجصاص: "هذا في غاية الركاكة؛ لأنّه لما ثبت أن هذا دين، وثبت بحكم الآية أن الدِّين مقدم على الميراث لزم المقصود لا محالة، وحديث الإطلاق والتقييد كلام مهمل لايقدح في هذا المطلوب" (¬2). 2 - ويمكن مناقشة هذه الآية كذلك: بأنّه على فرض التسليم بأن كلمة (دين) في الآية تشمل دين الله تبارك وتعالى، فإن الّذي يُقضى من ديون الله تعالى، هو ما له تعلّق بالمال؛ كالزكاة، ونحوها، وكذلك يقضى منها الحجِّ، والصوم؛ لورود النص بذلك، أمّا الصّلاة فلم يردّ بخصوصها نصّ، فلا تدخل تحت هذه الآية. وحاصل ذلك: أن الآية خاصّة بالديون المالية، ويلحق بها ما ورد به النص، من الديون غير المالية، وما عدا ذلك فلا يدخل تحت هذه الآية. ب - الأدلة من السُّنَّة المطهرة: الدّليل الأوّل: عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النّبيّ -صلّي الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إنَّ أمي ماتت، وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ فقال -صلّي الله عليه وسلم-: "لو كان على ¬

_ (¬1) هو: محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري، أبو عبد الله فخر الدِّين الرازي المعروف بابن الخطيب، الفقيه الشّافعيّ، الأصولي، المتكلم، المفسر، الأديب، برع في شتى العلوم، وله مؤلفات كثيرة منها: التفسير الكبير، ومفاتيح الغيب، المحصول في علم الأصول، وشرح الوجيز للغزالي، وغيرها، توفي سنة: 606 هـ: (طبقات الشّافعيّة الكبرى: 8/ 81، وفيات الأعيان لابن خلكان: 4/ 248). (¬2) التفسير الكبير للرازي: 9/ 232 - 233.

وجه الاستدلال

أمك دين، أكنت قاضيه عنها؟ "قال: نعم. فقال -صلّي الله عليه وسلم-: (فدين الله أحق أن يقضى) (¬1). وجه الاستدلال: حيث دلّ الحديث على وجوب قضاء الصوم عن الميِّت، وقد علل ذلك النّبيّ -صلّي الله عليه وسلم- بأنّه دين لله تعالى، وشبهه بدين الآدمبين، وجعله أحق بالوفاء من دين الآدمبين؛ فكذلك الصّلاة فإنها دين لله على العبيد كالصوم، يجب قضاؤه بجامع أن كلًا منهما عبادة تجب على العبد حال الحياة. وعليه، فإن خلف الميِّت تركة وجب على أوليائه استئجار من يؤدِّي عنه الصلوات الّتي تركلها.- إن لم يتطوع أحدٌ عنه بذلك -. الدّليل الثّاني: عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة من جهينة إلى النّبيّ-صلّي الله عليه وسلم- فقالت: إنَّ أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتّى ماتت؛ أفأحج عنها؟ قال: (نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين، أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء) (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ، كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم: 4/ 227، (1953)، ومسلم: كتاب الصِّيام، باب قضاء الصِّيام عن الميِّت: 2/ 804) (1148)، وأحمد: 1/ 279 (1969)، 282 (2004)، 321 (2335)، 453 (3419)، وابن ماجه: 1/ 559 (1758). (¬2) أخرجه البخاريّ: كتاب جزاء الصَّيد، باب الحجِّ والنذور عن الميِّت، والرجل يحج عن المرأة: 4/ 77 (1852)، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة، باب من شبه أصلًا معلومًا بأصل مبين، وقد بين النّبيّ-صلّي الله عليه وسلم- حكمهما ليفهم السائل: 13/ 309 (7315)، والنسائي في المناسك، باب الحجِّ عن الميِّت الّذي نذر أن يحج 5/ 123 (2631)، والدارمي في: النذور والأيمان، باب الوفاء بالنذر: 2/ 239 (2332)، وأحمد: 1/ 298 (2139).

وجه الاستدلال

وفي رواية عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: أن رجل النّبيّ -صلّي الله عليه وسلم-، فقال له: إنَّ أختي نذرت أن تحج وإنها ماتت. فقال النّبيّ -صلّي الله عليه وسلم-: (لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟). قال: نعم. قال: (فاقض الله فهو أحق بالقضاء) (¬1). وجه الاستدلال: حيث دلّ الحديث على وجوب قضاء الحجِّ عن الميِّت، وبين النّبيّ -صلّي الله عليه وسلم- أن دين الله أحق بالوفاء من دين الآدمبين، فكذلك الصّلاة فإنها من أهم ديون الله على عباده حال الحياة. وعليه، فإن الميِّت إنَّ خلف تركة وجب على أوليائه- إنَّ لم يتبرع أحد بأدائه ذلك عنه - استئجار من يؤدِّي عنه الصلوات الّتي تركها. الدّليل الثّالث: وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما؛ قال: جاء رجل إلى النّبيّ -صلّي الله عليه وسلم-، فقال: "إنَّ أبي مات ولم يحج، أفأحج عنه؟ قال - صلّى الله عليه وسلم -: (أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟) قال: نعم. قال: (فدين الله أحقُّ، حجّ عنه) (¬2). وجه الاستدلال: دلّ الحديث كسابقه على أن الحجِّ دين الله على العبد، وأنّه يجب على أوليائه قضاؤه، حيث شبهه النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بدين الآدمبين في وجوب القضاء، فكذلك ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ في الأيمان والنذور، باب من مات وعليه نذر: 11/ 592 (6699)، وأحمد: 1/ 431 (3223). (¬2) أخرجه النسائي في الصغرى، كتاب المناسك، باب تشبيه قضاء الحجِّ بقضاء الدِّين: 5/ 125 (2638)، والطحاوي في مشكل الآثار واللفظ له: 6/ 370 (2542) طبع مؤسسة الرسالة بيروت، والطبراني في المعجم الكبير: 12/ 15 (12332).

مناقشة الاستدلال بالأحاديث السابقة

الصّلاة؛ لأنّها أعظم ديون الله تعالى على عباده. وعليه، فإنّه إنَّ خلف الميِّت تركة، ولم يتطوع عنه أحدٌ بأداء الصلوات الّتي تركها، فإنّه يجب على أوليائه استئجار من يؤدِّي عنه تلك الصلوات. مناقشة الاستدلال بالأحاديث السابقة: نوقش الاستدلال بالأحاديث السابقة، والتي فيها تشبيه الحجِّ، والصوم بدين الآدميين، وقياس الصّلاة عليهما، بجامع أن كلًا منها عبادة بما يأتي: أوَّلًا: أنّه لا دليل في هذه الأحاديث على أن دين الله هو دين حقيقي كدين الآدميين، ولكنه حق في بدن من هو عليه حتّى يؤدى إلى الله تعالى؛ إذ لو كان دينًا حقيقيًا لكان محالًا أن يشبه بالدين؛ لأنّ الأشياء إنّما تشبَّه بغيرها، ولا تُشبَّه بأنفسها (¬1). الجواب عن هذه المناقشة: يمكن الجواب عن هذه المناقشة بما يأتي: 1 - أن اللُّغة والشرع يدلُّان على أن الصّلاة، والصيام، والحج إنّما هي ديون حقيقية كدين الآدميين، ولا فرق، وقد سبق بيان ذلك (¬2). 2 - أن تشبيه دين الله -عَزَّ وَجَلَّ- بدين الآدميين ليس من باب تشبيه الشيء بنفسه؛ لأنّ أحد الدينين جاء مقيدًا بأنّه لله، والدين الآخر جاء مقيدًا بأنّه للآدميين، ولما كان قد استقر عند السائلين وجوب قضاء دين الآدميين، وخفي عليهم ذلك في ¬

_ (¬1) مشكل الآثار للطحاوي: 6/ 374. (¬2) انظر: ص 156 من هذا الكتاب.

دين الله -عَزَّ وَجَلَّ- بين النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - للسائل أن دين الله -عَزَّ وَجَلَّ- كذلك يجب قضاؤه عن الميِّت، بل جعله النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أحق بالقضاء من دين الآدميين (¬1). فعلم بذلك أن دين الله -عَزَّ وَجَلَّ- دين حقيقة، وأنّه متعلّق بذمة الميِّت حال حياته وبتركته بعد وفاته. ثانيًا: أن هذه الأحاديث إنّما وردت في قضاء الصوم، والحج، ولم ترد في قضاء الصّلاة؛ فقياسكم الصّلاة على الصوم، والحج، لايصح؛ لأنّ الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إِلَّا ما شرعه الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (¬2). فباب العبادات يقتصر فيه على النصوص، ولا يجوز التصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء. وعليه، فلا دلالة في هذه الأحاديث على مشروعية قضاء الصّلاة عن الميِّت، وأخذ الأجرة على ذلك (¬3). ¬

_ (¬1) في هذه المسألة خلاف بين الفقهاء، فقد اختلفوا في أي الدينين يقدم إذا ضاقت التركة عنهما؛ فذهب الشّافعيّة إلى تقديم دين الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وذهب المالكية إلى تقديم دين العباد على دين الله -عَزَّ وَجَلَّ-. أمّا الحنفية فقالوا: إنَّ دين الله -عَزَّ وَجَلَّ- يسقط بالموت، إِلَّا إذا أُوصيَ به، فإنّه يخرج من ثلث التركة، وأمّا الحنابلة فيقدمون الدِّين المتعلّق بعين التركة، أو ببعضها، كالدين المرهون به شيء من التركة، ثمّ بعد ذلك الديون المتعلّقة بذمة المتوفى، ولا فرق في ذلك بين دين الله -عَزَّ وَجَلَّ- ودين الآدمي. انظر في ذلك: حاشية ابن عابدين: 1/ 492، 5/ 484، الشرح الصغير للدردير: 4/ 618، نهاية المحتاج للرملي: 6/ 7، كشاف القناع للبهوتي: 4/ 403 - 404. (¬2) سورة الشورى، آية: 21. (¬3) انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: 29/ 17، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 7/ 440 - 441 (طبعة دار الشعب).

جـ - أدلتهم من المعقول

جـ - أدلتهم من المعقول: الدّليل الأوّل: القياس على ركعتي الطّواف؛ فقد أجمع العلماء على جواز أن تصلّى الركعتان إثر الطّواف عن الميِّت الّذي يحج عنه، فإذا جازت صلاة ركعتي الطّواف عن الميِّت، وهي نافلة، فجواز صلاة الفريضة من باب أولى، فإن تعذر ذلك إِلَّا بالاستئجار فإنّه يستأجر من تركته من يؤدِّي عنه ما فاته من صلاة (¬1). مناقشة الاستدلال: 1 - نوقش هذا القياس بأنّه قياس مع الفارق؛ فإن ركعتي الطّواف إنّما جازت النِّيابة فيها على سبيل التبع، ويجوز في التبع ما لا يجوز في غيره (¬2). 2 - لا نسلم لكم أن ركعتي الطّواف تقعان عن الميِّت، بل العلماء مختلفون في ذلك حيث ذهب بعض العلماء إلى أنّهما يقعان عن الأجير، وليس عن الميِّت (¬3). الدّليل الثّاني: القياس على الدُّعاء، والصدقة، والحج، فكما أن هذه العبادات تصل ¬

_ (¬1) المحلى لابن حزم: 7/ 8، 59، وهو الّذي ادعى الإجماع المذكور، وهو منقوض - كما سيأتي في الناقشة -. (¬2) الموافقات للشاطبي: 2/ 182، وهناك قاعدة فقهية نصها: "يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها". انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 232، والأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 121، شرح القواعد الفقهية للزرقاء، ص 229، ونص القاعدةُ عنده: "يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع". (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم: 1/ 90. وهذا ينقض الإجماع الّذي ادعاه ابن حزم.

مناقشة الاستدلال

للميت، وتنفعه، فكذلك الصّلاة، فعلى الولي أن يقضي عن الميِّت ما فاته من صلوات، فإن تعذر ذلك أخرج من التركة أجرة من يصلّي عنه الصلوات الّتي تركها (¬1). مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الدّليل بما يأتي: 1 - أن هذه الأشياء المقيس عليها قد جاءت بخصوصها نصوص تدل على مشروعيتها، وانعقد الإجماع على ذلك، بخلاف الصّلاة حيث لم يردّ نصّ في مشروعيتها عن الميِّت، وقد تقدّم أن العبادات لا تثبت بالآراء والأقيسة، بل لابد فيها من النصوص (¬2). 2 - أن القياس على الدُّعاء، والصدقة، والحج قياس مع الفارق، وبيان ذلك: أن الدُّعاء ليس فيه نيابة؛ لأنّه شفاعة للغير، فليس من هذا الباب في شيء. وأمّا الصَّدقة، وان كانت عبادة، فليست من باب النِّيابة؛ لأنّ كلامنا إنّما هو في نيابة في عبادة، من حيث هي تقرب إلى الله تعالى، وتوجه إليه، والصدقة عن الغير من باب التصرفات المالية. وأمّا الحجِّ فإنّه قد جاءت النصوص الدالة على جواز النِّيابة فيه، ثمّ إنّه من المصالح معقولة المعنى، ولا يشترط فيه نيّة المنوب عنه (¬3). ¬

_ (¬1) شرح النووي على صحيح مسلم: 1/ 90. (¬2) المرجع السابق نفسه. (¬3) الموافقات للشاطبي: 2/ 180.

ثانيا: أدلة أصحاب القول الثالث

ثانيًا: أدلة أصحاب القول الثّالث: استدل أصحاب هذا القول - وهم الجمهور- على ما ذهبوا إليه من منع الإجارة على الصّلاة عن الغير بأدلة من القرآن، والسُّنَّة، والأثر، والإجماع، والمعقول. أ - الأدلة من القرآن: الدّليل الأوّل: قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]. وجه الاستدلال: دلت هذه الآية الكريمة على أن الإنسان ليس له إِلَّا سعيه، وعمله، وأن سعي غيره لا ينفعه، فإذا صلّى عنه غيره، فلا يصح، ولا ينفعه، وهذا ما أفاده عموم الآية، والآية عامة في كلّ العبادات، إِلَّا ما خص بدليل، ولم يأت دليل في الصّلاة عن الغير يخصص عموم هذه الآية (1). مناقشة الاستدلال: نوقش الاستدلال بهذه الآية بما يأتي: 1 - أن عموم هذه الآية مخصوص بنصوص كثيرة تدل على انتفاع الإنسان بعمل غيره بعد موته، وبأن الولي ينوب عن الميِّت في قضاء ما عليه من ديون الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وديون الآدميين. (1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 4/ 151، 17/ 114، بدائع الصنائع للكاساني: 2/ 212، شرح فتح القدير لابن الهمام: 2/ 408، 410.

الجواب عن دعوى النسخ

ومن هذه النصوص: قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النِّساء: 12]. وقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "فدين الله أحق أن يقضى" (¬1). وقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "من مات وعليه صوم صام عنه وليه" (¬2). وغير ذلك من النصوص الكثيرة الّتي سبق الكلام عنها، وسيأتي الكلام عن بعضها كذلك في مباحث الحجِّ، والصوم - إن شاء الله تعالى -. 2 - نوقشت هذه الآية كذلك بأنّها منسوخة بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21]. وبغيرها من النصوص الّتي سبق ذكرها، ودلت على أن الإنسان ينتفع بعمل غيره (¬3). الجواب عن دعوى النسخ: أجيب عن دعوى النسخ بما يأتي: أوَّلًا: أن الآية من قبيل الإخبارات، ولا يجرى النسخ في الخبز (¬4). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه والكلام حوله. انظر: ص/ 157. (¬2) متفق عليه. أخرجه البخاريّ في الصوم، باب من مات وعليه صوم: 4/ 226 (1952)، وأخرجه مسلم في الصِّيام، باب قضاء الصوم من الميِّت: 2/ 803 (1147) كلاهما عن حديث عائشة. (¬3) شرح فتح القدير لابن الهمام: 2/ 309، البدع لأنَّ مفلح: 2/ 281، الرُّوح لابن القيم: ص 126 - 127، وانظر: جامع البيان للطبري: 13/ 74، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 17/ 114. (¬4) شرح فتح القدير لابن الهمام: 2/ 309.

ثانيًا: أن الآية محكمة، والجمع بينها وبين الآية الأخرى الّتي قيل إنها ناسخة ممكن؛ قال ابن القيم (¬1): "وقالت طائفة أخرى: الآية منسوخة بقول تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ}، وهذا منقول عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، وهذا ضعيف أيضًا، ولايرفع حكم الآية بمجرد قول ابن عبّاس رضي الله عنهما، ولا غيره أنّها منسوخة، والجمع بين الآيتين غير متعذر، ولا ممتنع، فإن الأبناء اتبعوا الآباء في الآخرة، كما كانوا تبعًا لهم في الدنيا، وهذه التبعية هي من كرامة الآباء، وثوابهم الّذي نالوه بسعيهم. وأمّا كون الأبناء لحقوا بهم في الدرجة بلا سعي منهم، فهذا ليس هو لهم، وإنّما هو للآباء أقرّ الله أعينهم بإلحاق ذريتهم بهم في الجنَّة، وتفضل على الأبناء بشيء لم يكن لهم، كما تفضل بذلك على الوِلدان، والحور العين، والخلق الذين ينشئهم للجنة بغير أعمال، والقوم الذين يدخلهم الجنَّة بلا خير قدموه، ولا عمل عملوه، فقوله تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38]، وقوله تعالى؛ {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}، آيتان محكمتان يقتضيهما عدل الرب، وكماله القدس، والعقل، والفطرة شاهدان بهما" (¬2). ¬

_ (¬1) هو: محمّد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي، أبو عبد الله شمس الدِّين المعروف بابن قيم الجوزية، الفقيه الحنبلي الأصولي، المحدث المفسر النحوي الأديب الواعظ الخطيب، المصلح، المجتهد، ولد بدمشق، وبرع في كلّ العلوم، تتلمذ على شيخ الإسلام ابن تيمية، له مؤلفات عظيمة جليلة منها: زاد المعاد في هدى خير العباد، أعلام الموقعين، وإغاثة اللهفان من مكائد الشيطان، وبدائع الفوائد، وغيرها كثير، توفي سنة 751 هـ بدمشق: (ذيل طبقات الحنابلة: 2/ 447، الدرر الكامنة لابن حجر: 3/ 400). (¬2) الرُّوح لابن القيم: ص/ 126 - 127.

3 - أن المراد بالإنسان في الآية هو الكافر دون المؤمّن، فأمّا المؤمّن فإن له ما سعى، وما سُعِيَ له، بالأدلة الكثيرة الدالة على وصول ثواب الغير، وانتفاع الإنسان بعمل غيره (¬1). الجواب: أجيب عن المناقشة بأنّها ضعيفة جدًا، وأن مثل هذا العام لا يراد به الكافر وحده، بل هو للمسلم والكافر، وهو كالعام الّذي قبل، وهو قوله تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38]. والسياق كله من أوله إلى آخره كالصريح في إرادة العموم لقوله تعالى: {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم: 40]، وهذا يعم الشر والخير قطعًا، ويتناول البرّ والفاجر، والمؤمن والكافر (¬2). 4 - قالوا: إنَّ الآية إخبار بشرع من قبلنا، وقد دلّ شرعنا على أن له ما سعى، وما سُعِيَ له (¬3). الجواب: أُجيبَ عن ذلك: بأنّه ضعيف جدًا؛ لأنّ الله تعالى أخبر بذلك إخبار مقرر له، محتج به، لا إخبار مبطل له، ولهذا قال: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} [النجم: 36]، فلو كان هذا باطلًا في هذه الشّريعة، لم يخبر به إخبار مقرر له محتج به (¬4). ¬

_ (¬1) المرجع السابق: ص/ 125. (¬2) الرُّوح لابن القيم: ص/12. (¬3) المرجع السابق: ص/ 126. (¬4) الرُّوح لابن القيم: ص/126. قلت: هناك مناقشات كثيرة حول الآية ذكرها ابن القيم بلغت حوالى تسع مناقشات، وقد أوردها ابن القيم وردّ عليها جميعًا. انظر: الرُّوح لابن القيم: ص/125 - 126.

ب- الأدلة من السنة

ب- الأدلة من السُّنَّة: الدّليل الأوّل: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (إذا مات الإنسان، انقطع عنه عمله إِلَّا من ثلاثة: إِلَّا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولدِ صالح يدعو له) (¬1). وجه الاستدلال: دلّ الحديث على أن عمل المسلم ينقطع بموته، إِلَّا هذه الأشياء الثّلاثة الّتي استثناها النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، وليس منها قضاء الصّلاة عنه؛ فدل على أن النِّيابة عن الميِّت في ذلك لا تصح، ومن ثمّ لا يصح الاستئجار لذلك. مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الحديث: بأنّه ليس فيه حجة. إذ غاية ما يدلُّ عليه أن عمل الإنسان نفسه ينقطع بموته، أمّا عمل غيره عنه فلا يدلُّ الحديث على انقطاعه بموته، ولا المنع من ذلك. وعليه، فلا دلالة في الحديث على ما ذهبوا إليه (¬2). ¬

_ = وقد أورد العيني الحنفي في البناية شرح الهداية ثمانية أوجه في الجواب عن هذه الآية: 4/ 424 - 425. (¬1) أخرجه مسلم بهذا اللّفظ في الوصيَّة، باب ما يلحق الإنسان من الثّواب بعد وفاته: 3/ 1254 (1630)، وأبو داود في الوصايا، باب ما جاء في الصَّدقة عن الميِّت: 3/ 117). (2880)، والترمذي في الأحكام، باب في الوقف: 3/ 660 (1376). والنسائي في الوصايا، باب فضل الصَّدقة عن الميِّت؛ 6/ 561 (3653). (¬2) المحلي لابن حزم: 7/ 4.

الجواب عن هذه المناقشة

الجواب عن هذه المناقشة: يمكن الجواب عن هذه المناقشة بأن عمل الغير عن الميِّت - ومنه الصّلاة - يحتاج في إثباته إلى نصّ من كتاب أو سنة؛ لأنّ قضاء الصّلاة عن الميِّت، والاستئجار لذلك، عبادة تحتاج إلى دليل نصي لإثباتها، ولم يردّ بخصوص الصّلاة عن الغير نصّ، كما ورد في الدُّعاء، والصدقة، والصوم، الحجِّ، ونحو ذلك. قال الشّافعيّ: "ولم يذكر في كتاب، ولا سنة، عن صلاة كفارة من صدقة، ولا أن يقوم بها أحد عن أحد، وكان عمل كلّ امرئ لنفسه، وكانت الصّلاة، والصوم، عمل المرء لنفسه، لا يعمله غيره" (¬1). جـ- الأدلة من الأثر: الدّليل الأول: ما ورد عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال: "لا يصلّي أحد عن أحد، ولا يصوم أحدٌ عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كلّ يوم مدًا من حنطة" (¬2). ¬

_ (¬1) اختلاف الحديث للشافعي مع مختصر المزني: ص/ 561، باب المختلفات الّتي لايثبت بعضها، من مات ولم يحج أو كان عليه نذر. (¬2) أخرجه النسائي في السنن الكبرى، في الصِّيام، باب صوم الحي عن الميِّت: 2/ 175 (2918)، والطحاوي في مشكل الآثار، في باب مشكل ما روي عن رسول الله في الواجب فيمن مات وعليه صيام، هل هو الصِّيام أو الإطعام عنه: 6/ 177، والأثر صحيح الإسناد؛ فقد صحح إسناده ابن التركماني في الجوهر النقي: 4/ 257، والحافظ ابن حجر في الدراية: 1/ 283، والشوكاني في النيل: 4/ 236، والألباني في تخريج الطحاوية ص: 453، وشعيب الأرناؤوط في تخريج مشكل الآثار: 6/ 177.

الدليل الثاني

الدّليل الثّاني: ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه قال: "لايصلّين أحدٌ عن أحد، ولا يصومن أحد عن أحد، ولكن إنَّ كنت فاعلًا تصدقت عنه، أو أهديت" (¬1). وجه الاستدلال بالأثرين السابقين: دلّ الأثران على أنّه لا تجوز النِّيابة في الصّلاة، والصيام مطلقًا. وعليه، فلا تصح النِّيابة عن الميِّت في قضاء ما عليه، ومن ثمّ لا يجوز الاستئجار على ذلك. مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة الاستدلال السابق بما يأتي: أوَّلًا: إنَّ هذه الآثار معارضة لحديث رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - المتفق عليه: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) (¬2). وعليه، فلا يجوز الاستدلال بها. الجواب: ويمكن الجواب عن هذه المناقشة بما يأتي: بأن المعارضة إنّما جاءت في الصوم فقط دون الصّلاة؛ فتبقى دلالة الأثرين على النع من الصّلاة عن الغير، وبالتالي المنع من الاستئجار عليها. ثانيًا: أنّه قد صح عن ابن عبّاس، وابن عمر - رضي الله عنهما - خلاف ذلك، ممّا يدلُّ على الجواز، ومن ذلك: 1 - ما ورد عن ابن عمر أنّه أمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء؛ ¬

_ (¬1) أخرج عبد الرزاق في المصنِّف: في الوصايا، باب الصَّدقة عن الميِّت: 9/ 61 (16346)، وذكره مالك بلاغًا في الموطَّأ: 1/ 303، في الصِّيام، باب النَّذْر في الصِّيام، والصيام عن الميِّت. (¬2) تقدّم تخريجه ص: 163.

الجواب

فقال: صلّي عنها (¬1). والدلالة من هذا الأثر ظاهرة. 2 - ما ورد عن ابن عبّاس أنّه قال: "من مات وعليه نذر قضى عنه وليه" (¬2). وجه الاستدلال: أن النَّذْر عام يشمل نذر الصّلاة كذلك. (3) ما ورد عن ابن عبّاس في المرأة الّتي نذرت أن تعتكف عشرة أيّام، فماتت، ولم تعتكف، أنّه قال: "اعتكف عن أمك" (¬3). الجواب: أجيب عن هذه المناقشة: بأنّه يمكن الجمع بين هذه الآثار المتعارضة، بأن يحمل الإثبات في حق من مات، وأمّا النَّفْي فإنّه يحمل في حق الحي (¬4). ومما يؤيد ذلك: 1 - ما ورد عن ابن عبّاس أنّه قال: "إذا مرض الرَّجل في رمضان، ثمّ مات، ولم يصم أُطْعِمَ عنه، ولم يكن عليه قضاء، وإن كان عليه نذر قضى عنه وليه" (¬5). ¬

_ (¬1) أورده البخاريّ في صحيحه معلقًا بصيغة الجزم: في الأيمان والنذور، باب من مات وعليه نذر: 11/ 592 (فتح). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (الجزء المفقود)، ص/65، (وقد طبع هذا الجزء مستقلًا)، وقال الحافظ ابن حجر: أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: فتح الباري: 11/ 592. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة: في الصِّيام، باب ما قالوا في الميِّت يموت وعليه اعتكاف: 3/ 94. (¬4) فتح الباري بشرح صحيح البخاريّ لابن حجر: 11/ 592. (¬5) أخرجه أبو داود في الصوم، باب فيمن مات وعليه صيام: 2/ 315 (2401).

د- دليلهم من الإجماع

2 - ما ورد عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه سئل عن رجل مات وعليه نذر، فقال: يصام عنه النَّذْر (¬1). ثالثًا. إنَّ المراد بالصلاة هنا هي الفريضة، كذلك الصوم. وعليه، فإنّه يحمل النّهي الوارد عن ابن عمر، وابن عبّاس - رضي الله عنهما - على الفريضة. وأمّا الإثبات فإنّه يحمل على النَّذْر، وعلى ذلك لا يكون هناك تعارض (¬2). ومما يؤيد ذلك: أثر ابن عبّاس السابق حيث قال: "إذا مرض الرَّجل في رمضان، ثمّ مات، ولم يصم، أطعم عنه، ولم يكن عليه قضاء وإن كان عليه نذر قضى عنه وليه" (¬3). د- دليلهم من الإجماع: نقل غير واحد من العلماء (¬4) الإجماع على أنّه لا يصلّي أحد عن أحد مطلقًا؛ قال ابن عبد البر: "أمّا الصّلاة فإجماع من العلماء أنّه لايصلّي أحد عن أحد فرضًا عليه، من الصّلاة، ولا سنة، ولا تطوعًا، لا عن حي، ولا عن ميت" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنِّف (الجزء المفقود)، ص/65، وقال ابن حجر: "فعند ابن أبي شيبة بسند صحيح ... " ثمّ ذكره فتح الباري: 11/ 592. (¬2) الرُّوح لابن القيم: ص 137. (¬3) تقدّم تخريجه. (¬4) منهم: ابن بطّال المالكي؛ وذكر ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري: 11/ 593، والعيني في عمدة القاري: 21/ 210، والقاضي عياض المالكي، نقل ذلك عنه الشربيني في مغني المحتاج: 1/ 439، ابن مفلح المبدع: 3/ 50، وابن التركماني في الجوهر النقي مع سنن البيهقي: 4/ 430، والقاضي أبي بكر بن العربي، نقله عنه الشاطبي في الموافقات: 2/ 182، والقرافي في الفروق: 2/ 205. (¬5) الاستذكار لابن عبد البر: 10/ 166 - 167.

مناقشة الإجماع

مناقشة الإجماع: يمكن مناقشة هذا الإجماع بما يأتي: أوَّلًا: لا نسلم بصحة هذا الإجماع؛ وذلك لوجود الخلاف في هذه المسألة، والإجماع يضاده الخلاف، وقد تقدّم ذكر الخلاف، وحكاية الأقوال في هذه المسألة، فلا معنى لذكر الإجماع هنا. ثانيًا: أن هذا الإجماع ليس على إطلاقه، بل هو مقيد بالصلاة عن الحي، ومن أطلقه أراد به ذلك، وقد تقدّم ذكر الإجماع في ذلك عند ذكر تحرير محل النزاع. ويمكن الاعتذار عن هؤلاء بما يأتي: ا- أنّهم لم يبلغهم الخلاف في ذلك. 2 - أنّهم أرادوا به الإجماع داخل مذهبهم، وهو هنا المذهب المالكي؛ حيث إنَّ كلّ من نقل الإجماع في هذه المسألة هو مالكي المذهب، كما تقدّم ذكر ذلك، وهذا كذلك غير مسلَّم؛ حيث يوجد الخلاف كذلك داخل المذهب، وممن خالف في ذلك: ابن عبد الحكم، وابن وهب (¬1)، ¬

_ قلت: قد نقل الاتفاق على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى؛ قال: "صلاة الفرض، لا يفعلها أحد عن أحد، لا بأجرة، ولا بغير أجرة باتِّفاق الأئمة، بل لا يجوز أن يستأجر أحدًا ليصلّي عنه نافلة باتِّفاق الأئمة، لا في حياته، ولا في مماته، فكيف من يستأجر ليصلّى عنه فريضة: "مجموع الفتاوى: 30/ 203. قلتُ: وقد أطلق شيخ الإسلام رحمه الله الخلاف في صلاة النَّذْر، ولم يرجح، ولكن يفهم من كلامه هذا أنّه لا يجيز ذلك، وهذه هي الرِّواية الثّانية عند الحنابلة - كما مرّ -. (¬1) هو: عبد الله بن وهب بن مسلم المصري، أبو محمّد الفقيه المجتهد، أحد أصحاب مالك. من مؤلفاته: الجامع في الحديث، والموطَّأ، والمناسك، والمغازي، وغيرها، توفي سنة 197 هـ بمصر. (الديباج المذهب ص/ 132، شجرة النور الزكية: ص 58).

هـ- أدلتهم من المعقول

وأبو مُصْعَب (¬1)، من أصحاب مالك؛ قال ابن حجر بعد ذكر ذلك الخلاف: "وفيه تعقب على ابن بطّال (¬2) حيث نقل الإجماع أنّه لا يصلّي أحد عن أحد، لا فرضًا، ولا سنة، لا عن حي، ولا عن ميت" (¬3). هـ- أدلتهم من المعقول: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ الصّلاة عبادة بدنية محضة، لا تدخلها النِّيابة، لا بالنفس، ولا بالمال (¬4)؛ وذلك لأنّ الغرض من العبادة البدنية هو إتعاب البدن، وقهر النفس الأمارة بالسوء، ولا يحصل ذلك بفعل النائب (¬5). مناقشة الاستدلال: نوقش هذا التعليل: بأنّه لا يلزم من كون العبادة بدنية أن لا تدخلها النِّيابة، فإن ¬

_ (¬1) هو: أبو مُصْعَب، أحمد بن القاسم (أبي بكر) بن عون الزبيري، روى عن مالك الموطَّأ، وغيره من قوله، وهو من الطبقة الصغرى من أصحاب مالك، وهو فقيه أهل المدينة، روى عنه البخاريّ، ومسلم، وغيرهما، توفي سنة 242 هـ بالمدينة على التصحيح: (ترتيب المدارك لعياض: 1/ 511، الديباج المذهب لابن فرحون: ص/ 30). (¬2) هو: أبو الحسن، علي بن خلف بن بطّال البكريّ القرطبي، ثمّ البلنسي، يعرف بابن اللجام، كان من كبار أئمة المالكية، توفي سنة 449 هـ على التصحيح، من مؤلفاته: شرح صحيح البخاريّ، وهو الّذي ينقل منه الحافظ ابن حجر، والاعتصام في الحديث، وكتاب قي الزهد: (ترتيب المدارك لعياض: 4/ 827، سير أعلام النُّبَلاء للذهبي: 18/ 47). (¬3) فتح الباري لابن حجر: 11/ 593. قلت: وفيه تعقب كذلك على شيخ الإسلام ابن تيمية فيما نقله من اتفاق العلماء على أن الصّلاة لا يفعلها أحد عن أحد لا بأجرة، ولا بغيرها، سواء أكانت فرضًا أم نفلًا. (¬4) حاشية ابن عابدين: 1/ 237، شرح الزرقاني على خليل: 2/ 238، 7/ 23 - 24، المجموع شرح المهذب: 7/ 139، المبدع لابن مفلح: 3/ 49، الشرح الكبير مع المغني لشمس الدِّين ابن قدامة: 3/ 92. (¬5) حاشية ابن عابدين: 1/ 237.

الدليل الثاني

الصِّيام عبادة بدنية محضة، بل هو أكثر تعلّقًا بالبدن من الصّلاة، ومع ذلك تدخلها النِّيابة، كما ثبت ذلك في حديث عائشة أن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) (¬1). ثمّ إنّه قد وردت أدلة بخصوص الصّلاة المنذورة، وأنّها تدخلها النِّيابة كما سيأتي. الدّليل الثّاني: أن المقصود من الصّلاة هو الخشوع، والخضوع، وإجلال الرب سبحانه وتعالى، والانقياد تحت حكمه، وعمارة القلب بذكره، حتّى يكون العبد بقلبه، وجوارحه حاضرًا مع الله، ومراقبًا له غير غافل عنه، والنيابة في الصّلاة تنافي هذا المقصود؛ لأنّ ذلك لا يتحقق بفعل النائب، فلا تجوز النِّيابة فيها (¬2). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الاستدلال بما يأتي: أوَّلًا: إنَّ ما ذكر في التعليل إنّما هو المقصود من جميع العبادات، وقد ثبت جواز النِّيابة في الصوم، والحج، وهذا القصد مطلوب فيهما فدلّ على أن ذلك لا ينافي النِّيابة. ثانيًا: إنَّ المسلم المكلَّف قد يؤدِّي الصّلاة بدون خشوع، ولا خضوع حتّى إنّه لا يَعْقِل منها شيئًا، ومع ذلك تصح صلاته، ويسقط بها الفرض، ويكون أجره عليها على قدر ما عقل منها، كما أخبر بذلك النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ ومن ذلك: ما رواه عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله يقول: (إنَّ الرَّجل لينصرف، وما كتب له إِلَّا عُشر صلاته، تسعُها، ثُمنها، سُبعها، سدُسُها، خمسهما، ¬

_ (¬1) تقدّم تخريجه ص/163. (¬2) الفروق للقرافي: 2/ 205، الموافقات للشاطبي: 2/ 175.

أدلة القول الثاني

ربعها، ثلثها، نصفها) (¬1). أدلة القول الثّاني: استدل هؤلاء على ما ذهبوا إليه من جواز أخذ الأجرة على قضاء الصّلاة المنذورة عن الميِّت، وكذلك صلاة الفرض الّتي نسيها، أو نام عنها بأدلة كثيرة من القرآن، والسُّنَّة، والأثر، والمعقول. وقد تقدّم ذكر معظم هذه الأدلة، وهي نفسها أدلة أصحاب القول الأوّل. ومما استدلوا به كذلك على جواز أخذ الأجرة على قضاء الصّلاة المنذورة عن الميِّت ما يأتي: عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما قال: إنَّ سعد بن عبادة الأنصاري استفتى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - في نذر كان على أمه فتوفيت قبل أن تقضيه، فأفتاه أن يقضيه عنها، فكانت سنة بعد" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده: 4/ 319 (18832)، 4/ 321 (18847)، وأبو داود في الصّلاة، باب ما جاء في نقصان الصّلاة: 1/ 503 (796)، والنسائي في الكبرى في السّهو، باب في نقصان الصّلاة: 1/ 211 (611 - 614)، وأبو داود الطيالسي: (650)، والبيهقي في السنن الكبرى: 2/ 181، وابن حبّان في كتاب الصّلاة، باب ذكر البيان أن المرء يكتب له بعض صلاته: 5/ 210) 1889)، والحديث صححه ابن حبّان كما مرّ، وحسنه الألباني كما في صحيح سنن أبي داود: 1/ 151 (714)، وشعيب الأرناؤوط كما في تخريجه لترتيب صحيح ابن حبّان: 5/ 210. (¬2) أخرجه البخاريّ بهذا اللّفظ بزيادة (فكانت سنة بعد)، في الأيمان والنذور، باب من مات وعليه نذر: 11/ 592 (6698)، ولم تأت هذه الزيادة إِلَّا من الطريق المذكور عند البخاريّ فقط. أمّا من غير هذه الزيادة: فقد أخرجه البخاريّ في الوصايا، باب قول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} الآية: 5/ 457 (2761)، ومسلم في النَّذْر، باب الأمر بقضاء النَّذْر: 3/ 1260 (1638)، ومالك في الموطَّأ في النذور والأيمان، باب ما يجب من النذور في المشي: 2/ 472، وأبو داود في الأيمان، باب ما جاء في قضاء النَّذْر عن الميِّت: 3/ 236 (3307)، والترمذي في النذور والأيمان، باب ما جاء في قضاء النَّذْر عن الميِّت: 4/ 99 (1546)، والنسائي في الوصايا، باب فضل الصَّدقة عن الميِّت: 6/ 562 (3659)، وفي الأيمان والنذور، باب من مات وعليه نذر: 7/ 27 (3826).

وجه الاستدلال

وجه الاستدلال: أن الوارث يلزمه قضاء ما على مورثه من نذر، ويدخل في ذلك الصّلاة المنذورة (¬1)، فإن قضاها الولي، وإلا استأجر من رأس ماله من يؤدِّي تلك الصّلاة عنه. قال ابن حزم: "وهذا عموم لكل نذر طاعة، لا يحل لأحد خلافه" (¬2). ومما يؤيد هذا الاستدلال قوله في آخر الحديث: "فكانت سنة بعد"؛ قال ابن حجر: "أي صار قضاء الوارث ما على المورث طريقة شرعية أعم من أن يكون وجوبًا أو ندبًا" (¬3). مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الحديث بأن النَّذْر كان معينًا، ولم يكن عامًا؛ فلا يدخل فيه ما ذكرتم. وعليه، فلا حجة في هذا الحديث. وقد اختلف في هذا التعبين: * قيل: إنَّ هذا النذركان صومًا. واستدل هؤلاء بما رواه ابن عبّاس؛ قال: جاء رجل، فقال: يا رسول الله إنَّ أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: "نعم، فدين الله أحق أن يقضى" (¬4). قال ابن حجر: "وتعقب بأنّه لم يتعين أن الرَّجل المذكور هو سعد بن عبادة" (¬5). ¬

_ (¬1) المحلى لابن حزم: 5/ 197، 8/ 27، فتح الباري لابن حجر: 11/ 593. (¬2) المحلى لابن حزم: 5/ 197. (¬3) فتح الباري لابن حجر: 11/ 593. (¬4) التمهيد لابن عبد البرّ: 9/ 29، وفتح الباري لابن حجر: 11/ 593. (¬5) فتح الباري لابن حجر: 11/ 593.

* وقيل: إنَّ هذا النَّذْر كان عتقًا: واستدلوا على ذلك بما رواه ابن عبّاس؛ قال: إنَّ سعد بن عبادة أتى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، فقال: إنَّ أمي ماتت وعليها نذر، أفيجزئ عنها أن أعتق عنها؟ قال - صلّى الله عليه وسلم -: (أعتق عن أمك) (¬1). وأجيب عن ذلك: أن هذا الحديث ليس فيه التصريح بأنّها كانت نذرت ذلك (¬2). * وقيل: إنَّ هذا النَّذْر كان صدقة (¬3). واستدلوا على ذلك بما يأتي: 1 - عن سعيد بن عمرو بن شُرحبيل بن سعيد بن سعد بن عبادة، عن أبيه، عن جده؛ أنّه قال: خرج سعد بن عبادة مع رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - في بعض مغازيه، فحضرت أمه الوفاة بالمدينة، فقيل لها: أوصي. فقالت: فيم أوصي؟ إنّما المال مال سعد. فتوفيت قبل أن يقدم سعد، فلما قدم سعد بن عبادة، ذكر ذلك له، فقال سعد: يا رسول الله، هل ينفعها أن أتصدق عنها؟ فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "نعم". فقال سعد: حائط كذا وكذا صدقة عنها لحائط سماه (¬4). 2 - عن سعيد بن المسيَّب، عن سعد بن عبادة؛ قال: قلت: يا رسول الله، إنَّ أمي ماتت، أفأتصدق عنها؟ قال: "نعم". قلت: فأي الصَّدقة أفضل؟ قال - صلّى الله عليه وسلم -: (سقي الماء) (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في الصغرى في الوصايا، باب فضل الصَّدقة عن الميِّت: 6/ 563 (3657)، وصححه الألباني: صحيح سنن النسائي: 2/ 777. (¬2) فتح الباري لابن حجر: 11/ 593. (¬3) التمهيد لابن عبد البرّ: 9/ 30، فتح الباري لابن حجر: 11/ 593. (¬4) أخرجه مالك في الموطَّأ، كتاب الأقضية، باب صدقة الحي عن الميِّت: 2/ 760 (52). (¬5) أخرجه أبو داود في الزَّكاة، باب في فضل سقي الماء: 2/ 130 (1681)، والنسائي في الوصايا، باب ذكر الاختلاف على سفيان: 6/ 565 (3666)، وابن ماجة في الأدب، باب فضل صدقة الماء: =

وجه الاستدلال

وجه الاستدلال: أن هذه النصوص تدل على أن النذركان صدقة. مناقشة الاستدلال: أنّه لم يأت في شيء من هذه الروايات أنّها نذرت ذلك (¬1). أدلة أصحاب القول الأوّل: استدل هؤلاء - إضافة إلى أدلة أصحاب القول الرّابع، والقول الثّاني - بما يأتي: الدّليل الأوّل: أثر ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال البخاريّ: وأمر ابن عمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء؛ فقال: "صلّي عنها" (¬2). وجه الاستدلال: أن ابن عمر رضي الله عنهما أمر المرأة أن تقضي عن أمها الصّلاة الّتي نذرتها، ثمّ ماتت، ولم تصلها؛ فدل على جواز النِّيابة في الصّلاة المنذورة عن الميِّت، وإذا صحت النِّيابة صح الاستئجار على ذلك من تركته (¬3). مناقشة الاستدلال: 1 - أنّه قد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما خلاف ذلك؛ فقد صح عنه أنّه قال: "لا يصلّين أحد عن أحد، ولا يصومن أحد عن أحد، ولكن إنَّ كنت فاعلًا ¬

_ = 2/ 1214 (3684). والحديث حسنه الألباني: صحيح سنن أبي داود: 1/ 315، صحيح سنن النسائي: 2/ 778، وصحيح سنن أبي ماجة: 2/ 298. (¬1) فتح الباري لابن حجر: 11/ 593. (¬2) أورده البخاريّ تعليقًا بصيغة الجزم، في الأيمان والنذور، باب من مات وعليه نذر: 11/ 592 (فتح). (¬3) فتح الباري لابن حجر: 11/ 592.

الجواب عن ذلك

تصدقت عنه أو أهديت" (¬1). الجواب عن ذلك: بأن يحمل الإثبات في حق من مات، والنَّفْي في حق الحي (¬2). وقد سبق ذكر ما يؤيد هذا الجواب (¬3). 2 - قال ابن المنير (¬4): "يحتمل أن يكون ابن عمر أراد بقوله: (صلّي عنها) العمل بقوله - صلّى الله عليه وسلم -: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إِلَّا من ثلاث) (¬5)، فعدّ منها الولد؛ لأنّ الولد من كسبه، فأعماله الصالحة مكتوبة للوالد من غير أن ينقص من أجره، فمعنى (صلّي عنها): أن صلاتك مكتتبة لها، ولو كنت إنّما تنوي عن نفسك (¬6). أجيب عن ذلك: أن هذا ردّ متكلف، وحاصل كلامه تخصيص جواز ذلك بالولد (¬7). ¬

_ (¬1) تقدّم تخريجه: راجع: ص 149. (¬2) فتح الباري لابن حجر: 11/ 592. (¬3) راجع: ص 151. (¬4) هو: علي بن محمّد بن منظور بن المنير، زين الدِّين أبو الحسن، وهو أخو القاضي ناصر الدِّين ابن المنير، الإمام الفقيه المالكي، له شرح على البخاريَ لم يعمل عليه مثله، ومنه ينقل ابن حجر، ومن مؤلفاته: ضياء المتلالي في تعقب إحياء الغزالي، توفي سنة 695 هـ: الديباج المذهب لابن فرحون، ص/ 214، شجرة النور الزكية لمخلوف، ص/ 188. (¬5) أخرجه مسلم في الوصيَّة، باب ما يلحق الإنسان من الثّواب بعد وفاته: 3/ 1255 (1631)، وأبو داود في الوصايا، باب ما جاء في الصَّدقة من الميِّت: 3/ 117 (2880)، والترمذي في الأحكام، باب في الوقف: 3/ 660 (1376)، والنسائي في الوصايا، باب فضل الصَّدقة عن الميِّت: 6/ 561 (3652). (¬6) فتح الباري لابن حجر: 11/ 592. (¬7) فتح الباري: 11/ 592.

الدليل الثاني

الدّليل الثّاني: القياس على الصوم، فكما جاز قضاء نذر الصوم عن الغيرجاز قضاء الصّلاة؛ لأنّها عبادة محددة بزمن كالصوم (¬1). المناقشة: 1 - أن هذا قياس مع الفارق، فإن الصِّيام يخلفه الإطعام عند العجز، بخلاف الصّلاة (¬2). 2 - أن هذا قياس في العبادات، والقياس في العبادات لا يسوغ؛ فالعبادات لا تثبت بالأقيسة، بل يجب الوقوف بها عند النص (¬3). 3 - لو سلمنا جواز القياس في العبادات فإن القياس لا يستقيم هنا؛ لأنّ حكم الأصل مختلف فيه، وشرط القياس أن يكون حكم الأصل متفقًا عليه بين الخصمين (¬4). الدّليل الثّالث: أن النِّيابة تدخل العبادة بحسب خفتها، والنذر أخف حُكمًا؛ لكونه لم يجب بأصل الشّرع، وإنّما أوجبه الناذر على نفسه، فإذا نذر صلاة، ثمّ مات، صلاها عنه وليه استحبابًا، فإن لم يفعل - وكان للميت تركة - فإنّه يجب على الولي استئجار من يؤدِّي عن الميِّت هذه الصّلاة (¬5). ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة: 13/ 657، الشرح الكبير مع المغني: 3/ 91، المبدع لابن مفلح: 3/ 49. (¬2) الشرح الكبير مع المغني: 3/ 92. (¬3) راجع: ص 141 من هذا البحث. (¬4) شرح الكوكب المنير لابن النجار: 4/ 27، جامعة أم القرى - مكّة المكرمة. والإحكام للآمدي: 3/ 197، روضة الناظر لابن قدامة: ص/315، حاشية البناني على جمع الجوامع: 2/ 220، نهاية السُّول: 3/ 116. (¬5) المغني لابن قدامة: 4/ 399، الشرح الكبير مع المغني لشمس الدِّين، عبد الرّحمن بن قدامة: 3/ 88، شرح منتهى الإرادات للبهوتى: 1/ 457 - 458.

الترجيح

الترجيح: بالنظر فيما سبق من أدلة، وما ورد عليها من مناقشات، وما أجيب به عن هذه المناقشات، فإن الّذي يظهر هو رجحان القول الأوّل القاضي بجواز أخذ الأجرة على قضاء الصلوات المنذورة عن الميِّت، إذا لم يؤدها الولي عنه، أو لم يتبرع أحد بأدائها عنه. ويرجع سبب ترجيح هذا القول لما يأتي: أوَّلًا: قوة أدلته، حيث تضافرت الأدلة من المنقول، والمعقول على ترجيح هذا القول؛ وذلك بالنظر إلى أدلة بقية الأقوال الأخرى، وما ورد عليها من مناقشات. ثانيًا: إنَّ هذا القول وسط بلاين الأقوال الأخرى، فهو أعدل الأقوال؛ وذلك لأنّ من أجاز مطلقًا قد تعلّق بعمومات النصوص، وهي محتملة لما ذهبوا إليه ولغيره، ومن المعلوم أن تطرق الاحتمال إلى الدّليل يضعف من دلالته. وقد أمكن مناقشة أدلة هذا القول بما يضعف من دلالتها كما سبق. وأمّا من منع مطلقًا فقد حجّر واسعًا، وصادم نصوصًا صحيحة صريحة لا يمكن إطراحها وإهمالها، ثمّ إنّه أمكن مناقشة ما استدلوا به حيث لم يسلم لهم دليل، حتّى ما استدلوا به من الإجماع لم يسلم من القدح. وأمّا من أجاز ذلك في النَّذْر، والفرض الّذي نسيه، أو نام عنه الميِّت، فإنّه وافق أصحاب القول بالجواز مطلقًا فيما استدلوا به، وقد أمكن ردّ ذلك كله، وأمّا ما وافق فيه أصحاب القول الأوّل فقد جاءت أدلته قوية بما يسلم له بها الاستدلال. ثالثًا: إنَّ في اختيار هذا القول مقاصد ومصالح كثيرة: 1 - تبرئة ذمة الميِّت، وفكّ رهانه؛ حيث قد أشغل ذمته، وألزم نفسه بما لم يلزمه الله تعالى (¬1). ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة: 4/ 400.

ثمرة الخلاف

2 - قطع الطريق على المتهاونين، والكسالى؛ لأننا لو قلنا بالجواز مطلقًا أدى ذلك إلى التكاسل عن الصّلاة، وما على الإنسان بعد ذلك إِلَّا أن يوصي من ماله من يصلّي عنه الفرائض كلها، أو يكون ذلك لازمًا للورثة في تركته، فيضيع حقهم، وربما ذهب ذلك بالتركة كلها، أو يضطرهم ذلك إلى الاستدانة لتبرئة ذمة ميتهم شفقة عليه، ورحمة به، وفي هذا من الحرج ما فيه. ثمرة الخلاف: للخلاف هنا ثمرة، ويظهر ذلك فيما لو أوصى الميِّت قبل موته بقضاء الصّلاة الّتي نذرها حال حياته: * فعلى القول الراجح، ومن وافقه في صحة قضاء الصّلاة المنذورة عن الميِّت، فإنّه تصح وصيته بها، فإن قضاها عنه وليه، أو تبرع غيره بذلك، وإلا استؤجر من تركته - إنَّ خلف تركة - من يؤدِّي عنه هذه الصّلاة. قال المرداوي (¬1) - بعد أن ذكر الروايتين في المذهب، وأن المذهب هو أن تفعل هذه الصّلاة عن الميِّت- قال: "فعلى المذهب تصح وصيته بها" (¬2). * وأمّا على القول الآخر بعدم صحة النِّيابة عن الميِّت في الصّلاة المنذورة فإن وصيته بها لا تصح (¬3). ¬

_ (¬1) هو أبو الحسن، علاء الدِّين، علي بن سليمان بن أحمد المرداوي، الحنبلي شيخ المذهب، وإمامه، ومصححه، ومنقحه، ولد سنة 817 هـ، وتوفي بصالحية دمشق سنة 855 هـ، له مؤلفات كثيرة في المذهب منها: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، والتنقيح المشبع، وتصحيح الفروع لابن مفلح، والتحرير في أصول الفقه: (شذرات الذهب لابن العماد: 9/ 510 - 511، مختصر طبقات الحنابلة: ص 76 - 77). (¬2) الإنصاف للمرداوي: 3/ 340. (¬3) الأم للشافعي: 115/ 2، مواهب الجليل للحطاب: 2/ 543.

* وقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك مذهباً وسطاً فيما يتعلق بهذه الوصية - وهو ممن يذهب إلى عدم صحة النيابة عن الميت في ذلك - فقد سئل رحمه الله عن رجل توفي، وأوصى أن يصلى عنه بدراهم؟ فقال: " ... هذه الدراهم التي أوصى بها يتصدق بها عنه، ويخص بالصدقة أهل الصلاة، فيكون للميت أجر، وكل صلاة يصلونها، ويستعينون عليها بصدقته، يكون له منها نصيب من غير أن ينقص من أجر المصلي شيء، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من فطر صائماً فله مثل أجره) (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: (من جهز غازياً فقد غزا) (¬2) (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده من حديث زيد بن خالد الجهني: 4/ 160 (17004)، والترمذي في الصوم، باب ما جاء في فضل من فطر صائمًا: 3/ 171 (807)، وابن ماجة في الصِّيام، باب ثواب من فطر صائمًا: 1/ 555 (1746)، والحديث صحيح، صححه التّرمذيّ وغيره. قال التّرمذيّ: حسن صحيح. وقال الألباني: صحيح. انظر: صحيح سنن التّرمذيّ: 1/ 243، وصحيح سنن ابن ماجة: 1/ 291. (¬2) أخرجه البخاريّ في الجهاد، باب فضل من جهز غازيًا: 6/ 85 (2843). ومسلم في الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله: 3/ 1506 (1895)، وأبو داود في الجهاد، باب ما يجزئ من الغزو: 3/ 12 (2509). والترمذي في فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل من جهز غازيًا: 4/ 145 (1627) - (1630)، والنسائي في الجهاد، باب فضل من جهز غازيًا: 6/ 353 (3180). (¬3) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: 30/ 203.

المبحث الثاني أخد المال على الأذان والإقامة

المبحث الثّاني أخد المال على الأذان والإقامة اتفق الفقهاء على أنّه إذا وجد متطوع بالأذان والإقامة أنّه لا يجوز أخذ الرزق عليهما من بيت المال، ولا أخذ الأجرة عليهما كذلك منه، أو من غيره. وعلل الفقهاء ذلك: بأن الإمام في بيت المال كالوصي في مال اليتيم، والوصي لو وجد من يعمل في مال اليتيم متبرعًا، لم يجز أن يستأجر عليه؛ فكذلك الإمام (¬1). قال الشّافعيّ رحمه الله تعالى: "وأحب أن يكون المؤذنون متطوعين، وليس للإمام أن يرزقهم، ولا واحدًا منهم، وهو يجد من يؤذن له متطوعًا ممّن له أمانة" (¬2). وقال الإمام النووي: "قال أصحابنا: ولا يجوز أن يرزق مؤذنًا وهو يجد متبرعًا عدلًا" (¬3). وقال ابن قدامة: "وإن وُجد متطوعٌ به، لم يرزق غيره؛ لعدم الحاجة إليه" (¬4). وقد ذكر الفقهاء أنّه: إذا علم القوم حاجته فواسوه بشيء على سبيل البرّ والصلة والهدية، والمجازاة على إحسانه، أن ذلك جائز، إذ1/ يكن عن شرط؛ ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني: 1/ 152، شرح الزرقاني على خليل:2/ 2، الأم للشافعي: 1/ 84، الحاوي للماوردي: 2/ 77، المجموع للنووي: 3/ 126 - 127، المغني لابن قدامة: 2/ 70، الممتع شرح المقنع لابن المنجى: 1/ 320. (¬2) الأم للإمام الشّافعيّ: 1/ 84؛ دار المعرفة - بيروت -. (¬3) المجموع للنووي: 3/ 126، وانظر كذلك: الحاوي للماوردي: 2/ 77، ومغني المحتاج للشربيني: 1/ 140. (¬4) المغني لابن قدامة: 5/ 23، وانظر كذلك: الإنصاف للمرداوي: 1/ 409. والممتع شرح المقنع لابن المنجى التنوخي: 1/ 320. وقد علل ابن المنجى لذلك بقوله: "لأنّ بيت المال مرصد للمصلحة ولا مصلحة في الرزق مع وجدان المتطوع، فلا يفعل لعدم المصلحة".

وذلك لأنّه فرّغ نفسه لحفظ المواقيت، وإعلامه لهم بالأذان، وهذا يجعله لا يتفرغ للكسب لنفسه وعياله (¬1). فإذا لم يوجد متطوع به، جاز أخذ الرزق عليه، باتِّفاق الفقهاء (¬2). قال ابن قدامة: "ولا نعلم خلافًا في جواز أخذ الرزق عليه" (¬3). هذا ما يتعلّق بأخذ الرزق من بيت المال. أمّا ما يتعلّق بأخذ الأجرة على الأذان والإقامة، فقد اختلف الفقهاء في حكم ذلك على أقوال أشهرها ما يلي: القول الأوّل: عدم جواز أخذ الأجرة على الأذان والإقامة، إِلَّا للضرورة (¬4)، والحاجة (¬5). وإلى هذا ذهب: متأخرو الحنفية، وهو ما عليه الفتوى عندهم (¬6)، وهو قول ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي: 1/ 140، 4/ 158، 16/ 37، بدائع الصنائع للكاساني: 1/ 152، شرح فتح القدير لابن الهمام: 1/ 172، المحلى لابن حزم: 3/ 146، 145. (¬2) رسائل ابن عابدين: 1/ 163 (رسالة شفاء الغليل)، الذّخيرة للقرافي: 2/ 66 - 67، والفروق للقرافي: 3/ 4 - 5، الأم للشافعي: 1/ 84، المغني لابن قدامة: 2/ 70. (¬3) المغني لابن قدامة: 2/ 70. (¬4) الضروة: لغة: اسم من الاضطرار: الاحتياج الشديد، والضيق والشدة: لسان العرب: 4/ 482. اصطلاحًا: "هي بلوغ الإنسان حدًا إذا لم يتناول الممنوع هلك أو قارب ". الأشباه والنظائر للسيوطي: ص/176، المنثور في القواعد للزركشي: 2/ 319. (¬5) الحاجة: لغة: الافتقار. لسان العرب: 2/ 342 اصطلاحًا: (ما يفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوات المطلوب). الموافقات للشاطبي: 2/ 9. (¬6) البحر الرائق لابن نجيم:1/ 268، الفتاوى البزازية لابن البزاز الكردري: 5/ 37 - 38) بهامش الفتاوى الهندية)، حاشية ابن عابدين: 1/ 263، 5/ 34 - 35. قال ابن عابدين: "وقد اتفقت كلمتهم جميعًا في الشروح والفتاوى على التعليل بالضرورة". وحاشية الطحطاوي: 4/ 30.

عند الحنابلة (¬1)، اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (¬2). القول الثّاني: لا يجوز مطلقًا أخذ الأجرة على الأذان والإقامة. وإلى هذا ذهب الإمام أبو حنيفة، ومتقدمو أصحابه، وهو المذهب عندهم (¬3)، وهو قول ابن حبيب (¬4) من المالكية (¬5)، ووجه عند الشّافعيّة (¬6)، وهو ظاهر المذهب عند الحنابلة (¬7)، وإليه ذهب ابن حزم (¬8)، واختاره الشوكاني (¬9) من المحققين (¬10). القول الثّالث: يجوز أخذ الأجرة على الأذان والإقامة مطلقًا. ¬

_ (¬1) الفروع لابن مفلح: 4/ 435، الإنصاف للمرداوي: 1/ 409. (¬2) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: 30/ 202، 24/ 316. (¬3) مختصر القدوري (الكتاب) مع شرحه اللباب: 2/ 100، المبسوط للسرخسي: 1/ 140، وبدائع الصنائع الكاساني 1/ 152، الفتاوى الخانية بهامش الفتاوى الهندية: 1/ 78. (¬4) وابن حبيب: هو: عبد الله بن حبيب بن سليمان بن هارون بن جناهمة بن عبّاس بن مرداس الألبيري القرطبي، عالم الأندلس، وفقيهها في عصره، من كبار علماء المالكية، أديب نحوي مؤرخ شاعر، له مؤلفات كثيرة في شتى الفنون منها: الواضحة في الفقه والسنن، وفضائل الصّحابة، وطبقات الفقهاء والمحدثين، وتفسير موطَّأ مالك وغيرها، توفي بقرطبة عام 238 هـ انظر: الديباج المذهب لابن فرحون ص: 154، ترتيب المدارك: 2/ 30، شجرة النور الزكية: ص: 74 - 75. (¬5) الذّخيرة للقرافي: 2/ 66، مواهب الجليل للحطاب: 1/ 455 - 456، والخرشي على خليل: 1/ 236. (¬6) الحاوي للماوردي: 2/ 77 - 78، المهذب للشيرازي: 1/ 59، روضة الطالبين: 1/ 205 - 206. (¬7) المغني لابن قدامة: 2/ 70، الفروع لابن مفلح: 1/ 323،والإنصاف للمرداوي: 1/ 409. (¬8) المحلى لابن حزم: 3/ 145 - 146، 8/ 191 - 192. (¬9) هو محمّد بن علي بن محمّد بن عبد الله الشوكاني، أبو محمّد فقيه مجتهد من كبار علماء اليمن من أهل صنعاء، ولد بهجرة شوكان سنة 1173 هـ، نشأ بصنعاء وتولى بها القضاء إلى أن مات، له مؤلفات كثيرة منها: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، والسيل الجرار، والبدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، توفي سنة 1250 هـ: (معجم المؤلِّفين لكحالة: 11/ 53، الأعلام للزركلي: 6/ 298). (¬10) نيل الأوطار للشوكاني: 1/ 58 - 59.

الأدلة والمناقشة

وبه قال المالكية (¬1)، وقد نصّ عليه الإمام مالك رحمه الله تعالى (¬2)، وهو الأصح عند الشّافعيّة (¬3)، ورواية عند الحنابلة (¬4). القول الرّابع: يجوز الاستئجار على الأذان والإقامة للإمام، أو من أَذِنَ له الإمام، ولا يجوز ذلك لآحاد النَّاس. وإلى هذا ذهب الشّافعيّة في وجه عندهم (¬5). هذا حاصل أقوال الفقهاء في هذه المسألة. الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة القول الرّابع: هذا القول وسط بين المانعين والمجيزين، ومن ثمّ فإن أدلته ستكون ذات شقين: - الشق الأوّل: أدلتهم على عدم الجواز لآحاد النَّاس. وهذه الأدلة هي بعينها أدلة القائلين بعدم الجواز مطلقًا، وستأتي مفصلة بإذن الله تعالى. الشق الآخر: أدلتهم على جواز ذلك للإمام خاصّة، أو من أذن له، ويمكن الاستدلال لهذا الشق كذلك بأدلة المجيزين مطلقًا، وستأتي كذلك مفصلة إن شاء الله تعالى. ويمكن الاستدلال على هذا الشق - زيادة على أدلة المجيزين مطلقًا - بما يأتي: ¬

_ (¬1) المدوّنة للإمام مالك: 1/ 62، 4/ 420 - 421، الذّخيرة للقرافي: 2/ 66 - 67، شرح الزرقاني على خليل: 1/ 162، مواهب الجليل للحطاب: 1/ 455 - 457. (¬2) المدوّنة: 1/ 62؛ قال مالك رحمه الله: "ولا بأس بإجارة المؤذنين". (¬3) روضة الطالبين للنووي: 1/ 205 - 206، المجموع للنووي: 7/ 125 - 127، ومغني المحتاج للشربيني: 1/ 140. (¬4) المغني للموفق: 2/ 70، 5/ 23، الإنصاف للمرداوي: 1/ 409. (¬5) المجموع للنووي: 3/ 127، روضة الطالبين للنووي: 1/ 205 - 206.

الدليل الأول

الدّليل الأوّل: القياس على الرزق: وحاصل ذلك: أن الإمام كما يجوز له إعطاء الرزق على الأذان فكذلك يجوز له إعطاء الأجرة عليه، بجامع حصول المصلحة في كلٍ. قال النووي: "وإذا جوزنا للإمام الاستئجار من بيت المال، فإنّما يجوز حيث يجوز الرزق، خلافًا ووفاقًا" (¬1). ومعلوم أن ما تحت يد الإمام من أموال بيت المال، مصروف في وجوه المصالح الماسّة، والأذان منها (¬2). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا القياس بما يأتي: أوَّلًا: قبل مناقشة هذا القياس يمكن مناقشة هذا القول بما يأتي: إنَّ حصركم جواز الاستئجار على الأذان والإقامة في الإمام، أو من أذن له الإمام يؤدِّي إلى الحرج والضيق على المسلمين، وبيان ذلك: أننا لو سلمنا لكم قولكم هذا في حالة وجود الإمام، وتوفر المال تحت يد الإمام فإننا لا نسلم لكم ذلك في حالة عدم وجود الإمام، أو في حالة وجوده، ولكن قلّت الأموال في بيت المال، أو عدمت، فإنّه في هذه الحالة يلحق المسلمين ضيق وحرج، حيث يترتب على ذلك تعطل هذه الشعيرة، وهم في أشد الحاجة إليها، وكذلك تتعطل المساجد، وهذا خلاف ما أمر الله سبحانه وتعالى به (¬3)؛ قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ ...} [النور: 36، 37]. ¬

_ (¬1) روضة الطالبين للنووي: 1/ 206. (¬2) المجموع للنووي: 1/ 125 - 127، روضة الطالبين: 1/ 206، الحاوي للماوردي: 2/ 77، مغني المحتاج الشربيني: 1/ 140. (¬3) ومما يؤيد هذا أن الأذان في غالب البلاد الإسلامية وظيفة رسمية يعين فيها الشخص على وظيفة مؤذن، وينطبق عليهم كلّ أحكام الأجير الخاص، فلو منعنا الإجارة على الأذان لترتب على ذلك تعطيل هذه الشعيرة، ولحوق الحرج والضيق لكثير من المؤذنين الذين يأخذون الأجر على الأذان.

الدليل الثاني

ثانيًا: أدن القياس على الرزق قياس مع الفارق، فإن الأرزاق من بيت المال على المصالح مجمع على جوازها - كما سبق بيانه -، بخلاف الإجارة، وهناك فروق كثيرة بين الرزق والإجارة سبق ذكرها، فأغنى عن الإعادة، وعلى هذا يكون القياس غير صحيح (¬1). ثالثًا: أن هذا قياس في مقابلة النص، والقياس قي مقابلة النص فاسد الاعتبار (¬2). الدّليل الثاني: قالوا: إنَّ الأذان عمل معلوم يرجع نفعه إلى عموم المسلمين فجاز الاستئجار عليه كتعليم القرآن (¬3). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا القياس بما يأتي: أوَّلًا: إنَّ هذا قياس فاسد؛ لأنّه قياس في مقابلة النص، فإن الأذان قد ورد نصّ بالمنع من الاستئجار عليه، وهو حديث عثمان بن أبي العاص (¬4)، وسيأتي (¬5). ثانيًا: يمكن مناقشة هذا القياس كذلك بأن القياس على القرآن قياس مع الفارق؛ فإن تعليم القرآن قد وردت بخصوصه نصوص تدل على جواز الاستئجار على تعليمه، ثمّ إنَّ حاجة النَّاس إلى تعليم القرآن أشد؛ لأنّه أصل الدِّين، وعماد ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة: 2/ 70. وانظر ص: 67 من هذا الكتاب. (¬2) الممتع شرح المقنع لابن المنجى: 1/ 320. (¬3) أسنى المطالب لزكريا الأنصاري: 1/ 132، مغني المحتاج للشربيني: 1/ 140. (¬4) هو: أبو عبد الله، عثمان بن أبي العاص بن بشر الثقفي، نزيل البصرة، أسلم في وفد ثقيف، فاستعمله النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - على الطائف، وأقره أبوبكر، ثمّ عمر، ثمّ استعمله عمر على عُثمان، والبحرين، سكن البصرة، ومات بها في خلافة معاوية - رضي الله عنه - سنة 50، وقيل: 51 من الهجرة. (الإصابة لابن حجر: 2/ 453، تقريب التهذيب لابن حجر: ص 665. (¬5) راجع ص/196 من هذا الكتاب.

ثانيا: أدلة أصحاب القول الثالث

الشّريعة، وحجة الله على عباده، فعدم القول يحواز الاستئجار عليه يؤدِّي إلى تضييعه، وذهابه. ثانيًا: أدلة أصحاب القول الثّالث: استدل أصحاب هذا القول وهم المجوزون مطلقًا بأدلة من السُّنَّة والمعقول: أ- أدلتهم من السُّنَّة: الدّليل الأوّل: عن عبد الله بن مُحيريز (¬1)، وكان يتيمًا في حجر أبي محذورة (¬2)، حتّى جهزه إلى الشّام، قال: قلت لأبي محذورة: إنِّي خارج إلى الشّام، وأخشى أن أُسأل عن تأذينك؟ فأخبرني أن أبا محذورة قال له: خرجت في نفر، فكنا ببعض طريق حنين، فقفل رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - من حنين، فلقينا رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - في بعض الطريق، فأذن مؤذن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - بالصلاة عند رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - فسمعنا صوت المؤذن، ونحن عنه متنكبون، فظللنا نحكيه ونهزأ به، فسمع رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - الصوت، فأرسل إلينا حتّى وقفنا بين يديه، فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (أيكم الّذي سمعت صوته قد ارتفع؟)، فأشار القوم إليَّ، وصدقوا، فأرسلهم كلهم وحبسني؛ فقال: (قم فأذن بالصلاة)، فقمت، فألقى عليّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - التأذين هو بنفسه قال: ¬

_ (¬1) هو: عبد الله بن محيريز بن جنادة بن وهب الجُمحي، المكي، كان يتيمًا في حجر أبي محذورة بمكة، ثمّ نزل بيت المقدس، ثقة عابد من الثّالثة، مات سنة 99 هـ، وقيل: قبلها، وذلك في خلافة الوليد بن عبد الملك. انظر (الإصابة لابن حجر: 3/ 140 (6635)، شذرات الذهب لابن العماد: 1/ 398، تقريب التهذيب: ص 544 (3629). (¬2) أبو محذورة هو: أبو محذورة الجمحي، المكي المؤذن، صحابي مشهور، اختلف في اسمه؛ فقيل: أوس، وقيل: سمرة، وقيل: سلمة، وقيل: سلمان، كان من أحسن النَّاس أذانًا، وأنداهم صوتًا، علمه النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - الأذان؛ اسم أبيه مِعْير، وقيل: عمير بن لوذان، مات بمكة سنة 59 هـ، وقيل: 79 هـ. انظر (الإصابة لابن حجر: 4/ 175 (1018)، تهذيب التهذيب: 12/ 222 (1019)، تقريب التهذيب: ص 1200 (8407).

وجه الاستدلال

(قل: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إِلَّا الله أشهد أن لا إله إِلَّا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله). ثمّ قال: "ارجع فامدد صوتك"، ثمّ قال: (قل: أشهد أن لا إله إِلَّا الله، أشهد أن لا إله إِلَّا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصّلاة، حي على الصّلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إِلَّا الله). ثمّ دعاني حين قضيت التأذين، فأعطاني صرة فيها شيء من فضة، فقلت: يا رسول الله: مرني بالتأذين بمكة؛ فقال: (قد أمرتك به)، فقدمت على عتاب بن أسيد (¬1)، عامل رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - بمكة، فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -" (¬2). وجه الاستدلال: أن أبا محذورة لما انتهى من التأذين أعطاه رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - صرة فيها شيء من فضة في مقابل تأذينه. فدل ذلك على جواز أخذ الأجرة على الأذان (¬3). مناقشة الاستدلال: نوقش الاستدلال بالحديث من وجهين: ¬

_ (¬1) هو عتاب بن أسيد بن أبي العِيص بن أمية الأموي، أبو عبد الرّحمن، أو أبو محمّد المكي، صاحب رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - وعامله على مكّة، أسلم يوم الفتح، ومات يوم مات أبوبكر الصديق -رضي الله عنه- سنة 13 من الهجرة. انظر ترجمته في: الإصابة في معرفة الصّحابة: 2/ 451 (5391)، تهذيب التهذيب: 2/ 3، وتقريب التهذيب ص: 656. (¬2) أخرجه النسائي في كتاب الأذان، باب: كيف الأذان: (631) ج 2 ص 332. وأخرجه ابن ماجة في كتاب الأذان، باب: الترجيع في الأذان: 1/ 234 (708). وأخرجه ابن حبّان في صحيحه، كتاب الأذان، باب الترجيع في الأذان 1/ 196 (379). وقال الألباني: حسن صحيح. انظر: صحيح سنن النسائي: 1/ 136 رقم (612). (¬3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 6/ 231 - 232، نيل الأوطار للشوكاني: 1/ 58 - 59.

الوجه الأول

الوجه الأوّل: أن قصة أبي محذورة كانت أول ما أسلم؛ لأنّه أعطاه حين علمه الأذان، وذلك قبل إسلام عثمان بن أبي العاص. وعلى هذا فحديث عثمان بن أبي العاص متأخر، والعبرة بالمتأخر (¬1). الوجه الآخر: أنّها واقعة حال يتطرق إليها الاحتمال، وأقرب الاحتمالات فيها أن يكون إنّما أعطاه من باب التأبيف لحداثة عهده بالإسلام، كما أعطى يومئذ غيره من المؤلِّفة قلوبهم، ووقائع الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال سلبها الاستدلال لما يبقى فيها من الإجمال (¬2). ب - أدلتهم من المعقول: الدّليل الأوّل: قياس المؤذن على العامل، أو الخليفة في جواز أخذ الأجرة؛ فكما أن العامل يأخذ أجرة على عمله فكذلك المؤذن يجوز له أخذ الأجرة على الأذان بجامع أن كلًا منهما عامل لمصلحة المسلمين. قال ابن العربي (¬3): "والصّحيح جواز أخذ الأجرة على الأذان، والصلاة، والقضاء، وجميع الأعمال الدينية، فإن الخليفة يأخذ أجرته على هذا كله، وينيب ¬

_ (¬1) شرح السيوطيّ على سنن النسائي: 2/ 332، نيل الأوطار للشوكاني: 2/ 59، حاشية السندي على سنن ابن ماجة: 1/ 242. (¬2) المراجع السابقة حيث ذكر السيوطيّ هذين الوجهين، وتبعه الشوكاني، والسندي. (¬3) هو: القاضي أبو بكر محمّد بن عبد الله بن محمّد بن عبد الله بن العربي، الأندلسي الأشبيلي، المالكي، وهو معروف بابن العربي، كان إمامًا في الفقه من أئمة المالكية، برع في الأدب، والتفسير، والحديث، كان أقرب إلى الاجتهاد منه إلى التقليد، له مؤلفات كثيرة منها: عارضة الأحوذى =

مناقشة الاستدلال

في كلّ واحد منها، فيأخذ النائب أَجْرَه، كما يأخذ المستنيب، والأصل في ذلك قول النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: (ما تركت بعد نفقة عيالي، ومؤنة عاملي فهو صدقة) (¬1) (¬2). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الاستدلال بما يأتي: أوَّلًا: أن المراد بالعامل في الحديث هو الخليفة بعده- صلّى الله عليه وسلم -، وهذا هو المعتمد (¬3). وعليه، فيكون ذلك من باب الأرزاق لا من باب الإجارات، والأرزاق على الأذان ونحوه مجمع على جوازها - كما سبق -، وكلامنا هنا حول الإجارة، فافترقا. ثانيًا: أنّه قاس المؤذن على العامل، وهذا قياس في مصادمة النص الوارد عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في المنع من أجرة المؤذن، وهو حديث عثمان بن أبي العاص، وكذلك فتيا ابن عمر - كما سيأتي -، ولم يخالفه أحد من الصّحابة، فهو قياس فاسد. وعليه، فلا يجوز الاستدلال بهذا الحديث على ما نحن فيه (¬4). ¬

_ = في شرح التّرمذيّ، وأحكام القرآن، والقبس شرح الموطَّأ، وغيرها كثير، ولد في أشبيلية سنة 468 هـ، وتوفي في فاس، ودفن بها سنة 543 هـ. انظر: الديباج المذهب: ص 281، شجرة النور الزكية ص: 136، شذرات الذهب لابن العماد: 6/ 232 - 234. (¬1) أخرجه البخاريّ: في كتاب الوصايا، باب: نفقة قيم الوقف: 5/ 476 (2776)، وفي كتاب فرض الخمس باب: نفقة نساء النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بعد وفاته: 6/ 241 (3096)، وفي كتاب الفرائض، باب: قول النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "لا نورث ما تركناه صدقة": 12/ 8 (6729)، وأخرجه مسلم في الجهاد، باب قول النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "لا نورث ما تركناه صدقة: 3/ 1382 (1760). (¬2) عارضة الأحوذي لابن العربي: 2/ 12 - 13. (¬3) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاريّ لابن حجر: 6/ 241. الطبعة السلفية الثّانية. (¬4) انظر: نيل الأوطار للشوكاني: 2/ 59، حيث نقل هذا الجواب ابن سيد النَّاس اليعمري في شرحه على التّرمذيّ المسمى (النفح الشذي)، وقد طبع منه جزآن بتحقيق الدكتور أحمد معبد عبد الكريم الأستاذ بقسم السُّنَّة - يسّر الله له إكماله -.

الدليل الثاني

الدّليل الثّاني: أن الأذان شعار غير فرض، لا يلزم الأجير فجاز الاستئجار عليه (¬1). مناقشة الاستدلال: نوقش هذا التعليل بما يأتي: لا نسلم لكم أن الأذان والإقامة شعار غير فرض، ولكنهما فرضا كفاية، وقد يتعين، ولا يجوز أخذ الأجرة عليهما إِلَّا عند الحاجة والضرورة، وتكون الأجرة حينئذ على مراعاة الأوقات، والذهاب، والمجيء، ونحوه ممّا يلزم الأذان (¬2). الدّليل الثّالث: أن الأذان عمل معلوم، يجوز أخذ الرزق عليه بلا خلاف؛ فجاز أخذ الأجرة عليه كسائر الأعمال ... (¬3). مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الاستدلال بما يأتي: أوَّلًا: أن هذا قياس في مقابلة النص وهو حديث عثمان، والقياس في مقابلة النص باطل (¬4). ثانيًا: أن قياس الأجرة على الرزق قياس مع الفارق، وقد سبق بالتفصيل بيان الفرق بين الرزق والإجارة، فأغنى عن إعادته هنا (¬5). ¬

_ (¬1) روضة الطالبين: 5/ 188، مغني المحتاج للشربيني: 2/ 344. (¬2) بدائع الصنائع: 1/ 146، 4/ 192، الرسالة لابن أبي زيد: ص 112. دار الغرب الإسلامي، والاستذكار لابن عبد البرّ: 4/ 17 - 18، تحفة المحتاج شرح المنهاج لجلال الدِّين المحلي: 1/ 460، الفروع لابن مفلح: 1/ 323. (¬3) المهذب للشيرازي: 1/ 59، المجموع للنووي: 3/ 125، المغني لابن قدامة: 2/ 70. (¬4) المبدع لابن مفلح: 1/ 314. (¬5) راجع ص 67 من هذا الكتاب.

الدليل الرابع

ثالثًا: أنّه لا يلزم من جواز أخذ الرزق جواز أخذ الأجرة، بدليل القضاء، والشهادة، فإنّه يجوز أخذ الرزق عليهما من بيت المال، أو من غيره، ولا يجوزْ أخذ الأجرة عليهما (¬1). الدّليل الرّابع: أنّه فعل يجوز التبرع به عن الغير فلا يكون كونه قربة مانعًا من الإجارة فيه قياسًا على الحجِّ عن الغير، وبناء المساجد، وكتب المصاحف، والسعاية على الزَّكاة (¬2). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة الاستدلال بهذا الدّليل القياسي بما يأتي: أوَّلًا: أن القياس على الحجِّ لا يصح؛ لأنّه قياس في مقابلة النص، حيث ورد النص بالمنع من أخذ الأجرة على الأذان، وهو حديث عثمان بن أبي العاص السابق، والقياس في مقابلة النص باطل. أجيب عن ذلك: بأن الحديث لا يدلُّ على التّحريم، بل هو محمول على الورع، ونحن نقول به (¬3). ثانيًا: أن القياس على الحجِّ عن الغير، وبناء المساجد، ونحو ذلك، ممّا جاء في الدّليل قياس مع الفارق؛ فإن الحجِّ عن الغير ورد به النص - كما سيأتي في بابه -، وبناء المساجد لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة فيجوز أن يفعله المسلم، وغير المسلم، وما لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة جاز أخذ الأجرة عليه. وأمّا كتب المصاحف فإن الكتابة في نفسها عمل يصح الاستئجار عليه؛ إذ لا يشترط فيها نيّة القربة. ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة: 5/ 24. (¬2) الذّخيرة للقرافي: 2/ 66 - 67. (¬3) الذّخيرة للقرافي: 2/ 67.

الدليل الخامس

وأمّا السعاية على الزَّكاة، فإن أجرة الساعي منصوص عليها، ثمّ إنَّ أجره في مقابلة ما يبذله من جهد وتعب، جراء سعيه على الزَّكاة، بخلاف الأذان. الدّليل الخامس: أن الأذان فرض كفاية، ويقبل النِّيابة ولم يتعين عليه فجاز أخذ الأجرة عليه (¬1). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الاستدلال بما يأتي: أن هذا قياس في مقابلة النص؛ فهو قياس فاسد حيث ورد النص بالمنع من أخذ الأجرة على الأذان، وهو حديث عثمان بن أبي العاص. الدّليل السّادس: أن الأذان نفع يصل إلى المستأجر فجاز أخذ الأجر عليه كسائر المنافع (¬2). مناقشة الاستدلال: أوَّلًا: أن هذا قياس في مقابلة النص؛ فهو فاسد - كما تقدّم -. ثانيًا: أنّه لا يلزم من وصول النفع للمستأجر جواز أخذ الأجرة بدليل القضاء والشهادة. فإن نفعهما يصل إلى المستأجر، ومع ذلك فلا يجوز الاستئجار عليهما (¬3). هذه أظهر أدلة هذا القول، وهناك أدلة أخرى لهم ذكرتها فيما تقدَّم مع أدلة القول الرّابع. ¬

_ (¬1) أحكام القرآن لابن العربي: 2/ 961، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 8/ 178. (¬2) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: 30/ 207، الفروع لابن مفلح 4/ 435 - 436. (¬3) المبسوط للسرخسي: 16/ 102، الفروق للقرافي: 3/ 3، روضة الطالبين للنووي: 5/ 188، المغني لابن قدامة: 14/ 9 - 10، 5/ 24.

ثالثا: أدلة أصحاب القول الثاني

ثالثًا: أدلة أصحاب القول الثّاني: القائلون بعدم جواز أخذ الأجرة على الأذان مطلقًا: استدل هؤلاء بأدلة من السُّنَّة، وأقوال الصّحابة، والمعقول: أ- أدلتهم من السُّنَّة: الدّليل الأوّل: عن عثمان بن أبي العاص قال: قلت: يا رسول الله، اجعلني إمام قومي؛ قال - صلّى الله عليه وسلم -: (أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا) (¬1). وفي رواية أخرى قال عثمان بن أبي العاص: (إنَّ من آخر ما عهد إليّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أن أتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا) (¬2). وجه الاستدلال: وجه الاستدلال من الحديث ظاهر حيث نهى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - عثمان بن أبي العاص من اتخاذ مؤذن يأخذ على أذانه أجرًا، والنهي يقتضي التّحريم؛ فدل ذلك على عدم جواز أخذ الأجرة على الأذان. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 4/ 29 (16250)، (16252)، وأبو داود في الصّلاة باب: أخذ الأجر على التأذين 1/ 146 (531)، والنسائي في الأذان باب اتخاذ المؤذن الّذي لا يأخذ على أذانه أجرًا: 1/ 352،351، البيهقي 1/ 429، والحاكم في الصّلاة: 1/ 199، 201، وقال: على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، قال الألباني: وأحد طريقي أحمد على شرطهما. قال أحمد شاكر: وهذا إسناد صحيح لا علة له، وصححه الألباني في الإرواء 5/ 316، وصحيح سنن أبي داود: 1/ 107 (497). (¬2) أخرجه التّرمذيّ في أبواب الصّلاة، باب: ما جاء في كراهية أن يأخذ المؤذن على الأذان أجرًا 1/ 409 - 410 (209)، وقال: حديث حسن صحيح. قال أحمد شاكر معلقًا: والحديث صحيح على كلّ حال. وأخرجه ابن ماجة في الأذان، باب: السُّنَّة في الأذان:1/ 236 (417)، وصححه الألباني في الإرواء 5/ 316، وانظر: صحيح سنن التّرمذيّ 1/ 67 (172)، وصحيح سنن ابن ماجة: 1/ 121 (2585).

مناقشة الاستدلال

مناقشة الاستدلال: نوقش الاستدلال بالحديث بما يأتي: أوَّلًا: أن هذا الحديث محمول على الندب؛ فالأمر في قوله - صلّى الله عليه وسلم -: (واتخذ) يفيد الندب، وليس الوجوب، حيث ندب النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - إلى اتخاذ المؤذنين الذين لايأخذون على الأذان أجرًا. وعليه فيكون أخذ الأجرة على الأذان ليس حرامًا (¬1)، ولكنه مكروه، وهو ما سيأتي بيانه في الجواب الرّابع. ثانيًا: أن الحديث محمول على الورع، وليس على تحريم الأجرة على الأذان (¬2)؛ فإن ترك المؤذن الورع، وأخذ الأجرة، كان ذلك جائزًا. ثالثًا: يمكن الجواب عن الاستدلال بالحديث كذلك بما يأتي: أن الحديث ليس نصًا صريحًا في تحريم الأجرة على الأذان؛ إذ لو كان كذلك لقال - صلّى الله عليه وسلم -: لا تجوز الأجرة على الأذان، أو: لا يحل للمؤذن أخذ الأجرة على أذانه؛ إذ ليس يعقل أن تكون الأجرة على الأذان من المحرمات، ولا ينص الشارع على ذلك، وهو يرى أن الأذان متكرر في اليوم خمس مرات، وهو من شعائر الإسلام الظاهرة (¬3). ثمّ إنَّ الحديث قد يدلُّ على أن أخذ الأجرة على الأذان كان معروفًا في عهده - صلّى الله عليه وسلم -، أو أنّه أوحى إليه بما يكون بعد ذلك من أخذ الأجرة على الأذان، فكان أن أرشد، وندب إلى اتخاذ المؤذن الّذي لا يأخذ أجرًا على أذانه، وترك من يأخذ ذلك. ¬

_ (¬1) المجموع للنووي: 3/ 128، أسنى المطالب شرح روض الطالب لزكريا الأنصاري: 1/ 132، حاشية السندي على سنن النسائي 1/ 352، عون المعبد شرح سنن أبي داود لأبي الطيب العظيم آبادي 2، 165. (¬2) الذّخيرة للقرافي: 2/ 67. (¬3) قال الصنعاني في شرحه على حديث عثمان: "ولا يخفى أنّه لا يدلُّ على التّحريم". سبل السّلام للصنعاني: 1/ 264.

ب - أدلتهم من أقوال الصحابة

رابعًا: أن هذا الحديث محمول على الكراهة، وليس على التّحريم؛ قال الخطابي: (أخذ المؤذن الأجرة على أذانه مكروه في مذاهب أكثر العلماء ...) (¬1). وقال أبو عيسى التّرمذيّ (¬2) بعد إخراجه للحديث: (والعمل على هذا عند أهل العلم كرهوا أن يأخذ المؤذن على الأذان أجرًا، واستحبوا للمؤذن أن يحتسب في أذانه) (¬3). ب - أدلتهم من أقوال الصّحابة: الدّليل الأوّل: عن يحيى البكاء (¬4)، قال: قال رجل لابن عمر: إنِّي لأحبك في الله؛ فقال ابن عمر: لكني أبغضك في الله، قال: ولمَ؟ قال: إنك تتغنى في أذانك، وتأخذ عليه ¬

_ (¬1) معالم السنن للخطابي: 1/ 285. قلتُ: ويؤيده قول الصنعاني السابق. (¬2) هو: محمّد بن عيسى بن سَورة بن موسى بن الضحاك، وقيل: ابن سورة بن السكن، أبو عيسى التّرمذيّ، أحد الأئمة، وصاحب السنن المعروفة، ولد عام 209 هـ، وقد أضر في كبره، إمام حافظ ثقة، من مؤلفاته: الجامع التصحيح المعروف بسنن التّرمذيّ أحد الكتب الستة المشهورة، وكتاب العلل، توفي سنة 289 هـ: (سير أعلام النُّبَلاء للذهبي: 13/ 270، تهذيب التهذيب لابن حجر:9/ 387. (¬3) سنن التّرمذيّ، تحقيق أحمد شاكر: 1/ 410. (¬4) هو يحيى بن مسلم، ويقال: ابن سُليم، وهو ابن أبي خليد البصري، المعروف بيحيى البكاء، مولى القاسم بن الفضل الحداني. روى عن ابن عمر، وابن المسيَّب، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وغيرهم، وروى عنه الثّوريّ، وابن لهيعة، وأبو جعفر الرازي، وغيرهم كثير. ضعفه يحيى بن سعيد، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والنسائي؛ قال الحافظ ابن حجر: ضعيف من الرّابعة، مات سنة 130 هـ. (تهذيب الكمال للمزي: 31/ 533 - 536، تهذيب التهذيب لابن حجر: 11/ 278 - 279، تقريب التهذيب لابن حجر: ص 1066 - 1067).

وجه الاستدلال

أجرًا (¬1). وجه الاستدلال: حيث أنكر ابن عمر رضي الله عنهما على الرَّجل أخذه الأجرة على الأذان، وعلل بغضه له بذلك، فلوكان أخذ الأجرة على الأذان جائزًا لم صرح له ابن عمر ببغضه؛ فدل ذلك على عدم جواز أخذ الأجرة على الأذان، ولم يخالف ابنَ عمر أحد من الصّحابة فيما فعله (¬2). قال أبن حزم: "ولا يُعْرَف لابن عمر في هذا مخالف من الصّحابة" (¬3). مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الاستدلال بما يأتي: أوَّلًا: أن هذا الأثر لا يصح عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ وذلك لأنّ راوي هذا الأثر عن ابن عمر هو يحيى البكاء، وهو ضعيف، ضعفه جمع من أهل العلم (¬4). ثانيًا: على فرض صحته، فإنّه قول صحابي، وقول الصحابي مختلف في حجيته؛ فمن العلماء من جعله حجة، ومنهم من لم يحتج به (¬5). وعلى ذلك فلا ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في الكبير: 12/ 264 (13059)، وابن أبي شيبة في المصنِّف في كتاب الأذان والإقامة: باب: من كره للمؤذن أن يأخذ على أذانه أجرًا: 1/ 228، وعبد الرزّاق في مصنفه: باب البغي في الأذان والأجر عليه: 1/ 481 (1852)، والطحاوي في شرح معاني الآثار: 4/ 128، وابن حزم في المحلى: 3/ 146، ونسبه الشوكاني في النيل لابن حبّان: نيل الأوطار: 2/ 58، والأثر ضعيف؛ لما تقدم من حال يحيى البكاء. (¬2) المحلى لابن حزم: 3/ 146، نيل الأوطار للشوكاني: 2/ 58. (¬3) المحلى لابن حزم: 3/ 146. (¬4) تقدّم ذلك في ترجمته، وانظر: مجمع الزوائد للهيثمي: 2/ 103 (1909). (¬5) انظر لمعرفة مدى حجية قول الصاحب: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: 4/ 149، تحقيق العلّامة عبد الرزّاق عفيفي. كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي لعبد العزيز البخاريّ: 3/ 225. =

الدليل الثاني

يمكن اعتبار هذا الأثر حجة على ما نحن فيه، وغاية ما فيه أنّه يستأنس به لهذا القول، ويدلُّ على أن من قال بعدم جواز الأجرة على الأذان مسبوق بقوله، ليس غير. الدّليل الثّاني: ما روي عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه- أنّه قال: "أربع لا يؤخذ عليهن أجر: الأذان، وقراءة القرآن، والمقاسم، والقضاء" (¬1). وجه الاستدلال: حيث نفى ابن مسعود -رضي الله عنه- أن يؤخذ على الأذان أجر، وهذا النَّفْي لا يقال من قبيل الرأي، وإنّما هو عن توقيف، فدل على أن أخذ الأجرة على الأذان لا تجوز. مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الاستدلال بما يأتي: أوَّلًا: أن هذا الأثر لا يصح عن ابن مسعود؛ لأنّه ليس من كلامه، إنّما هو من كلام القاسم بن عبد الرّحمن بن عبد الله بن مسعود، فكل من روى هذا الأثر رواه عن القاسم، وليس عن ابن مسعود (¬2). ¬

_ = شرح الكوكب المنير لابن النجار الفتوحي: 4/ 422، نشر جامعة أم القرى. مذكرة في أصول الفقه للشيخ الشنقيطي، ص/ 164، المكتبة السلفية- المدينة المنورة-. (¬1) هكذا ذكره الشوكاني في نيل الأوطار: 2/ 58 نقلًا عن ابن سيد النَّاس في شرحه على التّرمذيّ المسمى بالنفح الشذي، عن ابن مسعود. والصّحيح أنّه عن القاسم بن عبد الرّحمن بن عبد الله بن مسعود كما سيأتي. (¬2) وممن رواه عن القاسم: ابن حزم في المحلى: 3/ 146، وابن أبي شيبة في المصنِّف: كتاب البيوع والأقضية: باب: في أجر القاسم: 7/ 41؛ طبعة الهند 1400 هـ ورواه عبد الرزّاق في المصنِّف: 8/ 298 (15285). وأورده ابن سعد في الطبقات: 6/ 304 (2373) - تحقيق: محمّد عبد القادر عطا؛ دار الكتب العلمية. وبناءً على ذلك فإن قول القاسم ليس بحجة كما لا يخفى -.

جـ- أدلتهم من المعقول

ثانيًا: سلمنا أنّه ثابت عن مسعود، إِلَّا أنّه لا يعدو أن يكون قول صحابي، وقول الصحابي ليس بحجة -وقد تقدّم ذلك-. جـ- أدلتهم من المعقول: الدّليل الأوّل: أن الأذان من القرب الّتي يختص بأدائها المسلم، فإذا أداه وقع ثوابه له، ولهذا تتعين أهليته، فلا يجوز له أخذ الأجرة عليه من غيره، كما في الصوم، والصلاة (¬1). ويمكن الجواب على ذلك بما يأتي: أوَّلًا: أن قياس الأذان على الصوم، والصلاة قياس مع الفارق؛ فإنّه وإن كان قربة إِلَّا أن نفعه متعدَّ لغيره من المصلّين، ونفع الصوم، والصلاة قاصر على نفسه؛ فأخذ الأجرة عليه له وجه، ثمّ إنَّ الأجر إنّما يكون على حفظ الوقت، والذهاب، والمجيء، ونحو ذلك ممّا يتطلبه الأذان ممّا قد يشغله على قوته الواجب، ومما لا بد له من أمور معايشه. ثانيًا: إنَّ قياس الأذان على الصوم والصلاة لا يصح؛ لأنّ الصوم من القرب الّتي جاء النص بأدائها عن الغير، كما في حديث عائشة رضى الله عنها، قالت: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) (¬2). وسياتي تفصيل الكلام في مبحث الصِّيام، وقد أخذ بهذا الحديث جمع من أهل العلم، وهو من أخص العبادات البدنية الّتي يختص بأدائها المسلم. ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي: 1/ 140، بدائع الصنائع للكاساني: 4/ 192، البحر الرائق لابن نجيم: 3/ 64، بداية المجتهد لابن رشد: 1/ 901. (¬2) أخرجه البخاريّ في الصوم: باب من مات وعليه صوم: 4/ 226 - 227 (1952). وأخرجه مسلم في الصِّيام: باب قضاء الصِّيام عن الميِّت: 2/ 803 (1147).

الدليل الثاني

ولأن الصّلاة من القربات الّتي حصل الخلاف في جواز النِّيابة فيها، وقد ذهب إلى جواز ذلك بعض العلماء، وقد سبق ذلك (¬1). ثالثًا نسلم بأن ثواب العبادة له، ولكن ذلك لا ينافي أخذ الأجرة؛ فإن أخذ الأجرة هنا ليس على ذات العبادة، وإنّما لحبس نفسه على الأذان، وعلى ذهابه، ومجيئه، ورعايته للمواقيت، وما يأخذه إنّما هو للإعانة على الطّاعة، وتوفير القوت الواجب لنفسه وعياله؛ فإن المسب في هذه الحالة واجب عليه، فإن أخذ الأجرة بهذه النية فيكون قد أكل طيبًا، وعمل صالحًا (¬2). الدّليل الثّاني: أن الاستئجار على الأذان يكون سببًا لتنفير النَّاس عن الصّلاة بالجماعة؛ لأنّ ثقل الأجر يمنعهم من ذلك، والى هذا أشار الرب جلَّ شأنّه في قوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [الطور: 40، القلم: 46] فيؤدِّي إلى الرغبة عن هذه الطاعات، وهذا لا يجوز (¬3). مناقشة الإستدلال: يمكن مناقشة هذا الدّليل بما يأتي: أولَا: لا نسلِّم أن الأجر على الأذان فيه ثقل على المصلّين؛ لأنّ المؤذن إذا أخذ قدر حاجته، ودفع المصلون قدر طاقتهم انتفى ثقل الأجر، ثمّ إنَّ الاستدلال على ذلك بالآية السابقة لا يصح؛ لأنّ الكلام في الآية عائد على الكفار (¬4)، وليس على المسلمين، فالكافر يثقله ذلك، أمّا المسلم فلا؛ لأنّه في دفعه للأجر محتسب مطيع لله تعالى، ومصلحة ذلك عائدة إليه في دينه، فلا يشعر بذلك الثقل إنَّ وُجد. ¬

_ (¬1) المحلى لابن حزم: 8/ 7. (¬2) مجموع الفتاوى لابن تيمية: 24/ 316. (¬3) بدائع الصنائع للكاساني: 4/ 191، رسائل ابن عابدين: 1/ 156 - 157. (¬4) تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 7/ 413، 8/ 226.

رابعا: أدلة أصحاب القول الأول

ثانيًا: سلمنا وجود ذلك الثقل، إِلَّا أن المصلحة المترتبة على دفع الأجرة للمؤذن أكبر، وحاجة النَّاس إليه أعظم من ثقل الأجر عليهم؛ لأنّ في ذلك تحصيلًا للطاعات، وذلك بالمحافظة على أوقات الصلوات، وإعمار المساجد بذكر الله تعالى، وعدم تعطيلها، وهذا من أعظم المصالح. رابعًا: أدلة أصحاب القول الأوّل: وهم القائلون بعدم جواز الاستئجار على الأذان والإقامة إِلَّا للضرورة، والحاجة. وأدلة هذا القول تنقسم قسمين: القسم الأوّل: أدلتهم على عدم الجواز في الأصل. وأدلتهم على ذلك هي نفسها أدلة أصحاب القول الثّاني، وهم القائلون بعدم الجواز مطلقًا، وقد تقدمت. القسم الآخر: أدلتهم على جواز الاستئجار للضرورة والحاجة. وقد عللوا ذلك بتعليلات: 1 - ظهور التواني في الأمور الدينية، وكسل النَّاس في الاحتساب، فلو امتنع جواز الاستئجار على الأذان في هذه الحالة، لضاع الأذان، وتعطلت هذه الشعيرة، وترتب عليها تعطل المساجد، وفوات الجماعة (¬1). 2 - أن المؤذن المحتاج يتعين عليه الاكتساب لنفسه وعياله، والأذان لا يتعين عليه، فلا يمكن له ترك الواجب المتعين عليه لغير المتعين، فإذا نوى عمله هذا لله تعالى، وأخذ الأجرة على أذانه ليستعين بها على العبادة وطاعة الله، وتوفير الكفاية لنفسه وعياله، لئلا يمنعه الاكتساب لنفسه وعياله عن إقامة هذه الشعيرة والوظيفة ¬

_ (¬1) الاختيار لتعليل المختار للموصلّي: 2/ 60، حاشية الطحطاوي على الدر المختار: 4/ 30، وحاشية ابن عابدين: 5/ 442، مجمع الأنّهر في شرح ملتقى الأبحر: 2/ 384.

الترجيح

الشريفة، ولولا ذلك لم يأخذ أجرًا، فإنّه في هذه الحالة يكون قد جمع بين عبادتين، وهما الأذان والسعي على العيال، وإنَّما الأعمال بالنيات (¬1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإذا فعلها الفقير لله، وإنّما أخذ الأجرة لحاجته إلى ذلك، وليستعاين بذلك على طاعة الله، فالله يأجره على نيته، فيكون قد أكل طيبًا، وعمل صالحًا" (¬2) الترجيح: بعد عرض الأقوال، وذكر أدلة كلّ قول، وما ورد عليها من مناقشات، وما أجيب به عنها يمكن القول بأن الاختلاف هنا قوي؛ وذلك لقوة ما استدل به كلّ فريق، والذي يظهر أن الراجح من هذه الأقوال وأقربها إلى الصواب، هو قول من قال بعدم جواز الاستئجار على الأذان والإقامة إِلَّا للضرورة والحاجة، وهم أصحاب القول الأوّل؛ وذلك لا يأتي: أوَّلًا: قوة ما استدلوا به، سواء كان من المنقول، أو المعقول. أمّا ما استدلوا به على عدم الجواز في الأصل، أو لغير ضرورة أو حاجة فمن أقوى أدلتهم حديث عثمان بن أبي العاص، فإنّه حديث صحيح ثابت لا شك فيه، وهو نصّ في محل النزاع؛ لأنّ الأمر فيه للوجوب، فقوله - صلّى الله عليه وسلم -: (واتخذ) أمر، والأمر المطلق للوجوب عند الجمهور ما لم يصرفه صارف إلى الندب، أو الإباحة (¬3)، والذين حملوه على الندب، أو الورع، أو الكراهة لم يذكروا لنا دليلًا على ذلك يمكن الأخذ به وترك دلالة هذا الحديث، وأمّا ما استدلوا به على جواز الاستئجار للضرورة والحاجة، فهو تعليل قوي لا يمكن دفعه؛ لأنّه إنَّ لم نقل به ترتب على ذلك تعطل هذه ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين: 1/ 263، حاشية الطحطاوي: 4/ 30، مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: 30/ 206. (¬2) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: 24/ 316. (¬3) المحصول للرازي: 2/ 41 وما بعدها، شرح مختصر الروضة للطوفي: 2/ 365.

الشعيرة العظيمة، وهجر المساجد، وإضاعة صلاة الجماعة، وغير ذلك من المفاسد الّتي لا تخفى، وهذا كله يؤدِّي إلى إلحاق الحرج والضيق والضرر بالمسلمين، فكانت الحاجة والضرورة داعية إلى الأخذ بهذا القول. ثانيًا: أن هذا القول فيه توسط، فهو أعدل الأقوال؛ وذلك لأنّ القول بالمنع مطلقًا يوقع المسلمين في الحرج والضيق كما تقدّم. والقول بالجواز مطلقًا، فيه مخالفة لحديث رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - التصحيح الصريح في المنع من الاستئجار على الأذان، وهو حديث عثمان بن أبي العاص المتقدم. ثالثًا: أن هذا القول لا ترد عليه مناقشات كما ورد على أدلة أصحاب الأقوال الأخرى، فقد تمت مناقشتها جميعًا. رابعًا: أن أصحاب هذا القول عندما أجازوا الاستئجار على الأذان في محل الضّرورة إنّما أجازوه على ملازمة المكان، والقيام على المسجد، ومراعاة المواقيت، وليس على ذات الأذان (¬1). خامسًا: أن ترك الأمر للمحتسبين أمر لا ينضبط؛ لأنّه يترتب على ذلك ما يأتي: 1 - أن المحتسب لا يمكن إلزامه، وبالتالي إذا انقطع بعض الأوقات، أو انقطع بالكلية فلا يمكن محاسبته، وبالتالي يصبح الأمر فوضى، ويترتب على ذلك ما يترتب على القول يمنع الاستئجار مطلقًا. 2 - أن ذلك يعطي الفرصة لأهل البدع، والجهال، والفساق - كما في هذا الزّمان - للقيام بهذه الوظيفة الشريفة، وهذا خلاف ما ذكره أهل العلم من شروط المؤذن، وأنّه ينبغي أن يكون من أهل العدل، والأمانة، والسُّنَّة (¬2). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين: 1/ 263، الذّخيرة للقرافي: 66/ 2، 5/ 405. وانظر: سبل السّلام للصنعاني: 1/ 264. (¬2) حاشية ابن عابدين: 1/ 263، مواهب الجليل للحطاب: 1/ 436، والأم للشافعي: 1/ 84، ومغني المحتاج للخطيب الشربيني: 1/ 138، والمغني لابن قدامة: 2/ 69

المبحث الثالث أخذ المال على الإمامة والخطابة

المبحث الثّالث أخذ المال على الإمامة والخطابة أوَّلًا: أخذ المال على الإمامة: الإمامة (¬1) في الصّلاة من خير الأعمال، وأفضلها، ولا أدل على ذلك من أن الّذي يتولاها هم خير النَّاس وأفضلهم، وكان على رأس من تولاها يوم شرعت: رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، ثمّ تولاها بعده خلفاؤه الراشدون، ثمّ ما زال يتولاها بعد ذلك أهل العلم والفضل المتصفون بالعدالة، وحسن القراءة، وغير ذلك من الصفات الّتي يلزم توفرها لمن يتولى هذا المنصب. ولما كانت الإمامة بهذه المكانة كان لا بد من معرفة حكم أخذ المال عليها فأقول: لا خلاف بين العلماء أن ما يُعطاه الإمام في الصّلاة من غير شرط جائز، سواء ¬

_ (¬1) الإمام في اللُّغة: تطلق على معان كثيرة أهمهاهنا أنّها بمعنى: القصد والتقدم؛ يقال: أمَهم وأمّ بهم: تقدمهم، وهي الإمامة. (القاموس المحيط للفيروزآبادي: مادة أمم) الإمامة في الاصطلاح: تطلق على ثلاثة معانٍ: 1 - الإمامة الكبرى: وسيأتي الكلام عليها في موضعها من البحث - إن شاء الله-. 2 - الإمامة الصغرى: وهي إمامة الصّلاة، وهي الّتي نحن بصددها. 3 - الإمامة في الدِّين: والمراد العالم المقتدى به. انظر: منحة الخالق على البحر الرائق: 1/ 369، والمراد هنا من هذه المعاني، هو المعنى الثّاني، ولوضوحها لم يهتم الفقهاء كثيرًا بتعريفها، ولكن عرفها، بعض الفقهاء بأنّها: (ربط صلاة المؤتم بالإمام): الدر المختار مع حاشية ابن عابدين: 1/ 163. وقيل: هي "اقتداء الغير بالمصلّي". انظر: منحة الخالق لابن عابدين 1/ 163.

كان ما يُعطاه رزقًا، أم وقفًا، أم على سبيل الهدية، والبر، والصلة على إحسانه (¬1). قال ابن نجيم: " ... فإن لم يشارطهم على شيء لكن عرفوا حاجته فجمعوا له في كلّ وقت شيئًا كان حسنًا، ويطيب له" (¬2). وقال ابن قدامة: "ولا بأس أن يدفعوا إليه من غير شرط" (¬3). وقال البهوتي في الكشاف: "فإن دفع إلى الإمام شيء وبغير شرط، فلا بأس نصًا، وكذا لو كان يعطى من بيت المال، أو من وقف" (¬4). وأمّا الإجارة على الإمامة في الصّلاة فقد اختلف الفقهاء في حكمها على أربعة أقوال: القول الأوّل: لا يجوز أخذ الأجرة على الإمامة في الصّلاة إِلَّا للضرورة والحاجة. والى هذا القول ذهب المتأخرون من الحنفية (¬5)، وهو قول عند الحنابلة (¬6)، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (¬7). ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي: 1/ 140، الجر الرائق لابن نجيم: 1/ 268، رسائل ابن عابدين: 1/ 163 (رسالة شفاء الغليل)، الذّخيرة للقرافي: 2/ 66، والفروق له: 3/ 4 - 5، شرح الزرقاني على خليل: 1/ 162، 2/ 2، الشرح الكبير للدردير: 1/ 198، الخرشي على خليل: 1/ 236، الحاوي للماوردي: 2/ 77 - 78، كشاف القناع للبهوتي: 1/ 475، 4/ 12. (¬2) البحر الرائق لابن نجيم: 1/ 268. (¬3) المغني لابن قدامة: 3/ 20. (¬4) كشاف القناع للبهوتي: 1/ 475. (¬5) البحر الرائق لابن نجيم: 1/ 268، حاشية ابن عابدين 1/ 378، 5/ 34، 35، 242. ورسائل ابن عابدين: 1/ 161، الفتاوى البزازية بهامش الفتاوى الهندية: 5/ 37 - 38. (¬6) الفروع لابن مفلح: 4/ 435، الإنصاف للمرداوي: 6/ 45 - 46. (¬7) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام: 23/ 366 - 367، 20/ 202 - 207.

القول الثّاني: لا يجوز مطلقًا أخذ الأجرة على إمامة الصّلاة. وإلى هذا القول ذهب متقدمو الحنفية (¬1)، والشّافعيّة في الأصح (¬2)، والحنابلة في المشهور في المذهب (¬3)، والظاهرية (¬4). القول الثّالث: يجوز أخذ الأجرة على الإمامة بشرط أن ينضم إليها الأذان، أو القيام على المسجد، فأمّا إنَّ كانت مفردة فلا يجوز. وإلى هذا ذهب المالكية في المشهور عندهم، ومنع ذلك ابن حبيب من المالكية (¬5). القول الرّابع: يجوز مطلقًا أخذ الأجرة على الإمامة. وإلى هذا ذهب ابن عبد الحكم من المالكية، وتبعه بعض المالكية (¬6)، وهو وجه ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي: 1/ 140، 4/ 158، البحر الرائق لابن نجيم: 1/ 268، حاشية ابن عابدين: 1/ 378، 5/ 34، 35، 242، رسائل ابن عابدين: 1/ 161. (¬2) فتح العزيز شرح الوجيز للرافعي: 12/ 288، 289 (بهامش تكملة المجموع للسبكي)، روضة الطالبين للنووي: 5/ 188، مغني المحتاج للشربيني: 2/ 344، تحفة المحتاج للهيثمي: 6/ 156، فتح المعين للمليباري: 3/ 112. (¬3) المغني لابن قدامة: 8/ 136، الفروع لابن مفلح: 4/ 435، الإنصاف للمرداوي: 6/ 45 - 46، كشاف القناع: 4/ 12، الروض المربع مع حاشية ابن قاسم: 5/ 320. (¬4) المحلى لابن حزم الظاهري: 8/ 191 - 192. (¬5) المدوّنة للإمام مالك: 4/ 420، 423، البيان والتحصيل لابن رشد الجد: 1/ 469، 470، مواهب الجليل للحطاب: 1/ 455، 456، الذّخيرة للقرافي: 2/ 62، 67، الفروق: 3/ 2، 4، المعيار المعرب: 1/ 131، عقد الجواهر المْينة لابن شاس: 1/ 120؛ طبع المجمع الفقهي بجدة. (¬6) الذّخيرة للقرافي: 2/ 66، 67، الخرشي على خليل: 1/ 236، جواهر الإكليل للآبي: 1/ 37، عارضة الأحوذي لابن العربي: 2/ 13، أحكام القرآن لابن العربي: 2/ 961، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 8/ 178.

الأدلة والمناقشة

عند الشّافعيّة (¬1)، ورواية عند الحنابلة (¬2). الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة من قال بالجواز مطلقًا وهم أصحاب القول الرّابع: استدل هؤلاء بما يأتي: الدّليل الأوّل: أن الأجرة على إمامة الصّلاة هي في مقابلة التزامه للمكان المعين للصلاة، والإتيان إليه، وتكلفه ذلك، وهو غير مأمور به عينًا، ولذا جاز أخذ الأجرة عليه (¬3). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الدّليل بما يأتي: 1 - أن دليلكم هذا يلزم منه عدم جواز الأجرة على ذات الإمامة في الصّلاة، وهذا ينقض مذهبكم القائل بالجواز. 2 - أن ما ذكرتموه من تكلف الإمام الصّلاة في مكان معين - إلخ، أمر زائد على ما نحن بصدده؛ إذ أن خلافنا حول ذات الإمامة وأخذ الأجرة عليها، وهذا يدخل فيه من كلان مجاورًا للمسجد، وهو من أهله. فهل تقولون إنّه قي هذه الحالة لا يجوز له أخذ الأجرة على الإمامة؟ فإن قلتم ذلك فقد تقضتم مذهبكم، وإن قلتم بالجواز فقد أبطلتم دليلكم. ¬

_ (¬1) فتح العزيز شرح الوجيز للرافعي: 12/ 28، 289، روضة الطالبين للنووي: 5/ 188، حاشية عميرة على شرح المحلى على المنهاج: 3/ 76. (¬2) المغني لابن قدامة: 136/ 8، الفروع لابن مفلح: 4/ 435، الإنصاف للمرداوى: 6/ 45، 46، مجموع الفتاوى لابن تيمية: 23/ 366، 367، 30/ 202. (¬3) الذّخيرة للقرافي: 2/ 67، 66، الفروق للقرافي: 3/ 2، عقد الجواهر المْينة لابن شاس: 843/ 2، التاج والإكليل للمواق: 1/ 455 (بهامش مواهب الجليل للحطاب).

الدليل الثاني

الدّليل الثّاني: قياس الإمامة في الصّلاة على الأذان في جواز الاستئجار عليها بجامع أن كلًا منهما شعار غير فرض (¬1). مناقشة الاستدلال: 1 - إنَّ قياس الإمامة على الأذان قياس مع الفارق، وبيان ذلك: أن الأذان فيه كلفة غالبًا، بخلاف الإمامة، ثمّ إنَّ فضيلة الإمامة وفائدتها تحصل للإمام، وليس للمستأجر، وهي تحصيل فضيلة الجماعة بخلاف الأذان. 2 - ثمّ إننا لا نسلم لكم بأن الأذان شعار، بل هو واجب كفائي، وقد يتعين والاستئجار عليه إنّما يكون في حالة الضّرورة والحاجة، ويكون حينئذ على مراعاة الأوقات وغير ذلك ممّا يلزم الأذان. 3 - إننا لا نسلم لكم كذلك بأن الأذان يجوز أخذ الأجرة عليه مطلقًا؛ لأنّ الأذان، قد ورد النص بالمنع من الاستئجار عليه (¬2)، وإنّما جوزنا ذلك في حالة الضّرورة الحاجة فقط. الدّليل الثّالث: قياس الإمام في الصّلاة على الخليفة في جواز الأجرة بجامع أن كلًا منهما عامل لمصلحة المسلمين. قال ابن العربي (¬3): "والصّحيح جواز أخذ الأجرة على الأذان والصلاة والقضاء، وجميع الأعمال الدينية، فإن الخليفة يأخذ أجرته على هذا كله، وينيب في كلّ واحد منها، فياخذ النائب أجره كما يأخذ المستنيب، والأصل في ذلك قول النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: (ما تركت بعد نفقة عيالى ومؤنة عاملي فهو صدقة) (¬4). ¬

_ (¬1) فتح العزيز شرح الوجيز للرافعي: 12/ 289 - 290، روضة الطالبين للنووي: 5/ 188. (¬2) وهو حديث عثمان بن أبي العاص، وقد تقدّم الكلام عليه. (¬3) عارضة الأحوذي لا بن العربي: 2/ 13. دار الفكر. (¬4) سبق تخريجه. انظر: ص 192 مبحث أخذ المال على الأذان.

مناقشة الاستدلال

مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الاستدلال بما يأتي: 1 - أن قياس الإمام في الصّلاة على الخليفة قياس مع الفارق، فإن ما يأخذه الخليفة هو من قبيل الأرزاق، وهي مجمع على جوازها كما سبق بيان ذلك، وخلافنا إنّما هو في الأجرة، والرزق خلاف الأجرة فافترقا (¬1). 2 - يمكن مناقشة هذا الاستدلال كذلك بأننا لو سلمنا أن ما يأخذه الخليفة على عمله هو أجرة، فإننا لا نسلم أنّه يأخذه على الإمامة، بل يأخذه على أعمال الخلافة والإمامة العظمى، وهي كثيرة جدًا، ثمّ هو قد حبس نفسه طول الوقت لمصلحة المسلمين، وخلافنا هنا إنّما هو الأجرة على ذات الإمامة، ثمّ إنَّ الإمام في الصّلاة مصلٍ لنفسه، فهو كالمنفرد، والصلاة تلزمه، بخلاف الخليفة فإن الخلافة لا تلزمه. الدّليل الرّابع: أن الإمامة في الصّلاة من فروض الكفاية؛ فيجوز أخذ الأجرة عليها، كالعاملين على الزَّكاة (¬2). وبيان ذلك: أن العاملين على الزَّكاة: وهم الذين يقومون بتحصيلها، وجمعها، وتوزيعها على المستحقين، يأخذون أجرة على عملهم، وعملهم هذا فرض كفاية، فدل على أن ما كان من فروض الكفاية فالقائم به يجوز له أخذ الأجرة عليه، والإمامة في الصّلاة من فروض الكفاية فجاز أخذ الأجرة عليها (¬3). ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي: 3/ 19، جواهر الإكليل للآبي: 1/ 260، روضة الطالبين للنووي: 11/ 137، فتح الباري شرح البخاريّ لابن حجر، 13/ 161. قال الحافظ: "واتفقوا على أنّه لا يجوز الاستئجار عليه". يعني: منصب الإمامة العظمى. (¬2) أحكام القران لأبى بكر العربي: 2/ 961، الجامع لأحكام القران للقرطبي: 8/ 178. (¬3) سياتي الكلام حول ما يأخذه العاملون على الزَّكاة في بابه - إن شاء الله -.

مناقشة الاستدلال

مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الاستدلال بما يأتي: 1 - أن هذا قياس مع الفارق، فلا يصح؛ فإن ما يأخذه العاملون على الزَّكاة منصوص عليه من الشارع؛ قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] بخلاف الإمامة في الصّلاة؛ فإن الاستئجار عليها مختلف فيه، والأكثر على منعه - كما سيأتي -. 2 - أن الزَّكاة عبادة مالية تصح النِّيابة فيها، فيجوز أخذ الأجرة عليها، بخلاف الصّلاة فإنّه لا تجوز النِّيابة فيها، فلا يجوز أخذ الأجرة عليها (¬1). 3 - ثمّ إنَّ الإمامة في الصّلاة، وإن كانت فرض كفاية، فإن الإمام فيها عامل لنفسه؛ فهو كالمنفرد، بخلاف العاملين على الزَّكاة، فهم يعملون لغيرهم (¬2). ثانيًا: أدلة القول الثّالث: وهم الذين قالوا بجواز أخذ الأجرة على الإمامة بشرط أن يكون معها الأذان، والقيام على المسجد، فإذا كانت مفردة فلا يجوز. استدل هؤلاء بما يأتي: * قالوا: إنَّ الإجارة هنا إنّما وقعت على الأذان، والإقامة، وقيامه على المسجد، لا على الإمامة في الصّلاة، والأذان لا يلزمه، فيصح أخذ الأجرة عليه، فإذا ضم الأذان إلى الإمامة قرب العقد من الصِّحَّة (¬3). ¬

_ (¬1) المنتقى للباجي: 2/ 271، مغني المحتاج: 2/ 344، زاد المحتاج للكوهجي: 2/ 378، كشاف القناع للبهوتي: 4/ 13، المحلى لابن حزم: 8/ 192. (¬2) المبسوط للسرخسي: 1/ 140، 4/ 158، الذّخيرة للقرافي: 2/ 66 - 67، فتح العزيز شرح الوجيز للرافعي: 12/ 289 - 290. (¬3) الفروق للقرافي: 3/ 2.

مناقشة الاستدلال

جاء في المدوّنة: "وإنّما جوز مالك هذه الإجارة؛ لأنّه إنّما أوقع الإجارة في هذا على الأذان، والإقامة، وقيامه على المسجد، ولم يقع من الإجارة على الصّلاة بهم قليل، ولا كثير" (¬1). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الدّليل بما يأتي: أوَّلًا: أن مقتضى دليلكم أن الأجرة على الإمامة منفردة لا تصح، وهذا هو مشهور مذهبكم، فإذا انضم إلى الإمامة الأذان صحت الإجارة على الأذان، وبطلت في الإمامة في هذه الحالة كذلك. ثانيًا: إنكم لم توقعوا الإجارة على الإمامة في الصّلاة، وإنّما أوقعتموها على الأذان، والقيام على المسجد، وخلافنا معكم إنّما هو حول الإجارة على الإمامة، وليس على الأذان، والقيام على المسجد. ثالثًا: إننا لا نسلم لكم بأن الإجارة على الأذان تصح مطلقًا، بل هي لا تصح إِلَّا للضرورة، وإذا كانت الإجارة على الأذان لا تصح بطل ما ذهبتم إليه من صحة الإمامة على الصّلاة تبعًا للأذان. ثالثًا: أدلة القول الثّاني: وأصحاب هذا القول هم الذين ذهبوا إلى أنّه: لا يجوز مطلقًا - أخذ الأجرة على إمامة الصّلاة. وقد استدل هؤلاء بأدلة من السُّنَّة، والمعقول: أ- دليلهم من السُّنَّة: وهو حديث عثمان بن أبي العاص قال: قلت: يا رسول الله، أجعلني إمام قومي. قال - صلّى الله عليه وسلم -: (أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذنًا لا ياخذ على أذانه أجرًا) (¬2). ¬

_ (¬1) المدوّنة للإمام مالك: 4/ 420. (¬2) تقدّم تخريجه. انظر: ص 196.

وجه الاستدلال

وفي رواية: قال عثمان: (إنَّ من آخر ما عهد إليّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أن أتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا) (¬1). وجه الاستدلال: حيث منع النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - عثمان من اتخاذ المؤذن الّذي ياخذ أجرة على أذانه؛ فإذا امتنع في الأذان، امتنع في الإمامة من باب أولى؛ لكونها أدخل في باب القرب، والتعلّق بالذِّمَّة (¬2). مناقشة الاستدلال: نوقش الاستدلال بالحديث بما يأتي: 1 - أن الحديث محمول على الورع، وليس على تحريم الأجرة على الإمامة (¬3). 2 - أن الحديث محمول على الندب، وليس على وجوب اتخاذ المؤذن المحتسب (¬4). وقد تقدّم ذلك مفصلًا، والجواب عنه (¬5). ب- أدلتهم من المعقول: الدّليل الأوّل: إنَّ الإمام في الصّلاة خليفة للرسول - صلّى الله عليه وسلم - في الإمامة، والرسول - صلّى الله عليه وسلم - لم يأخذ أجرة على ذلك؛ قال تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]، فكذلك خليفته - وهو الإمام - ينبغي أن يكون مثله، فلا يأخذ على إمامته أجرًا (¬6). مناقشة الاستدلال: ¬

_ (¬1) تقدّم تخريجه. انظر ص 196. (¬2) الذّخيرة للقرافي: 2/ 66 - 67، وانظر: المحلى لابن حزم: 8/ 191. (¬3) الذّخيرة للقرافي: 2/ 67. (¬4) المجموع للنووي: 3/ 128، أسنى المطالب للأنصاري: 1/ 132. (¬5) انظر ذلك في: ص 196. (¬6) المبسوط للسرخسي: 1/ 140.

الدليل الثاني

أوَّلًا: قياس الإمام في الصّلاة على الرسول - صلّى الله عليه وسلم - قياس مع الفارق؛ لأنّ الرسول - صلّى الله عليه وسلم - هو المبلغ عن ربه، وهو الّذي جاءنا بالحقال في هو دين الإسلام، وعدم أخذه الأجرة على ذلك إنّما هو خاص به - صلّى الله عليه وسلم - بنص الآية. ثانيًا: أن العلماء متفقون غلى جواز الرزق على الإمامة، والرسول - صلّى الله عليه وسلم - ما كان يأخذ رزقًا عليها، فدلّ ذلك على أن هناك فرقًا بين الرسول - صلّى الله عليه وسلم - وبين خلفائه على إمامة الصّلاة ونحوها من الأعمال الدينية. ثالثًا: ثمّ إنَّ الآية خطاب لغير المسلمين؛ فهي لشركي قريش ونحوهم، والضمير في قوله تعالى (عليه) يراد به تبليغ دعوة التّوحيد الّتي هي دين الإسلام لهؤلاء المشركين (¬1). رابعًا: إننا منعنا أخذ الأجرة على الإمامة، ولم نجوزها إِلَّا عند الضّرورة والحاجة. الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ الإمام عمله لله تعالى، والله تعالى يثيبه على هذه الطّاعة، فنفع عمله لنفسه، فلا يصير مسلمًا إلى المستأجر، وعليه فلا يستحق الأجر عليه (¬2)، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [فصلت: 46]. مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الاستدلال بما يأتي: 1 - نسلم لكم بأن نفع عمل الإمام له، ولكن المراد بهذا النفع هو الثّواب، لا الأجرة، بدليل قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ}، والثواب غير أخذ الأجرة ¬

_ (¬1) جامع البيان للطبري: 13/ 22 - 23، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 7/ 187؛ دار الشعب، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 16/ 21. (¬2) المبسوط للسرخسي: 1/ 140، 4/ 158، بدائع الصنائع: 4/ 191 - 192، تببين الحقائق للزيلعي: 5/ 125، عمدة القاري للعيني: 12/ 95، الذّخيرة للقرافي: 2/ 66 - 67، الفروق للقرافِى: 3/ 2، روضة الطالبين: 5/ 188، مغني المحتاج للشربيني: 2/ 344.

الدليل الثالث

فافترقا ثمّ إنَّ نفع عمل الإمام يرجع إلى المأموم لأنّه بالإمامة يحصل ثواب الجماعة، وهذا نفع يرجع إليه بسبب عمل الإمام وهو الإمامه، وعليه فإن الإمام يستحق الأجرة على عمله. 2 - إنَّ الأجرة المأخوذة على الإمامة ليست على ذات الإمامة، ولكنها في مقابل الالتزام في المكان المعين (¬1). الدّليل الثّالث: إنَّ القربة متى حصلت، وقعت عن العامل، ولهذا تعتبر أهليته، فلا يجوز له أخذ الأجرة من غيره، كما في الصوم، والصلاة (¬2). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الدّليل بما يأتي: 1 - إنَّ المراد بالقربة هنا حصول الثّواب، وكلامنا هنا عن الأجرة؛ فافترقا. 2 - إنَّ القياس على الصوم والصلاة قياس مع الفارق؛ فالإمامة لا تتعين عليه، وينتفع بها المأمومون، بخلاف الصوم والصلاة فإنهما يتعينان عليه ولا يتعدى نفعهما غيره. الدّليل الرّابع: إنَّ من شرط الإمامة في الصّلاة كونها قربة إلى الله تعالى، فلم يجز أخذ الأجر عليها، كما لو استأجر قومًا يصلون خلفه الجمعة، أو التراويح (¬3). الدّليل الخامس: إنَّ هذه الأعمال يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة؛ إذ إنها تصح من المسلم دون الكافر، فلا يجوز إيقاعها إِلَّا على وجه التقرب إلى الله تعالى، وإذا فعلت بعروض لم يكن فيها أجر بالاتفاق؛ لأنّ الله تعالى إنّما ياقبل من العمل ما أريد به وجهه لا ما فعل لأجل عروض الدنيا (¬4). ¬

_ (¬1) الذّخيرة للقرافي: 2/ 66 - 67، الفروق للقرافي: 3/ 2، عقد الجواهر لابن شاس: 2/ 843 ـ (¬2) شرح فتح القدير لابن الهمام: 7/ 179، حاشية ابن عابدين: 5/ 34 - 35. (¬3) المغني لابن قدامة: 8/ 139، شرح منتهى الإرادات: 2/ 366، كشاف القناع للبهوتي: 4/ 12. (¬4) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: 24/ 315، إعلام الموقعين لابن القيم: 2/ 163.

رابعا: أدلة أصحاب القول الأول

رابعًا: أدلة أصحاب القول الأوَّل: وهم القائلون يحواز الأجرة على الإمامة في الصّلاة للضرورة والحاجة، فإن كانت هناك ضرورة أو حاجة وإلا فلا يجوز ذلك. وأدلة هؤلاء تنقسم قسمين كما سبق بيانه في مبحث الأذان: القسم الأوّل: ما يتعلّق بعدم الجواز في الأصل. وأدلتهم على ذلك هي أدلة أصحاب القول الثّاني نفسها، وقد تقدمت مفصلة (¬1). القسم الآخر: ما عللوا به على جواز الاستئجار على الإمامة للضرورة والحاجة. وهذه التعليلات هي التعليلات نفسها الَّتي عللوا بها على جواز الاستئجار على الأذان للضرورة، والحاجة، وحاصلها: هو ظهور التواني في الأمور الدينية، وكسل النَّاس في الاحتساب، فلو امتنع الجواز تعطلت المساجد، وضاعت صلاة الجماعة، وهذا خلاف ما أمر به الشارع. وحينئذ يجوز للإمام أخذ الأجرة على إمامته، فإذا فعلها لله تعالى، وأخذ الأجرة لحاجته إليها، ويستعين بها على العبادة، لأنّ الكسب على العيال واجب، فالله تعالى يأجره على نيته، ويكون قد أكل طيبًا، وعمل صالحًا؛ لأنّه جمع بين عبادتين، وهما الإمامة، والسعي على العيال، وإنّما الأعمال بالنيات (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: ص 201. (¬2) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: 24/ 316، 30/ 207، الاختيار لتعليل المختار للموصلّي: 2/ 60، حاشية ابن عابدين: 1/ 263، 5/ 442، حاشية الطحطاوي على الدر المختار: 4/ 30.

الترجيح

الترجيح: بالنظر فيما سبق من أدلة وما ورد عليها من مناقشات، والجواب عنها، يظهر رجحان القول الأوّل، وهو أنّه لا يجوز أخذ الأجرة على الإمامة في الصّلاة إِلَّا للضرورة والحاجة، وهو ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، واختاره له مذهبًا، وذكر أنّه أقوى الأقوال، وأقربها إلى الصواب (¬1)؛ ويعود سبب رجحان هذا القول لما يأتي: 1 - قوة ما استدلوا به من النقول، والمعقول؛ فحديث عثمان بن أبي العاص دلالته قوية في ذلك، وبيان ذلك أن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - لما نهى عن اتخاذ المؤذن الّذي يأخذ أجرة على أذانه دلّ ذلك على أن الإمامة لا يؤخذ عليها الأجر من باب أولى؛ وذلك لكونها أدخل في باب القربة من الأذان، وأشدّ تعلّقًا بذمة المكلَّف من الأذان (¬2). 2 - إنَّ ما استدل به أصحاب الأقوال الأخرى عبارة عن تعليلات عقلية أمكن مناقشتها، والردّ عليها. 3 - إنَّ هذا القول أقرب إلى مقاصد الشّريعة ومصالحها؛ لأنّ فيه المحافظة على الدِّين من جهة إقامة صلاة الجماعة، وإحياء المساجد، فإن القول بالمنع مطلقًا يترتب عليه إضاعة صلاة الجماعة، وتعطّل المساجد، وهذا لا يخفى فساده. 4 - إنَّ هذا القول أعدل الأقوال؛ لتوسطه بين المانعين مطلقًا، والمجوزين مطلقًا، فإن القول بمنع الاستئجار على الإمامة مطلقًا يوقع في الحرج، والضيق، والمشقة على المسلمين. والقول بالجواز مطلقًا ينافي قصد القربة إلى الله، وإخلاص العمل له، وبخاصة إذا لم يقصد العمل إِلَّا للأجرة، وأمّا إذا قصد العمل لله، وللأجرة فإن ذلك فيه ما ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى: 30/ 207، 24/ 316. (¬2) الذّخيرة للقرافيَ: 2/ 66 - 67.

فيه؛ قال ابن القيم رحمه الله (¬1): "كمن يصلّي بالأجرة فهو لو لم يأخذ الأجرة صلّى، ولكنه يصلّي لله وللأجرة فهذا لا يقبل منه العمل، كان وإنت النية شرطًا في سقوط الفرض وجب عليه الإعادة، فإن حقيقة الإخلاص الّتي هي شرط في صحة العمل والثواب عليه لم توجد، والحكم المعلق بالشرط عَدَم عند عَدَمه؛ فإن الإخلاص هو تجريد القصد طاعة للمعبود، ولم يؤمر إِلَّا بهذا، فإذا كان هذا هو المأمور به فلم يأت به بقي في عهدة الأمر. وقد دلت السُّنَّة الصريحة على ذلك كما في قوله - صلّى الله عليه وسلم -: (يقوك الله - عَزَّ وَجَلَّ - يوم القيامة: أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ فمن عمل عملًا أشْرَك فيه غيري فهو كله للذي أشرك به) (¬2). وهذا هو معنى قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]. ثانيًا: أخذ المال على الخطابة (¬3): ونلحظ أن بعض العلماء ألحقها بالإمامة في الحكم (¬4)، وبعضهم ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين لابن القيم: 2/ 163. (¬2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: في الزهد والرقائق، باب: من أشرك في عمله غير الله تعالى: 4/ 2289 (2985). (¬3) الخُطبة - بالضم - عند العرب هي: الكلام المنثور؛ يقال: خَطبَ خَطَابة، أي: صار خطيبًا، وتطلق على تأبيف كلام يتضمن وعظًا وإبلاغًا: لسان الرب لابن منظور: 1/ 361 وما بعدها، تهذيب الأسماء واللغات للنووي: 3/ 92. الخُطبة اصطلاحًا: لا يخرج معنى الخطبة في الاصطلاح عن معناها اللغوي، ولذلك فقد عرفها العلماء بأنّها: "هي الكلام المؤلّف الّذي يتضمن وعظًا، وإبلاغًا على صفة مخصوصة" .. تهذيب الأسماء واللغات للنووي: 3/ 92، حاشية الروض المربع لابن قاسم: 2/ 443، الموسوعة الفقهية- الكويت: 19/ 176. (¬4) تحفة المحتاج بشرح المنهاج لابن حجر الهيثمي: 6/ 156، حاشية الجمل: 3/ 540، إعانة الطالبين على فتح المعين: 3/ 112.

ألحقها بالأذان (¬1). وعلى كلّ حال، فالحكم فيهما واحد؛ إِلَّا أنّها بالإمامة ألصق، وأبيق، حيث إنها من عمل الإمام، وتابعة للصلاة، سواء كلان ذلك في خُطبة الجمعة أم غيرها؛ إذ هي في صلاة الجمعة شرط لصحة الجمعة (¬2)، وفي غيرها سنة تبعًا للصلاة؛ كما في العيدين، والكسوف، والاستسقاء (¬3). قال ابن قدامة: "والسُّنَّة أن يتولى الصّلاة من يتولى الخطبة؛ لأنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - كان يتولاهما بنفسه، وكذلك خلفاؤه من بعده" (¬4). فدلّ ذلك على أنّها من عمل الإمام في الصّلاة؛ وعليه فحكمها حكم الإمامة - والله أعلم-. ¬

_ (¬1) نهاية المحتاج للرملي: 5/ 291. (¬2) حاشية ابن عابدين: 1/ 544، التاج والإكلليل للمواق: 1/ 185، الشرح الصغير للدردير: 1/ 499، نهاية المحتاج للرملي: 2/ 299، المغني لابن قدامة: 3/ 170. (¬3) حاشية ابن عابدين 1/ 562، مواهب الجليل للحطاب: 2/ 196، المجموع للنووي: 5/ 122، كشاف القناع: 2/ 55. (¬4) المغني لابن قدامة: 3/ 177.

المبحث الرابع أخذ المال على عمارة المساجد وصيانتها

المبحث الرّابع أخذ المال على عمارة المساجد وصيانتها بناء المساجد، وصيانتها، والقيام على شؤونها من أعظم القرب إلى الله تعالى، وقد دلّ كتاب، والسُّنَّة، وإجماع الأُمَّة على ذلك. قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]. وقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ...} [النور: 36]. وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114]. وعمارة المساجد إنّما تكون ببنائها، والقيام عليها، وتكون بالعبادة، وإقامة الصّلاة، والإيمان، وذكر الله تعالى فيها (¬1). وباني المسجد يتقرب إلى الله تعالى ببنائه؛ فهو يعمره طاعة لله تعالى، ففي هذه الآيات الكريمات أمر الحق تبارك وتعالى بعمارة المساجد، وأن تطهر من الدنس، واللغو، والأقوال، والأفعال الّتي لا تليق بها (¬2). وقد جاءت نصوص كثيرة من السُّنَّة النبوية المطهرة، تحض على بناء المساجد، والعناية بها، والقيام على شؤونها، بالتنظيف، والتطييب، ونحو ذلك من مظاهر العناية بالمسجد، ومن أدلة ذلك: ¬

_ (¬1) نفسيرابن كثير: 4/ 61 - 63، طبعة الشعب؛ حاشية الجمل على الجلالين: 2/ 271. (¬2) تفسير ابن كثير: 6/ 66.

الدليل الأول

الدّليل الأوّل: ما روته عائشة رضي الله عنها؛ قالت: (أمر رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - ببناء المساجد في الدور (¬1)، وأن تنظف، وتطيب) (¬2). وهذا الحديث في ظاهره يدلُّ على وجوب بناء المساجد. الدّليل الثّاني: ما رواه عثمان بن عفان - رضي الله عنه -؛ قال: إنِّي سمعت رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يقول: (من بنى لله مسجدًا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتًا في الجنَّة) (¬3). وفي رواية: (بنى الله له مثله في الجنَّة) (¬4). وقد اتفق العلماء على أنّه يسن كنس المسجد، وتنظيفه، وإزالة ما يرى فيه من قذر، أو وسخ، وأن يُطيَّب (¬5)، وأوجب بعض العلماء ذلك (¬6). ¬

_ (¬1) الدور: جمع دار، وهي المنازل المسكونة والمحالّ، ويجمع أيضًا على ديار، وأراد بها هاهنا القبائل. وكل قبيلة اجتمعت في محلة سمَّت تلك المحلة دارًا. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: 2/ 139، وانظر: جامع الأصول لابن الأثير: 11/ 208، المحلى لابن حزم: 4/ 240. (¬2) أخرجه أبو داود في الصّلاة، باب ما جاء في بناء المساجد في الدور: (455) 1/ 124، والترمذي في الصّلاة، باب ما ذكر في تطييب المساجد: (594) 2/ 489، وابن ماجة في المساجد، باب تطهر المساجد وتطييبها: (758) 1/ 250. والحديث صححه ابن خزيمة حيث أخرجه في صحيحه في فضائل المساجد وبنائها وتعظيمها، باب الأمر ببناء المساجد في الدور: (1294)، 2/ 270، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: (436) 1/ 92، وصحيح سنن ابن ماجة، (613) 1/ 126. (¬3) أخرجه البخاريّ في صحيحه في الصّلاة، باب من بني مسجدًا: (450) 1/ 648. ومسلم في صحيحه في المساجد، باب فضل بناء المساجد (533) 1/ 378. (¬4) أخرجه مسلم في المساجد، باب فضل بناء المساجد والحث عليها: (533) 1/ 378، وأخرجه التّرمذيّ في الصّلاة، باب ما جاء في فضل بنيان المسجد: (318) 2/ 134، وابن خزيمة في صحيحه، في فضائل المساجد، باب فضل بناء المساجد: (1291) 2/ 269. (¬5) حاشية ابن عابدين: 1/ 441 وما بعدها، قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي ص/ 64، المجموع للنووي: 2/ 177، مطالب أولي النّهي: 2/ 254. (¬6) المحلي لابن حزم: 4/ 239، وانظر إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي: ص 352.

كما اتفق العلماء على مشروعة بناء المساجد، وعمارتها، وتعهدها، وإصلاح ماتشعَّثَ منها (¬1). هذا ما يتعلّق بفضل بناء المساجد، وتنظيفها، والقيام عليها بما يصلح من شأنّها، ويرفع من قدرها. أمّا ما يتعلّق بأخذ الأجرة على بنائها، وصيانتها فلا خلاف بين الفقهاء في جواز أخذ الأجرة على ذلك. فقد اتفق الفقهاء رحمهم الله على جواز الاستئجار على بناء المساجد، وعلى القيام عليها بالتنظيف، والتطييب، ونحو ذلك ممّا يلزم لها (¬2). وقد استدل الفقهاء على ذلك بما يأتي: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ بناء المساجد، وصيانتها ليس كلّ منهما بفرض، ولا واجب على الأجير قبل الإجارة، فجاز الاستئجار عليها (¬3). ومعنى ذلك أن بناء المساجد، وصيانتها عمل لا يلزم الأجير فعله في الأصل، والإجارة على ما لا يلزم الأجير فعله جائزة (¬4). الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ بناء المساجد، وصيانتها لا يختصان أن يكون فاعلهما من أهل القربة، وما لا يختص أن يكون فاعله من أهل القربة جاز الاستئجار عليه (¬5). ¬

_ (¬1) المجموع للنووي: 2/ 179، مطالب أولي النّهي: 2/ 354. (¬2) بدائع الصنائع للكاساني: 4/ 191، وانظر: المبسوط للسرخسي: 4/ 158، البيان والتحصيل لابن رشد: 1/ 470، المغني لابن قدامة: 8/ 140 - 141، شرح منتهى الإرادات: 2/ 367، كشاف القناع للبهوتي: 4/ 13، مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 31/ 198. (¬3) بدائع الصنائع: 4/ 191. (¬4) البيان والتحصيل لابن رشد: 1/ 470. (¬5) المغني لابن قدامة: 8/ 141، شرح منتهى الإرادات للبهوتي: 2/ 367، كشاف القناع: 4/ 13.

وبيان ذلك: أن هذا العمل يقع تارة قربة، وتارة غير قربة، فلم يمنع من الاستئجار عليه، قياسًا على غرس الأشجار، وبناء البيوت (¬1). ولذا قال ابن قدامة: "ويجوز أن يتولى الكافر ما كان قرية للمسلم، كبناء المساجد، والقناطر" (¬2). الدّليل الثّالث: قالوا: إنَّ بناء المسجد عمل ليس بعبادة محضة، بدليل صحته من الكافر، وما ليس بعبادة محضة يجوز الاستئجار عليه (¬3). ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة: 8/ 141، شرح منتهى الإرادات: 2/ 367. (¬2) المغني لابن قدامة: 13/ 389. (¬3) المبسوط للسرخسي: 4/ 158.

المبحث الخامس أخذ المال على الجنازة (تجهيز الميت ودفنه)

المبحث الخامس أخذ المال على الجنازة (تجهيز الميِّت ودفنه) الجنازة (¬1): المراد بها الميِّت، ونعني بأخذ المال عليها: على تجهيزها حتّى توارى التراب، والتجهيز يشمل أشياء كثيرة هي: غسل الميِّت، وتكفينه، والصلاة عليه، وحمله، ودفنه. وقد اتفق الفقهاء رحمهم الله تعالى على أن تجهيز الميِّت، ودفنه فرض كفاية؛ إذا قام به البعض سقط عن بقية المكلفين، وإذا تركه الجميع أثموا جميعًا (¬2). قال النووي: "غسل الميِّت فرض كفاية، وكذا التكفين، والصلاة عليه، والدفن بالإجماع" (¬3). وأمّا نفقات التجهيز فإنها تكون من تركة الميِّت، إنَّ ترك مالًا، وهي تقدّم على كلّ الحقوق المتعلّقة بالتركة؛، فإن لم يخلف مالًا، فحينئذٍ يجب تجهيزه على من وجبت ¬

_ (¬1) الجنازة في اللُّغة: الميِّت. والجنازة: بالفتح والكسر في الجيم، والكسر أفصح، وهي: مشتقة من جنز الشيء يَجْنِزه جَنْزًا: ستره، والجنازة جمعها جنائز. (المصباح المنير للفيومي: 1/ 111 مادة: جنز، والقاموس المحيط للفيروزآبادي ص: 650، مادة جنز، لسان العرب: 5/ 324، مادة: جنز). (¬2) بدائع الصنائع للكاساني: 1/ 299 - 309، مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح للشرنبلالي: ص 536، 541 التاج والأكلليل للمواق: 2/ 207، المفهم لأبي العباس القرطبي: 2/ 295، المجموع للنووي: 5/ 128، وروضة الطالبين له: 2/ 98 - 99، الإنصاف للمرداوي: 2/ 470. (¬3) روضة الطالبين للنووي: 2/ 98، وانظر: الإجماع لابن المنذر ص: 46؛ دار طيبة، وموسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي لسعدي أبي جيب: 1/ 269، 679؛ دار العربيّة بيروت وقد تعقب الحافظ ابن حجر كما في فتح الباري: 3/ 150، هذا الإجماع فقال: (وقد نقل النووي الإجماع على أن غسل الميِّت فرض كفاية وهو ذهول شديد، فإن الخلاف مشهور عند المالكية ...

عليه نفقته في حال حياته، فإن لم يوجد، فيجب تجهيزه في بيت مال المسلمين، فإن لم يوجد، أو وجد ولكن تعذر الأخذ منه، إمّا لخلوه من الأموال، أو لأي سبب آخر، فتكون نفقة تجهيزه على عامة المسلمين فرض كفاية على الغني منهم (¬1). وأمّا أخذ الأجرة على تجهيز الميِّت، ودفنه، فقد اتفق الفقهاء - رحمهم الله تعالى - على أنّه لا يجوز أخذ الأجرة على الصّلاة على الجنازة (¬2). وعللوا ذلك بما يأتي: أن صلاة الجنازة عبادة، وهي من جنس الصّلاة المتميزة بصورتها للعبادة، والصلاة لا تفعل لغير العبادة، ولهذا منع الاستئجار عليها (¬3). فأمّا غير الصّلاة نحو: غسل الميِّت، وتكفينه، وحمله، ودفنه، فقد اختلف الفقهاء في حكم أخذ الأجرة عليها على ستة أقوال: القول الأوّل: يجوز الاستئجار على تجهيز الميِّت، ودفنه ما لم يتعين عليه ذلك، فإذا تعين عليه بأن لا يوجد معه غيره فلا يجوز الاستئجار على قيامه بهذا العمل. وإلى هذا ذهب الحنفية (¬4)، والمالكية (¬5)، في المشهور عندهم، وهو قول عند ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع: 1/ 308 - 309، الشرح الصغير للدردير: 1/ 551 - 552، المجموع للنووي: 5/ 189 - 190، معونة أولي النّهي شرح المنتهى لابن النجار: 2/ 419 - 421؛ دار خضر للطباعة والنشر، بيروت، تحقيق د. عبد الملك بن دهيش 1416 هـ (¬2) جواهر الإكلليل للآبي: 2/ 189، الشرح الصغير للدردير: 4/ 11، منح الجليل لعلّيش: 7/ 500، حاشية قليوبى على شرح المحلى على المنهاج: 3/ 76، مطالب أولى النّهي: 1/ 844 (¬3) الشرح الصغير للدردير: 4/ 11، جواهر الإكلليل للآبي: 2/ 189، مطالب أولي النّهي: 1/ 844. (¬4) بدائع الصنائع للكاساني: 4/ 191 - 192، الاختيار لتعليل المختار للموصلّي: 1/ 91، الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 269، الدر المختار مع حاشية ابن عابدين: 1/ 256 - 257، الفتاوى البزازية بهامش الفتاوى الهندية: 5/ 239، الفتاوى الهندية: 1/ 159 - 160. (¬5) الشرح الكبير للدردير: 4/ 21 - 22، الشرح الصغير للدردير: 4/ 11.

الشّافعيّة (¬1). القول الثّاني: يجوز الاستئجار على التكفين، والحمل، والدفن. أمّا الغسل فلا يجوز الاستئجار عليه. وإلى هذا ذهب بعض الحنفية (¬2)، وهو قول قوي عند الحنابلة (¬3). القول الثّالث: يكره أخذ الأجرة على تجهيز الميِّت، مطلقًا، وهو الصحيح من المذهب عند الحنابلة (¬4). قال المرداوي: "يكره أخذ الأجرة للحمل، والحفر، والغسل، ونحوه على الصحيح من المذهب" (¬5). القول الرّابع: يكره أخذ الأجرة على تجهيز الميِّت من غير حاجة، فإن كانت هناك حاجة فيجوز بلا كراهة. وهو رواية عند الحنابلة (¬6). القول الخامس: يَجوز أخذ الأجرة على تجهيز الميِّت، ودفنه مطلقًا، سواء كان فرض كفاية، أو فرض عين. ¬

_ (¬1) الروضة للنووي: 5/ 187، الأشباه والنظائر لابن الوكيل: 2/ 122 - 123. (¬2) بدائع الصنائع للكاساني: 4/ 191 - 192، شرح فتح القدير لابن الهمام: 1/ 452، حاشية ابن عابدين: 1/ 576 - 577. (¬3) الإنصاف للمرداوي: 2/ 539 - 540، كشاف القناع للبهوتي: 1/ 126، مطالب أولي النّهي للرحبياني: 1/ 844. (¬4) الفروع لابن مفلح: 2/ 256، تصحيح الفروع للمرداوي: 2/ 258، الإنصاف للمرداوي: 2/ 539، معونة أولي النّهي لابن النجار الفتوحي: 2/ 465، تحقيق: د/ عبد الله بن دهيش. (¬5) الإنصاف للمرداوي: 2/ 539. (¬6) المستوعب للسامري: 3/ 99 - 100، تحقيق د/ مساعد الفالح، الفروع لمحمد بن مفلح: 2/ 258، المبدع لإبراهيم بن مفلح: 2/ 221، تصحيح الفروع للمرداوي: 2/ 258، الإنصاف للمرداوي: 2/ 539، كشاف القناع: 2/ 126.

الأدلة والمناقشة

وإلى هذا ذهب الشّافعيّة، وهو المذهب عندهم، فإذا كان فرض كفاية فلا خلاف، وأمّا إذا تعين فيجوز كذلك على الأصح عندهم (¬1)، وهذا القول رواية عند الحنابلة (¬2). القول السّادس والأخير: لا يجوز أخذ الأجرة على تجهيز الميِّت مطلقًا. وإلى هذا مال بعض الحنفية (¬3)، وهو رواية عند الحنابلة (¬4). هذا حاصل أقوال الفقهاء في هذه المسألة، ويلحظ هنا التفاوت الكبير في الحكم، فبينما يرى البعض المنع مطلقًا يرى البعض الآخر الجواز مطلقًا، وبين هذين القولين أربعة أقوال متفاوتة، ويرجع ذلك إلى عدم وجود نصّ في المسألة، واختلاف مدارك الحكم في نظر الفقهاء، كما سيظهر من خلال الأدلة، والمناقشة، وكلها أدلة عقلية - كما سيأتي -. الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة القائلين بعدم الجواز مطلقًا، وهم أصحاب القول السّادس: استدل هؤلاء بما يأتي: ¬

_ (¬1) روضة الطالبين للنووي: 5/ 187، الأشباه والنظائر لا بن الوكيل: 2/ 122 - 123، مغني المحتاج للشربيني: 2/ 344. (¬2) المستوعب للسامري: 3/ 100، الفروع لابن مفلح: 2/ 258، تصحيح الفروع للمرداوي: 2/ 539 - 540، معونة أولي النّهي لابن النجار: 2/ 465. (¬3) حاشية ابن عابدين: 1/ 576 - 577، قال ابن عابدين: "أخذ الأجرة على الطّاعة لايجوز مطلقًا عند المتقدمين، وأجازه المتأخرون على تعليم القرآن، والأذان، والإمامة للضرورة - ومقتضاه عدم الجواز هنا، وإن وجد غيره؛ لأنّه طاعة تعين أم لا". (¬4) الفروع لابن مفلح: 2/ 258، تصحيح الفروع للمرداوي: 2/ 258، الإنصاف له: 2/ 539 - 540، ومعونة أولي النّهي لابن النجار: 2/ 465، مطالب أولي النّهي: 1/ 844.

الدليل الأول

الدّليل الأوّل: أن تجهيز الميت، ودفنه طاعة لله تعالى، والطاعة لا يجوز الاستئجار عليها، سواء تعينت عليه أم لا (¬1). مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الاستدلال بما يلي: 1 - لا نسلم لكم أن تجهيز الميِّت يكون طاعة دائمًا؛ فقد يكون طاعة، وقد لايكون؛ لأنّه لا يختص أن يكون فاعله من أهل القربة، وحينئذ يجوز الاستئجار عليه؛ لأنّ ما لا يختص أن يكون فاعله من أهل القربة يجوز الاستئجار عليه (¬2). 2 - سلمنا لكم أن تجهيز الميِّت طاعة؛ وذلك حين يقوم به المسلم طاعة لله -عَزَّ وَجَلَّ-، فحيث يكون فرض كفاية فإنّه يجوز الاستئجار عليه؛ لأنّه غير مقصود بفعله في الأصل، فلا تعود منفعته عليه (¬3). الدّليل الثّاني: أن تجهيز الميِّت، وان كان فرض كفاية ابتداءً، إِلَّا أنّه عند المباشرة له يصبح فرض عين، كالجهاد، وفرض العين لا يجوز الاستئجار عليه (¬4). مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الاستدلال بما يأتي: 1 - لا نسلم لكم بأن من يباشر تجهيز الميِّت يتعين عليه، بدليل أنّه لو أراد أحد أن يقوم مقامه في تجهيز الميِّت، لم يمتنع على من يباشر تجهيزه الترك في هذه الحالة (¬5). 2 - سلمنا لكم أن من يباشر التجهيز يصبح فرض عين عليه، إِلَّا أنّه لا يكون كالجهاد؛ لوجود الفرق بين التجهيز، والجهاد؛ وذلك من عدة وجوه:- ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين: 1/ 576 - 577. (¬2) كشاف القناع للبهوتي: 2/ 126، وانظر: الفروع لابن مفلح: 2/ 258. (¬3) حاشية الجمل على شرح المنهج للأنصاري: 3/ 540. (¬4) حاشية الجمل: 3/ 540، وانظر: حاشية ابن عابدين: 1/ 576. (¬5) حاشية الجمل: 3/ 540.

ثانيا: أدلة القائلين بالجواز مطلقا، وهم أصحاب القول الخامس

الوجه الأوّل: أن الجهاد يشترط فيه النية، بخلاف تجهيز الميِّت (¬1). الوجه الثّاني: أن مؤن التجهيز إنّما تجب في مال الميط بالأصالة، ثمّ في مال من تلزمه نفقته في حال الحياة، ثمّ في مال المياسير من المسلمين، فلم يقصد الأجير بنفسه، حتّى يقع عنه، أمّا عروض تعينه عليه فلا يضر كالمضطر، فإنّه يتعين إطعامه مع تغريمه البدل (¬2). الوجه الثّالث: أنّه في الجهاد: من حضر الصف تعين عليه، فلا يجوز انصرافه بحال، كان لم مجتج إليه بوجه، ولو قام غيره مقامه، بخلاف من تعين عليه التجهيز، فله الانصراف إذا وجد من يقوم مقامه (¬3). ثانيًا: أدلة القائلين بالجواز مطلقًا، وهم أصحاب القول الخامس: وقد استدلوا على ما ذهبوا إليه بما يأتي: الدّليل الأوّل: أن تجهيز الميِّت عبادة، لا يشترط فيه النية؛ فجاز الاستئجار عليه (¬4). مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الاستدلال بما يأتي: أن الأصل في العبادة أن تكون لله، ابتغاء الثّواب، والأجر من عنده، والمسلم إذا قام بهذا العمل فإنّه ينويه لله حتّى يحصل على الأجر، ولهذا اشترط كثير من العلماء في العبادة: النية -كما سبق بيانه- (¬5). ¬

_ (¬1) شرح المنهج للشيخ زكريا الأنصاريَ: 3/ 540 (بهامش حاشية الجمل). (¬2) روضة الطالبين للنووي: 5/ 187، حاشية الجمل: 3/ 540، نهاية المحتاج للرملي: 5/ 292. (¬3) حاشية الجمل: 3/ 540، وحاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج للرملي: 5/ 292. (¬4) شرح المحلي على المنهاج: 3/ 76 (بهامش حاشيتي قليوبي وعميرة)، نهاية المحتاج للرملي: 5/ 292، كشاف القناع: 2/ 126. (¬5) انظر: ص 111 من هذا الكتاب، وانظر: حاشية ابن عابدين: 1/ 72، والبحر المحيط للزركشي: 1/ 293.

الدليل الثاني

أمّا إذا قام المسلم بهذا العمل، ولم ينوه، فإنّه حينئذ لا يكون عبادة، بل يكون في حكم العادة؛ لأنّ من أسباب مشروعية النية: التفريق بين العبادة والعادة (¬1). الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ فعل الأجير واقع عن المستأجر، فجاز الاستئجار عليه؛ وذلك لأنّ من شروط الإجارة أن تكون المنفعة حاصلة للمستأجر (¬2). الدّليل الثّالث: قالوا: إنَّ تجهيز الميِّت فرض كفاية لم يتعين عليه، ويقبل النياية، فجاز أخذ الأجرة عليه (¬3). الدّليل الرّابع: أن مؤن التجهيز إنّما تجب في مال الميِّت أصالة، ثمّ في مال من تجب عليه نفقته في بيت مال المسلمين، ثمّ في مال أغنياء المسلمين على من علم منهم فرض كفاية، وفرض الكفاية لا يتعلّق في الأصل بعين كلّ مكلَّف، فلم يُقصد الأجير بنفسه؛ وعليه فلا يقع الفعل عنه (¬4). الدّليل الخامس: قالوا: إنَّ تجهيز الميِّت فرض كفاية، فيجوز أخذ الأجرة عليه قياسًا على العامل على الزَّكاة، فإن ما يأخذه عامل الزَّكاة هو أجرة على الأصح (¬5). الدّليل السّادس: أن تجهيز الميِّت إذا تعين فإنّه يجوز أخذ الأجرة عليه قياسًا على إطعام المضطر، فإنّه يجب إطعامه مع تغريمه البدل (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: ص 112 من هذا الكتاب، وانظر: مغني المحتاج: 1/ 47، نهاية المحتاج: 1/ 158، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص/ 12، وكشاف القناع: 2/ 260. (¬2) حاشية قليوبي على شرح المنهاج للمحلي: 2/ 338. (¬3) شرح المحلي على المنهاج: 3/ 76، مغني المحتاج: 2/ 344. (¬4) روضة الطالبين للنووي: 5/ 187، حاشية الحمل: 3/ 540، حاشية عميرة على شرح جلال الدِّين المحلي على المنهاج: 3/ 76، نهاية المحتاج للرملي: 5/ 292. (¬5) الحاوي للماوردي: 10/ 596، حاشية الشرواني على تحفة المحتاج: 6/ 157. (¬6) روضة الطالبين: 5/ 187، الأشباه والنظائر لابن الوكيل: 2/ 122 - 123، حاشية الشرواني على تحفة المحتاج: 6/ 157.

مناقشة الاستدلال

مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الاستدلال بما يأتي: أوَّلًا: لا نسلم لكم جواز أخذ الأجرة على تجهيز الميِّت إذا أصبح فرض عين، لهل نقول لا يجوز أخذ الأجرة في هذه الحالة قياسًا على فرض العين ابتداءً (¬1). ثانيًا: إنَّ هذا قياس مع الفارق؛ فإن المضطر إذا لم يأكل هلك، فيترتب على عدم إطعامه فوات نفس، بخلاف المتعين لتجهيز الميِّت، فإنّه لا يترتب على عدم إعطائه أجرة فوات نفسه. ثالثًا: لا نسلم لكم أن المضطر يجب تغريمه في كلّ حال، بل يُغرم إذا أمكن ذلك، كذلك الميِّت لا يمكن تغريمه، إذا تعذر تحصيل نفقات تجهيزه بالترتيب الّذي معنا، وحينئذ يصبح تجهيزه فرض عين، فلا تصح الإجارة عليه. ثالثًا: أدلة القائلين بكراهة أحد الأجرة على تجهيز الميِّت من غير حاجة: وهم أصحاب القول الرّابع: وقد استدل هؤلاء بما يأتي: أ- أدلتهم على أنّه يكره مطلقًا لغير حاجة: الدّليل الأوّل: أن أخذ الأجرة على تجهيز الميِّت يذهب بالأجر من الله تعالى على هذا العمل (¬2). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الدّليل: بأن أخذ الأجرة على تجهيز الميِّت لا يلزم منه ذهاب الأجر من الله تعالى، بل يمكن الجمع بينهما، بأن ينوي بعمله هذا وجه الله، ¬

_ (¬1) روضة الطالبين: 5/ 187، وانظر: بدائع الصنائع للكاساني: 4/ 191 - 192. (¬2) كشاف القناع للبهوتي: 2/ 126.

الدليل الثاني

والإحسان للميت، والأجرة تكون في مقابل جهده، وعمله، وحبس نفسه على هذا العمل. الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ تجهيز الميِّت قربة، والأصل في القرب أن تفعل لوجه الله بدون أجر. ولذا فإنّه يكره أخذ الأجرة على تجهيز الميِّت (¬1). مناقشة الاستدلال: مناقشة هذا الدّليل قريبة من مناقشة الدّليل الأوّل. الدّليل الثّالث: قالوا: إنَّ تجهيز الميِّت من أعمال البرّ، وأخذ الأجرة عليه يورث تمني موت المسلمين، فيشبه الاحتكار (¬2). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا التعليل بما يأتي: إنَّ ذلك بعيد، ولا يكون إِلَّا ممّن لا يخاف الله، بل كلّ همه جمع المال، أمّا السلم الحق فإنّه لا يفعل ذلك، بل يخلص عمله لله، وأمّا الأجر فمقابل جهده، وعمله، وحبس نفسه لهذا العمل. ب - أمّا كونه يجوز بلا كراهة مع الحاجة: فإن التعليل بالحاجة هنا ظاهر. ووجه ذلك: أن من قام بتجهيز الميِّت، وهو فقير، فإنّه إنَّ فعل ذلك لله تعالى، وابتغاء مرضاته، وإنّما أخذ الأجرة لحاجته، لينفق منها على نفسه، وعياله؛ لأنّ الكسب على العيال واجب، فإن الله تعالى يأجره على نيته، ويكون قد أكل طيبًا وعمل صالحًا (¬3). وقد سبق تفصيل ذلك في بابي: الأذان والإقامة (¬4). ¬

_ (¬1) مطالب أولي النّهي للرحيباني: 1/ 844. (¬2) الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية: ص / 156. (¬3) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام أبن تيمية: 24/ 316. 30/ 207. (¬4) انظر: ص 172 من هذا الكتاب.

رابعا: أدلة من قال بالكراهة مطلقا

وأمّا كونه ياخذ من بيت المال فلأن بيت المال معدّ للمصالح، وتجهيز الميِّت من المصالح (¬1). رابعًا: أدلة من قال بالكراهة مطلقًا: وهؤلاء هم أصحاب القول الثّالث، وهو الصحيح من المذهب عند الحنابلة. أمّا أدلتهم فقد سبق ذكرها؛ إذ هي أدلة القول السابق نفسها، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا. خامسًا: أدلة من قال بجواز الاستئجار على تجهيز الميِّت إِلَّا الغسل فلا يجوز: وهؤلاء هم أصحاب القول الثّاني، وقد استدلوا بما يأتي: الدّليل الأوّل: أن غسل الميِّت واجب، بخلاف الحمل، والدفن، والاستئجار على الواجب لا يجوز (¬2). مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الاستدلال بما يأتي: لا نسلم لكم بأن الحمل، والدفن غير واجبين، بل نقول: إنَّ تجهيز الميِّت من غسل، وحمل، ودفن، ونحو ذلك فرض كفاية، وذلك بالإجماع، كما سبق بيانه (¬3)، فإذا جاز الاستئجار على الحمل، والدفن جاز على الغسل كذلك. وذلك ما لم يصبح فرض عين كما سيأتي. الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ الحمل، والدفن لا يشترط فيمن يقوم بهما أن يكون من أهل القربة، فجاز الاستئجار عليهما، بخلاف الغسل، فإنّه يشترط فيه ذلك، ولذا فلا يجوز الاستئجار عليه (¬4). ¬

_ (¬1) حاشية ابن القاسم على الروض المربع: 3/ 28. (¬2) بدائع الصنائع للكاساني: 4/ 191 - 192. (¬3) أنظر: ص 225 من هذا الكتاب، وانظر. الإنصاف للمرداوي: 2/ 470. (¬4) كشاف القناع للبهوتي: 2/ 126، والإنصاف للمرداوي: 2/ 539 - 540.

مناقشة الاستدلال

مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الدّليل بما يأتي: لا نسلم بأن الغسل يشترط فيمن يقوم به أن يكون من أهل القربة، بل نقول إنّه لا يختص أن يكون فاعله من أهل القربة؛ وذلك لصحته من الكافر (¬1). الدّليل الثّالث: قالوا: إنَّ الغسل يشترط له النية، فلا يجوز الاستئجار عليه، بخلاف الحمل، والدفن، والتكفين، فإنّه لا يشترط لها نيّة (¬2). مناقشة الاستدلال: لا نسلم لكم بأن الغسل يشترط له النية؛ وذلك لصحته من الكافر - وقد سبق ذلك - (¬3)، وإذا فعله المسلم فإنّه ينويه؛ وذلك لحصول الثّواب، وكذلك الحمل، والدفن، وخلافه. سادسًا: أدلة من قال بجواز الاستئجار ما لم يصبح فرض عين: وهؤلاء هم أصحاب القول الأوّل، وأدلة هؤلاء ذات شقين: الشق الأوّل: ما يتعلّق بالاستئجار على تجهيز الميِّت ما لم يتعين، أي: عندما يكون فرض كفاية، والأدلة على هذا الشق قد تقدمت، ولا حاجة بنا إلى إعادتها هنا (¬4). والشق الآخر: ما يتعلّق بالمنع من الاستئجار على تجهيز الميِّت إذا أصبح فرض عين. وقد استدلوا على ذلك بما يأتي: الدّليل الأوّل: أن تجهيز الميِّت إذا تعين على شخص، فإنّه يصبح في حقه فرض ¬

_ (¬1) حاشية ابن قاسم على الروض المربع: 3/ 28. (¬2) كشاف القناع: 2/ 126. (¬3) انظر: الدر المختار مع حاشية ابن عابدين: 1/ 577. (¬4) انظر: ص 230 - 231 وما بعدها من هذا الكتاب.

الدليل الثاني

عين، وفرض العين لا يجوز الاستئجار عليه، قياسًا على فرض العين ابتداءً (¬1). الدّليل الثّاني: قالوا: إنّه قام بواجب، وليس لمن قام بواجب أخذ الأجرة عليه (¬2). الترجيح: بعد ذكر الأدلة وكما ورد عليها من مناقشات، يظهر رجحان القول الأوّل، وهو قول من قال بجواز الاستئجار على تجهيز اليت إذاوإن فرض كفاية، أمّا إذا أصبح فرض عين فلا يجوز ذلك. ومن أسباب ترجيح هذا القول ما يأتي: أوَّلًا: قوة ما علل به أصحاب هذا القول، فإن القول بجواز الاستئجار إذا كان التجهيز فرض كفاية قول قوي، وعليه جمهور العلماء من جميع المذاهب، وتعليلات العلماء لذلك قوية جدًا، وأمّا ما عللوا به لنع ذلك إذاوإن التجهيز فرض عين، فإنّه تعليل قوي جدًا؛ لأنّ فروض الأعيان لا يجوز الاستئجار عليها بالاتفاق (¬3). ثانيًا: أن هذا القول يجمع بين أقوال العلماء المختلفة في هذه المسألة، وبيان ذلك: أن من قالوا بالمنع يمكن حمل قولهم على ما إذا كان تجهيز الميت فرض عين، وأمّا من قالوا بالكراهة - سواء كانت مطلقة، أو مقيدة - فإن الكراهة لا تنافي الجواز، بل تفيد الأفضلية، والاستحباب للتجهيز مجانًا ابتغاء الأجر، والمثوبة من الله تعالى، ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني: 4/ 191، الدر المختار للحصفكي مع حاشية ابن عابدين: 1/ 577، حاشية ابن عابدين: 1/ 576 - 577، الشرح الصغير للدردير: 4/ 10 - 12، روضة الطالبين للنووي: 5/ 187. (¬2) بدائع الصنائع: 4/ 191 - 192، حاشية الطحطاوي على الدر المختار: 1/ 368. (¬3) المبسوط للسرخسي: 4/ 158، بداية المجتهد: 7/ 447، روضة الطالبين: 3/ 301، المغني 8/ 141.

وهذا لا يخالف فيه أحد من العلماء، وأمّا من قالوا بالجواز مطلقًا، فإنهم لا يخالفون إِلَّا في حالة التعين، وقد أمكن الجواب عما استدلوا بما يزيل التعارض. ثالثًا: أنّه أمكن الجواب عما استدل به المخالفون من أدلة ممّا أضعف من دلالتها.

الفصل الثاني أخذ المال على الزكاة والصيام

الفصل الثّاني أخذ المال على الزكاة والصيام وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأوّل: أخذ المال على الزَّكاة المبحث الثّاني: أخذ المال على الصِّيام المبحث الثّالث: أخذ المال على الاعتكاف

المبحث الأول أخذ المال على الزكاة

المبحث الأوّل أخذ المال على الزَّكاة المطلب الأوّل النِّيابة في الزَّكاة لا خلاف بين العلماء في جواز النِّيابة في الزَّكاة؛ لأنّ الغرض منها هو سدّ خلة المحتاج، وذلك يحصل نيابة، وعليه فيجوز الإنابة فيها في حالة الاختيار والضرورة (¬1). قال القرافي: "الأفعال قسمان: منها ما يشتمل فعله على مصلحة مع قطع النظر عن فاعله، كردّ الودائع، وقضاء الديون، وردّ الغصوبات (¬2)، وتفريق الزكوات ... ونحوها، فيصح في جميع ذلك النِّيابة إجماعًا" (¬3). وقال ابن قدامة: "وأمّا العبادات فما كان منها له تعلّق بالمال، كالزكاة، والصدقات، والمنذورات، والكفارات، جاز التوكيل في قبضها وتفريقها، ويجوز للمخرج التوكيل في إخراجها، ودفعها إلى مستحقها .... " (¬4). ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي: 4/ 152، الهداية للمرغيناني ح شرح فتح القدير: 2/ 308 - 309، الفروق للقرافي: 2/ 205، الشرح الكبير للدردير (بهامش حاشية الدسوقي): 1/ 398، المجموع للنووي: 6/ 181، مغني المحتاج للشربيني: 2/ 344، المغني لابن قدامة: 7/ 202. (¬2) الغصب في اللُّغة: أخذ الشيء ظلمًا وقهرًا. واصطلاحًا: هو الاستيلاء على مال الغير قهرًا بغير حق. بدائع الصنائع للكاساني: 7/ 143، الشرح الصغير للدردير: 3/ 581، السراج الوهاج للغمراوي، ص /266، كشاف القناع للبهوتي: 4/ 76. (¬3) الفروق للقرافي: 2/ 205. (¬4) المغني لابن قدامة: 7/ 202.

المطلب الثاني العاملون على الزكاة

المطلب الثّاني العاملون على الزَّكاة جاء ذكر العاملين على الزَّكاة مصرحًا به في القرآن الكريم عند ذكر الأصناف الذين تكون فيهم الزَّكاة، والصدقات، وهو ما يسمى عند العلماء: (مصارف الزَّكاة). قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]. والعاملون على الزَّكاة معروفون منذ عهد النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - وإلى يومنا هذا، فما زال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - يبعث العاملين على الزَّكاة لجمعها، ومن ثمّ وضعها في مستحقيها، وعلى ذلك سار خلفاؤه من بعده؛ وبناءً عليه فقد عرف العلماء العاملين عليها، ووضعوا لهم ضابطًا، وهذا ما سأبينه فيما يأتي: * تعريف العاملين على الزَّكاة: عرفهم العلماء بتعريفات عدة نذكر بعضًا منها: التعريف الأوّل: عرفهم الماوردي، فقال: "هو من ولاه الإمام قبضها، وتفريقها، نيابة عن أهل الصدقات" (¬1). التعريف الثّاني: عرفهم ابن قدامة بانهم: "هم الذين يبعثهم الإمام لأخذ الزَّكاة من أربابها، وجمعها، ونقلها، ومن يعينهم ممّن يسوقها، ويرعاها، ويحملها، ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير للماوردي: 10/ 561.

وكذلك الحاسب، والكاتب، والكيال، والوزان، والعداد، وكل من يحتاج إليه فيها" (¬1). التعريف الثّالث: عرفهم ابن حزم بأنّهم: "هم العمال الخارجون من عند الإمام الواجبة طاعته" (¬2). وبالنظر في تعريف العلماء للعاملين على الزَّكاة نجد أن عبارتهم كلها تدور حول معنى واحد، وهو أنّهم: "هم الذين يوليهم الإمام جمع الزَّكاة، والقيام عليها، حتّى تصل إلى مستحقيها"؛ فكل من يحتاج إليه الإمام فيها فهو من العاملين عليها. قال ابن بطّال: "اتفق العلماء على أن العاملين عليها: السعاة المتولون لقبض الصَّدقة" (¬3). ويلحظ من خلال تعريف العلماء للعاملين عليها أنّهم يشترطون أن يكون العامل مرسلًا من قبل الإمام، أو من يقوم مقامه، فإذا أطلق لفظ العامل انصرف الذهن إلى من يوليه الإمامُ، أو نائبه قبض الصَّدقة، والقيام على أمرها، وشؤونها حتّى تصل إلى مستحقيها. وبناءً عليه، فإنّه لا يصح إطلاق لفظ "العامل" على غير من يرسله الإمام، أو نائبه. قال ابن حزم: "وقد اتفقت الأُمَّة على أنّه ليس كلّ من قال: أنا عامل عاملًا، ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة: 9/ 312. ولمزيد الوقوف على تعريف العاملين على الزَّكاة عند الفقهاء انظر: المبسوط للسرخسي: 3/ 9، بدائع الصنائع للكاساني: 2/ 44، الكافي لابن عبد البرّ: 1/ 326، مواهب الجليل للحطاب: 2/ 349، حاشية قليوبي وعميرة على شرح المنهاج: 3/ 196، حاشية الشرقاوي على التحرير: 1/ 390، المبدع لابن مفلح: 2/ 415، الروض المربع مع حاشية ابن قاسم: 3/ 213، الجامع لأحكام القرآن للقَرطبي: 8/ 177 - 178، المحلى لابن حزم: 6/ 149، فتح الباري لابن حجر: 3/ 428، نقلًا عن ابن بطّال. (¬2) المحلى لابن حزم: 6/ 149. (¬3) فتح الباري للحافظ ابن حجر: 3/ 428.

وقد قال عليه الصّلاة والسلام: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردّ) (¬1). فكل من عمل من غير أن يوليه الإمام الواجبة طاعته، فليس من العاملين عليها، ولا يجزئ رفع الصَّدقة إليه" (¬2). ومما سبق يتضح لنا جليًا أن العامل مخصوص بمن يرسله الإمام، أو نائبه. بناءً على ما سبق، فإنّه لو قام شيخ قبيلة - مثلًا -، أو كبير عائلة، أو أحد الأغنياء الكبار بتكليف شخص، أو أشخاص بجمع الزَّكاة، وتفريقها على مستحقيها، فإن هذا الشخص، أو الأشخاص لا يدخلون تحت مسمى (العاملين عليها)، بل يدخلون تحت باب الوكالة، ويكون هذا الشخص وكيلًا عن أصحاب الأموال في إيصال الزَّكاة إلى مستحقيها. وقد تقدّم أن النِّيابة في الزَّكاة جائزة بالإجماع، وعليه فإن الوكيل يجوز له حينئذ أخذ الأجرة على عصله من أرباب الأموال، لا من الزَّكاة؛ وذللث بصفته وكيلًا، لا عاملًا. قال المرداوي: "لو وكل غيره في تفرقة زكاته لم يدفع إليه من سهم العامل" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ معلقًا بصيغة الجزم في كتاب البيوع، باب النجش: 4/ 416 (2142)، ووصله في كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود: 5/ 355 (2697)، ولكن بلفظ:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، من رواية عائشة رضي الله عنها. وأخرجه مسلم باللفظ الأخير في كتاب الأقضية، باب ناقض الأحكام الباطلة: 3/ 1343 (1718). (¬2) المحلى لابن حزم: 6/ 149. (¬3) الإنصاف للمرداوي: 3/ 227، كشاف القناع للبهوتي: 2/ 275.

أمّا إذا قام الشخص نفسه بتأدية زكلاة ماله، فإنّه حينئذ لا يدخل تحت مسمى العامل، ولا يحل له أخذ شيء منها في مقابل عمله؛ لأنّ تأدية زكاة ماله واجب عليه متعين، ولا يجوز أخذ الأجرة على الواجب العيني (¬1). ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة: 8/ 141.

المطلب الثالث مقدار ما يأخذه العاملون على الزكاة

المطلب الثّالث مقدار ما يأخذه العاملون على الزَّكاة اتفق الفقهاء - رحمهم الله تعالى - على أن العامل على الزَّكاة يستحق العِوض على عمله، كما أنّهم اتفقوا على أن هذا العِوض يكون على قدر جهده، وعمله، وعنائه، وسعيه. كما اتفقوا على أنّه إذاوإن هذا العِوض مساويًا لثُمن الزَّكاة فإنّه يأخذه كاملًا. واتفقوا كذلك على أنّه إذا كان ما يستحقه على عمله أقل من الثّمن فإنّه يأخذ قدر عمله، ثمّ يُردّ الباقي على أصحاب السهمان. واتفقوا كذلك على أنّه إذا كان سهم العاملين أقل ممّا يسحقونه فإنّه يُزاد لهم، ويكمل لهم قدر استحقاقهم دون التقيد بالثّمن (¬1). ولكنهم اختلفوا في الزيادة على الثّمن؛ هل تؤخذ هذه الزيادة من أموال الزَّكاة؟ أم تكون في بيت المال؟. ¬

_ (¬1) الخراج لأبي يوسف، ص: 87، المبسوط للسرخسي: 3/ 9، بدائع الصنائع للكاساني: 2/ 44، الهداية شرح البداية للمرغيناني: 2/ 16، شرح فتح القدير لابن الهمام: 2/ 16، والعناية شرح البداية للبابرتي: 2/ 16 - 17، المعونة للقاضي عبد الوهّاب: 1/ 442، بداية المجتهد لابن رشد: 5/ 96 - 101، الاستذكار لابن عبد البرّ: 9/ 203 - 204، المنتقى للباجي: 2/ 153، جواهر الإكليل للآبي:1/ 138. الأم للشافعي: 2/ 74 - 75، المهذب للشيرازي: 1/ 171، المجموع للنووي: 6/ 188، شرح السُّنَّة للبغوي: 3/ 90 - 91، المغني لابن قدامة: 4/ 107 - 108، 9/ 312 - 315، الإنصاف للمرداوي: 3/ 239، معونة أولي النّهي لابن النجار: 2/ 763، كشاف القناع للبهوتي: 2/ 276، وجامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري: 6/ 161.

اختلفوا في ذلك على أقوال أهمها ثلاثة أقوال

اختلفوا في ذلك على أقوال أهمها ثلاثة أقوال: القول الأوّل: إنّه يتمم له من أموال الزَّكاة؛ فياخذ ثمنه كاملًا وما زاد على الثّمن فمن أموال الزَّكاة. وإلى هذا ذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، وهو المذهب عند الشّافعيّة (¬3)، والصّحيح من المذهب عند الحنابلة (¬4). القول الثّاني: إنّه يتمم له من بيت المال من سهم المصالح. وإلى هذا ذهب الإمام مالك في قول (¬5)، وهو قول عند الشّافعيّة (¬6) نصّ عليه الإمام، وهو قول عند الحنابلة (¬7). القول الثّالث: إنَّ الأمر في ذلك راجع إلى اجتهاد الإمام، فإن شاء تمم لهم من أموال الزَّكاة، وإن شاء تمم لهم من سهم المصالح من بيت المال. فيتخير الإمام من ذلك بحسب المصلحة، بل إنَّ للإمام أن يجعل أجرة العامل كلها في بيت المال، ويقسَم جميع أموال الزَّكاة على بقية الأصناف، إنَّ رأى في ذلك مصلحة. ¬

_ (¬1) الخراج لأبي يوسف، ص: 87، المبسوط للسرخسي: 3/ 9، بدائع الصنائع للكاساني: 2/ 44. (¬2) المعونة للقاضي عبد الوهاب: 1/ 442، الاستذكار لابن عبد البر: 9/ 204، الخرشي على خليل: 2/ 216، أحكام القرآن لابن العربي: 2/ 962. (¬3) الأم للشافعي: 2/ 74 - 75، المهذب للشيرازي: 1/ 171، المجموع للنووي: 6/ 188، وانظر: الأحكام السلطانية للماوردي، ص / 123، روضة الطالبين للنووي: 2/ 328. (¬4) المغنى لابن قدامة: 9/ 312 - 315، الإنصاف للمرداوي ت 3/ 239. (¬5) أحكام القرآن لابن العربي: 2/ 962. (¬6) الأم للشافعي: 2/ 74 - 75، المهذب للشيرازي: 1/ 171، المجموع للنووي: 6/ 188، روضة الطالبين للنووي: 2/ 328. قلتُ: نقل النووي اتفاق الشّافعيّة على ذلك. انظر: المجموع 6/ 188، وسيأتي تحقيق مذهب الشّافعيّة في هذه المسألةُ. (¬7) الفروع لابن مفلح: 2/ 607، الإنصاف للمرداوي: 3/ 239.

الأدلة والمناقشة

وإلى هذا ذهب بعض الشّافعيّة (¬1)؛ قال الشيرازي: "ومن أصحابنا من قال: الإمام بالخيار، إن شاء تممه من سهم المصالح، وإن شاء من سهامهم ... (¬2). وبه قال بعض الحنابلة (¬3)؛ قال ابن قدامة: "وإن رأى الإمام أعطاه أجرة من بيت المال، أو يجعل له رزقًا في بيت المال، ولا يعطيه منها شيئًا فعل" (¬4). الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة أصحاب القول الثّالث: علل هؤلاء لما ذهبوا إليه بما يأتي: التعليل الأوّل: قالوا: إنَّ بيت المال مُعدّ لمصالح المسلمين، وهذا من المصالح فجاز للإمام إعطاؤهم منه (¬5). وإن أعطاهم من الزَّكاة فلا حرج عليه؛ لأنّ الله تعالى أخبر بسهمهم فيها كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ...} الآية [التوبة: 60]. ¬

_ (¬1) الأم للشافعي: 2/ 74 - 75، المهذب للشيرازي: 1/ 171، المجموع للنووي: 6/ 188، روضة الطالبين للنووي: 2/ 328. (تنبيه): مذهب الشّافعيّة في مسألة تتميم أجرة العامل هي كالآتي: أوَّلًا: أن يكون التتميم من أموال الزَّكاة، وهذا محل خلاف بينهم؛ التصحيح الجواز، ومنهم من منع ذلك. ثانيًا: أن يكون التتميم من بيت المال. وهذا محل اتفاق بين الشّافعيّة؛ فالشّافعيّة متفقون على جواز التتميم من بيت المال. المجموع للنووي: 6/ 188. (¬2) المهذب للشيرازي: 1/ 171. (¬3) المغني لابن قدامة: 9/ 312 - 315، معونة أولي النّهي لابن النجار: 2/ 763 شرح منتهى الإرادات للبهوتي: 2/ 426، كشاف القناع للبهوتي: 2/ 276. (¬4) المغني لاِبن قدامة: 9/ 315. (¬5) المجموع للنووي: 6/ 188.

مناقشة التعليلات السابقة

ولأن العامل يعود نفعه، ويرجع أثره على أهل الصدقات، فكانت أجرته عليهم (¬1). التعليل الثّاني: قالوا: إنَّ العامل على الزَّكاة فيه شبه بالحاكم؛ لأنّ الإمام يستوفي به حق الغير على وجه الأمانة، وفيه شبه بالوكيل، فخير الإمام بين حقيهما (¬2). مناقشة التعليلات السابقة: نوقشت التعليلات السابقة بما يأتي: أوَّلًا: أن الله تعالى قد أخبر بسهمهم فيها نصًا، فكيف يخلفون عنه استقراءً وسبرًا. (¬3) ثانيًا: يمكن مناقشة هذه التعليلات كذلك: أن القول بتخيير الإمام في ذلك قول بالرأي والاجتهاد، وهذا الاجتهاد جاء في مقابلة النص، وهو قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ....} الآية [التوبة: 60]، والاجتهاد في مقابلة النص باطل (¬4). ثانيًا: أدلة أصحاب القول الثّاني: علل هؤلاء لما ذهبوا إليه بما يأتي: قالوا: إنَّ الله تعالى جعل لكل صنف من الأصناف الثمانية سهمًا، فلو قسمنا الزيادة على الأصناف، فإننا بذلك نكون قد نقصنا حقهم، وفضلنا العامل عليهم، ¬

_ (¬1) المهذب للشيرازي: 1/ 171، المجصوع للنووي: 6/ 187. (¬2) المهذب للشيرازي: 1/ 171، المجموع للنووي: 6/ 187. (¬3) أحكام القرآن لابن العربي: 2/ 962، والجامع لأحكام القران للقرطبي: 8/ 177. (¬4) المدخل الفقهي العام للزرقاء: 2/ 1010 (623)، الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية للبورنو، ص / 328.

مناقشة الاستدلال

وهذا خلاف ما نصت عليه الآية الكريمة؛ بناءً على ذلك فإن الإمام يعطي العامل من بيت المال (¬1). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا التعليل بما يأتي: أن هذا التعليل مبني على أن المراد بآية الصدقات هو وجوب التسوية بين الأصناف الثمانية، وهذا غير مسلَّم؛ لأنّ الآية محمولة على بيان مواضع الصدقات، ومصارفها، والمختصين بها، لا على وجوب التسوية بين الأصناف الثمانية، ويدلُّ على ذلك ما يأتي: أوَّلًا: حديث معاذ حين بعثه النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - حيث قال له: (إنك تقدّم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فإذا عرفوا الله، فأخبرهم أن اللهَ فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا، فاخبرهم أن الله فرض عليهم زكاةً تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم ...) (¬2). وجه الاستدلال: حيث لم يذكر النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - إِلَّا صنفًا واحدًا من أصناف الزَّكاة، ولم يذكر بقية الأصناف؛ فدلّ على أنّها ليست مقسومة بالسوية على الأصناف. وعليه فإنّه يجوز دفعها لصنف، أو صنفين، ويكون حق العامل في بيت المال. ¬

_ (¬1) المهذب للشيرازي: 1/ 171. (¬2) أخرجه البخاريّ في الزَّكاة، باب وجوب الزَّكاة: 3/ 307 (1395)، وباب: لا تؤخذ كرائم أموال النَّاس في الصَّدقة: 3/ 377 (1458)، وباب أخذ الصَّدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا: 3/ 418 (1496)، وفي المظالم، باب الانتقاء والحذر من دعوة المظلوم: 5/ 121 (2448)، وفي المغازي، باب بعث أبي موسى، ومعاذ إلى اليمن: 7/ 661 (4347). وأخرجه مسلم في الإيمان، باب الدُّعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام: 1/ 50 (19).

وجه الاستدلال

ثانيًا: عن قبيصة بن المخارق الهلالي (¬1) قال: تحملت حمالة، فأتيت رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أساله فيها، فقال - صلّى الله عليه وسلم -: (أقم حتّى تأتينا الصَّدقة، فنأمر لك بها) (¬2). وجه الاستدلال: حيث دلّ الحديث على جواز صرف الزَّكاة إلى صنف واحد، ولو وجب صرفها إلى جميع الأصناف لم يجز صرفها إلى صنف واحد. وهناك أدلة كثيرة وشواهد من القرآن الكريم يمكن الاستدلال بها على عدم وجوب التسوية بين الأصناف الثمانية، وجواز الاقتصار على صنف واحد، أو بعض الأصناف، ومن ذلك: ثالثًا: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 25]. رابعًا: قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]. حيث دلت هاتان الآيتان الكريمتان على جواز صرف الزَّكاة إلى بعض الأصناف، فدل ذلك على عدم وجوب التسوية بين الأصناف الثمانية، أو استيعابهم (¬3). ¬

_ (¬1) هو: قبيصة بن المخارق بن عبد الله بن شداد العامري، الهلالي، أبو بشر؛ قال البخاريّ: له صحبة، وهو في عداد أهل البصرة، وفد على النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، روى عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، وروى عنه ولده قطن، وكنانة بن نعيم، وأبو عثمان النهدي. أسدّ الغابة لابن الأثير: 4/ 365، الإصابة لابن حجر: 3/ 215. (¬2) أخرجه مسلم، كتاب الزَّكاة، باب من تحل له المسألةُ: 2/ 722 (1044). (¬3) الاستذكار لابن عبد البرّ: 9/ 204، أحكام القرآن لابن العربي: 2/ 960، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 8/ 168، أحكام القرآن لالكيا الهراسي الطّبريّ: 3/ 206.

ثالثا: أدلة أصحاب القول الأول

خامسًا: أنّه نقل الإجماع على ذلك؛ أعني: إجماع الصّحابة على جواز الاقتصار في صرف الزَّكاة على صنف واحد، وأنّه لا يجب استيعاب جميع الأصناف (¬1). وبناءً على ما تقدّم فلا يلزم إعطاء العامل على الزَّكاة منها، بل يجوز دفع الزَّكاة كلها للفقراء، وإعطاء العامل من بيت المال من سهم المصالح. ثالثًا: أدلة أصحاب القول الأوّل: استدل هؤلاء على ما ذهبوا إليه بما يأتي: الدّليل الأوّل: قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ...} الآية [التوبة: 60]. وجه الاستدلال: أن الله تعالى أخبر عن حق العامل على الزَّكاة أنّه من الزَّكاة، فيأخذه كاملًا منها، سواء أكانت أجرته أكثر من سهمه أم أقلّ؛ عملًا بظاهر النص (¬2). الدّليل الثّاني: أن عمل العاملين على الصدقات يعود نفعه، ويرجع أثره على أهل الصدقات؛ لأنّه يعمل لهم، فكانت أجرته كاملة عليهم (¬3). الترجيح: بالنظر فيما سبق من الأقوال، وما استدلوا به يظهر رجحان القول الأوّل، وهو أن العامل على الزَّكاة يأخذ حقه كاملًا من الزَّكاة: ثمنه، وما زاد على الثّمن - على ما سبق تفصيله - في محل النزاع. ويرجع سبب ترجيح هذا القول لما يأتي: ¬

_ (¬1) أحكام القرآن لابن العربي: 2/ 960، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 8/ 168. (¬2) أحكام القرآن لابن العربي: 2/ 962، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 8/ 177. (¬3) المهذب للشيرازي: 1/ 171.

ثمرة الخلاف

أولًا: قوة هذا القول دون ما عداه من الأقوال؛ وذلك لأنّه جاء على مقتضى النص القرآني الّذي جعل ما يستحقه العامل على الزَّكاة في الزَّكاة نفسها، لا في بيت المال. ثانيًا: أنّه أمكن مناقشة بقية الأقوال الأخرى بما أضعفها، وأوهن من حجيتها. ثالثًا: أن القول بجعل ذلك في بيت المال إنّما هو بالاجتهاد والرأي، وهو مبني على أن أجرة العامل قد تجحف بحق الأصناف الأخرى، وهذا لا يتأتى إِلَّا إذا كانت الأموال الزكوية قليلة جدًا بحيث يعجز سهم العاملين عن مبلغ أجرة العامل، وهذا نادر جدًا، والنادر لا حكم له، ولذا قال الشّافعيّ: "وقلما يكون أن يعجز سهم العاملين عن مبلغ أجرة العامل" (¬1). ولذا كان الأخذ بهذا القول هو الأرجح تمشيًا مع ظاهر النص. رابعًا: أن هذا القول فيه عدل، وإنصاف لكل الأصناف الزكوية، فإن العامل إذا كان سهمه أكثر من أجرته ردت الزيادة على بقية الأصناف، وهذا هو الغالب، فكان من العدل أنّه إذا عجز سهمه عن أجرته - وهذا نادر - أن يكمل له من سهام بقية الأصناف. ثمرة الخلاف: تظهر ثمرة الخلاف في هذه المسألة فيما يأتي: أوَّلًا: إذا استغرق ما يأخذه العامل كل الزكاة، أو معظمها فما الحكم؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأوّل: إنّه لا يزاد على نصف ما جمعه، فإذا كان أجر العامل يستغرق كلّ ما يجمعه، أو معظمه فإنّه لا يأخذ إلا النصف فقط؛ أي: نصف ما جمعه، وإلى هذا ذهب الحنفية (¬2). ¬

_ (¬1) الأم للشافعي: 2/ 74 - 75. (¬2) شرح فتح القدير لابن الهمام: 2/ 16، البحر الرائق لابن نجيم: 2/ 259.

الترجيح

وعللوا ذلك: بأن التنصيف هو عين الإنصاف فلا يزاد على النصف (¬1). ويمكن مناقشة هذا التعليل: بأن هذا كلام لا دليل عليه؛ فإن للعامل أجرته على قدر جهده، وعمله، وإذا كانت أجرته تستغرق ما جمعه، أو أكثره فللإمام أن يعطيه من بيت المال، أو يعطيه أجرته كاملة ممّا جمعه، ويعطي الفقراء ونحوهم من بيت المال ما يكفيهم، أمّا أن ينقص أجر العامل بدون وجه فلا؛ لأنّ ما يأخذه أجرة، وعوض عن عمله، وجهده، لا على سبيل المواساة، فيأخذه كاملًا. القول الآخر: قالوا: إنَّ العامل يأخذ أجره كاملًا، وإن استغرق ذلك كل ما جمعه. وإلى هذا ذهب المالكية (¬2). وعللوا ذلك: بأن ما يأخذه إنما هو أجرة عمله، فيأخذ أجرته كاملة، وإن استغرقت كل ما جمعه (¬3). الترجيح: الذي يظهر أن الأمر في ذلك راجع للإمام، فإن للعامل أجره كاملًا؛ لأنه عوض عمله وجهده، فإن رأى الإمام إعطاءه الزكاة كلها، أو معظمها إن كانت قدر عمله، فله ذلك، ويعطي بقية الأصناف من بيت المال كفايتهم، وإن رأى إبقاء الزَّكاة لبقية الأصناف، وإعطاء العامل من بيت المال فعل؛ وذلك حسب ما تقتضيه المصلحة. ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير: 2/ 16، البحر الرائق: 2/ 259. (¬2) الخرشي على خليل: 2/ 216، الزرقاني على خليل: 2/ 177، جواهر الإكليل للآبي: 1/ 139، منح الجليل لعلّيش: 2/ 87. (¬3) الخرشي على خليل: 2/ 216.

ولعلّ هذه الحالة هي الّتي ينزل عليها قول من قال: إنَّ ذلك راجع إلى اجتهاد الإمام، وكذا قول من قال: إنّه يكمل للعامل من بيت المال، أمّا إذا كانت هناك سعة، وكان سهم العامل يكفي أجرته، أو زيادة، فالترجيح هو ما قد سبق في أصل المسألة - والله أعلم -. ثانيًا: إذا تلف ما جمعه العامل من الصدقات في يده قبل توزيعه على مستحقيه، فهل يضمن ذلك؟ وهل يستحق أجرة أم لا؟ أمّا المسألة الأولى وهي مسألة الضمان فإننا نفرق فيها بين حالتين: الحالة الأولى: إذا كان التلف بسبب تفريط من العامل فإنّه في هذه الحالة يضمن ما تلف بيده، وليس له أجر على عمله. وعللوا ذلك: بأنّه متعدٍ بفعله، فيضمن ما تلف بيده، ويسقط أجره. وبهذا قال جمهور أهل العلم (¬1). الحالة الأخرى: إذا كان التلف وقع بغير تفريط من العامل فإن جمهور العلماء على أن العامل لا يضمن في هذه الحالة (¬2). وقد عللوا ذلك بما يأتي: قالوا: إنَّ العامل في هذه الحالة أمين كالوكيل، وناظر مال اليتيم إذا تلف المال في يده بلا تفريط فلا يضمن (¬3). وأمّا أجرته في هذه الحالة فقد اختلفوا في دفعها إليه على قولين: ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي: 3/ 9، بدائع الصنائع للكاساني: 2/ 44، جواهر الإكليل للآبي: 2/ 140، المجموع للنووي: 6/ 175، المغني لابن قدامة: 9/ 312 - 315. (¬2) المجموع للنووي: 6/ 175، مغني المحتاج للشربيني: 3/ 119، المغني لابن قدامة: 9/ 314 - 15، كشاف القناع للبهوتي: 2/ 276 (¬3) المجموع للنووي: 6/ 175.

القول الأول: إنه يستحق الأجرة، وتكون في بيت المال. وإليه ذهب جمهور العلماء من المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقد عللوا ما ذهبوا إليه بما يأتي: 1 - قالوا: إنَّ العامل أجير، ولأن بيت المال معدّ لمصالح المسلمين، وهذا منها (¬4). 2 - أنّه استحق بعمله ما شرط له، فإذا تعذر دفعه من مال الزَّكاة وجب من بيت المال (¬5). القول الآخر: إنَّ حقه يسقط، ولا يستحق شيئًا في هذه الحالة. وإلى هذا ذهب الحنفية (¬6). وعللوا ذلك بما يأتي: أن نفقة العامل تسقط في هذه الحالة قياسًا على سقوط نفقة المضارب إذا هلك مال المضاربة بجامع أن كلًا من العامل، والمضارب تكون نفقته فيما تحت يده على سبيل الكفاية، فإن المضارب تكون نفقته في مال المضاربة، وكذلك العامل تكون نفقته في مال الزَّكاة الّذي يجمعه يأخذها على سبيل الكفاية، لا على سبيل الأجرة (¬7). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا التعليل بما يأتي: أن هذا مبني على مذهب الحنفية في أن ما يأخذه العامل ليس أجرة عمله، وإنّما هو نفقته، أو رزقه، وهذا غير صحيح - كما سيأتي -؛ فالذي عليه جمهور أهل ¬

_ (¬1) جواهر الإكليل للآبي: 2/ 140. (¬2) المجموع للنووي: 6/ 175، مغني المحتاج للشربيني: 3/ 119. (¬3) المغني لابن قدامة: 9/ 312 - 315، الممتع شرح المقنع لزين الدِّين ابن المنجى: 2/ 212، كشاف القناع للبهوتي: 2/ 276. (¬4) كشاف القناع للبهوتي: 2/ 276. (¬5) الممتع شرح المقنع لابن المنجي: 2/ 212. (¬6) المبسوط للسرخسي: 3/ 9، بدائع الصنائع للكاساني: 2/ 44، حاشية ابن عابدين: 2/ 59. (¬7) وفي هذا نظر، وسيأتي مناقشة ذلك في المطلب القادم.

الترجيح

هو نفقته، أو رزقه، وهذا غير صحيح -كما سيأتي -؛ فالذي عليه جمهور أهل العلم أن ما يأخذه العامل هو أجرة، وهو لم يفرط، وقد استحق بعمله الأجرة، سواء كانت قد شرطت له أم كان له أجر المثل، فإن تعذر دفعها من مال الزَّكاة لتلفه، أعطي أجرة عمله من بيت المال؛ لأنّ بيت المال معدّ لمصالح المسلمين، وهذا منها. الترجيح: من خلال عرض الأقوال والأدلة، ومناقشة ما استحق منها المناقشة يتبين رجحان ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن أجرة العامل لا تسقط، وتكون في بيت المال؛ وذلك لقوة ما عللوا به، ولأنّه أمكن مناقشة ما ذهب إليه الحنفية.

المطلب الرابع نوع ما يأخذه العاملون على الزكاة

المطلب الرّابع نوع ما يأخذه العاملون على الزَّكاة بعدما تقدّم من اتفاق العلماء على أن العامل يأخذ ما يستحقه على عمله على الصدقات، وأن ذلك ليس مقدرًا بالثّمن، بل له بقدر عمله، وإن جاوز ذلك ثمن الزَّكاة. بعد ذلك اختلف العلماء في ما يأخذه العامل من مال مقابل عمله؛ هل هو أجرة، أم رزق يأخذه على سبيل الكفاية؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأوّل: إنَّ ما يأخذه العامل هو أجرة. وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء من المالكية (¬1)، والشّافعيّة (¬2)، والحنابلة (¬3). ¬

_ (¬1) المعونة للقاضي عبد الوهّاب: 1/ 442، المنتقى للباجي: 2/ 153، الزرقاني على خليل: 2/ 177، الخرشي على خليل: 2/ 216. (¬2) الأم للشافعي: 2/ 74 - 75، المهذب للشيرازي: 1/ 171، المجموع للنووي: 6/ 188، روضة الطالبين للنووي: 2/ 327 - 328؛ قال الإمام النووي: " ... وأمّا العامل فاستحقاقه بالعمل، حتّى لو حمل صاحب الأموال زكاته إلى الإمام، أو إلى البلد قبل قدوم العامل، فلا شيء له، كما يستحق أجرة المثل لعمله. فإن شاء الإمام بعثه بلا شرط، ثمّ أعطاه أجرة مثل عمله، وإن شاء سمَّى له قدر أجرته، إجارة، أو جعالة، يؤدِّيه من الزَّكاة". روضة الطالبين: 2/ 327 - 328. قلت: وهناك وجه في مذهب الشّافعيّ أن ما يأخذه العامل صدقة. وعللوا ذلك: بأنّه لا يشترط عقد إجارة، ولا مدة معلومة، ولا عمل معلوم، ويجاب عنه: 1 - بأن المذهب أن ما يأخذه أجرة بدليل أنّه يقدر بأجرة المثل. المجموع للنووي: 6/ 168. 2 - أنّه لو كان صدقة لأخذ سهمه على أي حال كان، سواء عمِلَ أم لا، وهذا لم يقل به أحد ... 3 - أن تسمية ذلك صدقة باعتبار أنّه ماخوذ من الصدقات. قال الماوردي: " وليس ينكر أن تكون الأجرة صدقة إذا كانت مأخوذة من مال الصَّدقة". الحاوي: 10/ 597. (¬3) المغني لابن قدامة: 4/ 107 - 108، 9/ 312 - 315، الفروع لابن مفلح: 2/ 607. الإنصاف للمرداوي: 3/ 239، بدائع الفوائد لابن القيم: 3/ 146 - 147.

الأدلة والمناقشة

القول الآخر: إنَّ ما يأخذه العامل إنّما هو رزق مقدَّر بالكفاية. وبه قال الحنفية (¬1). الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة أصحاب القول الثّاني: الدّليل الأوّل: قياس العامل على القاضي والمقاتلة، فكما أن القاضي يأخذ رزقًا على عمله، فكذلك العامل، بجامع أن كلًا منهما قد فرغ نفسه للعمل لمصلحة المسلمين، فكل منهما قد انشغل بشيء من أعمال المسلمين ومصالحهم، فكانت كفاية كلّ منهما في مال من انشغل بعمله ومصلحته (¬2). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الدّليل بما يأتي: أن هذا قياس مع الفارق؛ فإن القاضي لما فرغ نفسه لمصلحة المسلمين، والقضاء بينهم كانت كفايته في بيت المال، وهذه الكفاية إنّما يأخذها على سبيل الإعانة على الطّاعة، لا على سبيل العوض والأجرة؛ فإن الأجرة على القضاء لا تجوز، وقد نُقل الإجماع على عدم الجواز (¬3)، أمّا العامل فإنّه يأخذ ذلك على سبيل العوض في مقابل عمله، ولهذا جاز له أخذها مع الغنى؛ لأنّها أجرة عمله، بخلاف القاضي. ¬

_ (¬1) الأصل لمحمد بن الحسن: 2/ 180، العناية شرح البداية للبابرتي: 2/ 16 - 17، بدائع الصنائع الكاساني: 2/ 43 - 44، البناية شرح الهداية للعيني: 2/ 529. (¬2) الاختيار لتعليل المختار للموصلّي: 1/ 119، العناية شرح الهداية للبابرتي: 2/ 16 - 17، الفتاوى الهندية: 1/ 188، البناية شرح الهداية للعيني: 2/ 529. (¬3) الفروق للقرافي: 3/ 3. وسيأتي تفصيل ذلك في مبحث القضاء إن شاء الله.

الدليل الثاني

الدّليل الثّاني: القياس على الزوجة، فكما أن الزوجة لما عطلت نفسها لحق زوجها كانت نفقتها في مال زوجها، فكذلك العامل؛ لأنّه عطل نفسه لمصلحة الفقراء، فكانت كفايته في مالهم (¬1). ويمكن مناقشة هذا الاستدلال بما يأتي: أن هذا القياس لا يصح؛ لأنّه قياس مع الفارق، وهذا الفارق من جهتين: الأولى: أن الزوجة إنّما تستحق النفقة بسبب التمكين من نفسها، فلا تجب لها النفقة حتّى ينضم إلى عقد النِّكاح التمكين من الوطء؛ لأنّه المقصود بالعقد (¬2). الأخرى: أن ما يأخذه العامل ليس لمجرد حبس نفسه لمصلحة الفقراء، وإنّما في مقابل جهده، وعمله فما يأخذه، إنّما يأخذه على وجه العوض، فهو أجرة عمله، وليس رزقًا (¬3). ثانيًا: أدلة أصحاب القول الأوّل: استدل هؤلاء بما يأتي: الدّليل الأوّل: قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} الآية [التوية: 60]. وجه الاستدلال: قال ابن العربي مبينًا وجه الاستدلال من هذه الآية: "أن ما كان من فروض الكفايات فالقائم به يجوز له أخذ الأجرة عليه" (¬4). ¬

_ (¬1) أحكام القرآن لابن العربي: 2/ 962، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 8/ 177 - 178. (¬2) شرح فتح القدير لابن الهمام: 3/ 322، الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي: 2/ 508، المهذب للشيرازي: 2/ 159، مغني المحتاج للشربيني: 3/ 422. (¬3) المنتقى للباجي: 2/ 153. (¬4) أحكام القرآن لابن العربي: 2/ 961، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 8/ 178.

الدليل الثاني

الدّليل الثّاني: عن عطاء بن يسار أن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "لا تحل الصَّدقة لغني إِلَّا لخمسة: لغازٍ في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل كان له جار مسكين فتُصُدِّق على المسكين فأهداها المسكين للغني) (¬1). وجه الاستدلال: دل الحديث على حلّ الصَّدقة للعامل عليها، وإن كان من الأغنياء؛ وذلك لأنّ ما يأخذه من الصَّدقة إنّما هو أجرة على عمله لا لفقره إذا لو كان صدقة ما حلت له مع الغنى (¬2). مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الحديث بأنّه لا يصح؛ لأنّه مرسل، فقد رواه عطاء بن يسار (¬3) عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - مباشرة، وعطاء تابعي. وعلى هذا فلا يصح الاحتجاج بهذا الحديث. الجواب عن هذه المناقشة: أجيب عن علة الإرسال بأن الحديث قد جاء موصولًا؛ فقد رواه أبو داود (¬4)، ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الزَّكاة، باب أخذ الصَّدقة ومن يجوز له أخذها: 1/ 268 (29)، وابن ماجه في الزَّكاة، باب من تحل له الصَّدقة: 1/ 590 (1841)، وأحمد في مسنده: 3/ 71 (11524)، وقد صححه ابن خزيمة: 4/ 71، والحاكم: 7/ 401، والألباني كما في الإرواء: 3/ 377 (870). (¬2) سبل السّلام للصنعاني: 2/ 296. (¬3) هو عطاء بن يسار الهلالي: ويكنى بأبي محمّد، المدني، القاص، مولى ميمونة زوج النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، كان ثقة فاضلًا، صاحب مواعظ وعبادة، روى عن كثير من الصّحابة، توفي بالإسكندرية بمصر سنة 94 هـ - على التصحيح -. (تهذيب التهذيب لابن حجر: 7/ 218، تقريب التهذيب: ص/679 (4638). (¬4) أخرجه أبو داود في الزَّكاة، باب من يجوز له أخذ الصَّدقة وهو غني: 2/ 119 (1636).

الدليل الثالث

وابن ماجه (¬1)، عن عطاء، عن أبي سعيد الخدري، عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - فصح بذلك الحديث (¬2). الدّليل الثّالث: عن بُسر بن سعيد، عن ابن الساعدي المالكي، أنّه قال: استعملني عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - على الصَّدقة، فلما فرغت منها، وأديتها إليه أمر لي بعُمالة (¬3)، فقلت: إنّما عملت لله، وأجري على الله؛ فقال: خذ ما أُعطيت، فإني عملت على عهد النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - فعملني، فقلت مثل قولك، فقال لي رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إذا أُعطيت شيئًا من غير أن تسأل فكُلْ وتصدَّق" (¬4). وجه الاستدلال: أن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - وخلفاءه من بعده قد جعلوا أجرة لمن يعمل على الزَّكاة بدليل قول عمر - رضي الله عنه - في الحديث: "عملت ... فعملني ... " فلما عمل أعطاه النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أجرة عمله (¬5). الترجيح: بعد عرض أدلة كلّ فريق، وذكر ما ورد عليها من مناقشات، وما أجيب به عن هذه المناقشات يتبين رجحان القول الأوّل، وأن ما يأخذه العامل على الزَّكاة إنّما هو أجرة، وليس رزقًا؛ وذلك لما يأتي: ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه في الزَّكاة، باب من تحل له الصَّدقة: 1/ 590 (1841) (¬2) وقد صحح الحديث جمع من العلماء، فقد صححه الحاكم في المستدرك، كتاب الزَّكاة، باب مقدار الغنى الّذي يحرم به السؤال: 1/ 407، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود: 1/ 308 (1440 - 1441)، والشيخ عبد القادر الأرناؤوط في تخريجه لجامع الأصول: 4/ 662 (2757). (¬3) العُمالة: هي أجرة العمل. (تهذيب اللُّغة للأزهري: 2/ 320، النهاية في غريب الحديث والأثر لمجد الدِّين ابن الأثير: 3/ 300، فتح الباري لابن حجر: 13/ 162. (¬4) أخرجه البخاريّ في الأحكام، باب رزق الحاكم والعاملين عليها: 13/ 160 (7163). وأخرجه مسلم في الزَّكاة، باب إباحة الأخذ لمن أعطي من غير مسألة ولا إشراف: 2/ 723 (1045). (¬5) شرح السُّنَّة للبغوي: 6/ 90 - 91، السيل الجرار للشوكاني: 2/ 56.

ثمرة الخلاف

1 - قوة أدلة أصحاب القول الأوّل؛ حيث جاءت كلّ أدلتهم نقلية من الكتاب والسُّنَّة. 2 - ضعف أدلة أصحاب القول الثّاني؛ حيث جاءت كلها أدلة عقلية أمكن مناقشتها بما يخرجها عن دلالتها. 3 - أن ابن عبد البرّ قد نقل إجماع العلماء على أن ما يأخذه العامل إنّما هو أجرة عمله، وليس رزقًا (¬1). ثمرة الخلاف: يظهر للخلاف ثمرة في مسألتين: المسألة الأولى: هل يأخذ العامل على الزَّكاة منها إنَّ كان من ذوي القربى؟ والمراد بذوي القربى: إذا كان العامل من آل بيت النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، سواء أكان من بني هاشم أم من بني عبد المطلب. اتفق العلماء على أن ذوي القربى إذا استعملهم الإمام على الزَّكاة، وأعطاهم أجرتهم من غيرها فإن ذلك جائزلهم، ولا حرج في استعمالهم، ولا في إعطائهم (¬2). أمّا إذا كان ما يأخذونه على عملهم من الزَّكاة فقد اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأوّل: لا يجوز إعطاء ذوي القربى على عملهم من الزَّكاة. وإلى هذا ذهب جمهور العلماء من الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، والشّافعيّة (¬5)، ¬

_ (¬1) الاستذكار لابن عبد البرّ: 9/ 204، الإنصاف للمرداوي: 3/ 239. (¬2) حاشية ابن عابدين: 2/ 59، الفتاوى الهندية: 1/ 188، حاشية الدسوقي: 1/ 495، المجموع للنووي: 6/ 167، روضة الطالبين: 2/ 236، المغني لابن قدامة: 9/ 313، كشاف القناع للبهوتي: 2/ 275، المبدع شرح المقنع لابن مفلح: 2/ 418. (¬3) حاشية ابن عابدين: 2/ 59، مجمع الأنّهر شرح ملتقى الأبحر لدامادا أفندي: 1/ 220. (¬4) حاشية الدسوقي: 1/ 495، الزرقاني على خليل: 2/ 177. (¬5) المجموع للنووي: 6/ 167.

الأدلة والمناقشة

والحنابلة (¬1). القول الآخر: يجوز إعطاء ذوي القربى على عملهم في الزَّكاة منها. وإليه ذهب بعض الحنفية (¬2)، والشّافعيّة (¬3)، والحنابلة (¬4). الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: استدل من قال بالجواز بما يأتي: الدّليل الأوّل: أن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بعث عليًا إلى اليمن مصدقًا، وفرض له، ولو لم يحل للهاشمي لما فرض له (¬5). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الاستدلال بما يأتي: إنَّ عليًا بعثه النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - إلى اليمن قاضيًا، والقاضي إنّما يُعطى من بيت المال، لا من الصدقات، ومما يدلُّ على أنّه بعث عليًا قاضيًا ما رواه حنش (¬6) عن علي - رضي الله عنه - قال: (بعثني رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - إلى اليمن قاضيًا ...) الحديث (¬7). ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة: 9/ 313، الإنصاف للمرداوي: 3/ 254. (¬2) مجمع الأنّهر شرح ملتقى الأبحر لدامادا أفندي: 1/ 220. (¬3) المهذب للشيرازي: 1/ 168، والمجموع للنووي: 6/ 168. (¬4) المغني لابن قدامة: 9/ 313، الممتع شرح المقنع لابن المنجى: 2/ 212. (¬5) بدائع الصنائع للكاسانى: 2/ 44. قلتُ: هكذا ذكره الكاساني، ولم أجده لغيره، وإنّما الصواب أن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بعث عليًا قاضيًا كما سيأتي. (¬6) هو حنش بن المعتمر، ويقال ابن رييعة، ويقال حنش بن رييعة بن المعتمر الكناني أبو المعتمر الكوفي، روى عن علي ووابصه بن معبد وأبي ذر، وروى عنه سماك بن حرب، وإسماعيل بن أبي خالد وغيرهما؛ قال الحافظ: صدوق له أوهام، ويرسل، وقد عده بعضهم في الصّحابة - وهو خطأ -: تهذيب التهذيب لابن حجر: 3/ 58، التقريب: ص/ 278. (¬7) أخرجه أبو داود في الأقضية، باب كيف القضاء: 3/ 301 (3582)، والترمذي في الأحكام، باب ما جاء في القاضي لا يقضي بين الخصمين حتّى يسمع كلًا منهما: 3/ 618 (1331)، قال التّرمذيّ: هذا حديث حسن.

الدليل الثاني

الدّليل الثّاني: أن ما يأخذه العامل إنّما هو أجرة العمل، بدليل أنّها تحلّ للغني فيستوي فيها الهاشمي وغيره (¬1). مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الاستدلال بما يأتي: أوَّلًا: أن ما يأخذه الهاشمي على عمله على الزَّكاة - وإن كان أجرة - فإنّه لا يحل؛ وذلك لأنّها وسخ الزكي، والهاشمي أشرف النَّاس، وأخذ الزَّكاة - ولو على سبيل الأجرة على العمل - لا يخرجها عن ذلك (¬2). ثانيًا: أن القياس على الغنى لا يصح؛ لأنّه قد ورد النص بحلّها للعامل إذا كان غنيًا، بخلاف الهاشمي - كما سيأتي -. ثانيًا: أدلة من قال بعدم الجواز: استدلوا بما يأتي: الدّليل الأوّل: قوله - صلّى الله عليه وسلم - لعبد المطلب بن ربيعة، والفضل بن عبّاس رضي الله عنهما حين سألاه العمل على الصدقات حتّى يصيبوا منها كما يصيب النَّاس: (إنَّ هذه الصدقات إنّما هي أوساخ النَّاس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمدٍ) (¬3). وجه الاستدلال: أن هذا نصّ صريح في تحريم الصدقات على ذوي القربى، وإن كانوا من العاملين عليها، فلا تجوز مخالفته (¬4). ¬

_ (¬1) المهذب للشيرازي: 1/ 168، المجموع للنووي: 6/ 168، المغني لابن قدامة: 4/ 112، 9/ 313. (¬2) جواهر الإكليل للآبي: 1/ 138. (¬3) أخرجه مسلم في الزَّكاة، باب ترك استعمال آل النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - على الصَّدقة: 2/ 754 (168). (¬4) المغني لابن قدامة: 9/ 313.

الدليل الثاني

الدّليل الثّاني: عن أبي رافع (¬1): أن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بعث رجلًا على الصَّدقة من بني مخزوم، فقال لأبي رافع: اصحبني فإنك تصيب منها؛ قال: لا، حتّى آتي رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - فأسأله. فانطلق إلى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، فسأله، فقال: (إنَّ الصَّدقة لا تحل لنا، وإن موالي القوم من أنفسهم) (¬2). وجه الاستدلال: حيث بيَّن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أن الزَّكاة لا تحل لآل محمّد، ولا لمواليهم؛ فدل على أنّه لا يجوز إعطاؤهم من الزَّكاة، ولو كان ذلك أجرة العمل عليها (¬3). الترجيح: من خلال ذكر أدلة كلّ فريق، وما ورد عليها من مناقشات يتبين لنا بوضوح رجحان القول الأوّل. وعليه فلا يجوز استعمال أحد من آل البيت، ولا من مواليهم على الصدقات، ولو كان ما يأخذونه أجرة على عملهم. ومما يرجح هذا القول: أوَّلًا: قوته؛ حيث جاءت أدلته كلها نصية، صريحة الدلالة على ما نحن بصدده. ¬

_ (¬1) هو أبو رافع القبطي، مولى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، اسمه إبراهيم - على الصحيح -، وقيل غير ذلك، أسلم لما بشر العباس بأن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - انتصر على أهل خيبر، وكان إسلامه قبل بدر وشهد أحدًا وما بعدها، مات في أول خلافة علي - رضي الله عنه - على الصحيح -: الإصابة لابن حجر: 4/ 68، الاستيعاب لابن عبد البرّ: 4/ 70، تقريب التهذيب لابن حجر: 1144. (¬2) أخرجه أبو داود في الزَّكاة، باب الصَّدقة على بني هاشم: 2/ 123 (1650)، والترمذي في الزَّكاة، باب ما جاء في كراهية الصَّدقة للنبي - صلّى الله عليه وسلم -: 3/ 46 (657)، والنسائي في الزَّكاة، باب مولى القوم منهم: 5/ 112 (2611)، وأحمد في مسنده: 6/ 13 (23860)، وقال التّرمذيّ: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) المغني لابن قدامة: 9/ 313.

ثانيًا: ضعف ما استدل به أصحاب القول الثّاني من أدلة؛ لكونها تعليلات أمكن مناقشتها، وإخراجها عن دلالتها. المسألة الأخرى: هل يأخذ العامل على الزَّكاة منها، وإن كان غنيًا؟ لا خلاف بين العلماء في أنّه يجوز تولية العامل، وإن كان غنيًا، فلا يشترط فيه أن يكون فقيرًا (¬1). وعمدة هذا الاتفاق ما يأتي: أوَّلًا: حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "لا تحل الصَّدقة لغني إِلَّا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها ...) (¬2). فهذا نصّ صريح على أن العامل عليها يعطى من الزَّكاة، وإن كان غنيًا. ثانيًا: أن ما يأخذه العامل إنّما هو أجرة عمله، فهو يأخذه على سبيل العوض، لا على سبيل المواساة، فجاز له أخذه مع الغنى (¬3). ثالثًا: أن الله تعالى جعل العامل عليها صنفًا غير الفقراء، والمساكين؛ فلا يشترط وجود معناهما فيه، كما لا يشترط معناه فيهما (¬4). رابعًا: الإجماع: قال ابن عبد البرّ: "وقد أجمع العلماء على أن الصَّدقة تحل لمن عمل عليها، وإن كان غنيًا" (¬5). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني: 2/ 44، البحر الرائق لابن نجيم: 2/ 259، الاستذكار لابن عبد البرّ: 9/ 203، الخرشي على خليل: 2/ 216، المغني لابن قدامة: 9/ 314. (¬2) سبق تخريجه. انظر ص 261 من هذا الكتاب. (¬3) كما سبق ترجيحه في مطلب: "نوع ما يأخذه العامل"، ص 262 - 263. (¬4) المغني لابن قدامة: 9/ 313 - 314. (¬5) الاستذكار لابن عبد البرّ: 9/ 203.

المطلب الخامس الهدية ونحوها للعاملين على الزكاة

المطلب الخامس الهدية ونحوها للعاملين على الزَّكاة اتفق العلماء- رحمهم الله تعالى- على أنّه لا يجوز للعامل قبول هدية أرباب الأموال (¬1). والأدلة على تحريم الهدية على العاملين على الزَّكاة كثيرة، وصريحة، فمن تلك الأدلة: الدّليل الأوّل: ما رواه أبو حميد الساعدي؛ قال: "استعمل النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - رجلًا من بني أسدّ يقال له: ابن اللتبية (¬2)، فلما قدم قال: هذا لكم، وهذا لي، أُهديَ لي؛ قال: فقام رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - على المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: (ما بال العامل نبعثه، فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه، أو في بيت أمه حتّى ينظر أيهدى إليه أم لا، والذي نفس محمّد بيده، لا ينال أحدٌ منكم منها شيئًا إِلَّا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه، بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة ¬

_ (¬1) البحر الرائق لابن نجيم: 6/ 304 - 305، حاشية ابن عابدين: 4/ 310 - 311، تبصرة الحكام لابن فرحون: 1/ 29 - 30، مواهب الجليل للحطاب: 6/ 120، الأحكام السلطانية للماوردي، ص/125، شرح مسلم للنووي: 12/ 219،المغني لابن قدامة: 14/ 58 - 59، كشاف القناع للبهوتي: 2/ 278، مجموع الفتاوى لابن تيمية: 28/ 280. (¬2) هو: عبد الله بن اللُتبية بن ثعلبة الأسدي، واللُتبية نسبة إلى بني لتب، قبيلة معروفة، وهم حي من الأزد، وقيل: إنَّ اللتبية كانت أمه، فعرف بها، استعمله النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - على صدقات بني سليم. ولم تسعفنا المصادر بأكثر من هذا عن ترجمة هذا الصحابي الجليل. الإصابة لابن حجر: 2/ 355، فتح الباري لابن حجر: 13/ 176، شرح النووي على مسلم: 12/ 219، الثقات لابن حبّان: 3/ 238، الأنساب للسمعاني: 1/ 137.

وجه الاستدلال

تيعر)، ثمّ رفع يديه حتّى رأينا عُفرتي إبطيه، ثمّ قال: (اللَّهُمَّ هل بلغت؟) مرتين (¬1). وجه الاستدلال: قال النووي: "وفي هذا الحديث بيان أن هدايا العمال حرام وغلول؛ لأنّه خان في ولايته، وأمانته، ولهذا ذكر في الحديث عقوبته، وحمله ما أهدي إليه يوم القيامة، كما ذكر مثله في الغالّ، وقد بيّن - صلّى الله عليه وسلم - في الحديث نفسه السبب في تحريم الهدية عليه، وأنّها بسبب الولاية، بخلاف الهدية لغير العامل، فإنها مستحبة" (¬2). الدّليل الثّاني: عن أبي حميد الساعدي، أن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: (هدايا العمال غلول) (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ في الحيل، باب احتيال العامل ليهدى له: 12/ 364 (6979)، وفي الأحكام، باب هدايا العمال: 13/ 175 (7174)، ومسلم في الإمارة، باب تحريم هدايا العمال: 3/ 1463 (1832). والرغاء هو: صوت البعير، والخوار هو: صوت البقرة. والتيعر هو: صوت الشاة أو الماعز. العفرة: هي بياض الإبط: فتح الباري لابن حجر: 13/ 177. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم: 12/ 219، وانظر: الفتح الرِّبَا ني، ترتيب مسند الإمام أحمد، للساعاتي: 9/ 86، وانظر: معالم السنن للخطابي مع السنن، تحقيق الدعاس: 3/ 355. (¬3) أخرجه أحمد في مسنده: 5/ 526 (23593)، والبيهقي في السنن الكبرى: 10/ 233 (20474) بلفظ هدايا الأمراء. والطبراني في الأوسط:5/ 168 (4969) من رواية أبي هريرة وجابر بلفظ: " هدايا الأمراء"، وابن عدي في الكامل في الضعفاء: 1/ 177، 295، وعبد الرزّاق في مصنفه: 8/ 147 (14665). والحديث من رواية إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن سعيد، عن عروة بن الزبير، عن أبي حميد، وإسماعيل بن عياش ضعيف في روايته عن الحجازبين، ويحيى بن سعيد حجازي مدني: مجمع الزوائد للهيثمي: 4/ 154. والحديث ضعفه الحافظ ابن حجر لهذه العلّة: تلخيص الحبير: 4/ 189، فتح الباري: 13/ 175، ولكن الألباني جمع طرق الحديث، وشواهده، وحكم عليه بالصحة كما في الإرواء: 8/ 246 - 250. والغلول: الخيانة في المغنم والسّرقة من الغنيمة قبل القسمة، يقال: غلَّ في المغنم يغل غلولًا فهو غالّ، وكل من خان في شيء خفيه فقد غل: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: 3/ 380، وانظر: البحر الرائق لابن نجيم: 5/ 83، حاشية الدسوقي: 2/ 179، شرح النووي على مسلم: 4/ 216، المغني لابن قدامة: 13/ 168.

وجه الاستدلال

وجه الاستدلال: حيث بيّن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أن هدايا العمال الّتي يأخذونها من أرباب الأموال حرام وغلول؛ لأنّه بقبوله للهدية من أرباب الأموال قد خان في ولايته، وأمانته. الدّليل الثّالث: ما رواه بريدة (¬1)، عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: (من استعملناه على عمل، فرزقناه رزقًا، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول) (¬2). وجه الاستدلال: حيث بين رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أن ما أخذه العامل بعد رزقه، وأجرة عمله، حرام، وهذا يشمل الهدية، فكانت الهدية للعامل حرامًا لا يحل له أخذها. الدّليل الرّابع: أن حدوث الهدية عند حدوث الولاية يدلُّ على أنّها من أجلها ليتوسل بها إلى ميل العامل ومحاباته، ليخفف عن المهدي، ويسوغ له بعض الواجب عليه، وهذا خيانة، وبخس للحق الواجب عليه استيفاؤه لأهله (¬3). تنبيه: استثنى بعض العلماء ثلاث حالات يجوز فيها للعامل أخذ الهدية: الحالة الأولى: إنَّ أذن له الإمام في أخذها. ¬

_ (¬1) هو: الصحابي الجليل بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث بن الأعرج الأسلمي، أبو عبد الله، أسلم حين مر به النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - مهاجرًا بالغميم هو ومن معه، قدم على النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بعد أحد، شهد الحديبية وبيعة الرضوان تحت الشجرة وغيرها من الغزوات، توفي سنة 63 هـ في خلافة يزيد بن معاوية بمدينة مرو، ودفن بها، وبقي بها ولده. (أسدّ الغابة لابن الأثير: 1/ 367 - 368، الإصابة لابن حجر: 1/ 150. (¬2) أخرجه أبو داود في الخراج والإمارة والفيء، باب في أرزاق العمال:3/ 134 (2943)، والبيهقي في السنن الكبرى: 6/ 578 (13020)، وصححه ابن خزيمة كما في صحيحه: 4/ 70 (2369)، والألباني في صحيح سنن أبي داود: 2/ 568 (2550). (¬3) المغني لابن قدامة: 14/ 58 - 59، معالم السنن للخطابي بهامش السنن، تحقيق الدعاس: 3/ 355.

وجه الاستدلال

وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم (¬1). واستدلوا على ذلك بما يأتي: عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: بعثني رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - إلى اليمن، فلما سرت أرسل في أثري، فرددت، فقال: (أتدري لم بعثت إليك؟، لا تصيبن شيئًا بغير إذني، فإنّه غلول {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161]، لهذا دعوتك فامض لعملك) (¬2). وجه الاستدلال: حيث دلّ الحديث على أن الإمام لو أذن للعامل في الهدية جاز له قبولها (¬3). مناقشة الاستدلال: أوَّلًا: أن هذا الحديث ضعيف الإسناد؛ ففي سنده داود بن يزيد الأودي؛ قال الحافظ ابن حجر: ضعيف (¬4). ثانيًا: يمكن مناقشة هذا الحديث بما يأتي: أن هذا الحديث محمول على ما شرطه له الإمام من أجر، فلا يأخذه حتّى يعطيه الإمام، أو يأذن له في الأخذ، فإن الإمام لا يأذن له إِلَّا فيما له فيه حق، فأمّا الهدية فقد جاءت النصوص الكثيرة لتحريمها كما تقدّم، فلا تدخل تحت الإذن؛ لأنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - لا يأذن بالحرام. ¬

_ (¬1) فتح الباري لابن حجر: 13/ 179. (¬2) أخرجه التّرمذيّ في الأحكام، باب في هدايا الأمراء: 3/ 621 (1335). (¬3) فتح الباري لابن حجر: 13/ 179. (¬4) تقريب التهذيب لابن حجر: ص/309.

مناقشة الاستدلال

الحالة الثّانية: إنَّ كان للمهدي عادة إهداء العامل قبل ولايته. وإلى هذا ذهب بعض المالكية (¬1)، وبعض الشّافعيّة (¬2)، وبعض الحنابلة (¬3). واستدلوا على ذلك بما يأتي: أنّه لما كان يهدي إليه قبل ولايته عُلم أن الهدية للعامل بعد الولاية لم تكن من أجل الولاية؛ لوجود سببها قبل الولاية، بدليل وجودها قبلها (¬4). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا التعليل بما يأتي: أوَّلًا: أن هذا التعليل عليل؛ وذلك لمصادمته لنصوص التّحريم الكثيرة المتقدمة، حيث جاءت عامة فتحرم الهدية على العامل، سواء أكانت ممّن له عادة بإهدائه قبل الولاية أم لا. ثانيًا: أن الهدية قبل الولاية مستحبة، وبعد الولاية محرّمة، ولو صح التعليل لاستوى حكمها قبل الولاية وبعدها، وهذا لم يقل به أحد. بل قال أصحاب هذا القول: "يستحب للعامل في هذه الحالة التنزه عنها" (¬5). الحالة الثّالثة والأخيرة: إنَّ كافأ العامل المهدي على هديته. فإن كافأه بقدر هديته، أو قريب من ذلك، أو أكثر، فله أن يأخذها، ويتمولها. وإليه ذهب بعض المالكية (¬6)، ونص عليه الشّافعيّ رحمه الله تعالى (¬7). ¬

_ (¬1) تبصرة الحكام لابن فرحون: 1/ 29 - 30، فتح الباري لابن حجر: 13/ 179. (¬2) الأم للشافعي: 2/ 59، المغني لابن قدامة: 14/ 59. (¬3) المغني لابن قدامة: 14/ 58 - 59، كشاف القناع للبهوتي: 6/ 316 - 317. (¬4) المغني لابن قدامة: 14/ 58 - 59. (¬5) الأم للشافعي: 2/ 59، المغنى لابن قدامة: 4/ 58 - 59. (¬6) تبصرة الحكام لابن فرحون: 1/ 29 - 30. (¬7) الأم للشافعي: 2/ 58 - 59.

أدلة أصحاب هذا القول

أدلة أصحاب هذا القول: لم أجد لهؤلاء دليلًا أو تعليلًا على ما ذهبوا إليه، إِلَّا أنّه يمكن الاستدلال لهم بما يأتي: أن مكافاة المهدي في هذه الحالة تؤدي إلى انتفاء المحذور من قبول الهدية، ألَّا وهو استمالة قلب العامل، وحمله على مجاملة أصحاب الأموال على حساب مصلحة أصحاب الزَّكاة؛ فإذا كافأه انتفى المحذور، وفي هذه الحالة يجوز له قبول الهدية. مناقشة الاستدلال: يناقش ذلك بأن القول بقبول الهدية بشرط الكافأة يفتح الباب لقبول الهدايا، والتلاعب في ذلك بما يعود ضرره على أصحاب الصدقات، فيجب إغلاق هذا الباب سدًا للذريعة، وقطعًا لدابر الفساد، والمفسدين، وقطع الطريق على النفوس المريضة.

المبحث الثاني أخد المال على الصيام

المبحث الثّاني أخد المال على الصِّيام المطلب الأوّل أخد المال على الصِّيام عن العاجز المسألة الأولى: النِّيابة في الصوم عن العاجز: الفرع الأوّل: النِّيابة عن العاجز في الصوم الواجب: الصوم من أجل العبادات، وهو أحد أركان الإسلام العظام، وهو عبادة بدنية محضة، والأصل في كلّ عبادة بدنية أن يقوم العبد بأدائها بنفسه، امتثالًا لأمر الله تعالى، وأمر رسوله - صلّى الله عليه وسلم -، وتحقيقًا لمقصود هذه العبادة، هو امتحان المكلَّف بكسرنفسه بفعلها، تحقيقًا لعبوديته الحقة لله رب العالمين، ولا يقوم النائب مقامه في ذلك. ومن أجل ذلك أجمع العلماء على أن الحي القادر على الصِّيام يجب عليه الصِّيام بنفسه، ولا يجزئ، ولا يجوز أن يقوم غيره مقامه في ذلك (¬1). وأمّا العاجز عن الصِّيام فلا يخلو عجزه من أحد أمرين: أوَّلًا: أن يكون عجزًا دائمًا. ومثاله: العجز الناشئ عن كبر سن، أو مرض دائم لا يُرجى برؤه، ونحوهما. فهؤلاء لا صيام عليهم بالإجماع، ولا تجب عليهم الإنابة في ذلك. ¬

_ (¬1) الاستذكار لابن عبد البرّ: 10/ 167، مراتب الإجماع لابن حزم، ص/ 40، المجموع للنووي: 6/ 371، شرح مسلم للنووي: 8/ 26، موسوعة الإجماع لسعدي أبي جيب: 1/ 708. هؤلاء هم نقلة الإجماع.

ثانيا: أن يكون عجزا مؤقتا.

ثانيًا: أن يكون عجزًا مؤقتًا. كالعجز الناشئ بسبب السَّفر، أو المرض الطارئ، أو الحمل، أو الرضاع، ونحو ذلك. فهؤلاء يجب عليهم القضاء بعد زوال العذر المانع من الصوم، وليس لهم الإنابة، وكل ذلك لا خلاف فيه بين أهل العلم (¬1). الميِّت" (¬2). هل خولف هذا الإجماع؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في اختياراته: "وإن تبرع إنسان بالصوم عمن لم يطقه لكبره، ونحوه، أو عن ميت، وهما معسران توجه جوازه؛ لأنّه أقرب إلى المماثلة من المال. وحكى القاضي في صوم النَّذْر في حياة الناذر نحو ذلك" (¬3). قال النووي: "وأجمعوا على أنّه لا يصام عن أحد في حياته، وإنّما الخلاف في فيلحظ من خلال كلام شيخ الإسلام أنّه يجيز النِّيابة في الصوم عن الحي بشروط: الشرط الأوّل: أن يكون النائب متبرعًا، فإن كانت النِّيابة بعوض فلا تجوز. ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي: 3/ 89 - 90، بدائع الصنائع: 2/ 103، 4/ 191، البحر الرائق لابن نجيم: 2/ 306، حاشية ابن عابدين: 2/ 117 - 118، المنتقى للباجي: 2/ 63، عارضة الأحوذي لابن العربي: 3/ 240، التاج والإكليل للمواق بهامش مواهب الجليل: 5/ 422 - 423، حاشية الدسوقي: 2/ 18، جواهر الإكليل للآبي: 2/ 189، المجموع للنووي: 6/ 371، مغني المحتاج للشربيني: 1/ 439، حاشية قليوبي: 2/ 67، المغني لابن قدامة: 4/ 393 - 397، كشاف القناع للبهوتي: 2/ 333 - 335، حاشية ابن قاسم على الروض المربع: 3/ 440، المحلى لابن حزم: 8/ 191. (¬2) شرح النووي على مسلم: 8/ 26. (¬3) الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية لعلّاء الدِّين البعلي: ص/109، والفروع لابن مفلح: 3/ 96، وانظر: شرح العمدة، كتاب الصِّيام لشيخ الإسلام ابن تيمية: 1/ 367، الإنصاف للمرداوي: 3/ 335.

الشرط الثّاني: أن يكون المنوب عنه عاجزًا عجزًا دائمًا، فإن كان عجزه مؤقتًا فلا تجوز النِّيابة عنه. الشرط الثّالث: أن يكون المنوب عنه معسرًا لا يقدر على الفدية، فإن كان قادرًا على الفدية فلا تجوز النِّيابة عنه. وقد علل شيخ الإسلام ذلك بقوله: "لأنّه أقرب إلى المماثلة من المال، ومعنى ذلك: أن صيام النائب في هذه الحالة أقرب إلى مماثلة الصِّيام الواجب على العاجز من مماثلة الفدية للصيام الواجب عليه، ولما كان صيام النائب في هذه الحالة أقرب إلى المماثلة من المال، أو الفدية توجه جوازه. وعلى هذا، فإن ما ذكره شيخ الإسلام، وما حكاه القاضي أبو يعلى يخالف حكاية الإجماع السابق في أنّه لا تجوز النِّيابة عن الحي، سواء أكان قادرًا أم عاجزًا. ولكن ما ذكره شيخ الإسلام يمكن مناقشته كما يلي: أوَّلًا: أن هذا يخالف ما اتفق عليه الأئمة الأربعة، بل ما أجمع عليه العلماء - على ما ذُكر سابقًا - من أن النِّيابة في الصوم عن الحي لا تجوز سواء أكان قادرًا أم عاجزًا على ما سبق تفصيله. ثانيًا: أن النصوص الدالة على جواز النِّيابة في الصوم إنّما جاءت في حق الميِّت - على خلاف في ذلك كما سيأتي -، ولم يردّ نصّ واحد يدلُّ على جواز النِّيابة عن الحي. ثالثًا: أن شيخ الإسلام ابن تيمية رغم وجود النصوص الكثيرة الدالة على جواز النِّيابة عن الميِّت في الصِّيام، ورغم صراحة بعضها- كما سيأتي- لم يأخذ بها إِلَّا في النَّذْر خاصّة (¬1) - كما سيأتي -، فإن كانت النِّيابة عن الميِّت في الصوم لا تجوز عنده، فعدم الجواز عن الحي أولى. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: 25/ 269، كتاب الصِّيام من شرح العمدة لابن تيمية: 1/ 367 وما بعدها.

الفرع الثاني: النيابة عن العاجز في صوم التطوع

الفرع الثّاني: النِّيابة عن العاجز في صوم التطوع: اتفق العلماء على أنّه لا تجوز النِّيابة عن الحي في الصوم مطلقًا، سواء أكان صومًا واجبًا، أم صومَ تطوعٍ، وقد سبق نقل الإجماع على ذلك. أمّا الصوم الواجب فقد تقدّم الكلام فيه، وأنّه لم يخالف أحد في ذلك إِلَّا ما نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وتقدم الكلام على ذلك أيضًا. وأمّا صوم التطوع فقد شمله إجماع العلماء على عدم جواز النِّيابة فيه، إِلَّا أن الإمام ابن حزم خالف في ذلك، وذهب إلى جواز النِّيابة عن الغير في صوم التطوع، وأخذ الأجرة على ذلك (¬1). وقد تقدّم نقل كلامه في مبحث النِّيابة في الصّلاة عن الغير، وذكر ما علل به، ومناقشته بما يغني عن الإعادة (¬2). المسألة الثّانية: أخذ المال على الصوم الواجب عن العاجز هذه المسألة مبنية على مسألة النِّيابة عن العاجز في الصوم الواجب، وقد تقدّم نقل الإجماع على عدم جواز ذلك. وبناءً على ذلك فقد أجمع العلماء على عدم صحة الإجارة على صوم الفرض ¬

_ (¬1) المحلى لابن حزم: 8/ 191 - 192. (¬2) انظر مبحث أخذ المال على قضاء الصّلاة عن الغير: ص/ 141، وما قيل في الصّلاة يقال مثله هنا في الصوم، سواء بسواء؛ إذ لا فرق بينهما، من حيث انعقاد الإجماع على المنع من النِّيابة في كلّ منهما، ومن حيث تفرد ابن حزم بهذا القول دون العلماء، ومن حيث إنَّ النِّيابة عن الغير في الصِّيام عبادة، والعبادات مبناها على التوقيف، ولا نصّ هنا يجيز ذلك، وبخاصة وقد انعقد الإجماع على عدم صحة النِّيابة في الصِّيام عن الحي مطلقًا، فالتفريق بين الفرض والنفل يحتاج إلى دليل نصي، ولا دليل - كما سبق -.

عن الحي العاجز (¬1). وأمّا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية من تجويز النِّيابة عن العاجز عجزًا دائمًا، فإنّه رحمه الله قد نصّ على أن يكون النائب متبرعًا؛ وعليه فإنّه في مسألة الأجرة يوافق قول جماهير العلماء، وبهذا تتفق كلمة العلماء على عدم جواز الإجارة في الصِّيام الواجب عن الحي (¬2). ومن الأدلة على ذلك: أوَّلًا: أن الصوم عبادة بدنية محضة، القصد منها امتحان المكلَّف، وإتعاب بدنه، وقهر نفسه الأمارة بالسوء، ولا يحصل ذلك بفعل النائب؛ فلا يجوز الاستئجار عليه (¬3). ثانيًا: أن الأجر يكون عِوض الانتفاع، ولم يحصل لغيره ههنا انتفاع، فأشبه إجارة الأعيان الّتي لا نفع فيها، فالمنفعة في الصوم حاصلة للأجير لا للمستأجر، فلا يجوز الاستئجار على الصوم (¬4). ثالثًا: الإجماع على عدم جواز النِّيابة عن العاجز في الصوم الواجب، وإذا كانت النِّيابة لا تجوز، فلا تجوز الإجارة في ذلك؛ لأنّ جواز الإجارة فرع عن صحة ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي: 3/ 89، حاشية ابن عابدين: 1/ 237، الاختيار لتعليل المختار: 2/ 59، تببين الحقائق للزيلعي: 5/ 124، المنتقى للباجي: 2/ 63، التاج والإكليل للمواق: 5/ 422 - 423، حاشية الدسوقي: 2/ 18، عقد الجواهر المْين لابن شاس: 2/ 842، المجموع للنووي: 6/ 371، روضة الطالبين: 5/ 187، مغني المحتاج: 2/ 344، المغني لابن قدامة: 4/ 393 وما بعدها، 8/ 141، كشاف القناع للبهوتي: 2/ 334 - 335، 4/ 12، المحلى لابن حزم: 8/ 191 - 192. (¬2) الاختيارات الفقهية لابن تيمية، ص/ 109، الفروع لابن مفلح: 3/ 96. (¬3) المبسوط للسرخسي: 3/ 89، حاشية ابن عابدين: 1/ 237. (¬4) المغني لابن قدامة: 8/ 141، كشاف القناع: 4/ 12.

المسألة الثالثة: أخد المال على صوم التطوع عن العاجز

النِّيابة (¬1). رابعًا: أن الصِّيام عن الغير قربة، والقربة، متى وقعت كانت للعامل، فلا يجوز له أخذ الأجر على عمل وقع له، كالصلاة (¬2). المسألة الثّالثة: أخد المال على صوم التطوع عن العاجز: سبق نقل اتفاق العلماء على عدم جواز النِّيابة في صوم التطوع عن العاجز. ومآخذ العلماء في عدم جواز النِّيابة في صوم التطوع عن العاجز هي مآخذهم نفسها فيما يتعلّق بالنيابة في الصوم الواجب، وقد تقدّم ذكر إجماعهم، وما استدلوا به على هذا الإجماع. - خالف في ذلك الإمام ابن حزم؛ فقد أجاز أخذ الأجرة على صوم التطوع عن العاجز. قال ابن حزم: "وجائز للمرء أن يأخذ الأجرة على فعل ذلك عن غيره مثل أن يحج عنه التطوع، أو يصلّي عند التطوع، أو يؤذن عنه التطوع، أو يصوم عنه التطوع ... " (¬3). وقد علل ابن حزم لرأيه بما يأتي: أن صيام التطوع ليس واجبًا، لا على الأجير، ولا على المستأجر، فالعامل يؤدِّي هذا العمل عن غيره، فليس في عمله هذا طاعة ولا معصية، وأمّا المستأجر فإنّه ينفق ماله في ذلك تطوعًا لله تعالى، فله أجر ما اكتسب بماله (¬4). وقد سبقت مناقشة هذا التعليل في مبحث الصّلاة، وما قيل في الصّلاة يقال في الصِّيام؛ إذ كلّ منهما عبادة بدنية محضة لا تجرى النِّيابة فيهما حال الحياة بإجماع العلماء (¬5). ¬

_ (¬1) حاشية العدوي على الخرشي: 7/ 23، مغني المحتاج للشربيني: 2/ 344. (¬2) تببين الحقائق للزيلعي: 5/ 124. (¬3) المحلى لابن حزم: 8/ 191 - 192. (¬4) المحلى: 8/ 192. (¬5) راجع ما تقدّم، ص/ 141 - 142.

المطلب الثاني أخذ المال على الصيام عن الميت

المطلب الثّاني أخذ المال على الصِّيام عن الميِّت المسألة الأولى: النِّيابة في الصوم عن الميِّت: الفرع الأوّل: تحرير محل النزاع إذا مات المسلم، وقد وجب عليه صومٌ، سواء أكان صومًا من رمضان (¬1)، أم من نذر، أم من كفارة، فله حالتان: الحالة الأولى: أن يموت قبل تمكنه من قضاء ما وجب عليه من صوم، إمّا بسبب ضيق الوقت، وإما لقيام العذر من مرض، أو سفر، أو حيض، أو نفاس، ونحو ذلك. ففي هذه الحالة لا شيء عليه، وتبرأ ذمته ممّا وجب عليه، ومن ثمّ فإنّه لا يصام عنه، ولا يطعم. وهذا قول جمهور أهل العلم، في المذاهب الأربعة، وغيرهم (¬2). ¬

_ (¬1) سوء أكان أفطر فيه لعذر، أم لغير عذر، ففي الحالتين يجب عليه القضاء على ما ذهب إليه جمهور أهل العلم. فإذا استقر وجوب القضاء عليه: فلم يقض حتّى مات؛ فما الحكم؟ الجواب على التفصيل المذكور في تحرير محل النزاع: (شرح فتح القدير لابن الهمام: 2/ 68، بداية المجتهد لابن رشد: 1/ 302، المهذب للشيرازي: 1/ 183، مغني المحتاج للشربيني: 1/ 439، المغني لابن قدامة: 4/ 365 - 366 (¬2) المبسوط للسرخسي: 3/ 89 - 90، بدائع الصنائع للكاساني: 2/ 103، الاختيار لتعليل المختار للموصلّي: 1/ 134، الكافي لابن عبد البرّ: 1/ 338 - 339، عارضة الأحوذي لابن العربي: 3/ 240، الذّخيرة للقرافي: 2/ 524، الأم للشافعي: 2/ 104، المهذب للشيرازي: 1/ 187، المجموع للنووي: 6/ 368 وما بعدها، روضة الطالبين للنووي: 2/ 382، مغني المحتاج للشربيني: 1/ 439، المغني لابن قدامة: 4/ 398، المبدع شرح المقنع لابن مفلح: 3/ 47، الإنصاف للمرداوي: 3/ 334، وكشاف القناع للبهوتي: 2/ 334.

واستدل الجمهور على ما ذهبوا إليه بما يأتي: أوَّلًا: قالوا في تعليل ذلك: إنّه فرض لم يتمكن منه إلى الموت فسقط، حكمه كالحج (¬1). قال ابن قدامة: "ولنا: أنّه حق لله تعالى، وجب بالشرع، مات من يجب عليه قبل إمكان فعله، فسقط إلى غير بدل كالحج (¬2). ثانيًا: قالوا: إنَّ وقت أداء الصوم في حقه عدة من أيّام أخر بالنص، ولم يدركه؛ فلا يجب عليه شيء (¬3). ثالثًا: أن المرض لما كان عذرًا في إسقاط أداء الصوم في وقته لدفع الحرج، فلأن يكون عذرًا في إسقاط القضاء أولى (¬4). خالف أبو الخطّاب من الحنابلة فيما يتعلّق بالصوم عنه في هذه الحالة، فقال: "يحتمل أن يجب الصوم عنه، أو التكفير" (¬5). وخالف في الإطعام طاووس (¬6)، وقتادة (¬7)، وشيخ الإسلام ابن تيمية؛ فقالوا: يجب الإطعام عنه، وعللوا ما ذهبوا إليه بما يأتي: ¬

_ (¬1) المهذب للشيرازي: 1/ 187، المغنى لابن قدامة: 4/ 398. (¬2) المغني: 4/ 398. (¬3) المبسوط للسرخسي: 3/ 89 - 90. (¬4) المبسوط للسرخسي: 3/ 89 - 90. (¬5) الفروع لابن مفلح: 3/ 93، الإنصاف للمرداوي: 3/ 334. (¬6) هو طاووس بن كيسان الهمداني اليمني، يكنى بأبي عبد الرّحمن، الحميري، مولاهم الفارسي، قيل: اسمه ذكوان، وطاووس لقبه، ثقة فقيه فاضل، سمع من ابن عبّاس، وأبي هريرة، وعائشة - رضي الله عنهم -، توفي بمكة حاجًا سنة 106هـ على الصحيح. (الطبقات الكبرى لابن سعد: 6/ 66 - 70، تهذيب التهذيب لابن حجر: 5/ 8 - 10). (¬7) هو قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي، أبو الخطّاب البصري، ثقة مأمون حجة في الحديث، روى عن أنس بن مالك، وأبي الطفيل، وغيرهما، توفي بواسط في الطّاعون سنة 117 هـ، أو سنة 118 هـ على خلاف في ذلك. (الطبقات لابن سعد: 7/ 171، تهذيب التهذيب لابن حجر: 8/ 351.

الحالة الأخرى

إنَّ الصِّيام يجب على المكلَّف قضاؤه، فإذا سقط القضاء بالعجز عنه، وجب البدل، وهو الإطعام قياسًا على الشّيخ الهرم إذا عجز عن الصوم، فإنّه يلزمه الإطعام (¬1). وأجيب عن ذلك: بأنّه قياس مع الفارق؛ فإن الشّيخ الهرم حيٌّ من أهل التكليف، وقد توجه إليه الإطعام ابتداء عوضًا عن الصوم، فذمته مشغولة به، بخلاف الميِّت، فلا يجوز ابتداء الوجوب عليه (¬2). الحالة الأخرى: إذا مات بعد تمكنه من قضاء ما وجب عليه من صيام، ولكنه فرط في القضاء حتّى مات (¬3). في هذه الحالة، اختلفت أقوال العلماء، وتباينت تباينًا شديدًا؛ فمن قائل بوجوب الصوم عنه، ومن قائل بالاستحباب مطلقًا، ومن قائل بالمنع من الصِّيام عنه مطلقًا، ومن قائل باستحباب ذلك في النَّذْر دون غيره، وكل ذلك يأتي بيانه في الفرع الثّاني - إن شاء الله تعالى -. الفرع الثّاني: حكم النِّيابة في الصوم عن الميِّت: إذا مات السلم بعد تمكنه من قضاء ما وجب عليه من الصِّيام - سواء أكان هذا الصِّيام من رمضان، أم كان نذرًا، أم كفارة - فهل تجوز النِّيابة عنه في قضاء ما وجب عليه أم لا؟ ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة: 4/ 398، مجموع الفتاوى لابن تيمية: 25/ 269. (¬2) المغني لابن قدامة: 4/ 398. (¬3) المبسوط للسرخسي: 3/ 89 - 90، بدائع الصنائع: 2/ 103، الكافي لابن عبد البرّ: 1/ 338، الأم للشافعي: 2/ 104، المهذب للشيرازي: 1/ 187، المجموع للنووي: 6/ 368، المغني لابن قدامة: 4/ 398، المبدع لابن مفلح: 3/ 47، الإنصاف للمرداوي: 3/ 334، المحلى لابن حزم: 7/ 2 - 8، 59.

وإذا قلنا بجواز النِّيابة، فهل يكون ذلك على سبيل الاستحباب أم على سبيل الوجوب؟ اختلف أهل العلم في ذلك على أقوال أهمها أربعة أقوال: * القول الأوّل: تجوز النِّيابة عن الميِّت في قضاء ما وجب عليه من صوم واجب سواء أكان صومًا من رمضان، أم من نذر، أم من كفارة؛ وذلك على سبيل الاستحباب. وإلى هذا ذهب طاووس، والحسن البصري (¬1)، والزهري (¬2)، وقتادة، وأبو ثور (¬3). في قول، والشّافعيّ في القديم من مذهبه، هو الصحيح المختار عند المحققين من الشّافعيّة (¬4)؛ قال النووي بعد أن ذكر أن في المذهب قولين: " ... والثّاني: يستحب لوليه أن يصوم عنه، ويصح صومه عنه، ويبرأ به الميِّت، ولا يحتاج إلى إطعام عنه، وهذا القول هو الصحيح المختار الّذي نعتقده، وهو الّذي صححه ¬

_ (¬1) هو: الإمام شيخ الإسلام، الحسن بن أبي الحسن يسار، أبو سعيد البصري، مولى زيد بن ثابت الأنصاري، كانت أمه مولاة لأم سلمة أم المؤمنين، كان حافظًا من بحور العلم فقيه النفس كبير الشأن، ولكنه كان يرسل كثيرًا، ويدلُّّس، توفي سنة 110 هـ، وله ثمان وثمانون سنة. تذكرة الحفاظ للذهبي: 1/ 71، تقريب التهذيب لابن حجر، ص/236. (¬2) هو أعلم الحفاظ، أبو بكر محمّد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزّهريُّ الفقيه الحافظ متفق على جلالته، وإتقانه، وثبته، ولد سنة 50 هـ، روى عن ابن عمر، وسهل بن سعد، وأنس بن مالك وغيرهم، مات سنة 125هـ على الصحيح: تذكرة الحفاظ للذهبي: 1/ 108، تقريب التهذيب لابن حجر: ص/896. (¬3) هو الإمام الحافظ الحجة المجتهد أبو ثور، وأبو عبد الله، إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي وشهرته أبو ثور، أحد أئمة الفقه والحديث، ولد في حدود 170 هـ، وثقه أحمد بن حنبل، والنسائي، وأبو حاتم، وغيرهم، توفي سنة 240 هـ. سير أعلام النُّبَلاء للذهبي: 12/ 72، تقريب التهذيب لابن حجر، ص/107. (¬4) المجموع للنووي: 6/ 369، شرح النووي على مسلم: 8/ 25، مغني المحتاج للشربيني: 1/ 439.

محققو أصحابنا الجامعون بين الفقه والحديث ... " (¬1). وهذا القول هو رواية عند الحنابلة (¬2). * القول الثّاني: يجب قضاء ما على الميِّت من صيام، سواء أكان صوم فرض من قضاء رمضان، أم نذر، أم كفارة واجبة، وسواء أوصى به الميِّت أم لا. وإلى هذا ذهب الظاهرية (¬3). قال ابن حزم: "ومن مات وعليه صوم فرض من قضاء رمضان، أو نذر، أو كفارة واجبة، ففرض على أوليائه أن يصوموه عنه هم أو بعضهم، ولا إطعام في ذلك أصلًا، أوصى به أو لم يوص به، فإن لم يكن له ولي استؤجر عنه من رأس ماله من يصومه عنه، ولا بدّ، أوصى بكل ذلك، أو لم يوص، وهو مقدم على ديون النَّاس" (¬4). * القول الثّالث: تصح النِّيابة عن الميِّت في قضاء ما وجب عليه من صوم النَّذْر فقط دون غيره من أنواع الصِّيام الواجب، وذلك على سبيل الاستحباب. وإلى هذا ذهب أحمد في المنصوص عنه (¬5)، وهو الصحيح من المذهب عند الحنابلة (¬6). ¬

_ (¬1) شرح النووي على مسلم: 8/ 25، وانظر المجموع له: 6/ 369. (¬2) الفروع لابن مفلح: 3/ 95، والإنصاف للمرداوي: 3/ 334. (¬3) المحلى لابن حزم: 7/ 2 - 8، 59. (¬4) المحلى لابن حزم: 7/ 2. (¬5) مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله، ص/ 186، المكتب الإسلامي - بيروت، ومسائل الإمام أحمد لأبي داود، ص/96. (¬6) المغني لابن قدامة: 4/ 399، الإنصاف للمرداوي: 3/ 336، معونة أولي النهى لابن النجار: 3/ 84 - 85.

وقال به من السلف: ابن عبّاس رضي الله عنهما، والليث بن سعد (¬1)، وأبو عبيد (¬2)، واسحاق، وأبو ثور في قول آخر عنه (¬3)، وهو اختيار شيخ الإسلام (¬4) ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم (¬5). القول الرّابع: لا تصح النِّيابة عن الميِّت في الصوم مطلقًا، سواء أكان صومًا من رمضان، أم من نذر، أم من كفارة. وإلى هذا ذهب الحنفية (¬6)، والمالكية (¬7)، والشّافعيّة في الجديد (¬8)، ¬

_ (¬1) هو الإمام الحافظ شيخ الإسلام وعالم الديار المصرية، أبو الحارث اللَّيث بن سعد بن عبد الرّحمن، ولد سنة 94 على الصحيح بقرية قرقشندة من أسفل أعمال مصر، سمع من عطاء، والزهري وأبي الزبير المكي وغيرهم، كان ثقة ثبتًا فقيهًا إمامًا مشهورًا، توفي سنة 175هـ. سير أعلام النُّبَلاء للذهبي: 8/ 136، تهذيب التهذيب لابن حجر: 8/ 459. (¬2) هو: الإمام الحافظ المجتهد، أبو عبيد القاسم بن سلام بن عبد الله، ولد سنة 157هـ، له مصنفات عديدة سارت بها الركبان منها: كتاب الأموال وغريب الحديث وفضائل القرآن، والطهور والناسخ والمنسوخ، وغيرها كثير، توفي سنة 224 هـ على الصحيح وكانت وفاته بمكة المكرمة. سير أعلام النُّبَلاء للذهبي: 10/ 490، تقريب التهذيب لابن حجر، ص/791. (¬3) المغنى لابن قدامة: 4/ 399، شرح النووي على مسلم: 8/ 26. (¬4) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: 25/ 269، والاختيارات ص / 109. (¬5) تهذيب سنن أبي داود لابن القيم: 3/ 281. (¬6) المبسوط للسرخسي: 3/ 89 - 90، بدائع الصنائع للكاساني: 2/ 103، شرح فتح القدير لابن الهمام: 2/ 85 وما بعدها، البحر الرائق لابن نجيم: 2/ 396، حاشية ابن عابدين: 2/ 117 - 118. (¬7) المدوّنة للإمام مالك: 1/ 211 - 212، التمهيد لابن عبد البرّ: 9/ 27، والاستذكار لابن عبد البرّ: 10/ 167 - 168، المنتقى للباجي: 2/ 63. (¬8) الأم للشافعي: 2/ 104، المهذب للشيرازي: 1/ 187، المجموع للنووي: 6/ 368، روضة الطالبين للنووي: 2/ 381، تحفة المحتاج: 3/ 435، مغني المحتاج للشربيني: 1/ 439، نهاية المحتاج للرملي: 3/ 189 - 190.

سبب الخلاف بين الفقهاء

وهو اختيار ابن عقيل (¬1) من الحنابلة (¬2). سبب الخلاف بين الفقهاء: يرجع سبب خلاف الفقهاء في هذه المسألة إلى ثلاثة أمور: الأمر الأوّل: تعارض الروايات في الظّاهر، وأعني: الروايات الدالة على جواز النِّيابة مع الروايات الدالة على عدم الجواز على ما سيأتي بيانه. الأمر الثّاني: أن الصّحابة الذين رووا الأحاديث الّتي تدل على جواز النِّيابة قد روي عنهم الإفتاء بخلاف ذلك؛ كابن عبّاس رضي الله عنهما، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وسيأتي تفصيل ذلك. الأمر الثّالث: معارضة القياس للأثر؛ فالقياس يقتضي ألَّا يصوم أحد عن أحد كالصلاة، وجاءت أحاديث تدل على جواز النِّيابة في الصوم، وهي كثيرة، فمن أخذ بالقياس منع، ومن أخذ بالنصوص أجاز على تفصيل في ذلك يأتي بيانه (¬3). الأدلة والمناقشات: أوَّلًا: أدلة أصحاب القول الرّابع: وهؤلاء هم القائلون بالمنع من النِّيابة في الصوم عن الميِّت مطلقًا، وقد استدلوا بأدلة من القرآن، والسُّنَّة، والأثر، والمعقول. ¬

_ (¬1) هو الإمام العلّامة البحر، أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمّد بن عقيل البغدادي الحنبلي شيخ الحنابلة في زمانه، ولد عام 432هـ، برع في كافة العلوم وأكثر من التأبيف، ومن ذلك: كتاب الفنون، والفصول، وعمدة الأدلة، والإرشاد في أصول الدِّين، والواضح في أصول الفقه، وغيرها كثير، توفي عام 513 هـ: طبقات الحنابلة لأبي يعلى: 2/ 259، المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد للعلّيمي: 3/ 78، سير أعلام النُّبَلاء للذهبي: 19/ 443. (¬2) الإنصاف للمرداوي: 3/ 336. (¬3) الاستذكار لابن عبد البرّ: 10/ 173، بداية المجتهد لابن رشد: 1/ 300.

أ - الأدلة من القرآن

أ - الأدلة من القرآن: الدّليل الأوّل: قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]. وجه الاستدلال: قالوا: دلت هذه الآية بعمومها على أن الإنسان ليس له إِلَّا سعيه، وعمله، ولا ينفعه سعي وعمل غيره؛ وعليه فإن صام عنه وليه، أو غيره فإن ذلك لا ينفعه (¬1). مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الاستدلال بأن الآية مخصوصة بنصوص كثيرة، وقد تقدّم ذكر هذه النصوص، وما ورد عليها من اعتراضات، وما أجيب به عن هذه الاعتراضات، فأغنى ذلك عن الإعادة (¬2). ولهؤلاء عمومات أخرى في معنى هذه الآية مثل قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38]، وقوله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164]. ووجه الاستدلال من هذه الآيات واحد، ويقال في مناقشتها ما قيل في الآية الَّتي قبلها (¬3). ب - الأدلة من السُّنَّة: الدّليل الأوّل: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله، إِلَّا من ثلاث: إِلَّا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) (¬4). ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/ 285، 4/ 151، 17/ 114، وانظر: بدائع الصنائع للكاساني: 2/ 212، شرح فتح القدير لابن الهمام: 2/ 408 - 410. (¬2) ص 163 وما بعدها. (¬3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/ 285. (¬4) سبق تخريجه في مبحث الأجرة على قضاء الصّلاة عن الغير، ص 166.

وجه الدلادلة

وجه الدلادلة: دل الحديث بظاهره على أن عمل المسلم ينقطع بموته، إِلَّا هذه الأشياء المستثناة، وليس منها قضاء الصِّيام عنه، فدلّ على عدم جواز النِّيابة عن الميِّت في الصِّيام. مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الاستدلال: بأن غاية ما يدلُّ عليه هو انقطاع عمل الإنسان نفسه، إِلَّا من هذه الأمور الثّلاثة، أمّا عمل غيره عنه فلا ذكر له في الحديث، ولا أنّه ينقطع كذلك بموت الإنسان (¬1). فإن قيل: إنّه إذا انقطع عمل المرء نفسه، وإنه لا ينتفع بشيء من عمله إِلَّا بما استثنى فلأن ينقطع عنه عمل غيره أولى. ويجاب عن ذلك: بأن هذا الاعتراض منقوض بالدعاء، والصدقة، والحج، ونحو ذلك ممّا يصل الإنسان بعد موته من غيره (¬2). الدّليل الثّاني: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (من مات وعليه صيام شهر، فليطعم مكان كلّ يوم مسكينًا) (¬3). ¬

_ (¬1) المحلى لابن حزم: 7/ 4. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم: 1/ 90. (¬3) أخرجه التّرمذيّ، في الصوم، باب ما جاء من الكفارة: 3/ 96 (718)، وابن ماجه في الصوم، باب من مات وعليه صيام رمضان قد فرط فيه: 1/ 558 (1757) من رواية أشعث بن سوار عن محمّد بن سيرين، عن نافع، عن ابن عمر ... فذكر محمّد بن سيرين مكان محمّد بن عبد الرّحمن بن أبي ليلى. وقد صحح ابن التركماني سند ابن ماجه فقال: رواه ابن ماجه بسند صحيح، عن أشعث، عن محمّد بن سيرين، واعتبر ذلك متابعة لابن أبي ليلى، وقد تبين لنا أن كلام ابن التركماني غير صحيح - والله أعلم -. الجوهر النقي بحاشية سنن البيهقي: 4/ 424 - 425. =

وجه الاستدلال

وجه الاستدلال: دلّ الحديث بظاهره على أن من مات وعليه صيام أنّه يطعم عنه؛ فلو كانت النِّيابة جائزة لذكرها النّبيّ، فلما ذكر الإطعام، ولم يذكر الصِّيام عنه دل ذلك على عدم جوازه، وهو نصّ في المسألة. وهذا الحديث محمول على الصوم الواجب فقط عند أصحاب القول الثّالث، فإنّه يطعم عنه، أمّا صوم النَّذْر فإنّه ينوب عنه في صومه كما سيأتي. مناقشة الاستدلال: أوَّلًا: إنَّ هذا الحديث ضعيف سندًا؛ ففي سنده أشعث بن سوار (¬1)، ومحمد ابن عبد الرّحمن بن أبي ليلى (¬2)، وهما ضعيفان (¬3). ¬

_ = قال المزي في الأطراف: "وهو وهم": تحفة الأشراف: 6/ 227، وقال ابن حجر: وهو وهم منه أو من شيخه. قلت: إنّما هو محمّد بن أبي ليلى - كما تقدّم -، وقد نصّ على ذلك جمع من أهل العلم منهم: التّرمذيّ في السنن: 3/ 96، وابن عدي في الكامل في الضعفاء: 1/ 365، والبيهقي: 4/ 424، والمزي وابن حجر في تلخيص الحبير- كما تقدّم -. وأخرجه البيهقي في الكبرى، في الصِّيام، باب من قال إذا فرط في القضاء بعد الإمكان حتّى مات أطعم عنه ... : 4/ 424 (8218) بلفظ: سُئل النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - عن رجل مات وعليه صوم شهر قال: "يُطعم عنه كلّ يوم مسكين"، والبغوي في شرح السُّنَّة: 6/ 326 (1775). (¬1) هو أشعث بن سوار الكندي النجار، الكوفي، مولى ثقيف، صاحب التوابيت، كان قاضيًا على الأهواز، روى له مسلم متابعة، ضعفه غير واحد من أهل العلم منهم أبو زرعة، والنسائي، وابن حبّان، والدارقطني، والحافظ ابن حجر، وغيرهم، توفي سنة 136. ميزان الاعتدال: 1/ 263، تهذيب التهذيب لابن حجر: 1/ 352 (645). (¬2) هو: محمّد بن عبد الرّحمن بن أبى ليلى الأنصاري، الفقيه، قاضي الكوفة، كان صاحب سنة، قارئًا، عالمًا، ضعفه جماعة من أهل العلم منهم: أبو زرعة، ويحيى القطان، وابن معين، والنسائي، والدارقطني: وشعبة، والإمام أحمد، قال ابن حجر: صدوق سيء الحفظ جدًا، توفي سنة 148: ميزان الاعتدال للذهبى: 3/ 613 (7825)، وتهذيب التهذيب لابن حجر: 9/ 301 (501)، تقريب التهذيب: ص/ 871 (6121). (¬3) نصب الراية للزيلعي: 2/ 464، ضعيف سنن التّرمذيّ للألباني: ص/ 81 (113).

الدليل الثالث

ثانيًا: إنّه لا يصح رفعه إلى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، بل هو موقوف على ابن عمر رضي الله عنهما (¬1). الدّليل الثّالث: عن عبادة بن نُسي (¬2)؛ قال: قال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: (من مرض في رمضان، فلم يزل مريضًا حتّى مات، لم يطعم عنه، وإن صحَّ فلم يقضِه حتّى مات أطعم عنه) (¬3). وجه الاستدلال: حيث نصّ الحديث على الإطعام عن الميِّت دون الصِّيام عنه؛ فدل على عدم جوازه. قال ابن حزم (¬4): "وأمّا حديث عبد الرزّاق فلا تحل روايته إِلَّا على سبيل بيان فسادها؛ لعلّل ثلاث فيه: إحداها: أنّه مرسل (¬5). ¬

_ (¬1) سنن التّرمذيّ: 3/ 97: قال التّرمذيّ: "والصّحيح عن ابن عمر موقوف ... "، والسنن الكبرى للبيهقي: 4/ 424، معرفة السنن والآثار للبيهقي: 6/ 311، تحقيق: د. عبد المعطي قلعجي. (¬2) هو عبادة بن نُسَي، الكندي، الشامي، الأردني، وكنيته: أبو عمر، قاضي طبريه، ثقة فاضل، روى عن بعض الصّحابة مثل عبادة بن الصامت، وشداد بن أوس، وأبي الدرداء، وغيرهم، وثقه ابن سعد، وأحمد، وابن معين، والعجلي، والنسائي وغيرهم، مات سنة 118 هـ: تهذيب التهذيب لابن حجر: 5/ 113، الطبقات الكبرى لابن سعد: 7/ 317، تقريب التهذيب: ص/ 485 (3177). (¬3) أخرجه عبد الرزّاق، في الصِّيام، باب المريض في رمضان وقضائه: 4/ 237 (7635). (¬4) المحلى لابن حزم: 7/ 4. (¬5) المرسل: مأخوذ من الإرسال وهو: الإطلاق والإهمال وعدم المنع، ومنه: أرسلت الكلام: إذا أطلقته من غير تقييد، فكأن المرسِل أطلق الإسناد ولم يقيده براوٍ معروف: لسان العرب لابن منظور: 11/ 285، الوسيط في علوم ومصطلح الحديث للدكتور/ محمّد أبو شهبة، ص/ 280. وفي الاصطلاح: "هو ما سقط من آخره مَنْ بَعد التابعي"، وهذا هو التعريف الصحيح المختار للمرسل: نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر لابن حجر، ص/109 وما بعدها، تحقيق علي حسن عبد الحميد.

جـ- الأدلة من الأثر

والثّانية: أن فيه الحجاج بن أرطاة، وهو ساقط (¬1). والثالثة: أن فيه إبراهيم بن يحيى، وهو كذاب (¬2). وعليه، فإن هذا الحديث لا يصح الاستدلال به لهذه العلل. جـ- الأدلة من الأثر: الدّليل الأوّل: ما ورد عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال: (لا يصلّي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كلّ يوم مدًا من حنطة) (¬3). وقد سبق ذكر وجه الاستدلال، وما ورد عليه من مناقشات، وما أجيب به في مبحث النيابة في الصّلاة، فأغنى عن الإعادة (¬4). الدّليل الثّاني: ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه قال: (لا يصلّين أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن إنَّ كنت فاعلًا، تصدقت عنه أو أهديت) (¬5). ¬

_ (¬1) هو الحجاج بن أرطاة بن ثور بن هبيرة النخعي، أبو أرطاة الكوفي القاضي، أحد الفقهاء، صدوق كثير الخطأ والتدليس؛ قال ابن المبارك: متروك الحديث. توفي سنة 145 هـ: تهذيب التهذيب لابن حجر: 2/ 197، تقريب التهذيب لابن حجر، ص/222 (1127). (¬2) هو إبراهيم بن محمّد بن أبي يحيى، أبو إسحاق الأسلمي المدني؛ قال عنه مالك: ليس بثقة في الحديث ولا في دينه. وقال يحيى بن سعيد القطان: كذاب. وقال ابن معين: كذاب رافضي. وقال ابن أبي شيبة: كذاب، وقال النسائي، والدارقطني، وأحمد: متروك الحديث، قال البخاريّ: تركه ابن المبارك والناس، كان يرى القدر، وكان جهميًا، توفي سنة 184 هـ: ميزان الاعتدال للذهبي: 1/ 57، تهذيب التهذيب لابن حجر: 1/ 158 (284)، تقريب التهذيب، ص: 115 (243). (¬3) تقدّم تخريجه، ص 168. (¬4) ص 168 وما بعدها. (¬5) تقدّم تخريجه، ص 168.

الدليل الثالث

وقد سبق ذكر وجه الاستدلال، ومناقشته، وما أجيب به عنه في مبحث النيابة في الصّلاة؛ فليراجَع (¬1). الدّليل الثّالث: عن عمرة بنت عبد الرّحمن (¬2)؛ قالت: سألت عائشة رضي الله عنها، فقلت لها: إنَّ أمي توفيت وعليها رمضان، أيصلح أن أقضي عنها؟ فقالت: "لا، ولكن تصدقي عنها مكان كلّ يوم على مسكين، خير من صيامك عنها (¬3). الدّليل الرّابع: ما رواه عمارة بن عمير (¬4)؛ قال: ماتت مولاة لابن أبي عصيفير عليها صوم شهر، فقالت عائشة رضي الله عنها: أطعموا عنها (¬5). الدّليل الخامس: ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت: "لا تصوموا عن موتاكم، وأطعموا عنهما" (¬6). الدّليل السّادس: ما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال في رجل مات وعليه صيام من رمضان؛ قال: "أطعم عنه كلّ يوم نصف صاع من حنطة" (¬7). وجه الاستدلال من هذه الآثار: أن هذه الآثار تدل على أن الميِّت يطعم عنه، ولا يصام عنه، وقد صرحت بعضها بالنهي عن الصوم عن الأموات" (¬8). ¬

_ (¬1) ص 168. (¬2) هي: عمرة بنت عبد الرّحمن بن سعد بن زُرارة الأنصارية المدنية، أكثرت عن عائشة رضي الله عنها، وهي ثقة ماتت قبل المائة من الهجرة، ويقال بعدها. انظر: تقريب التهذيب، ص/1365. (¬3) أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار: 6/ 178، وابن حزم في المحلى: 7/ 3. (¬4) هو: عمارة بن عُمير التيمي من بني تيم الله بن ثعلبة الكوفي، روى عن عمته، والأسود بن يزيد النخعي، والحارث بن سُوَيْد التيمي، وعنه إبراهيم النخعي، والحكم بن عتيبة، والأعمش، قال ابن حجر: ثقة ثبت، توفي بعد المائة، وقيل قبلها بسنتين: تهذيب التهذيب لابن حجر: 7/ 421، والتقريب له: ص/713. (¬5) أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار: 6/ 178 - 179. (¬6) أخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب الصِّيام، باب من قال يصوم عنه وليه: 4/ 430 (8232). (¬7) أخرجه عبد الرزّاق في الصِّيام، باب المريض في رمضان وقضائه: 4/ 237 (7630). (¬8) المحلى لابن حزم: 7/ 3 - 4، فتح الباري لابن حجر: 4/ 228.

مناقشة الاستدلال بهذه الآثار

مناقشة الاستدلال بهذه الآثار: أوَّلًا: أن هذه الآثار فيها مقال، ولا تسلم من الضعف؛ قال ابن حجر: " ... الآثار المذكورة عن عائشة، وعن ابن عبّاس فيها مقال" (¬1). ثانيًا: لو سلَّمنا بصحة هذه الآثار فإنها لا تمنع الصِّيام عن الميِّت، إِلَّا أثر عائشة "لا تصوموا عن موتاكم"، وهو ضعيف جدًا (¬2). ثالثًا: أن العبرة بما روى الراوي لا بما رآه، وقد روي عن عائشة، وابن عبّاس صحة الصوم عن الميِّت - كما سيأتي مفصلًا - (¬3). د- الأدلة من المعقول: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ الصوم عبادة لا تجرى النيابة في أدائها في حالة الحياة، فكذلك بعد الموت كالصلاة (¬4). مناقشة الاستدلال: أوَّلًا: أن هذا القياس في مقابلة النص، والقياس في مقابلة النص فاسد الاعتبار؛ فقد وردت نصوص كثيرة في جواز الصِّيام عن الميِّت، وستأتي قريبًا (¬5). ثانيًا: لو سلمنا بعدم المعارض للقياس فإنّه فاسد كذلك، لأنّه قياس في العبادات، والقياس في العبادات لا يصح (¬6). ¬

_ (¬1) فتح الباري لابن حجر: 4/ 228. (¬2) فتح الباري لابن حجر: 4/ 228. (¬3) المرجع السابق. تنبيه: سيأتي الكلام عن هذا الضابط. (¬4) المبسوط للسرخسي: 3/ 89 - 90، المهذب للشيرازي: 1/ 187. (¬5) البحر المحيط للزركشي: 5/ 51، مختصر الروضة للطوفي: 3/ 467 تحقيق التركي. (¬6) المحصول في علم الأصول للرازي: 5/ 348، شرح الكوكب المنير لابن النجار: 4/ 220.

ثانيا: أدلة القول الثالث

ثانيًا: أدلة القول الثّالث: استدل أصحاب هذا القول، وهم القائلون بجواز النيابة في صوم النَّذْر فقط دون غيره من الصوم الواجب بما يأتي: يستدل هؤلاء على مذهبهم من جهتين: الجهة الأولى: أدلتهم على المنع من النيابة في الصوم الواجب على الميِّت سوى صوم النَّذْر. وهي نفسها أدلة من منع النيابة في الصوم مطلقًا، وقد تقدمت مفصلة. الجهة الثّانية: أدلتهم على جواز النيابة في صوم النَّذْر. وقد استدلوا على ذلك بأدلة من السُّنَّة، والآثار، والمعقول. الدّليل الأوّل: من السُّنَّة: عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إنَّ أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال: (أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته، أكان يؤَدِّي ذلك عنها) قالت: نعم؛ قال: (فصومي عن أمك) (¬1). وجه الاستدلادل: حيث جاء الحديث نصًا صريحًا في قضاء صوم النَّذْر عن الميِّت فيجب المصير إليه. مناقشة الاستدلال: ستأتي مناقشة هذا الحديث عند مناقشة أدلة القائلين بالاستحباب مطلقًا، مع ذكر باقي الروايات - إن شاء الله تعالى -. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ في كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم: 4/ 227 (1953)، وأخرجه مسلم، واللفظ له، في كتاب الصوم، باب قضاء الصِّيام عن الميِّت: 2/ 804 (1148).

الدليل الثاني: من الآثر

الدّليل الثّاني: من الآثر: عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: إذا مرض الرَّجل في رمضان، ثمّ مات، ولم يصم، أطعم عنه، ولم يكن عليه قضاء، وإن كان عليه نذر قضى عنه وليه" (¬1). وجه الاستدلال: دلّ هذا الأثر على أن النَّذْر يقضى عن الميِّت دون الفريضة، وهذا نصّ صريح من ابن عبّاس في المسألة. الدّليل الثّالث: من المعقول: قالوا: إنَّ النيابة تدخل في العبادة بحسب خفتها، والنذر أخف حكمًا؛ لكونه لم يجب بأصل الشّرع، وإنّما أوجبه الناذر على نفسه، ولهذا جازت النيابة في النَّذْر دون غيره (¬2). وقد بين ابن القيم الفرق بين النَّذْر وبين واجب الشّرع الأصلّي، فقال: "وسر الفرق أن النَّذْر: التزام المكلَّف لما شغل به ذمته، لا أن الشارع ألزمه به ابتداءً فهو أخف حكمًا ممّا جعله الشارع حقًا له عليه، شاء أم أبى، والذِّمَّة تسع المقدور عليه، والمعجوز عنه، ولهذا تقبل أن يشغلها المكلَّف بما لا قدرة له عليه، بخلاف واجبات الشّرع، فإنها على قدر طاقة البدن، لا تجب على عاجز، فواجب الذِّمَّة أوسع من واجب الشّرع الأصلّي؛ لأنّ المكلَّف متمكن من إيجاب واجبات كثيرة على نفسه لم يوجبها عليه الشارع، والذِّمَّة واسعة، وطريق أداء واجبها أوسع من طريق أداء واجب الشّرع، فلا يلزم من دخول النيابة في واجبها بعد الموت دخولها في واجب الشّرع" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الصوم، باب فيمن مات وعليه صيام: 2/ 315 (2401)، وابن حزم في المحلى في الصِّيام: 7/ 7، وقد صححه ابن حزم فقال: وهذا إسناد صحيح، وصححه الألباني في أحكام الجنائز ص/215. (¬2) المغني لابن قدامة: 4/ 399. (¬3) تهذيب سنن أبي داود لابن القيم: 3/ 282.

ثالثا: أدلة أصحاب القول الثاني

ثالثًا: أدلة أصحاب القول الثّاني: استدل أصحاب هذا القول وهم الظاهرية ومن وافقهم القائلون بوجوب قضاء ما على الميِّت من صيام مطلقًا بأدلة من القرآن، والسُّنَّة، وهذه الأدلة داخلة في أدلة أصحاب القول الأوّل القائلين باستحباب النيابة عن الميِّت في الصِّيام. ولهذا فإنني سأذكر أدلة هذا القول مع أدلة القول الأوّل، وأبين وجه الاستدلال من هذه الأدلة على الوجوب، كما زعم أصحاب هذا القول، ثمّ أناقش ذلك - إن شاء الله تعالى -. رابعًا: أدلة أصحاب القول الأوّل: ذهب هؤلاء إلى استحباب النيابة عن الميِّت في قضاء ما وجب في ذمته من صوم. واستدلوا على ذلك بأدلة من القرآن، والسُّنَّة، والأثر، والمعقول. أ - الأدلة من القرآن: الدّليل الأوّل: قوله تعالى: {... مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النِّساء: 11،12]. وجه الاستدلال: استدل العلماء بعموم هذه الآية في قوله تعالى: (أو دين) على أن الدِّين هنا يشمل ما كان حقًا لله، وما كان حقًا للآدمبين، وأنّه يستحب للولي قضاء ما على الميِّت من دين، ومنه دين الصِّيام الواجب في ذمته (¬1). مناقشة الاستدلال: نوقشت هذه الآية من قبل المانعين للنيابة، وقد سبق ذلك، وتمت مناقشتهم بما يغني عن الإعادة (¬2). ¬

_ (¬1) المحلى لابن حزم: 8/ 27، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 5/ 74، تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنان للسعدي: 2/ 23. (¬2) مبحث النيابة في الصّلاة، ص 151.

ب- الأدلة من السنة

أمّا حمل ابن حزم هذه الآية على الوجوب ففيه نظر؛ لما يأتي: إنَّ قضاء الصوم عن الميِّت إنّما هو دين يقضى عنه كبقية الديون، وقضاء الدِّين عن الميِّت لا يجب على الولي؛ لأنّه متعلّق بالتركة، فإن كانت له تركة وجب عليه قضاء ما على الميِّت من تركته، وإن لم يكن له تركة فلا شيء على الولي، ولكن يستحب له أن يقضي عنه؛ لتفريغ ذمته، وفكّ رهانه (¬1). ب- الأدلة من السُّنَّة: الدّليل الأوّل: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: (من مات وعليه صيام، صام عنه وليه) (¬2). وفي رواية: (أيما ميت مات وعليه صيام، فليصمه عنه وليه) (¬3). وجه الاستدلال: هذا الحديمث نصّ على أن من مات وعليه صيام، فإن وليه يصوم عنه، سواء أكان الصوم من رمضان، أم من نذر، أم من كفارة؛ لأنّ قوله - صلّى الله عليه وسلم -: (صام عنه وليه) خبر بمعنى الأمر، وتقديره: فليصم عنه وليه، وهذا ما جاء مصرحًا به في رواية أحمد، وهذا الأمر للاستحباب عند الجمهور (¬4). ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة: 4/ 399 - 400. (¬2) أخرجه البخاريّ في الصوم، باب من مات وعليه صوم: 4/ 226 (1952)، ومسلم في الصِّيام، باب قضاء الصوم عن الميِّت: 2/ 803 (1147)، وأبو داود في الصوم، باب فيمن مات وعليه صيام: 2/ 315 (2400)، وفي الأيمان والنذور باب فيمن مات وعليه صيام: 3/ 237 (3311)، والنسائي في الكبرى، كتاب الصِّيام، باب صوم الولي عن الميِّت: 2/ 175 (2919)، وأحمد: 6/ 81 (24394)، والبيهقي في الكبرى: 4/ 425 (8221). (¬3) أخرجها أحمد: 6/ 81 (24394). (¬4) فتح الباري لابن حجر: 4/ 228.

الدليل الثاني

وقد أخذ ابن حزم بظاهر الحديث، وحمل الأمر فيه على الوجوب، ويجاب عن ذلك بما يأتي: أوَّلًا: أن الاستحباب جاء مصرحًا به في رواية عند البزار (¬1) حيث روى الحديث بزيادة: "إن شاء" (¬2). وهذه الزيادة تدفع الوجوب الّذي قاله ابن حزم (¬3). ثانيًا: أنّه في بعض الروايات - كما سيأتي- شبهه النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بالدين، وقضاء الدِّين إنّما يتعلّق بتركة الميِّت، لا بوليه؛ فإذا لم يخلف تركة فلا يجب على الولي شيء، ولكن يستحب له ذلك على سبيل الصلة له والمعروف (¬4). ثالثًا: اتفاق العلماء على أن ذلك مستحب، وليس بواجب، حتّى إنَّ بعضهم ادعى الإجماع على ذلك (¬5). الدّليل الثّاني: عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله: إنَّ أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال - صلّى الله عليه وسلم -: (لو ¬

_ (¬1) هو الإمام الحافظ الحجة: أحمد بن سلمة بن عبد الله، أبو الفضل النيسابوري البزار، رفيق الإمام مسلم في الرحلة، ولد سنة 209 هـ، سمع من قتيبة، وإسحاق بن راهويه، وعثمان بن أبي شيبة وغيرهم، وحدث عنه أبو زرعة، وأبو حاتم وغيرهما، توفي سنة 286 هـ. (سير أعلام النُّبَلاء للذهبي: 13/ 373، تذكرة الحفاظ للذهبي: 2/ 637. (¬2) أخرجه البزار في مسنده المسمى (البحر الزخار). كما في: كشاف الأستار عن زوائد البزار: 1/ 481 (1032). قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 3/ 182: إسناده حسن، وقال ابن حجر في التلخيص بعد ذكر الزيادة: وهي ضعيفة لأنّها من طريق ابن لهيعة: 2/ 209. هذه الزيادة جاءت من طريق ابن لهيعة، وهو مختلف في حاله، فبعض العلماء يصحح حديثه، وبعضهم يضعفه مطلقًا، وبعضهم يفرق بين حالتين: ما قبل احتراق كتبه وما بعدها، فما رواه قبل فهو صحيح، وما رواه بعد فلا يحتج به، وبعضهم يفرق بين ما رواه عنه العبادلة مثل ابن المبارك، وابن وهب، وغيرهما، فما رواه عنه العبادلة، فيقبل وما رواه عنه غيرهم فلا يقبل. (النفح الشذي لابن سيد النَّاس: 1/ 794، تحقيق د. أحمد معبد عبد الكريم، وقد فصل القول في ابن لهيعة بما لا مزيد عليه. (¬3) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام لابن الملقن: 5/ 297. (¬4) المغني لابن قدامة: 4/ 399 - 400، 13/ 655. (¬5) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام لابن الملقن: 5/ 297، فتح الباري لابن حجر: 4/ 228.

وجه الاستدلال من النصوص السابقة

كان على أمك دين، أكنت قاضيه عنها؟) قال: نعم؛ قال: (فدين الله أحق أن يقضى) (¬1). وفي رواية: جاءت امرأة إلى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - ... فذكر الحديث (¬2). وفي رواية: قالت امرأة: إنَّ أختي ماتت ... (¬3). وفي رواية: قالت امرأة للنبي - صلّى الله عليه وسلم -: ماتت أمي وعليها صوم خمسة عشر يومًا ... (¬4). وفي رواية: وعليها صوم شهرين متتابعين ... (¬5). وفي رواية: إنَّ أمي ماتت وعليها صوم نذر ... (¬6). وجه الاستدلال من النصوص السابقة: هذه النصوص صريحة في قضاء الصوم عن الميِّت، وقد شبهه النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بالدين، بل جعله أحق من قضاء الدِّين. وهذه النصوص جاء في معظمها ذكر الصوم مطلقًا، فدل على أن الصوم الواجب يقضى عن الميِّت، سواء أكان صومًا من رمضان، أم من نذر، أم من كفارة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ، كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم: 4/ 227 (1953). ومسلم في كتاب الصوم، باب قضاء الصِّيام عن الميِّت: 2/ 804 (1148). (¬2) أخرجه البخاريّ في الصوم، باب من مات وعليه صوم: 4/ 227 (1953). ومسلم في الصوم، باب قضاء الصِّيام عن الميِّت: 2/ 804 (1148). (¬3) البخاريّ في الصوم ... 4/ 227 (1953). (¬4) البخاريّ في الصوم ... 4/ 227 (1953) معلقًا، ووصله البيهقي في الكبرى في كتاب الصوم، باب من قال يصوم عنه وليه: 4/ 428 (8230). (¬5) أخرجه مسلم في الصِّيام باب قضاء الصِّيام عن الميِّت: 2/ 805 (1149)، والبيهقي: 4/ 426 (8225). (¬6) سبق تخريجه عند ذكر أدلة أصحاب القول الثّالث، ص 294.

الدليل الثالث

وهذه الأحاديث تدل على استحباب القضاء على الولي؛ لأنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - شبه ذلك بالدين، وقضاء الدِّين عن الميِّت إذا لم يخلف تركة مستحب، وذلك على سبيل الصلة له والمعروف (¬1). وقد استدل بهذه الروايات ابن حزم على وجوب النيابة عن الميِّت في قضاء ما عليه من صوم (¬2)، وقد تقدّم الجواب عن ذلك، وذكر ما يصرف ما ظاهره الوجوب من هذه الأدلة إلى الاستحباب. ومما يدلُّ على أن مطلق الصوم يقضى عن الميِّت، وأنّه تجوز النيابة فيه: أن السؤال عن الصوم جاء محتملًا لصور كثيرة، فيحتمل أن يكون عن رمضان، أو عن كفارة، أو عن نذر، وقد أجاب النّبيّ بلفظ عام دون أن يستفصل السائل، أو السائلة عن نوع الصوم ممّا يدلُّ على أن الحكم عام شامل لجميع الصور. وقد بنى العلماء على ذلك القاعدةُ المعروفة، وهي: أن ترك الاستفصال في قضايا الأحوال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال (¬3). ثمّ إنّه - صلّى الله عليه وسلم - قد علل الحكم بعلة عامة شاملة للنذر وغيره، وهي كونه دَيْنًا (¬4). الدّليل الثّالث: عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه - رضي الله عنهما -، قال: بيَّنَّا أنا جالس عند رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، إذ أتته امرأة، فقالت: إنِّي تصدقت على أمي بجارية، وإنها ماتت، قال: فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (وجب أجرُك، وردها عليك الميراث). ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة: 4/ 399 - 400، 13/ 655. فتح الباري لابن حجر: 4/ 228، مغني المحتاج للشربيني: 2/ 344. (¬2) المحلى لابن حزم: 7/ 2 - 8، 59. (¬3) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام لابن الملقن: 5/ 305، التمهيد في تخريج الفروع على الأصول للأسنوي، ص: 337، حاشية العمدة للصنعاني على إحكام الأحكام لابن دقيق العيد: 3/ 384 - 385. (¬4) الإعلام لابن الملقن: 5/ 305.

وجه الاستدلال

قالت: يا رسول الله إنه كان عليها صوم شهر، أفاصوم عنها؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: (صومي عنها). قالت: إنها لم تحج قط، أفأحج عنها؟ قال: (حجي عنها) (¬1). وجه الاستدلال: في هذا الحديث أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المرأة بالصوم عن أمها، وقد أطلق السائلة، ولم تحدد صوم الشهر برمضان، أو غيره، ولم يستفصل منها النبي - صلى الله عليه وسلم -، والقاعدة المقررة: "أن ترك الاستفصال في قضايا الأحوال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال"، فدل ذلك على أن النيابة عن الميت في قضاء ما عليه من صوم تصح مطلقًا، سواء أكان ما عليه من رمضان، أم غيره، حيث جاء الإطلاق في السؤال، والإطلاق في الجواب، فدل على أن الحكم عام في كل صوم واجب. مناقشة الاستدلال بالأحاديث السابقة عمومًا وبحديثي عائشة وابن عباس خصوصًا: نوقشت الأحاديث السابقة التي رواها ابن عباس، وكذلك عائشة رضي الله عنهم بما يأتي: أولاً: ما أجاب به المانعون مطلقًا: وقد أجابوا بما يأتي: أ - أن هذه الروايات مضطربة. وبيان ذلك: أنه في بعض الروايات كان السائل رجلاً، وفي بعضها كانت السائلة امرأة، وفي بعض الروايات كان المسؤول عنها أختًا، وفي بعض الروايات كانت أمًا، ومرة وقع السؤال عن مطلق الصوم، ومرة عن نذر؛ فمن أجل هذا الاضطراب لا يحتج بهذه الروايات (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم، كتاب الصوم، باب قضاء الصوم عن الميت: 2/ 805 (1149). (¬2) شرح النووي على مسلم: 8/ 26 - 27، الإعلام بفوائد عمدة الأحكام لابن الملقن: 5/ 296، شرح الآبي على مسلم المسمى (إكمال إكمال المعلم): 3/ 262.

الجواب عن هذا الوجه من المناقشة

الجواب عن هذا الوجه من المناقشة: 1 - أن حديث عائشة لا اضطراب فيه بأي وجه من الوجوه. 2 - أما حديث ابن عباس، فيمكن الجواب عن دعوى الاضطراب فيه بما يأتي: أن الروايات المختلفة عن ابن عباس إنما كانت قصصًا مستقلة سئل عنها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فظن المانعون أن هذه القصص واحدة اضطرب الرواة فيها عن سعيد بن جبير، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله رجل عن صوم كان على أمه فأجابه، وسألته امرأة عن صوم على أمها فأجابها، وسألته امرأة عن صوم كان على أختها فأجابها، ومرة كان الصوم المسؤول عنه شهرًا، ومرة شهرين، ومرة خمسة عشر يومًا، ومرة كان الصوم مطلقًا، ومرة كان مقيدًا بالنذر، وقد أجاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل ذلك باستحباب النيابة عنهم في قضاء ما لزمهم من صوم، ويكفي في صحة هذه الأحاديث رواية أصحاب الصحيحين لها (¬1). ب- أجاب المانعون كذلك بأن هذه الأحاديث منسوخة. وبيان ذلك: أن ابن عباس، وعائشة رضي الله عنهم قد رُوِي عنهما القول بعدم الصيام عن الميت، مما يدل على أن العمل على خلاف هذه الروايات، فدل ذلك على أنها منسوخة (¬2). قال الطحاوي (¬3): " ... ثم وجدنا ابن عباس، وعائشة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تركا ذلك، وقالا بضده، وهما المأمونان على ما رويا، العدلان فيما قالا، فعقلنا بذلك ¬

_ (¬1) شرح النووي على مسلم: 8/ 26 - 27، فتح الباري لابن حجر: 4/ 228. (¬2) مشكل الآثار للطحاوي: 6/ 176، 180، شرح فتح القدير لابن الهمام: 2/ 84، حاشية ابن عابدين: 2/ 118. (¬3) هو الإمام الحافظ الكبير: أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي الحنفي، أحد أئمة الإسلام وأحد أئمة الحنفية الكبار، ولد سنة 239 هـ بقرية طحا بمصر، له مؤلفات عدة منها: شرح معاني الآثار، وبيان مشكل الآثار، والمختصر في الفقه والعقيدة الطحاوية وغيرها، توفي سنة 321 هـ (سير أعلام النبلاء للذهبي: 15/ 27، الجواهر المضية للقرشي: 1/ 271).

الجواب عن هده الدعوى

أنهما لم يتركا ما قد سمعاه من النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك إلا إلى ما هو أولى، مما قد سمعاه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ... "، ثم ساق الطحاوي بعض الروايات عنهما في النهي عن الصوم عن الميت، والأمر بالإطعام، وقد تقدم ذكر أهم هذه الروايات في أدلة المانعين. ثم قال: " ... فكان قول ابن عباس وعائشة هذا دليلاً على أنهما قالا ما قالا فيما رويناه عنهما في هذه الآثار، والحكم عندهما فيما قالاه في ذلك ما قالاه فيه، ولا يجوز أن يكون ذلك منهما إلا بعد ثبوت نسخ ما سمعاه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ... " (¬1). الجواب عن هده الدعوى: 1 - أنه أمكن الجواب عن هذه الآثار المروية عنهما، وقد تقدم ذلك (¬2). 2 - أن العبرة عند العلماء بما روى الراوي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا بما رآه هو (¬3). وقد بين ذلك ابن حجر، فقال: "والراجح أن المعتبر ما رواه، لا ما رآه؛ لاحتمال أن يخالف ذلك لاجتهاد، ومستنده فيه لم يتحقق، ولا يلزم من ذلك ضعف الحديث عنده، وإذا تحققت صحة الحديث لم يترك المحقق للمظنون" (¬4). جـ- دعوى التأويل: أجاب المانعون عن هذه الأحاديث بأنها ليست على ظاهرها، بل المراد بالصوم عن الميت فيها: هو ما يقوم مقامه، وهو الإطعام عنه (¬5). قال ابن العربي: "وقد كان الآدمي يقضي عبادته من الصوم في حياته ببدنه إمساكًا، وكان أيضًا يقضيها بماله في وقت، وفي حال تصدقًا، وإطعامًا؛ فقال النبي ¬

_ (¬1) مشكل الآثار للطحاوي: 6/ 176 - 180. (¬2) ص 293. (¬3) ميزان الأصول للسمرقندي: ص/ 444، شرح تنقيح الفصول للقرافي: ص/ 371، البرهان للجويني: 1/ 442، العدة لأبي يعلى: 2/ 589 - 590، شرح الكوكب المنير للفتوحي: 2/ 562. (¬4) فتح الباري لابن حجر: 4/ 228. (¬5) عارضة الأحوذي لأبي بكر بن العربي: 3/ 242، الحاوي الكبير للماوردي: 3/ 313، 314.

الجواب عن دعوى التأويل

- صلى الله عليه وسلم - للولي: صم عنه الصيام الذي تمكن النيابة فيه، وهو الصدقة عن التفريط في الصيام (¬1). وبين الماوردي المراد بالنصوص السابقة، فقال: "فأما ما رووه من الأخبار، فالمراد بها فعل ما ينوب عن الصيام من الإطعام" (¬2). الجواب عن دعوى التأويل: 1 - أن هذا تأويل باطل؛ لأنه لا توجد ضرورة تدعو إليه، ولا يوجد مانع يمنع العمل بظاهر هذه النصوص، مع تظاهرها، وعدم المعارض لها (¬3). 2 - أن حمل هذه النصوص على المجاز - وهو الإطعام- لا يصح؛ لأنه صرف للفظ عن ظاهره بغير دليل صحيح (¬4). 3 - أن هذا التأويل لا يليق بمقام النبوة، والبلاغ عن رب العالمين؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو أفصح من نطق بالضاد، وهو الرسول المكلَّف بالبيان، والبلاغ، وتمييز الأحكام، فهل يليق - صلى الله عليه وسلم -، أن يكون قد كُلَّف ببيان الحكم للناس، وأنه الإطعام، فيعدل عن ذلك إلى المجاز، فيذكر الصيام، ولا يذكر الإطعام تلبيسًا على الناس، وإيقاع المكلفين في الحرج والمشقة، ولا شيء يمنعه من التصريح بالإطعام؛ فهذا كلام باطل في الشرع، والعقل، ورحم الله الشافعي إذ يقول: "وبالتقليد أَغْفَلَ من أغفل، والله يغفر لنا ولهم" (¬5). ¬

_ (¬1) عارضة الأحوذي: 3/ 242، وانظر: الموافقات للشاطبي: 2/ 182. (¬2) الحاوي للماوردي: 3/ 314، وقد علل هؤلاء تأويل الصيام بالإطعام بأن الإطعام إنما هو بدل الصيام كما أن التراب، هو بدل الوضوء قد سماه الرسول وضوء؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: "الصعيد الطيب وضوء المسلم". فسمي البدل باسم المبدل منه، فكذلك هنا، حيث سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - البدل وهو الإطعام باسم المبدل منه وهو الصيام. وانظر: الإعلام بفوائد عمدة الأحكام لابن الملقن: 5/ 299. (¬3) شرح النووي على مسلم: 8/ 26. (¬4) فتح الباري لابن حجر: 4/ 228. (¬5) الرسالة للإمام الشافعي، ص: 42، تحقيق العلامة أحمد شاكر.

د- أن هذه الأحاديث ليس عليها العمل عند أهل المدينة".

د- أن هذه الأحاديث ليس عليها العمل عند أهل المدينة" (¬1). وهذا ما أجاب به المالكية عن هذه الأحاديث، فقالوا: إن الذي عليه العمل عند أهل المدينة هو الإطعام دون الصيام (¬2). والجواب عن ذلك: أن الحجة إنما هي في ما جاءنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا بما رآه أهل المدينة، وهذه حجة لا يتمسك بها منصف في مقابلة الأحاديث الصحيحة الصريحة (¬3). ثانيًا: ما أجاب به الذين حملوها على النذر فقط: ناقش أصحاب القول الثالث هذه النصوص، بأنها محمولة على صوم النذر، والنصوص الواردة في النيابة في الصوم عندهم على ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما جاء فيه الصيام مطلقًا، وأنه يطعم عنه، كما في حديث ابن عمر السابق (¬4). والحكم في هذا القسم أنه يحمل على الصوم الواجب بأصل الشرع، وهو صوم رمضان والكفارة؛ فهذا يطعم عنه (¬5). القسم الثاني: ما جاء فيه ذكر النيابة في الصوم مطلقًا، ولم يذكر فيه الإطعام، ¬

_ (¬1) مفهوم أهل المدينة عند المالكية هو "ما اتفق عليه العلماء والفضلاء بالمدينة كلهم، أو أكثرهم في زمن الصحابة والتابعين، سواء أكان سنده نقلاً، أو اجتهادًا": أصول فقه مالك النقلية للدكتور/ عبد الرحمن الشعلان، ص: 769 رسالة دكتوراه من كلية الشريعة بالرياض نوقشت سنة 1411 هـ، المسائل التي بناها الإمام مالك على عمل أهل المدينة للدكتور/ محمد المدني بوساق: 1/ 47، رسالة دكتوراه من كلية الشريعة بالرياض نوقشت سنة 1413 هـ (¬2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/ 286، نيل الأوطار للشوكاني: 4/ 236. (¬3) نيل الأوطار للشوكاني: 4/ 236. (¬4) وهو الدليل الثالث عند أصحاب القول الرابع. (¬5) المغني لابن قدامة: 13/ 657.

كما في بعض روايات حديث ابن عباس السابق، وحديث عائشة، فهذا القسم يحمل على صوم النذر جمعًا بين الأدلة، وحملاً للمطلق منها على المقيد بالنذر، وللعام منها على الخاص (¬1). القسم الثالث: ما جاء فيه ذكر النيابة في الصوم مقيدًا بالنذر، كما في الرواية السابقة، عن ابن عباس في المرأة التي سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أمها ماتت، وعليها صوم نذر ... (¬2). فهذه الرواية، وما ورد من آثار عن الصحابة في صوم النذر عن الميت تكون مقيدة للإطلاق الذي جاء في أحاديث القسم الثاني. ويجاب عن ذلك: بأن الأحاديث ليس بينها تعارض حتى يجمع بينها؛ فحديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي جاء فيه السؤال عن صوم النذر، إنما هو صورة مستقلة سأل عنها من وقعت له، وأما حديث عائشة رضي الله عنها فهو تقرير قاعدة عامة، وقد جاء في حديث ابن عباس ما يؤيد هذا العموم، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فدين الله أحق أن يقضى) (¬3). وعلى هذا، فإن رواية ابن عباس التي جاء فيها تخصيص الصوم بالنذر يكون الحكم فيها من باب التنصيص على بعض صور العام، وذلك لا يقتضي التخصيص، ولا التقييد، كما هو المقرر في علم الأصول (¬4). ¬

_ (¬1) تهذيب سنن أبي داود لابن القيم: 3/ 281. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/ 285، فتح الباري لابن حجر: 4/ 228، نيل الأوطار للشوكاني: 4/ 237. (¬2) راجع أدلة أصحاب هذا القول. (¬3) فتح الباري لابن حجر: 4/ 228، نيل الأوطار للشوكاني: 4/ 237. (¬4) إحكام الأحكام لابن دقيق العيد مع حاشية الصنعاني: 3/ 388. الإعلام بفوائد عمدة الأحكام لابن الملقن: 5/ 306، وانظر: إحكام الأحكام للآمدي: 2/ 335 تحقيق العلامة عبدالرزاق عفيفي.

جـ- أدلتهم من الأثر

جـ- أدلتهم من الأثر: الدليل الأول: عن طاووس؛ قال: إذا مات الرجل، وعليه صيام رمضان قضى عنه بعض أوليائه. قال معمر (¬1): وقاله حماد (¬2) (¬3). الدليل الثاني: عن طاووس: أن امرأة ماتت، وعليها صوم سنة، وتركت زوجها، وبنيها ثلاثة؛ قال طاووس: صوموا عنها سنة كلكم (¬4). وجه الاستدلال: دل هذان الأثران على أن الميت يصام عنه الصوم الواجب، سواء أكان من رمضان، أم من غيره. د- أدلتهم من المعقول: قالوا: إن الصيام عبادة تجب الكفارة بإفسادها؛ فجاز أن يقضى عنه بعد الموت كالحج (¬5). مناقشة هذا القياس: يمكن مناقشة هذا القياس بأنه قياس على مختلف فيه؛ فإن النيابة عن الميت في الحج مختلف فيها، وعلى هذا لا يصح القياس. ¬

_ (¬1) هو: الإمام القدوة معمر بن سليمان، أبو عبد الله النخعي الرَّقي، روى عنه أبو عبيد، وأحمد بن حنبل، وأبوبكر بن أبي شيبة، وثقه يحيى بن معين، والإمام أحمد، وأبو عبيد القاسم بن سلام ت. سنة 191هـ (سير أعلام النبلاء: 9/ 210، تهذيب التهذيب لابن حجر: 10/ 249. (¬2) هو: حماد بن أبى سليمان، مسلم الأشعري مولاهم، أبو إسماعيل الكوفي الفقيه، وهو صدوق له أوهام، من الخامسة، ورمي بالإرجاء، ت. سنة 120 هـ على الصحيح. (ميزان الاعتدال للذهبي: 1/ 595، تهذيب التهذيب لابن حجر: 3/ 16، سير أعلام النبلاء للذهبي: 7/ 444، تذكرة الحفاظ للذهبي: 1/ 228). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في المصنف: 4/ 239 (7646)، وابن حزم في المحلى: 7/ 8. (¬4) أخرجه عبد الرزاق في المصنف: 4/ 239 (7647). (¬5) المهذب للشيرازي: 1/ 187.

الترجيح

والجواب: أنه لا يشترط أن يكون حكم الأصل متفقًا عليه بين الأمة، بل يكفي اتفاق الخصمين عليه، وحكم الأصل هنا متفق عليه بين الجمهور في الجملة (¬1). الترجيح: بعد عرض الأقوال، وذكر أدلةكل فريق، وما ورد عليها من مناقشات، وما أجيب به عن هذه المناقشات، يتبين بجلاء رجحان القول الأول القاضي بصحة النيابة، عن الميت فيما وجب في ذمته، من صوم واجب؛ سواء أكان صومًا من رمضان، أم من كفارة، أم من نذر. وأن ذلك مستحب، وليس بواجب. ومما يؤكد ترجيح هذا القول ما يأتي: * أولاً: قوة أدلته، حيث جاءت أدلته نصيّة صريحة في الدلالة على صحة النيابة عن الميت في الصوم مطلقًا، وبألفاظ لا تحتمل غير ذلك؛ نحو قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) (¬2). وفي حديث بريدة قوله للمرأة التي سألت عن صوم شهر كان على أمها، وقد ماتت؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: (صومي عنها)، وهذه النصوص معظمها في الصحيحين، أو في أحدهما (¬3). * ثانيًا: ضعف ما استدل به أصحاب الأقوال الأخرى، وقد أمكن مناقشتها بما يوهن من حجيتها. ¬

_ (¬1) شرح الكوكب المنير للفتوحي: 4/ 27، 28. وسيأتي حكم النيابة في الحج عن الميت إن شاء الله. (¬2) أخرج ابن حبان هذا الحديث، وترجم له بقوله: "ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن الصوم لا يجوز من أحد عن أحد": صحيح ابن حبان: 8/ 334 (3569). (¬3) السنن الكبرى للبيهقي: 4/ 430، المجموع للنووي: 6/ 370، 371.

الفرع الثالث من تصح منه النيابة عن الميت

الفرع الثالث من تصح منه النيابة عن الميت لا خلاف بين العلماء الذين قالوا بصحة النيابة عن الميت في صوم ما وجب عليه من رمضان، أو من كفارة، أو من نذر، أن الولي ينوب عن الميت في ذلك (¬1)؛ وذلك لتصريح النصوص بذلك، كما في حديث عائشة السابق، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من مات، وعليه صيام، صام عنه وليه) (¬2). ولكن، اختلف العلماء في حكم النيابة من الأجنبي عن الميت، هل تصح، وهل يلزم فيها إذن الولي، أم لا يلزم ذلك؟ اختلفوا في ذلك على قولين: القول الأول: يصح صوم الأجنبي، ولا يلزم فيه إذن الولي. وإلى هذا ذهب الشافعية في قول (¬3)، وهو الصحيح من المذهب عند الحنابلة (¬4)، وهو اختيار البخاري (¬5)، وبه جزم أبو الطيب الطبري (¬6) (¬7)، وهو قول ابن حزم عند عدم الولي (¬8). ¬

_ (¬1) المجموع للنووي: 6/ 369، مغني المحتاج للشربيني: 1/ 439، المغني لابن قدامة: 13/ 655، الفروع لابن مفلح: 3/ 65، الإنصاف للمرداوي: 3/ 334، المحلى لابن حزم: 7/ 2. (¬2) سبق تخريجه، ص 163. (¬3) مغني المحتاج للشربيني: 1/ 439. (¬4) المغني لابن قدامة: 4/ 400، قال الموفق: "ولا يختص ذلك بالولي، بل كل من صام عنه قضى ذلك عنه، وأجزأ ... "، وانظر: الإنصاف للمرداوي: 3/ 336. (¬5) فتح الباري لابن حجر: 4/ 229. (¬6) هو: شيخ الإسلام القاضي أبو الطيب، طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر الطبري الشافعي، فقيه بغداد، أحد أئمة الشافعية في وقته، ولد سنة 348 هـ بآمل، واستوطن بغداد، وولى القضاء شرح مختصر المزني، وصنف في الأصول، والمذهب، والخلاف، والجدل، توفي ببغداد سنة 450 هـ: سير أعلام النبلاء ت 17/ 668، وفيات الأعيان لابن خلكان: 2/ 512. (¬7) فتح الباري لابن حجر: 4/ 229. (¬8) المحلى لابن حزم: 7/ 2.

الأدلة والمناقشة

القول الثاني: لا يصح صوم الأجنبي عن الميت (¬1)، إلا بإذن الميت، أو بإذن الولي. وإلى هذا ذهب الشافعية في الأصح عندهم (¬2)، وهو قول عند الحنابلة (¬3). الأدلة والمناقشة: أولاً: أدلة القول الثاني: استدل من قال بعدم صحة صوم الأجنبي عن الميت إلا بإذن الميت، أو بإذن الولي بما يأتي: الدليل الأول: حديث عائشة السابق: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) (¬4). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خص الولي بالذكر في صحة النيابة، فيقتصر عليه؛ لمناسبة الولاية لذلك، ولأن الأصل عدم جواز النيابة في الصوم، فيقتصر على ما ورد به النص (¬5). مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الاستدلال بأن ذكر الولي في الحديث إنما خرج مخرج الغالب، فإن الغالب هو أن ينوب الولي عن قريبه في قضاء ما عليه، ومما يدل على عدم اختصاص ذلك بالولي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبهه بقضاء الدين، والدين لا يختص بالقريب (¬6). الدليل الثاني: قالوا: إن الأصل عدم جواز النيابة في الصوم؛ لأنه عبادة لا ¬

_ (¬1) وذلك بأن يستأذنه الأجنبي في ذلك قبل موته. (¬2) شرح النووي على مسلم: 8/ 26، مغني المحتاج للشربيني: 1/ 439. (¬3) الإنصاف للمرداوي: 3/ 336. (¬4) سبق تخريجه، ص 163. (¬5) إحكام الأحكام لابن دقيق العيد مع حاشية الصنعاني: 3/ 381، 382. (¬6) فتح الباري لابن حجر: 4/ 229.

مناقشة الاستدلال

تدخلها النيابة في الحياة، فلا تدخلها بعد الموت كالصلاة، فإذا كان الأصل عدم جواز النيابة، فيجب الاقتصار على ما ورد به النص (¬1). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا القياس بما يأتي: أولاً: القياس على الصلاة قياس فاسد؛ لأنه جاء في مقابله النص الصريح، وهو قوله: - صلى الله عليه وسلم - (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) (¬2). وغيره من النصوص؛ وعليه، فلا يعتد بهذا القياس. ثانيًا: لا نسلم لكم أن الصلاة لا تدخلها النيابة بعد الموت، بل تقدم في مبحث الصلاة أن النيابة تدخل في صوم النذر بعد الموت، بل إن بعض العلماء يرى دخول النيابة في الصلاة مطلقًا بعد الموت (¬3). ثالثًا: أن ذكر الولي في الحديث إنما جاء على الغالب، كما تقدم. الدليل الثالث: القياس على الحج، فكما أن الحج لا يصح عن الميت من الأجنبي إلا بإذن الولي، فكذلك الصوم (¬4). مناقشة الاستدلال: نوقش هذا التعليل بأن الحج عبادة مالية؛ فالنيابة فيه من الأجنبي تشبه قضاء الدين، بخلاف الصوم؛ فإنه عبادة بدنية محضة (¬5). ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام لابن دقيق العيد مع حاشية الصنعاني: 3/ 382، الإعلام بفوائد عمدة الأحكام لابن الملقن: 5/ 300. (¬2) تقدم تخريجه، ص 163. (¬3) انظر مبحث الإجارة على قضاء الصلاة عن الغير، ص 141. (¬4) روضة الطالبين للنووي: 2/ 381، مغني المحتاج للشربيني: 1/ 439. (¬5) مغني المحتاج: 1/ 439.

ثانيا: أدلة القول الأول

ثانيًا: أدلة القول الأول: الدليل الأول: حديث ابن عباس رضي الله عنهما السابق، والذي جاء فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فدين الله أحق أن يقضى) (¬1). وجه الاستدلال: حيث شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - قضاء الصوم عن الميت بالدين، وقضاء الدين لا يختص بالولي، فيجوز للأجنبي قضاء الصوم عن الميت سواء أذن الولي أم لا (¬2). الدليل الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة ركبت البحر، فنذرت إن الله سبحانه وتعالي نجاها أن تصوم شهرًا، فأنجاها الله سبحانه وتعالي فماتت قبل أن تصوم، فأتت ذات قرابة لها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمرها أن تصوم عنها (¬3). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر القريبة بالصوم عن قريبتها، ولم يستفصل منها؛ فدل على العموم، وأن ذلك لا يتوقف على ولاية المال، أو العصوبة، أو الإرث، فدل على أن الأمر في ذلك واسع، فلو صام أجنبي صح لهذا العموم (¬4). الدليل الثالث: ما ورد عن الحسن البصري أنه قال فيمن مات وعليه صوم ثلاثين يومًا: قال: إن صام عنه ثلاثون رجلاً يومًا واحدًا جاز (¬5). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه، ص 163. (¬2) فتح الباري لابن حجر: 4/ 229. (¬3) أخرجه أبو داود، في كتاب الأيمان والنذور، باب في قضاء النذر عن الميت: 3/ 237 (3308). وأحمد: 1/ 268 (1860)، والطيالسي في مسنده رقم: (2621). والبيهقي في الكبرى: 4/ 427 (8226)، والطحاوي في مشكل الآثار: 6/ 174. قال شعيب الأرناؤوط: حديث صحيح على شرط الشيخين. وقال الألباني: صحيح. كما في صحيح سنن أبي داود 2/ 635. (¬4) نهاية المحتاج لشهاب الدين الرملي: 3/ 191. (¬5) أخرجه البخاري تعليقًا في كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم: 4/ 226، وجاء بصيغة الجزم.

الدليل الرابع

الدليل الرابع: قالوا: إن الصيام من الأجنبي تبرع، والتبرع يشبه قضاء الدين عن الميت، والدين لا يلزم فيه إذن الميت أو وليه (¬1). الترجيح: من خلال عرض الأدلة للقولين، وما ورد عليها من مناقشات يتبين رجحان القول الأول القاضي بصحة النيابة من الأجنبي عن الميت في قضاء ما وجب عليه من صيام؛ وذلك لما يلي: أولاً: قوة ما استدلوا به، حيث جاءت أدلتهم قوية؛ لأن معظمها أدلة نقلية واضحة الدلالة على المراد. ثانيًا: أنه أمكن مناقشة أدلة القول الآخر مما أوهن من دلالتها. ثالثًا: أن المقصود من المسألة هو: إبراء ذمة الميت، وفكّ رهانه، وهذا يحصل بالولي وبغيره؛ كقضاء دينه (¬2). رابعًا: تصريح النصوص بأن ما على الميت من صوم إنما هو دين، وإذا كان دينًا فلا يختص الولي بقضائه (¬3). المسألة الثانية: أخذ الأجرة على قضاء الصيام عن الميت هذه المسألة مبناها على مسألة النيابة في الصوم، وقد تقدم معنا أن من مات وعليه صوم واجب فإن له حالتين: الحالة الأول: أن يموت وهو غير مفرط في قضاء ما وجب عليه، وفي هذه الحالة لاشيء عليه البتة، لا صيام، ولا إطعام، إلا أنه قد خالف بعض أهل العلم في الإطعام كما سبق، إلا أنهم فيما يتعلق بالصوم فلا خلاف إلا ما ذكره أبو الخطاب من أنه يحتمل الصوم عنه. ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة: 4/ 400، المبدع شرح المقنع لابن مفلح: 3/ 48. (¬2) المغني لابن قدامة: 4/ 400. (¬3) فتح الباري لابن حجر: 4/ 229.

وبناءً على ما سبق، فإنه لا تجوز الإجارة على الصوم عن الميت في هذه الحالة؛ لأن الصوم لا يجب عليه أصلاً، ومن ثم لا شيء على وليه، ولا يجب في تركته شيء إن لم يكن له ولي. الحالة الثانية: أن يموت وقد فرط في قضاء ما وجب عليه، وقد تقدم أن للعلماء في ذلك أربعة أقوال تعود في مجملها من حيث جواز النيابة وعدمها إلى قولين: قول يجيز النيابة، وقول لا يجيزها على تفصيلات بينهم في ذلك، كما تقدم. أما من لا يجيز النيابة فلا يجيز الإجارة قولاً واحدًا، وأما من يجيز النيابة فقد اختلفوا في جواز الإجارة على الصيام عن الميت على قولين قول يجيزها، وقول لا يجيزها، والبعض أطلق في الجواز، والبعض خص بالنذر، فتحرر الأقوال بناء على ما سبق كما يأتي: القول الأول: تصح الإجارة على الصوم الواجب على الميت بالنذر فقط دون غيره من الصوم الواجب بأصل الشرع. وإلى هذا ذهب الحنابلة - على الصحيح من المذهب - (¬1). قال المرداوي: "واعلم أنه إذا كان له تركة وجب فعله، فيستحب للولي الصوم، كله أن يدفع إلى من يصوم عنه - من تركته، عن كل يوم مسكينًا، وجزم به في القاعدة الرابعة والأربعين بعد المائة (¬2)، فإن لم يكن له تركة لم يلزمه شيء" (¬3). ¬

_ (¬1) الإنصاف للمرداوي: 3/ 336 - 337، معونة أولي النهى لابن النجار: 3/ 88 - 90، الروض المربع للبهوتي مع حاشية ابن قاسم: 3/ 443، القواعد لابن رجب الحنبلي ص: 318، القاعدة: الرابعة والأريعون بعد المائة. (¬2) القواعد لابن رجب، ص: 315 - 318. (¬3) الإنصاف للمرداوي: 3/ 336 - 337.

القول الثاني: تصح الإجارة على الصوم الواجب على الميت مطلقًا سواء أكان صومًا من رمضان، أم من نذر، أم من كفارة. وإليه ذهب الشافعية في الصحيح المختار من مذهبهم (¬1)، وإليه ذهب الظاهرية؛ قال ابن حزم: "ومن مات وعليه صوم فرض من قضاء رمضان، أو نذر أو كفارة واجبة ففرض على أوليائه أن يصوموه عنه هم أو بعضهم ... فإن لم يكن له ولي استؤجر عنه من رأس ماله من يصومه عنه، ولا بد، أوصى بكل ذلك، أو لم يوص وهو مقدم على ديون الناس" (¬2). القول الثالث: لا تصح الإجارة على الصوم عن الميت مطلقًا، سواء أكان صومًا من رمضان، أم من كفارة، أم نذر. وإلى هذا ذهب الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، والشافعية في الجديد من مذهبهم (¬5)، ووافقهم الحنابلة في الصوم الواجب بأصل الشرع، وهو صوم رمضان والكفارة (¬6). ¬

_ (¬1) المهذب للشيرازي: 1/ 187، المجموع للنووي: 6/ 368، روضة الطالبين: 2/ 381، وتحفة المحتاج لابن حجر الهيثمي: 3/ 438، نهاية المحتاج للرملي: 3/ 190، ومغني المحتاج للشربيني: 2/ 344. (¬2) المحلى لابن حزم: 7/ 2، وقد نسبه ابن حزم لأبي ثور، وأبي سليمان داود بن علي الظاهري، قال: "وهو قول أبي ثور، وأبي سليمان وغيرهما". (¬3) بدائع الصنائع للكاساني: 4/ 191 - 192، الاختيار لتعليل المختار للموصلي: 2/ 59، البحر الرائق لابن نجيم: 8/ 22، تبيين الحقائق للزيلعي: 5/ 124. (¬4) عقد الجواهر الثمينة لابن شاس: 2/ 842، الخرشي على خليل: 7/ 23، حاشية العدوي على شرح الخرشي/ 7/ 23، جواهر الإكليل للآبي: 2/ 21 - 22، والشرح الكبير للدردير على مختصر خليل: 4/ 21 - 22. (¬5) المهذب للشيرازي: 1/ 187، المجموع شرح المهذب للنووي: 6/ 368، أسنى المطالب للأنصاري: 2/ 410. (¬6) المغني لابن قدامة: 8/ 141، الفروع لابن مفلح: 4/ 436، الإنصاف للمرداوي: 6/ 47، كشاف القناع للبهوتي: 4/ 12، مطالب أولي النهى للرحيباني: 3/ 642.

الأدلة والمناقشة

واختار هذا القول ابن عقيل من الحنابلة (¬1). الأدلة والمناقشة: أولاً: أدلة القائلين بالمنع مطلقًا: وهؤلاء هم أصحاب القول الثالث، وقد استدلوا على ذلك بما يأتي: 1 - الأدلة الدالة على المنع من النيابة في الصوم عن الميت: ووجه الدلالة من هذه النصوص ظاهر، وهو: أنه إذا امتنعت النيابة، امتنعت الإجارة؛ لأن صحة الإجارة على الصوم عن الميت إنما هي فرع عن صحة النيابة، فإذا كانت النيابة لا تصح فكذلك الإجارة (¬2). 2 - استدلوا كذلك إضافة إلى ما سبق ببعض الأدلة العقلية منها: الدليل الأول: قالوا: إن الصيام من فروض الأعيان، وفرض العين لا يجوز الاستئجار عليه (¬3). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا التعليل بأنه محمول على فرض العين الواجب بأصل الشرع، كصوم رمضان، وصوم الكفارة، أما صوم النذر فإنه مما أوجبه الإنسان على نفسه، وأشغل به ذمته، فهو دين فيقضى كقضاء دينه، وعليه فلا مانع من الاستئجار عليه لإبراء ذمته (¬4). الدليل الثاني: إن العبد فيما يعمله من القربات والطاعات عامل لنفسه؛ قال الله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فصلت: 46]، الجاثية: 15]، ومن عمل لنفسه لا ¬

_ (¬1) الإنصاف للمرداوي: 3/ 336. (¬2) انظر حاشية العدوي على الخرشي: 7/ 23، مغني المحتاج للشربيني: 2/ 344. (¬3) بدائع الصنائع للكاساني: 4/ 191 - 192. (¬4) انظر: المغني لابن قدامة: 4/ 399 - 400.

الدليل الثالث

يستحق الأجر على غيره (¬1). الدليل الثالث: قالوا: إن الثواب موعود للمطيع على الطاعة، فينتفع الأجير بعمله، فلا يستحق الأجر (¬2). مناقشة الاستدلال بهذين الدليلين: يمكن مناقشة هذين الدليلين: بأن النصوص جاءت بصحة الصوم عن الميت، وهذا يلزم منه انتفاع الميت بذلك، وسقوط هذا الدين عنه، فالقول بأن النائب هنا عامل لنفسه كلام لا يصح. وأما منع الأجرة فإنا نسلم لكم ذلك في الفرض الواجب بأصل الشرع. أما النذر فيصح الاستئجار عليه؛ ووجه ذلك أن النذر دين ألزم به الإنسان نفسه، فيقضى عنه كيفية ديونه، فإن تعذر من يصوم عنه من ولي وغيره احتسابًا، فإنه يتعين حينئذ الاستئجار طريقًا لإبراء ذمته (¬3). الدليل الرابع: قالوا: إن الصيام قربة تحتاج إلى نية، والقرب التي تحتاج إلى نية لا يجوز الاستئجار عليها؛ لأن القصد منها هو امتحان المكلف بكسر نفسه بفعلها، ولا يقوم الأجير مقامه في ذلك (¬4). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الدليل بأن النيابة عن الميت قد ثبتت بالنص، وإذا صحت النيابة جاز أن يقوم الأجير مقامه في أداء ما وجب عليه، أما كسر نفس المكلف بفعلها .. فإنما ذلك محمول على الحي، لا على الميت؛ فالجهة منفكة. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني: 4/ 191 - 192، الاختيار لتعليل المختار: 2/ 59، البحر الرائق لابن نجيم: 8/ 22. (¬2) بدائع الصنائع للكاساني: 4/ 191 - 192. (¬3) انظر: معونة أولي النهى لابن النجار: 3/ 88، كشاف القناع للبهوتى: 2/ 335. (¬4) أسنى المطالب لزكريا الأنصاري: 2/ 410.

الدليل الخامس

الدليل الخامس: قالوا: إن الأجر عوض الانتفاع، ولم يحصل لغيره ههنا انتفاع؛ فأشبه إجارة الأعيان التي لا نفع فيها (¬1). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا التعليل بما يأتي: أولاً: لا نسلم لكم بعدم حصول المنفعة للمستأجر، بدليل صحة النيابة، وقد ثبتت بالنص، ولو لم يحصل للميت انتفاع ماكان لصحة النيابة معنى. ثانيًا: أن هذا التعليل محمول على الصوم عن الحي، لا على الميت، ومحمول على صوم الفرض عن الميت دون النذر؛ لأن الذين استدلوا به هم الحنابلة، وهم يقولون بصحة الإجارة على صوم النذر عن الميت (¬2). ثانيًا: أدلة القائلين بصحة الإجارة على الصوم عن الميت مطلقًا: وهؤلاء هم أصحاب القول الثاني، وقد استدلوا بأدلة كثيرة، وهي على قسمين: القسم الأول: هي الأدلة الدالة على صحة النيابة عن الميت في قضاء ما وجب في ذمته من صوم واجب، وإذا صحت النيابة جازت الإجارة (¬3)، ولهم في ذلك قاعدة هي: "أن كل ما تدخله النيابة من العبادة يجوز الاستئجار عليه وما لا فلا" (¬4). القسم الثاني: بعض الأدلة العقلية، ومنها: الدليل الأول: قالوا: إن أخذ الأجرة على الصيام عن الميت، لم يأت عنه نهي ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة: 8/ 141، كشاف القناع للبهوتي: 4/ 12، مطالب أولي النهى للرحيباني: 3/ 642. (¬2) تقدم ذكر قولهم، وستأتي أدلتهم مفصلة إن شاء الله تعالى. (¬3) حاشية العدوي على الخرشي: 7/ 23، مغني المحتاج للشربيني: 2/ 344. (¬4) مغني المحتاج للشربيني: 2/ 344.

الدليل الثاني

فهو داخل في عموم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمؤاجرة (¬1). الدليل الثاني: قالوا: إن الاستئجار على الصوم استئجار على عمل معلوم غير متعين على الأجير، فيجوز أخذ الأجرة عليه، وكونه عبادة لا ينافي ذلك قياسًا على بناء المسجد، وأداء الزكاة، وكتابه المصحف والفقه (¬2). الدليل الثالث: القياس على الحج، فكما أنه يصح الاستئجار على الحج، فكذلك الصوم عن الميت يصح الاستئجار عليه، بجامع أن كلا منهما عمل بدن، وللمال في إصلاح ما فسد منهما مدخل بالهدي، وبالإطعام وبالعتق (¬3). ثالثًا: أدلة القائلين بصحة الإجارة على صوم النذر فقط: وهؤلاء هم أصحاب القول الأول، وقد استدلوا بما يأتي: أولاً: الأدلة الدالة على صحة النيابة عن الميت في قضاء ما عليه من صوم النذر، سواء أكانت أدلة عامة مخصصة عندهم بالأدلة التي جاء فيها التصريح بصوم النذر، أم كانت أدلة خاصة بصوم النذر على ما سبق تفصيله في مبحث النيابة. ثانيًا: استدلوا ببعض الأدلة الأخرى منها: * قالوا: إن النذر ليس واجبًا بأصل الشرع، وإنما أوجبه العبد على نفسه فصار بمنزلة الدين الذي استدانه، ولهذا شبهه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدين في حديث ابن عباس رضي الله عنهما - والدين تدخله النيابة (¬4). ¬

_ (¬1) المحلى لابن حزم: 8/ 192. (¬2) تبيين الحقائق للزيلعي: 5/ 124. (¬3) المهذب للشيرازي: 1/ 187، المجموع للنووي: 6/ 368، روضة الطالبين: 2/ 381، المحلى لابن حزم: 7/ 3. (¬4) تهذيب سنن أبي داود لابن القيم: 3/ 282.

الترجيح

وعليه، فإن الولي يفعله إن شاء، أو يدفع مالاً لمن يفعله عنه (¬1). أما أدلتهم على المنع من الإجارة على الصوم الواجب بأصل الشرع فهي نفسها أدلة المانعين مطلقًا، وقد تقدمت. الترجيح: بعد ذكر الأدلة، وما ورد عليها من مناقشات، إضافة إلى ما سبق ذكره في مبحث النيابة من أدلة مفصلة عن النيابة في قضاء الصوم عن الميت، يتبيّن رجحان القول الأول القاضي بجواز الاستئجار على قضاء صوم النذر عن الميت الذي تمكن من أدائه، ولكن فرط في ذلك حتى أدركه الأجل. ويعود هذا الترجيح إلى ما يأتي: أولاً: قوة هذا القول من حيث الاستدلال والنظر، وهذا يرجع إلى قوة الأدلة التي تمسكوا بها، إضافة إلى ما سبق من صحة النيابة عن الميت في قضاء ما عليه من صوم مطلقًا، ومنه صوم النذر حيث جاءت الأدلة صريحة صحيحة غاية ما تكون في الصحة والصراحة في الدلالة على المطلوب، وهذا يؤكد قوة هذا القول ورجحانه على ما سواه. فإن قال قائل: فما وجه التفريق بين الصوم الواجب بأصل الشرع وصوم النذر من حيث صحة الإجارة على الأخير دون الأول؟ قيل له: إن الصوم من العبادات البدنية المحضة، بل هو من أخص العبادات البدنية (¬2)، والأصل عدم دخول النيابة فيه كالصلاة، إلا أننا خالفنا هذا الأصل؛ لورود النص الصحيح الصريح في صحة النيابة، بما لا يحتمل التأويل. فلما كان حكم الإجارة على الصوم فرقنا بين الصوم الواجب بأصل الشرع ¬

_ (¬1) معونة أولي النهى لابن النجار: 3/ 88، كشاف القناع للبهوتي: 2/ 335. (¬2) وذلك لكونه سرًا بين العبد وربه.

وصوم النذرة لوجود الفرق بينهما شرعًا، وعقلاً. فأما الشرع: فلأن الله تعالى لم يوجبه على المكلف، وإنما أوجبه العبد على نفسه، وفرق بين ما يوجبه الله تعالى على العبد، وما يوجبه العبد على نفسه (¬1). وأما العقل: فلأن الديون المالية تصح فيها النيابة إجماعًا، وكذلك الاستئجار عليها، وقد تقدم ذلك. وإذا نظرنا إلى نذر الصوم وجدناه أقرب إلى الديون المالية منه إلى العبادات البدنية؛ ووجه ذلك: 1 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبهه بالدين كما في حديث ابن عباس (¬2). 2 - ولكون العبد أوجبه على نفسه، صار بمنزلة الدين الذي استدانه (¬3). فلما كان صوم النذر بهذه المنزلة، ولما فيه من شائبة المال هذه فقد تم التفريق بينه وبين الصوم الواجب بأصل الشرع، فقيل بجواز الاستئجار على قضاء صوم النذر عن الميت دون الصوم الواجب بأصل الشرع (¬4). * ثانيًا: ضعف أدلة الأقوال الأخرى؛ وذلك لأن مبناها في عدم صحة الإجارة على عدم صحة النيابة، وقد تقدم أن القول بعدم صحة النيابة قول لا دليل عليه من الشرع، بل هو قول يخالف أدلة الشرع الصحيحة الصريحة في صحة النيابة. ثم إنه أمكن مناقشة أدلتهم فيما يتعلق بعدم صحة الإجارة على الصوم بما يضعف من دلالتها. ¬

_ (¬1) تهذيب سنن أبي داود لابن القيم: 3/ 282. (¬2) وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فدين الله أحق أن يقضى" وتقدم تخريجه ص/ 138. (¬3) تهذيب سنن أبي داود لابن القيم: 3/ 282. (¬4) إعانة الطالبين للسيد البكري: 3/ 112.

* ثالثًا: أن هذا القول جاء وسطًا بين الأقوال الأخرى، فهو أولى الأقوال بالقبول؛ لأن من منع مطلقًا ليس معه نص يمنع الإجارة، بل تمسك بعمومات الأدلة، وببعض الأدلة العقلية، وكل هذه أمكن مناقشتها بما يضعف الاستدلال بها. وأما من أجاز مطلقًا فقد أمكن حمل أدلته على النذر جمعًا بين الأدلة، وكذلك أمكن دفع هذا الإطلاق بالتفريق بين صوم النذر والصوم الواجب بأصل الشرع شرعًا وعقلاً. * رابعًا: أن هذا القول جاء متمشيًا مع مقاصد الشريعة وحكمها؛ وبيان ذلك: 1 - إن الأخذ بهذا القول فيه تبرئة لذمة الميت، وفكّ لرهانه، حيث ألزم نفسه بما لم يلزمه به الله تعالى (¬1). 2 - فيه محافظة على حكم الصوم وفوائده، والإبقاء على مقاصده الشرعية الكثيرة؛ لأننا لو قلنا بالجواز مطلقًا لأدى ذلك إلى التهاون، والتكاسل عن أداء هذه الفريضة العظيمة، وما على المكلف إلا أن يوصي بقضاء ما عليه من صوم، وفي هذا تضييع لهذه الفريضة، كما لا يخفى. ولو قلنا بالمنع مطلقًا لبقيت ذمة الميت مشغولة بما ألزم به نفسه، والأصل المسارعة بتبرئة ذمته، وفكّ رهانه حتى ينعم في قبره وأخرته؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (والذي نفسي بيده لو أن رجلاً قُتِلَ في سبيل الله، ثم أُحْييَ، ثم قتل، ثم أُحيي، ثم قتل، وعليه دين ما دخل الجنة حتى يُقضى عنه دينه) (¬2). ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة: 4/ 400. (¬2) أخرجه النسائي في البيوع، باب التغليظ في الدين: 7/ 361 (4698)، والحديث حسن، حسنه الألباني كما في صحيح سنن النسائي: 2/ 969 (4367)، وحسنه الأرناؤوط في تخريجه لجامع الأصول: 4/ 464 (2550).

المبحث الثالث أخذ المال على الاعتكاف

المبحث الثالث أخذ المال على الاعتكاف المطلب الأول أخذ المال على الاعتكاف عن الحي المسألة الأولى: النيابة في الاعتكاف عن الحي الاعتكاف (¬1) من أجل القرب إلى الله تعالى؛ لأن فيه انقطاعًا عن الخلق وحظوظ النفس، وإقبالاً على الله تعالى، والاشتغال به وبذكره، بحيث يصير ذكره وعبادته وحبه والإقبال عليه محل هموم القلب وخطراته، حتى يصبح أنسه بالله وحده بدلاً من أنسه بالخلق، فيستقيم بذلك قلبه، ويصلح عمله مما يعود عليه بالخير في دينه ودنياه. والاعتكاف عبادة بدنية محضة، لا مدخل للمال فيها، ولهذا فقد اتفق العلماء على أنه لا تجوز النيابة فيه عن الحي مطلقًا، سواء كان ذلك في حال القدرة أم في ¬

_ (¬1) الاعتكاف في اللغة: هو الاحتباس والإقامة على الشيء وبالمكان ولزومهما، ومنه: العكوف: وهو الإقامة في المسجد. (لسان العرب لابن منظور: 9/ 255، مادة عكف). واصطلاحًا: "هو لزوم مسجد لطاعة الله تعالى". (الروض المربع مع حاشية ابن قاسم: 3/ 473). حكمه: أجمع العلماء على أنه سنة، ولا يجب إلا بالنذر؛ قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن الاعتكاف سنة، لا يجب على الناس فرضًا إلا أن يوجبه المرء على نفسه نذرًا فيجب عليه". الإجماع لابن المنذر ص: 53، المجموع للنووي: 6/ 475، المغني لابن قدامة: 4/ 456.

الدليل الأول

حال العجز (¬1). والأدلة على هذا الاتفاق ما يأتي: الدليل الأول: قالوا: إن الاعتكاف عبادة تتعلق ببدن من هي عليه، فلا تصح النيابة فيها في حال الحياة مطلقًا (¬2). الدليل الثاني: قالوا: إن الاعتكاف من العبادات البدنية المحضة، والمقصود من الاعتكاف هو إتعاب النفس والجوارح بالأفعال المخصوصة من حبس النفس على طاعة الله، والذكر، والدعاء، والصلاة، ونحو ذلك، وبفعل النائب لا يتحقق شيء من ذلك فلم تجز النيابة فيه مطلقًا (¬3). المسألة الثانية: الإجارة في الاعتكاف عن الحي تقدم معنا أن الاعتكاف لا تصح فيه النيابة في حال الحياة، ولذا اتفق الفقهاء على عدم صحة الإجارة على الاعتكاف عن الغير في الحياة مطلقًا (¬4)، ويدل على هذا الاتفاق ما يأتي: الدليل الأول: أن الاعتكاف من العبادات البدنية المحضة التي لا تصح فيها النيابة في حال الحياة مطلقًا، فلا تصح فيه الإجارة (¬5)؛ لأن صحة الإجارة فرع عن ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي: 4/ 158، بدائع الصنائع للكاساني: 4/ 192، حاشية ابن عابدين: 2/ 237، مجمع الأنهر في شرح الأبحر لداماد أفندي: 1/ 307، المنتقى للباجي: 2/ 63، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 2/ 18، 4/ 21 - 22، عارضة الأحوذي لابن العربي: 3/ 240 - 241، شرح الزرقانى على خليل: 2/ 238، مغني المحتاج للشربيني: 2/ 344، المغني لابن قدامة: 8/ 141، الفروع لابن مفلح: 4/ 436، كشاف القناع للبهوتي: 4/ 12. (¬2) كشاف القناع للبهوتي: 3/ 465. (¬3) حاشية ابن عابدين: 2/ 237، مجمع الأنهر لداماد أفندي: 1/ 307. (¬4) مجمع الأنهر لداماد أفندي: 1/ 307، المنتقى للباجي: 2/ 631، مغني المحتاج للشربيني: 2/ 344، كشاف القناع للبهوتي: 4/ 12. (¬5) مغني المحتاج للشربيني: 2/ 344.

الدليل الثاني

صحة النيابة (¬1). الدليل الثاني: أن الأجر عوض الانتفاع، ولم يحصل لغيره ههنا انتفاع، فأشبه إجارة الأعيان التي لا نفع فيها (¬2). الدليل الثالث: قالوا: إن الاعتكاف قربة من القربات، والعبد فيما يفعله من القربات عامل لنفسه؛ قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ (46)} [فصلت: 46]، ومن عمل لنفسه لا يستحق الأجر على غيره (¬3). الدليل الرابع: قالوا: إن القربة تقع عن العامل، قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] فلا يجوز له أخذ الأجرة من غيره كالصوم والصلاة (¬4). ¬

_ (¬1) حاشية العدوي على الخرشي: 7/ 23، مغني المحتاج للشربيني: 2/ 344. (¬2) المغني لابن قدامة: 8/ 141، كشاف القناع للبهوتي: 4/ 12. (¬3) بدائع الصنائع للكاساني: 4/ 191 - 192. (¬4) الاختيار لتعليل المختار: 2/ 59، البحر الرائق لابن نجيم: 8/ 22.

المطلب الثاني أخذ المال على الاعتكاف عن الميت

المطلب الثاني أخذ المال على الاعتكاف عن الميت المسألة الأولى: النيابة عن الميت في الاعتكاف تقدم معنا أن الاعتكاف سنة، ولا يجب إلا بالنذر إجماعًا (¬1)، وعلى هذا فإن المراد بمسألتنا هنا هو: إذا نذر المسلم اعتكافًا، ثم مات قبل أدائه، فهل يصح أن ينوب غيره عنه في أدائه أم لا؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: يستحب للولي أن يقضي عنه، وبهذا قال إبن عباس، وعائشة، وابن عمر - رضي الله عنهم - (¬2)، وهو قول عند الشافعية (¬3)، وبه قال الحنابلة في الصحيح من المذهب عندهم (¬4). وهو قول أهل الظاهر (¬5). القول الثاني: لا تصح النيابة عن الميت في قضاء ما عليه من اعتكاف. وإليه ذهب الحنفية (¬6)، والمالكية (¬7)، والشافعية في المشهور من المذهب (¬8)، وهو ¬

_ (¬1) المجموع للنووي: 6/ 475. (¬2) المبدع في شرح المقنع لابن مفلح: 3/ 49. (¬3) روضة الطالبين للنووي: 2/ 381، مغني المحتاج للشربيني: 1/ 439. (¬4) المغني لابن قدامة: 13/ 655، الإنصاف للمرداوي: 3/ 339. (¬5) المحلى لابن حزم: 5/ 197، 8/ 28، قلت: الذي يظهر أن مذهب الظاهرية هو الاستحباب، لا الوجوب. أما إذا خلف الميت تركة، فإنه يجب على أوليائه - إذا لم يعتكفوا عنه- أن يستأجروا من رأس ماله من يعتكف عنه. (وانظر: مبحث النيابة في الصلاة، ص/ 131). وقد نسب ابن حزم هذا القول إلى الحسن بن حي والأوزاعي وإسحاق بن راهويه والثوري. (¬6) حاشية ابن عابدين: 2/ 237، مجمع الأنهر لداماد أفندي: 1/ 307. (¬7) المدونة للإمام مالك: 1/ 233، وانظر: المجموع للنووي: 6/ 372. (¬8) روضة الطالبين للنووي: 2/ 381، المجموع للنووي: 6/ 372، مغني المحتاج للشربيني: 1/ 339.

الأدلة والمناقشة

إحدى الروايتين عند الحنابلة (¬1). الأدلة والمناقشة: أولاً: أدلة القائلين بالمنع: وهؤلاء هم أصحاب القول الثاني، وقد استدلوا بما يأتي: أولاً: استدلوا بالأدلة الدالة على المنع من النيابة في الصلاة عن الميت، وكذلك الأدلة الدالة على المنع من الصوم عن الميت، حيث أفادت هذه الأدلة بعمومها عدم صحة النيابة عن الميت في الاعتكاف. ومن هذه الأدلة: الدليل الأول: قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39]، ونحوها من الآيات مثل قوله تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)} [النجم: 38]، وقوله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا (164)} [الأنعام: 164]، وقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ (46)} [فصلت: 46]. وغيرها من الآيات. ووجه الاستدلال من هذه الآيات: أن هذه الآيات أفادت أن الإنسان لا ينفعه إلا سعيه وعمله هو، وعليه فإن عمل غيره، وسعيه لا ينفعه، ومن ذلك إذا اعتكف عنه بعد موته (¬2). الدليل الثاني: حديث أبي هريرة: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث ...) (¬3). وليس من الثلاث اعتكاف غيره عنه ... (¬4). ثانيًا: لهم أدلة أخرى منها: ¬

_ (¬1) المبدع لابن مفلح: 3/ 49، الإنصاف للمرداوي: 3/ 339. (¬2) وتقدم في مبحث النيابة في الصلاة والصيام ما ورد على هذه الآيات من مناقشات فلتراجع، ص 163 وما بعدها. (¬3) تقدم تخريجه، ص 166. (¬4) انظر ما ورد عليه من مناقشات، ص 166 من مبحثي النيابة في الصلاة والصيام.

الدليل الأول

الدليل الأول: قالوا: إن الاعتكاف من العبادات البدنية المحضة، والمقصود من هذه العبادات هو إتعاب النفس والجوارح بالأفعال المخصوصة، وهذا لا يحصل بفعل النائب (¬1). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا التعليل بما يأتي: أن هذا الاستدلال منقوض بالصلاة والصوم، حيث تقدم ذكر الأدلة على صحة النيابة في الصلاة إذا كانت نذرًا، ومطلقًا في الصوم، وهي من العبادات البدنية المحضة، فبطل هذا التعليل. الدليل الثاني: قالوا: تمنع النيابة في الاعتكاف قياسًا على الصوم، بجامع أن كلاً، منهما عبادة بدنية مختصة ببدن من هى عليه (¬2). مناقشة الاستدلال: أولاً: يناقش هذا التعليل بما نوقش به التعليل السابق. ثانيًا: إن كون الاعتكاف عبادة بدنية لا يمنع النيابة؛ فإن كل عمل إذا أمر به الشارع أن يعمله المرء عن غيره وجب ذلك، سواء أكان من عبادة الأبدان المحضة أم لا (¬3). وقد دلت النصوص على جواز ذلك كما سيأتي. ثانيًا: أدلة المجيزين: وهؤلاء هم أصحاب القول الأول، وقد استدلوا بما يأتي: أولاً: الأدلة الدالة على جواز النيابة في صلاة النذر، والصيام، ومن هذه الأدلة: ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين: 1/ 237، مجمع الأنهر لداماد أفندي: 1/ 307. (¬2) كتاب الصيام من شرح العمدة لشيخ الإسلام ابن تيمية: 1/ 381. (¬3) المحلى لابن حزم: 7/ 59.

الدليل الأول

الدليل الأول: قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ (11)} [النساء: 11]. الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فدين الله أحق أن يقضى) (¬1). وقد تقدم ذكر وجه الاستدلال من هذه النصوص، وما ورد عليها من مناقشات، وما أجيب به عن هذه المناقشات (¬2). ثانيًا: لهم أدلة أخرى منها: الدليل الأول: عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن سعد بن عبادة الأنصاري - رضي الله عنه - استفتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نذر كان على أمه، فتوفيت قبل أن تقضيه، فأفتاه أن يقضيه عنها، فكانت سنة بعد (¬3). وجه الاستدلال: أن كلمة (نذر) في الحديث جاءت مطلقة؛ فتشمل نذر الاعتكاف، وعليه فإنه يقضى عن الميت، قال ابن حزم: "وهذا عموم لكل نذر طاعة فلا يحل لأحد خلافه" (¬4). الدليل الثاني: عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن أمه نذرت أن تعتكف عشرة أيام فماتت ولم تعتكف، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: اعتكف عن أمك (¬5). وفي رواية: "اعتكف عنها، وصم" (¬6). وفي رواية: "صم عنها واعتكف عنها" (¬7). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه، ص 157. (¬2) في مبحث النيابة في الصلاة عن الميت، ص 155 - 156. (¬3) تقدم تخريجه، ص 155. (¬4) المحلى لابن حزم: 5/ 197. (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة، في كتاب الصوم، باب ما قالوا في الميت يموت وعليه اعتكاف: 3/ 94، قال الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح: فتح الباري: 11/ 592. (¬6) أخرجها عبد الرزاق في المصنف، كتاب الوصايا، باب قضاء نذر الميت: 9/ 58 (16335)، وابن حزم في المحلى: 5/ 184. (¬7) أخرجها سعيد بن منصور في سننه، كتاب الفرائض، باب هل يقضي الحي عن الميت: 1/ 125.

الدليل الثالث

وجه الاستدلال: أن هذا الأثر يدل صراحة على أن الولي يعتكف عن ميته. الدليل الثالث: عن عامر بن مصعب (¬1)، أن عائشة رضي الله عنها، اعتكفت عن أخيها بعدما مات (¬2). وجه الاستدلال: يدل فعل عائشة رضي الله عنها على أن الاعتكاف تصح فيه النيابة، حيث قامت هي بفعل ذلك عن أخيها. قال ابن مفلح (¬3): "وروي عن عائشة، وابن عمر، وابن عباس، ولم يُعرف لهم مخالف من الصحابة" (¬4). الدليل الرابع: ما جاء عن طاووس أنه سئل عن امرأة ماتت وعليها أن تعتكف سنة في المسجد الحرام، ولها أربعة بنين كلهم يحب أن يقضي عنها؛ قال طاووس: اعتكفوا أربعتكم في المسجد الحرام ثلاثة أشهر، وصوموا" (¬5). ¬

_ (¬1) هو: عامر بن مصعب، روى عن عائشة، وأبي المنهال عبدالرحمن بن مطعم، وطاووس، وعنه ابن جريج، وإبراهيم بن مهاجر الكوفي، ذكره ابن حبان في الثقات، روى له البخاري، ومسلم حديثًا واحدًا مقرونًا بعمرو بن دينار، قال ابن حجر: لا يعرف: تهذيب التهذيب لابن حجر: 5/ 81، والتقريب، ص/ 478. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: كتاب الصوم، باب ما قالوا في الميت يموت وعليه اعتكاف: 3/ 94. وهذالأثر ضعيف، فيه إبراهيم بن المهاجر، وعامر بن مصعب، فالأول ضعيف، والثاني لا يعرف: تقريب التهذيب، ص: 116، 478. (¬3) هو: محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج المقدسي، الصالحي الحنبلي الفقيه الأصولي شمس الدين أبو عبد الله، شيخ الحنابلة في وقته، ولد ببيت المقدس سنة 708 هـ، من مؤلفاته: الفروع في الفقه، والآداب الشرعية، وغيرها، توفي سنة 763 هـ: المنهج الأحمد للعليمي: 5/ 118، الدرر الكامنة لابن حجر: 4/ 261. (¬4) الفروع لابن مفلح: 3/ 103، وانظر: المبدع لإبراهيم بن مفلح: 3/ 49. (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة، كتاب الصيام، باب ما قالوا قي الميت يموت وعليه اعتكاف: 3/ 93.

الدليل الخامس

الدليل الخامس: القياس على الصوم (¬1)، فكما أنه تصح النيابة عن الميت في الصوم فكذلك الاعتكاف بجامع أن كلاً منهما كف، ومنع (¬2). الترجيح: من خلال عرض أدلة الفريقين، وما ورد عليها من مناقشات يتبين رجحان القول الأول القاضي بصحة النيابة عن الميت في قضاء ما لزمه من اعتكاف؛ وذلك لما يأتي: أولاً: قوة أدلة أصحاب هذا القول، حيث استند هذا القول إلى أدلة نقلية من الكتاب، والسنة، والأثر، ظاهرة الدلالة على صحة النيابة في الاعتكاف. ثانيًا: أن أدلة القول الآخر أمكن مناقشتها مما يضعف الاستدلال بها. ثالثًا: أن هذا القول هو المنقول عن الصحابة، والتابعين، حيث أفتوا به، وطبقته أم المؤمنين عن أخيها، وذلك كله دون أن يُعرف لهم مخالف. المسألة الثانية: الإجارة على الاعتكاف عن الميت إذا تعذر وجود الولي بموت، أو أي مانع آخر، أو أنه أبى أن يعتكف عن ميته، ولم يتبرع أجنبي بذلك، فهل يجوز استئجار من يقضي عن الميت ما وجب عليه من اعتكاف، وذلك إذا كان قد خلف تركة. اختلف العلماء في حكم الاستئجار على الاعتكاف عن الميت على قولين: القول الأول: تصح الإجارة على الاعتكاف عن الميت. وإلى هذا ذهب الشافعية في قول (¬3)، وهو الصحيح من المذهب عند ¬

_ (¬1) كتاب الصيام من شرح العمدة لابن تيمية: 1/ 381، الفروع لابن مفلح: 3/ 103، والمبدع لابن مفلح: 3/ 49. (¬2) مغني المحتاج للشربيني: 1/ 439. (¬3) مغني المحتاج للشربيني: 1/ 439، 2/ 344. تنبيه: نسبت هذا القول إلى الشافعية على قول عندهم، رغم أنهم لم يصرحوا به، وذلك تخريجًا على قاعدتهم في النيابة والإجارة، فقد ذكروا قاعدة وهي: أن كل ما تدخله النيابة تصح فيه الإجارة وما لا فلا. فيخرج هذا قولًا لهم بناءً على قولهم في النيابة كما تقدم.

الأدلة والمناقشة

الحنابلة (¬1)، وهو قول الظاهرية (¬2). قال ابن النجار: "من خلف الميت الناذر مالاً، وجب فعل ما نذره؛ لثبوته في ذمته، كوجوب قضاء الدين مع ترك الميت لما يوفيه، فيفعله وليه إن شاء، أو يدفع مالاً، لمن يفعل عنه" (¬3). وقال ابن حزم: "ومن مات وعليه نذر اعتكاف، قضاه عنه وليه، أو استؤجر من رأس ماله من يقضيه عنه، لا بد من ذلك" (¬4). القول الثاني: لا تصح الإجارة على الاعتكاف عن الميت. وإليه ذهب من منع النيابة في الاعتكاف، وهم: الحنفية (¬5)، والمالكية (¬6)، والشافعية في المشهور في المذهب (¬7)، وهو قول عند الحنابلة (¬8). الأدلة والمناقشة: أولاً: أدلة المانعين: أدلة هؤلاء على منع الإجارة على الاعتكاف جاءت على قسمين: القسم الأول من الأدلة: الأدلة الدالة على المنع من النيابة، وإذا امتنعت النيابة امتنعت الإجارة؛ لأن صحة الإجارة فرع عن صحة النيابة، فما لا تصح فيه النيابة ¬

_ (¬1) شرح الزركشي على الخرفي: 7/ 225، معونة أولي النهى لابن النجار: 3/ 88، الروض المربع مع حاشية ابن قاسم للبهوتي: 3/ 442 - 443. (¬2) المحلى لابن حزم: 5/ 197، 8/ 28. (¬3) معونة أولي النهى: 3/ 88. (¬4) المحلى لابن حزم: 5/ 197. (¬5) مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر: 1/ 307، الاختيار لتعليل المختار: 2/ 59. (¬6) المدونة للإمام مالك: 1/ 233، عقد الجواهر الثمينة لابن شاس: 2/ 842. (¬7) المجموع للنووي: 6/ 372، مغني المحتاج للشربيني: 1/ 439، 4/ 342. (¬8) الإنصاف للمرداوي: 3/ 339.

الترجيح

لا تصح فيه الإجارة كلما تقدم (¬1). القسم الثاني من الأدلة: ما سبق ذكره من تعليلات عند ذكر أدلة المانعين من الإجارة على الصوم مطلقًا، وكذا أدلة المانعين من الإجارة على الصلاة مطلقًا، وقد تقدم كل ذلك مفصلاً. ثانيًا: أدلة المجيزين: وهؤلاء هم أصحاب القول الأول. وقد استدلوا بما يأتي: أ - الأدلة الدالة على صحة النيابة في الاعتكاف عن الميت، فإن قضاه عنه الولي، وإلا استؤجر مِن رأس ماله مَن يقضيه عنه (¬2). ب - ما تقدم من أدلة وتعليلات عند ذكر أدلة جواز الإجارة على صلاة النذر، وصيام النذر، فكل هذه ترد من باب واحد، ويجمعها ضابط واحد، وهو كونها منذورة، فما استدل به على صحة الإجارة هناك يستدل به على صحة الإجارة هنا سواء بسواء (¬3). الترجيح: من خلال ما تقدم من أدلة، وما ذكر من تفصيل في مسألة النيابة في الاعتكاف يتبين رجحان القول بجواز الاستئجار على الاعتكاف؛ لما يأتي: أولاً: أن الاعتكاف تدخله النيابة على القول الراجح كما تقدم، وإذا صحت النيابة - صحت الإجارة. ثانيًا: قوة ما استدلوا به، وبخاصة تشبيه النذر بالدين، والدين يثبت في الذمة فيفعله الولي إن شاء، أو يدفع مالاً لمن يفعله عن الميت (¬4). ثالثًا: أمكن مناقشة أدلة المخالفين بما يضعف الاستدلال بها - والله أعلم-. ¬

_ (¬1) انظر: أدلة القائلين بالمنع من الإجارة في الصوم، ص 287. (¬2) مبحث النيابة في الاعتكاف، أدلة القول الأول، ص 328 وما بعدها. (¬3) تقدم ذلك في مبحث الإجارة على صلاة النذر عن الميت. والإجارة على صوم النذر عن الميت، ص 313 - 314 وما بعدها. (¬4) شرح منتهى الإرادات للبهوتي: 1/ 457 - 458.

الفصل الثالث أخذ المال على الحج والعمرة

الفصل الثالث أخذ المال على الحج والعمرة وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: النيابة في الحج والعمرة عن الحي. المبحث الثاني: النيابة في الحج والعمرة عن الميت. المبحث الثالث: أنواع المال المأخوذ على الحج والعمرة. المبحث الرابع: أخذ المال على ذبح الهدي والأضاحي ونحوهما.

المبحث الأول النيابة في الحج والعمرة عن الحي

المبحث الأول النيابة في الحج والعمرة عن الحي المطلب الأول النيابة في الحج الواجب الفرع الأول النيابة عن القادر في الحج (¬1) الواجب أجمع العلماء على أن الحي القادر المستطيع للحج بنفسه، وماله، لا يجوز له أن يستنيب غيره في الحج الواجب، بل يجب عليه عينًا أن يحج بنفسه (¬2). قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن من عليه حجة الإسلام، وهو قادر، لا يجزئه إلا أن يحج بنفسه، لا يجزئ أن يحج عنه غيره" (¬3). وقال ابن قدامة: "ولا يجوز أن يستنيب من يقدر على الحج بنفسه في الحج الواجب إجماعًا" (¬4). ¬

_ (¬1) الحج لغة: القصد، والزيارة، والإتيان (لسان العرب لابن منظور مادة حجج: 2/ 226 - 227) واصطلاحًا: "قصد مكة لعمل مخصوص في زمن مخصوص". (البحر الرائق لابن نجيم: 2/ 330، جواهر الإكليل للآبي: 1/ 160، مغني المحتاج: 1/ 460، الروض المربع مع حاشية ابن قاسم: 3/ 500). (¬2) بدائع الصنائع للكاساني: 2/ 212، الاختيار للموصلي الحنفي: 1/ 170، قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي، ص: 147، المهذب للشيرازي: 1/ 199، المغني لابن قدامة: 5/ 22. (¬3) الإجماع لابن المنذر، ص: 67. (¬4) المغني لابن قدامة: 5/ 22.

ومستند هذا الإجماع ظاهر، وهو قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)} [آل عمران: 97]. فقد دلت هذه الآية الكريمة دلالة قاطعة على وجوب الحج، وفرضيته على كل مستطيع مكلف، يؤديه بنفسه، فإن الحج أحد أركان الإسلام، وأحد قواعد التكليف، وأحد الواجبات العينية، فمن تركه مع الاستطاعة فهو متعرض لمقت الله وعقابه وسخطه في الدنيا والآخرة (¬1). ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 2/ 67، تفسير فتح القدير للشوكاني: 1/ 363.

الفرع الثاني النيابة عن العاجز في الحج الواجب

الفرع الثاني النيابة عن العاجز في الحج الواجب (¬1) المسألة الأولى: النيابة عن العاجز عجزًا دائمًا لا خلاف بين العلماء أن العاجز عن الحج الواجب ببدنه عجزًا دائمًا (¬2)، وبماله كذلك، ولم يجد من ينيبه أنه لا يلزمه أن يستنيب غيره، ولا يجب عليه الحج في هذه الحالة (¬3). والدليل على ذلك: القياس على الصحيح العاجز بماله؛ فكما أن الصحيح لو لم يجد ما يحج به لم يجب عليه الحج، فالمريض أولى (¬4). أما إذا كان العاجز ببدنه عجزًا دائمًا واجدًا للمال لكنه لم يجد من ينوب عنه فقد قال ابن قدامة: "وإن وجد مالًا - أي العاجز- ولم يجد من ينوب عنه فقياس المذهب أنه ينبني على الروايتين في إمكان المسير، هل هو من شرائط الوجوب، أو من شرائط لزوم السعي؟ فإن قلنا: من شرائط لزوم السعي ثبت الحج في ذمته، هذا يحج عنه ¬

_ (¬1) الحج الواجب هنا يشمل: حجة الإسلام (الفريضة)، أو الحج المنذور، أو القضاء: فكل ذلك من الحج الواجب: حاشية ابن عابدين: 2/ 238، المغني لابن قدامة: 5/ 22. (¬2) والمراد به: "كل من وجدت فيه شرائط وجوب الحج، وكان عاجزًا عنه لمانع مأيوس من زواله، كزمانة أو مرض لا يرجى زواله، أو كان نِضْوَ الخلق لا يقدر على الثبوت على الراحة، إلا بمشقة غير محتملة، والشيخ الفاني": المغني لابن قدامة: 5/ 22. (¬3) المبسوط للسرخسي: 4/ 153 - 154، حاشية ابن عابدين: 2/ 238، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير: 2/ 18، الأم للشافعي: 2/ 116، 121، المغني لابن قدامة: 5/ 21، المحلى لابن حزم: 7/ 53. (¬4) المغني لابن قدامة: 5/ 21.

بعد موته، وإن قلنا: من شرائط الوجوب لم يجب عليه شيء" (¬1). وأما إذا كان العاجز ببدنه عجزًا دائمًا، واجدًا للمال، ولمن ينوب عنه في أداء ما عليه من الحج الواجب، فهل يلزمه أن يستنيب من يحج عنه أم لا؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: يجب على العاجز ببدنه عجزًا دائمًا أن يستنيب من يحج عنه. وإلى هذا القول ذهب أبو حنيفة في رواية عنه (¬2)، وهو المذهب عند الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، والظاهرية (¬5). وبه قال جمع من السلف منهم: علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، والحسن البصري، وسفيان الثوري (¬6)، وعبد الله بن المبارك (¬7)، واسحاق ابن ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة: 5/ 21، الفروع لابن مفلح: 3/ 245، تصحيح الفروع للمرداوي: 3/ 223، وقد حقق المرداوي القول في ذلك، وأختار أن ذلك من شرائط لزوم الأداء، وليس من شرط الوجوب، والله أعلم. (¬2) المبسوط للسرخسي: 4/ 153. (¬3) الأم للشافعي: 2/ 121، الحاوي الكبير للماوردي: 5/ 11، المجموع شرح المهذب للنووي: 7/ 100، مغني المحتاج: 1/ 469. (¬4) المغني لابن قدامة: 5/ 19، الفروع لابن مفلح: 3/ 245، الإنصاف للمرداوي: 3/ 405. (¬5) المحلى لابن حزم الظاهري: 7/ 53. (¬6) هو: سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب، أبو عبد الله، الثوري، الكوفي، أحد الأئمة الكبار في الفقه والحديث، كان أحد أئمة الدنيا في وقته علمًا وعملًا، ولد بالكوفة سنة 97 هـ، ونشأ بها، قال ابن حجر: ثقة حافظ فقيه عابد إمام حجة. من مؤلفاته: الجامع الكبير، والجامع الصغير، كلاهما في الحديث، وله كتاب في الفرائض، توفي سنة 161 هـ بالبصرة: تذكرة الحفاظ للذهبي: 1/ 203، تقريب التهذيب لابن حجر: ص/394. (¬7) هو: عبد الله بن المبارك بن واضح، أبو عبد الرحمن، الإمام القدوة شيخ الإسلام مولى بني حَنظلة، التركي المروزي، ولد سنة 118 هـ، ثقة ثبت، فقيه، عالم جواد مجاهد، جمعت فيه - خصال الخير، توفي سنة 181 هـ: سير أعلام النبلاء للذهبي: 8/ 378، التاريخ الكبير للبخاري: 2/ 215، تقريب التهذيب لابن حجر: ص: 540.

راهويه (¬1). القول الثاني: يجوز للعاجز عجزًا دائمًا أن يستنيب من يحج عنه، ولا يجب عليه ذلك. وإلى هذا ذهب الحنفية، وهو المذهب عندهم (¬2)، وبه قال بعض المالكية، ولكنهم قالوا يجوز ذلك مع الكراهة (¬3). قال محمد بن الحسن (¬4): "لا بأس بالحج عن الميت، وعن الرجل، والمرأة، إذا بلغا من الكبر ما لا يستطيعان أن يحجا، وهو قول أبي حنيفة والعامة من أصحابنا" (¬5). القول الثالث: لا تجوز النيابة في الحج الواجب عن العاجز ببدنه عجزًا دائمًا، وإن كان مستطيعًا بماله، وإن وجد من ينوب عنه في ذلك. وبهذا قال المالكية في المشهور عندهم، وهو المعتمد من مذهبهم على الصحيح (¬6). ¬

_ (¬1) المجموع شرح المهذب للنووي: 7/ 100، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 4/ 151. (¬2) الأصل (المبسوط) لمحمد بن الحسن: 2/ 505، المبسوط للسرخسي: 4/ 153، بدائع الصنائع للكاساني: 2/ 212، شرح فتح القدير لابن الهمام: 2/ 310، تبيين الحقائق للزيلعي: 2/ 85. (¬3) التفريع لابن الجلاب: 1/ 315، مواهب الجليل للحطاب: 2/ 494، 3/ 3، الزرقاني على خليل: 2/ 244، حاشية البناني على الزرقاني: 2/ 244، الشرح الصغير للدردير: 2/ 15، والقول بالكراهة هو ما سار عليه خليل في مختصره، ص/75. (¬4) هو الإمام محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني مولاهم الكوفي أبو عبد الله صاحب أبي حنيفة، ولد بواسط سنة 132 هـ، ونشأ بالكوفة، من الأئمة المجتهدين، له مؤلفات كثيرة منها: الأصل المعروف بالمبسوط، والسير الكبير، والجامع الكبير والجامع الصغير وغيرها، وهي كتب ظاهر الرواية عن أبي حنيفة، توفي الري سنة 179 هـ: سير أعلام النبلاء للذهبي: 9/ 134، وفيات الأعيان لابن خلكان: 4/ 184. (¬5) موطأ مالك رواية محمد بن الحسن، ص/ 163. (¬6) المنتقى للباجي: 2/ 269، مواهب الجليل للحطاب: 2/ 313، 494، حاشية البناني على الزرقاني: 2/ 244، الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي: 2/ 18.

سبب الخلاف

قال الدسوقي (¬1): "والمعتمد منع النيابة عن الحي مطلقًا أي: سواء كان صحيحًا أم مريضًا، كانت النيابة في الفرض أم في النفل ... ولا فرق بين أن تكون النيابة بأجرة أم تطوعًا" (¬2). سبب الخلاف: يرجع سبب الخلاف بين العلماء في هذه المسألة إلى أمرين: الأول: معارضة القياس للأثر. قال ابن رشد (¬3) مبينًا ذلك: "وذلك أن القياس يقتضي أن العبادات لا ينوب فيها أحد عن أحد؛ فإنه لا يصلي أحد عن أحد باتفاق، ولا يزكي أحد عن أحد، وأما الأثر المعارض لهذا فحديث ابن عباس المشهور ... " (¬4). وقد ذكر حديث الحثعمية، وسيأتي الكلام حوله مفصلاً. الثاني: دخول العاجز عجزًا دائمًا المستطيع بغيره وماله تحت قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (97)} [آل عمران: 97]، فبعض العلماء قال: يدخل؛ فاجاز النيابة، وهم أصحاب ¬

_ (¬1) هو: محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي، شمس الدين أبو عبد الله الأزهري، ولد بدسوق من نواحي مصر القاهرة، نبغ في العلم، وتفقه على مذهب مالك رحمه الله، وله مؤلفات كثيرة منها: حاشية على الشرح الكبير للدردير، وحاشية على الجلال المحلي على البردة، وحاشية على كبرى السنوسي وغيرها، توفي سنة 1230 هـ بالقاهرة، ودفن بها: شجرة النور الزكية لمخلوف، ص/362. (¬2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير: 2/ 18. (¬3) هو: محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد، أبو الوليد المعروف بابن رشد الحفيد الفقيه المالكي الأصولي الفيلسوف الطبيب، ولد بقرطبة سنة 520 هـ، له مؤلفات كثيرة منها: منهاج الأدلة في الأصول، تهافت التهافت في الرد على الغزالي، بداية المجتهد ونهاية المقتصد في الفقه، توفي في مراكش سنة 595 هـ: الديباج المذهب لابن فرحون، ص/ 284، شجرة النور الزكية، ص/146. (¬4) بداية المجتهد لابن رشد: 1/ 320.

الادلة والمناقشة

القولين الأولين، والبعض قال: لا يدخل؛ لأنه عاجز غير مستطيع بالنظر إلى نفسه، فلا يدخل في عموم الآية، وهؤلاء هم أصحاب القول الثالث (¬1). الأدلة والمناقشة: • أولاً: أدلة المانعين من النيابة، وهم أصحاب القول الثالث: استدل هؤلاء بأدلة من القرآن، والسنة، والأثر، والمعقول. أ - أدلتهم من القرآن الكريم: الدليل الأول: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (97)} [آل عمران: 97]. وجه الاستدلال: الاستدلال بهذه الآية من عدة وجوه: الوجه الأول: أن الحج إنما فرضه الله تعالى على المستطيع إجماعًا، والمعضوب، والمريض لا استطاعة لهما (¬2). الوجه الثاني: أن الله تعالى إنما أوجب الحج عمن يستطيع الوصول بنفسه إلى بيت الله الحرام، والعاجز ببدنه لا يستطيع الوصول، فلا يتناوله الخطاب (¬3). الوجه الثالث: أن المراد بالاستطاعة في الآية هي الاستطاعة البدنية؛ إذ لو كانت المالية لقال: إحجاج البيت، والحج فرع بين أصلين: أحدهما: بدني صرف؛ كالصلاة، والصيام، فلا استنابة فيه. والآخر: مالي صرف؛ كالصدقة، والزكاة، يستناب فيه، والحج فيه عمل بدن، ونفقة مال، فمن غلب البدن رده إلى الصلاة، ومن غلب المال ¬

_ (¬1) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشنقيطي: 5/ 93. (¬2) المنتقى للباجي: 2/ 269، أحكام القرآن لابن العربي المالكي: 1/ 289، أضواء البيان للشنقيطي؛ 5/ 93. (¬3) المبسوط للسرخسي: 4/ 153، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 4/ 151.

مناقشة الاستدلال

رده إلى الصدقة (¬1). مناقشة الاستدلال: وجوه الاستدلال الثلاثة مردّها إلى أن المراد بالاستطاعة في الآية هي الاستطاعة البدنية فقط دون المالية، وما دام أنه عاجز ببدنه، فلا استطاعه له فلا يجوز له أن يستنيب غيره لسقوط فرض الحج عنه. ويناقش ذلك: بأن الاستطاعة في الآية جاءت عامة؛ فتشمل من كان مستطيعًا بنفسه وماله، وبغيره، والعاجز ببدنه مستطيع بماله وبغيره فيدخل في عموم الآية الكريمة (¬2). الدليل الثاني: قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39]. الدليل الثالث: قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (18)} [فاطر: 18]. وجه الاستدلال من الآيتين الكريمتين: فقد أخبر الله جل وعلا أن الإنسان ليس له إلا ما اكتسب بنفسه، وليس له إلا ما سعى فيه بنفسه، وليس له ما سعى فيه غيره، والنيابة إنما هي سعي الغير، فلا تصح؛ فمن قال: إن له سعي غيره، فقد خالف ظاهر الآية (¬3). مناقشة الاستدلال: أولاً: أن الآية ليست على عمومها، بل هي مخصوصة بالنصوص الكثيرة الدالة على جواز النيابة عن المعضوب، ومن في حكمه، وستأتي. ¬

_ (¬1) شرح الأُبي على صحيح مسلم (إكمال إكمال المعلم: 3/ 431. نقلاً عن المازري، وانظر: شرح الزرقاني على الموطأ: 2/ 292. (¬2) الحاوي الكبير للماوردي: 5/ 12، المجموع للنووي: 7/ 101. (¬3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 4/ 151.

ب - أدلتهم من السنة

قال ابن حزم: "هذه سورة مكية بلا خلاف، وهذه الأحاديث كانت في حجة الوداع، فصح أن الله تعالى بعد أن لم يجعل للإنسان إلا ما سعى تفضل على عباده، وجعل لهم ما سعى فيه غيرهم عنهم بهذه النصوص الثابتة" (¬1). ب - أدلتهم من السنة: الدليل الأول: عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من ملك زادًا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهوديًا، أو نصرانيًا؛ وذلك أن الله تعالى يقول في كتابه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (97)} [آل عمران: 97] (¬2). وجه الاستدلال: في هذا الحديث جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرط وجوب الحج على المكلف أن يكون له مال يوصله إلى بيت الله الحرام؛ وذلك بقوله: "زادًا وراحلة"، وزاد المعضوب ¬

_ (¬1) المحلى لابن حزم: 7/ 58، وقد تقدم مناقشة هذه الآية بتفصيل في مبحث النيابة في الصلاة، وكذلك مبحث النيابة في الصوم فليراجع. (¬2) أخرجه بهذا اللفظ الترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في التغليظ في ترك الحج: 3/ 176 (812). قال الترمذي: "هذا حديث حسن، والعمل عليه عند أهل العلم أن الرجل إذا ملك زادًا وراحلة وجب عليه الحج". وجاء بالفاظ أخرى عن عدد من الصحابة منهم ابن عمر، وابن عباس، وأنس، وعائشة، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر، وابن مسعود، وكل هذه الروايات لا تخلو من مقال، وله رواية مرسلة عن الحسن، وله طرق صحيحة، ولكنها موقوفة على عمر بن الخطاب، قال ابن حجر في التلخيص: والصحيح من الروايات رواية الحسن المرسلة، ثم قال: فإذا انضم هذا الموقوف إلى مرسل ابن سابط عن الحسن علم أن لهذا الحديث أصلاً. تلخيص الحبير: 2/ 221 - 223. وقد توسع في تخريجه وذكر طرقه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان وحكم على الحديث بالصحة قال: "الذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن حديث الزاد والراحلة المذكور لا يقل عن درجة الاحتجاج". أضواء البيان: 5/ 82 - 92.

مناقشة الاستدلال

وراحلته لا يبلغانه بيت الله تعالى، فصار وجوده كعدمه (¬1). مناقشة الاستدلال: أولاً: إن هذا الحديث لا يصح؛ قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مقال، وهلال بن عبد الله (¬2) مجهول، والحارث (¬3) يُضعف في الحديث" (¬4). ثانيًا: لو سلمنا صحة الحديث، فإنه لا دلالة فيه على منع النيابة عن المعضوب، ومن في حكمه؛ لأنه ليس له ذكر في الحديث، فظاهره في الصحيح المالك للمال الموصل إلى بيت الله الحرام، أما العاجز المالك للمال فلم يتعرض له الحديث بنفي، ولا إثبات فيؤخذ حكم الاستنابة في حقه من أدلة أخرى (¬5). ج - أدلتهم من الأثر: الدليل الأول: ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: لا يصومن أحد عن أحد، ولا يحجن أحد عن أحد (¬6). ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي: 4/ 153. (¬2) هو هلال بن عبد الله مولى رييعة بن عمرو بن مسلم الباهلي: كنيته أبو هاشم البصري، قال البخاري: منكر الحديث، وقال عنه ابن حجر: متروك: ميزان الاعتدال للذهبي: 4/ 315. تقريب التهذيب: 1027. (¬3) هو الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني الحوتي الكوفي، كذبه الشعبي، وابن المديني في رأيه، ورمي الرفض، وفي حديثه ضعف: ميزان الاعتدال للذهبي: 1/ 435، تقريب التهذيب، ص: 211. (¬4) سنن الترمذي: 3/ 177، وضعيف سنن الترمذي للألباني، ص: 93. (¬5) النيابة في العبادات للدكتور/ صالح الهليل، ص: 263. (¬6) المحلى لابن جزم: 7/ 60، وقال الشوكاني في نيل الأوطار (4/ 287): وروى سعيد بن منصور وغيره بإسناد صحيح ... ثم ذكره، وصححه ابن حزم، وانظر: نصب الراية للزيلعي: 2/ 463.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: عن القاسم بن محمد قال (¬1): لا يحج أحد عن أحد (¬2). وجه الاستدلال من الأثرين: يدل الأثران على منع النيابة في الحج مطلقًا. مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذه الآثار بما يأتي: أن هذه الآثار معارضة بما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث صحت الأحاديث في النيابة عن المعضوب ومن في حكمه. ثم إن هذه الآثار معارضة بآثار صحيحة عن الصحابة؛ كابن عباس وغيره، وستأتي. د- أدلتهم من المعقول: الدليل الأول: قالوا: إن الحج عبادة لا تصح فيها النيابة مع القدرة، فكذا مع العجز كالصلاة (¬3). مناقشة الاستدلال: أولاً: إن هذا قياس جاء في مقابلة نصوص كثيرة تدل على النيابة كما سيأتي، والقياس في مصادمة النص باطل (¬4). ثانيًا: إن قياس الحج على الصلاة قياس مع الفارق؛ فإن الحج عبادة يدخلها المال بخلاف الصلاة (¬5). ¬

_ (¬1) هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق (- رضي الله عنه -)، ثقة، أحد الفقهاء بالمدينة المنورة، قال أيوب: ما رأيت أفضل منه، مات سنة 106هـ على الصحيح: سير أعلام النبلاء للذهبي: 5/ 53، تقريب التهذيب، ص: 794. (¬2) المحلى لابن حزم: 7/ 60. (¬3) الحاوي الكبير للماوردي: 5/ 11، المجموع للنووي: 7/ 101، المغني لابن قدامة: 5/ 20. (¬4) النيابة في العبادات للدكتور صالح الهليل، ص: 266. (¬5) الحاوي للماوردي: 5/ 12، المجموع للنووي: 7/ 101.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: قالوا: لو صحت النيابة في الحج - وهو من العبادات البدنية - لصحت في الأعمال القلبية كالإيمان، وغيره من الصبر، والشكر، والرضا، والتوكل ... وما أشبه ذلك، ولم تكن التكاليف واجبة على المكلف عينًا لجواز النيابة، فيكون مخيرًا ابتداءً بين الفعل والاستنابة (¬1). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا التعليل بما يأتي: أولاً: أن قياس الحج على الإيمان، وأعمال الإيمان القلبية قياس فاسد؛ لأن النصوص جاءت بجواز النيابة، بل بإيجابها في الأول دون الثاني، فيكون قياسًا في مقابلة النص. ثانيًا: وأما قولهم: "لم تكن التكاليف واجبة، بل يكون المكلف مخيرًا ابتداءً ... " فيجاب عن ذلك بأن: هذا كلام لا يستقيم؛ لأننا لا نقول بجواز الاستنابة مطلقًا، سواء أكان قادرًا أم عاجزًا دون قيد أو شرط، بل الاستنابة مقيدة، وقد ذكر ذلك في محل النزاع. ثانيًا: أدلة القائلين بالجواز دون الوجوب: وهؤلاء هم أصحاب القول الثاني وأدلة هؤلاء في مجملها هي أدلة أصحاب القول الأول القائلين بالوجوب، ولكنهم حملوها على الجواز دون الوجوب، فإن استناب غيره جاز له ذلك، وصحت الاستنابة، وسياتي ذكر هذه الأدلة، وبيان دلالتها على الوجوب لا الجواز. وقد استدلوا على الجواز بأدلة أخرى منها: الدليل الأول: من السنة: ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أأحج عن أبي؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: (نعم، إن لم تزده خيرًا لم تزده ¬

_ (¬1) الموافقات للشاطبي: 2/ 175، 176.

وجه الاستدلال

شرًا) (¬1). وجه الاستدلال: قالوا: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن لم تزده خيرًا لم تزده شرًا) دليل على أنه ندب لا فرض؛ لعدم جزمه - صلى الله عليه وسلم - بأن الحج عنه يزده خيرًا (¬2). مناقشة الاستدلال: أولاً: إن هذا حديث ضعيف تفرد به عبد الرزاق، عن الثوري؛ فلم يروه أحد من أصحاب الثوري (¬3) الذين هم أعلم به من عبد الرزاق. وعليه فيكون هذا الحديث خطأ من عبد الرزاق. قال ابن عبد البر: "أما هذا الحديث فقد حملوا فيه على عبد الرزاق لانفراده به عن الثوري من بين سائر أصحابه، وقالوا: هذا حديث لا يوجد في الدنيا عند أحد بهذا الإسناد إلا في كتاب عبد الرزاق، أو في كتاب من أخرجه من كتاب عبد الرزاق، ولم يروه أحد عن الثوري غيره، وقد خطأوه فيه، وهو عندهم خطأ" (¬4). ثانيًا: قالوا: إن لفظ هذا الحديث منكر، لا تشبه ألفاظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ كيف يأمر بما لا يدري، هل ينفع أم لا ينفع (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب الحج من الميت: 2/ 969 (2904)، والطبراني في الكبير: 12/ 245 (13009)، وأبو نعيم في حلية الأولياء، في ترجمة يزيد بن الأصم: 4/ 100، وقال: غريب من حديث يزيد تفرد به الثوري عن الشيباني، وقال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح: مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه: 3/ 10، وقال الألباني: صحيح الإسناد. (صحيح سنن ابن ماجه: 2/ 151، 152 (2348). (¬2) المحلى لابن حزم: 7/ 58. (¬3) مثل ابن القطان، وابن المبارك، وابن مهدي، ووكيع، وغيرهم. (¬4) التمهيد لابن عبد البر: 9/ 129، وانظر: الاستذكار: 12/ 64. (¬5) التمهيد لابن عبد البر: 9/ 129، 130، والاستذكار لابن عبد البر: 12/ 63.

الدليل الثاني

الدليل الثاني: من المعقول: قالوا: إن المقصود بعبادة الحج هو تعظيم البقعة بالزيارة، والمال شرط يتوصل به إلى هذا المقصود، وهذالمقصد فائت في حق المعضوب، ولا يعتبر وجود الشرط - وهو وجود المال -؛ لأن الشرط تبع، والتبع لا يقوم مقام الأصل في إثبات الحكم به أبتداء، لأن المال ليس ببدل عن أصل الحج، لأن الحج لا يتأدى بالمال، وإنما يتأدى بمباشرة النائب بالحج عنه، فإذا لم يكن المال بدلاً عن أصل الحج فلا يثبت الوجوب باعتباره (¬1). مناقشة هذا التعليل: يمكن مناقشة هذا التعليل بما يأتي: أولاً: لا نسلم لكم أن المقصود من الحج هو تعظيم البقعة بالزيارة فقط، بل له مقاصد كثيرة منها إنفاق المال في سبيل الله، وهذا يتأتى من المعضوب ومن في حكمه، ولا يسقط الميسور بالمعسور (¬2). ثانيًا: سلمنا لكم أن المقصود من الحج هو تعظيم البقعة بالزيارة، لكن هذا المقصود يحصل بمباشرة الشخص نفسه، وبنائبه، بدليل إقراره - صلى الله عليه وسلم - كذلك، وأمره به كما دلت على ذلك الأحاديث الكثيرة كما سيأتي. ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي: 4/ 153، 154. (¬2) (الميسور لا يسقط بالمعسور): قاعدة فقهية جليلة مستنبطة من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم". أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة: (1337)، وهذه المسألة، من المسائل التي تتخرج على هذه القاعدة، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (97)} [آل عمران: 97]. وتقدم أن كثيرًا من العلماء جعلوا المستطيع بماله وبغيره داخلاً في عمومها، فإن كان المسلم لا يتمكن من الحج بنفسه فإنه معسور في هذا الجانب فلا يسقط عنه الحج بماله وبغيره. لأنه ميسور. وللكلام حول هذه القاعدة انظر: الأشباه والنظائر لتاج الدين السبكي: 1/ 155، والأشباه والنظائر للسيوطي، ص: 107، طبعة دار الفكر.

ثالثا: أدلة القائلين بوجوب النيابة

ثالثًا: إنَّ الأدلة الكثيرة قد قامت على وجوب النيابة - كما سيأتي -؛ فلا عبرة بهذا التعليل. ثالثًا: أدلة القائلين بوجوب النيابة: وهؤلاء هم أصحاب القول الأوّل، وقد استدلوا لما ذهبوا إليه بأدلة كثيرة من القرآن، والسُّنَّة، والأثر، والمعقول: أ - أدلتهم من القرآن: الدّليل الأوّل: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]. وجه الاستدلال: أن الله تعالى قد أوجب الحجِّ على المستطيع، والاستطاعة على معنيين: أحدهما: أن يستطيع الحجِّ بنفسه وماله. والآخر: أن يعجز عنه بنفسه ... ، ولكنه يستطيع بماله، ويجد من ينوب عنه، والعاجز ببدنه يستطيع على المعنى الآخر، فيدخل تحت الآية، فيجب عليه ان يستنيب من يحج عنه (¬1). ومما يؤيد هذا أن الاستطاعة عند العلماء هي الزّاد، والراحلة، كما ورد في عدة روايات، وهي بمجموعها صالحة للاحتجاج، والعمل على ذلك عند أهل العلم، قال التّرمذيّ بعد ذكر حديث الزّاد والراحلة: "هذا حديث حسن، والعمل عليه عند أهل العلم أن الرَّجل إذا ملك زادًا وراحلة وجب عليه الحجِّ" (¬2). ثانيًا: الأدلة من السُّنَّة: الدّليل الأوّل: عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال: كان الفضل بن عبّاس ¬

_ (¬1) الأم للإمام الثحافعي: 2/ 121، وانظر: المحلى لابن حزم: 7/ 56. (¬2) سنن التّرمذيّ: 3/ 177.

وجه الاستدلال

رديف رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فجعل رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر قالت: يا رسول الله إنَّ فريضة الله على عباده في الحجِّ أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفاحج عنه؟ قال - صلّى الله عليه وسلم -: "نعم" (¬1). وفي رواية: قالت: يا رسول الله، إنَّ أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحجِّ، وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره، فقال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: (فحجي عنه) (¬2). وفي رواية: قالت: فهل يقضى عنه أن أحج عنه؟ قال - صلّى الله عليه وسلم -: "نعم" (¬3). وجه الاستدلال: حيث أمر النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - المرأة أن تحج عن أبيها الفريضة بقوله - صلّى الله عليه وسلم -: (فحجي عنه)، والأمر المطلق يقتضي الوجوب، كما هو الراجح عند الأصوليين (¬4) ثمّ إنَّ المرأة قد ذكرت أن فريضة الحجِّ لازمة على أبيها في هذه الحالة، ولم ينكر عليها النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، بل أمرها بالحج عنه؛ فدل على أن الحجِّ يجب على المعضوب، ومن في حكمه (¬5). الدّليل الثّاني: عن أبي رزين العقيلي، أنّه أتى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، إنَّ أبي شيخ كبير لا يستطيع الحجِّ، ولا العمرة، ولا الظعن؛ فقال - صلّى الله عليه وسلم -: (حج عن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ في كتاب جزاء الصَّيد، باب حج المرأة عن الرَّجل: 4/ 80 (1855)، ومسلم في كتاب الحجِّ، باب الحجِّ عن العاجز لزمانةٍ وهرمٍ ونحوهما: 2/ 973 (1334). (¬2) أخرجه مسلم في الحجِّ، باب الحجِّ عن العاجز ... : 2/ 974 (1335). (¬3) أخرجه البخاريّ في جزاء الصَّيد، باب الحجِّ عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة: 4/ 79 (1854). (¬4) المحصول للرازي: 2/ 41 وما بعدها، شرح مختصر الروضة للطوفي: 2/ 365. (¬5) المبسوط للسرخسي: 4/ 154، المحلى لابن حزم: 7/ 57.

وجه الاستدلال

أبيك، واعتمر) (¬1). وجه الاستدلال: حيث أمر النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أبا رزين بالحج عن أبيه، وقد بين له أبو رزين حال أبيه، وأنّه عاجز ببدنه، ومع هذا فقد أمره بالحج؛ فدل على أن العاجز ببدنه عجزًا دائمًا يلزمه الحجِّ، وزاد فيه العمرة؛ فدل على أنّها كالحج في الحكم. الدّليل الثّالث: عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، أن رجلًا جاء إلى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، فقال: إنَّ أبي شيخ كبير لا يستطيع أن يحج، أفاحج عنه؟ قال رسول الله: "نعم". قال الرَّجل: أيجزئ عنه؟ قال - صلّى الله عليه وسلم -: إنَّعم، أرأيت لووإن على أبيك دين، فقضيته عنه، ألَّا يجزئ عنه؛ فإنّما هو مثل ذلك) (¬2). وجه الاستدلال: حيث بين رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أن الحجِّ واجب على العاجز؛ كالشيخ الكبير، ونحوه؛ لأنّه شبهه بالدين، والدين واجب الأداء، فيجب على العاجز ببدنه أن يستنيب من يحج عنه، وقد أكد النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - ذلك بقوله: (فإنّما هو مثل ذلك)، أي: مثل الدِّين في وجوب الأداء. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده: 4/ 16 (16171)، 18 (16180) (16184). وأبو داود في كتاب المناسك، باب الرَّجل يحج عن غيره: 2/ 162 (1810). والترمذي: كتاب الحجِّ، باب ما جاء في الحجِّ عن الشّيخ الكبير: 3/ 269 (930)، وقال: حسن صحيح. والنسائي في الحجِّ، باب العمرة عن الرَّجل الّذي لا يستطيع: 5/ 124 (2636). وابن ماجه في المناسك، باب الحجِّ عن الحي إذا لم يستطع: 2/ 970 (2926). وصححه ابن خزيمة: 4/ 345 - 346 (3040)، وابن حبّان: 9/ 304 (3991)، والحاكم: 1/ 481. (¬2) أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار: 6/ 370 (2541)، والطبراني في الكبير: 11/ 109. (11200)، وابن حبّان في صحيحه: 9/ 305 (3992)، وقال الشّيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

مناقشة الاستدلال بالاحاديث السابقة

وقد وردت أحاديث كثيرة في معنى الأحاديث السابقة، وفيما ذكرته غنية. مناقشة الاستدلال بالاحاديث السابقة: أورد المانعون بعض المناقشات على الأحاديث السابقة، منها: أوَّلًا: أن النيابة في الأحاديث السابقة إنّما وقعت على سبيل التبرع، وليس فيها تصريح بالوجوب (¬1). قال القرطبي: "حديث الخثعمية ليس مقصوده الإيجاب، وإنّما مقصوده الحث على بر الوالدين، والنظر في مصالحهما دنيا ودينًا، وحبب المنفعة إليهما جبلة وشرعًا ... ". ثمّ ذكر حديث تشبيه الحجِّ بالدين، ثمّ قال: " ... ففي هذا ما يدلُّ على أنّه من باب التطوعات، وإيصال البرّ، والخيرات للأموات .... " (¬2). ويجاب عن ذلك بما يلي: 1 - لا نسلم لكم أن هذه النصوص لا تصريح فيها بالإيجاب، أو أنّه ليس المقصود منها الإيجاب، بل قد جاء الإيجاب فيها بالفاظ صريحة نحو قوله - صلّى الله عليه وسلم -: (فحجي عنه)، وقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "حج عن أبيك، واعتمر" (¬3). 2 - سلمنا أنّها لا تفيد الوجوب، وأنّها من باب التبرعات والبر، وعليه فإنها في هذه الحالة تفيد جواز النيابة، وأنتم لا تقولون به. ومن ثمّ تكونون قد نقضتم مذهبكم المانع من النيابة مطلقًا (¬4). ثانيًا: قالوا: إنَّ ما رخص فيه النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - للخثعمية إنّما هو خاص بها، كما اختص سالم مولى أبي حذيفة بجواز الرضاعة بعد الحولين، أي: الرضاعة في الكبر ¬

_ (¬1) أحكام القران لأبي بكر بن العربي: 1/ 289، وعارضة الأحوذي، له: 4/ 158، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 4/ 152، وفتح الباري لابن حجر: 4/ 83. (¬2) الجامع لأحكام القرآن: 4/ 152. (¬3) فتح الباري لابن حجر: 4/ 83. (¬4) النيابة في العبادات للدكتور الهليل: ص /258.

مع اشتراط الله تعالى تمام الرضاعة في الحولين (¬1). واحتجوا لدعوى الخصوصية هذه، بزيادة وردت في بعض طريق الحديث، وفيها قوله - صلّى الله عليه وسلم -: (لتحجي عنه، وليس لأحدٍ بعده) (¬2). ويجاب عن دعوى الخصوصية بما يأتي: 1 - أن الأصل عدم الخصوصية (¬3)؛ فالعام يعمل به حتّى يردّ ما يخصصه، ولادليل على التخصيص هنا. 2 - أن القياس على قصة سالم مولى أبي حذيفة قياس مع الفارق، فلا يصح. وبيان ذلك: أن قصة سالم (¬4)، جاءت معارضة لاشتراط الله -عَزَّ وَجَلَّ- تمام الرضاعة في الحولين (¬5)، ولأجل هذا التعارض ذهب الجمهور إلى أنّه لا يحرم من الرضاع إِلَّا ما كان في الصغر، وأمّا قصة سالم فهي خاصّة بسالم، ورخصه له دون غيره (¬6). وأمّا حديث الخثعمية فلا شيء يعارضه من كتاب الله، ولا من سنة رسوله - صلّى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) التمهيد لابن عبد البرّ: 9/ 125. (¬2) أخرجه ابن حزم في المحلى: 7/ 59. وذكر الحافظ ابن حجر أن هذه الرِّواية بهذه الزيادة رواها عبد الملك بن حبيب في الواضحة، بإسنادين مرسلين، ثمّ قال الحافظ: "ولا حجة فيه لضعف الإسنادين مع إرسالهما".: فتح الباري: 4/ 83. (¬3) فتح الباري لابن حجر: 4/ 83، نيل الأوطار للشوكاني: 4/ 286. (¬4) وقصة سالم هي: أن أبا حذيفة كان قد تبنى سالمًا هو وزوجته، وكان سالم مولى لامرأة من الأنصار، فلما نزل قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} الآية، كلان من له أب معروف نسب إلى أبيه، ومن لا أب له معروف كان مولى وأخا في الدِّين، فعند ذلك جاءت سهلة بنت سهيل زوجة أبي حذيفة إلى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، إنَّ سالمًا قد بلغ ما يبلغ الرجال، وعقل ما عقلوا، وإنه ليدخل علينا، وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئًا، فقال لها النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "أرضعيه تحرمي عليه، ويذهب الّذي في نفس أبي حذيفة"، فقالت: فرجعت، فأرضعته، فذهب الّذي في نفس أبي حذيفة. أخرج القصة مسلم في صحيحه: 2/ 1076 (1453). (¬5) كما في قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} سورة البقرة، آية: 233. (¬6) شرح النووي على صحيح مسلم: 10/ 30، 31، سبل السّلام للصنعاني: 3/ 440، 441.

ج- أدلتهم من الأثر

3 - أن هذه الزيادة الّتي احتجوا بها لا تصح؛ فقد وردت بإسنادين ضعيفين (¬1). قال الحافظ ابن حجر: "ولا حجة فيه؛ لضعف الإسنادين مع إرسالهما، وقد عارضه قوله - صلّى الله عليه وسلم - في حديث الجهنية الاضي في الباب: (اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء) (¬2). ثالثًا: قالوا: إنَّ هذه الأحاديث خاصّة بالابنيحج عن أبيه، أمّا غيره فلا (¬3). ويجاب عن ذلك: بأن هذا جمود (¬4)، ويرد هذا القول ما جاء في رواية عن ابن عبّاس؛ قال: جاء رجل إلى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، فقال: إنَّ أختي ماتت، ولم تحج؛ أفاحج عنها؟ فقال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: (أرأيت لو كان عليها دين فقضيته، فالله أحق بالوفاء) (¬5). ووجه الاستدلال من هذا الحديث ظاهر؛ فالسائل هنا أخ عن أخته، لا ابن عن أبيه؛ فبطل ما زعموا. ج- أدلتهم من الأثر: الدّليل الأوّل: عن مسلم القُرّي (¬6)، قال: قلت لابن عبّاس رضي الله عنهما: إنَّ أمي حجت، ولم تعتمر، أفاعتمر عنها؟ قال: نعم (¬7). ¬

_ (¬1) المحلى لابن حزم: 7/ 60، فتح الباري لابن حجر: 4/ 83. (¬2) فتح الباري لابن حجر: 4/ 83. (¬3) فتح الباري لابن حجر: 4/ 83، نيل الأوطار للشوكاني: 4/ 286. (¬4) فتح الباري: 4/ 83. (¬5) أخرجه البخاريّ، كتاب الإيمان والنذور، باب من مات وعليه النَّذْر: 11/ 592 (6699)، والنسائي في المناسك، باب الحجِّ عن الميِّت الّذي نذر أن يحج: 5/ 123 (2631)، وأحمد: 1/ 298 (2139). (¬6) هو مسلم بن مخراق العبدي القُري (بضم القاف وتشديد الراء) أبو الأسود البصري العطار، روى عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، وابن الزبير، وابن عمرو، ومعقل بن يسار، وأبي بكرة، وأسماء بنت أبي بكر، وعنه ابنه سوادة، وابن عون، وشعبة، وغيرهم، وثقه أبو حاتم، والنسائي، وابن حبّان، والعجلي: الثقات لابن حبّان: 5/ 397، تهذيب التهذيب لابن حجر: 10/ 136. (¬7) أخرجه ابن حزم في المحلى: 7/ 60.

الدليل الثاني

الدّليل الثّاني: عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب أنّه قال في الشّيخ الكبير: إنّه يجهز رجلًا بنفقته، فيحج عنه (¬1). وجه الاستدلال من الأثرين: حيث أفتى الصّحابة - رضي الله عنهم - بوجوب الحجِّ عن الشّيخ الكبير، ومن في حكمه (¬2). وقد ورد نحو ذلك عن عطاء، وطاووس، ومجاهد (¬3)، وسعيد بن المسيَّب (¬4)، وغيرهم (¬5). د - أدلتهم من المعقول: الدّليل الأوّل: القياس على الصوم، فكما أن الحجِّ عبادة تجب بإفسادها الكفارة، فجاز أن يقوم غير فعله فيها مقام فعله، كالصوم، فإنّه إذا عجز عنه افتدى (¬6). مناقشة هذا الدّليل: هذا قياس مع الفارق، فلا يصح؛ لأنّ الفدية في حق الشّيخ الفانى بدل عن أصل الصوم بالنص، بخلاف الحجِّ فإن المال ليس بديلًا عن أصل الحجِّ، بدليل أنّه ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حزم في المحلى: 7/ 60. (¬2) المحلى لابن حزم: 7/ 59. (¬3) هو: مجاهد بن جبر أبو الحجاج المكي الأسور مولى السائب بن يزيد المخزومي الإمام شيخ القراء والمفسرين، روى عن ابن عبّاس، وأبي هريرة، وعائشة، وسعد بن أبي وقّاص، وابن عمر، وعنه عكرمة، وطاووس، وعطاء، وهم من أقرانه. وثقه يحيى بن معين، وطائفة، اختلف في وفاته على أقوال، فقيل: سنة 101، وقيل: سنة 102، وقيل: سنة 103، وقيل: سنة 104 هـ؛ والله أعلم: سير أعلام النُّبَلاء للذهبي: 4/ 449، تقريب التهذيب، ص/ 921. (¬4) هو: سعيد بن المسيَّب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو المخزومي القرشي، أحد أئمة التابعين الإثبات، الفقهاء الكبار، قال ابن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علمًا منه، مات بعد التسعين، وقد ناهز المْانين. (سير أعلام النُّبَلاء للذهبي: 4/ 217، تقريب التهذيب لابن حجر، ص / 388). (¬5) المحلى لابن حزم: 7/ 61. (¬6) الحاوي الكبير للماوردي: 5/ 12، المغني لابن قدامة: 5/ 20.

الدليل الثاني

لا يتأدى بالمال، وإنّما يتأدى بمباشرة النائب بالحج عنه (¬1). الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ المعضوب، ومن في حكمه يصدق عليه أنّه مستطيع، فيجب عليه الحجِّ؛ وذلك لأنّ الاستطاعة كما تكون بالنفس، تكون ببذل المال، وطاعة الرجال، ولهذا يقال لمن لا يحسن البناء: إنك مستطيع بناء دارك إذا كان معه ما يفي ببنائها (¬2). الدّليل الثّالث: القياس على الميِّت: فكما أنّه تجوز النيابة عن الميِّت فكذلك العاجز ببدنه عجزًا دائمًا يحامع أن كلًا منهما قد أيس من الحجِّ بنفسه (¬3). الترجيح: من خلال ما سبق من أدلة، وما دار حولها من مناقشات، وما أجيب به عنها يظهر- والله أعلم- رجحان القول الأوّل القاضي بوجوب النيابة في الحجِّ على العاجز عجزًا دائمًا، كالمعضوب ومن حكمه، إذا كان واجدًا للمال، ولمن ينوب عنه؛ وذلك لوجوب الحجِّ عليه. وإذا كان الحجِّ واجبًا عليه فإنّه يجب عليه في هذه الحالة أن يستنيب من يمَضي عنه الحجِّ الواجب عليه. ويعود سبب ترجيح هذا القول إلى ما يأتي: أوَّلًا: قوة أدلة أصحاب هذا القول، حيث جاءت أدلتهم ظاهرة في الوجوب من حيث الدلالة، وأمّا من حيث الثبوت فإن لهم أدلة من القرآن، وأدلة من السُّنَّة معظمها في البخاريّ ومسلم، أو في أحدهحا، وما كان منها خارجًا عن الصحيحين فهو صحيح، لا شك في صحته. ثانيًا: أن ما استدل به أصحاب الأقوال الأخرى من أدلة أمكن مناقشتها بما يضعف من دلالتها. ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي: 4/ 153، 154. (¬2) مغني المحتاج للشربيني: 1/ 469. (¬3) المهذب للشيرازي: 1/ 199.

المسألة الثانية: النيابة عن العاجز عجزا مؤقتا

ثالثًا: إنَّ في ترجيح هذا القول إعمال لظاهر الآية، ولظاهر النصوص الّتي جاءت صريحة عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في الدلالة على ما نحن فيه. رابعًا: في ترجيح هذا القول أخذ بالأحوط في الشّريعة الإسلامية؛ فإن الحجِّ أحد أركان الإسلام، ولا يجب في عمر الإنسان إِلَّا مرّة واحدة؛ فالاحتياط له مطلوب. المسألةُ الثّانية: النيابة عن العاجز عجزًا مؤقتًا العاجز عجزًا مؤقتًا كالمريض الّذي يُرجى برؤه، والمحبوس، ومن في حكمه، هل يجوز لهؤلاء الاستنابة في أداء ما وجب عليهم من حج أم لا؟ أم هل ينتظرون حتّى يزول العذر، ثمّ يؤدون الحجِّ بانفسهم؟ اتفق العلماء على أنّه لا يجوز لهؤلاء الاستنابة ابتداء، بل عليهم الانتظار حتّى يزول العذر، ثمّ يؤدون الحجِّ بانفسهم (¬1). ولكن، إذا خالف من كان عذره مؤقتًا، فاستناب من يؤدِّي عنه الحجِّ الواجب، فما الحكم؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأوّل: إنَّ الاستنابة لا تصح في هذه الحالة، ولا يجزئه الحجِّ عنه، ولاتبرأ ذمته بذلك، وإذا صح وجب عليه الحجِّ بنفسه. وإلى هذا ذهب جمهور العلماء من المالكية (¬2)، وهو القول الصحيح عند ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير لابن الهمام: 2/ 310، مجمع الأنّهر في شرح ملتقى الأبحر لداماد أفندي: 1/ 307، الكافي لابن عبد البر المالكي: 1/ 356، المنتقى للباجي: 2/ 269، مواهب الجليل للحطاب: 2/ 313، 494، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 2/ 18، المهذب للشيرازي: 1/ 199، المجموع للنووي: 7/ 112، 116، المغني لابن قدامة: 5/ 22. (¬2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 2/ 18.

أ - أن يستمر العذر حتى يموت.

الشّافعيّة (¬1)، وهو قول الحنابلة (¬2). القول الآخر: في ذلك تفصيل، وبيانه كالآتي: أ - أن يستمر العذر حتّى يموت. وفي هذه الحالة يكون الحجِّ عنه قد وقع مجزئًا، وتبرأ ذمته. ب- أن يزول عذره قبل الموت. وفي هذه الحالة يتبين أن الحجِّ لم يقع مجزئًا، ويجب عليه أن يباشر الحجِّ بنفسه. وإلى هذا ذهب الحنفية (¬3)، وهو قول عند الشّافعيّة (¬4). إِلَّا أن أبا يوسف، صاحب الإمام أبي حنيفة، لم يربط صحة الاستنابة هنا باستمرار العذر إلى الموت، وعدمه، وإنّما ربط ذلك بفعل النائب، فإذا برئ المريض، أو خبرج السجين قبل فراغ النائب من الحجِّ لزم المستنيب الإعادة بنفسه، وإن لم يبرأ إِلَّا بعد فراغ النائب فلا إعادة عليه، ويجزئه فعل النائب، وتبرأ ذمته (¬5). سبب الخلاف: يعود سبب الخلاف إلى أن العاجز عجزأ مؤقتًا المريض ونحوه، فيه شبهان شبه بالصحيح، وشبه بالمأيوس منه، فأمّا كونه يشبه الصحيح فلأن عذره مرجو الزَّوال، فأشبه الصحيح، وأمّا كونه يشبه المأيوس منه فلأنّه لا يقدر على الحجِّ بنفسه، فأشبه المأيوس من برئه. ¬

_ (¬1) المجموع للنووي: 7/ 116. (¬2) المغني لابن قدامة: 5/ 12، الإنصاف للمرداوي: 3/ 406. (¬3) شرح فتح القدير لابن الهمام: 2/ 310، مجمع الأنّهر لداماد أفندي: 1/ 307. (¬4) المهذب للشيرازي: 1/ 199. (¬5) الكفاية على الهداية لجلال الدِّين الخوارزمي: 3/ 67، مجمع الأنّهر في شرح ملتقى الأبحر لداماد أفندي: 1/ 308.

الأدلة والمناقشة

فمن غلب الجانب الأوّل منع النيابة عنه مطلقًا، ومن غلّب الجانب الآخر صحح النيابة عنه، وقال: يجزئه الحجِّ من النائب. الأدلة والمناقشة: أ - أدلة أصحاب القول الثّاني: استدلوا على مذهبهم ببعض الأدلة العقلية، منها: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ العلّة في جواز النيابة عن العاجز هي حصول اليأس عن الأداء بالبدن، وحينئذ تجوز له الاستنابة، والعاجز عجزًا مؤقتًا إنَّ دام به العذر إلى أن مات، تحقق اليأس عن الأداء بالبدن فوقع الحجِّ عنه موقع الجواز، وتبرأ ذمته. وإن برأ من مرضه، أو خرج من حبسه تبين أنّه لم يقع فيه الياس عن الأداء بالبدن؛ فيلزمه حينئذ أن يحج بنفسه (¬1). مناقشة هذا الدّليل: أوَّلًا: حاصل هذا التعليل هو إلحاق من يرجى زوال عذره بمن لا يُرجى زوال عذره، وهو المأيوس منه، وفي هذا الإلحاق نظر؛ لأنّ المأيوس من برئه عاجز على الإطلاق، آيس من القدرة على الأصل، فأشبه الميِّت (¬2). ثانيًا: أن النص قد ورد في الحجِّ عن الشّيخ الكبير، وهو ممّن لا يُرجى منه الحجِّ بنفسه، فلا يقاس عليه إِلَّا من كان مثله (¬3). ب - أدلة أصحاب القول الأوّل: استدل هؤلاء بما يأتي: ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي: 4/ 152، 153، وانظر: المهذب للشيرازي: 1/ 199. (¬2) المغني لابن قدامة: 5/ 22، وانظر: المجموع للنووي: 7/ 116. (¬3) المغني لابن قدامة: 5/ 22.

الترجيح

الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ العاجز عجزًا مؤقتًا يرجو القدرة على الحجِّ بنفسه، فلم يكن له الاستنابة، ولا تجزئه إنَّ فعل كالفقير (¬1)، فإن الفقير يرجو الغنى، ولذا لا تجوز له اللاستنابة. الدّليل الثّاني: أن النص إنّما جاء في حق من كان عذره دائمًا، كالشيخ الكبير، ومن في حكمه، فيقتصر على ما ورد به النص، ويلحق به من كان مثله (¬2). الترجيح: الّذي يظهر من خلال الأدلة، والمناقشات هو رجحان القول الأوّل القاضي بمنع الاستنابة في حق من يرجى زوال عذره كالريض مرضًا عارضًا، والمحبوس، ومن في حكمه. ووجه هذا الترجيح قوة ما علل به أصحاب القول الأوّل؛ حيث جاء متمشيًا مع ظاهر الأدلة، وأصول الشّرع. وما علل به أصحاب القول الثّاني إنّما هو قياس لا يصح، كما سبق بيانه. ثمّ إنّه جاء مخالفًا لظاهر الأحاديث النبوية الّتي جاءت فيها الرُّخصة لمن كان عجزه دائمًا دون من سواه. ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة: 5/ 22. (¬2) انظر: المغني لابن قدامة: 5/ 22.

المطلب الثاني النيابة في حج التطوع

المطلب الثّاني النيابة في حج التطوع الفرع الأوّل النيابة عن القادر في حج التطوع تقدّم الكلام عن النيابة عن الحي القادر في الحجِّ الواجب، وأنّها لا تصح بالإجماع. أمّا النيابة عن الحي القادر الصحيح في حج التطوع فقد اختلف العلماء في حكمها على قولين: القول الأوّل: يجوز للحي القادر على الحجِّ بنفسه أن يستنيب في حج التطوع. بهذا قال الحنفية (¬1)، والشّافعيّة في قول (¬2)، وهو إحدى الروايتين عند الحنابلة، وهي المذهب (¬3). ¬

_ (¬1) الأصل لمحمد بن الحسن: 2/ 505، المبسوط للسرخسي: 4/ 152، حاشية ابن عابدين: 2/ 38. (¬2) المهذب للشيرازي: 1/ 199، مغني المحتاج للشربيني: 1/ 470. (¬3) المغني لابن قدامة: 5/ 22، 23، الإنصاف للمرداوي: 3/ 418. وقد قسم ابن قدامة النيابة في حج التطوع ثلاثة أقسام: * القسم الأوّل: أن يكون ممّن لم يؤد حجة الإسلام، فلا يصح أن يستنيب في حجة التطوع؛ لأنّه لا يصح أن يفعله بنفسه، فبنائبه أولى. * القسم الثّاني: أن يكون ممّن أدى حجة الإسلام، وهو عاجز عن الحجِّ بنفسه، فيصح أن يستنيب في التطوع، فإن ما جازت الاستنابة في فرضه، جازت في نفله، كالصدقة. * القسم الثّالث: أن يكون ممّن أدى حجة الإسلام، وهو قادر على الحجِّ بنفسه، فهل له أن يستنيب في حجة التطوع؟ فيه روايتان ...

الأدلة والمناقشة

القول الآخر: لا يجوز للحي القادر أن يستنيب في حج التطوع، ولا تصح الاستنابة. وقد ذهب إلى هذا القول المالكية في المعتمد في المذهب (¬1)، وهو قول عند الشّافعيّة، وهو المذهب (¬2)، وهو الرِّواية الثّانية عند الحنابلة (¬3). الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة القول الثّاني: استدل من منع الاستنابة في حق الصحيح القادر في حج التطوع بما يأتي: القياس على حج الفرض، فكما أن الصحيح القادر لا يجوز له الاستنابة في حج الفرض فكذلك لا تجوز الاستنابة في حج التطوع؛ لأنّه قادر على الحجِّ بنفسه (¬4). مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الدّليل بما يأتي: أنّه لا يلزم من المنع من الاستنابة في الفرض للقادر المنع منها في التطوع، لأنّ الأمر في التطوع موسع عليه، ويجوز فيه ما لا يجوز في الفرض، كما في الصّلاة، فإنّه يجوز في صلاة التطوع القعود فيها مع القدرة على القيام، ولا يجوز ذلك في الفرض، فكذا هنا (¬5). الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ الأصل في أعمال الأبدان أن النيابة فيها لا تجوز، وإنّما ¬

_ (¬1) الكافي لابن عبد البر: 1/ 357، حاشية الدسوقي: 2/ 18. (¬2) المهذب للشيرازي: 1/ 199، والمجموع للنووي: 7/ 114، قال النووي: " فأمّا حج التطوع فلا تجوز الاستنابة فيه عن حي ليس بمعضوب ... ". (¬3) المغني لابن قدامة: 5/ 23، الإنصاف للمرداوي: 3/ 418. (¬4) المهذب للشيرازي: 1/ 199، المجموع للنووي: 7/ 112، المغني لابن قدامة: 5/ 23. (¬5) المبسوط للسرخسي: 4/ 152.

ثانيا: أدلة القول الأول

جاز في حجة الإسلام؛ لأجل الضّرورة، وتعذر أداء الفرض، وهذا غير موجود في حج التطوع، فلا تجوز الاستنابة فيه (¬1). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الدّليل بما يأتي: أن النصوص، وإن دلت على جواز النيابة في الفرض للضرورة، إِلَّا أنّها لم تمنع النيابة في التطوع، ثمّ إنَّ فرض الحجِّ لازم لكل مكلف قادر مستطيع بنفسه، بخلاف التطوع، فإنّه لا يلزمه؛ فيجوز أن يفعله بنفسه، أو بغيره. ثانيًا: أدلة القول الأوّل: استدل من قال بالجواز بما يأتي: الدّليل الأوّل: قالوا: يجوز للقادر أن يستنيب في حج التطوع؛ لأنّه حجة لا تلزمه بنفسه، فجاز أن يستنيب فيها كالعضوب (¬2). الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ كلّ عبادة جازت النيابة في فرضها، جازت النيابة في نفلها، كالصدقة. وعليه، فإذا جازت النيابة في فرض الحجِّ جازت النيابة في نفله (¬3). الدّليل الثّالث: قالوا: إنَّ الاستنابة في حج التطوع هي عبارة عن إنفاق المال في طريق الحجِّ، ولو فعله الإنسان بنفسه كان طاعة عظيمة، فكذلك إذا صرفه إلى غيره ليفعله عنه يكون جائزًا، وأمّا كونه صحيحًا فلا يمنعه ذلك عن أداء التطوع بهذا الطريق، وإن كلان يمنعه من أداء الفرض؛ لأنّ الأمر في التطوع موسع عليه، فإنّه يجوز في التطوع ما لا يجوز في الفرض، كما في الصّلاة، فجوز في تطوعها أن يصلّي قاعدًا مع القدرة على القيام، فكذلك هنا في حجة الإسلام (¬4). الترجيح: الراجح من القولاين هو القول الأوّل؛ لقوة ما عللوا به، ولأن ما علل به أصحاب القول الثّاني أمكن مناقشته. ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير للماوردي: 5/ 21. (¬2) المغني لابن قدامة: 5/ 23. (¬3) المهذب للشيرازي: 1/ 199. (¬4) المبسوط للسرخسي: 4/ 152.

الفرع الثاني النيابة عن العاجز في حج التطوع

الفرع الثّاني النيابة عن العاجز في حج التطوع العاجز عن الحجِّ سواء أكان عجزه دائمًا أم مؤقتًا، هل يجوز له الاستنابة في حج التطوع أم لا؟ اختلف العلماء في حكم ذلك على قولين: القول الأوّل: يجوز للعاجز أن يستنيب في حج التطوع. وإلى هذا ذهب الحنفية (¬1)، والشّافعيّة على القول الصحيح عندهم (¬2)، والحنابلة (¬3)، والظاهرية (¬4). القول الآخر: لا يجوز للعاجز أن يستنيب في حج التطوع. وبه قال المالكية (¬5)، وهو قول عند الشّافعيّة (¬6). الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة أصحاب القول الثّاني: استدل من منع الاستنابة في حج التطوع عن العاجز بما يأتي: الدّليل الأوّل: قالوا: لا تجوز الاستنابة في حج النفل عن العاجز؛ لأنّه غير مضطر إلى الاستنابة فيه، فلم تجز الاستنابة فيه قياسًا على الصحيح (¬7). ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير لابن الهمام: 2/ 311، مجمع الأنّهر لداماد أفندي: 1/ 308. (¬2) المهذب للشيرازي: 1/ 199، فتح العزيز شرح الوجيز للرافعي: 7/ 40. (¬3) المغني لابن قدامة: 5/ 23، الإنصاف للمرداوي: 3/ 419. (¬4) المحلى لابن حزم: 8/ 191، 192. (¬5) حاشية الدسوقي: 2/ 18، الشرح الصغير للدردير: 2/ 15. (¬6) المهذب للشيرازي: 1/ 199، فتح العزيز شرح الصغير للرافعي: 7/ 40. (¬7) المهذب للشيرازي: 1/ 199.

مناقشة الاستدلال

مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الدّليل بما يأتي: أن القياس على الصحيح لا يصح؛ لأنّ ذلك قياس على مسالة خلافية، ثمّ إنّه قد تقدّم أن الراجح جواز الاستنابة في حق الصحيح. الدّليل الثاني: قالوا: إنَّ العبادات البدنية بعيدة عن قبول الاستنابة، وإنّما جوزنا ذلك في الفرض للضرورة (¬1). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الدّليل بما يأتي: أوَّلًا: لا نسلم لكم أن العبادات البدنية بعيدة عن قبول الاستنابة، بل تقبل النيابة، وقد تقدّم ذلك في أكثر من مبحث. ثانيًا: أن الحجِّ ليس عبادة بدنية محضة، بل هو عبادة مركبة من المال، والبدن؛ ففارق العبادات البدنية بذلك (¬2). ثالثًا: أن حج التطوع موسع فيه، بخلاف حج الفرض، فيجوز في التطوع ما لايجوز في الفرض، فلا يلزم من صحة الاستنابة في الفرض للضرورة منع ذلك في التطوع (¬3). ثانيًا: أدلة أصحاب القول الأوّل: استدل من أجاز الاستنابة في حج التطوع عن العاجز بما يأتي: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ الحجِّ عبادة تدخل النيابة في فرضها، فتدخل في نفلها؛ لأنّ كلّ عبادة جازت النيابة في فرضها جازت النيابة في نفلها كالصدقة (¬4). ¬

_ (¬1) فتح العزيز شرح الوجيز للرافعي: 7/ 40، الحاوي للماوردي: 5/ 21. (¬2) المبسوط للسرخسي: 4/ 152، المنتقى للباجي: 2/ 271. (¬3) انظر: المبسوط للسرخسي: 4/ 152. (¬4) المهذب للشيرازي: 1/ 199، فتح العزيز شرح الوجيز للرافعي: 7/ 40.

الدليل الثاني

مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الدّليل بما يأتي: أوَّلًا: أن القياس على الزَّكاة لا يصح. لأنّه قياس مع الفارق، وبيان ذلك: أن الزَّكاة عبادة مالية محضة تدخل النيابة فيها إجماعًا، بخلاف الحجِّ فإنّه عبادة مركبة من المال، والبدن. ثانيًا: أن قياس جواز الاستنابة في النفل على جواز ذلك في الفرض غير مسلم؛ لأنّ النيابة في الفرض مختلف فيها، فمنعها البعض، وأجازها البعض، ثمّ إنَّ من أجازها في الفرض إنّما علل ذلك بالضرورة، ولا ضرورة في النفل. الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ حج النفل حج لا يلزمه، عجز عن فعله بنفسه، فجاز له أن يستنيب فيه كالشيخ الكبير (¬1). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الدّليل بما يأتي: أن القياس على الشّيخ الكبير قياس مع الفارق، فإن الشّيخ الكبير ثبتت النيابة عنه بالنص للضرورة؛ لأنّ الحجِّ واجب عليه، بخلاف المستنيب في حج التطوع فإن الحجِّ ليس واجبًا عليه، فلا ضرورة تدعو للاستنابة. الترجيح: بالنظر في أدلة الفريقين، وما علل به كلّ فريق، وما ورد على هذه الأدلة من مناقشة يظهر رجحان القول الأوّل القاضي بجواز الاستنابة للعاجز في حج التطوع؛ وذلك لما يأتي: أوَّلًا: أن القول بالجواز أقرب إلى نصوص الشّرع، حيث جاءت النصوص تجيز الاستنابة في الفريضة، للعاجز، ونحوه، فإذا جازت النيابة في الفرض جازت في النفل من باب أولى. ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة: 5/ 23.

ثانيًا: أن عُرف الشّرع التوسع، والتيسير في باب التطوعات، فيجوز في التطوع ما لا يجوز في الفرض، ومن أمثلة ذلك الصّلاة، كما مرّ سابقًا في الفرع الأوّل. ثالثًا: أن الاستطاعة كما تكون بالبدن تكون بالمال؛ لأنّ الحجِّ عبادة مركبة منهما، فإذا عجز ببدنه فهو مستطيع بما له، وبمن ينوب عنه، فيدخل تحت الآية {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، فإذا كان ذلك في الفرض، فكذلك في النفل؛ لأنّه يشترط في النفل ما يشترط للفوض، ولا فرق.

المبحث الثاني النيابة في الحج والعمرة عن الميت

المبحث الثّاني النيابة في الحجِّ والعمرة عن الميِّت المطلب الأوّل النيابة عن الميِّت في الحجِّ الواجب اتفق العلماء على أن الميِّت إذا أوصى بالحج عنه، فإن النيابة عنه في هذه الحالة جائزة، ولا خلاف بينهم في ذلك (¬1). أمّا إذا مات، ولم يوص؛ فهل تصح النيابة عنه في هذه الحالة أم لا؟ اختلف العلماء في حكم ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأوّل: تجب النيابة عن الميِّت في الحجِّ الواجب إذا مات، ولم يوص به، ويلزم ورثته أن يقيموا من يحج عنه من رأس ماله، ولا بد، إذا لم يوجد من يحج عنه تطوعًا. وإلى هذا ذهب الشّافعيّة (¬2)، والحنابلة (¬3)، والظاهرية (¬4)، وروي ذلك عن أبي ¬

_ (¬1) الحجة على أهل المدينة لمحمد بن الحسن: 2/ 225. 226، مختصر اختلاف العلماء لأبي جعفر الطحاوي: 2/ 91، حاشية ابن عابدين: 2/ 239، المدوّنة للإمام مالك: 1/ 491، المنتقى للباجي: 2/ 271، البيان والتحصيل لابن رشد: 3/ 419، حاشية الدسوقي: 2/ 18، الحاوي الكلبير للماوردي: 5/ 19، 20، المجموع للنووي: 7/ 116.المغنى لابن قدامة: 5/ 38، الإنصاف للمرداوي: 3/ 409. (¬2) الحاوي الكبير للماوردي: 5/ 19، 20.المجموع للنووي: 7/ 112، 114. (¬3) المغني لابن قدامة: 5/ 38، كشاف القناع للبهوتي: 2/ 393. (¬4) المحلى لابن حزم: 7/ 62.

هريرة، وابن عبّاس، وهو قول الحسن البصري، وسعيد ابن المسيَّب، وعطاء، والأوزاعي (¬1)، والثوري، وأبي ثور، وإسحاق، وغيرهم (¬2). القول الثّاني: قالوا: إنَّ النيابة عن الميِّت جائزة، وليست واجبة؛ لأنّ فرض الحجِّ يسقط عنه، فلا يجب على ورثته الإحجاج عنه، فإن تبرعوا عنه بالحج هم أو غيرهم ممّن هم أهل للتبرع جاز ذلك. وبهذا قال الحنفية (¬3). ¬

_ (¬1) هو: عبد الرّحمن بن عمرو بن يُحمد بن عمرو الأوزاعي، أبو عمرو، إمام المسلمين في زمانه وإمام أهل الشّام خاصّة، الفقيه المحدث شيخ الإسلام أحد أتباع التابعين، ولد ببعلبك سنة 88 هـ، أجمع العلماء على إمامته، قال ابن حجر: ثقة جليل، من مؤلفاته: كتاب السنن، والمسائل وغيرها، توفي سنة 157 هـ ببيروت مرابطًا في سبيل الله: تذكرة الحفاظ للذهبي: 1/ 178، تقريب التهذيب لابن حجر ص/593. (¬2) المحلى لابن حزم: 7/ 64. 65، المغني لابن قدامة: 5/ 38. (¬3) الحجة على أهل المدينة لمحمد بن الحسن: 2/ 227، شرح فتح القدير لابن الهمام: 2/ 320، حاشية ابن عابدين: 2/ 239، تنبيه: نسب الإمامان ابن حزم، والنووي إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، القول بالمنع من النيابة إذا لم يوص، وهذه النسبة الّتي يظهر أنّها خطأ؛ لأنّ المنقول عن أبي حنيفة هو القول بالجواز. قال ابن عابدين نقلًا عن مناسك السروجي: "لو مات رجل بعد وجوب الحجِّ، ولم يوص به فحج رجل عنه، أو حج عن أبيه وأمه عن حجة الإسلام من غير وصية، قال أبو حنيفة: يجزيه إن شاء الله تعالى". قال ابن عابدين: "والمعنى: جاز عن حجة الإسلام إن شاء الله تعالى". قلت: ولعلّ عذر هذين الإمامين في ذلك أنّه قد يفهم من القول بسقوط فرض الحجِّ عن الميِّت بالموت عند الحنفية، المنع من النيابة كما هو مذهب المالكية، ولكن مرادهم بسقوط الحجِّ عن الميِّت هو سقوط الوجوب، بحيث لا يجبر الورثة على ذلك، بخلاف ما إذا أوصى به فإنهم يجبرون على ذلك، والله تعالى أعلم. انظر: حاشية الشلبي على تببين الحقائق: 2/ 85، وحاشية ابن عابدين: 2/ 239، المجموع للنووي:7/ 112، المحلى لابن حزم: 7/ 62.

الأدلة والمناقشة

القول الثّالث: لا تجوز النيابة عن الميِّت في الحجِّ الواجب إذا لم يوص به، وهذا مذهب المالكية (¬1)، وبه قال بعض أهل العلم (¬2). الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة القول الثّالث: استدل من منع النيابة في الحجِّ الواجب عن الميِّت - إذا لم يوص - ببعض الأدلة منهاة الدّليل الأوّل: قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]. وجه الاستدلال: أن الميِّت لا يستطيع سبيلًا إلى الحجِّ، لصدق قول من يقول: إنّه غير مستطيع بنفسه، فلا فرض عليه أصلًا حتّى تقع النيابة عنه (¬3). مناقشة الاستدلال: أوَّلًا: إنَّ النيابة عن الميِّت قد ثبتت بالنص كما سيأتي (¬4). ثانيًا: إنَّ الميِّت، كان كان غير مستطيع بنفسه، إِلَّا أنّه مستطيع بماله، وبغيره فهو بهذا المعنى داخل في عموم الآية. الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ الحجِّ شُرع لمصالح، ومقاصد عظيمة، ومن هذه المصالح: تأديب النفس بمقارفة الأوطان، وتهذيبها بالخروج عن المعتاد من المخيط، وغيره؛ ليذكر المعاد، والاندراج في الأكفان، وتعظيم شعائر الله تعالى في تلك ¬

_ (¬1) الشرح الصغير للدردير: 2/ 15، حاشية الدسوقي: 2/ 96، الذّخيرة للقرافي: 3/ 194، الفروق للقرافي: 2/ 205. (¬2) المحلى لابن حزم: 7/ 64، 65، المغني لابن قدامة: 5/ 38. (¬3) مواهب الجليل من أدلة خليل الشّيخ أحمد الجكني الشنقيطي: 2/ 96، الحاوي للماورري: 5/ 20. (¬4) كما في أدلة أصحاب القول الأوّل.

مناقشة هذا الدليل

البقاع، وإظهار الانقياد من العبد لما لم يعلم حقيقته؛ كرمي الجمار، وهذه مصالح لا تحصل إِلَّا للمباشر، كالصلاة (¬1). مناقشة هذا الدّليل: أوَّلًا: إنَّ النيابة عن الميِّت قد ثبتت بالنص كما سيأتي، فلا عبرة بهذا التعليل. ثانيًا: إنَّ القياس على الصّلاة قياس لا يصح، وقد تقدّم الخلاف فيها، والقياس على أصل مختلف فيه لا يصح، وقد تقدّم بيان ذلك (¬2). ثالثًا: إنَّ هذا قياس مع الفارق، فإن الحجِّ عبادة تشتمل على المال، والبدن، بخلاف الصّلاة، فإنها عبادة بدنية محضة لا يدخلها المال (¬3). الدّليل الثّالث: قالوا: إنَّ الحجِّ عبادة بدنية، فتسقط بالموت، كالصلاة (¬4). مناقشة الدّليل: يناقش هذا الدّليل بما نوقش به الدّليل الثّاني. ثانيًا: أدلة أصحاب القول الثّاني: استدل من قال بالجواز بما يأتي: يلحظ في أدلة هؤلاء أنّها ذات شقين: الشق الأوّل: أدلتهم على سقوط الواجب عن الميِّت. وأدلة هذا الشق هي نفسها أدلة المانعين، إِلَّا أن المالكية استدلوا بها على المنع من النيابة بالكلية، وأمّا الحنفية فاستدلوا بها على سقوط الواجب فقط، وأمّا فعل غيره عنه فيجوز (¬5). ¬

_ (¬1) الذّخيرة للقرافي: 3/ 194، الفروق للقرافي: 2/ 205. (¬2) راجع ص/ 161 من هذا البحث. (¬3) المجموع للنووي: 7/ 101. (¬4) المغني لابن قدامة: 5/ 38. (¬5) تببين الحقائق للزيلعي مع حاشية الشلبي: 2/ 85، حاشية ابن عابدين: 2/ 239.

ثالثا: أدلة أصحاب القول الأول

الشق الآخر: أدلتهم على جواز النيابة. وهذه الأدلة هي أدلة القائلين بالوجوب، إِلَّا أن الحنفية حملوها على الجواز دون الوجوب جمعًا بين الأدلة (¬1). ثالثًا: أدلة أصحاب القول الأوّل: استدل أصحاب هذا القول بادلة من القرآن، والسُّنَّة، والأثر، والمعقول: أ - أدلتهم من القرآن: قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النِّساء: 12]. وهذه الآية تقدمت مرارًا مع ذكر وجه الاستدلال منها، وما نوقش به وجه الاستدلال، وما أجيب به عن ذلك (¬2). ب - أدلتهم من السُّنَّة: الدّليل الأوّل: عن بريدة - رضي الله عنه - قال: جاءت امرأة إلى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، فقالت: إنَّ أمي ماتت، ولم تحج، أفاحج عنها؟ قال: (نعم حجي عنها) (¬3). وجه الاستدلال: حيث دل الحديث بظاهره على وجوب الحجِّ عن الميِّت، أوصى بذلك، أو لم يوص؛ فقد أمر رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - المرأة بالحج عن أمها، ولم يستفصل منها، هل أوصت أم لا؛ فدل على وجوب النيابة على الأولياء في مال الميِّت مطلقًا، أوصى بذلك أم لم يوصِ. ¬

_ (¬1) الحجة على أهل المدينة لمحمد بن الحسن: 2/ 227 وما بعدها. (¬2) انظر: مبحث الاستئجار على الصّلاة عن الغير، ص 156. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الصِّيام، باب قضاء الصِّيام عن الميِّت: 2/ 805 (1149). والترمذي في كتاب الحجِّ، باب ما جاء في الحجِّ عن الشّيخ الكبير والميِّت: 3/ 269 (929). قال التّرمذيّ: وهذا حديث صحيح.

الدليل الثاني

الدّليل الثّاني: عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، أن امرأة من جهينة، جاءت إلى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، فقالت: إنَّ أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتّى ماتت؛ أفاحج عنها؟ قال - صلّى الله عليه وسلم -: "نعم، حجي عنها؛ أرأيت لو كان على أمك دين، أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء" (¬1). وفي رواية عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: أتى رجل النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، فقال: إنَّ أختي نذرت أن تحج، وإنها ماتت؛ فقال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "لو كان عليها دين أكنت قاضيه"؟ قال: نعم؛ فقال: "فاقض الله، فهو أحق بالقضاء" (¬2). وجه الاستدلال: حيث دلّ الحديث بظاهره على أن من مات، وعليه حج، وجب على وليه أن يجوز من يحج عنه من رأس ماله، كما أدت عليه قضاء ديونه، وقد أجمعوا على أن دين الآدمي من رأس المال، فكذلك ما شبه به في القضاء" (¬3). الدّليل الثّالث: عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال: أمرت امرأة سنان بن سلمة الجهني أن يسأل رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أن أمها ماتت، ولم تحج؛ أفيجزئ عن أمها أن تحج عنها؟ قال - صلّى الله عليه وسلم -: إنَّعم، لو كان على أمها دين فقضته عنها، ألم يكن يجزئ عنها؟ فلتحج عن أمها) (¬4). وجه الاستدلال: دل الحديث على وجوب الحجِّ عن اليت الّذي مات ولم يحج أوصى بذلك، أو لم يوص لورود الأمر الصريح بذلك في قوله - صلّى الله عليه وسلم -: (فلتحج عن أمها)، ولم يستفصل ¬

_ (¬1) تقدّم تخريجه في مبحث النيابة في الصّلاة، ص 159. (¬2) تقدّم تخريجه في مبحث النيابة في الصّلاة، ص 160. (¬3) نيل الأوطار للشوكاني: 4/ 287. (¬4) أخرجه النسائي في مناسك الحجِّ، باب الحجِّ عن الميِّت الّذي يحج: 5/ 123 (2632)، قال الألباني: صحيح الإسناد (صحيح سنن النسائي: 2/ 558).

جـ- أدلتهم من الأثر

السائلة، هل أوصت أمها بالحج أم" (¬1). جـ- أدلتهم من الأثر: الدّليل الأوّل: عن أبي هريرة - صلّى الله عليه وسلم - قال: من مات وعليه نذر، أو حج، فليقض عنه وليه (¬2). الدّليل الثّاني: عن ابن عبّاس رضي الله عنهما: أن امرأة أتته فقالت: إنَّ أمي ماتت وعليها حجة، أفاحج عنها؟ فقال ابن عبّاس: هل كان على أمك دين؟ قالت: نعم. قال: فما صنعت؟، قالت: قضيته ععها. قال ابن عبّاس: فالله خير غرمائك، حجي عن أمك (¬3). وقد ورد نحو ذلك عن جمع من السلف، منهم: سعيد بن السيب، وسعيد ابن (¬4) جبير، وإبراهيم النخعي (¬5)، وعطاء، وسفيان الثّوريّ، وطاووس، وغيرهم (¬6) فقد أفتى هذا الجمع من الصّحابة، والتابعين، بوجوب الحجِّ عن الميِّت الّذي مات ولم يحج، أوصى بذلك، أو لم يوص (¬7). ¬

_ (¬1) الحاوي للماوردي: 5/ 20. (¬2) المحلى لابن حزم: 7/ 63. (¬3) المرجع السابق نفسه. (¬4) هو: سعيد بن جبير بن هشام الأسدي مولاهم أبو عبد الله الكوفي الفقيه المُقرئ، من كبار أئمة التابعين حبشي الأصل، سحع من كبار الصّحابة كابن عمر، وابن عبّاس، وابن الزبير، وأنس، وأخذ عنه العلم جماعات من التابعين، وأحاديثه في الكتب الستة، قتله الحجاج ظلما سنة 95 هـ: سير أعلام النُّبَلاء للذهبي: 4/ 321. (¬5) هو إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي اليماني ثمّ الكوفي، أحد الأعلام الإمام الحافظ فقيه العراق، أدرك جماعة من الصّحابة، ودخل على عائشة وهو صبي، ولم يحدث عن الصّحابة، روى عن الأسود بن يزيد، ومسروق، وعلقمة، وغيرهم، وروى عنه حماد بن أبى سليمان، وسماك بن حرب، وإبراهيم بن المهاجر، وغيرهم، توفي سنة 96 هـ: سير أعلام النُّبَلاء للذهبي: 4/ 520. (¬6) المحلى لابن حزم: 7/ 63. (¬7) المرجع السابق: 7/ 64.

د - أدلتهم من المعقول

د - أدلتهم من المعقول: قالوا: إنَّ الحجِّ حق تدخله النيابة في حال الحياة، وقد لزمه هذا الحق، واستقر عليه في حياته، فوجب أن لا يسقط عنه بالموت؛ كدين الآدمي (¬1). الترجيح: من خلال ما سبق ذكره من أدلة، وما ورد عليها من مناقشات، وما أجيب به عن ذلك يتضح رجحان القول الأوّل القاضي بوجوب النيابة عن الميِّت الّذي عليه حجة الإسلام، أو أي حج واجب، سواء أوصى بذلك، أم لم يوص ويعود سبب هذا الترجيح إلى ما يأتي: أوَّلًا: قوة أدلتهم؛ حيث استدلوا بأدلة نقلية صريحة في وجوب النيابة عن الميِّت، أوصى بذلك، أم لم يوص. ثانيًا: أن ما استدل به المخالف أمكن الجواب عنه، ممّا يضعف من دلالته. ثالثًا: أن في القول بوجوب النيابة تبرئة لذمة اليت، وإلزامًا لأوليائه بالتعجيل في ذلك، فإن القول بالجواز قد يدفعهم إلى التكاسل، والتهاون في قضاء الحجِّ عن الميِّت، ثمّ إنَّ القول بالمنع لا مصلحة فيه، بل القول بالوجوب هو الأحوط، وهو الّذي يتمشى مع النصوص الكثيرة الصريحة في وجوب النيابة عن الميت في أداء ما وجب عليه من الحجِّ، سواء أكانت حجة الإسلام، أم حجة من نذر، أو قضاء. ثمرة الخلاف: يترتب على القول بوجوب النيابة عن اليت في أداء ما وجب في ذمته من الحجِّ ما يأتي: أوَّلًا: يجب على الأولياء المسارعة بإقامة من يحج عن ميتهم من رأس ماله ما لم ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير للماوردي: 5/ 20، المهذب للشيرازي: 1/ 199، المغني لابن قدامة: 5/ 38، 39.

يتطوع عنه أحد بذلك (¬1). ثانيًا: يلزم الإنسان ان يوصي قبل موته بالحج عنه، إذا مات، ولم يتمكن من أداء ما وجب عليه من الحجِّ، وذلك أبرأ لذمته، وفيه إقامة لعذره عند الله تعالى. ¬

_ (¬1) المجموع للنووي: 7/ 112، 114، المغني لابن قدامة: 5/ 38، المحلى لابن حزم: 7/ 62.

المطلب الثاني النيابة عن الميت في حج التطوع

المطلب الثّاني النيابة عن الميِّت في حج التطوع اختلف العلماء في حكم النيابة في حج التطوع عن الميِّت على ثلاثة أقوال: القول الأوّل: يجوز مطلقًا النيابة عن الميِّت في حج التطوع، سواء أوصى بذلك أم لم يوص. وإلى هذا القول ذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2)، والظاهرية (¬3). القول الثّاني: تجوز النيابة عن الميِّت في حج التطوع، إذا أوصى به، أمّا إذا لم يوص، فلا تجوز. وإلى هذا القول ذهب المالكية (¬4)، والشّافعيّة في القول الصحيح عندهم (¬5). القول الثّالث: لا يجوز مطلقًا النيابة عن الميِّت في حج التطوع أوصى بذلك أم لا. وبه قال بعض الشّافعيّة (¬6). الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة المانعين مطلقًا: استدل هؤلاء بما يأتي: قالوا: إنَّ الأصل في أعمال الأبدان أن النيابة فيها لا تجوز، وإنّما جازت في حجة ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين: 5/ 424، الفتاوى الهندية: 1/ 357. (¬2) المغني لابن قدامة: 5/ 27، الإنصاف للمرداوي: 3/ 419. (¬3) المحلى لابن حزم: 8/ 191، 192. (¬4) المدوّنة للإمام مالك: 1/ 491، بداية المجتهد لابن رشد: 1/ 320. الشرح الصغير للدردير: 2/ 15. (¬5) الحاوي الكبير للماوردي: 5/ 21، المجموع شرح المهذب للنووي: 7/ 114. (¬6) الحاوي للماوردي: 5/ 21، المجموع للنووي: 7/ 114.

مناقشة الاستدلال

الإسلام؛ لأجل الضّرورة، وتعذر أداء الفرض، وهذا غير موجود في التطوع (¬1). مناقشة الاستدلال: لقد سبقت مناقشة هذا الدّليل، عند مناقشة أدلة من منع النيابة عن العاجز في حج التطوع، فأغنى عن الإعادة. ثانيًا: أدلة أصحاب القول الثّاني: أمّا الأدلة الّتي استدل بها هؤلاء على جواز النيابة عن الميِّت إذا أوصى، فهي نفسها أدلة أصحاب القول الأوّل، وستأتي إن شاء الله تعالى. وأمّا ما استدلوا به على المنع إذا لم يوص، فهو التعليل المتقدم لأصحاب القول الثّالث. ثالثًا: أدلة القائلين بالجواز مطلقًا: استدل هؤلاء بما يأتي: تقدّم ذكر ما استدل به هؤلاء عند ذكر أدلة من قال يحواز النيابة في حج التطوع عن العاجز. الترجيح: من خلال ما ذكره أصحاب هذه الأقوال من أدلة، وما ورد عليها من مناقشات، يتبين رجحان القول الأوّل القاضي بجواز النيابة عن الميِّت في حج التطوع؛ وذلك لما يأتي: أوَّلًا: قوة ما عللوا به؛ حيث جاءت هذه التعليلات متمشية مع النصوص الشرعية الّتي تجيز النيابة في الفرض؛ فيكون في النفل من باب أولى. ¬

_ (¬1) الحاوي للماوردي: 5/ 21، فتح العزيز شرح الوجيز للرافعي: 7/ 40.

ثانيًا: أن ما علل به أصحاب الأقوال الأخرى أمكن مناقشته. ثالثًا: أن القول يحواز النيابة فيه إحسان للميت، ورفع لدرجته، وتكفير لسيئاته، في وقت هو أحوج ما يكون لكل ما ينفعه في قبره. رابعًا: أنّه قد عُرف عن الشارع التوسع والتيسير، في باب التطوعات فنجد أنّه يجوز في التطوع ما لا يجوز في الفرض.

المبحث الثالث أنواع المال المأخوذ على الحج والعمرة

المبحث الثّالث أنواع المال المأخوذ على الحجِّ والعمرة المطلب الأوّل النفقة وما في معناها المال المأخوذ على الحجِّ في مجمله ثلاثة أنواع، هي: نفقة، أو جعالة، أو إجارة (¬1)، ولكل واحد من هذه الأنواع حكمه من حيث الجواز، وعدمه، على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى. أوَّلًا: المراد بالنفقة في الحجِّ: النفقة (¬2) في الحجِّ: هي أن يُعطى النائب في الحجِّ نفقة حجه مدة ذهابه وإيابه، من موضعه الّذي حج منه، إلى أن يعود إليه؛ وذلك قدر كفايته بالمعروف، من غير تبذير، ولا تقتير، في طعامه، وشرابه، وثيابه، وركوبه، وما لابد منه (¬3). وعليه، فإن فضل معه شيء من النفقة ردّه، وان نقص عليه شيء من النفقة أخذه (¬4). ¬

_ (¬1) مجموع رسائل ابن عابدين (رسالة شفاء العلّيل): 1/ 157 - 0163 الذّخيرة للقرافي: 3/ 194، مواهب الجليل للحطاب: 2/ 546، شرح الزرقاني على خليل: 2/ 238، الحاوي الكبير للماوردي: 5/ 343، 367، روضة الطالبين للنووي: 3/ 18، المجموع للنووي: 7/ 120، الإنصاف للمرداوي: 6/ 45 - 47، الروض المربع مع حاشية ابن قاسم: 5/ 320، 321، مجموع الفتاوى لابن تيمية: 26/ 14. (¬2) النفقة في اللُّغة: ما أُنفق، ويقال: أنفق المال: إذا صرفه، والنفقة: ما أنفقت، واستنفقت على العيال وعلى نفسك: لسان العرب لابن منظور: 10/ 357، 358. (¬3) شرح فتح القدير لابن الهمام: 2/ 312، تببين الحقائق للزيلعي: 2/ 88، مواهب الجليل للحطاب: 2/ 547، 554، التفريع لابن الجلّاب: 1/ 316، المغني لابن قدامة: 5/ 25. (¬4) شرح فتح القدير لابن الهمام: 2/ 312، الدونة للإمام مالك: 1/ 492، التفريع لابن الجلّاب: 1/ 316، المغني لابن قدامة: 5/ 25، مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: 26/ 16، القواعد الفقهية لابن رجب: ص/ 134، قاعدة: 72.

ثانيا: حكم النفقة في الحج

ثانيًا: حكم النفقة في الحجِّ: اتفق العلماء على جواز النفقة في الحجِّ (¬1)؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " ... الحجِّ عن الميِّت، أو المعضوب، بمال يأخذه، إمّا بنفقة، فإنّه جائز بالاتفاق، أو بالإجارة، أو بالجعالة، على نزاع بين الفقهاء" (¬2). والحاج في هذه الحالة لا يكون إِلَّا نائبًا محضًا، وما يأخذه من مال إنّما هو نفقة طريقه، وما لابد له منه، وهذه النفقة لا يملكها الحاج، إنّما هو ينفق منها على حكم ملك الميِّت، أو المعضوب (¬3). ويترتب على ذلك ما يأتي: أ - أن النائب لو مات، أو أحصر، أو ضل الطريق لم يلزمه الضمان لما أنفق؛ وذلك لأنّه أنفاق للمال بإذن صاحبه، فأشبه ما لو أذن له في سدّ بثق، فانبثق ولم يسدّ. ب - أنّه إذا ناب عنه آخر، فإنّه يحج، من حيث بلغ النائب الأوّل من الطريق؛ لأنّه حصل قطع هذه المسافة بمال المنوب عنه، فلم يكن عليه الإنفاق دفعة أخرى، كما لو خرج بنفسه، فمات في بعض الطريق، فإنّه يُحج عنه من حيث انتهى. ج - أنّه يردّ ما فضل معه من المال، إِلَّا أن يؤذن له في أخذه. د - أنّه ينفق على نفسه بقدر الحاجة من غير إسراف، ولا تقتير. ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي: 4/ 159، بدائع الصنائع للكاساني: 2/ 213، تببين الحقائق للزيلعي: 2/ 88، المدوّنة للإمام مالك: 1/ 492، مواهب الجليل للحطاب: 2/ 554، المجموع للنووي: 7/ 120، المغني لابن قدامة: 5/ 23، 24، مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: 26/ 14، 15 (¬2) مجموع الفتاوى لابن تيمية: 26/ 14، 15. (¬3) شرح فتح القدير لابن الهام: 2/ 312، المغني لابن قدامة: 5/ 24.

ثالثا: الأرزاق على الحج

هـ - أنّه ليس له التبرع بشيء من هذا المال، إِلَّا أن يؤذن له في ذلك (¬1). وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الحاج يستحب له أخذ النفقة في حالتين: الحالة الأولى: إذا كان مقصوده من الحجِّ هو الإحسان إلى المحجوج عنه؛ بإبراء ذمته، بما وجب عليه من حج، سواء أكان حج فرض، أم نذر، أم قضاء، فالحج عنه إحسان إليه بإبراء ذمته، فهو بمنزلة قضاء دينه. وكذلك لو أوصى الميِّت بحجة مستحبة، وأراد الحاج إيصال ثوابها إليه؛ فيكون في هذه الحالة محسنًا إليه، والله يحب المحسنين. الحالة الأخرى: إذا كان مقصوده أن يحج محبة للحج، وشوقًا إلى المشاعر، هو عاجز، فيستعين بالمال المحجوج به على الحجِّ، سواء أُعطي المال ليحج به عن نفسه، كما يعطى المجاهد المال ليغزو به، فهذا لاشبهة فيه، ويكون للحاج أجر الحجِّ ببدنه، وللمعطي أجر الحجِّ بماله، أو أعطى المال ليحج به عن غيره، فيكون مقصود المعطي الحجِّ عن المعطى عنه، ومقصود الحاج ما يحصل له من الأجر بنفس الحجِّ لا بنفس الإحسان إلى الغير وفي كلتا الحالتين لا يطلب الحاج إِلَّا مقدار كفاية حجه فقط، كما لا يأخذ الغازي إِلَّا مقدار ما ينفقه في الغزو (¬2). ثالثًا: الأرزاق على الحجِّ: اتفق العلماء على جواز أخذ الرزق على الحجِّ (¬3)، ونقل بعضهم الإجماع على ¬

_ (¬1) ذكر كلّ هذه الآثار المترتبة ابن قدامة في المغني: 5/ 24. (¬2) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: 26/ 14 - 17. (¬3) رسائل ابن عابدين: (رسالة: شفاء العلّيل) 1/ 163، الذّخيرة للقرافي: 3/ 19، مواهب الجليل للحطاب: 2/ 546، المجموع للنووي: 7/ 139، الإنصاف للمرداوي: 6/ 47، الروض المربع مع حاشية ابن قاسم للبهوتي: 5/ 421.

رابعا: الأخذ بلا شرط

ذلك (¬1). والمعنى: أن يأخذ الحاج من بيت المال قدر كفايته لحجه، وعياله مدة الحجِّ. وعمدة هذا الإتفاق: أن الأرزاق ليست أعواضًا، بل القصد منها الإعانة على الطّاعة، وتأدية العبادة (¬2)، ولأن الرزق هو نفقة في المعنى (¬3)، والنفقة لا خلاف في جوازها كما تقدّم. رابعًا: الأخذ بلا شرط: إذا عزم الحاج على تأدية الحجِّ، سواء أكان ذلك عن غيره، أم عن نفسه دون غيره، ثمّ جاءه مال ليستعين به على حجه وحاجته، ولم يكن مشرفًا، ولا سائلًا، فإنّه يأخذه، ويتموله؛ لأنّ المال في هذه الحالة يكون رزقًا ساقه الله إليه (¬4). والدّليل على ذلك: 1 - عن سالم عن عبد الله بن عمر، عن أبيه - رضي الله عنهم - قال: سمعت عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - يقول: قد كان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يعطيني العطاء، فأقول: أعطه أفقر إليه مني، حتّى أعطاني مرّة مالًا، فقلت: أعطه أفقر إليه مني؛ فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (خذه، وما جاءك من هذا المال، وأنت غير مشرفٍ، ولا سائلٍ فخذه، وما لا، فلا تتبعه نفسك) (¬5). ¬

_ (¬1) المجموع للنووي: 7/ 139. (¬2) الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية للبعلي، ص: 153. (¬3) المغني لابن قدامة: 5/ 24. (¬4) معونة أولي النّهي لابن النجار: 5/ 83، شرح منتهى الإرادات للبهوتي: 2/ 366. (¬5) أخرجه البخاريّ، كتاب الأحكام، باب رزق الحكام والعاملين عليها: 13/ 160 (7163)، وأخرجه مسلم، كتاب الزَّكاة، باب إباحة الأخذ لمن أعطى من غير مسألة ولا إشراف: 2/ 723 (1045).

وجه الاستدلال

وجه الاستدلال: حيث أمر النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - بأخذ المال؛ لأنّه جاءه من غير إشراف نفس، ولا سؤال، فكذلك المال إذا جاء على الحجِّ من غير تطلع إليه، ولا سؤال، فإن الحاج يأخذه؛ لأنّه رزق طيب حلال. 2 - أن المال إذا كان بغير شرط كان هبة مجردة؛ فجاز أخذه (¬1). ¬

_ (¬1) حاشية ابن قاسم على الروض المريع: 5/ 322.

المطلب الثاني الجعالة

المطلب الثّاني الجعالة تقدّم في مباحث التمهيد معنى الجعالة، ومفهومها عند الفقهاء (¬1)، وصورة ذلك هنا في باب الحجِّ أن يقول: من حج عني فله كذا وكذا. ويحدد الجعل، أو يقول لمعين: حج عني، أو اعتمر عني، ولك ألف ريال مثلًا؛ فإن حج عنه استحق الجعل، وإلا فلا، أو نحوها من العبارات الدالة على المراد (¬2). وقد اختلف العلماء في حكم أخذ الجعالة على الحجِّ عن الغير على قولين: القول الأوّل: تجوز الجعالة على الحجِّ. وإلى هذا ذهب المالكية (¬3)، والشّافعيّة (¬4)، والحنابلة على الصحيح من المذهب (¬5). القول الآخر: لا تجوز الجعالة على الحجِّ. وإلى هذا القول ذهب الحنفية (¬6)، وبه قال بعض الحنابلة (¬7). ¬

_ (¬1) انظر تعريف الجعالة في مباحث التمهيد، ص 69 من هذا الكتاب. (¬2) الذّخيرة للقرافي: 3/ 195، شرح الزرقاني على خليل: 2/ 238، الحاوي الكبير للماوردي: 5/ 367. (¬3) الذّخيرة للقرافي: 3/ 194، 195، مواهب الجليل للحطاب: 2/ 546 وما بعدها، منح الجليل للشيخ عليش: 2/ 206. (¬4) الحاوي الكبير للماوردي: 5/ 367. (¬5) الإنصاف للمرداوي: 6/ 47، الروض المربع مع حاشية ابن قاسم: 5/ 321. (¬6) رسائل ابن عابدين: 1/ 157. وذلك بناء على ما تقدّم من أن الحنفية لا يقولون بالجعالة حيث عدها بعضهم من الإجارة الفاسدة، والبعض الآخر من الإجارة الباطلة، وتقدم تفصيل ذلك، ص 69 - 70 من هذا الكتاب. (¬7) الإنصاف للمرداوي: 6/ 47.

سبب الخلاف

سبب الخلاف: يرجع سبب الخلاف بين الفقهاء في هذه المسألة إلى ما يأتي: أوَّلًا: أن الحنفية لا يرون صحة الجعالة أصلًا؛ ولهذا فلا وجود لها - كباب مستقل - في كتبهم، فهم يعدونها من الإجارة الباطلة، أو الفاسدة، على خلاف بينهم في ذلك، وقد تقدّم تفصيل ذلك (¬1). بينما يرى الجمهور مشروعية الجعالة في الأصل. ثانيًا: أن الحنفية يمنعون مطلقًا أخذ المال على شيء من الطاعات، سواء أكانت حجًا، أم غيره، إِلَّا ما استثنوه للضرورة، بينما الجمهور لا يحكمون هذا الحكم العام، بل يفصلون في ذلك، ويرون صحة الإجارة، والجعالة على كثير من الطاعات الّتي تقبل النيابة وغيرها (¬2). الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة أصحاب القول الثّاني: استدل أصحاب القول الثّاني القائلون بعدم صحة الجعالة على الحجِّ بما يأتي: - الدّليل الأوّل: ما ذكروه من عدم مشروعية الجعالة في الأصل، سواء أكانت من الإجارة الفاسدة، أم الباطلة، وقد تقدّم ذلك (¬3). الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ القربة متى حصلت، وقعت عن الفاعل، لا لغيره، ولهذا تعتبر أهليته، ونيته، لا نيّة الآمر، ولو انتقل فعله إلى الآمر لشرط فيه نيّة الآمر وأهليته، كما في الزَّكاة (¬4). ¬

_ (¬1) راجع تفصيل ذلك، ص 69 - 70 من هذا الكتاب. (¬2) بداية المجتهد لابن رشد: 1/ 321. (¬3) ص 69 - 70 من هذا الكتاب. (¬4) رسائل ابن عابدين: 1/ 157.

مناقشة الاستدلال

مناقشة الاستدلال: نوقش ما استدل به الحنفية بما يأتي: أوَّلًا: ما ذكروه من كون الجعالة من الإجارة الباطلة، أو الفاسدة، فإنّه يردّ عليه بأن مشروعية الجعالة ثابتة بالكتاب، والسُّنَّة، والمعقول (¬1). والأحناف يقولون بالجعالة في بعض المسائل - كما مرّ -، فهم يقرون بمشروعيتها في الجملة. ثانيًا: ما ذكروه في الدّليل الثّاني سوف يأتي الجواب عليه عند ذكر أدلة من منع الإجارة في الحجِّ. ثانيًا: أدلة أصحاب القول الأوّل: أصحاب القول الأوّل يرون صحة الإجارة في الحجِّ، وستأتي أدلتهم مفصلة في مبحث الإجارة على الحجِّ، فإذا صحت الإجارة على الحجِّ صحت الجعالة عليه من باب أولى؛ وذلك لأنّ الجعالة أوسع حكمًا من الإجارة لجوازها من غير تعيين العامل فيها، ومع الجهل بالعمل المقصود بها، والمدة (¬2). الترجيح: يظهر لي ممّا سبق أن الراجح في هذه السألة هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأوّل، وهم الجمهور؛ وذلك لما يأتي: أوَّلًا: قوة ما عللوا به، وضعف ما علل به أصحاب القول الثّاني؛ وذلك لأنّ الجعالة ثابتة بالنص، والعقل، فلا عبرة لما علل به الحنفية. ¬

_ (¬1) انظر لبيان مشروعية الجعالة: المقدِّمات لابن رشد: 2/ 308، 309، بداية المجتهد لابن رشد: 2/ 235، المهذب للشيرازي: 1/ 411، حاشية البجيرمي على الخطيب: 3/ 171، المغني لابن قدامة: 8/ 323. (¬2) انظر الفرق بين الإجارة والجعالة في هذه الرسالة، ص 73.

ثأنيًا: أن الإجارة على الحجِّ جائزة، وهو الراجح، كما سيأتي (¬1)، وإذا صحت الإجارة فالجعالة أولى بالصحة؛ لما سبق التعليل به، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر مبحث الإجارة على الحجِّ، ص/ 391.

المطلب الثالث الإجارة

المطلب الثّالث الإجارة الفرع الأوّل أنواع الإجارة على الحجِّ والعمرة تقدّم معنا في أول هذا المبحث أن المال المأخوذ على الحجِّ والعمرة ثلاثة أنواع هي: النفقة، والجعالة، والإجارة. وقد تقدّم الكلام عن النفقة، والجعالة، باعتبارهما نوعين مستقلين غير الإجارة، ولكن، بالنظر في تقسيمات العلماء الإجارة على الحجِّ نجد أن بعضهم - وهم المالكية -، قد جعلوا كلّ هذه الأنواع من أقسام الإجارة، فيقولون: أجرة معلومة، وأجرة على وجه البلاغ (النفقة)، وأجرة على وجه الجعالة، ثمّ يقسمون الإجارة إلى قسمين: إجارة ذمة، وإجارة عين. قال الحطاب (¬1) مبينًا ذلك: "فالذي. يتحصل من كلام الشيوخ في تقسيم المعاملة على الحجِّ، أن المعاملة على الحجِّ على أربعة أوجه: الأوّل: استئجار باجرة معلومة، تدفع للأجير، ويكون ضمأنّها منه، وعليه جميع ما يحتاج إليه، والفضل له، والنقصان عليه، ويكون الحجِّ متعلّقًا بعين الأجيرُ (¬2). ¬

_ (¬1) هو: محمّد بن محمّد بن عبد الرّحمن بن حسن، الرعيني: المكي، المشهور بالحطاب، أحد أئمة المالكية في عصره، له مؤلفات كثيرة منها: مواهب الجليل شرح مختصر خليل، وتحرير المقالة في شرح نظائر الرسالة، وتحرير الكلام في مسائل الالتزام، توفي سنة 954 هـ: نيل الابتهاج لبابا التنبكتي، ص/337، شجرة النور التركية، ص / 270. (¬2) وتسمى (إجارة العين)، ومثالها: أن يقول الولي لشخص: استأجرتك على أن تحج أنت بذاتك عن فلان بن فلان بكذا.

الثانى: الاستئجار على الحجِّ بأجرة معلومة، كما تقدّم، ويكون الحجِّ في ذمة الأجير (¬1). الثّالث: الاستئجار بالنفقة، وهو المسمى بالبلاغ ... الرّابع: الاستئجار على وجه الجعالة (¬2). والنوعان الأولان يسميان عندهم بإجارة الضمان، وهما نوعا الإجارة عند العلماء، فإنهم يقسمون الإجارة إلى نوعين: إجارة عين، وإجارة ذمة (¬3). ولكن من الملحوظ عند المتقدمين، وهو المنقول عن الإمام مالك رحمه الله تعالى، أن الإجارة عندهم نوعان: إجارة عين، وإجارة ذمة. أمّا ما يسمى بإجارة البلاغ، فقد نصّ ابن القاسم (¬4) في المدوّنة على أنّها ليست إجارة (¬5). فيتحصل لنا ممّا سبق أن الإجارة عند العلماء نوعان هما: ¬

_ (¬1) وتسمى (إجارة الذِّمَّة) ومثالها: أن يقول الولي لشخص: استأجر من يحج عن فلان بكذا. فالقصد هو تحصيل الحجِّ، سواء كان من الأجير أم من غيره: حاشية الدسوقي: 2/ 11. (¬2) مواهب الجليل للحطاب: 2/ 547. (¬3) الحاوي الكبير للماوردي: 5/ 344، المجموع للنووي: 7/ 120، وانظر ما سبق ذكره عن أنواع الإجارة في باب التمهيد من هذا البحث، ص 62. (¬4) هو: عبد الرّحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة العتقي المصري، أبو عبد الله المعروف بابن القاسم، الفقيه المالكي الحافظ، أحد أصحاب مالك وراويته، ولد بمصر عام 132 هـ، روى عنه البخاريّ، والنسائي، كتب المدوّنة، عن الإمام مالك، وهي: أجل كلتب المالكية، توفي بمصر سنة 191 هـ الديباج المذهب لابن فرحون، ص/146، ترتيب المدارك للقاضي عياض: 1/ 433. (¬5) المدوّنة لكمام مالك: 1/ 492، قال ابن القاسم: "إذا استؤجر بكذا وكذا دينارًا، على أن يحج عن فلان، فهذه إجارة له ما زاد، وعليه ما نقص، وإذا قيل له: هذه دينار تحج بها عن فلان، على أن علينا ما نقص عن البلاغ، أو يقال له: خذ هذه، فحح عن فلان، فهذه على البلاغ ليست إجارة".

النوع الأوّل: إجارة العين. النوع الآخر: إجارة الذِّمَّة. وقد سبق الكلام عنهما، وبيان معناهما في كلام الحطاب (¬1) ¬

_ (¬1) مواهب الجليل للحطاب: 2/ 547.

الفرع الثاني الاستئجار على الحج والعمرة

الفرع الثّاني الاستئجار على الحجِّ والعمرة الإجارة على الحجِّ مبنية على صحة النيابة فيه، وعليه فإن كلّ من لا تجوز النيابة عنهم، لا تجوز الإجارة في حقهم. ومن ذلك: الحي القادر المستطيع للحج بنفسه وماله، لا تجوز النيابة في حقه، بل عليه المبادرة بالحج بنفسه، وهذا محل إجماع بين العلماء - كما تقدّم - (¬1)، فهذا لا خلاف في عدم جواز الاستئجار على الحجِّ والعمرة في حقه. وبالجملة، فحيث لا تجوز النيابة - على ما سبق بيانه - فلا تجوز الإجارة. وعلى هذا يصبح المراد بقولنا: الاستئجار على الحجِّ والعمرة هو الاستئجار على الحجِّ والعمرة في الحالات الّتي تقبل النيابة (¬2). وقد اختلف الفقهاء في حكم الاستئجار على الحجِّ والعمرة على ثلاثة أقوال: ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني: 2/ 212، الاختيار للموصلّي: 1/ 170، قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي، ص / 147، المهذب للشيرازي: 1/ 199، المغني لابن قدامة: 5/ 22، وانظر ص/347 من هذا البحث. (¬2) تقدّم معنا أن المالكية لا يجيزون النيابة في الحجِّ، ومع ذلك نجدهم يجيزون الإجارة على الحجِّ مع الكراهة، ونراهم تكلموا عن أنواع الإجارة في الحجِّ؛ فكيف ذلك؟ الجواب عن هذا: أن قولهم بجواز الإجارة على الحجِّ مع الكراهة، مفرع عن صحة الوصيَّة بالحج عندهم، فإنهم يقولون إنَّ الرَّجل إذا أوصى عند موته أن يحج عنه، فإنّه ينفذ ما أوصى به، قال الإمام مالك: "إذا أوصى أنفذ ذلك، ويحج عنه من قد حج أحب إلي". فهذا نصّ مالك كما في المدوّنة: 1/ 491، قال الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير 2/ 119:" وإنّما نفذت الوصيَّة به عند مالك، كان كان لا يجيز النيابة فيه؛ مراعاة لخلاف الشّافعيّ القائل يحواز النيابة فيه ... ".

القول الأوّل: يجوز مطلقًا الاستئجار على الحجِّ والعمرة. وإلى هذا ذهب الشّافعيّة (¬1)، والحنابلة في رواية (¬2)، وهو قول الظاهرية (¬3)، وقد نقل هذا القول عن بعض الحنفية، وفيه نظر (¬4). القول الثّاني: يجوز الاستئجار على الحجِّ، لكن مع الكراهة؛ وذلك إذا أوصى الميِّت أن يحج عنه، فتنفذ وصيته. وهذا هو قول المالكَية (¬5)، وهو منصوص الإمام مالك، كما في المدوّنة (¬6). القول الثّالث: لا يجوز مطلقًا الاستئجار على الحجِّ والعمرة. وإلى هذا ذهب الحنفية (¬7)، وهو المذهب عند الحنابلة (¬8). ¬

_ (¬1) الأم للشافعي: 2/ 124، الحاوي الكبير للماوردي: 5/ 343، المجموع للنووي: 7/ 120، قال الشّافعيّ: "للرجل أن يستأجر الرَّجل يحج عنه، إذا كلان لايقدر على المركب لضعفه، وكان ذا قدرة بماله، ولوارثه بعده، والإجارة على الحجِّ جائزة، جوازها في الأعمال سواه، بل الإجارة إن شاء الله تعالى على البرّ خير منها على ما لا بر فيه". الأم: 2/ 124. (¬2) المغني لابن قدامة: 5/ 23، الإنصاف للمرداوي: 6/ 45. (¬3) المحلى لابن حزم: 7/ 62، 273، 274، 8/ 191، 192. (¬4) ذكر العيني في عمدة القاري: 12/ 95، أن هذا قول بعض متأخري الحنفية كأيي نصر، وأبي اللَّيث وغيرهما، وذكر ابن نجيم في الأشباه والنظائر ص/176، الجواز نقلًا عن الخانية، وقد تتبع ذلك كله ابن عابدين وبين أن نسبة هذا إلى هؤلاء الفقهاء لا تصح، وأن القول الصحيح الّذي عليه جميع فقهاء المذهب سواء المتقدمين منهم، أو المتأخرين أن الاستئجار على الحجِّ لايجوز. وانظر تفصيل ذلك في مجموع رسائل ابن عابدين: 1/ 154 - 164. (¬5) المدوّنة للإمام مالك: 1/ 491، 4/ 420، الكافي لابن عبد البر:1/ 408، مواهب الجليل للحطاب: 1/ 456، 2/ 546، حاشية الدسوقي: 2/ 18، 19. (¬6) المدوّنة للإمام مالك: 4/ 440. (¬7) المبسوط للسرخسي: 4/ 158، 159، بدائع الصنائع للكاساني: 4/ 191، تببين الحقائق للزيلعي: 5/ 124، حاشية ابن عابدين: 2/ 236، رسائل ابن عابدين: 1/ 156 - 164. (¬8) المغني لابن قدامة: 5/ 24، 8/ 546، الإنصاف للمرداوي: 6/ 45، الروض المربع مع حاشية ابن قاسم: 5/ 320.

سبب الخلاف

سبب الخلاف: الحجِّ كغيره من العبادات قربة يتقرب بها العبد إلى الله تعالى، ونفع هذه القربات راجع إلى العبد حين قيامه بها، فإذا وقعت الإجارة عليها، فهل نفعها يكون للمستأجر، أم يكون للأجير الّذي باشر فعل القربة بنفسه؟ فمن قال إنَّ النفع يحصل للمستأجر، قال بجواز الأجرة، ومن قال إنَّ النفع لايحصل إِلَّا للأجير، قال بعدم جواز الاستئجار على الحجِّ (¬1). الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة أصحاب القول الثّالث: استدل أصحاب هذا القول، وهم القائلون بعدم جواز الاستئجار على الحجِّ والعمرة بأدلة من القرآن، والسُّنَّة، والمعقول. أ - أدلتهم من القرآن: الدّليل الأوّل: قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]. وقد تقدّم وجه الاستدلال من هذه الآية مرارًا، وما ورد عليها من مناقشات، وقد منعوا بها النيابة، داذا امتنعت النيابة امتنعت الإجارة؛ لأنّ الإجارة لا تكون إِلَّا بنيابة، وقد أمكن مناقشة ذلك بما يغني عن الإعادة (¬2). الدّليل الثّاني: قوله تعالى: {عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: 30/ 206، 207. وانظر، ص 64 من هذا الكتاب عند الكلام حول شروط الإجارة. (¬2) انظر: رسائل ابن عابدين: 1/ 154، تفسير الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 4/ 151، المحلى لابن حزم: 7/ 58.

وجه الاستدلال

وجه الاستدلال: قالوا في وجه الاستدلال بهذه الآية الكريمة: إنَّ الله تبارك وتعالى إنّما فرض الحجِّ على المستطيع إجماعًا، والمريض والمعضوب والميِّت لا استطاعة لهم، ولا يتناولهم الخطّاب بالآية الكريمة. ثمّ إنَّ الاستطاعة المذكورة في الآية الكريمة هي الاستطاعة البدنية؛ إذ لو كانت الاستطاعة مالية لقال: إحجاج البيت؛ فدل ذلك كله على عدم صحة النيابة. وعليه، فلا تصح الإجارة. مناقشة الاستدلال: تقدّم مناقشة وجه الاستدلال بهذه الآية الكريمة، وحاصله أن وجه الاستدلال مبني على أن الاستطاعة كلها بدنية، لا مالية، ويناقش ذلك بأن الآية جاءت عامة شاملة لنوعي الاستطاعة البدنية والمالية، فمن كان عاجزًا ببدنه فهو مستطيع بماله، وبغيره، فيدخل تحت عموم الآية، فيستأجر من يؤدِّي عنه هذه العبادة. (¬1). ب- الأدلة من السُّنَّة: الدّليل الأوّل: عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: مرّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - بمرداس المعلم، فقال: "إياك وحطب الصبيان، وخبز الرقاق، وإياك والشرط على كتاب الله (¬2). ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير للماوردي: 5/ 12، المجموع للنووي: 7/ 101، أضواء اليان للشنقيطي: 5/ 93. (¬2) هذا الحديث موضوع، فقد ذكلره ابن الجوزي في الموضوعات: 1/ 228، 229، وأعلَّه بنهشل ابن سعيد بن وردان البصري فهو كذاب، كما قال إسحاق بن راهويه، وأخرجه الجوزقاني في موضوعاته، وقال: هذا حديث باطل، وإسناده مجهول منكر، ذكر ذلك السيوطيّ في اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة: 1/ 205، 206، وذكره الشوكاني في الفوائد المجموعة ص/277، وحكم عليه بالوضع.

وجه الاستدلال

وجه الاستدلال: حيث دل الحديث على تحريم أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم، وهو قربة من القربات؛ فيلحق به سائر القرب، ومنها الحجِّ، فيحرم أخذ الأجرة عليه (¬1). مناقشة الاستدلال: هذا حديث موضوع - كما تقدّم في تخريجه -؛ فيرد جملة وتفصيلًا، وبناءً على ذلك، فلا عبرة بالاحتجاج به؛ لسقوطه. الدّليل الثّاني: عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: علمت رجلًا القرآن، فأهدى إليّ قوسًا، فذكرت ذلك لرسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، فقال: (إنَّ أخذتها، أخذت قوسًا من نار). قال أبي: فرددتها (¬2). وجه الاستدلال: وجه الاستدلال من هذا الحديث كسابقه؛ حيث دلّ على تحريم الأجرة على القرآن، هو قربة؛ فيلحق به سائر القرب، ومنها الحجِّ. ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي: 4/ 158، 159، رسائل ابن عابدين: 1/ 154 وما بعدها. المحلى لابن حزم: 8/ 196. (¬2) أخرجه ابن ماجه، كتاب التجارات، باب الأجر على تعليم القرآن: 2/ 370 (2158)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب الإجارة، باب من كره أخذ الأجرة على تعليم القرآن: 6/ 207، (11684)، كلاهما من طريق ثور بن يزيد، ثنا خالد بن معدان - وخالد هذا ذكره ابن ماجه، وأسقطه البيهقي - ثني عبد الرححن بن سلم، عن عطية الكلاعي عن أبي بن كعب، قال: فذكره.، وقد أعل هذا الحديث بعلل بثلاث: الأولى: الانقطاع بين عطية الكلاعي، وبين أبي بن كعب، والثّانية: جهالة عبد الرّحمن بن سلم، الثّالثة: الاضطراب، وهو واقع من جهة عبد الرّحمن بن سلم إِلَّا أن للحديث شواهد يرتقي بها إلى الصِّحَّة من حديث عبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، كما سيأتي في مبحث أخذ المال على القرآن، والحديث صححه الألباني كما في الإرواء: (1493).

مناقشة الاستدلال

مناقشة الاستدلال: أوَّلًا: أن هذا الحديث، وما في معناه من الأحاديث الّتي جاءت بالوعيد على أخذ الأجرة على تعليم القران ليس فيها تصريح بالمنع على الإطلاق، بل هي وقائع أحوال محتملة التّأويل. لتوافق الأحاديث الصحيحة الواردة في جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وهي في الصحيح (¬1). ثانيًا: أن هذا الحديث، وما في معناه من الأحاديث، ليس فيها ما تقوم به الحجة؛ فلا تنهض لمعارضة الأحاديث الصحيحة الصريحة الدالة على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وهي في الصحيح، وقد تقدّم ذكر ذلك (¬2). الدّليل الثّالث: حديث عثمان بن أبي العاص، قال: قلت: يا رسول الله، اجعلني إمام قومي؛ قال - صلّى الله عليه وسلم -: (أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ موذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا) (¬3). وفي رواية أخرى: قال عثمان - رضي الله عنه -: (إنَّ من آخر ما عهد إليّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أن أتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا) (¬4). وجه الاستدلال: وجه الاستدلال من هذه الروايات كسابقتها، حيث نهى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - عن أخذ الأجرة على الأذان، فدل على التّحريم، والأذان قربة، فكذلك الحجِّ، بجامع القربة في كلّ. وعليه، فلا يجوز أخذ الأجرة عليه. ¬

_ (¬1) فتح الباري للحافظ ابن حجر: 4/ 530. (¬2) فتح الباري لابن حجر: 4/ 530. (¬3) سبق تخريجه، ص 196 من هذا الكتاب. (¬4) سبق تخريجه، ص 196 من هذا الكتاب.

مناقشة الاستدلال

مناقشة الاستدلال: أوَّلًا: يناقش هذا الحديث بما سبق أن نوقش به، وحاصله أنّه لا دلالة فيه على تحريم أخذ الأجرة على الأذان. وعليه فلا حجة فيه؛ لما ذهب إليه الحنفية (¬1). ثانيًا: أنّه ليس نصًا صريحًا فيما نحن بصدده، فضلًا عن أنّه معارض بالأدلة القوية الصريحة على جواز الاستئجار على الحجِّ (¬2)، وستأتي إن شاء الله تعالى. جـ- أدلتهم من المعقول: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ المباشر لعمل الطّاعة عمله لله تعالى؛ فلا يصير مسلمًا إلى المستأجر، فلا يجب الأجر عليه، بخلاف بناء الرِّباط، والمسجد، فالعمل هناك ليس بعبادة محضة، بدليل أنّه يصح من الكافر (¬3). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الدّليل: باننا قد أثبتنا صحة النيابة في الحجِّ، كما مرّ معنا في مباحث النيابة، وأنتم أيها الحنفية توافقوننا على ذلك، فإذا صحت النيابة، ووقع الحجِّ عن المحجوج عنه، فقد حصل له النفع، فإذا كان الأمر كذلك صحت الإجارة، ويجب الأجر على المستأجر. الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ الحجِّ عبادة، يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة، فلم يجز أخذ الأجرة عليها، كالصلاة، والصوم (¬4). مناقشة الأستدلال: أوَّلًا: إنَّ قياس الحجِّ على الصّلاة، والصوم، قياس مع الفارق، فلا يصح؛ ¬

_ (¬1) انظر لبيان ما ورد على هذا الحديث من مناقشات، ص 196 - 197 من هذا الكتاب. (¬2) انظر: فتح الباري لابن حجر: 4/ 530، المحلى لابن حزم: 8/ 196. (¬3) المبسوط للسرخسي: 3/ 158. (¬4) الاختيار للموصلّي: 2/ 59، المغني لابن قدامة: 5/ 24.

ثانيا: أدلة أصحاب القول الثاني

لأنّ الحجِ عبادة يدخلها المال، بخلاف الصوم، والصلاة (¬1). ثانيًا: إنّه قد ثبت أن الحجِّ يقبل النيابة، وإذا صحت النيابة صحت الإجارة. ثانيًا: أدلة أصحاب القول الثّاني: وهؤلاء هم الذين قالوا بالجواز مع الكراهة. فأمّا دليلهم على الجواز: فقالوا: إنَّ الحجِّ عمل تدخله النيابة، فجازت الأجرة عليه (¬2). وهناك أدلة أخرى على الجواز، ستأتي عند ذكر أدلة أصحاب القول الأوّل. أمّا وجه الكراهة عندهم فلما يأتي: 1 - أن أخذ الأجرة على الحجِّ إنّما هو من باب أكل الدنيا بعمل الآخرة (¬3). 2 - أن أخذ العوض عن العبادة ليس من شيم أهل الخير (¬4). قلت: وهذا الّذي ذهب إليه المالكية، ليس على إطلاقه، وإنّما يحمل على ما إذا كان قصده من الحجِّ عن الغير إنّما هو الاكتساب بذلك، وهو أن يستفضل مالًا، وليس غرضه الإحسان إلى المحجوج عنه، أو رؤية المشاعر، ومحبته للحج، وسيأتي تفصيل ذلك في الترجيح، إن شاء الله تعالى. ثالثًا: أدلة أصحاب القول الأوّل: استدل من قال بالجواز مطلقًا - وهم أصحاب القول الأوّل- بأدلة كثيرة من السُّنَّة، والمعقول، ومعظم أدلتهم من السُّنَّة قد تقدمت في مباحث النيابة في الحجِّ، فكل ما استدلوا به على جواز النيابة قد استدلوا به على جواز الإجارة (¬5)؛ وذلك ¬

_ (¬1) المجموع للنووي: 7/ 101. (¬2) مواهب الجليل للحطاب: 2/ 546. (¬3) مواهب الجليل للحطاب: 3/ 3. (¬4) حاشية الدسوقي: 2/ 18، 19، حاشية البناني على الزرقاني: 2/ 244. (¬5) الحاوي للماوردي: 5/ 344.

أ - أدلتهم من السنة

لأن الحجِّ دين لله -عَزَّ وَجَلَّ- في ذمة المحجوج عنه، فإذا لم يوجد متبرع به، تعين الاستئجار حينئذ طريقًا لسداد هذا الدِّين. ولأصحاب هذا القول أدلة أخرى من السُّنَّة، والمعقول، نذكرها: أ - أدلتهم من السُّنَّة: الدّليل الأوّل: عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، أن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: (إنَّ أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله" (¬1) وجه الاستدلال: حيث دلّ الحديث على جواز أخذ الأجرة على القرآن الكريم، وهو من القرب، فكذلك الحجِّ؛ لأنّه من القرب، فيجوز أخذ الأجرة عليه. مناقشة الاستدلال: نوقش الاستدلال بهذا الحديث بما يأتي: أوَّلًا: أن المراد بالأجر في الحديث هو الأجر الأخروي، وهو الثّواب (¬2). الجواب عن هذه المناقشة: أجيب عن هذه المناقشة: بأن هذا تأويل للحديث يأباه سياق القصة، فإن السياق يدلُّ دلالة قاطعة على أن المراد بالأجر في الحديث هو المال، والعوض المأخوذ على كتاب الله (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ معلقًا في كتاب الإجارة، باب ما يعطى في الرقية على أحياء العرب: 4/ 529، ووصله في كتاب الطب، باب الشروط في الرقية بفاتحة الكتاب:10/ 209 (5737). (¬2) فتح الباري لابن حجر: 4/ 530، رسائل ابن عابدين: 1/ 155. (¬3) فتحٍ الباري لابن حجر: 4/ 530، وسياق الحديث كالآتي: عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، أن نفرًا من أصحاب النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - مروا بماء فيهم لديغ - أو سليم - فعرض لهم رجل من أهل الماء، فقال: هل فيكم من راق؟ إنَّ في الماء رجلًا لديغًا، أو سليمًا، فانطلق رجل منهم، فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء، فبرأ، فجاء بالشاء إلى أصحابه، فكرهوا ذلك، وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرًا، حتّى قدموا المدينة، فقالوا: يا رسول الله، أخذ على كتاب الله أجرًا، فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: فذكره ...

الدليل الثاني

ثانيًا: قالوا: إنَّ هذا الحديث منسوخ بالأحاديث الواردة في الوعيد على أخذ الأجرة على تعليم القرآن (¬1). الجواب عن هذه المناقشة: أجيب عن هذه المناقشة بجوابين: الجواب الأوّل: أن هذا إثبات للنسخ بالاحتمال، وهو مردود؛ لأنّ من شرط الناسخ أن يكون متأخرًا، ولا سبيل إلى هذا هنا (¬2). الجواب الآخر: هو ما سبق أن أجيب به عن النصوص الواردة في الوعيد على أخذ الأجر على القرآن عند ذكر أدلة أصحاب القول الثّالث؛ كما تقدّم. الدّليل الثّاني: قصة أبي سعيد الخدري وأصحابه في أخذ الجعل على الرقية بكتاب الله. حيث رقى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - الرَّجل بفاتحة الكتاب على جعل، فلما قدموا على رسول الله ذكروا له ذلك، فقال - صلّى الله عليه وسلم -: (وما يدريك أنّها رقية)؟، ثمّ قال - صلّى الله عليه وسلم -: (لقد أصبتم، اقسموا، واضربوا في معكم بسهم) (¬3). وجه الاستدلال: حيث دلّ الحديث على جواز أخذ الأجرة على القرآن الكريم، فكذلك الحجِّ؛ لأنّ كلًا منهما ممّا يتعدى فعه، ويختص فاعله أن يكون من أهل القربة (¬4). ¬

_ (¬1) رسائل ابن عابدين: 1/ 155. (¬2) رسائل ابن عابدين: 1/ 155، فتح الباري للحافظ ابن حجر: 4/ 530. (¬3) أخرجه البخاريّ، كتاب الإجارة، باب من ما يعطى في الرقية على أحياء العرب ... : 4/ 529 (2276)، ومسلم في كتاب السّلام، باب جواز الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار: 4/ 1727 (2201). (¬4) المغني لابن قدامة: 5/ 23.

مناقشة الاستدلال

مناقشة الاستدلال: قالوا: إنَّ الصحابي لم يقرأ القرآن هنا بغرض القربة، بل للتداوي؛ فهو كصنعة الطب، وغيرها من الصنائع. وعليه، فلا حجة فيه على جواز الاستئجار على القرآن، وغيره من القرب، ومنها الحجِّ (¬1). ب- أدلتهم من المعقول: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ الحجِّ يجوز أخذ النفقة عليه، فجاز الاستئجار عليه؛ كبناء الساجد، والقناطر (¬2). مناقشة الاستدلال: أوَّلًا: لا يلزم من جواز أخذ النفقة جواز أخذ الأجرة، بدليل القضاء، والشهادة، والإمامة، يؤخذ عليها الرزق من بيت المال، وهو نفقة في المعنى، ولا يجوز أخذ الأجرة عليها (¬3). ثانيًا: أن القياس على بناء المساجد والقناطر قياس مع الفارق؛ فإن بناء المساجد والقناطر لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة، ويجوز أن يقع قربة، وغير قربة، بخلاف الحجِّ، فإنّه يختص فاعله أن يكون من أهل القربة، ولايصح هاهنا أن يكون غير عبادة (¬4). الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ الحجِّ عبادة لها تعلّق بالمال، فصحت النيابة فيها بالأجرة، كالزكاة (¬5). ¬

_ (¬1) رسائل ابن عابدين: 1/ 157. (¬2) المغنى لابن قدامة: 5/ 23، 24. (¬3) المغني لابن قدامة: 5/ 24. (¬4) المغني لابن قدامة: 5/ 24. (¬5) المنتقى للباجي: 2/ 271.

الدليل الثالث

الدّليل الثّالث: قالوا: إنّه يصح الاستئجار على كتابة المصحف، وبناء المساجد، وحفر القبور، وهي قربات، فكذلك الحجِّ عن الغير يجوز الاستئجار عليه. لأنّه قربة إلى الله تعالى (¬1). الدّليل الرّابع: قالوا: إنَّ الحاجة تدعو إلى الاستئجار على الحجِّ، فإنّه يُحتاج إلى الاستنابة فيه عمن وجب عليه، وعجز عن فعله، ولايكاد يوجد متبرع بذلك؛ فيحتاج إلى بذل الأجر فيه (¬2). الدّليل الخامس: قالوا: إنَّ الحجِّ عبادة تدخلها النيابة، فجاز أخذ العوض عليه؛ كتفرقة الزَّكاة، وغيرها من الأعمال (¬3). مناقشة الاستدلال: قالوا: إنا لا نسلم أن الحجِّ تدخله النيابة، فإنّه يقع عن الفاعل (¬4). الجواب عن المناقشة: إنَّ القول بعدم دخول النيابة في الحجِّ، وأنّه يقع عن الفاعل، قولٌ غير صحيح؛ وذلك لمنابذته للأحاديث الصحيحة الكثيرة الدالة على جواز النيابة في الحجِّ، وقد تقدمت في مباحث النيابة بالحج مفصلة (¬5). الدّليل السّادس: قالوا: إنَّ الاستئجار لم يأت عنه نهي؛ فهو داخل في عموم أمر النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بالمؤاجرة. (¬6). ¬

_ (¬1) التمهيد لابن عبد البر: 9/ 137. (¬2) المغني لابن قدامة؛ 8/ 138. (¬3) المجموع للنووي: 7/ 139. (¬4) المجموع للنووي: 7/ 139. والمراد بالفاعل هنا: النائب في الحجِّ. (¬5) المجموع للنووي: 7/ 139. (¬6) المحلى لابن حزم: 8/ 192.

الترجيح

الترجيح: بعد ذكر أدلة الأقوال، وما ورد عليها من مناقشات، وما أمكن الجواب به عن هذه المناقشات، فإنّه يترجح القول الأوّل القائل يحواز الاستئجار على الحجِّ والعمرة؛ وذلك لما يأتي: أوَّلًا: قوة ما استدل به أصحاب هذا القول، وبخاصة ما يتعلّق بأدلة جواز النيابة في الحجِّ، فإنها نصوص صحيحة صريحة، وبعضها صريح في وقوع الحجِّ عن المحجوج عنه، فإذا جازت النيابة، وحصل النفع للمستنيب جاز أخذ الأجرة. ثانيًا: أن ما استدل به المانعون أمكن مناقشته، والجواب عنه ممّا أضعف دلالته على المنع. ثالثًا: أنّه من المتقرر أن الحجِّ يتكون من المال، والبدن، فإن تعذر البدن لمرض، أو موت، أو زمانه، بقيت الاستطاعة المالية، وقد تقدّم أن الستطيع بماله يدخل تحت عموم قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، وليس معنى ذلك إِلَّا إعطاء الغير ما يحج به عن المستنيب، ولا يمكن إلزامه أن يحج بالنفقة فقط، أو متبرعًا، فإنّه لا قائل بذلك، فإن تعذر وجود المتبرع، أو من يكتفي بالنفقة، فإنّه يتعين حينئذٍ الاستئجار طريقًا لقضاء ما وجب في ذمة المحجوج عنه من الحجِّ الواجب، وإلا بقيت ذمته مشغولة. ثمّ إنَّ النائب قد يكون فقيرًا، وهو كاسب أهله، ويحتاج إلى المال؛ لينفق منه على نفسه وأهله، أو يقضي دينه؛ فيكون من العدل حينئذ القول بجواز الاستئجار (¬1). رابعًا: أن القول بجواز الاستئجار قول يتفق مع أصول الشّريعة، ومقاصدها العظيمة، حيث جاءت بالتيسير، ورفع الحرج، والمشقة عن المكلفين، وتيسير سبل ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: 26/ 17.

الخير لهم، فإن الأخذ بهذا القول يمكن المكلَّف من إبراء ذمته، وتدارك ما فاته، ممّا أوجبه الله عليه، في الوقت الّذي لا يمكن فيه إلزام الغير بالتطوع عنه بذلك. ومما يجب التنبيه عليه هنا أن القول بجواز الاستئجار على الحجِّ، لا يعني أن يكون كلّ هم النائب هو جمع المال، أو يكون قصده من الحجِّ هو استفضال المال، والاكتساب بذلك فقط، فإن هذا - وإن قيل بجوازه - لا يستحب، ولا يحسن بالمسلم أن يفعل ذلك؛ لأنّ عمله حينئذ خرج من باب الطاعات، والقربات، إلى باب المباحات، فيحل له المال الّذي ياخذه، لكن لا ثواب له في الآخرة. ويقرر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية تقريرًا حسنًا بديعًا، فيقول: "وأمّا إذا كان قصده الاكتساب بذلك، وأن يستفضل مالًا، فهذا سورة الإجارة والجعالة، والصواب أنّه لايستحب - وإن قيل بجوازه -؛ لأنّ العمل المعمول للدنيا ليس بعمل صاع في نفسه، إذا لم يقصد به إِلَّا المال، فيكون من نوع المباحات، ومن أراد الدنيا بعمل الآخرة فليس له في الآخرة من خلاق". ثمّ يقول رحمه الله تعالى: "ونحن إذا جوزنا الإجارة والجعالة على أعمال البرّ الّتي يختص أن يكون فاعلها من أهل القرب، لم نجعلها في هذه الحالة إِلَّا بمنزلة المباحات، لانجعلها من "باب القرب"، فإن الأقسام ثلاثة: إمّا أن يعاقب على العمل بهذه النية، أو يثاب، أو لايثاب، ولايعاقب، وكذلك المال المأخوذ: إمّا منهي عنه، وإما مستحب، وإما مباح، فهذا هذا، والله أعلم. ولكن قد رجحت الإجارة على (¬1)، ... إذا كان محتاجًا إلى ذلك المال للنفقة مدة الحجِّ، وللنفقة بعد رجوعه، أو قضاء دينه، فيقصد إقامة النفقة، وقضاء الدِّين الواجب. وعليه فهنا تفسير الأقسام ثلاثة: * إمّا أن يقصد الحجِّ، ¬

_ (¬1) هنا كلمة ساقطة، ولعلّها كلمة: (غيرها).

والإحسان (¬1) فقط. * وإما أن يقصد النفقة المشروعة له فقط. * وإما أن يقصد كلاهما. فمتى قصد الأوّل فهو حسن، كان قصدهما معًا فهو حسن إن شاء الله؛ لأنّهما مقصودان صالحان، وإما إنَّ لم يقصد إِلَّا الكسب لنفقته، فهذا فيه نظر" (¬2). ¬

_ (¬1) المراد بالإحسان هو الإحسان إلى المحجوج عنه، كما سبق تفصيله في النفقة. (¬2) مجموع الفتاوى لابن تيمية: 26/ 16، 17.

المبحث الرابع أخذ المال على ذبح الهدي والاضاحي ونحوهما

المبحث الرّابع أخذ المال على ذبح الهدي والاضاحي ونحوهما المطلب الأوّل النيابة في ذبح الهدي والأضاحي اتفق أهل العلم على أن الأفضل لمن أراد أن يضحي، أو يهدي أن يفعل ذلك بنفسه (¬1)، فيقوم بذبح هديه (¬2)، أو أضحيته (¬3) بيده، إذا كان يحسن الذَّبح. وقد دلت السُّنَّة الصحيحة الصريحة على هذه الأفضلية، ومن ذلك: 1 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: (ضحَّى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين، أقرنين، ذبحهما بيده، وسمى، وكبر، ووضع رجله على صفاحهما) (¬4). ¬

_ (¬1) مختصر اختلاف العلماء للطحاوي: 2/ 176، الدر المختار للحصفكي مع حاشية ابن عابدين: 5/ 208، حاشية ابن عابدين: 5/ 208، التفريع لابن الجلّاب: 1/ 392، الكافي لابن عبد البر: 1/ 424، المنهاج للنووي مع شرحه مغني المحتاج: 4/ 283، 284، معني المحتاج للشربيني: 4/ 284، المغني لابن قدامة: 13/ 389، المبدع لابن مفلح: 3/ 283، الإنصاف للمرداوي: 4/ 83. (¬2) الهدي: لغة: ما أهدي إلى مكّة من النعم، قال تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}: لسان العرب لابن منظور؛ 15/ 358، مادة. هدي. واصطلاحًا: "هو ما يهد إلى البيت الحرام من النعم، لتنحر": المبدع لابن مفلح: 3/ 276، وكشاف القناع للبهوتي: 2/ 530. (¬3) الأضحية: لغة: الشاة الّتي تذبح ضحوة، يقال: ضحى بالشاة: ذبحها ضحى النَّحر: لسان العرب لابن منظور: 14/ 476، وما بعدها، مادة: ضحا. واصطلاحًا: "ما يذبح من النعم تقربًا إلى الله تعالى من يوم العيد إلى آخر أيّام التّشريق": مغني المحتاج الشربيني: 4/ 282. (¬4) أخرجه البخاريّ، كتاب الأضاحي، باب من ذبح الأضاحي بيده: 10/ 20 (5558)، ومسلم في الأضاحي، باب استحباب الضحية وذبحها مباشرة بلا توكيل: 3/ 1556 (1966).

وجه الاستدلال من الحديثين

2 - ما رواه جابر بن عبد الله في حديث الحجِّ الطويل، حيث ذكر صفة حجة النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، فذكر فيه: (... ثمّ انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثًا وستين بيده، ثمّ أعطى عليًا، فنحر ما غبر، وأشركه في هديه ....) (¬1). وجه الاستدلال من الحديثين: حيث قام النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بذبح أضحيته، ونحر هديه بنفسه، وبيده الشريفة - صلّى الله عليه وسلم -؛ فدل ذلك على استحباب أن يباشر الإنسان ذلك بنفسه، وأن ذلك أفضل من توكيل غيره. 3 - ولأن ذبح الهدي، والأضاحي، فعله قربة، وفعل القربة أولى من استنابته فيها (¬2). وأمّا النيابة في ذبح الهدي، والأضاحي، فقد أجمع العلماء على جواز استنابة المسلم في ذبح الهدي، والأضاحي (¬3). قال الإمام النووي: "وأجمعوا على أنّه يجوز أن يستنيب في ذبح أضحيته مسلمًا" (¬4). وقال ابن قدامة: "وإن ذبحها بيده كان أفضل ... فإن استناب فيها جاز ... وهذا لا خلاف فيه" (¬5). ومستند هذا الإجماع هو السُّنَّة الصحيحة الثابتة من فعله - صلّى الله عليه وسلم -، حيث استناب عليًا - رضي الله عنه - في نحر ما بقي من بُدْنِه بعد ثلاث وستين، كما في حديث جابر السابق (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم، كتاب الحجِّ، باب حجة النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: 2/ 886 (1218). وأبو داود في المناسك، باب صفة حجة النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: 2/ 182 (1905). (¬2) المغني لابن قدامة: 13/ 389. (¬3) مختصر اختلاف العلماء للطحاوي: 2/ 176، الكافي لابن عبد البر: 1/ 424، المجموع للنووي: 8/ 407، المغني لابن قدامة: 13/ 389 - 390. (¬4) المجموع للنووي: 8/ 407. (¬5) المغني لابن قدامة: 8/ 389، 390. (¬6) حيث جاء فيه: " .... ثمّ انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثًا وستين بيده، ثمّ أعطى عليًا ما غبَر، وأشركه في هديه".

المطلب الثاني أخذ الاجرة على ذبح الهدي والاضاحي

المطلب الثّاني أخذ الاجرة على ذبح الهدي والاضاحي ما يأخذه الجزار من أجرة على ذبحه للهدي، أو الأضاحي، لا يخلو، إمّا أن يكون ما ياخذه من غيرها، أو منها: الحالة الأولى: إذا كان ما يأخذه من غيرها: إذا أخذ الجزار أجرته على ذبح الهدي، والأضاحي من غيرها، بأن لايأخذ شيئًا من لحمها، أو جلدها، أو جلالها أجرة على عمله، ففي هذه الحالة لاخلاف بين العلماء في جواز ذلك (¬1). وقد دلّ على ذلك، النص، والمعقول: أوَّلًا: النص: عن علي ين أبي طالب - رضي الله عنه - قال: أمرني رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أن أقوم على بُدْنِهِ، وأن أتصدق بلحمها، وجلودها، وأحلتها، وأن لا أعطي الجزّار منها. قال: "نحن نعطيه من عندنا" (¬2). وجه الاستدلال: حيث نهى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - عن إعطاء أجرة الجزار من الهدي، وأن ¬

_ (¬1) مختصر القدوري المسمى (الكتاب) مع شرحه اللباب: 1/ 225، شرح فتح القدير لابن الهمام: 2/ 325، حاشية ابن عابدين: 2/ 209، الكافي لابن عبد البر: 1/ 424، شرح السُّنَّة للبغوي: 7/ 188، حاشية قليوبي على المنهاج: 3/ 76، الفروع لابن مفلح: 4/ 437، معونة أولي النّهي لابن النجار: 5/ 84، شرح منتهى الإرادات للبهوتي: 2/ 367. (¬2) أخرجه البخاريّ في كتاب الحجِّ، باب لا يعطى الجزار من الهدي شيئًا: 3/ 649 (1716)، (1717)، ولكن بدون زيادة: "نحن نعطيه من عندنا"، وأخرجه مسلم، في كتاب الحجِّ، باب في الصَّدقة بلحوم الهدي، وجلودها، وجلالها: 2/ 954 (1317).

ثانيا: المعقول

يُعطى أجرته من غيرها، وهو نصّ صريح يدلُّ على وجوب إعطاء أجرة الجزار من غيرها، لا مجرد الجواز. ثانيًا: المعقول: إنَّ ذبح الهدي، والأضاحي، ونحوها يقع تارة قربة، وتارة غير قربة، فجاز أخذ الأجرة علي، كغرس الأشجار، وبناء البيوت (¬1). الحالة الثّانية: إذا كانت أجرة الجزار منها: إذا كانت أجرة الجزار من الهدي، والأضاحي سواء أخذ من لحمها، أو جلدها، أو جلالها، فقد اتفق العلماء على عدم جواز ذلك (¬2). وخالف الحسن البصري، وعبد الله بن عبيد بن عمير (¬3)، فقالا: يجوز إعطاء الجزار أجرته منها (¬4). قال ابن حجر، نقلًا عن أبي العباس القرطبي (¬5): "ولم يرخص في إعطاء الجزار ¬

_ (¬1) معونة أولي النّهي لابن النجار: 5/ 84، شرح منتهى الإرادات للبهوتي: 2/ 367. (¬2) الهداية شرح البداية للمرغيناني مع شرحه فتح القدير لابن الهمام: 2/ 324، 325، حاشية ابن عابدين: 5/ 209، الكافي لابن عبد البر: 1/ 424، شرح النووي على مسلم: 9/ 65، المغني لابن قدامة: 13/ 381، 382، 5/ 301، الروض المربع مع حاشية ابن قاسم: 4/ 235. (¬3) هو: أبو هاشم الليثي المكي، يروي عن عائشة، وابن عبّاس، وابن عمر، وروى عنه الزهريّ، وابن جريج، والأوزاعي، وغيرهم، وثقه أبو حاتم، توفي بمكة عام 113 هـ: التاريخ الكبير للبخاري: 5/ 143، سير أعلام النُّبَلاء للذهبي: 4/ 157، 158. (¬4) المغني لابن قدامة: 13/ 381، 382، شرح النووي على مسلم: 9/ 65، فتح الباري لابن حجر: 3/ 651، معالم السنن للخطابي مع السنن تحقيق الدعاس: 2/ 372. (¬5) هو: ضياء الدِّين أبو العباس، أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي، يعرف بابن المزين، فقيه مالكي، من أعيان فقهاء المالكية، نزيل الإسكندرية، ولد بقرطبة سنة 578 هـ، وتوفي بالإسكندرية سنة 656 هـ، من مؤلفاته: المفهم شرح صحيح مسلم، مختصر صحيح البخاريّ: الديباج المذهب لابن فرحون: ص /68، شجرة النور الزكية لمخلوف، ص / 194.

وحجة الجمهور فيما ذهبوا اليه

منها في أجرته، إِلَّا الحسن البصري، وعبد الله بن عبيد بن عمير" (¬1). قال النووي: "وقال الحسن البصري: يجوز أن يُعطى الجزار جلدها، وهذا منابذ للسنة" (¬2). وحجة الجمهور فيما ذهبوا إليه: أوَّلًا: النص: وهو ما تقدّم في حديث علي بن أبي طالب، وفيه: " ... وأن لا أعطي الجزار منها ... " وأكد ذلك النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بقوله: "نحن نعطيه من عندنا". قال أبو العباس القرطبي معلقًا على ذلك: "وقوله: (نحن نعطيه من عندنا)، مبالغة في سدّ الذريعة، وتحقيق للجهة الّتي تجب عليها أجرة الجازر" (¬3). ثانيًا: المعقول: 1 - إنَّ الذَّبح على صاحب الهدي، أو الأضحية، فعِوضُهُ عليه دون المساكين (¬4). 2 - إنَّ دفع جزءٍ منها عوضًا عن الجزارة، كبيعه، ولا يجوز بيع شيء منها (¬5). * بهذا يتبين رجحان ما ذهب إليه الجمهور، ويمكن الاعتذار عما ذهب إليه الحسن البصري، ومن معه، بأنّه: لم يبلغهما الحديث، أو أنّهما أرادا بذلك: إعطاء الجزار على سبيل الصَّدقة، أو الهدية، وهذا جائز. ¬

_ (¬1) فتح الباري لابن حجر: 3/ 651، قلتُ: ونص القرطبي كما في المفهم شرح مسلم: "وكان الحسن البصري، وعبد الله بن عبيد الله بن عمير لا يريان بأسًا أن يُعطى الجزار الجلد": 3/ 416. (¬2) شرح النووي على مسلم: 9/ 65. (¬3) المفهم شرح صحيح مسلم لأي العباس القرطبي: 3/ 416، دار ابن كثير، ط 1: 1417 هـ (¬4) المغني لابن قدامة: 5/ 302. (¬5) المغني لابن قدامة: 5/ 302.

قال البغوي (¬1): "فأمّا أن يتصدق عليه بشيء منه، فلا باس به، هذا قول أكثر أهل العلم" (¬2). قال ابن قدامة: "فأمّا إنَّ دفع إليه لفقره، أو على سبيل الهدية، فلا بأس؛ لأنّه مستحق للأخذ، فهو كغيره، بل هو أولى؛ لأنّه باشرها، وتاقت نفسه إليها" (¬3). ¬

_ (¬1) هو الإمام الحافظ الحجة شيخ الإسلام محى السُّنَّة أبو محمّد الحسين بن مسعود الفراء البغوي، نشأ شافعي المذهب، وألف فيه التهذيب، ولم يتعصب، بل كان يرجح ما يرجحه الدّليل، له مؤلفات كثيرة جدًا منها: معالم التنزيل في التفسير، ومصابيح السُّنَّة، وشرح السُّنَّة في الحديث، والتهذيب في فقه الشّافعيّة، وغيرها، توفي سنة 516 هـ في مرو الروز: سير أعلام النُّبَلاء: 2/ 103، طبقات الشّافعيّة الكبرى: للسبكي: 7/ 75 - 80. (¬2) شرح السُّنَّة للبغوي: 7/ 188. (¬3) المغني لابن قدامة: 13/ 382.

الصندوق الخيري لنشر البحوث والرسائل العلمية (3) الدراسات الفقهية (3) أخذ المال على أعمال القُرَب تَأليف عَادِل شَاهِيْن محمَّد شَاهِيْن الجُزْءُ الثَّاني كُنُوزْ إشْبِيْليَا للنشر والتوزيع

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أصل هذا الكتاب رسالة ماجستير قدمت إلى قسم الفقه بكلية الشّريعة، جامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلامية بالرياض، وتكونت لجنة المناقشة من: فضيلة الدكتور/ أحمد بن يوسف الدريويش ... رئيسًا فضيلة الدكتور/ إبراهيم بن عبد العزيز الغصن ... عضوًا فضيلة الدكتور/ صبري السعداوي مبارك ... عضوًا ونال بها الباحث درجة الماجستير بتقدير ممتاز.

الفصل الرابع أخذ المال عله الجهاد

الفصل الرّابع أخذ المال عله الجهاد وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأوَّل: نفقة المجاهدين. المبحث الثّاني: أخذ المال على القتال. المبحث الثّالث: أخذ المال على متعلّقات الجهاد.

المبحث الأول نفقة المجاهدين

المبحث الأوَّل نفقة المجاهدين المطلب الأوّل أخذ المجاهدين من الزَّكاة لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يجوز للمجاهدين الأخذ من الزَّكاة قدر حاجتهم في جهادهم (¬1)، على اختلاف بينهم في بعض القيود الّتي يأتي بيأنّها (¬2). وقد دل على ذلك الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع. أوَّلًا: الدّليل من القرآن الكريم: قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]. ¬

_ (¬1) الجهاد لغة: الطاقة والمشقة: لسان العرب لابن منظور: 3/ 133، القاموس المحيط للفيروز أبادي: ص/ 351. واصطلاحًا: "هو قتال مسلم كافرًا، غير ذي عهد، بعد دعوته للإسلام، وإبائه، إعلاء لكلمة الله تعالى": شرح فتح القدير لابن الهمام: 4/ 277، الخرشي على خليل: 2/ 107، الشرقاوي على التحرير: 392/ 2، الروض المربع مع حاشية ابن القاسم: 4/ 253. (¬2) المبسوط للسرخسي: 3/ 10، وعمدة القاري للعيني: 9/ 44، 45، المعونة للقاضي عبد الوهاب: 443/ 1، الشرح الصغير للدردير: 1/ 663، جواهر الإكليل: 1/ 139 - ، الأم للإمام الشّافعيّ: 2/ 72 وما بعدها، المجموع للنووي: 6/ 211، 212، الأحكام السلطانية لأبي يعلى: ص / 117، المغني لابن قدامة: 9/ 326.

وجه الاستدلال

وجه الاستدلال: حيث حدد الله - سبحانة وتعالى - في الآية الكريمة مصارف الزَّكاة الثمانية، ومنها مصرف (في سبيل الله). قال ابن قدامة: "هذا الصنف السابع من أهل الزَّكاة، ولا خلاف في اسقحقاقهم، وبقاء حكمهم، ولا خلاف في أنّهم الغزاة في سبيل الله؛ لأنّ سبيل الله عند الإطلاق هو الغزو ... " (¬1). ثانيًا: الدّليل من السُّنَّة: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (لا تحل الصَّدقة لغني إِلَّا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل كان له جار مسكين، فتصدق على المسكين، فأهداها المسكين للغني) (¬2). وجه الاستدلال: في هذا الحديث بيان أن للغازي - كان كان غنيًا - أن يأخذ من الصَّدقة، ويستعين بها في غزوة، وهو من سهم (سبيل الله) (¬3). ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة: 9/ 326. (¬2) أخرجه مالك في الموطَّأ، كتاب الزَّكاة، باب أخذ الصَّدقة ومن تجوز له أخذها: 1/ 268 (29)، وأخرجه أحمد في مسنده: 3/ 71 (11524)، وأبو داود، كتاب الزَّكاة، باب من يجوز له أخذ الصَّدقة وهو غني: 2/ 119 (1635)، وابن ماجه، في الزَّكاة، باب من تحل له الصَّدقة: 1/ 590 (1841)، هذا الحديث رواه مالك، وأحمد، وأبو داود في رواية مرسلًا، عن عطاء بن يسار، عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، ووصله أبو داود، وابن ماجه، فجاء عن عطاء، عن أبي سعيد الخدري، فصح الحديث، وقد صححه ابن خزيمة في صحيحه: 4/ 71، والحاكم: 1/ 407، والألباني كما في الإرواء: 3/ 377 (870). (¬3) معالم السنن للخطابي (بحاشية سنن أبي داود، تحقيق الدعاس): 2/ 287.

مناقشة الاستدلال

مناقشة الاستدلال: ناقش الحنفية هذا الاستدلال: بأن المراد بالغني في الحديث هو: الغني بقوة البدن، والقدرة على الكسب، لا الغني بالنصاب الشرعي (¬1). ثالثًا: الإجماع: قال ابن عبد البر: "أجمع العلماء على أن الصَّدقة تحل لمن عمل عليها، وإن كان غنيًا، وكذلك المشتري لها بماله، والذي تهدى إليه، وإن كانوا أغنياء، وكذلك سائر من ذكر في الحديث ..... (¬2). وقد نقل غير واحد من العلماء الاتفاق على ذلك (¬3). هذا، وقد اختلف العلماء في بعض القيود الّتي بموجبها يجوز للمجاهدين الأخذ من الزَّكاة، ومن هذه القيود: أ - أن يكون المجاهد فقيرًا: وهذا القيد ذكره الحنفية (¬4)، حيث اشترطوا في المجاهد كي ياخذ من الزَّكاة من سهم (في سبيل الله) أن يكون فقيرًا. قال السرخسي: "وأمّا قوله تعالى: {وفي سبيل الله} فهم فقراء الغزاة ... ولا يصرف إلى الأغنياء عندنا .... " (¬5). واستدل الحنفية على ذلك بما يأتي: ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي: 3/ 10. (¬2) الاستذكار لابن عبد البر: 9/ 203، وانظر كذلك، 9/ 199. (¬3) مراتب الإجماع لابن حزم، ص/37، أحكام القرآن لابن العربي: 2/ 969، المغني لابن قدامة: 9/ 326، موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي لسعدي أبي جيب: 1/ 500. (¬4) المبسوط للسرخسي: 3/ 10، العناية شرح الهدية للبابرتي (بهامش شرح فتح القدير): 2/ 18، حاشية ابن عابدين: 2/ 61. (¬5) المبسوط للسرخسي: 3/ 10.

وجه الاستدلال

حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - حين بعثه النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - إلى اليمن، حيث جاء فيه قوله - صلّى الله عليه وسلم -: (... فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم ....) (¬1). وجه الاستدلال: حيث دلّ الحديث بظاهره على أن الزَّكاة لا تكون إِلَّا في الفقراء، ومنهم الغازي في سبيل الله، فلا يأخذ منها إِلَّا بوصف الفقر (¬2). مناقشة الاستدلال: نوقش الاستدلال بهذا الحديث بعدة مناقشات: أوَّلًا: أن هذا الحديث الّذي استدلوا به عام، مخصوص بحديث أبي سعيد الخدري السابق، وهو قوله - صلّى الله عليه وسلم -: (لا تحل الصَّدقة لغني إِلَّا لخمسة: لغاز في سبيل الله ....) (¬3) الحديث. حيث استثنى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - الغازي في سبيل الله، وبقية الخمسة المذكورين في الحديث في جواز الأخذ من الزَّكاة مع الغنى (¬4). ثانيًا: أن الله تعالى جعل الفقراء والمساكين صنفين، وعدّ بعدهما ستة أصناف؛ فلا يلزم وجود صفة المصنفين في بقية الأصناف، كما لا يلزم وجود صفة الأصناف فيهما (¬5). ثالثًا: أن هذا الغازي، إنّما يأخذ مع الغنى من الزَّكاة لحاجتنا إليه، فأشبه العامل والمؤلِّف، فأمّا أهل سائر السهمان، فإنّما يعتبر فقر من ياخذ لحاجته إليها، دون من ¬

_ (¬1) سبق تخريجه، راجع مبحث أخذ المال على الزَّكاة. (¬2) المغني لابن قدامة: 9/ 326، 327. (¬3) سبق تخريجه، راجع ص 418. (¬4) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 8/ 18. (¬5) المغني لابن قدامة: 9/ 327.

يأخذ لحاجتنا إليه (¬1). رابعًا: -أن ما ذهب إليه الحنفية، إنّما هو زيادة على النص، والزيادة على النص نسخ عندهم، والنسخ لايكون إِلَّا بقرآن، أو خبر متواتر (¬2)، وذلك معدوم هنا (¬3). وبهذا يتبين أن ما ذهب إليه الحنفية عن اشتراط كون المجاهد فقيرًا حتّى يجوز له الأخذ من الزَّكاة، غير صحيح. وعليه، فإن ما ذهب الجمهور من عدم اشتراط الفقر في المجاهد هو الحقال في لاريب فيه؛ وذلك لما يأتي: 1 - قوة ما ذهب إليه الجمهور، حيث جاء حديث أبي سعيد الخدري نصًا في محل النزاع. 2 - أن هذا القيد يجعل مصرف (في سبيل الله) لا وجود له؛ لأنّه بهذا القيد يرجع إلى المصرف الأوّل، وهم: (الفقراء)، وهذا لا يصح؛ لأنّ الله تعالى ذكر ثمانية مصارف، وغاير بينهما، فدل على أن مصرف (في سبيل الله) يختلف عن مصرف (الفقراء). 3 - أن ما أجابوا به عن حديث أبي سعيد، من حمل الغنى في الحديث على قوة البدن، تأويل بعيد يرده ظاهر النص، ودلالة السياق. ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة: 9/ 327. (¬2) التواتر لغة: التتابع. القاموس المحيط: ص/ 631، مادة: وتر. اصطلاحًا: أ - عند الأصولين والفقهاء: (هو خبر أقوام بلغوا في الكثرة إلى حيث يحصل العلم بقولهم): المحصول للرازي؛ 4/ 227. ب - عند المحدثين: (هو ما هواه جمع تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، أو صدوره منهم اتفاقًا من غير قصد، ويستمر ذلك من أو له إلى اخره، ويكون مرجعه إلى الحس من مشاهدة، أو مسموع، أو نحوهما): نزهة النظر لابن حجر مع النكت لعلّي حسن: ص/52 - 55، الوسيط في علوم ومصطلح الحديث لأبي شهبة: ص/189. (¬3) أحكام القران لابن العربي: 2/ 969.

ب - أن لا يكون الغزاة ممّن لهم سهم في ديوان المرتزقة: ذهب الشّافعيّة (¬1)، والحنابلة (¬2)، إلى اشتراط كون الغزاة متطوعين لا حق لهم في ديوان المرتزقة من بيت المال. وقد عللوا ذلك بما يأتي: أن من له رزق راتب يكفيه، فهو مستغنٍ به، فلا يعطى من الصدقات (¬3). ¬

_ (¬1) المهذب للشيرازي: 1/ 173، المجموع للنووي: 6/ 212. (¬2) المغني لابن قدامة: 9/ 327، المبدع لابن مفلح: 2/ 424. (¬3) المهذب للشيرازي: 1/ 172، المبدع لابن مفلح، 2/ 424، المقنع لابن قدامة، مع حاشيته: 1/ 349.

المطلب الثاني أخذ المجاهدين من بيت المال

المطلب الثّاني أخذ المجاهدين من بيت المال لقد سبق الحديث عن بيت المال من حيث التعريف به، وبيان ما يردّ إليه من أموال، وبيان أقسامه، ومنها بيت مال الفيء، وهو المعني هنا. أمّا بقية أموال بيت المال، فلها مصارف محددة، ومعروفة سبق الكلام عنها (¬1). وأمّا حكم أخذ المجاهدين من بيت المال، فقد اتفق العلماء على أن كفاية المجاهدين، وكفاية من يعولون، تكون في بيت المال (¬2). وذكر بعضهم الإجماع على ذلك (¬3). وقد بالغ بعض أهل العلم، فذهب إلى اختصاص أهل الجهاد بمال الفيء؛ قال ابن قدامة: "وذكر القاضي، أن أهل الفيء هم أهل الجهاد من المرابطين في الثغور، وجند المسلمين، ومن يقوم بمصالحهم" (¬4). وعلل ذلك: بأن مال الفيء كان للنبي - صلّى الله عليه وسلم - في حياته؛ لحصول النصرة، والمصلحة به، فلما مات صارت للجند، ومن يحتاج إليه المسلمون، فصار ذلك لهم دون غيرهم (¬5). ¬

_ (¬1) راجع، ص 96 من هذا الكتاب. (¬2) المبسوط للسرخسي: 3/ 17، 18، 10/ 20، شرح فتح القدير لابن الهمام: 4/ 284، البناية شرح الهداية للعيني: 6/ 494، حاشية ابن عابدين: 2/ 85، 3/ 281، البيان والتحصيل لابن رشد: 18/ 317، شرح الزرقاني على خليل: 3/ 127، 128، جواهر الإكليل للآبي: 1/ 260. المغني لابن قدامة: 9/ 298، 302 - 303، مجموع الفتاوى لابن تيمية: 28/ 565، قال ابن تيمية: "فقد اتفق العلماء على أن يصرف منه أرزاق الجند الماقاتلة". (¬3) فتح الباري للحافظ ابن حجر: 6/ 311، موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي لسعدي أبي جيب: 2/ 860. (¬4) المغني لابن قدامة: 9/ 298. (¬5) المغني لابن قدامة: 9/ 298، وانظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية: 30/ 134.

* ضابط ما يأخده المجاهدون من بيت المال

* ضابط ما يأخده المجاهدون من بيت المال: إعطاء المجاهد من بيت المال مقدر بالكفاية، له، ولمن يعول، سواء أكان يأخذ عطاءه في كلّ شهر، أم في كلّ سنة، فيعطى ما يكفيه في شهره، أو في سنته، ثمّ تعرض حاله في كلّ مرّة، فإذا زادت حاجته زيد له في عطائه، وإذا نقصت نقص عطاؤه. قال السرخسي عند كلامه عن مصارف بيت المال: " ... ومنها إعطاء المقاتلة كفايتهم، وكفاية عيالهم .... (¬1). وقال الماوردي: "والمعتبر هو نفقته، ونفقة من يعول لمدة سنة، ثمّ تعرض حاله في كلّ عام، فإذا زادت رواتبه الماسة زيد، كان نقصت نقص" (¬2). * السبب الّذي به يأخذ المجاهدون من بيت المال: علل العلماء ذلك بعدة تعليلات منها: أوَّلًا: أن المجاهدين قد فرغوا أنفسهم للجهاد، ودفع شر أعداء الإسلام عن المسلمين، فيعطون الكفاية من أموالهم (¬3). ثانيًا: أن المجاهدين بأخذهم هذا العطاء، يستغنون به عن التماس مادة تقطعهم عن حماية البيضة (¬4). ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي: 3/ 18، 10/ 20. (¬2) الأحكام السلطانية للماوردي، ص/ 205، وانظر: الغياثي للجويني المسمى: غياث الأمم في التياث الظلم، ص/ 245. (¬3) المبسوط للسرخسي: 3/ 18. (¬4) الأحكام السلطانية للماوردي، ص / 245.

ثالثًا: أن ذلك هو فعل عمر - رضي الله عنه -، حيث دوّن الدواوين، وجعل ديوانًا للمقاتلة (¬1)، وقد أقره الصّحابة على ذلك، فكان إجماعًا سار عليه عمر، ومن بعده من الخلفاء، وإلى يومنا هذا. ¬

_ (¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد: 3/ 214، تاريخ الأمم والملوك للطبري: 4/ 162، 231، 5/ 22، مغني المحتاج للشربيني: 3/ 95.

المبحث الثاني أخذ المال على القتال

المبحث الثّاني أخذ المال على القتال المطلب الأوّل استئجار المسلم للقتال الجهاد في سبيل الله، حكمه في الأصل أنّه فرض كفاية (¬1)، وقد يتعين في حالات ذكرها العلماء (¬2). فإذا كان الجهاد فرض عين، فإنّه لايجوز الاستئجار عليه باتِّفاق أهل العلم، حكمه في ذلك حكم فروض الأعيان الّتي لايجوز الاستئجار عليها؛ كصلاة الإنسان لنفسه، وصيامه لنفسه، وحجه لنفسه (¬3). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين: 3/ 218، 219، بداية المجتهد لابن رشد: 1/ 380، وقد نقل الإجماع على أن الجهاد فرض كفاية؛ قال: "فأمّا حكم هذه الوظيفة، فأجمع العلماء على أنّها فرض على الكفاية لا فرض عين ... "، روضة الطالبين للنووي: 10/ 208، مغني المحتاج للشربيني: 4/ 209، المغني لابن قدامة: 13/ 6، السيل الجرار للشوكاني: 4/ 518. (¬2) ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الجهاد يهون فرض عين في الحالات الآتية: أ - إذا التقى الزحفان، وتقابل الصفان، أي: أنّه إذا حضرٍ ميدان المعركة، ففي هذه الحالة يتعين عليه المقام، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا ....} سورة الأنفال: آية: 45. ب - إذا هجم العدو على البلد، فيتعين حينئذ الدفع، ويحرم الانصراف؛ لأنّ دفع ضرره عن الدِّين، والنفس، والحرمة واجب إجماعًا. جـ - إذا استنفر الإمام قومًا بأعينهم، فإنّه يتعين عليهم النَّفْير معه؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ...} الآية: سورة التوبة/ آية: 38: حاشية ابن عابدين: 3/ 221، حاشية الدسوقي: 2/ 174، روضة الطالبين للنووي: 10/ 215، الروض المربع مع حاشية ابن قاسم: 4/ 256 - 258، الاختيارات الفقهية لابن تيمية، ص /308، زاد المعاد لابن القيم: 3/ 558. (¬3) السير الكبير لمحمد بن الحسن مع شرحه للإمام السرخسي: 3/ 862. المدوّنة للإمام مالك: 2/ 44، شرح السُّنَّة للبغوي: 11/ 16، روضة الطالبين للنووي: 10/ 240، مغني المحتاج للشربيني: 2/ 344، الإنصاف للمرداوي: 4/ 181.

أمّا إذا كان الجهاد فرض كفاية، فقد اختلف العلماء في حكم الاستئجار عليه على قولين: القول الأوّل: المنع مطلقًا من الاستئجار على الجهاد؛ سواء أكان المستأجر هو الإمام، أم غيره من أفراد الرعية، وسواء أكان الأجير ممّن يلزمه الجهاد في الأصل، وهو المسلم الحر، أم كان ممّن لايلزمه الجهاد في الأصل؛ كالعبد، والمرأة. وإلى هذا القول ذهب الحنفية (¬1)؛ قال السرخسي: " ... واستئجار المسلم على الجهاد باطل" (¬2)، وهو الذهب عند المالكية، كما في الدونة (¬3). قال ابن القاسم: "والذي يؤاجر نفسه في الغزو، أن ذلك لا يجوز في قول مالك، وهو رأي، أنّه لا يجوز ..... (¬4). وهو مذهب الشّافعيّة (¬5)، قال النووي: "لا يجوز أن يستأجر الإمام، ولا أحد الرعية مسلمًا للجهاد ... " (¬6). وهذا القول هو المشهور من الذهب عند الحنابلة (¬7)، قال ابن النجار الفتوحي: "ولاتصح الإجارة على الجهاد على الأصح" (¬8). ¬

_ (¬1) كتاب السير الكبير لمحمد الحسن مع شرح السرخسي: 1/ 139، 3/ 862، 875، 944، بدائع الصنائع للكاساني: 4/ 191. (¬2) شرح السير الكبير لمحمد بن الحسن، للإمام السرخسي: 3/ 862. (¬3) المدوّنة للإمام مالك 2/ 44. (¬4) المدوّنة للإمام مالك: 2/ 44. (¬5) شرح السُّنَّة للبغوي: 11/ 6، نهاية المحتاج للرملي: 5/ 290. (¬6) روضة الطالبين للنووي: 10/ 240. (¬7) الإنصاف للمرداوي: 4/ 180، كشاف القناع للبهوتي: 3/ 90. (¬8) معونة أولي النّهي لابن النجار: 3/ 703، 704.

القول الثّاني: يجوز الاستئجار على الجهاد، إذا كان فرض كفاية؛ سواء كان المستأجر الإمام، أم غيره، وسواء أكان الأجير ممّن يلزمه الجهاد؛ كالمسلم الحر، أم ممّن لا يلزمه؛ كالعبد، والمرأة. وإلى هذا القول ذهب بعض المالكية (¬1)، وخصه ابن عبد البر بالإمام خاصّة؛ قال: "ولاباس أن يستأجر (¬2) الغازي يغزو معه، ولاحرج على من آجر نفسه منه" (¬3). وما ذهب إليه ابن عبد البر هو قول الصَّيدلُّاني (¬4) من الشّافعيّة؛ قال النووي: "وعن الصَّيدلُّاني: أنّه يجوز للإمام أن يستأجره، ويعطيه أجره من سهم المصالح" (¬5). وهذا القول هو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد وحمه الله تعالى، وهو قول الخرقي، وإليه مال ابن قدامة في المغني (¬6). ¬

_ (¬1) مواهب الجليل للحطاب: 3/ 356، التاج والإكليل للمواق بهامش مواهب الجليل: 3/ 356. (¬2) أي: الإمام خاصّة دون غيره من آحاد الرعية. (¬3) الكافي لابن عبد البرّ: 1/ 465. (¬4) هو: محمّد بن داود بن محمّد المروزي الداوودي، أبو بكر الصَّيدلُّاني، من أئمة الشّافعيّة، ومن عظماء تلامذة أبي بكر القفال المروزي، له مؤلفات كثيرة منها: شرح مختصر المزني، وشرع فروع الفقه لابن الحداد، تأخرت وفاته عن أبي بكر القفال بنحو عشرين سنة، ولم تذكر له كتب التراجم تاريخًا لوفاته، وقيل: إنّه توفي في حدود سنة 427 هـ تقريبًا: طبقات الشّافعيّة الكبرى للسبكي: 4/ 148، 5/ 364، وطبقات الشّافعيّة للإسنوي: 2/ 129، 130، طبقات الشّافعيّة لابن هداية الله، ص/ 152، 153. (¬5) روضة الطالبين للنووي: 10/ 240، وقد ذكر في حكم استئجار العبيد وجوهًا واحتمالات (¬6) المغني لابن قدامة: 13/ 163، 164، شرح الزركشي على الخرقي: 6/ 534، الفررع لابن مفلح: 6/ 231، المبدع لبرهان الدِّين بن مفلح: 3/ 370، الإنصاف للمرداوي: 4/ 179 وما بعدها. وقد ورد عن الإمام أحمد ما يحتمل القول جهواز الاستئجار على الجهاد بإطلاق، من ذلك ما جاء في مسائل الإمام أحمد من رواية ابنه عبد الله؛ قال: "سألت أبي عن الإمام يستأجر قومًا قبل أن يدخل البلاد، يغزو بهم، فما غنموا فله دونهم؛ فقال: لا يسهم لهم، ولكن يوفي لهم ما استؤجروا عليه "اهـ ص/249، فقد حمل القاضي أبو يعلى كلام الإمام أحمد على من لايجب عليه الجهاد؛ كالعبد والكفار: المغني لابن قدامة: 13/ 164، المقنع في شرح مختصر الخرفي لابن البنا: 3/ 1185.

الأدلة والمناقشة

الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة أصحاب القول الثّاني: استدل أصحاب هذا القول، وهم القائلون بالجواز، بأدلة من السُّنَّة، والمعقول: أ - أدلتهم من السُّنَّة: الدّليل الأوّل: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: (للغازي أجره، وللجاعل أجرهُ، وأجر الغازي) (¬1). وجه الاستدلال: حيث أجاز النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - الجعل على الجهاد؛ وذلك بإثبات الأجر للغازي، فإذا جاز الجعل على الجهاد جاز أخذ الأجرة عليه؛ لأنّها في معناه. مناقشة الاستدلال: نوقش الاستدلال بهذا الحديث من عدة وجوه: الأوّل: أن هذا الحديث محصول على من يجوز الغازي التطوع؛ أي: أن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قد أخبر بحصول الأجر الأخروي لمن أراد أن يجوز غازيًا، من غير أن يشترط عليه أن يغزو بما أعطاه، فيكون الغزو تطوعًا، لا استئجارًا (¬2). الثّاني: يمكن مناقشة هذا الحديث كذلك: بأنّه خاص بالجعل على القتال، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند: 2/ 232 (6621)، وأبو داود، كتاب الجهاد، باب الرُّخصة في أخذ الجعائل: 3/ 17 (2526)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب السير، باب ما جاء في تجهيز الغازي، وأجر الجاعل: 9/ 48 (17845)، والطحاوي في مشكل الآثار، باب مشكل ما ورد عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - من قوله: "للغازي أجره": 8/ 313 (3263)، والبغوي في شرح السُّنَّة، كتاب السير والجهاد، باب أخذ الجعل: 11/ 14 (2671). والحديث صحيح صححه الألباني في صحيح أبي داود: 2/ 480، وشعيب الأرناؤوط في تحقيقه على شرح مشكل الآثار للطحاوي: 8/ 309. (¬2) معرفة السنن والآثار للبيهقي: 13/ 126، تحقيق قلعجي، عون المعبود للعظيم آبادي: 7/ 144.

الدليل الثاني

وقياس الاستئجار على الجعالة قياس مع الفارق، فإن باب الجعالة أوسع من باب الإجارة، حيث إنها تصح مع جهالة العمل، والمدة، والعامل، بخلاف الإجارة، وقد سبق بيان ذلك مرارًا (¬1). الثّالث: لو سلمنا جواز القياس على الجعالة، فإنّه لا يصح هنا؛ لأنّ الجعالة على الجهاد مختلف فيها، كما سيأتي، والقياس على أمر مختلف فيه لا يصح؛ فإن من شرط القياس أن يكون حكم الأصل متفقًا عليه، وقد سبق بيان ذلك (¬2). الدّليل الثّاني: عن جبير بن نفير (¬3)؛ قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (مثل الذين يغزون من أمتي، ويأخذون الجعل يتقوون به على عدوهم مثل أم موسى ترضع ولدها، وتأخذ أجرها) (¬4). وجه الاستدلال: وجه الاستدلال من هذا الحديث كسابقه، وحاصله قياس الإجارة في الجهاد على الجعالة في الجواز بجامع أن كلا منهما من عقود العاوضة. مناقشة الاستدلال: أوَّلًا: يناقش هذا الحديث بما نوقش به الحديث السابق. ¬

_ (¬1) راجع، ص/ 51 - 52 لبيان الفروق بين الإجارة والجعالة. (¬2) راجع، ص/ 161. (¬3) هو: جبير بن نفير - بنون وفاء مصغر - ابن مالك بن عامر الحضرمي الحمصي، ثقة جليل من الثّانية، نحضرم، ولأبيه صحبة، ما وفد إلى المدينة إِلَّا في عهد عمر، توفي عام، 80 هـ على الصحيح: تهذيب التهذيب لابن حجر: 2/ 64. (¬4) أخرجه أبو داود في المراسيل، ص/ 247 ن تحقيق الشّيخ/ شعيب الأرناؤوط، وأخرجه سعيد ابن منصور في سننه، كتاب الجهاد، باب ما جاء في الرَّجل يغزو بالجعل: 2/ 174 (2361)، والبيهقي في الكبرى، كتاب السير، باب ما جاء في كراهية أخذ الجعائل: 9/ 47 (17840). وابن أبي شيبة في المصنِّف، كتاب الجهاد، باب ما ذكر في فضل الجهاد والحث عليه: 5/ 347.

ب - أدلتهم من المعقول

قال السرخسي مبينًا المراد بالحديث: "يعني أن الغزاة يعملون لأنفسهم؛ قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} [الإسراءِ: 7]، ثمّ يأخذون الجعل من إخوانهم من المؤمنين ليتقووا به على عدوهم، وذلك لهم حلال، كما أن أم موسى كانت تعمل لنفسها في إرضاع ولدها، وتأخذ الأجرة من فرعون تتقوى بها على الإرضاع، وكان ذلك حلالًا لها" (¬1). ثانيًا: أن الحديث مرسل؛ فهو أحد أنواع الحديث؛ الضعيف، فلا يحتج به (¬2). ثالثًا: الحديث ضعيف؛ في إسناده إسماعيل بن عياش (¬3)، وقد ضعفه جماعة من أهل العلم، وترهوا حديثه. ب - أدلتهم من المعقول: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ الجهاد أمر لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة؛ فصح الاستئجار عليه، كبناء المساجد (¬4). ¬

_ (¬1) شرح كتاب السير الكبير لمحمد بن الحسن: 1/ 140. (¬2) ووجه الإرسال: أن جبير بن نفير لم يسمع من النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - حيث إنّه لم يفد إلى المدينة إِلَّا في عهد عمر - رضي الله عنه - كما في ترجمته المتقدمة. (¬3) هو: إسماعيل بن عياش بن سُليم العنسي، أبو عتبة الحمصي، ولد سنة 106 هـ، ضعفه جمع من أهل العلم منهم: النسائي، وأبو حاتم، وابن حبّان، وأبو إسحاق الفزاري، والإمام أحمد بن حنبل، وقد وثقه جماعة منهم الفسوي، قال: تكلم قوم في إسماعيل، وهو ثقة عدل، أعلم النَّاس بحديث الشّام، أكثر من تكلموا فيه قالوا: يغرب عن ثقات الحجازبين، وابن معين قال: إسماعيل ابن عياش ثقة، وتوسط فيه قوم، وهو الصحيح، فقالوا: ما رواه عن الشامبين فصحيح، وما رواه عن غيرهم فلا يحتج به، وقد ذهب إلى ذلك البخاريّ، والذهبي، والحافظ ابن حجر، قال: صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلط في غيرهم، ومعنى ذلك أنّه لايقبل حديثه إِلَّا بالمتابعة: ميزان الاعتدال للذهبي: 1/ 240، تهذيب التهذيب لابن حجر: 1/ 321، تقريب التهذيب لابن حجر، ص/ 142، الكامل في الضعفاء لابن عدي: 1/ 288. (¬4) المقنع شرح مختصر الخرفي لابن البناء: 3/ 1185، المغني لابن قدامة: 13/ 164، المبدع لابن مفلح: 3/ 371.

مناقشة الاستدلال

مناقشة الاستدلال: إنَّ قياس الجهاد على بناء المساجد قياس مع الفارق؛ فلا يصح. وبيان ذلك: 1 - أن الجهاد فرض على المسلمين في الجملة؛ فهو إمّا فرض كفاية، وإما فرض عين، فإذا كان الجهاد بهذه المثابة فهو من هذا الجانب قربة يختص بفعلها المسلم دون الكافر، وأمّا جواز فعله من الكافر فمحل خلاف بين العلماء في جواز الاستعانة بالكفار في الحرب مع المسلمين، وإن جاز فللضرورة، وحكم الضّرورة حكم خاص يختلف عن الحكم في الحالات العادية (¬1). ثمّ إنَّ فعل الكفار حين الاستعانة بهم ليس بجهاد، فإن الجهاد ينال به الثّواب، والكافر ليس من أهل الثّواب، والجهاد ممّا يتقرب به العبد إلى ربه، وهم لايتقربون بذلك، بخلاف المسلم (¬2). 2 - أن القياس على بناء المساجد لا يصح؛ لأنّ البناء ممّا لا يختص بفعله المسلم، وفعل البناء في نفسه ليس بقربة، ولهذا جاز فعله من الكافر (¬3). الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ الجهاد إذا كان فرض كفاية فإنّه لا يتعين عليه، فيجوز أن يؤجر نفسه عليه، كالعبد (¬4). ¬

_ (¬1) شرح السير الكبير للسرخسي: 4/ 1422، حاشية ابن عابدين: 3/ 235، الفتاوى الهندية: 4/ 454، حاشية الدسوقي: 2/ 178، القوانين الشرعية لابن جزي، ص/ 164، الأم للشافعي: 4/ 261، مغني المحتاج للشربيني: 4/ 222، المغني لابن قدامة: 13/ 98، وانظر: الاستعانة بغير المسلمين في الفقه الإسلامي: د. عبد الله بن إبراهيم الطريقي، ص/ 261، الجهاد والقتال في السياسة الشرعية للدكتور/ محمّد خير هيكل. (¬2) شرح السير الكبير للسرخسي: 3/ 865. (¬3) مجموع الفتاوى لابن تيمية: 30/ 206. (¬4) المغني لابن قدامة: 13/ 164.

مناقشة الاستدلال

مناقشة الاستدلال: أوَّلًا: أن الجهاد، كان كان فرض كفاية في الأصل، إِلَّا أنّه متى حضر الصف تعين عليه، ولا يجوز أخذ الأجرة على فرض العين (¬1). ثانيًا: أن القياس على العبد قياس مع الفارق؛ فلا يصح؛ لأنّ العبد لا يلزمه الجهاد في الأصل، سواء أكان فرض عين، أم فرض كفاية؛ لأنّه محبوس لخدمة سيده، فلا يملك التصرف في نفسه بالجهاد، ولا بغيره، إِلَّا أن يأذن له، فلا يصح قياس الحر عليه. ثالثًا: أنّه لا حاجة بالمسلم الحر، أو غيره؛ لأخذه الأجرة على جهاده، لأنّ الجهاد قربة إلى الله حضّ الله تعالى عليها، ورغب فيها، ثمّ بإمكان المجاهد الأخذ من بيت المال، أو من الزَّكاة، أو النفقة من إخوانه القادرين، فيأخذ من هذه المصارف حاجته، وحاجة عياله، وما يلزمه من نفقة، ونحو ذلك (¬2). ثانيًا: أدلة أصحاب القول الأوّل: استدل أصحاب هذا القول - وهم جمهور أهل العلم - الذين منعوا الاستئجار على الجهاد بأدلة كثيرة من المعقول، ومن هذه الأدلة: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ الغزو يتعين بعضوره، على من كان من أهله، فإذا تعين عليه الفرض، لم يجز أن يفعله عن غيره، كمن عليه حجة الإسلام، لا يجوز أن يحج عن غيره، وعليه فالاستئجار عليه لا يجوز (¬3). ¬

_ (¬1) شرح السير الكبير للسرخسي: 3/ 944، روضة الطالبين للنووي: 10/ 240، المغني لابن قدامة: 13/ 164. (¬2) وقد سبق بيان الموارد المالية للجهاد والمجاهدين، وأن الله تعالى قد أوسع فيها، ورغب سبحانه وتعالى في الجهاد بالمال والنفقة في سبيل الله، وحض رسوله الكريم - صلّى الله عليه وسلم - على ذلك، وبين أن المجاهد بماله كالغازي ببدنه، وسيأتي بيان ذلك في الترجيح إن شاء الله تعالى. (¬3) بدائع الصنائع للكاساني: 4/ 191، المغني لابن قدامة: 13/ 164.

الدليل الثاني

الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ الجهاد، دان كان فرضًا على الكفاية، فكل من باشره يكون مؤديًا فرضًا، والاستئجار على أداء الفرض باطل، كالاستئجار للصلاة (¬1). الدّليل الثّالث: قالوا: إنَّ الجهاد عمل يختص فاعله أن يكون من أهل القربة، فلا تصح الإجارة عليه، كالصلاة (¬2). الدّليل الرّابع: قالوا: إنَّ الجهاد حق لله تعالى، فلا يجوز أخذ الأجرة عليه (¬3). الترجيح: بعد عرض أقوال الفقهاء في هذه المسألة، وذكر أدلتهم، وبيان ما ورد عليها من مناقشات، يتبين أن القول القاضي بالمنع من الاستئجار على الجهاد هو الراجح، ويعود هذا الترجيح إلى الأسباب التالية: أوَّلًا: قوة القول القاضي بالمنع لقوة أدلته، حيث جاءت الأدلة الّتي عللوا بها متفقة مع أصول الشّرع، وقواعده العامة، ومن ذلك أن فروض الأعيان الّتي تطلب من كلّ فرد بعينه، لا يجوز لغيره فعلها عنه كما في صلاة الإنسان لنفسه، وحجه لنفسه، وصيامه لنفسه، ومن ذلك: الجهاد، فإن الأئمة متفقون على أنّه إذا حضر الصف تعين عليه، فكيف يسوغ له بعد ذلك أخذ العوض عليه. ثانيًا: ضعف ما استدل به المجيزون، فإنّه أمكن مناقشة جمجع ما استدلوا به من أحاديث، وأدلة عقلية ممّا أضعف من دلالتها، وأخرجها عن حجيتها. ثالثًا: أنّه لا حاجة بالمرء لأنّ ياخذ أجرًا على غزوه، وذلك لما يأتي: ¬

_ (¬1) شرح السير الكبير للسرخسي: 3/ 862، 944، الكافي لابن عبد البر: 1/ 465، روضة الطالبين للنووي: 10/ 240. (¬2) كشاف القناع للبهوتي: 3/ 90. (¬3) تببين الحقائق للزيلعي: 3/ 242، البناية شرح الهداية للعيني: 6/ 495.

1 - كثرة الموارد المالية للجند من زكاة، وعطاء، ونحو ذلك. 2 - أن الله تعالى حث أهل الخير، وأصحاب الأموال على الإنفاق في سبيله، ووعد على ذلك الثّواب العظيم (¬1)، ممّا يوفر للغازي كلّ ما يحتاج إليه في خاصّة نفسه، ومن يعول، وما يحتاج إليه من عتاد، وسلاح بما لا يكون معه حاجة، أو ضرورة تدفعه إلى إجارة نفسه على عمل من أجل وأعظم القرب إلى الله تعالى. ¬

_ (¬1) ومن ذلك قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]، قال مكحول: " يعني به الانفاق في الجهاد ... ": تفسير ابن كثير: 1/ 467، وقوله - صلّى الله عليه وسلم -: "من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيًا في أهله بخير فقد غزا".أخرجه البخاريّ في الجهاد، باب فضل من جهز غازيًا: 6/ 58 (2843)، ومسلم في الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله: 3/ 1507 (1895)، من حديث قلد بن خالد الجهني - رضي الله عنه -.

المطلب الثاني أخذ الجعل على الجهاد

المطلب الثّاني أخذ الجعل على الجهاد أوَّلًا: المرإد بالجعل (¬1): من خلال النظر في كلام العلماء حول الجعائل في باب الجهاد، يتبين أن الجعل يردّ عندهم على معنبين: أحدهما: على معنى النفقة في سبيل الله، وعليه فتكون الجعالة هنا ليست على بابها من كونها عقد معاوضة. والعنى الآخر: أن يكون بمعنى المعاوضة، فتكون على بابها، وسنفصل القول في المعنبين على النحو التالي: * المعنى الأوّل: أن يكون على معنى النفقة في سبيل الله: وهذا المعنى هو الّذي يُعرف عند الفقهاء بـ (الجهاد بالمال) (¬2)، وحكم هذا النوع من الجهاد كحكم الجهاد بالنفس، ولافرق، فقد يكون فرض عين، وقد يكون فرض كفاية. وهذا النوع قد جاء الشّرع بالترغيب فيه، والحض عليه، والوعد عليه بالثواب الجزيل في الآخرة، ومن ذلك: 1 - قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ ¬

_ (¬1) لقد سبق تعريف الجعالة، وبيان الفرق بينها وبين الإجارة، ولكن لما كان لهاهنا مفهوم آخر غير ما ذكر، ناسب ذكر ذلك المفهوم هنا، وبيان المراد بها؛ لأنّ ذلك ينبني عليه تحرير محل النزاع بين الفقهاء في هذه المسألةُ ببيان ما اتفقوا عليه، وما اختلفوا فيه، ومن ثمّ تفصيل القول فيما اختلفوا فيه. (¬2) المبسوط للسرخسي: 1/ 19، قال السرخسي: " ... والتجاعل ليس باستئجار، ولكنه إعانة على السير، وهو مندوب إليه، وجهاد بالمال ... ".

عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60] 2 - قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]. 3 - قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41]. 4 - عن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه -، عن النّبيّ - رضي الله عنه - أنّه قال: (من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا) (¬1). وغير ذلك من النصوص الكثيرة الدالة على فضل الجهاد بالمال، وإعانة الغازي في سبيل الله. قال الإمام ابن قيم الجوزية مبينًا هذا النوع عند حديثه عن فقه وفوائد غزوة تبوك: "ومنها: وجوب الجهاد بالمال، كما يجب بالنفس، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وهي الصواب الّذي لا ريب فيه، فإن الأمر بالجهاد بالمال شقيق الأمر بالجهاد بالنفس في القرآن، وقرينه، بل جاء مقدمًا على الجهاد بالنفس في كلّ موضع، إِلَّا موضعًا واحدًا، وهذا يدلُّ على أن الجهاد به أهم وآكد من الجهاد بالنفس، ولا ريب أنّه أحد الجهادين، كما قال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: (من جهز غازيًا فقد غزا)، فيجب على القادر عليه، كما يجب على القادر بالبدن، ولا يتم الجهاد بالبدن إِلَّا ببذله، ولا ينتصر إِلَّا بالعدد والعُدد، فإن لم يقدر أن يكثر العدد وجب عليه، أن يمد بالمال والعدة .... (¬2). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. راجع ص 182. (¬2) زاد المعاد في هدى خير العباد لابن القيم: 3/ 588، 559.

وقال ابن تيمية رحمه الله: "ومن عجز عن الجهاد ببدنه، وقدر على الجهاد بماله، وجب عليه الجهاد بماله، هو نصّ أحمد في رواية أبي الحكم، وهو الّذي قطع به القاضي في أحكام القرآن في سورة براءة عند قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} فيجب على الموسرين النفقة في سبيل الله .... " (¬1). فإذا قصر الأغنياء، والقادرون في النفقة في سبيل الله، أو كان ما ينفقونه لا يسد حاجة الجند من النفقة والعتاد، فهل للإمام أن يفرض على القادرين من الرعية من المال ما يسد به حاجة المجاهدين من نفقة، وسلاح، وغير ذلك؟ لا خلاف بين المذاهب في جواز ذلك للإمام، ولكن بشرط خلو بيت المال من الأموال الّتي تكفي حاجة الجند (¬2). قال محمّد بن الحسن: "لو أراد الإمام أن يجوز جيشًا، فإن كان في بيت المال سعة، فينبغي له أن يجهزهم بمال بيت المال، ولايأخذ من النَّاس شيئًا، وإن لم يكن في بيت المال سعة كان له أن يتحكم على النَّاس بما يتقوى به الذين يخرجون للجهاد" (¬3). وقال الشاطبي: "إنا إذا قررنا إمامًا مطاعًا مفتقرًا إلى تكثير الجنود لسدّ الثغور، وحماية الملك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال، وارتفعت حاجات الجند إلى ما ¬

_ (¬1) الاختيارات الفقهية لابن تيمية: ص / 308 وقد بين شيخ الإسلام أن الخلاف في وجوب الجهاد بالمال إنّما هو عندما يكون الجهاد فرض كفاية، فأمّا إذا تعين، فيجب إجماعًا، قال رحمه الله: " ... وينبغي أن يكون محل الروايتين في واجب الكفاية، فإذا هجم العدو فلا يبقى للخلاف وجه، فإن دفع ضررهم عن الدِّين، والنفس، والحرمة واجب إجماعًا". (الاختيارات: ص/308). (¬2) المبسوط للسرخسي: 10/ 20، شرح فتح القدير لابن الهمام 4/ 284، الاعتصام للشاطبي: 2/ 916، النجوم الزاهرة لابن تغري بردي: 7/ 67، 68، وقد نقل ذلك عن العز بن عبد السلام. (¬3) السير الكبير مع شرحه للسرخسي: 1/ 139.

لا يكفيهم فللإمام - إذا كان عدلًا - أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيًا لهم في الحال إلى أن يظهر بيت المال" (¬1). هذه بعض نقول أهل العلم في هذه المسألة، وهناك نقول أخرى عن بقية المذاهب، ممّا يؤكد سلطة الإمام في التصرف على الرعية بما يحقق المصلحة عملًا بالقاعدة الشرعية: "تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة" (¬2). وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية أنّه يجب على القادرين في هذه الحالة تجميع المال اللازم؛ لدفع العدو، قال: إنَّ المسلمين إذا احتاجوا إلى مال يجمعونه لدفع عدو وجب على القادرين الاشتراك في ذلك" (¬3). بناء على ما سبق، فقد عرّف الحنفية الجعل؛ فقالوا في تعريفه: "هو أن يكلف الإمام النَّاس بأن يقوي بعضهم بعضًا بالسلاح، والكراع، وغير ذلك من النفقة، والزاد" (¬4). وفي تعريف آخر: "هو ما يضربه الإمام للغزاة على النَّاس بما يحصل به التقوي للخروج إلى الحرب" (¬5). وهذا النوع من الجعل لاحرج على المجاهدين في أخذه، بل قد يجب عليه الأخذ إذا كان هذا هو سبيله للتقوي على الجهاد في سبيل الله، ودفع العدو، والذَّبّ عن ¬

_ (¬1) الاعتصام للشاطبي: 2/ 619، تحقيق سليم الهلالي. (¬2) الأشباه والنظاثر للسيوطي، ص/233، شرح القواعد الفقهية للزرقاء، ص/247. (¬3) مجموع الفتاوى لابن تيمية: 30/ 342. (¬4) شرح فتح القدير لابن الهمام: 4/ 283، 284. (¬5) حاشية الشلبي على تببين الحقائق: 3/ 242.

وجه الاستدلال

حياض الإسلام، ونصرة دين الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وهذا لا نزاع فيه بين العلماء (¬1). قال ابن بطّال: "إنَّ أخرج الرَّجل من ماله شيئًا، فتطوع به، أو أعان الغازي على غزوه بفرس، ونحوها، فلا نزاع فيه" (¬2). ويدلُّ على هذا: أوَّلًا: النصوص الكثيرة الّتي سبق ذكرها في وجوب الجهاد بالمال، والترغيب في ذلك، فهي دالة على جواز أخذ المجاهد من هذا المال ما يتقوى به على الجهاد، فيكون هو مجاهدًا بنفسه، وصاحب المال مجاهدًا بماله (¬3). ثانيًا: النصوص النبوية الّتي استدل بها من أجاز الاستئجار على الغزو. ومن تلك النصوص: 1 - حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (للغازي أجره، وللجاعل أجره، وأجر الغازي) (¬4). وجه الاستدلال: حيث أخبر النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بأن للجاعل، وهو من يقوم بتجهيز الغزاة، وبذل النفقة في ذلك، أن له أجرين: أجر ما أنفق، وأجر مثل أجر من غزا، قال البغوي: "فيه ترغيب للجاعل، ورخصه للمجعول له" (¬5). ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي: 10/ 19، البناية شرح الهداية للعيني: 6/ 494، المدوّنة للأمام مالك: 2/ 43، 44، حاشية الدسوقي: 2/ 182، روضة الطالبين للنووي: 10/ 240، نهاية المحتاج للرملي: 8/ 62، المغني لابن قدامة: 8/ 41، 165، القواعد لابن رجب، ص/ 134، القاعدةُ: 72، قال ابن رجب: "إذا أخذ الغازي نفقة، أو فرسًا؛ ليغزو عليه، فإنّه يجوز، ويكون عقدًا جائزًا، لا لازمًا، وهو إعانة على الجهاد، لا استئجار عليه". (¬2) فتح الباري لابن حجر: 6/ 144. (¬3) شرح السير الكبير للسرخسي: 1/ 138. (¬4) سبق تخريجه، راجع ص 429. (¬5) شرح السُّنَّة للبغوي: 11/ 15.

وجه الاستدلال

2 - حديث جبير بن نفير عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "مثل الذين يغزون من أمتي، ويأخذون الجعل يتقوون به على عدوهم، مثل أم موسى ترضع ولدها، وتأخذ أجرها" (¬1). وجه الاستدلال: حيث بين النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أن الذين يغزون، ويأخذون الجعل بغرض الاستعانة به على الجهاد، أن ذلك جائز؛ قال السرخسي: "يعني أن الغزاة يعملون لأنفسهم؛ قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} [الإسراءِ: 7]، ثمّ يأخذون الجعل من إخوانهم من المؤمنين، ليتقووا به على عدوهم، وذلك لهم حلال، كما أن أم موسى كانت تعمل لنفسها في إرضاع ولدها، وتأخذ الأجرة من فرعون تتقوى به على الإرضاع، وكان ذلك حلالًا لها" (¬2). ثالثًا: ما ورد من ذلك عن الصّحابة - رضي الله عنه -: 1 - عن جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه -، أن معاوية كتب إليه في بعث ضربه: "أمّا بعد: فقد رفعنا عنك، وعن ولدك الجُعل". فكتب إليه جرير: إنِّي بايعت رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - على الإسلام، فأمسك رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - بيدي، فاشترط عليّ: (النصح لكل مسلم)، فإن أنشط في هذا البعث نخرج فيه، وإلا، أعطينا من أموالنا ما ينطلق المنطلق" (¬3). قال المسعودي (¬4): هذا أحسن ما سمعناه في الجعائل (¬5). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه، راجع ص 430. (¬2) شرح السير الكبير للسرخسي: 1/ 140. (¬3) أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار: 8/ 314. (¬4) هو: عبد الرّحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الكوفي، صدوق، اختلط قبل موته، وضابطه، أن من سمع منه ببغداد فبعد الاختلاط، من السابعة، مات سنة 165 هـ على الصحيح: تهذيب الكمال للمزي: 17/ 219، تقريب التهذيب لابن حجر، ص/586. (¬5) مشكل الآثار للطحاوي: 8/ 315.

وجه الاستدلال

وجه الاستدلال: حيث دلّ هذا الأثر على مشروعية الجُعل للغازي على سبيل النفقة، والإعانة على الغزو في سبيل الله تعالى، حيث ذكر جرير ما ذكره، ولم ينكره معاوية (¬1). 2 - عن مجاهد قال: قلت لابن عمر: العزوَ؛ قال: إني أُحب أن أعينك بطائفة من مالي، قلت: أوسع الله على. قال: إنَّ غِناك لك، وإني أحب أن يكون من مالٍ في هذا الوجه (¬2). وجه الاستدلال: حيث دلّ قول ابن عمر عن مشروعية الجعل للغازي إذا كان على سبيل النفقة، والإعانة على الجهاد في سبيل الله. المعنى الثّاني: أن تكون على معنى المعاوضة: وعلى هذا المعنى تكون الجعالة على بابها، ومعناها العروف عند أهل العلم (¬3). وقد عرّف العلماء الجعالة على الجهاد، بعدة تعريفات منها: التعريف الأوّل: "هي أن يعطي شخص متخلف عن الجهاد مقدارًا من المال، لمن يخرج إلى الجهاد نائبًا عنه" (¬4). التعريف الثّاني: "هي ما يجعله القاعد من الأجرة لمن يغزو عنه" (¬5). يتضح من خلال التعريفين السابقين للجعل على الجهاد، أن الجعل هنا عبارة ¬

_ (¬1) المرجع السابق: 8/ 318. (¬2) أخرجه البخاريّ تعليقًا بصيغة الجزم في الجهاد، باب الجعائل والحملان في سبيل الله: 6/ 144، ووصله في المغازي بمعناه: 7/ 620 (4309). (¬3) وقد سبق تريفها، وبيان الفرق بينها وبين الإجارة. (¬4) جواهر الإكليل للآبي: 1/ 256. (¬5) فتح الباري لابن حجر: 6/ 144.

عن أجرة لمن ينوب عن صاحبه في الغزو، وليس على سبيل النفقة، والإعانة على الغزو، كما تقدّم بيان ذلك (¬1). وأخذ الجعد على الجهاد على معنى الإجارة، والعوض على الجهاد، حكمه عند الفقهاء، حكم الإجارة على الجهاد، سواء بسواء، وبيان ذلك: أن الجهاد إذا كان فرض عين، فلا يجوز أخذ الجعل عليه، وقد سبق بيان ذلك في مبحث الإجارة على الجهاد. قال ابن قدامة: "والجعالة تساوي الإجارة ... في أن ما جاز أخذ العوض عليه في الإجارة من الأعمال جاز أخذه في الجعالة، وما لا يجوز أخذ الأجرة عليه في الإجارة مثل الغناء، والزمر، وسائر المحرمات، لا يجوز أخذ الجعل عليه، وما يختص فاعله أن يكون من أهل القربة، ممّا لا يتعدى نفعه فاعله كالصلاة، والصيام، لا يجوز أخذ الجعل عليه، فإن كان ممّا يتعدى نفعه كالأذان، والإقامة، والحج، ففيه وجهان كالروايتين في الإجارة .... " (¬2). فإن كان الجهاد فرض كفاية فقد اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأوّل: لا يجوز مطلقًا أخذ الجعل على الجهاد. ¬

_ (¬1) وبسبب عدم التفريق بين هذين المعنبين، وقع لبس في كلام بعض أهل العلم في حكم الجعل على الجهاد، فلم يتحرر محل النزاع عندهم، ومن ذلك أن الإمام البغوي نسب القول بالجواز إلى الحنفية، وهو في الواقع غير ذلك؛ فإن الّذي أجازه الحنفية إنّما هو النفقة، أمّا الجعل على معنى العوض فهم أكثر النَّاس منعًا منه مطلقًا. وسيتضح ذلك من خلال البحث في حكم أخذ الجعل - بمعناه الثّاني، وهو المعاوضة - على الجهاد، عن الغير. (¬2) المغني لابن قدامة: 8/ 327.

وإليه ذهب الحنفية (¬1)، وبعض المالكية (¬2)، والشّافعيّة (¬3)، وهو قياس المذهب عند الحنابلة (¬4). القول الثّاني: يجوز الجعل على الجهاد. وبه قال جمهور المالكية، وهو المذهب (¬5)، ويتخرج قولًا لبعض الحنابلة (¬6). ¬

_ (¬1) شرح السير الكبير للسرخسي: 1/ 139، البحر الرائق لابن نجيم: 5/ 79، رسائل ابن عابدين: 1/ 164. (¬2) الكافي في فقه المالكية لابن عبد البر: 1/ 465. (¬3) الحاوي للماوردي: 18/ 141، شرح السُّنَّة للبغوي: 11/ 15. (¬4) لم أجد مع كثرة البحث قولًا صريحًا للحنابلة في هذه المسألة، ولكن يتخرج ذلك قولًا لهم بناءً على ما ذكره ابن قدامة من إجراء الجعالة مجرى الإجارة، من حيث ما يجوز أخذ العوض عليه في كلّ منهما وما لا يجوز، ثمّ إنَّ الجعالة على الجهاد هنا هي إجارة صريحة، أو في معنما الإجارة فتأخذ حكمها، والإجارة على الجهاد لا تجوز على المذهب، كما سبق بيانه في مبحث الإجارة على الجهاد. (¬5) المدوّنة للإمام مالك: 2/ 44، الكافي لابن عبد البر: 1/ 465، التاج والإكليل للمواق: 3/ 356، حاشية الدسوقي: 2/ 182، جواهر الإكلليل للآبي: 1/ 256، وقد ذكر المالكية لجواز الجعل على الجهاد عدة شروط هي: * الشرط الأوّل: أن يكون الجاعل والخارج بديوان واحد (أي: بأن كانا من أهل عطاء واحد). وذلك لأنّ على كلّ واحدٍ منهما ما على الآخر، فليس إجارة حقيقية. * الشرط الثّاني: أن تكون الخرجة واحدة. وذلك احترازًا من أن يتعاقد معه، على أنّه متى وجب الخروج خرج نائبًا عنه. * الشرط الثّالث: أن يكون الجعل عند حضور الخرجة، أي: يكون دفع الجعل للخارج عن صرف العطاء لأهل الديوان. * الشرط الرّابع: ألَّا يعين الإمام الخارج بشخصه. * الشرط الخامس: أن يكون السهم للقاعد، لا للخارج. (¬6) فإن الذين قالوا بجواز الإجارة على الجهاد، يلزمهم القول بجواز الجعل كذلك؛ لأنّ الجعالة أوسع من الإجارة، ثمّ إنَّ هذا مقتضى تأصيل ابن قدامة السابق.

الأدلة والمناقشة

الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة أصحاب القول الثّاني: استدل من أجاز الجعل على الجهاد بعدة أدلة من السُّنَّة، والمعقول، وقد تقدمت أدلتهم في مبحث الأجرة على الجهاد؛ ذلك أنّه لما كان الجعل هنا بمعنى الأجرة، بل هو في الحقيقة أجرة كما نصّ عليه كثير من أهل العلم (¬1)، وكان حكمه حكم الأجرة، بل إنَّ ما استدلوا به على جواز الأجرة على الجهاد إنّما هي أدلة صريحة على الجعالة، كما في حديث عبد الله بن عمرو، وحديث جبير بن نفير، عن أبيه، وقد تقدّم بيان وجه الاستدلال من هذه الأحاديث، وذكر ما ورد عليها من مناقشات، بما يغني عن الإعادة (¬2). وإن ممّا استدلوا به كذلك على جواز الجعل على الجهاد: قالوا: إنَّ الحاجة داعية إلى أخذ الجعل على الجهاد، وفي المنع منه تعطيل للجهاد، ومنع له ممّن فيه للمسلمين نفع، وبهم إليه حاجة؛ فينبغي أن يجوز (¬3). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الدّليل بما يأتي: أنّه لا حاجة للمسلم في أخذ الجعل على جهاده في سبيل الله -عَزَّ وَجَلَّ- فإن الله تعالى قد وسع في مصادر النفقة للمجاهدين، كما سبق بيان ذلك، فإن تعطلت كلّ هذه المصادر، فتكون هذه حالة ضرورة، فلا حرج على المسلم حينئذ الأخذ، ولكن بنية النفقة، وتجهيز نفسه، وإعدادها للجهاد، لا بنية العوض، واستفضال المال، حتّى يكون جهاده خالصًا لوجه الله تعالى، وينال به الثّواب؛ لأنّ العمل إذا عمل للأجرة ¬

_ (¬1) البحر الرائق لابن نجيم: 5/ 79، حاشية ابن عابدين: 3/ 222، المدوّنة للإمام مالك: 2/ 44. (¬2) راجع، ص 429 مبحث الإجارة على الجهاد. (¬3) المغني لابن قدامة: 13/ 164.

ثانيا: أدلة أصحاب القول الأول

والدنيا، لم يعد قربة، بل يكون على أحسن أحواله من المباحات (¬1)، ولا ينبغي للمسلم فعل ذلك؛ لأنّه يعرض نفسه للهلاك في ميدان المعرفة؛، ولا يمكن أن يكون ذلك لمجرد الحصول على بعض المال. ثانيًا: أدلة أصحاب القول الأوّل: استدل أصحاب هذا القول بأدلة كثيرة منها: أوَّلًا: أدلتهم على المنع من الإجارة في الجهاد، فإنّه تقدّم بيان أن الجعالة هنا بمعنى الإجارة، فالأدلة على المنع منهما واحدة (¬2). ثانيًا: لهم بعض الأدلة الأخرى منها: الدّليل الأوّل: عن ابن سيرين، عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: "كان القاعد يمتع الغازي، فأمّا أن يبيع الرَّجل غزوه، فلا أدري ما هو" (¬3). وجه الاستدلال: حيث شبه ابن عمر رضي الله عنهما من يأخذ الجعل على غزوه بمن يبيع غزوه، وأن ذلك أمر لايعرف، وقد ذكر ذلك على وجه الإنكار، والتحقير لفاعله؛ فدل على أن الجعل على الجهاد لا يجوز. الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ الخارج يملك لحضور الوقعة سهمه من الغنيمة، ولو صحت الجعالة لملكها صاحبها دونه (¬4). الترجيح: يترجح ممّا سبق بعد عرض الأدلة، وما ورد عليها من مناقشات، وبعد معرفة ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: 26/ 16، 17. (¬2) انظر أدلة المنع من الإجارة، ص 433. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، كتاب الجهاد، باب الجعائل: 5/ 230 (9458). (¬4) الحاوي الكبير للماوردي: 18/ 141.

الراجح في مسألة الإجارة على الحجِّ أن الراجح هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأوّل من أن الجعل على الغزو لا يجوز؛ وذلك لما يأتي: قوة ما عللوا به، وضعف ما استدل به أصحاب القول الآخر؛ حيث أمكن مناقشة أدلتهم بما يضعف من دلالتهم على ما ذهبوا إليه، ويقال في ترجيح هذا القول ما قيل في ترجيح المنع من الإجارة؛ إذ هما من باب واحد، وقد سبق بيان ذلك.

المطلب الثالث إعطاء الأجير من الغنيمة

المطلب الثّالث إعطاء الأجير من الغنيمة للأجير في الغزو حالان: الأوّل: أن يكون استؤجر للخدمة. الآخر: أن يكون استؤجر ليقاتل. والذي نعنيه في هذه المسألةُ هو الآخر، وهو الأجير للقتال، وقد سبق تفصيل القول في حكم الاستئجار على القتال، وحكم الجعل عليه كذلك. وعلى هذا فإن هذه المسألةُ تعد فرعًا عن المسألتين السابقتين؛ بمعنى: أن من أخذ الأجرة، أو الجعل على القتال، هل يستحق سهمه من الغنيمة أم لا؟ الخلاف هنا كالخلاف السابق في مسألة الجعل، والإجارة: فمن ذهب إلى منع الإجارة، والجعل على الجهاد، قالوا: تبطل الإجارة، أو الجعالة، وترد الأجرة، أو الجعل، ويكون للمقاتل سهمه من الغنيمة. وإلى هذا ذهب الحنفية (¬1)، وبعض المالكية (¬2)، وهو أحد الوجهين عند الشّافعيّة (¬3)، وهو المذهب عند الحنابلة (¬4)، وهو اختيار الخلال (¬5) من أصحاب ¬

_ (¬1) شرح السير الكبير للسرخسي: 3/ 865، 945، إعلاء السنن لظفر أحمد التهانوي: 12/ 223، 224. (¬2) الكافي لابن عبد البر: 1/ 465. (¬3) الحاوي الكبير للماوردي: 18/ 141، شرح السُّنَّة للبغوي: 11/ 16، روضة الطالبين للنووي: 6/ 381، مغني المحتاج للشربيني: 3/ 104. (¬4) المغني لابن قدامة: 13/ 164، الإنصاف للمرداوي: 4/ 181. (¬5) هو: أحمد بن محمّد بن هارون، أبو بكر البغدادي، المشهور بالخلال، الفقيه الحنبلي، المفسر، أحد أئمة الحنابلة في وقته، يعد مؤلف علم الإمام أحمد، وجامعه ومرتبه، له مؤلفات كثيرة منها: السُّنَّة، والعلل، تفسير الغريب، وطبقات أصحاب أحمد بن حنبل، وغيرها، توفي عام 311 هـ: طبقات الحنابلة: 2/ 12، والمنهج الأحمد: 2/ 205.

الأدلة والمناقشة

الإمام أحمد. ومن ذهب إلى صحة الإجارة، والجعل على القتال قالوا: لا سهم له، بل له الأجرة، أو الجعل، أمّا الغنيمة فلا. وإلي هذا ذهب جمهور المالكية، وهو المذهب (¬1)، وهو الوجه الآخر عند الشّافعيّة، وبه جزم البغوي (¬2)، وهو قول عند الحنابلة (¬3). الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة أصحاب القول الثّاني: استدل من قال بأنّه لا سهم للأجير للقتال بما يأتي: الدّليل الأوّل: قالوا: لأنّه أعرض عن الجهاد بالإجارة، ولم يحضر مجاهدًا، إنّما حضر أجيرًا؛ فلا سهم له في الغنيمة (¬4). الدّليل الثّاني: قالوا: إنّه لما كان غزوه بعوض كان واقعًا عن غيره؛ فلا يستحق شيئًا من الغنيمة (¬5). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذه التعليلات بما يأتي: أوَّلًا: أنّه بعضوره القتال تعين عليه، وأصبح من أهله؛ فيستحق الغنيمة، كغير ¬

_ (¬1) مواهب الجليل للحطاب: 3/ 356، الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي: 2/ 182. (¬2) شرح السُّنَّة للبغوي: 11/ 16، روضة الطالبين للنووي: 6/ 381، مغني المحتاج للشربيني: 3/ 104. (¬3) المغني لابن قدامة: 13/ 164، 165، الإنصاف للمرداوي: 4/ 181. (¬4) مغني المحتاج للشربيني: 3/ 104. (¬5) المغني لابن قدامة: 13/ 164.

ثانيا: أدلة أصحاب القول الأول

الأجير. ثانيًا: أن القول بأن جهاده واقع عن غيره لا يصح؛ لأنّه بعضور القتال يصبح جهاده له، وواقع عن نفسه، لا عن غيره؛ للاتفاق على أنّه إذا حضر الصف تعين عليه القتال، كما سبق بيانه. ثانيًا: أدلة أصحاب القول الأوّل: استدل أصحاب هذا القول، وهم القائلون إنّه يسهم للأجير للقتال بما يأتي: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ غزو الأجير وقع بغير عوض؛ فيكون جهاده واقعًا عن نفسه، لا عن غيره، فيستحق سهمه من الغنيمة (¬1). الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ الاستئجار لما بطل، صار كأن لم يكن، فيكون السهم للغازي (¬2). الترجيح: الّذي يظهر هو رجحان القول الأوّل، وأنّه يسهم للأجير، وتبطل أجرته، فيرد الأجرة، ويستحق سهمه من الغنيمة، ويؤيد ذلك: 1 - أنّه إذا أبطلنا الأجرة، أو الجعل، فيكون غزوه بغير عوض، فيستحق سهمه، كغيره من المجاهدين الذين يغزون بغير عوض. 2 - أنّه بعضور المعركة يصبح القتال فرضًا عليه، وواقعًا عنه، لا عن غيره، فإذا كان جهاده واقعًا عنه فإنّه يستحق السهم من الغنيمة، كغيره من المجاهدين، ولايستحق الأجرة (¬3). ¬

_ (¬1) شرح السُّنَّة للبغوي: 11/ 16، المغني لابن قدامة: 13/ 164. (¬2) شرح السير الكبير للسرخسي: 3/ 945. (¬3) فتح الباري لابن حجر: 6/ 146، إعلاء السنن للتهانوي: 12/ 224.

المبحث الثالث أخد المال على متعلقات الجهاد

المبحث الثّالث أخد المال على متعلّقات الجهاد المطلب الأوّل أخد المال على المرابطة المرابطة (¬1) في سبيل الله، من أجل الأعمال، وأعظم الطاعات، جاء في فضل الرِّباط في سبيل الله نصوص كثيرة (¬2)، قال أحمد: "ليس يعدل الجهاد عندي، والرباط شيءٌ ... " (¬3). والمرابطة كالجهاد فيما يخصه من أحكام، وإن كان الجهاد أفضل من المرابطة؛ لما فيه من العناء، والتعب، والمشقة. قال الإمام أحمد: " ... فالرِّبَا ط عندي أصل الجهاد، وفرعه، والجهاد أفضل منه، للعناء، والتعب، والمشقة" (¬4). ¬

_ (¬1) المرابطة في اللُّغة: ملازمة ثغر العدو، وأصله أن يربط كلّ واحدٍ من الفريقين خيله، ثمّ صار لزوم الثغر رباطًا، وإن لم يكن فيه خيل: لسان العرب لابن مظور: 7/ 302 مادة (ربط). واصطلاحًا: "هي المقام في ثغر العدو لإعزاز الدِّين، ودفع شر المشركين عن المسلمين". شرح السير الكبير للسرخسي: 1/ 7، وانظر: المغني لابن قدامة: 13/ 18. (¬2) من ذلك ما رواه سلمان الفارسي - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يقول: "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الّذي كان يعمله، وأُجريَ عليه رزقه، وأمن الفتان". أخرجه مسلم في الإمارة، باب فضل الرِّباط في سبيل الله عَزَّوَجَلَّ: 3/ 1520 (1913). (¬3) المغني لابن قدامة: 13/ 181. (¬4) المغني لابن قدامة: 13/ 18.

أخذ المرابطين من الزكاة

وكان حق هذه المسألة أن تكون ضمن كلّ ما سبق من مباحث، فإن الحديث عن أحكام الجهافى، والمجاهدين، يدخل فيه المرابطة، والمرابطون، وقد نصّ على ذلك الفقهاء، كما سيأتي، ووإنّما قدمت ما يتعلّق بالقتال، وأخرت المرابطة؛ لكون الجهاد أشد خطرًا، وأعظم أثرًا، وأكثر أحكامًا، وله أحكام تخصه دونها، ولكون المرابطة من توابع الجهاد (¬1)، فقدمت المتبوع، وأخرت التابع، وإن كانت تدخل لزامًا في معظم ما سبق من مباحث. أخذ المرابطين من الزَّكاة: المرابطون في الثغور هم جند المسلمين، وهم المجاهدون. وعلى هذا، فإنهم يأخذون من سهم (وفي سبيل الله) (¬2). قال الدردير عند حديثه عن مصارف الزَّكاة: "ويعطى منها المجاهد، ويدخل فيه الجاسوس، والمرابط، ولو كان غنيًا ... وهذا معنى قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬3). وقال أبو يعلى: "وأمّا سهم (سبيل الله) فهم الغزاة يدفع إليهم قدر نفقة ذهابهم وعودهم" (¬4). أخذ المرابطين من بيت المال: يأخذ المرابطون كذلك من بيت المال، من مصرف الفيء؛ قال ابن قدامة: "وذكر القاضي أن أهل الفيء هم أهل الجهاد من الرابطين في الثغور، وجند المسلمين، ومن يقوم بمصالحهم" (¬5). ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير لابن الهمام: 4/ 278. (¬2) سورة التوبة، آية: 60. (¬3) الشرح الصغير للدردير: 1/ 663. (¬4) الأحكام السلطانية لأبي يعلى، ص/117. (¬5) المغني لابن قدامة: 9/ 298.

أخذ العوض على المرابطة

وكل ما سبق هو محل اتفاق بين الفقهاء، وقد تقدّم ذلك مفصلًا؛ فلا حاجة لإعادته (¬1). أخذ العوض على المرابطة: الأموال الّتي تكون على سبيل النفقة في سبيل الله، والتي هي من الجهاد بالمال، لا حرج على المرابط في الأخذ منها؛ لأنّ الله تعالى قد رغب في النفقة، ووعد عليها الأجر العظيم، وكذلك فعل نبيّنا - صلّى الله عليه وسلم - ممّا يدلُّ على أن الأخذ من هذه النفقة لاحرج فيه، وقد تقدّم أن أخذ المجاهدين من هذا المال جائز بلا خلاف (¬2). ويبقى ما كان على سبيل العوض عن المرابطة؛ كالاستئجار عليها، وأخذ الجعل إذا كان على سبيل المعاوضة. فالذي عليه العلماء أن حكم المرابطة في ذلك حكم الجهاد. هذا الّذي يظهر من أقوالهم؛ قال البلقيني (¬3): سئلت عن الاستئجار للمرابطة عوض الجندي، فأفتيت بفساد الإجارة، كالاستئجار للجهاد" (¬4). ¬

_ (¬1) راجع مبحثي: أخذ المجاهدين من الزَّكاة، ومن بيت المال، ص 417. (¬2) راجع، ص 423 وما بعدها. (¬3) هو: عمر بن رسلان بن نصير بن صالح، أبو حفص، سراج الدِّين البلقيني، الفقيه الشّافعيّ، الحافظ، المحدث الأصولي، المفسر المجتهد، ولد قي بلقينة من غربية مصر عام 724 هـ، ويعد مجدد القرن التّاسع الهجري، له مؤلفات كثيرة منها: الملمات برد المهمات في الفقه، محاسن الاصطلاح، شرح البخاريّ، توفي سنة 805ص بالقاهرة: الضوء اللامع للسخاوي: 6/ 85، البدر الطالع للشوكاني: 1/ 506. (¬4) حاشية الرملي على أسنى المطالب: 2/ 410، نهاية المحتاج للرملى: 5/ 290.

المطلب الثاني أخذ المال على حفظ الغنيمة

المطلب الثّاني أخذ المال على حفظ الغنيمة حفظ الغنيمة، والقيام على شؤونها حتّى تقسم بين الغانمين، من واجبات الإمام؛ فإذا احتاجت إلى من يحفظها، ويقوم على رعايتها، أو احتاجت إلى من يقسمها بين الغانمين، فإنّه يجب على الإمام القيام بذلك. فإن وجد من يتطوع بذلك، فلا يستأجر غيره؛ لأنّ تصرفه عليها تصرف مصلحة؛ كولي اليتيم، ولا مصلحة للغانمين في الاستئجار مع وجود المتطوع. وإن لم يجد متطوعًا بذلك، فله أن يستأجر من يقوم بذلك، يعطيه أجرة المثل، من الغنيمة، ويبدأ بها قبل النفل (¬1)، وقبل القسمة. وقد جوز الفقهاء ذلك بلا خلاف بينهم (¬2). قال ابن قدامة: "إنَّ الغنيمة إذا احتاجت إلى من يحفظها، أو يسوق الدواب الّتي هي منها، أو يرعاها، أو يحملها، فإن للإمام أن يستأجر من يفعل ذلك، ويؤدِّي أجرتها منها" (¬3). ¬

_ (¬1) النَّفَل: لغة: الغنيمة، والهِبَة، وما كان زيادة على الأصل: لسان العرب لابن منظور: 11/ 670. واصطلاحًا: " هو الزيادة على السهم لمصلحة"، وقيل: "ما خصه الإمام لبعض الغزاة تحريضًا لهم على القتال"، وسمي نفلًا لكونه زيادة على ما يسهم للمقاتلين من الغنيمة: بدائع الصنائع للكاساني: 7/ 115، منح الجليل لعلّيش: 3/ 185، كشاف القناع للبهوتي: 3/ 86. (¬2) شرح السير الكبير للسرخسي: 3/ 867، 868، تحفة المحتج لابن حجر الهيتمي: 7/ 144، مغني المحتاج للشربيني: 3/ 101، المغني لابن قدامة: 13/ 191، معونة أولي النهى لابن النجار: 3/ 703، 704. (¬3) المغني لابن قدامة: 13/ 191.

الدليل الأول

وقال محمّد بن الحسن: " ... وكذلك لو استأجر من يقسم بين الغانمين بأجر معلوم، فذلك جائزا " (¬1). واستدل الفقهاء على ذلك بما يأتي: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ حفظ الغنيمة ليس من عمل الجهاد، وهو معلوم في نفسه؛ فيجوز الاستئجار عليه ببدل معلوم (¬2). الدّليل الثاني: قالوا: إنَّ الاستئجار لحفظ الغنيمة، والقيام عليها، من مؤنتها؛ فهو كعلف الدواب، وطعام السبي، يجوز للإمام بذله، ويجوز للأجير أخذه (¬3). الدّليل الثّالث: قالوا: إنَّ الأجير إنّما أجر نفسه لفعل بالمسلمين إليه حاجة، فعلت له أجرته، كما لو أجر نفسه على الدلالة على الطريق (¬4). ¬

_ (¬1) السير الكبير مع شرحه لمحمد بن الحسن: 3/ 868. (¬2) شرح السير الكبير للسرخسي: 3/ 867. (¬3) المغني لابن قدامة: 13/ 191، معونة أولي النهى لابن النجار: 3/ 703. (¬4) المغني لابن قدامة: 13/ 191، كشاف القناع للبهوتي: 3/ 90.

المطلب الثالث ما يستحقه المعاون في الجهاد

المطلب الثّالث ما يستحقه المعاون في الجهاد المعاون في الجهاد صنفان: الصنف الأوّل: الأجير للخدمة في الغزو. الصنف الثّاني: التجار، والصُّناع الذين يحتاج إليهم الجيش. الصنف الأوّل: الأجير للخدمة في الغزو: لا خلاف بين العلماء في أن الأجير للخدمة في الغزو، يستحق أجرته بمقتضى عقد الإجارة (¬1)؛ لأنّ المعقود عليه معلوم ببيان المدة، والبدل معلوم، وليس في هذا العقد من معنى الطّاعة، وإقامة الفرض، فيصح الاستئجار (¬2). ويؤيد ذلك: ما جاء في حديث يعلى بن منية (¬3)، قال: أذن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - بالغزو، وأنا شيخ كبير، ليس لي خادم، فالتمست أجيرًا يكفيني، وأُجري له سهمه، فوجدت رجلًا، فلما دنا الرحيل أتاني، فقال: ما أدري ما السهمان، وما يبلغ سهمي؟ فسم لي شيئًا كان السهم أم لم يكن، فسميت له ثلاثة دنانير، فلما ¬

_ (¬1) شرح السير الكبير للسرخسي: 3/ 945، 946، تببين الحقائق للزيلعي: 3/ 256، إعلاء السنن للتهانوي: 12/ 221، المعونة للقاضي عبد الوهاب: 1/ 613، التفريع لابن الجلّاب: 1/ 360، شرح السُّنَّة للبغوي: 11/ 61، روضة الطالبين للنووي: 10/ 380، 381، المغني لابن قدامة: 13/ 166. (¬2) شرح السير الكبير للسرخسي: 3/ 940، 946. (¬3) هو: يعلى بن أمية بن أبي عبيدة بن همّام بن الحارث التميمي الحنظلي أبو صفوان، وهو المعروف بيعلى بن منية، صحابي جليل، أسلم يوم الفتح، وشهد حنينا، والطائف، وتبوك، واستعمله عمر وعثمان، كان جوادًا معروفًا بالكرم، شهد الجمل مع عائشة، ثمّ صار من أصحاب علي، وقتل بصفين، مات سنة 47 هـ: أسدّ الغابة لابن الأثير الجزري: 5/ 486، الإصابة لابن حجر: 3/ 630.

وجه الاستدلال

حضرت غنيمته أردت أن أجري له سهمه، فذكرت الدنانير، فجئت النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، فذكرت له أمره، فقال: (ما أجد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إِلَّا دنانيره الّتي سمي) (¬1). وجه الاستدلال: حيث دلّ الحديث بظاهره على أن للأجير للخدمة أجره الّذي سمى (¬2). فإذا ثبت أن للأجير أجرة عمله، فهل إذا حضر الوقعة يسهم له كبقية المقاتلين؟ أم أنّه لا حق له في الغنيمة؟ لا يخلو الأجير للخدمة في الغزو من حالتين: الحالة الأولى: إذا قاتل مع المقاتلين: اختلف العلماء في حكم الإسهام في هذه الحالة على قولين: القول الأوّل: إنّه يسهم له من الغنيمة. وإلى هذا ذهب جمهور العلماء من الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، وهو الأظهر عند الشّافعيّة (¬5)، وهو المذهب عند الحنابلة (¬6)، وهو قول اللَّيث، والثوري (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في الجهاد، باب الرَّجل يغزو بأجير ليخدم: 3/ 17 (2527)، وصححه الألباني، كما في صحيح سنن أبي داود: 2/ 480، (2204)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح: شرح السُّنَّة للبغوي: 11/ 16. (¬2) إعلاء السنن للتهانوي: 12/ 221. (¬3) تببين الحقائق للزيلعي: 3/ 256. (¬4) المعونة للقاضي عبد الوهّاب: 1/ 613، الكافي لابن عبد البر: 1/ 475، الزرقاني على خليل: 3/ 130. (¬5) روضة الطالبين للنووي: 6/ 381، مغني المحتاج للشربيني: 3/ 104، نهاية المحتاج للرملي: 6/ 148. (¬6) كشاف القناع للبهوتي: 3/ 82. (¬7) المغني لابن قدامة: 13/ 166.

الأدلة والمناقشة

القول الآخر: إنّه لا يسهم له. وبه قال بعض الشّافعيّة (¬1). الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة أصحاب القول الثّاني: قالوا: لا يسهم له؛ لأنّه لم يقصد الجهاد، إنّما قصد الإجارة (¬2). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا التعليل بأن ذلك، وإن كان حالة خروجه أجيرًا، إِلَّا أن حضوره الصف، وقتاله، وتعريض نفسه للهلاك، دليل على أنّه قصد الجهاد والغزو، وأخلص نيته؛ وعلى ذلك، فإنّه يستحق الغنيمة، كغيره من المقاتلين. ثانيًا: أدلة الجمهور: استدلوا بما يأتي: الدّليل الأوّل: أن الأجير ممّن خوطب بالجهاد؛ فإذا قاتل أسهم لي كغير الأجير (¬3). الدّليل الثّاني: أنّه ليس في كونه أجيرًا أكثر من أنّه عوض على منافعه، وذلك لا يمنع السهم له، إذا قاتل كالذي يحج ومعه تجارة، أو يؤاجر نفسه للخدمة؛ لأنّ ذلك لا يمنع صحة الحجِّ (¬4). الدّليل الثّالث: أنّهم قاتلوا، ومن قاتل يستحق الغنيمة، كغير الأجير (¬5). الدّليل الرّابع: أنّهم شهدوا الوقعة، والغنيمة لمن شهد الوقعة، كما جاء عن ¬

_ (¬1) شرح السُّنَّة للبغوي: 11/ 16، روضة الطالبين للنووي: 6/ 381، نهاية المحتاج للرملي: 6/ 148. (¬2) تحفة المحتاج للرملي: 7/ 146، مغني المحتاج للشربيني: 3/ 104. (¬3) المعونة للقاضي عبد الوهاب: 1/ 613. (¬4) المعونة للقاضي عبد الوهاب: 1/ 613. (¬5) تحفة المحتاج للهيثمي: 7/ 146، نهاية المحتاج للرملي: 6/ 148.

الترجيح

أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنّه قال: "إنَّ الغنيمة لمن شهد الوقعة" (¬1). وروي مثله عن عمر - رضي الله عنه -، وعن علي - رضي الله عنه - (¬2). الترجيح: الراجح هو ما ذهب إليه الجمهورة لقوة ما استدلوا به، وضعف ما استدل به أصحاب القول الثانى، حيث أمكن الجواب عنه، ومناقشته. الحالة الأخرى: إذا حضر الأجير الوقعه ولم يقاتل: إذا حضر الأجير الوقعة، ولم يقاتل، فهل يستحق السهم من الغنيمة؟ أم ليس له حق فيها؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأوّل: لا يسهم للأجير من الغنيمة إذا لم يقاتل. وبه قال الحنفية (¬3)، وهو قول للشافعي، واختاره الغزالي (¬4)، والبغوي (¬5)، وهو رواية عن الإمام أحمد (¬6)، وبه قال الأوزاعي، وإسحاق، والثوري، والليث بن سعد (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب السير، باب الغنيمة لمن شهد الوقعة: 9/ 86 (17953)، (17954)، وابن أبي شيبة في المصنِّف كتاب الجهاد، باب من قال ليس له شيء إذا قدم بعد الوقعة: 12/ 411، 412 (15072). (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: 9/ 86، 87 قال البيهقي: "هو الصحيح من قول عمر". (¬3) تببين الحقائق للزيلعي: 3/ 256، إعلاء السنن للتهانوي: 12/ 221. (¬4) هو: محمّد بن محمّد بن محمّد بن أحمد، أبو حامد زين الدِّين الغزالي الطوسي، أحد أئمة الشّافعيّة، وهو فقيه أصولي متكلم مفسر، برز في كلّ العلوم، وله مؤلفات كثيرة جدًا، منها: البسيط، والوسيط، والوجيز، والخلاصة في الفقه، وإحياء علوم الدِّين، والمستصفى في الأصول، تهافت الفلاسفة، وغيرها، توفي سنة 505 هـ: سير أعلام النُّبَلاء للذهبي: 19/ 322، طبقات الشّافعيّة الكبرى للسبكي: 7/ 191. (¬5) شرح السُّنَّة للبغوي: 11/ 16، روضة الطالبين للنووي: 6/ 381. (¬6) المغني لابن قدامة: 13/ 166. (¬7) المغني لابن قدامة: 13/ 166، المحلى لابن حزم: 7/ 333.

الأدلة والمناقشة

القول الآخر: يسهم للأجير للخدمة في الغزو، بشرط أن يكون قد خرج بنية الجهاد، وتكثير سواد المسلمين. وبه قال المالكية (¬1)، وهو رواية عن الإمام أحمد هي المذهب (¬2). وبه قال ابن حزم (¬3). الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة أصحاب القول الثّاني: الدّليل الأوّل: الأثر المروي عن أبي بكر، وعمر، وعلي - وقد تقدّم - وهو: "إنّما الغنيمة لمن شهد الوقعة" (¬4). وجه الاستدلال: أن هؤلاء الصّحابة الأجلاء، وكلهم من الخلفاء الراشدين، قد أفتوا، وأخبروا أن الغنيمة لمن شهد الوقعة؛ فدلّ على أن كلّ من حضر الوقعة له سهمه من الغنيمة، قاتل أو لم يقاتل. الدّليل الثّاني: أنّهم بحضورهم الوقعة، قد كثروا سواد المسلمين، وحصلت منهم المعاونة، وهذا المعنى يُستحق به السهم من الغنيمة (¬5). ¬

_ (¬1) الكافي لابن عبد البر: 1/ 475، الزرقاني على خليل: 3/ 130، حاشية البناني على الزرقاني: 3/ 130. (¬2) المغني لابن قدامة: 13/ 166، كشاف القناع للبهوتي: 3/ 82. (¬3) المحلى لابن حزم: 7/ 332. (¬4) تقدّم تخريجه، راجع ص 459. (¬5) المعونة للقاضي عبد الوهاب: 1/ 613، الكافي لابن عبد البر: 1/ 475.

ثانيا: أدلة القول الأول

ثانيًا: أدلة القول الأوّل: استدل أصحاب هذا القول بما يأتي: الدّليل الأوّل: قوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20]. وجه الاستدلال: حيث فرّق سبحانه وتعالي بين حكم من يخرجون لأجل الفضل، وبين من يخرجون لأجل القتال في سبيل الله؛ فدلّ على أن الأجير الّذي خرج لأجل الأجرة لا سهم له (¬1). الدّليل الثّاني: حديث يعلى بن منية السابق، حيث قال قال له النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: (ما أجد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إِلَّا دنانيره الّتي سمى) (¬2). وجه الاستدلال: حيث دلّ الحديث بظاهره على أن الأجير لا يستحق السهم من الغنيمة، إنّما له أجره الّذي سمى (¬3). الترجيح: من خلال ذكر أدلة القولين، وبالنظر فيها، يتبين أن الراجح هو القول الأوّل، وأنّه لا يسهم للأجير؛ وذلك لما يأتي: أوَّلًا: قوة ما استدلوا به، سواء من كتاب الله، أم سنة رسوله - صلّى الله عليه وسلم -، وحديث يعلى بن منية حديث صحيح، وهو نصّ صريح في المسألة. على أنّه يمكن التوفيق بينه وبين أدلة أصحاب القول الآخر، بأن تحمل أدلتهم على من خرج بنية الغزو، وتكثير السواد، معينًا للمقاتلة بقدر ما يستطيع، فهو ردء للمقاتلين. ¬

_ (¬1) المعونة للقاضي عبد الوهاب: 1/ 613. (¬2) سبق تخريجه، راجع ص 457. (¬3) إعلاء السنن للتهانوي: 12/ 221.

الصنف الآخر: التجار والصناع.

وأمّا ما جاء في حديث يعلى فيمكن حمله على الأجير الّذي خرج للأجرة، وليس في قصده، ولا نيته الجهاد، ولا تكثير السواد، وإنّما قصده الأجرة فقط. وعليه، فمن خرج، وكانت نيته الجهاد، وتكثير السواد فإنّه يسهم له، وأمّا من خرج لا بنية الجهاد، ولا تكثير السواد، فلا يسهم له. الصنف الآخر: التجار والصنَّاع. التجار والصناع، كالخياط، والخباز، والبيطار، والحداد، والإسكاف، ونحوهم من كلّ من خرج بغرض التجارة، إذا شهدوا الوقعة، هل يستحقون السهم من الغنيمة، قاتلوا أم لم يقاتلوا؟ أم إنّه لا حق لهم في السهم مطلقًا؟ أم إنّه لا حق لهم فيه إِلَّا بالقتال؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأوّل: لا حق لهم في السهم، إِلَّا إذا قاتلوا. وبهذا قال الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، وهو المذهب عند الشّافعيّة (¬3). القول الثّاني: يسهم لهم مطلقًا قاتلوا أم لا إذا شهدوا الوقعة، وكان قصدهم الجهاد. وهذا قول عند الشّافعيّة (¬4)، وهو قول الإمام أحمد، وعليه الأصحاب (¬5). القول الثّالث: لا يسهم لهم بحال، قاتلوا أم لم يقاتلوا. ¬

_ (¬1) الهداية للمرغيناني مع شرحها فتح القدير: 4/ 313، شرح فتح القدير لابن الهمام: 4/ 313، تببين الحقائق للزيلعي: 3/ 251، 252. (¬2) الكافي لابن عبد البر: 1/ 475، الزرقاني على خليل: 3/ 130. (¬3) روضة الطالبين للنووي: 6/ 382. (¬4) روضة الطالبين للنووي: 6/ 382. (¬5) المغني لابن قدامة: 13/ 166، كشاف القناع للبهوتي: 3/ 82.

الأدلة والمناقشة

وبهذا قال بعض الشّافعيّة (¬1). الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة القول الثّالث: استدل من قال لا يسهم له بحال بما يأتي: قالوا: إنَّ هؤلاء بعضور الوقعة، إنّما حضروا بغرض التجارة، فلم يقصدوا الجهاد، وإنّما قصدوا فضل التجارة؛ فلا حق لهم في الغنيمة (¬2). ثانيًا: أدلة أصحاب القول الثّاني: استدل هؤلاء بما يأتي: الدّليل الأوّل: قالوا: إذا حضر هؤلاء الوقعة استحقوا الغنيمة قياسًا على غيرهم من المجاهدين الذين لم يتجروا؛ لأنّ هؤلاء كان قصدهم من الخروج هو الجهاد والتجارة له تبع، فهم مشتغلون بالجهاد، وإنّما يشتغلون بالتجارة عند فراغهم منه (¬3). الدّليل الثّاني: القياس على الحاج، إذا قصد الحجِّ، ثمّ اتجر، كان له حجه، ولا تؤثر فيه تجارته؛ فكذلك التجار والصناع، إذا قصدوا الجهاد كان لهم سهمهم من الغنيمة، ولا تؤثر فيه التجارة (¬4). الدّليل الثّالث: أثر عمر السابق: "الغنيمة لمن شهد الوقعة" (¬5). ¬

_ (¬1) الحاوي للماوردي: 18/ 186، روضة الطالبين للنووي: 6/ 382. (¬2) نهاية المحتاج للرملي: 6/ 148. (¬3) الحاوي للماوردي: 18/ 186، المغني لابن قدامة: 13/ 167. (¬4) الحاوي للماوردي: 18/ 186. (¬5) سبق تخريجه، راجع ص/ 459.

ووجه الاستدلال

ووجه الاستدلال: أن التجار والصناع إذا شهدوا الوقعة استحقوا سهمهم من الغنيمة، قاتلوا أم لا. ثالثًا: أدلة أصحاب القول الأوّل: استدل هؤلاء بما يأتي: الدّليل الأوّل: حديث يعلى بن منية السابق، وقد تقدّم ذكر وجه الاستدلال به، وهو أن من خرج بغرض الفضل، سواء أكان من الإجارة، أم من التجارة أنّه لاسهم له من الغنيمة، إنّما له ما خرج لأجله فقط (¬1). الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ سبب الاستحقاق من الغنيمة، إنّما هو المجاورة على قصد القتال، ولم يوجد منهم؛ لأنّهم قصدوا التجارة، لا إعزاز الدِّين، وإرهاب العدو. فإن قاتلوا: استحقوا السهم؛ لأنّهم بالمباشرة ظهر أن قصدهم القتال، والتجارة تبع له، فلا يضره، كالحج، إذا اتجر في طريق الحجِّ، لاينقص أجره (¬2). الترجيح: من خلال ما تقدّم من أدلة يظهر رجحان القول الأوّل؛ لقوة ما استدلوا به، فإن حديث يعلى بن منية صريح في المنع من الإسهام لمن خرج بقصد الاتجار، أو تحصيل الفضل بالتجارة؛ لأنّ السهم إنّما يكون للمقاتلة الذين خرجوا مجاهدين بأنفسهم وأموالهم، قاصدين إعلاء كلمة الله، وإعزاز الدِّين، وإرهاب العدو (¬3). ¬

_ (¬1) إعلاء السنن للتهانوي: 12/ 221. (¬2) تببين الحقائق للزيلعي: 3/ 251، 252. (¬3) وبهذا فإنّه لا دليل في أثر عمر "إنّما الغنيمة لمن شهد الوقعة"، لما يأتي: أوَّلًا: لكونه موقوفًا على عمر، فلا حجة فيه. ثانيًا: على فرض حجيته، فهو محمول على من شهد الوقعة على قصد القتال، وإعلاء كلمة الله، ونصرة دينه، لا من شهدها لقصد التجارة: الهداية للمرغيناني مع شرحها فتح القدير لابن الهمام: 4/ 313، تببين الحقائق للزيلعي: 3/ 252.

الفصل الخامس أخذ المال عله القرآن الكريم والعلوم الشرعية

الفصل الخامس أخذ المال عله القرآن الكريم والعلّوم الشرعية وفيه مبحثان: المبحث الأوَّل: أخذ المال على القرآن الكريم. المبحث الثّاني: أخد المال على العلوم الشرعية.

المبحث الأول أخد المال على القرآن الكريم

المبحث الأوّل أخد المال على القرآن الكريم المطلب الأوّل أخذ المال على تعلم (¬1) القرآن الكريم وتعليمه اتفق العلماء على أن تعليم القرآن بغير أجرة هو من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله (¬2)، كما اتفق الفقهاء - رحمهم الله تعالى - على جواز أخذ الرزق من بيت المال (¬3) على تعليم القرآن الكريم، وذلك؛ لأنّ ما يؤخذ من بيت المال ليس بعوض بل رزق للإعانة على الطّاعة، ولا يخرجه ذلك عن كونه قربة إلى الله تعالى، ولا يقدح في الإخلاص؛ لأنّه لو قدح في الإخلاص ما استحقت الغنائم، ولا سلب القاتل (¬4). ¬

_ (¬1) ما يتعلّق بأخذ المال على تعلم القرآن والذي أعني به نفقة طالب العلم، سيأتي تفصيل القول في ذلك في مطلب: (أخذ المال على طلب العلم) في المبحث الثّاني من هذا الفصل. (¬2) مجموع الفتاوى لابن تيمية: 30/ 204، قال شيخ الإسلام: "أمّا تعليم القرآن والعلّم بغير أجرة فهو أفضل الأعمال وأحبها إلى الله، وهذا ممّا يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، والصحابة والتابعون وتابعو التابعين وغيرهم من العلماء المشهورين عند الأُمَّة بالقرآن والحديث والفقه إنّما كانوا يعلّمون بغير أجرة ولم يكن فيهم من يعلّم بأجرة أصلًا". (¬3) ويلحق به الرزق من غير بيت المال، كالذي يؤخذ من الجمعيات الخيرية كجماعة تحفيظ القرآن وغيرها على ما سبق بيانه في التمهيد، راجع ص: 31. (¬4) الاختيار للموصلّي 4/ 141، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/ 336، الفروق للقرافي 3/ 3 - 7، حاشية قليوبي على شرح المحلي على المنهاج 4/ 296، المغني لابن قدامة 8/ 137 - 139، كشاف القناع للبهوتي 4/ 12، مطالب أولي النهى للرحيباني 3/ 641 مجموع الفتاوى لابن تيمية 30/ 206.

ويلحق بالرزق في الجواز المال الموقوف على أعمال البرّ والموصى به والمنذور. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ... أمّا ما يؤخذ من بيت المال فليس عوضًا" وأجرة، بل رزق للإعانة على الطّاعة، وكذلك المال الموقوف على أعمال البرّ والموصى به، والمنذور كذلك ليس كالأجرة" (¬1). أمّا أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم فقد اختلف الفقهاء في حكمه من حيث الجواز وعدمه على أقوال، أهمها ثلاثة: القول الأوّل: يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن للحاجة والضرورة، وبهذا قال متأخرو الحنفية، وهو الّذي عليه الفتوى (¬2)، وهو قول عند الحنابلة (¬3)، اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (¬4). القول الثّاني: يجوز مطلقا أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم، وهذا قول المالكية (¬5)، ¬

_ (¬1) الاختيارات الفقهية لابن تيمية للبعلي، ص/ 153. (¬2) الهداية للمرغيناني مع شرحه فتح القدير 7/ 179، 180، تببين الحقائق للزيلعي 5/ 124، 125، حاشية ابن عابدين 1/ 263، 5/ 34، 35، رسائل ابن عابدين 1/ 161، قال ابن عابدين: "وقد اتفقت كلمتهم جميعًا في الشروح والفتاوى على التعليل بالضرورة، وهي خشية ضياع القرآن ". (¬3) الفروع لابن مفلح 4/ 435، الإنصاف للمرداوي 6/ 46، قال ابن مفلح: "ويحرم على أذان، وإمامة صلاة وتعليم قرآن ... وذكر شيخنا وجهًا يجوز للحاجة". (¬4) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 24/ 316، 30/ 207. (¬5) المدوّنة للإمام مالك 1/ 62، قال الإمام: "لا بأس بما يأخذ المعلم، اشترط ذلك أو لم يشترطه، وإن كلان اشترط على تعليم القرآن شيئًا معلومًا كان ذلك جائزًا ولم أر به بأسًا". البيان والتحصيل لابن رشد 8/ 452، 453، الخرشي على خليل 7/ 17، حاشية الدسوقي 2/ 18.

سبب الاختلاف

والشّافعيّة (¬1)، وهو رواية عن الإمام أحمد (¬2)، وبه قال الظاهرية (¬3). القول الثّالث: لا يجوز مطلقًا أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم. وهذا مذهب الحنفية عند الإطلاق، وعليه المتقدمون من أهل المذهب (¬4)، وهو رواية عن الإمام أحمد، هي المذهب وعليها جماهير أصحابه (¬5). سبب الاختلاف: يعود سبب الخلاف بين الفقهاء في هذه المسألة لعدة أسباب: السبب الأوّل: تعارض الروايات الثابتة عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - حيث جاء بعضها بالمنع، وجاء البعض الآخر بالجواز، وسيأتي تفصيل تلك الأدلة عند ذكر أدلة الأقوال إن شاء الله تعالى. السبب الثّاني: أن تعليم القرآن من الأعمال الّتي يختص أن يكون فاعلها من أهل القربة وهو المسلم، لا يفعلها الكافر، بخلاف النفع الّذي يفعله المسلم والكافر كالبناء والخياط ونحوهما، وإذا فعل العمل بالأجرة لم يبق عبادة لله تعالى؛ لأنّه يكون مستحقًا بالعوض معمولًا لأجله. ¬

_ (¬1) روضة الطالبين 5/ 187، مغني المحتاج للشربيني 2/ 344، إعانة الطالبين للبكري 3/ 113. (¬2) المغني لابن قدامة 8/ 136، الفروع لابن مفلح 4/ 435، الإنصاف للمرداوي 6/ 45 شرح منتهى الإرادات للبهوتى 2/ 366. (¬3) المحلى لابن حزم 8/ 193، 194. (¬4) بدائع الصنائع للكاساني 4/ 191، شرح فتح القدير لابن الهمام 7/ 179، 180، البناية شرح الهداية للعيني 9/ 342، حاشية ابن عابدين 1/ 263. (¬5) المغني لابن قدامة 8/ 136، الفروع لابن مفلح 4/ 435، الإنصاف للمرداوي 6/ 45، كشاف القناع للبهوتي 4/ 12.

الأدلة والمناقشة

فمن قال أن تعليم القرآن لا يمكن إيقاعه على غير وجه العبادة لله، قال لا يجوز الاستئجار عليه، ومن جوز الاستئجار قال: إنّه نفع يصل إلى المستأجر فجاز أخذ الأجرة عليه كسائر المنافع (¬1). الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة أصحاب القول الثّالث: استدل من منع أخذ الأجرة على تعليم القرآن مطلقًا بأدلة من القرآن الكريم والسُّنَّة المطهرة، والأثر والمعقول: أ - أدلتهم من القرآن الكريم: الدّليل الأوّل: قوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] وقوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [سبأ: 47]. وجه الاستدلال: هذه الآيات وما في معناها من الآيات (¬2)، تدل على أن الواجب على العلماء وغيرهم أن يبذلوا العلم مجانًا من غير أخذ عوض على ذلك، وأنّه لا ينبغي أخذ أجرة على تعليم القرآن الكريم (¬3). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة الاستدلال بهذه الآيات الكريمات بما يأتي: ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 30/ 206، 207. (¬2) ورد في معنى هذه الآيات آيات كثيرة كما في الشعراء، الآيات: 109، 127، 145، 164، 180، وفي سورة الأنعام، آية: 90، والشورى، آية: 23، وهود: 29، 51. (¬3) أضواء البيان للشيخ محمّد الأمين الشنقيطي 3/ 18.

الدليل الثاني

أن المراد بهذه الآيات هو الأجر على تبليغ الرسالة وهو خطاب للمشركين، والمعنى: قل يا محمّد لهؤلاء المشركين ما أسألكم على تبليغ الرسالة والوحي والنصح لكم أجرًا تعطونيه من عرض الحياة الدنيا ... فليس المراد بهذه الآيات ونحوها الأجرة على تعليم القرآن كما جاء في وجه الاستدلال (¬1). الدّليل الثّاني: قوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [الطور: 40، القلم: 46]. وجه الاستدلال: أن أخذ الأجرة على تعليم القرآن فيه ثقل على النَّاس، وثقل الأجر يؤدِّي إلى تنفير النَّاس عن تعلم القرآن، فيؤدِّي ذلك إلى الرغبة عن هذه الطّاعة وعلى هذا فلا يجوز الاستئجار على تعليم القرآن (¬2). مناقشة الاستدلال: الآية إنّما تتحدث عن المشركين، ودعوة النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - لهم للدخول في دين الإسلام، وأن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - لا يسألهم أجرًا على إبلاغهم رسالة الله، فلا عذر لهم في تثاقلهم عن الاستجابة لدعوته ونصيحته لهم - صلّى الله عليه وسلم - (¬3). إذن فالآية خارج محل النزاع ولا علاقة لها بأخذ الأجر على تعليم القرآن. الدّليل الثّالث: قوله تعالى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 41]. ¬

_ (¬1) انظر: المحرر الوجيز لابن عطية 13/ 149، 14/ 55، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 14/ 312، 15/ 230، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 6/ 513، 7/ 73، وتقدم الكلام على بعض هذه الآيات، في مبحث الإمامة في الصّلاة، راجع ص: 202. (¬2) بدائع الصنائع للكاساني 4/ 191. (¬3) تفسير ابن كثير 7/ 413، 8/ 226.

وجه الاستدلال

وجه الاستدلال: استدل القرطبي في تفسيره بهذه الآية على المنع من أخذ الأجرة على تعليم القرآن، فقال: "وهذه الآية وإن كانت خاصّة ببني إسرائيل فهي تتناول من فعل فعلهم فمن أخذ رشوة على تغيير حق أو إبطاله أو امتنع من تعليم ما وجب عليه أو أداء ما علمه وقد تعين عليه حتّى يأخذ عليه أجرا فقد دخل في مقتضى الآية" (¬1). مناقشة الاستدلال: أجاب القرطبي عن وجه الاستدلال بهذه الآية بجوابين: الأوّل: أن المراد بالآية بنو إسرائيلا، وشرع من قبلنا هل هو شرع لنا فيه خلاف وهو لا يقول به (¬2)، وعليه فلا حجة لهم في الآية. الثّاني: أن الآية فيمن تعين عليه التعليم فأبى حتّى يأخذ عليه أجرًا، فأمّا إذا لم يتعين عليه، فيجوز له أخذ الأجرة بدليل السُّنَّة في ذلك، وقد يتعين عليه إلّا أنّه ليس عنده ما ينفقه على نفسه ولا على عياله فلا يجب عليه التعليم، وله أن يقبل على صنعته وحرفته (¬3). الدّليل الثّالث: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159]. والكلام حول هذه الآية من حيث وجه الاستدلال والمناقشة كالآية السابقة ولا فرق (¬4). ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/ 334، 335. (¬2) المرجع السابق 1/ 336، ومرجع الضمير في قوله (هو) يعود إلى الإمام أبي حنيفة. المرجع السابق: 1/ 335. (¬3) المرجع السابق. (¬4) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2/ 184، 185.

ب - الأدلة من السنة

ب - الأدلة من السُّنَّة: الدّليل الأوّل: عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: علّمت رجلًا القرآن فأهدى إليّ قوسًا فذكرت ذلك لرسول الله - صلّى الله عليه وسلم - فقال: (إنَّ أخذتها أخذت قوسًا من نار)، قال أبى: فرددتها (¬1). الدّليل الثّاني: عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: إنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: (من أخذ قوسًا على تعليم القرآن قلّده الله قوسًا من نار) (¬2). الدّليل الثّالث: عن عبادة بن الصامت قال: علّمت ناسًا من أهل الصِّفَة الكتاب والقرآن فأهدى إليّ رجل منهم قوسًا، فقلت: ليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله عزّ وجلّ؟ لآتينّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - فلأسألنه، فأتيته فقلت: يا رسول الله، رجل أهدى إليّ قوسًا ممّن كنت أعلّمه الكتاب والقرآن، وليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله، قال: (إنَّ كنت تحبّ أن تطوق طوقًا من نار فاقبلها) (¬3). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه، راجع ص 398. (¬2) أخرجه البيهقى في الكبرى، كتاب الإجارة، باب من كره أخذ الأجرة عليه 6/ 208 (11685)، وقال الألباني. أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (2/ 427/ 2)، وأبو محمّد المخلدي في الفوائد: (ق 268/ 1). وقد أشار إلى تصحيحة الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 298، وجوّد إسناده التركماني صاحب الجوهر النقي كما في تعليقه على السنن 6/ 208، وصححه الألباني كما في الصحيحة رقم: (256)، ويشهد له ما سبق من حديث أبي، وكذلك حديث عبادة الآتي بعده. (¬3) أخرجه أبو داود في الإجارة، باب في كسب المعلم 3/ 264 (3416)، وابن ماجه في التجارات، باب الأجر على تعليم القرآن 2/ 730 (2157) وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنِّف 6/ 223، 224، والطحاوي في مشكل الأثار 11/ 111، والبيهقي في الكبرى كتاب الإجارة، باب من كره أخذ الأجرة عليه 6/ 206 (11681)، وصححه الحاكم في المستدرك 2/ 41، 42 وصححه الألباني كما في صحيح سنن أبي داود 2/ 655 (2915) وشعيب الأرناؤوط في تحقيقه على مشكل الآثار 11/ 111.

وجه الاستدلال من الأحاديث السابقة

وجه الاستدلال من الأحاديث السابقة: دلت الأحاديث السابقة على تحريم أخذ الهدية على تعليم القرم ن لما جاء في أخذها من الوعيد الشديد، فدل ذلك على أن ما كان عن شرط كالأجرة فإنّه يكون أشد تحريمًا (¬1). مناقشة الاستدلال: نوقش الاستدلال بالأحاديث السابقة بما يأتي: أوَّلًا: أن هذه الأحاديث ليست بنص في تحريم الأجر على تعليم القرآن (¬2). ثانيًا: أن هذا كان في أول الإسلام، حين كان تعليم القرآن فرضًا على الأعيان فلما سقط الفرض بتعليمه لفشوه وظهوره وكثرة حامليه، ولم يجب على أحد أن يترك أشغاله ومنافعه ويجلس لتعليم القرآن الكريم، كان له أن يأخذ الأجرة على ذلك (¬3). ثالثًا: قالوا: إنَّ تعليم عُبادة إنّما كان لوجه الله، أي: حسبة، فكره له النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أن يأخذ عليه أجرة على عمل نواه لله عزّ وجل، دون أن يأخذ عليه أجرًا من الله تعالى (¬4). قال الخطابي (¬5): ¬

_ (¬1) رسائل ابن عابدين (رسالة شفاء العلّيل) 1/ 168. (¬2) فتاوى ابن رشد الجد 1/ 218. (¬3) فتاوى ابن رشد الجد 1/ 212، 313، البيان والتحصيل لابن رشد 8/ 453. (¬4) فتاوى ابن رشد الجد 1/ 212، المفهم للقرطبي 5/ 589، وانظر: التبيان في آداب حملة القرآن للنووي، ص: 46، نيل الأوطار للشوكلاني 5/ 287. (¬5) هو: حمد بن محمّد بن إبراهيم بن خطاب، أبو سليمان الخطابي البستي أحد الأئمة في الفقه والحديث واللُّغة، كان من أوعية العلم، وكان مولده سنة 319 هـ، رحل في طلب العلم إلى نيسابور وبغداد والبصرة، وخلف مولفات كثيرة منها: معالم السنن شرح سنن أبي داود، غريب الحديث، شأن الدُّعاء وإصلاح غلط المحدثين، توفي عام 388 هـ. انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي 3/ 18، وفيات الأعيان لابن خلكان 1/ 453.

الدليل الرابع

"وتأولوا حديث عُبادة على أنّه أمر كان تبرع به ونوى الاحتساب فيه ولم يكن قصده وقت التعليم إلى طلب عوض ونفع، فحذره النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - إبطال أجره وتوعده عليه ... ولو أنّه طلب لذلك أجرة قبل أن يفعله حسبة، كان ذلك جائزًا" (¬1). رابعًا: أن هذه الأحاديث ليس فيها تصريح بالمنع من أخذ الأجرة على تعليم القرآن على الإطلاق، بل هي وقائع أحوال محتملة للتأويل لتوافق الأحاديث الصحيحة الدالة على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن (¬2). خامسًا: أن هذه الأحاديث فيها كلام، وإن صحت فإنها لا تنهض لمعارضة الأحاديث الصحيحة الدالة على الجواز (¬3). الدّليل الرّابع: عن عبد الرّحمن بن شبل (¬4)، أن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: (اقرؤوا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به) (¬5). ¬

_ (¬1) معالم السنن للخطابي (مع سنن أبي داود) 3/ 702. (¬2) فتح الباري لابن حجر 4/ 530. (¬3) المرجع السابق. (¬4) هو: عبد الرّحمن بن شبل بن عمرو بن زيد بن نجدة بن مالك بن لوزان الأنصاري الأوسي أحد نقباء الأنصار، وأحد صحابة رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، روى عنه أبو راشد الحبراني ويزيد بن حمير وتميم بن محمود وغيرهم، توفي بالشام أيّام معاوية. انظر: الاستيعاب لابن عبد البرّ 2/ 411، الإصابة لابن حجر 2/ 395. (¬5) أخرجه أحمد في المسند 3/ 551 (15507)، 552 (15513)، 576 (15648) وابن أبي شيبة في المصنِّف، كتاب الصّلاة، باب في الرَّجل يقوم بالناس في رمضان 2/ 400، 401 والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 18، وفي مشكل الآثار 11/ 109 - 110، (4332)، والحديث صححه ابن حجر كما في الفتح 8/ 718، وصححه البزار كلما في البحر الزخار 3/ 253، 354 والألباني كما في السلسلة الصحيحة 1/ 522 (260).

وجه الاستدلال

وجه الاستدلال: حيث نهى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - عن الأكل بالقرآن واستكثار المال به، وأخذ الأجرة على تعليم القرآن من الأكل به والاستكثار به، فدل ذلك على أنّه لا يجوز أخذ الأجرة على القرآن. قال الإمام الطحاوي: "فحظر عليهم رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أن يتعوضوا بالقرآن شيئًا من عوض الدنيا" (¬1). مناقشة الاستدلال: قال الشوكاني: "وأمّا حديث عبد الرّحمن بن شبل فهو أخص من محل النزاع؛ لأنّ المنع من التآكل بالقرآن لا يستلزم المنع من قبول ما دفعه المعلّم بطيبة من نفسه" (¬2). الدّليل الخامس: عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يقول: (من قرأ القرآن فليسأل الله به، فإنّه سيجيء أقوام يقرؤون القرآن يسألون به النَّاس) (¬3). الدّليل السّادس: عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: "خرج علينا رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - ونحن نقرأ القرآن، وفينا الأعرابي والأعجمي فقال: (اقرؤوا فكل حسن وسيجيء أقوام يُقيمونه كما ¬

_ (¬1) شرح معاني الآثار 3/ 18، وانظر: شرح مشكل الآثار للطحاوي 11/ 109. (¬2) نيل الأوطار للشوكانى 5/ 288. (¬3) أخرجه التّرمذيّ في فضائل القرآن، باب ما جاء في تعليم القرآن 5/ 164 (2917) وأحمد في مسنده 4/ 587 (19887)، والطبراني في الكبير 18/ 167 (373)، (374) والحديث صححه التّرمذيّ فقال: هذا حديث حسن، وصححه الألباني في الصحيحة 1/ 117 وصحيح سنن التّرمذيّ 3/ 10 (330).

وجه الاستدلال من الأحاديث السابقة

يقام القدْح (¬1) يتعجّلونه، ولا يتأجّلونه) (¬2). الدّليل السابع: عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يومًا ونحن نقترئ فقال: (الحمد لله، كتاب الله واحد، وفيكم الأحمر وفيكم الأبيض وفيكم الأسود، اقرؤوه قبل أن يقرأه أقوام يقيمونه كما يقوم السهم يتعجل أجره ولا يتأجله) (¬3). وجه الاستدلال من الأحاديث السابقة: حيث أمر النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بقراءة القرآن ابتغاء الأجر والثواب من الله تعالى وأخبر - صلّى الله عليه وسلم - عن أقوام يأتون بعده يقرؤون القرآن بفرض الأجر الدنيوي، والخبر قد خرج مخرج الذم لهم ولفعلهم فدل ذلك على عدم جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن. مناقشة الاستدلال: نوقش الاستدلال بالأحاديث السابقة بما يأتي: ¬

_ (¬1) القِدْحُ: هو السهم إذا قوّم قبل أن يراس، والمراد هنا: أن القراء يبالغون في عمل القراءة كمال المبالغة؛ لأجل الرياء والسمعة والمباهاة والشهرة. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 4/ 19، 20، عون المعبود شرح سنن أبي داود لشمس الحق العظيم آبادي 3/ 42. (¬2) أخرجه أبو داود، كتاب الصّلاة، باب ما يجزئ الأمي والأعجمي من القراءة 1/ 220، (830) وأحمد في المسند 3/ 504 (15252) وعبد الرزّاق في المصنِّف 3/ 382 (6034)، وقد صححه الألباني كما في الصحيحة 1/ 520 (259) وصحيح سنن أبي داود 1/ 156 (740). (¬3) أخرجه أبو داود في الصّلاة، باب ما يجزئ الأمي والأعجمي من القراءة 1/ 220 (831) وأحمد في المسند 5/ 422 (22860)، والطبراني في الكبير 6/ 206 (6021) (6022)، (6024)، وابن أبي شيبة في المصنِّف 10/ 480 (10053) عن محمّد بن المنكدر مرسلًا، وقد صححه ابن حبّان 3/ 36 (760) والألباني في صحيح سنن أبي داود 1/ 157، وقال: حسن صحيح، وشعيب الأرناؤوط كما في تخريجه لصحيح ابن حبّان 3/ 36.

اعتراض على هذه المناقشة

أوَّلًا: أمّا حديث عمران بن حصين فليس فيه إِلَّا تحريم السؤال بالقرآن وهو غير اتخاذ الأجر على تعليمه (¬1). ثانيًا: إنَّ حديثي جابر وسهل بن سعد محمولان على الكراهة، أي: كراهة أخذ الأجرة على تعليم القرآن، والندب إلى ترك ذلك (¬2). ثالثًا: أن هذه الأحاديث على تقدير صحتها جميعًا فقد خالفها أبو حنيفة وأصحابه - وهم القائلون بالمنع -؛ لأنّ هذه الأحاديث كلها إنّما جاءت فيما أعطي بغير أجرة ولا مشارطة، وهم يجيزون هذا الوجه، فموهوا بإيراد أحاديث ليس فيها شيء ممّا منعوا، وهم مخالفون لما فيها فبطل كلّ ما في هذا الباب (¬3). اعتراض على هذه المناقشة: اعترض على هذه المناقشة بأن أبا حنيفة وأصحابه حملوا الأحاديث السابقة على الكراهة دون التّحريم، بدليل ما رواه ابن عمر - رضي الله عنه - قال: سمعت عمر يقول: كان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يعطيني العطاء، فأقول: أعطه من هو أفقر مني فقال: (خذه، إذا جاءك من هذا المال شيء، وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا، فلا تتبعه نفسك) (¬4). ¬

_ (¬1) نيل الأوطار للشوكاني 5/ 288. (¬2) منتقى الأخبار للمجد ابن تيمية مع شرحه نيل الأوطار 5/ 219، إعلاء السنن للتهانوي 16/ 176. (¬3) المحلى لابن حزم 8/ 196. (¬4) أخرجه البخاريّ في الزَّكاة، باب من أعطاه الله شيئا من غير مسألة ولا إشراف نفس 3/ 395 (1473)، 13/ 160 (7163)، (7164)، ومسلم في الزَّكاة، باب إباحة الأخذ لمن أعطي من غير مسألة ولا إشراف 2/ 723 (1045).

اعتراض على هذه المناقش

وما كان مكروهًا من غير شرط فهو بالمشارطة أشد كما لا يخفى (¬1). رابعًا: أن هذه الأحاديث منسوخة بالأحاديث الدالة على الجواز، كحديث أبي سعيد الخدري، وحديث ابن عبّاس في قصة اللديغ (¬2). اعتراض على هذه المناقش: يعترض على دعوى النسخ بما اعترض به ابن حجر نفسه على من ادّعى نسخ الأحاديث الدالة على الجواز بالأحاديث الدالة على المنع بأن نقول: بأنّ هذا إثبات للنسخ بالاحتمال وهو مردود (¬3). جـ- أدلتهم من الأثر: الدّليل الأوّل: عن عبد الله بن شقيق الأنصاري (¬4) قال: يُكره أرش المعلم، فإن أصحاب رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - كانوا يكرهونه ويرونه شديدًا (¬5). ¬

_ (¬1) إعلاء السنن للتهانوي 16/ 176. (¬2) الدراية في تخريج أحاديث الهداية 2/ 189، نيل الأوطار للشوكاني 5/ 288 وستأتي هذه الأحاديث عند ذكر أدلة القول الثّاني. (¬3) فتح الباري لابن حجر 4/ 530. (¬4) هو: عبد الله بن شقيق العقيلي، أبو عبد الرّحمن، ويقال: أبو محمّد، البصري من تابعي البصرة، وثقة جماعة من الأئمة، منهم: أبو زرعة وأبو حاتم، وابن عدي، وأحمد بن حنبل والعجلي وغيرهم، روى عن عمر، وعثمان، وأبي هريرة، وعلي، وأبي ذر، وابن عمر - رضي الله عنه -، كان مستجاب الدّعوة، مات بعد المائة، وقيل: مات سنة: 108 هـ انظر: ميزان الاعتدال للذهبي 2/ 439، تهذيب التهذيب لابن حجر 5/ 253. (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنِّف، كتاب البيوع والأقضية، باب من كره أجر المعلم 6/ 224 (885).

الدليل الثاني

وفي رواية: قال: كان أصحاب محمّد - صلّى الله عليه وسلم - يشددون في بيع المصاحف، ويكرهون الأرش على الغلمان في التعليم (¬1). الدّليل الثّاني: قال إبراهيم (¬2): كانوا يكرهون أن يأخذوا الأجر على تعليم الغلمان (¬3). الدّليل الثّالث: عن طاووس أنّه سئل عن معلم يأخذ الأجر فقال: إذا لم يشترط فلا بأس به، قال معمر: وقال قتادة مثل ذلك (¬4). الدّليل الرّابع: عن قتادة أنّه قال: ثلاثة أشياء لم يكن يؤخذ عليهن أجر: ضراب الفحل، وقسمة الأموال، وتعليم الغلمان (¬5). وجه الاستدلال من الآثار السابقة: دلت هذه الآثار على أن الصّحابة والتابعين، كانوا لا يرون أخذ الأجرة على تعليم القرآن، ويكرهون ذلك، ويرونه أمرًا شديدًا عظيمًا، فدل ذلك على عدم جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن. ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزّاق في مصنفه، كتاب البيوع، باب الأجر على تعليم الغلمان ... 8/ 115 (14534) وأخرجه ابن حزم في المحلى 8/ 195. (¬2) هو: إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود أبو عمران النخعي. وتقدمت ترجمته، ص: 390. (¬3) أخرجه عبد الرزّاق في المصنِّف، كتاب البيوع، باب الأجر على تعليم الغلمان 8/ 114 (14533) وصححه ابن حزم في المحلى 5/ 198. (¬4) أخرجه عبد الرزّاق في البيوع، باب الأجر على تعليم الغلمان 8/ 114. (¬5) أخرجه عبد الرزّاق في البيوع، باب الأجر على تعليم الغلمان 8/ 115.

د- أدلتهم من المعقول

د- أدلتهم من المعقول: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ من يعلّم غيره القرآن فهو خليفة رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - فيما يعمل، فإنّه بُعث معلّمًا، وهو ما كان يطمع في أجر على التعليم، فكذلك من يخلفه (¬1). الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ تعليم القرآن قربة، والقربة متى حصلت وقعت عن العامل، ولهذا تعتبر أهليته فلا يجوز له أخذ الأجر من غيره، كما في الصّلاة والصيام (¬2). مناقشة الاستدلال: أوَّلًا: ناقش ابن الهمام (¬3) هذا الدّليل فقال: "ينتقض هذا بما ذكره المصنفر (¬4) في باب الحجِّ عن الغير من كتاب الحجِّ حيث قال: "ثمّ ظاهر المذهب أن الحجِّ يقع عن المحجوج عنه، وبذلك تشهد الأخبار الواردة في الباب، كحديث الخثعمية، فإنّه عليه الصّلاة والسلام قال فيه: (حجّي عن أبيك واعتمري) (¬5) فإن ذلك صريح في وقوع القربة عن غير العامل ... " (¬6). ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي 4/ 37. (¬2) الهداية شرح البداية للمرغيناني مع شرحها فتح القدير 7/ 179. (¬3) هو: محمّد بن عبد الواحد بن عبد الحميد بن مسعود، كمال الدِّين الصروف بابن الهمام، الإمام الحنفي الفقيه الأصولي، كان مجتهدًا في المذهب مجتنبًا للتعصب، ترك مؤلفات كثيرة منها: شرح فتح القدير، التحرير في أصول الفقه، ورسالة في النحو والإعراب، وغيرها توفي سنة 861 هـ بالإسكندرية. انظر: شذرات الذهب لابن العماد 9/ 437، الفوائد البهية، ص: 180. (¬4) هو: المرغيناني صاحب الهداية. (¬5) سبق تخريجه في مبحث النيابة في الحجِّ. (¬6) شرح فتح القدير لابن الهمام 7/ 179، 180.

الدليل الثالث

ثانيًا: لا نسلم صحة القياس على الصّلاة والصيام، فإنّه قياس فاسد الوضع؛ لأنّه في مقابله النص، وهو حديث (إنَّ أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله) وهو عموم قوي وظاهر جليّ (¬1). الدّليل الثّالث: قالوا: إنَّ العبد فيما يعمله من القربات والطاعات، ومنها تعليم القرآن، يكون عاملًا لنفسه، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [فصلت: 46]، ومن عمل لنفسه لا يستحق الأجر على غيره (¬2). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الدّليل بما نوقش به الدّليل السابق من المنع من أن القربات إذا فعلها عن الغير لا تقع عنه، وإنّما تقع عن العامل نفسه، بدليل الحجِّ، وقد سبق بيان ذلك. فإذا وقع الفعل للغير كان الفاعل مستحقًا للأجرة. الدّليل الرّابع: قالوا: إنَّ تعليم القرآن ممّا لا يقدر المعلم عليه، إِلَّا بمعنى من قبل المتعلم فيكون المعلم ملتزمًا ما لا يقدر على تسليمه فلا يصح (¬3). مناقشة الاستدلال: قال ابن الهمام: " ... فيه بحث؛ لأنّه إنَّ أريد أن المعلم لا يستقل في التعليم بشيء أصلًا فهو ممنوع، فإن التلقين والإلقاء فعل المعلم وحده لا مدخل للمتعلم فيه، وإنّما ¬

_ (¬1) المفهم لأبي العباس القرطبي 5/ 589، وسيأتي الكلام حول حديث (إنَّ أحق ما أخذتم عليه أجرًا ...) عند ذكر أدلة أصحاب القول الثّاني القائلين بالجواز مطلقًا. (¬2) بدائع الصنائع للكاساني 4/ 192. (¬3) المبسوط للسرخسي 16/ 37، بدائع الصنائع للكاساني 4/ 191، الهداية للمرغيناني مع شرحه فتح القدير 7/ 180.

الدليل الخامس

وظيفته الأخذ والفهم، وان أريد أن للمتعلم أيضًا مدخلًا في ظهور أثر التعليم وفائدته فإن المتعلم ما لم يأخذ ما ألقاه المعلم ولم يفهم ما لقنه لم يظهر لتعليمه أثر وفائدة فهو مسلم، ولكن الّذي يلتزمه المعلم إنّما هو فعل نفسه ممّا يقدر عليه لا فعل الآخر، ولا مانع من أخذ الأجرة على فعل نفسه كما لا يخفى ... " (¬1). الدّليل الخامس: قالوا: إنَّ تعليم القرآن يختص فاعله أن يكون من أهل القربة، فإنّه إنّما يصح من المسلم دون الكافر، فلا يجوز إيقاعه إِلَّا على وجه التقرب إلى الله تعالى، وإذا فُعل بعروض لم يكن فيه أجر وثواب بالاتفاق؛ لأنّ الله تعالى إنّما يقبل من العمل ما أريد به وجهه، لا ما فعل لأجل عروض الدنيا (¬2). ثانيًا: أدلة أصحاب القول الثّاني: استدل من أجاز أخذ الأجرة على التعليم مطلقًا بأدلة من السُّنَّة والأثر والمعقول: أ - أدلتهم من السُّنَّة: الدّليل الأوّل: عن ابن عبّاس - رضي الله عنهما -: أن نفرًا من أصحاب النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - مرُّوا بماء فيه لديغ - أو سليمٍ - فعرضٍ لهم رجل من أهل الماء فقال: هل فيكم من راق؟ إنَّ في الماء رجلًا لديغًا أو سليمًا، فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء فبرأ، فجاء بالشاء إلى أصحابه، فكرهوا ذلك، وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرًا، حتّى قدموا المدينة فقالوا: يا رسول الله، أخذ على كتاب الله أجرًا فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (إنَّ أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله) (¬3). ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير لابن الهمام 7/ 180. (¬2) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 24/ 315. (¬3) أخرجه البخاريّ، كتاب الطب، باب الشروط في الرقية بفاتحة الكتاب 10/ 209 (5737).

الدليل الثاني

الدّليل الثّاني: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: انطلق نفر من أصحاب النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في سفرة سافروها، حتّى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم، فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحيّ، فسعوا له بكل شيء، لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا، لعلّه أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط، إنَّ سيّدنا لدغ وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم والله إنِّي لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق لكم حتّى تجعلوا لنا جعلًا، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قَلَبة (¬1)، قال: فأوفوهم جعلهم الّذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقسموا فقال الّذي رقى: لا تفعلوا حتّى نأتي النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - فنذكر له الّذي كان، فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، فذكروا له فقال: (وما يدريك أنّها رقية؟) ثمّ قال: (قد أصبتم، اقسموا واضربوا لط معكم سهمًا)، فضحك النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - (¬2). ¬

_ (¬1) القَلَبَة: هي الألم والعلّة، النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 4/ 98. (¬2) أخرجه البخاريّ، كتاب الإجارة، باب ما يعطى في الرقية على أحياء العرب 4/ 529، (2276)، وكتاب الطب، باب الرقى بالقرآن والمعوذات 10/ 208 (5736)، ومسلم كتاب السّلام، باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار 4/ 1727 (2201).

الدليل الثالث

الدّليل الثّالث: عن خارجة بن الصلت (¬1) التميمي، عن عمه (¬2)، قال: أقبلنا من عند رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، فاتينا على حي من العرب، فقالوا: إنا أنبئنا أنكم جئتم من عند هذا الرَّجل بخير، فهل عندكم من دواء أو رقية، فإن عندنا معتوهًا في القيود؟ قال: فقلنا: نعم، قال: فجاؤوا بمعتوه في القيود، قال: فقرأت عليه بفاتحة الكتاب ثلاثة أيّام، غدوة وعشية، كلما ختمتها أجمع بُزاقي، ثمّ أتفل، فكأنما نشط من عقال قال: فأعطونى جعلا، فقلت: لا، حتّى أسأل رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، فقال - صلّى الله عليه وسلم -: (كُلْ فلَعَمري، من أكل برقية باطل، لقد أكلت برقية حق) (¬3). ¬

_ (¬1) هو خارجة بن الصلت البرجمي الكوفي من ثقات التابعين، روى عن عبد الله بن مسعود وعن عمه علاقة، وروى عنه الشّعبيّ وعبد الأعلى. انظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 3/ 374، الثقات لابن حبّان 4/ 211، تهذيب التهذيب لابن حجر 3/ 57. (¬2) هو: علاقة بن صُحار التميمي السليطي، ويقال: البرجمي، وله صحبة ورواية عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، وقيل: اسمه: عبد الله، وقيل: العلّاء، وقيل: علاقة ابن شجّار، وقيل: شجّار، والأول أكثر. انظر: أسدّ الغابة لابن الأثير 4/ 73، الإصابة لابن حجر: 2/ 492 رقم (5654) والاستيعاب لابن عبد البرّ 3/ 162. وانظر: معالم السنن للخطابي مع مختصر المنذري 5/ 73، 368. (¬3) أخرجه أبو داود في الطب، باب كيف الرقي؟ 4/ 13 (3896) (3901) وفي كتاب البيوع، باب في كسب الأطباء 3/ 266 (3420)، والنسائي في الكبرى، كتاب عمل اليوم واللّيلة، باب ما يقرأ على المعتوه 6/ 255 (10871)، وأحمد في المسند 5/ 267 (21829)، (21830)، وابن أبي شيبة في المصنِّف، كتاب الطب، باب في الأخذ على الرقية 8/ 53 (2638). وصححه ابن حبّان 13/ 474 (6110)، والحاكم في المستدرك 1/ 559، 560 ووافقه الذهبي، وصححه الألباني، صحيح سنن أبي داود 2/ 738 (3301).

وجه الاستدلال من الأحاديث السابقة

وجه الاستدلال من الأحاديث السابقة: دلت الأحاديث السابقة على جواز أخذ الأجرة على قراءة القرآن للطب والتداوي والرقية، ويقاس عليها تعليم القرآن، فيجوز أخذ الأجرة عليه؛ لأنّه لا فرق بين قراءته للتعليم وقراءته للطب ونحوه. قال ابن القيم: "وفيه دليل على أن أخذ الأجرة على تعليم القرآن جائز" (¬1). وقال الصنعاني (¬2): "وذكر البخاريّ لهذه القصة في هذا الباب، وإنلم تكن من الأجرة على التعليم، وإنّما فيها دلالة على جواز أخذ العوض في مقابلة قراءة القرآن لتأييد جواز أخذ الأجرة على قراءة القرآن تعليمًا أو غيره، إذ لا فرق بين قراءته للتعليم وبين قراءته للطب" (¬3). مناقشة الاستدلال: نوقش الاستدلال بالأحاديث السابقة بما يأتي: أوَّلًا: إنَّ الراد بالأجر في حديث ابن عبّاس هو الثّواب، وليس الأجر بمعنى الأجرة (¬4). ¬

_ (¬1) تهذيب سنن أبي داود لابن القيم 5/ 369. (¬2) هو: محمّد بن إسماعيل بن صلاح الكحلاني ثمّ الصنعاني المعروف بالأمير الإمام المجتهد صاحب التصانيف، ولد عام 1099 هـ بكحلان، برع في شتى العلوم، وترك مولفات كثيرة منها: سبل السّلام شرح بلوغ المراد، العدة حاشية على العمدة لابن دقيق العيد، توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار لابن الوزير وغيرها، توفي سنة 1182 هـ انظر: البدر الطالع للشوكاني 2/ 133، 134. (¬3) سبل السّلام للصنعاني 3/ 172. (¬4) عمدة القاري للعيني 12/ 96، رسائل ابن عابدين 1/ 155، فتح الباري لابن حجر 4/ 530.

اعتراض على المناقشة

اعتراض على المناقشة: اعترض على هذه المناقشة بأن سياق القصة الّتي في الحديث يأبي هذا التّأويل (¬1). ثانيًا: إنَّ هذه الأحاديث منسوخة بالأحاديث الّتي جاء فيها الوعيد على أخذ الأجرة على التعليم (¬2) وهى الّتي استدل بها أصحاب القول الثّالث، وقد تقدمت. اعتراض على المناقشة: اعترض على هذه المناقشة بما يأتي: أن هذا إثبات للنسخ بالاحتمال وهو مردود. الجواب عن الاعتراض: أجيب عن هذا الاعتراض: بأن منع النسخ بدعوى الاحتمال، مردود (¬3)، فإن هذه الأحاديث تحتمل الإباحة، والأحاديث المانعة من الاستئجار على تعليم القرآن تمنع الإباحة قطعًا، والنسخ هو الخطر بعد الإباحة؛ لأنّ الإباحة أصل في كلّ شيء، فإذا طرأ الخطر، يدلُّ على النسخ بلا شك (¬4). ثالثًا: إنَّ سياق الأحاديث السابقة يدلُّ دلالة صريحة على أن ما أخذ إنّما كان على الرقية وليس على التعليم، ولا يلزم من جواز أخذ الجعل أو الأجر على الرقية جواز أخذ ذلك على التعليم؛ لأنّ الرقية نوع مداوة، فليست عبادة محضة (¬5). ¬

_ (¬1) فتح الباري لابن حجر 4/ 530. (¬2) عمدة القاري للعيني 12/ 96، رسائل ابن عابدين 1/ 155. (¬3) فتح الباري لابن حجر 4/ 530. (¬4) عمدة القاري للعيني 12/ 96، رسائل ابن عابدين 1/ 155. (¬5) البناية شرح الهداية للعيني 9/ 341، حاشية ابن عابدين 5/ 36، المغني لابن قدامة 8/ 139، وقد بين ابن قدامة - رضي الله عنه - الفرق بين الأجرة على التعليم والأجرة على الرقية بيانًا واضحًا. قال: "فأمّا الأخذ على الرقية، فإن أحمد اختار جوازه - والفرق بينه وبين ما اختلف فيه: أن الرقية نوع مداواة، والمأخوذ عليها جعل، والمداوة يجوز أخذ الأجرة عليها، والجعالة أوسع من الإجارة، ولهذا تجوز مع جهالة العمل والمدة ... ".

اعتراض على هذه المناقشة

قال الطحاوي: "وقد كان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى في ذلك، أن الآثار الأولى في ذلك لم يكن الجعل المذكور فيها على تعليم القرآن، وإنّما كان على الرقى الّتي لم يقصد بالاستئجار عليها إلى القرآن" (¬1). اعتراض على هذه المناقشة: يمكن الاعتراض على هذه المناقشة بما ذكره الصنعاني عند ذكر وجه الاستدلال بالأحاديث السابقة، وحاصله أنّه لا فرق - من حيث أخذ الأجرة على القرآن - بين قراءته للتعليم وبين قراءته للطب (¬2). الجواب عن الاعتراض: يمكن الجواب عن هذا الاعتراض أن هناك فرقًا بين قراءة القرآن للتعليم وقراءة القرآن للطب من حيث أخذ العوض كلى ذلك، وبيان هذا الفرق: أنّه في حالة قراءته للتعليم يكون القرآن هو المقصود بالعوض، بخلاف حالة قراءته للطب، فإن المقصود هو المداوة وليس القرآن، ويؤيد هذا ما تقدّم من كلام الطحاوي السابق (¬3). الدّليل الرّابع: عن سهل بن سعد الساعدي (¬4) قال: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - فقالت: ¬

_ (¬1) شرح معاني الآثار للطحاوي 4/ 127. (¬2) سبل السّلام للصنعاني 3/ 172. (¬3) وهناك مناقشات أخرى لهذه الأحاديث وخاصة الحديث الأوّل والثاني وقد ناقش ابن الجوزي هذين الحديثين بثلاث مناقشات: الأولى: أن القوم كانوا كفارًا فجاز أخذ أموالهم. الثّانية: أن حق الضيافة واجب ولم يضيفوهم. الثّالثة: أن الرقية ليست بقربة محضة فجاز أخذ الأجر عليها. (¬4) هو الصحابى الجليل سهل بن سعد بن مالك بن خالد بن ساعدة الأنصاري الساعدي، آخر من مات من الصّحابة بالمدينة، وكانت وفاته سنة 91 هـ. انظر: الإصابة لابن حجر 2/ 88 (3533)، الاستيعاب لابن عبد البرّ 2/ 95.

وجه الاستدلال

يا رسول الله، جئت أهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، فصعد النظر فيها وصوّبه ثمّ طأطأ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - رأسه. فلما رأت المرأة أنّه لم يقض فيها شيئًا جلست، فقام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله، إنَّ لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها فقال: "فهل عندك من شيء؟ "، فقال: لا، والله يا رسول الله، فقال: "اذهب إلى أهلك، فانظر هل تجد شيئًا؟ "، فذهب ثمّ رجع، فقال: لا، والله ما وجدت شيئًا، فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (انظر ولو خاتمًا من حديد)، فذهب، ثمّ رجع فقال: لا، والله يا رسول الله، ولا خاتم من حديد، ولكن هذا إزاري - (قال سهل: ما له رداء) - فلها نصفه، فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "وما تصنع بإزارك؟ إنَّ لبستْه لم يكن عليها منه شيء، وان لَبسْتَه لم يكن عليك منه شيء"، فجلس الرَّجل حتّى إذا طال مجلسه، فرآه رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - موليًا فأمر به فدُعي فلما جاء قال - صلّى الله عليه وسلم -: "ماذا معك من القرآن"؟ قال: معي سورة كذا وسورة كذا (عددها) فقال - صلّى الله عليه وسلم -: "تقرؤهن عن ظهر قلب" قال: نعم، قال: "اذهب فقد مُلِّكتَها بما معك من القرآن" (¬1). وجه الاستدلال: حيث جعل النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - تعليم القرآن عوضًا في باب النِّكاح، وأقام التعليم مقام المهر، وإذا جاز جعل التعليم عوضًا في باب النِّكاح، وقائمًا مقام المهر، جاز أخذ الأجرة عليه في الإجارة (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ في مواضع شتى من الصحيح، واللفظ له، منها: كتاب النِّكاح، باب تزويج المعسر 9/ 34 (5087)، وباب التزويج على القرآن وبغير صداق 9/ 112 (5149) وأخرجه مسلم في النِّكاح، باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن ... 2/ 1040 (1425). (¬2) الاستذكار لابن عبد البرّ 85/ 16، شرح النووي على مسلم 9/ 214، المغني لابن قدامة 8/ 137.

مناقشة الاستدلال

مناقشة الاستدلال: نوقش الاستدلال بهذا الحديث من عدة وجوه: الوجه الأوّل: إنَّ الحديث ليس فيه تصريح بأن التعليم صداق، إنّما قال: "ملكتها بما معك من القرآن" وفي رواية "أنكحتكها بما معك من القرآن" وفي رواية "زوجتكها ... "، فيحتمل أنّه زوجها إياه بغير صداق إكرامًا له وتعظيمًا للقرآن، كما روى أنس - رضي الله عنه - أن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - زوّج أم سليم (¬1) أبا طلحة (¬2) على إسلامه (¬3)، وسكت عن المهر؛ لأنّه معلوم أنّه لا بد منه؛ لأنّ الفروج لا تستباح إِلَّا بالأموال لقوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النِّساء: 24]، ولذكره تعالى في النِّكاح الطول (¬4)، وهو المال، والقرآن ليس بمال (¬5). ¬

_ (¬1) هي: أم سليم بنت ملحان بن خالد الأنصارية، وهي أم أنس بن مالك - رضي الله عنه - خادم النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - اشتهرت بكنيتها، تزوجت مالك بن النضر فولدت أنسًا في الجاهلية، ثمّ أسلمت مع السابقين من الأنصار، مات زوجها فتزوجت بعده الصحابي الجليل أبا طلحة، وكان صداقها هو إسلام أبي طلحة، روت عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - عدة أحاديث، وروى عنها ابنها أنس وابن عبّاس وزيد بن ثابت وأبو سلمة وآخرون. الإصابة لابن حجر 4/ 441، الاستيعاب لابن عبد البرّ 4/ 437. (¬2) أبو طلحة هو: زيد بن سهل بن الأسود بن حرام أبو طلحة الأنصاري الخزرجي النجاري البدري، روى عنه من الصّحابة: ابن عبّاس وأنس وزيد بن خالد وغيرهم، وتقدم شيء من سيرته في ترجمة زوجه أم سليم، توفي سنة 51 هـ على الصحيح وقيل غير ذلك. انظر: أسدّ الغابة لابن الأثير 2/ 361، الاستيعاب لابن عبد البرّ 1/ 530. (¬3) أخرجه النسائي في الصغرى، كتاب النِّكاح، باب التزويج على الإسلام 6/ 423 (3340) والحديث صحيح، قال ابن حجر: صححه النسائي. فتح الباري 9/ 120، وقال الألباني: صحيح، صحيح سنن النسائي 2/ 703 (3132). (¬4) وذلك في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ...} الآية [النِّساء: 25]. (¬5) البناية شرح الهداية للعيني 9/ 340، الاستذكار لابن عبد البرّ 16/ 81، 82، المغني لابن قدامة 8/ 139.

الاعتراض على هذا الوجه

الاعتراض على هذا الوجه: اعترض على هذا الوجه باعتراضين: الأوّل: أن هذا مردود بما جاء في روايتي مسلم وأبي داود: أمّا رواية مسلم فقد جاء فيها قوله - صلّى الله عليه وسلم -: (انطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن) (¬1). وأمّا رواية أبي داود فقد قال - صلّى الله عليه وسلم -: (فقم فعلّمها عشرين آية وهي امرأتك) (¬2). فدلت هذه الروايات على أن النِّكاح إنّما كان على تعليم القرآن وليس إكرامًا له وتعظيمًا للقرآن (¬3). الثّاني: أن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال للرجل: (التمس ولو خاتمًا من حديد) ليكون صداقًا، فلما لم يجد جعل القرآن بدلًا منه فاقتضى أن يكون تعليم القرآن صداقًا، ولا فائدة لذكر تعليم القرآن في الصداق إِلَّا كونه مهرًا (¬4). الوجه الثّاني: أن هناك فرقًا بين المهر وبين الأجر، وبيان ذلك: أن المهر ليس بعوض محض، وإنّما وجب للمرأة نحلةً ووصلةً، ولهذا جاز خلو العقد عن تسميته، وصح مع فساده، بخلاف الأجر في غيره (¬5). الوجه الثّالث: إنَّ جعل تعليم القرآن صداقًا خاص لرسول الله - صلّى الله عليه وسلم - دون غيره (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجها مسلم في النِّكاح، باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن ... 2/ 1041 (1425). (¬2) أخرجها أبو داود في السنن، كتاب النِّكاح، باب في التزويج على العمل يعمل 2/ 236، (2112). (¬3) أضواء البيان للشيقيطي 3/ 22، نيل الأوطار للشوكاني 5/ 288. (¬4) الاستذكار لابن عبد البرّ 16/ 83، الحاوي الكبير للماوردي 12/ 18. (¬5) المغني لابن قدامة 8/ 139. (¬6) الحاوي الكبير للماوردي 12/ 18، وقد ذكر الماوردي ذلك عن مكحول، قلتُ: وقد جاء ذلك في سنن أبي داود، حيث روى بسنده أن مكحول قال: "ليس ذلك لأحد بعد رسول الله" 2/ 237 (2113).

الاعتراض على هذا الوجه

الاعتراض على هذا الوجه: اعترض على هذا باعتراضين: الأوّل: أنّه لم يكن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - هو المتزوج بها فيصير مخصوصًا بذلك، وإنّما كان مزوجًا لها فلم يكن مخصوصًا. الثّاني: أن ما خص به رسول الله يحتاج إلى دليل يدلُّ على تخصيصه وإلا كان فيه مشاركًا لأمته (¬1). الوجه الرّابع: إنَّ جعل تعليم القرآن مهرًا إنّما هو خاص بتلك المرأة وذلك الرَّجل، ولا يجوز لغيرهما (¬2)، ويدلُّ على ذلك: ما يروى عن أبي النعمان الأزدي قال: زوج رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - امرأة على سورة من القرآن ثمّ قال: (لا تكون لأحدٍ بعدك مهرًا) (¬3). الاعتراض على هذا الوجه: أن الخصوصية تحتاج إلى دليل يدلُّ عليها، وأمّا ما استدلوا به وهو حديث أبي النعمان الأزدي، فإنّه حديث لا يصح، قال ابن حجر: "وهذا مع إرساله فيه من لا يعرف" (¬4). ¬

_ (¬1) الحاوي للماوردي 12/ 18. (¬2) فتح الباري للحافظ ابن حجر 9/ 119، 120، نيل الأوطار للشوكاني 5/ 288. (¬3) أخرجه سعيد بن منصور في سننه، باب تزويج الجارية الصغيرة 1/ 206 (642)، وهذا الحديث مرسل، أرسله الأزدي، قال عنه ابن حجر: لا يعرف، وقد خالف فيه رواية الصحيحين السابقة، وهي رواية سهل بن سعد، حيث لم ترد هذه الزيادة، فدل ذلك على أنّها زيادة منكرة لتفرد هذا الطريق الواهي بها دون سائر طرق الحديث وشواهده، فتح الباري لابن حجر 9/ 120، السلسلة الضعيفة للألباني 2/ 413 (982). (¬4) فتح الباري لابن حجر 19/ 120. وانظر لمزيد التفصيل لهذا الوجه والذي قبله: المفهم لأبي العباس القرطبي 4/ 131، وفتح الباري لابن حجر 9/ 120.

ب - أدلتهم من الأثر

ب - أدلتهم من الأثر: الدّليل الأوّل: عن شعبة (¬1)، قال: سألت معاوية بن قرة (¬2) عن أجرة المعلم، فقال: أرى له أجرًا (¬3). الدّليل الثّاني: عن شعبة قال: سألت الحكم بن عتيبة (¬4) عن أجرة المعلم فقال: ما سمعت فقيهًا يكرهه (¬5). ¬

_ (¬1) هو: شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي، مولاهم، أبو بسطام الواسطي ثقة حافظ متقن، كان الثّوريّ يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث، وهو أول من فتش بالعراق عن الرجال، وذب عن السُّنَّة، أدرك الحسن وأخذ عنه مسائل، وكان من أوعية العلم رحمه الله، توفي سنة 160 هـ ـ بالاتفاق، وكا موته بالبصرة: سير أعلام النُّبَلاء 7/ 202، تقريب التهذيب لابن حجر ص 436. (¬2) هو: معاوية بن قرة بن إياس بن هلال المزني، أبو إياس البصري، ثقة عالم، وثقه النسائي وأبو حاتم وابن حجر، روى عن أبيه ومعقل بن يسار وأبي أيوب الأنصار وروى عنه ابنه إياس وشعبة وأبو عوانة وغيرهم توفي سنة 113 هـ انظر: تهذيب التهذيب لابن حجر 10/ 216، 217. (¬3) أخرجه البيهقى في الكبرى، كتاب الإجارة، باب أخذ الأجرة على تعليم القرآن 6/ 206 (11679)، وابن أبي شيبة في المصنِّف، كتاب البيوع والأقضية، باب في أجر المعلم 6/ 222. (¬4) هو: الحكم بن عتيبة، أبو محمّد الكندي مولاهم، ثقة ثبت فقيه إِلَّا أنّه ربما دلس، روى عن أبي جحيفة وزيد بن أرقم وعبد الله بن أبي أوفى وغيرهم وعنه الأعمش وأبو إسحاق السبيعي وقتادة وغيرهم، توفي سنة 13 اهـ انظر: تهذيب التهذيب لابن حجر 2/ 432، وتقريب التهذيب، ص: 263. (¬5) أورده البخاريّ في صحيحه معلقًا بصيغة الجزم، كتاب الإجارة، باب ما يعطى في الرقية على أحياء العرب 4/ 529، وأخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب الإجارة، باب أخذ الأجرة على تعليم القرآن 6/ 206 (11679).

الدليل الثالث

الدّليل الثّالث: عن خالد الحذاء (¬1) قال: سألت أبا قلابة (¬2) عن المعلم يعلّم ويأخذ أجرًا فلم ير له بأسًا (¬3). وجه الاستدلال من الآثار السابقة: حيث دلّت الآثار السابقة بظاهرها على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن وأن من نقلت عنهم من العلماء وغيرهم كانوا لا يرون بأسًا بذلك، وقد بالغ ابن رشد الجد (¬4) في ذلك، فنقل إجماع أهل المدينة على ذلك. قال: "وقد أجمع على ذلك أهل المدِينة، فهم الحجة على من سواهم ممّن خالف في ذلك" (¬5). ¬

_ (¬1) هو: خالد بن مهران الحذّاء أبو المنازل البصري، وثقه النسائى وابن معين وأحمد قال الحافظ ابن حجر: وهو ثقة يرسل، روى عن عبد الله بن شقيق وأبو عثمان النهدي وأبي رجاء العطاردي وغيرهم، وروى عنه الحمادان، والثوري وشعبة وغيرهم توفي سنة 141 هـ على الصحيح، تهذيب التهذيب لابن حجر 3/ 120، والتقريب، ص 292. (¬2) هو: عبد الله بن زيد بن عمرو أو عامر الجرمي، أبو قلابة البصري ثقة، فاضل كثير الإرسال قد وثقه العجلي، وابن سعد، روى عن سمرة بن جندب وأنس بن مالك وثابت بن الضحاك وغيرهم وروى عنه أيوب السختيانى وخالد الحذاء وعاصم الأحول، توفي سنة 104هـ على الصحيح. انظر: تهذيب التهذيب 5/ 224 - 226، والتقريب، ص: 508. (¬3) أخرجه ابن أي شيبة في المصنِّف، كتاب البيوع والأقضية، باب في أجر المعلم 6/ 220، قال البيهقي في الكبرى 6/ 206 (وروينا عن عطاء وأبي قلابة أنّهما كانا لا يريان بتعليم الغلمان بالأجر بأسًا). وقال ابن حزم في المحلى 8/ 195: (وصح عن عطاء وأي قلابة إباحة أجر المعلم على تعليم القرآن). (¬4) هو: محمّد بن أحمد بن محمّد بن رشد، أبو الوليد القرطبي الفقيه المالكي، انتهت إليه رياسة الفقه المالكي في المغرب والأندلس، له مؤلفات كثيرة في الفقه المالكي منها: المقدِّمات والبيان والتحصيل، والفتاوى وغيرها، كانت ولادته في قرطبة سنة 455 هـ، وبها توفي سنة 520 هـ انظر: الديباج المذهب لابن فرحون، ص: 278، شجرة النور الزكية لمخلوف، ص: 129. (¬5) البيان والتحصيل لابن رشد 8/ 452.

مناقشة الاستدلال

مناقشة الاستدلال: هذه الآثار على فرض صحتها لا حجة فيها؛ إذ إنها معارضة بآثار أخرى تدل على المنع وليس الأخذ بقول بعضهم أولى من الأخذ بقول البعض الآخر (¬1). ثالثًا: أدلتهم من المعقول: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ تعليم القرآن يجوز أخذ الرزق عليه من بيت المال، فجاز أخذ الأجرة عليه كبناء المساجد والقناطر (¬2). مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الدّليل بأن الرزق بيت المال، إنّما يجوز على ما يتعدى نفعة للمسلمين؛ لأنّ بيت المال معد للمصالح، فإذا كان بذَلَه لمن يتعدى نفعه إلى المسلمين، وكان المسلمون بحاجة إليه كان ذلك من المصالح، وكان للآخذ له أخذه؛ لأنّه من أهله، وجرى مجرى الوقف على من يقوم بهذه المصالح، بخلاف الأجر (¬3). الدّليل الثّاني: أنّه لما كان الجلوس لتعليم القرآن غير واجب على الرَّجل ولا لازم له جاز له أخذ الأجرة عليه، وإن كان فيه قربة، أصل ذلك الاستئجار على بناء المساجد، وما أشبه ذلك (¬4). ثالثًا: أدلة أصحاب القول الأوّل: أصحاب هذا القول هم في الأصل من القائلين بالمنع من الاستئجار على تعليم القرآن، إلّا أنّهم أجازوا ذلك للضرورة والحاجة. ¬

_ (¬1) المحلى لابن حزم 8/ 196. (¬2) المغني لابن قدامة 8/ 137، 138. (¬3) المغني لابن قدامة 8/ 139. (¬4) البيان والتحصيل لابن رشد 8/ 453.

أمّا أدلتهم على المنع فقد تقدمت عند ذكر أدلة أصحاب القول الثّالث. وأمّا ما استدلوا به على الجواز للضرورة والحاجة فهو ما يأتي: قالوا: إنَّ المتقدمين الّذي منعوا أخذ الأجرة على التعليم، إنّما بنوا رأيهم على ما شاهدوه من قلة الحفاظ لكتاب الله، ورغبة النَّاس فيهم، وكان لهم عطيات من بيت المال، تكفيهم أمر معاشهم، ولرغبة المعلمين في بذل تعليم القرآن حسبة لله تعالى، ومروءة المتعلمين في مجازة الإحسان بالإحسان، من غير شرط لأخذ الأجرة على التعليم. ولهذا كان العلماء يفتون بوجوب التعليم خوفًا من ذهاب القرآن وتحريضًا على التعليم حتّى ينهضوا لإقامة الواجب فيكثر حفاظ القرآن. وأمّا اليوم فقد ذهب ذلك كله، واشتغل الحفاظ بمعاشهم وقلّ من يعلم حسبة ولا يتفرغون له أيضًا، فإن حاجتهم تمنعهم من ذلك، فلو لم يفتح لهم باب التعليم بالأجر، لذهب القرآن، فأفتوا بجواز ذلك لذلك، ورأوه حسنًا (¬1). وقالوا: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان (¬2)، وشأن المعلم الفقير في ذلك، شأن ولي اليتيم، يأكل مع الفَقْر ويستغني مع الغِنَى (¬3)، فإن الفقير إذا علّم حسبة لله، وإنّما أخذ الأجرة لحاجته لها وليستعين بها على طاعة الله، فإنّ الله تعالى يأجره ¬

_ (¬1) تببين الحقائق للزيلعي 5/ 124، 125، العناية شرح الهداية للبابرتي 7/ 180، حاشية ابن عابدين 5/ 34، 35، رسائل ابن عابدين (رسالة نشر العرف) 2/ 123، قال ابن عابدين: (إفتاؤهم يجواز الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه لانقطاع عطايا المعلمين الّتي كانت في الصدر الأوّل، ولو اشتغل المعلمون بالتعليم بالأجرة يلزمهم ضياعهم وضياع عيالهم ولو اشتغلوا بالاكتساب من حرفة وصناعة يلزم ضياع القرآن والدين فأفتوا بأخذ الأجرة على التعليم). اهـ (¬2) شرح القواعد الفقهية للزرقاء، ص / 173. (¬3) قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} سورة النِّساء: 6.

مناقشة الاستدلال

على نيته، فيكون قد أكل طيبًا وعمل صالحًا، وذلك بخلاف الغني فإنّه لا حاجة تدعوه لذلك؛ لأنّه إذا أخذ أجرة على التعليم، يكون عمله لغير الله؛ لأنّ الاستئجار على التعليم حينئذٍ يخرجه عن كونه عبادة لله تعالى (¬1)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "المحتاج إذا اكتسب بها أمكنه أن ينوي عملها لله ويأخذ الأجرة يستعين بها على العبادة، بخلاف الغني؛ لأنّه لا يحتاج إلى الكسب فلا حاجة تدعوه أن يعملها لغير الله، بل إذا كان الله قد أغناه، وهذا فرض على الكفاية، كان هو مخاطبًا به، وإذا لم يقم إِلَّا به، كان ذلك واجبًا عليه عينًا والله أعلم" (¬2). مناقشة الاستدلال: أورد ابن الهمام الحنفي إشكالًا على هذا القول، وما عللوا به، فقال: "فيما ذهب إليه هؤلاء المشائخ إشكال وهو: أن مقتضى الدّليل الثّاني، والدّليل الثّالث المارين آنفًا (¬3) أن لا يمكن تحقيق ماهية الإجارة وهي تمليك المنافع بعوض في الاستئجار على تعليم القرآن ونظائره بناءً على عدم القدرة على تسليم ما التزمه المؤجر من المنفعة، فكيف يصح استحسان الاستئجار في هاتيك الصور وصحة استحسانه فرع إمكان تحقق ماهية الإجارة كما لا يخفى فليتأمل في دفع هذا الإشكال القوي، لعلّه ممّا تسكب فيه العبرات إِلَّا أن لا يسلم صحة ذينك الدّليلين" (¬4). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى لابن تيمية 24/ 316، 30/ 206، 207. (¬2) مجموع الفتاوى لابن تيمية 30/ 207. (¬3) وهذان الدّليلان ممّا: الدّليل الثّاني، والدّليل الرّابع من الأدلة العقلية من أدلة المانعين من أخذ الأجرة على التعليم وقد تقدّم ذكرهما والجواب عنهما، ص: 504، 505 وهما باختصار. الدّليل الأوّل: أن القربة متى حصلت وقعت عن العامل، ولهذا تعتبر أهليته ...) الدّليل الثّاني: أن تعليم القرآن ممّا لا يقدر المعلم عليه إِلَّا بمعنى من قبل المتعلم، فيكون المعلم ملتزمًا ما لا يقدر على تسليمه ... (¬4) شرح فتح القدير لابن الهمام 7/ 180، 181.

الاعتراض على هذه المناقشة

الاعتراض على هذه المناقشة: هذا الإشكال لا يخفى لا يردّ إِلَّا على الحنفية فقط على مذهبهم في عدم صحة الإجارة على التعليم، وابن الهمام إنّما أورد هذا الإشكال على أصحابه من الحنفية إذا سلموا بصحة ذينك الدّليلين؛ لأنّهم حينئذ يكونوا قد وقعوا في التناقض، وبيان ذلك: أنّهم منعوا من صحة الإجارة على تعليم القرآن لعدم تحقق ماهية الإجارة، ثمّ قالوا بالجواز استحسانًا مع بقاء المانع وهو عدم تحقق الماهية فيلزمهم حينئذ: إمّا القول بصحة الإجارة في الأصل وعدم التسليم بصحة هذين الدّليلين، أو القول بعدم صحة الإجارة على التعليم مطلقًا وإبطال مذهب المتأخرين وهو القول بصحة الإجارة على التعليم استحسانًا خشية ضياع القرآن، ويسلم لهم ما استدلوا به (¬1). الترجيح: بعد ذكر أدلة الأقوال، وما ورد عليها من مناقشات، وما أجيب به عن تلك المناقشات، يتبين رجحان القول الأوّل الّذي يقضي بجواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن للحاجة، والضرورة، ويعود سبب هذا الترجيح لما يأتي: أوَّلًا: أن هذا القول فيه جمع بين الأدلة وإعمال لها جميعًا، وإعمال الدّليلين أولى من إهمال أحدهما، وعليه فإن الجمع يكون بحمل أدلة المانعين على عدم الحاجة، وانتفاء الضّرورة المؤدية إلى أخذ الأجرة وبحمل أدلة المجيزين على حاجة المعلم وفقره؛ لأنّ عدم أخذ الأجرة في هذه الحالة يقضي إلى ضياع القرآن. ¬

_ (¬1) قد أجاب ابن الهمام على هذين الدّليلين ولم يسلم بصحتها، وقد تقدّم ذكر ذلك عند مناقشة أدلة المانعين. قلت: ويمكن توجيه هذين الدّليلين بأن نقول: إنَّ ماهية الإجارة متحققة في تعليم القرآن بدليل أن الطالب يتعلم ويحفظ القرآن، وبذلك تكون المنفعة حصلت للمتعلم والذي وقع عن العامل منها هو الثّواب، وإذا تعلم الطالب أو التلميذ، فتكون المنفعة حصلت، فينتفي القول بعدم القدرة على التسليم؛ لأنّ فعل المعلم الّذي هو التلقين والإلقاء يملك المعلم القدرة على تسليمه، وبه يحصل التعلم.

ثانيًا: أن هذا القول جاء وسطًا بين المانعين والمجيزين، فهو أعدل الأقوال؛ لأننا لو قلنا بالمنع مطلقًا لأدّى ذلك إلى إيقاع النَّاس في الحرج الشديد، ولأدّى كذلك إلى ضياع القرآن، فإن المعلم محتاج للنفقة لنفسه ولمن يعول، فلو قعد للتعليم بدون النفقة ضيع أولاده، وإن اشتغل بمعاشه ضيع القرآن، فكان القول بأخذ الأجرة على تعليم القرآن فيه مراعاة للجانبين: مرعاة جانب المعلم بإعطائه الأجرة الّتي تكفيه مؤونة العيش ومراعاة لجانب الشّرع بالمحافظة على كتاب الله العظيم الّذي حاجة النَّاس إليه أشد من حاجتهم إلى الطّعام والشراب. وإذا قلنا بالجواز مطلقًا نكون قد أهملنا جانب الاحتساب، وقد قال النّبيّ: - صلّى الله عليه وسلم - (خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه) (¬1). فإن الأصل هو تعليم القرآن حسبة لوجه الله تعالى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أمّا تعليم القرآن والعلّم بغير أجرة فهو أفضل الأعمال وأحبها إلى الله، وهذا ممّا يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، ليس هذا ممّا يخفى على أحد ممّن نشأ بديار الإسلام، والصحابة والتابعون وتابعو التابعين وغيرهم من العلماء المشهورين عند الأُمَّة بالقرآن والحديث والفقه إنّما كانوا يعلمون بغير أجرة، ولم يكن فيهم من يعلم بأجرة أصلًا" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ، كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه 8/ 691 (5027)، وفي رواية للبخاري: (إنَّ أفضلكم ...) 9/ 691 (5028). (¬2) مجموع الفتاوى لابن تيمية 30/ 204.

المطلب الثاني أخذ المال على تلاوة القرآن الكريم

المطلب الثّاني أخذ المال على تلاوة القرآن الكريم المسألة الأولى: أخذ المال على الرقية (¬1) بالقرآن الكريم الّذي يظهر من كلام العلماء، أرباب المذاهب الفقهية المعتبرة وغيرهم أنّه لا خلاف بينهم في جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن الكريم. فقد ذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والشّافعيّة (¬4)، والحنابلة (¬5) والظاهرية (¬6) وغيرهم من الأئمة (¬7) إلى جواز أخذ الأجرة على الرقية بكتاب الله الكريم. ¬

_ (¬1) الرقية في اللُّغة: العَوذة الّتي يُرقى بها صاحب الآفة، كالحمى، والصرع وغير ذلك من الآفات. النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 2/ 254. والرقية اصطلاحًا: (هي كلام يستشفى به من كلّ عارض): فتح الباري لابن حجر 4/ 530. حكم الرقية: الرقية منها الجائز ومنها الممنوع، فإذا كانت الرقية بالقرآن ونحوه فهي جائزة بالإجماع، قال الحافظ ابن حجر: "وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: الأوّل: أن تكون بكلام الله تعالى أو باسمائه وصفاته. الثّاني: أن تكون باللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره ـ الثّالث: أن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بذات الله تعالى). فتح الباري لابن حجر 10/ 206. (¬2) شرح معاني الآثار للطحاوي 4/ 127، حاشية ابن عابدين 5/ 36. (¬3) بداية المجتهد لابن رشد 2/ 224، الشرح الصغير للدردير 4/ 768. (¬4) شرح النووي على مسلم 14/ 188. (¬5) المغني لابن قدامة 8/ 139، الإنصاف للمرداوي 6/ 47. (¬6) المحلى لابن حزم 8/ 193. (¬7) معالم السنن للخطابي مع سنن أبي داود 3/ 704، شرح السُّنَّة للبغوي 8/ 268 والاختيارات الفقهية لابن تيمية: 153.

أولا: الادلة من السنة

قال الطحاوي - رحمة الله تعالى -: "لا بأس بالاستئجار على الرقى والعلّاجات كلها، وإن كنا نعلم أن المستاجر على ذلك، قد يدخل فيما يرقي به بعض القرآن؛ لأنّه ليس على النَّاس أن يرقي بعضهم بعضًا، فإذا استؤجروا فيه، على أن يعملوا ما ليس عليهم أن يعملوه، جاز ذلك" (¬1). وقال ابن رشد الحفيد: " ... وسواء كان الرقي بالقرآن أو غيره الاستئجار عليه عندنا جائز كالعلّاجات ... " (¬2). وقال النووي - رحمة الله - عند شرحه لحديث أبي سعيد الخدري في الرقية: "هذا تصريح يحواز أخذ الأجرة على الرقية بالفاتحة والذكر، وأنّها حلال لا كراهة فيها ... ، وهذا مذهب الشّافعيّ " (¬3). وقال المرداوي: "لا بأس باخذ الأجرة على الرقية، نصّ عليه، قاله الشّيخ تقي الدِّين وغيره" (¬4). وقال ابن حزم الظاهري: "والإجارة جائزة على تعليم القرآن، وعلى تعليم العلم مشاهرة وجملة كلّ ذلك جائز وعلى الرقى ... " (¬5). وقد دل على جواز الرقية بالقرآن الكريم أدلة كثيرة، وصريحة من السُّنَّة المطهرة، ومن المعقول: أوَّلًا: الأدلة من السُّنَّة: الدّليل الأوّل: حديث ابن عبّاس السابق: (إنَّ أحق ما أخذتم عليه أجرًا ¬

_ (¬1) شرح معانى الآثار للطحاوي 4/ 127. (¬2) بداية المجتهد لابن رشد 2/ 224. (¬3) شرح النووي على مسلم 14/ 188. (¬4) الإنصاف للمرداوي 6/ 47. (¬5) المحلى لابن حزم 8/ 193.

الدليل الثاني

كتاب الله) (¬1). الدّليل الثّاني: حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: (وما يدريك أنّها رقية، قد أصبتم اقسموا واضربوا لي معكم سهمًا فضحك النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -) (¬2). الدّليل الثّالث: حديث خارجة بن الصلت عن عمه: (كُلْ فلعمري، من أكل برقية باطل، لقد أكلت برقية حق) (¬3). وجه الاستدلال من النصوص السابقة: دلت هذه الأحاديث دلالة صريحة على جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن الكريم، حيث فعل ذلك الصّحابة واشترطوا العوض، وأقرهم النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، بل قاسمهم ذلك، فدل على الجواز بلا كراهة (¬4). ثانيًا: الأدلة من المعقول: الدّليل الأوّل: قالوا إنَّ الرقية نوع مداواة، والمداواة يباح أخذ الأجر عليها (¬5). الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ النَّاس لا يجب عليهم أن يرقي بعضهم بعضًا، فإذا استؤجروا فيه على أن يعملوا ما ليس عليهم أن يعملوه، جاز ذلك (¬6). ¬

_ (¬1) تقدّم تخريجه، راجع ص: 402. (¬2) تقدّم تخريجه، راجع ص: 403. (¬3) تقدّم تخريجه، راجع ص: 485. (¬4) معالم السنن للخطابي مع سنن أبي داود 3/ 704، شرح السُّنَّة للبغوي 8/ 268، نيل الأوطار للشوكاني 5/ 219. (¬5) المغني لابن قدامة 8/ 139، الفروع لابن مفلح 4/ 435. (¬6) شرح معاني الآثار للطحاوي 4/ 127.

المسألة الثانية: أخذ المال على تلاوة القرأن الكريم على الأموات

المسألة الثّانية: أخذ المال على تلاوة القرأن الكريم على الأموات الفرع الأوّل حكم وصول ثواب تلاوة القرآن للأموات تلاوة القرآن الكريم من أجل القرب إلى الله تعالى، فإذا قرأه الإنسان لنفسه، تقربًا إلى الله تعالى، فإن الله يجزيه على ذلك الثّواب الجزيل، في الآخرة، ويرى المسلم بركة ذلك في الدنيا. فإذا أراد الإنسان أن يهدي ثواب قراءته إلى أحد الأموات، فهل يصله ذلك الثّواب؟ أم أنّه لا يصل؟ وإذا ثبت أنّه يصل فهل يجوز الاستئجار على تلاوة القرآن الكريم، بغرض إيصال ثواب تلك القراءة إلى الميِّت؟ أم لا؟ من هنا يتضح أن مسألة الإجارة على تلاوة القرآن الكريم مرتبطة ارتباطا قويًا بمسالة وصول ثواب القراءة إلى الأموات، وعلى هذا فإن الأمر يستلزم بحث هذه المسألةُ أوَّلًا ثمّ يعقب ذلك بحث مسألة الاستئجار على التلاوة؛ لأنّها متفرعة عنها كما هو ظاهر، فإن الذين قالوا بعدم وصول الثّواب قالوا بعدم جواز الاستئجار، وسيأتي تفصيل ذلك في محله، وعلى هذا أقول: إذا قرأ المسلم القرآن ثمّ أهدى ثواب قراءته إلى الميِّت فهل يصل هذا الثّواب أم لا؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: القول الأوّل: أن قراءة القرآن يصل ثوابها إلى الميِّت.

وبهذا قال الحنفية (¬1)، قال المرغيناني (¬2): "الأصل في هذا الباب، أن الإنسان له أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاةً أو صومًا، أو صدقةً، أو غيرها (¬3)، عند أهل السُّنَّة والجماعة" (¬4). ويهذا القول قال بعض المالكية، وهو ما عليه المتأخرون منهم (¬5)، قال أبو الوليد ابن رشد: "وإن قرأ الرَّجل ووهب ثواب قراءته لميت، جاز ذلك وحصل للميت أجره، ووصل إليه نفعه إن شاء الله" (¬6). وبه قال بعض الشّافعيّة (¬7)، قال الإمام النووي: "وأمّا قراءة القرآن فالمشهور من مذهب الشّافعيّ أنّه لا يصل ثوابها إلى الميِّت، وقال بعض أصحابه يصل ثوابها ¬

_ (¬1) الهداية شرح البداية للمرغيناني مع شرحه فتح القدير 2/ 308، شرح فتح القدير لابن الهمام 2/ 308، حاشية الطحطاوي على الدر المختار 1/ 545، حاشية ابن عابدين 1/ 605. (¬2) هو: على بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني، أبو الحسن برهان الدِّين المرغيناني، نسبة إلى مرغينان من نواحي فرغانة، أحد أئمة الحنفية، بلغ رتبة الاجتهاد في المذهب، وله فيه مؤلفات كثيرة منها: بداية المبتدي، الهداية شرح البداية، شرح الهداية، توفي سنة 593 هـ. انظر: الجواهر المضية للقرشي 2/ 627، 628، تاج التراجم لابن قطلوبغا، ص: 148. (¬3) قال ابن الهمام: (كتلاوة القرآن والأذكار): شرح فتح القدير 2/ 308. (¬4) الهداية شرح البداية 2/ 308. (¬5) فتاوى ابن رشد الجد 3/ 1446، الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقى 1/ 423، 2/ 10، حاشية البناني على الزرقاني 2/ 106، منح الجليل لعلّيش 7/ 499، قال الدردير في الشرح الكبير 1/ 423:"لكن المتأخرون على أنّه لا بأس بقراءة القرآن وجعل ثوابه للميت، ويحصل له الأجر إن شاء الله". (¬6) فتاوى ابن رشد 3/ 1446. (¬7) شرح النووي على مسلم 1/ 90، حاشية قليوبى على شرح المحلي 3/ 175، 176، مغني المحتاج للشربيني 3/ 69، 70.

الأدلة والمناقشة

للميت" (¬1). وهذا القول هو مذهب الحنابلة، وعليه جماهير الأصحاب (¬2). قال ابن القيم: "واختلفوا في العبادة البدنية كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر، فمذهب أحمد وجمهور السلف وصولها" (¬3). وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية (¬4)، وتلميذه ابن القيم (¬5). القول الثّاني: أن القراءة لا يصل ثوابها للميت. وهذا القول هو المشهور من مذهب مالك (¬6)، والمشهور من مذهب الشّافعيّ (¬7). الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة أصحاب القول الثّاني: استدل أصحابَ هذا القول القائلين بعدم وصول ثواب التلاوة للميت بأدلة من القرآن الكريم، والسُّنَّة المطهرة والمعقول. أ - الأدلة من القرآن الكريم: الدّليل الأوّل: قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]. وجه الاستدلال: ¬

_ (¬1) شرح النووي على مسلم 1/ 90، والأذكار له، ص: 240. (¬2) المغني لابن قدامة 3/ 519 - 523، المبدع لابن مفلح 2/ 280، 281، كشاف القناع للبهوتي 2/ 147، الإنصاف للمرداوي 2/ 558. (¬3) الرُّوح لابن القيم، ص: 117. (¬4) مجموع الفتاوى لابن تيمية 24/ 300، 322، الاختيارات للبعلي، ص 92. (¬5) الرُّوح لابن القيم، ص: 117 - 143، بدائع الفوائد 4/ 100. (¬6) الفروق للقرافي 3/ 129، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 1/ 423. (¬7) شرح النووي على مسلم 1/ 90، الأذكار للنووي، ص 240، مغني المحتاج للشربيني 3/ 70، 69.

مناقشة الاستدلال

دلت الآية على أن الإنسان لا يحصل له من الأجر إِلَّا ما كسب هو لنفسه، وأمّا ثواب قراءة القرآن من غيره، فإنّه ليس من كسبه فلا يصله (¬1). قال ابن كثير (¬2): "ومن هذه الآية استنبط الشّافعيّ - رحمه الله تعالى - ومن اتبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى؛ لأنّه ليس من عملهم ولا كسبهم" (¬3). مناقشة الاستدلال: أوَّلًا: سبق مناقشة هذه الآية بعدة مناقشات ممّا يغني عن إعادتها هنا (¬4). ثانيًا: قالوا: إنَّ القرآن لم ينف انتفاع الرَّجل بسعي غيره، وإنّما نفى ملكه لغير سعيه، وبين الأمرين فرق لا يخفى، فأخبر تعالى أنّه لا يملك إِلَّا سعيه، وأمّا سعي غيره فهو ملك لساعيه، فإن شاء أن يبذله لغيره وإن شاء أن يبقيه لنفسه (¬5). ثالثًا: قالوا: إنَّ الإنسان بسعيه، وحسن عشرته، اكتسب الأصدقاء، وأولد الأولاد، ونكح الأزواج، وأسدى الخير، وتودد إلى النَّاس، فترحموا عليه، ودعوا له، وأهدوا له ثواب الطاعات، فكان ذلك أثر سعيه، بل دخول المسلم من جملة المسلمين في عقد الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كلّ من المسلمين إلى صاحبه في حياته وبعد مماته، ودعوة السلمين تحيط من ورائهم، يوضحه: أن الله ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 7/ 440. (¬2) هو الإمام الكبير: إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء القرشي، الدمشقي أبو الفداء عماد الدِّين الحافظ، المفسر، الفقيه الشّافعيّ، المؤرخ، ولد في قرية مجدل من أعمال بصرى الشّام سنة 701 ص، ثمّ انتقل إلى دمشق وأخذ العلم عن الأكابر، برع في شتى العلوم وترك مؤلفات كثيرة منها: البداية والنهاية، تفسير القرآن العظيم، جامع المسانيد وغيرها، توفي سنة 774 هـ بدمشق. انظر: الدرر الكامنة لابن حجر 1/ 373، شذرات الذهب لابن العمار 8/ 397. (¬3) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 7/ 440. (¬4) راجع مسألة أخذ المال على الصّلاة عن الغير، ص: 144. (¬5) شرح العقيدة الطحاولة لابن أبى العز، ص: 455، تحقيق: الألباني.

ب - الأدلة من السنة

تعالى جعل الإيمان سببًا لانتفاع صاحبه بدعاء إخوانه من المؤمنين وسعيهم فإذا أتى به فقد سعى في السبب الّذي يوصل إليه ذلك (¬1). رابعًا: قالوا: إنَّ الآية مخصوصة بما سلّمه أصحاب هذا القول، من جواز فعل الواجبات والصدقة والدعاء والاستغفار ووصول ثوابها إلى الميِّت، وما اختلف فيه، وهو قراءة القرآن في معنى ما اتفق عليه، فيقاس عليه (¬2). ب - الأدلة من السُّنَّة: الدّليل الأوّل: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (إذا مات الإنسان انقطع عمله، إِلَّا من ثلاثة: إِلَّا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له) (¬3). وجه الاستدلال: حيث أخبر النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في هذا الحديث، أن عمل الإنسان ينقطع بموته إِلَّا ما كان هو سببًا فيه حال حياته، وهي الأمور المذكورة في الحديث، فإنها تصله، وليس منها قراءة غيره للقرآن وإهداء ثواب ذلك له. مناقشة الاستدلال: أوَّلًا: قال ابن أبي العز (¬4): "وأمّا استدلالهم بقوله - صلّى الله عليه وسلم -: (إذا مات ...) فاستدلال ساقط؛ فإنّه لم يقل: انقطاع انتفاعه، وإنّما أخبرعن انقطاع عمله وأمّا عمل غيره ¬

_ (¬1) شرح العقيدة الطحاولة لابر أبي العز، ص: 455، تحقيق: الألباني. (¬2) المغني لابن قدامة 3/ 522. (¬3) سبق تخريجه، انظر: مسألة الصّلاة عن الغير. (¬4) هو الإمام: علي بن علي بن محمّد بن محمّد بن عز الدِّين أبي العز صالح بن أبي العز الدمشقي الصالحي الحنفي، صدر الدِّين، أبو الحسن المعروف بابن أبي العز، ولد سنة 731 هـ، ولي قضاء دمشق ثمّ قضاء مصر، من مؤلفاته: شرح العقيدة الطحاوية، حيث سار فيها على منهج أهل السُّنَّة وأكثر فيها من النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن كثير، كانت وفاته بدمشق سنة 792 هـ انظر: الدرر الكامنة لابن حجر 3/ 87، شذارات الذهب لابن العماد 8/ 557.

الدليل الثاني

فهو لعامله، فإن وهبه له وصل إليه ثواب عمل العامل، لا ثواب عمله هو، وهذا كالدين يوفّيه الإنسان عن غيره، فتبرأ ذمته، ولكن ليس له ما وفّى به الدِّين" (¬1). ثانيًا: لو سلم ما جاء في وجه الاستدلال من انقطاع عمل الإنسان إِلَّا ما ذكر في الحديث، فإن الحديث مخصوص بما سلّموه من وصول ثواب الدُّعاء والصدقة والاستغفار وما منعوه من قراءة القرآن في معنى ما سلموا به فيتخصص به الحديث أيضًا بالقياس عليه (¬2). الدّليل الثّاني: عن عبد الله بن مسعود - صلّى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) (¬3). وجه الاستدلال: أن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - جعل أجر تلاوة القرآن الكريم لفاعلها وهو القاري، فمن جعلها لغير فاعلها، فقد خالف ظاهر هذا الحديث بغير دليل شرعي (¬4). مناقشة الاستدلال: ¬

_ (¬1) شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز، ص: 456، تحقيق: الألباني. (¬2) المغنى لابن قدامة 3/ 522. (¬3) أخرجه التّرمذيّ، كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفًا من كتاب الله 5/ 161 (2910)، والدارمي، كتاب فضائل القرآن، باب فضل من قرأ القرآن 2/ 521 (3306) وأخرجه ابن الضريس في فضائل القرآن، ص: 46، والحديث صححه التّرمذيّ فقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وصححه الحاكم في مستدركه 1/ 555، والألباني في السلسلة الصحيحة 2/ 263. (¬4) فتاوى العز بن عبد السّلام، ص: 43، مكتبة القرآن، القاهرة.

جـ - الأدلة من المعقول

يمكن أن يناقش هذا الحديث بأنّه ليس فيه ما يمنع وصول ثواب قراءة القرأن للأموات إذا أهديت إليهم، بل غاية ما فيه إثبات ثواب تلاوة القرآن، وبيان قدر ما فيها من فضل للقارئ. جـ - الأدلة من المعقول: الدّليل الأوّل: إنَّ نفع تلاوة القرآن لا يتعدى صاحبه، فلا يتعداه ثوابه (¬1). مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الاستدلال بأن تعدي الثّواب ليس بفرع لتعدي النفع، ثمّ هو باطل بالصوم والدعاء والحج، وليس له أصل يعتبر به (¬2). الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ الإيثار بأسباب الثّواب مكروه، وهو الإيثار بالقرب، فكيف الإيثار بنفس الثّواب الّذي هو غاية، فإذا كره الإيثار بالوسيلة فالغاية أولى وأحرى (¬3). مناقشة الاستدلال: أوَّلًا: لا نسلم بأن الإيثار بالقرب مكروه، فإن ذلك محل خلاف بين العلماء، فمنهم من قال بالجواز، وقد يكون مستحبًا (¬4). ثانيًا: أنّه قد ثبت بالدّليل هبة القرب من الأحياء للأحياء، وهو حديث من قال لرسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: اجعل لك صلاتي كلها، وظاهره كما قال بعض العلماء: أن المراد بها، ثواب الفرائض، إذ هي الصّلاة الّتي ينصرف إليها الإطلاق في لسان الشارع، ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة 3/ 522. (¬2) المغني لابن قدامة 3/ 522، 523. (¬3) الرُّوح لابن القيم، ص: 123، الأشباه والنظائر للسيوطي، ص: 22. (¬4) الإيثار بالقرب لشيخنا الدكتور صالح الهليل، ص: 20 - 32.

الجواب عن الوجه الأخير

فأجاب عليه الصّلاة والسلام بقوله: (تكفى همك) (¬1) أو نحو هذا اللّفظ، فهذا نصّ فيما ذهبنا إليه (¬2). الجواب عن الوجه الأخير: يمكن مناقشة هذا الوجه بأن المراد بالصلاة هنا هي الصّلاة على رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - والدعاء، لا الصّلاة الشرعية، والصلاة على النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - والدعاء له نحن مأمورون به، بالنص كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب: 56] وغير ذلك من النصوص، فهذا أمر خاص بالنبي - صلّى الله عليه وسلم - ونحن مأمورون به بخلاف غيره من أمته (¬3). ثالثًا: إنَّ الإيثار بالقرب يدلُّ على قلة الرغبة فيها، والتأخر عن فعلها، فلو ساغ الإيثار بها لأفضى إلى التكاسل والتأخر بخلاف إهداء ثوابها، فإن العامل يحرص عليها لأجل ثوابها لينتفع به، أو ينفع به أخاه المسلم، فبينهما فرق ظاهر (¬4). الدّليل الثّالث: قالوا:. إنَّ الإهداء حوالة، والحوالة: إنّما تكون بحق لازم، والأعمال لا توجب الثّواب، وإنّما هو مجرد تفضل الله وإحسانه، فكيف يحيل العبد على مجرد الفضل الّذي لا يجب على الله، بل إن شاء آتاه، وإن لم يشأ لم يؤته، وهو نظير حوالة الفقير على من يرجو أن يتصدق عليه، ومثل هذا لا يصح إهداؤه وهبته (¬5). مناقشة الاستدلال: ¬

_ (¬1) أخرجه التّرمذيّ في صفة القيامة، باب رقم (23): 4/ 549 (2457)، وقال التّرمذيّ: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه الإمام أحمد في المسند 5/ 180 (21234)، وأورده ابن كثير في التفسير، سورة الأحزاب، آية (56) 6/ 456، كلهم من حديث أبي كعب - صلّى الله عليه وسلم -. (¬2) إفادة الطلاب للأهدل، ص: 12، 13. (¬3) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 6/ 447 - 447، تحفة الأحوذي للمباركفوري 7/ 157، 158. (¬4) الرُّوح لابن القيم، ص: 130. (¬5) الرُّوح لابن القيم، ص: 23.

ثانيا: أدلة أصحاب القول الأول

إنَّ الحوالة الّتي ذكرتم، إنّما هي حوالة المخلوق على المخلوق، وأمّا حوالة المخلوق على الخالق فأمرآخر، لا يصح قياسها على حوالة العبيد بعضهم على بعض، فإن هذا من أبطل القياس؛ لأنّ الأُمَّة أجمعت على انتفاعه بأداء دينه وما عليه من الحقوق، وإبراء المستحق لذمته، والصدقة والحج عنه بالنص الّذي لا سبيل إلى رده ودفعه، وكذلك الصوم، فهذه الأقيسة الفاسدة لا تعارض نصوص الشّرع وقواعده (¬1). ثانيًا: أدلة أصحاب القول الأوّل: استدل أصحاب هذا القول بأدلة من القرآن الكريم والسُّنَّة والأثر والمعقول: أ - أدلتهم من القرآن الكريم: الدّليل الأوّل: قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]. وجه الاستدلال: حيث دلّت هذه الآية الكريمة على أن الدُّعاء والاستغفار يصل إلى الأموات، والاستغفار من العبادات البدنية، فدل ذلك على وصول ثواب العبادات البدنية، ومنها ثواب قراءة القرآن (¬2). الدّليل الثّاني: ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص: 129. (¬2) استدل بهذه الآية والتي يليها الإمام ابن قدامة على وصول ثواب العبادات البدنية إلى الأموات ومنها تلاوة القرآن. (المغني لابن قدامة 3/ 519).

وجه الاستدلال

قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمّد: 19]. وجه الاستدلال: يمكن توجيه الاستدلال بهذه الآية الكريمة: بأنّها دلت على وصول ثواب الدُّعاء للمؤمنين والمؤمنات، والدعاء من العبادات البدنية، فدل ذلك على وصول ثواب العبادات البدنية للأموات، ومنها ثواب قراءة القرآن (¬1). ب - أدلتهم من السُّنَّة: الدّليل الَأول: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن حفصة بكت على عمر، فقال: مهلًا يا بنية ألم تعلمي أن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: (إنَّ الميِّت يعذب ببكاء أهله عليه) (¬2). وجه الاستدلال: أن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أخبر أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يعذب الميِّت ببكاء أهله عليه، والله تعالى أكرم من أن يوصل عقوبة المعصية إليه، ويحجب عنه المثوبة (¬3). مناقشة الاستدلال: أوَّلًا: إنَّ هذا الحديث محمول على من وصّى بأن يُبكى عليه ويناح عليه بعد موته فنفذت وصيته، فهذا يعذب ببكاء أهله عليه ونوحهم؛ لأنّه بسببه ومنسوب ¬

_ (¬1) وصول ثواب الدُّعاء والاستغفار للأموات أمر مجمع عليه، ويقاس عليها قراءة القرآن: شرح النووي على مسلم 1/ 90. (¬2) أخرجه البخاريّ، كتاب الجنائز، باب يعذب الميِّت ببعض بكاء أهله عليه 3/ 180 (1286 - 1290) وباب البكاء عند المريض 3/ 209 (1304)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب الميِّت يعذب ببكاء أهله عليه 2/ 638 (927) (¬3) المغني لابن قدامة 3/ 522.

إليه، فأمَّا من بكى عليه أهله وناحوا من غير وصية منه فلا يعذب لقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، وكان من عادة العرب الوصيَّة بذلك، فخرج الحديث مطلقا حملًا على ما كان معتادًا لهم (¬1). ثانيًا: قالوا: إنَّ هذا الحديث أنكرته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عندما سمعته، ونسبت راوية إلى النِّسيان والغلط، وبينت أن هذا في حق غير المسلمين، فقد روت عمرة بنت عبد الرّحمن، أنّها سمعت عائشة وذكر لها أن عبد الله ابن عمر رضي الله عنه يقول: إنَّ الميِّت ليعذب ببكاء الحي، فقالت عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرّحمن، أمّا إنّه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ، إنّما مرّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - على يهودية يبكى عليها، فقال: (إنهم ليبكون عليها، وأنّها لتعذب في قبرها) (¬2). وفي رواية قالت: يرحم الله عمر، لا والله ما حدّث رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله يعذب المؤمّن ببكاء أحدٍ"، ولكن قال: "إنَّ الله يزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه"، قال: وقالت عائشة: حسبكم القرآن {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ". ثالثًا: قالوا: إنَّ هذا الحديث محمول على من لم يوص بترك البكاء والنياحة، فأمّا من وصى بتركهما فلا يعذب بهما إذ لا صنع له فيهما ولا تفريط منه (¬3). رابعًا: قالوا: إنّه محمول على من كانوا يندبون الميِّت وينوحون عليه، وذلك بتعديد شمائله ومحاسنه في زعمهم، وهي في الحقيقة قبائح محرّمة في الشّرع يعذب الله عليها، ومن ذلك أنّهم كانوا يقولون: يا مؤيد النسوان ومؤتم الولدان، ومخرب العمران، ومغرق الأخدان، ونحو ذلك ممّا يرونه شجاعةً وفخرًا وهو محرم شرعًا (¬4). ¬

_ (¬1) شرح النووي على مسلم 6/ 238، 239. (¬2) أخرجه مسلم، كلتاب الجنائز، باب الميِّت يعذب ببكاء أهله عليه 2/ 643 (932). (¬3) شرح النووي على مسلم 6/ 229. (¬4) المرجع السابق.

الدليل الثاني

خامسًا: قال بعض العلماء: إنَّ الحديث معناه: أن الميِّت يعذب بسماعه بكاء أهله ويرق لهم (¬1). الدّليل الثّاني: عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - كلما كان ليلتها من رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يخرج من آخر اللّيل إلى البقيع، فيقول: (السّلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدًا مؤجلون، وإنا إنَّ شاء الله بكم لاحقون، اللَّهُمَّ اغفر لأهل البقيع الغرقد) (¬2). الدّليل الثّالث: عن عائشة رضي الله عنها أن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - علّمها إذا أتت المقابر أن تقول: (السّلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) (¬3). الدّليل الرّابع: ما روته أم المؤمنين أم سلمة، أن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - دعا لأبي سلمة حين مات فقال: (اللهمّ اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا ربّ العالمين، أفسح له في قبره ونور له في) (¬4). وجه الاستدلال من النصوص السابقة: أن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - دعا واستغفر لهؤلاء الأموات والدعاء والاستغفار من العبادات البدنية، فدل ذلك على وصولها للأموات وانتفاعهم بها، فكذلك ما سواها ومن ¬

_ (¬1) شرح النووي على مسلم 6/ 229. (¬2) أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور 2/ 669 (974). (¬3) أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور 2/ 669 (974). (¬4) أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب في إغماض الميِّت والدعاء له 2/ 634 (920).

الدليل الخامس

ذلك تلاوة القرآن ووإهداء ثوابها للميت (¬1). الدّليل الخامس: عن معقل بن يسار، قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (اقرأوا (يس) على موتاكم) (¬2). وجه الاستدلال: حيث أمر النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بقراءة سورة (يس) على الموتى، فدل ذلك على وصول ثواب قراءتها لهم، والا لما كان للأمر بقراءتها معنى. مناقشة الاستدلال: أوَّلًا: أن المراد بالحديث هو قراءتها على المريض عند الاحتضار، لا قراءتها بعد الموت (¬3)، فهي نظير قوله - صلّى الله عليه وسلم -: (لقّنوا موتاكم لا إله إلّا الله) (¬4). ثانيًا: أن هذا الحديث ضعيف، ضعّفه غير واحد من أهل العلم، فلا يجوز الاحتجاج به (¬5). ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة 3/ 521. (¬2) أخرجه أبو داود، كتاب الجنائز، باب القراءة عند الميِّت 3/ 191 (3121) والنسائي في الكبرى، كتاب عمل اليوم واللّيلة، باب ما يقرأ على الميِّت 6/ 265 (10913)، (10914)، وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند المريض إذا حضر 1/ 466 (1448)، وأحمد في مسنده 5/ 35 (20246)، (20247)، والطبراني في الكبير 20/ 510، والبيهقي في الكبرى 3/ 538 (6600)، وابن شيبة في المصنِّف، كتاب الجنائز، باب: ما يقال عند المريض إذا حضر 3/ 237، والبغوي في شرح السُّنَّة 5/ 295 (1464). والحديث صححه ابن حبّان 7/ 269 (3002)، والحاكم 1/ 565، وقد ضعّف الحديث الدَّارقطني، وابن حجر كما في تلخيص الحبير 2/ 104، وضعفه الألباني في الإرواء 3/ 150. (¬3) صحيح ابن حبّان 7/ 371، الرُّوح لابن القيم، ص: 11، تفسير المنار لمحمد رشيد رضا 8/ 266. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه في الجنائز، باب تلقين الموتى لا إله إلّا الله 2/ 631 (916)، والنسائي في الصغرى، كتاب الجنائز، باب تلقين الميِّت 2/ 303 (1825)، وأبو داود في الجنائز، باب في التلقين 3/ 190 (3117)، والترمذي في الجنائز، باب ما جاء في تلقين المريض عند الموت 3/ 306 (976). (¬5) تلخيص الحبير لابن حجر 2/ 104، إرواء الغليل للألباني 3/ 150.

جـ- أدلتهم من الأثر

وقد استدلوا كذلك بما تقدّم من أحاديث تدل على جواز النيابة عن اليت في الصوم والحج ووجه الاستدلال منها: أن الحجِّ والصوم من العبادات البدنية، وقد أوصل الله نفعها إلى الميِّت فكذلك تلاوة القرآن الكويم يصل ثوابها للميت لكونها من العبادات البدنية (¬1). قال ابن قدامة بعد ذكر تلك الأحاديث: "وهذه أحاديث صحاح، وفيها دلالة على انتفاع الميِّت بسائر القرب؛ لأنّ الصوم والحج والدعاء والاستغفار عبادات بدنية، وقد أوصل الله نفعها إلى الميِّت، فكذلك ما سواها" (¬2). جـ- أدلتهم من الأثر: الدّليل الأوّل: عن الشّعبيّ، قال: كانت الأنصار، يقرأون عند الميِّت بسورة البقرة (¬3). مناقشة الاستدلال: أوَّلًا: أن الأثر إنّما هو في القراءة عند الاحتضار. ثانيًا: أن هذا الأثر ضعيف الإسناد، في سنده مجالد بن سعيد (¬4) وهو ضعيف (¬5). ¬

_ (¬1) تلخيص الحبير لابن حجر 2/ 104، إرواء الغليل للألباني 3/ 150. (¬2) المغني لابن قدامة 3/ 521. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنِّف، كلتاب الجنائز، باب ما يقال عند المريض إذا حضر 3/ 236، والأثر ضعفه الألباني كما في أحكام الجنائز، ص: 244. (¬4) هو: مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني، أبو عمرو الكوفي، روى عن الشّعبيّ وقيس بن حازم ومحمد بن بشر الهمداني وغيرهم، وروى عنه ابنه إسماعيل، وإسماعيل ابن أبي خالد وشعبة والسفيانان وابن المبارك وغيرهم، ضعفه غير واحد من العلماء، منهم: النسائي والدارقطني وابن حجر، توفي سنة 144 هـ على الصحيح. انظر: ميزان الاعتدال 3/ 438، تهذيب التهذيب لابن حجر 10/ 39. (¬5) تقريب التهذيب، ص: 920، أحكام الجنائز للألباني، ص 244.

الدليل الثاني

الدّليل الثّاني: ما ذكره ابن القيم عن الخلال أنّه قال: "وأخبرني الحسن بن أحمد الورَّاق (¬1) ثنا علي بن موسى الحداد (¬2) - وكان صدوقًا- قال: كنت مع أحمد ابن حنبل، ومحمد ابن قدامة الجوهري (¬3) في جنازة، فلما دفن الميِّت جلس رجل ضرير يقرأ عند القبر، فقال له أحمد: يا هذا، إنَّ القراءة عند القبر بدعة فلما خرجنا من المقابر، قال محمّد بن قدامة لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله ما تقول في مبشر الحلبي (¬4)، قال: ثقة، قال: كتبت عنه شيئًا؟ قال: نعم، قال: فأخبَرَني مبشر عن عبد الرّحمن ابن العلّاء ابن اللجلاج (¬5)، عن أبيه أنّه أوصى إذا دفن أن يُقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها، وقال: سمعت ابن عمر يوصي بذلك، فقال له أحمد: فارجع وقل للرجل يقرأ" (¬6). ¬

_ (¬1) لم أجد له ترجمة. (¬2) لم أجد له ترجمة، وقال الألباني عن هذا الراوي والذي قبله: "شيخ الخلال الحسن بن أحمد الورَّاق، لم أجد له ترجمة فيما عندي الآن من كتب الرجال، وكذلك شيخه علي بن موسى الحداد لم أعرفه". أحكام الجنائز، ص 243. (¬3) هو: محمّد بن قدامة البغدادي، أبو جعفر الجوهري اللؤلؤي، من شيوخ بغداد، وثقه الدَّارقطني، وضعفه أبو داود، وابن معين، روى عن سفيان بن عبينة، وابن علية ووكيع وغيرهم، وروى عنه محمّد بن هارون الفلاس، وابن أبي الدنيا، توفي سنة 237 هـ. انظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 8/ 66، ميزان الاعتدال للذهبي 4/ 15. (¬4) هو مبشر بن إسماعيل، الحلبي، أبو إسماعيل، مولى بني كلب، روى عن جعفر بن برقان وتمام بن نجيح، والأوزاعي، وروى عنه أحمد بن حنبل، ودحيم والحسن بن الصباح البزاز وغيرهم، قال ابن سعد: ثقة مأمون، توفي سنة 200 هـ. انظر: التاريخ الكبير للبخاري 8/ 11، سير أعلام النُّبَلاء9/ 301. (¬5) هو: عبد الرّحمن بن العلّاء اللجلاج الغطفاني، روى عن أبيه، وعنه مبشر بن إسماعيل، وذكره ابن حبّان في الثقات، روى له التّرمذيّ حديثًا واحدًا. انظر: ميزان الاعتدال للذهبي 2/ 579، تهذيب التهذيب لابن حجر 6/ 247. (¬6) الرُّوح لابن القيم، ص: 10.

مناقشة الاستدلال

مناقشة الاستدلال: وقد أجيب عن هذه القصة من وجوه: الوجه الأوّل: أن هذه القصة لا تصح عن الإمام أحمد، ولا عن ابن عمر رضي الله عنه (¬1). الوجه الثّاني: على فرض صحة هذا الأثر عن ابن عمر، فإنّه موقوف عليه لم يرفعه إلى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، فلا حجة فيه أصلًا (¬2). د - أدلتهم من المعقول: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ تلاوة القرآن وإهداء ثوابها للميت هو الّذي عليه عمل المسلمين في كلّ عصر وفي كلّ مصر من غير نكير، قال ابن قدامة: " ... وإنه إجماع المسلمين، فإنهم في كلّ عصر ومصر يجتمعون، ويقرأون القرآن ويهدون ثوابه إلى موتاهم من غير نكير" (¬3). مناقشة الاستدلال: ناقش محمّد رشيد رضا (¬4) هذا الدّليل فقال: "سلك المصنِّف - عفا الله عنه- هنا مسلك أهل الجدل، فأمّا دعواه الإجماع فهي باطلة قطعًا، لم يعبأ بها أحد حتّى إنَّ ¬

_ (¬1) أحكام الجنائز للألباني، ص: 243. (¬2) المرجع السابق. (¬3) المغني لابن قدامة 3/ 522. (¬4) هو: محمّد بن رشيد بن علي رضا بن محمّد القلموني، البغدادي الأصل، ولد في القلمون من أعمال طرابلس الشّام سنة 1282 هـ، رحل إلى مصر ولازم الشّيخ محمّد عبده وتتلمذ عليه، وأنشأ مجلة المنار لنشر آرائه في الإصلاح الديني والاجتماعي، رحل إلى الحجاز والهند وسوريا وأوروبا ثمّ عاد لمصر، له مؤلفات كثيرة منها: تفسير المنار، الوحي المحمدي، توفي سنة 1354 هـ. انظر: الأعلام للزركلي 6/ 126.

الدليل الثاني

المحقق ابن القيم الّذي جاراه في أصل المسألة لم يدّعها بل صرّح بما هو نصّ في بطلأنّها، وهو أنّه لم يصح عن السلف شيء فيها، واعتذر عنه بأنّهم كانوا يخفون أعمال البرّ، وانتقدنا ذلك في تفسيرنا بأنّه لو كان معروفًا لكان عن اعتقاد مشروعيته، وحينئذ يبلغونه ولا يكتمونه، بل لتوفرت الدواعي عنهم بالتواتر؛ لأنّه من رغائب جميع النَّاس" (¬1). الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ الله تعالى الموصل لثواب ما سلمتموه من الدُّعاء والصدقة والواجبات، قادر على إيصال ما منعتموه وهو ثواب تلاوة القرآن الكريم (¬2). مناقشة الدّليل: نوقش هذا الدّليل بأن من منع وصول ثواب القرآن الكريم إلى الأموات لم يمنع ذلك من جهة كون قدرة الله تعالى لا تتعلّق به، وإنّما منعوه من جهة عدم قيام الأدلة على ذلك (¬3). الدّليل الثّالث: قالوا: إنَّ تلاوة القرآن عمل بر وطاعة، فيصل نفعه وثوابه للأموات قياسًا على الصَّدقة والصيام والحج الواجب (¬4). الدّليل الرّابع: قالوا: إنَّ العبادة ثلاثة أقسام: بدنية، ومالية، ومركبة منهما، فنبه الشارع بوصول الصوم على وصول سائر العبادات البدنية، ونبه بوصول الصَّدقة على ¬

_ (¬1) تعليق محمّد رشيد رضا على المغني لابن قدامة 2/ 429، تفسير المنار 8/ 256. (¬2) المغني لابن قدامة 3/ 522. (¬3) تعليق محمّد رشيد رضا على المغنى 2/ 429. (¬4) شرح النووي على مسلم 1/ 90، المغني لابن قدامة 3/ 521.

الدليل الخامس

وصول سائر العبادات المالية، ونبه بوصول الحجِّ المركب من المالية والبدنية على وصول ما كان كذلك، فالأنواع الثّلاثة ثابتة بالنص والاعتبار (¬1). الدّليل الخامس: قالوا: إنَّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قد نبّه بوصول ثواب الصوم الّذي هو مجرد ترك ونية تقوم بالقلب، لا يطلع عليه إِلَّا الله تعالى، وليس بعمل الجوارح، على وصول ثواب القراءة الّتي هي عمل باللسان، تسمعه الأذن وتراه العين بطريق الأولى (¬2). الترجيح: بعد ذكر الأقوال وعرض الأدلة لكل قول، وذكر ما ورد عليها من مناقشات، فإن الّذي يظهر رجحانه من هذه الأقوال هو القول الأوّل القاضي بوصول ثواب تلاوة القرآن الكريم إلى الميِّت، وذلك لما يأتي: أوَّلًا: قوة ما استدل به أصحاب هذا القول، حيث سلم معظمها من المناقشة. ثانيًا: ضعف أدلة أصحاب القول الآخر، حيث أمكن مناقشتها جميعًا ممّا يضعف الاحتجاج بها. ثالثًا: أن القول بوصول ثواب التلاوة هو الّذي يتفق مع أصول الشّرع وقواعده العامة، فإن الشّرع قد دل على وصول كثير من العبادات البدنية المحضة، كالصوم والحج والدعاء، وغير ذلك، وهذا فيه تنبيه على وصول غيرها من العبادات كتلاوة القرآن، فإن التلاوة عبادة بدنية، والشريعة لا تفرق بين المتماثلات (¬3). وقد اختار هذا القول الشّيخ العلّامة محمّد بن صالح العثيمين رحمه الله حيث سئل عن حكم تلاوة القرآن وإهداء ثوابه للميت، فقال: "التلاوة لروح الميِّت يعني: ¬

_ (¬1) الرُّوح لابن القيم، ص: 122. (¬2) المرجع السابق. (¬3) إعلام الموقعين لابن القيم 1/ 195، 196، 2/ 152 - 156.

أن يقرأ القرآن وهو يريد أن يكون ثوابه لميت من المسلمين، هذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم على قولين: القول الأوّل: أن ذلك غير مشروع وأن الميِّت لا ينتفع به، أي: لا ينتفع بالقرآن في هذه الحالة. القول الثاني: أنّه ينتفع بذلك، وأنّه يجوز للإنسان أن يقرأ القرآن بنية أنّه لفلان أو فلانة من المسلمين سواء كان قريبًا أو غير قريب. والراجحِ: القول الثّاني؛ لأنّه ورد في جنس العبادات جواز صرفها للميت، كما في حديث سعد بن عبادة حين تصدق ببستانه لأمه، وكما في قصة الرَّجل الّذي قال للنبي - صلّى الله عليه وسلم -: إنَّ أمي افتتلت نفسها وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفاتصدق عنها؟ قال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "نعم" (¬1). وهذه قضايا أعيان تدل على أن صرف جنس العبادات لأحد من المسلمين جائز وهو كذلك ... ". (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ، كتاب الجنائز، باب موت الفجاءة 3/ 299 (1388)، وفي الوصايا، باب ما يستحب لمن توفي فجاءة أن يتصدقوا عنه وقضاء النذور عن الميِّت 5/ 457 (2760) وقد سبق ذكر باقي روايات الحديث. راجع ص: 158 وما بعدها من هذا البحث. تنبيه: لقد ذكر فضيلة الشّيخ في معرض استدلاله حديث سعد وقصة الرَّجل على أنّهما حديثان مختلفان، والصّحيح أنّهما روايتان لحديث واحد، والرجل المبهم هنا هو نفسه سعد بن عبادة والقصة واحدة، وقد نبّه على هذا الحافظ ابن حجر، كما في فتح الباري 3/ 300، 299، 5/ 457. (¬2) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين، جمع فهد السلمان 2/ 114، 115، دار الوطن، 1411 هـ، وفتاوى المنار لفضيلة الشخ ابن عثيمين، جمع د. عبد الله الطيار 1/ 274، 275، دار الوطن، 1415 هـ.

الفرع الثاني حكم الاستئجار على تلاوة القرآن الكريم

الفرع الثّاني حكم الاستئجار على تلاوة القرآن الكريم تقدّم في المسألةُ السابقة أن وصول الثّواب للأموات أمر مختلف فيه، فالذين منعوا وصول الثّواب هناك منعوا جواز الاستئجار هنا، وأمّا الذين قالوا بوصول الثّواب وهم الجمهور، فالذي نلحظه هنا أنّهم لم يقولوا بجواز الاستئجار على التلاوة، ويرجع ذلك إلى أن مدرك هذه المسألةُ عندهم ليس هو فقط مجرد وصول الثّواب من عدمه، وإنّما لهم مدارك أخرى في المنع من الاستئجار، على ما سيأتي بيانه في ثنايا بحث المسألة. وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله تعالى في حكم الاستئجار على تلاوة القرآن الكريم على قولين: القول الأوّل: لا يجوز الاستئجار على تلاوة القرآن الكريم. وبهذا قال جمهور الفقهاء، فقد قال بذلك الحنفية (¬1)، وهو المشهور عند المالكية (¬2) والمشهور عند الشّافعيّة (¬3)، وهو مذهب الحنابلة (¬4)، وهو الّذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (¬5). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين 2/ 236، 5/ 34، 35، رسائل ابن عابدين 1/ 167 وما بعدها. (¬2) الفروق للقرافي 3/ 192، حاشية الدسوقي 1/ 423، قلت: نصّ المالكية على أن جواز الإجارة مبنى على وصول ثواب التلاوة، والمشهور من المذهب عدم وصول ثواب التلاوة كما تقدّم، وعليه فالمنع من الإجارة على التلاوة هو المشهور. حاشية البناني على الزرقاني 7/ 24، منح الجليل لعلّيش 7/ 499. (¬3) شرح النووي على مسلم 1/ 90، 7/ 90، مغني المحتاج للشربيني 3/ 69، 70. (¬4) الفروع لا بن مفلح 2/ 313، الإنصاف للمرداوي 6/ 46. (¬5) مجموع الفتاوى 24/ 300، 315، الاختيارات للبعلي، ص: 152. قال شيخ الإسلام: "استئجار النَّاس ليقرأوا ويهدوه إلى الميِّت ليس بمشروع، ولا استحبه أحد من العلماء". مجموع الفتاوى 24/ 300.

القول الثّاني: يجوز الاستئجار على تلاوة القرآن الكريم. وهذا قول المتأخرين من المالكية (¬1) وهو المختار عند متأخري الشّافعيّة (¬2)، قال الدسوقي: "ذكر ابن فرحون (¬3) أن جواز الإجارة على قراءة القرآن مبني على وصول ثواب القرآن لمن قرئ لأجله كالميِّت، ثمّ استدل على أن الراجح وصول ذلك له" (¬4). وقال النووي: "ظاهر كلام القاضي حسين (¬5) صحة الإجارة مطلقًا، وهو المختار، فإن موضع القراءة موضع بركة وبه تنزل الرّحمة، وهذا مقصود ينفع الميِّت" (¬6). ¬

_ (¬1) حاشية البناني على الزرقاني 7/ 24، حاشية الدسوقي 4/ 22، المعيار المعرب للونشريسي 8/ 260، منح الجليل لعلّيش 7/ 499، جواهر الإكليل للآبي 2/ 189. (¬2) روضة الطالبين للنووي 5/ 191، أسنى المطالب للأنصاري 2/ 412، مغني المحتاج للشربيني 3/ 69. (¬3) هو إبراهيم بن علي بن محمّد بن فرحون اليعمري المدني أبو إسحاق برهان الدِّين الفقيه المالكي القاضي، أصله من المغرب، وولد في المدينة المنورة سنة 729 هـ، تولى القضاء بالمدينة، له مؤلفات كثيرة منها: تسهيل المهمات في شرح جامع الأمهات لابن الحاجب، وتبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام وغيرها، توفي بالمدينة سنة 799 هـ انظر: نيل الابتهاج للتنبكتي ص: 30، شجرة النور الزكية لمخلوف، ص: 222. (¬4) حاشية الدسوقي 4/ 22. (¬5) هو: الحسين بن محمّد بن أحمد، أبو على، المروذي المسمى بـ: القاضي حسين، من أكبر تلامذة القفال، وأحد أئمة الشّافعيّة الكبار، فقيه خراسان، له مؤلفات جليلة، منها: التعليق الكبير، المشهور في المذهب، والفتاوى وغير ذلك، توفي سنة 462 هـ انظر: طبقات الشّافعيّة الكبرى للسبكي 4/ 356 - 365، طبقات الشّافعيّة للإسنوي 1/ 407. (¬6) روضة الطالبين للنووي 5/ 191.

تنبيه: الّذي يظهر أن من قال بهذا القول قد بنى صحة الاستئجار على حصول المنفعة للميت بالقراءة، لا بسبب وصول الثّواب له. أمّا عند متأخري الشّافعيّة فالأمر ظاهر فيما قاله النووي سابقًا، وأمّا عند المالكية فقد قال القرافي: "والذي يتجه أن يقال، ولا يقع فيه خلاف: أنّه يحصل لهم بركة القرآن لا ثوابها" (¬1). ومما يؤيد ما سبق أن الشّافعيّة قد حصروا الحالات الّتي يصح فيها الاستئجار على التلاوة، وهي أربع حالات، أمّا مطلق القراءة أو القراءة المجردة، فإن ثوابها لا يصل للميت عندهم، ولا يصح الاستئجار عليها. والحالات الأربع الّتي نصّ الشّافعيّة عليها هي: الأولى: إذا كانت القراءة للميت عند قبره. الثّانية: إذا أعقب القراءة بالدعاء للميت، أو نوى ثوابها له. الثّالثة: إذا كانت القراءة بوجود المستأجر. الرّابعة: إذا كانت القراءة مع ذكر المستأجر في القلب حالة القراءة (¬2). وتوجيه هذه الحالات الأربع يأتي بيانه عند ذكر الأدلة لهذا القول إن شاء الله تعالى. قال الإمام النووي رحمه الله: "ومعلوم أن الميِّت لا يلحقه ثواب القراءة المجردة، فالوجه تنزيل الاستئجار على سورة انتفاع الميِّت بالقراءة، وذكروا له طريقتين: أحدهما: أن يعقب القراءة بالدعاء للميت ... ¬

_ (¬1) الفروق للقرافي 3/ 193. (¬2) أسنى المطالب للأنصاري 4/ 412، نهاية المحتاج للرملي 5/ 293، حاشية قليوبي 6/ 158، إعانة الطالبين للبكري 3/ 112.

الأدلة والمناقشة

الثّاني: وإن قرأ ثمّ جعل ما حصل من الأجر له، فهذا دعاء بحصول ذلك الأجر للميت، فينفع الميِّت" (¬1). الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة أصحاب القول الثّاني: استدل من قال يحواز الاستئجار على تلاوة القرآن وهم أصحاب القول الثّاني، بأدلة من السُّنَّة والمعقول. أ - الأدلة من السُّنَّة: الدّليل الأوّل: عن ابن عبّاس - رضي الله عنهما -، عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: (إنَّ أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله) (¬2). الدّليل الثّاني: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (وما يدريك أنّها رقية) ثمّ قال: (قد أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم سهمًا) (¬3). الدّليل الثّالث: حديث خارجة بن الصلت عن عمه، قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (كُلْ فلعمري من أكل برقية باطلٍ، لقد أكلت برقيةٍ حقٍ) (¬4). ¬

_ (¬1) روضة الطالبين للنووي 5/ 191. فالذي يفهم من كلام النووي أن صحة الاستئجار مبنية على حصول النفع للميت، ثمّ ذكر حالتين فقط لذلك. (¬2) تقدّم تخريجه في مسألة أخذ الأجرة على تعليم القرآن، ص: 402. (¬3) تقدّم تخريجه في المسألة السابقة، ص: 403. (¬4) تقدّم تخريجه في المسألة السابقة، ص: 485.

وجه الاستدلال بالأحاديث السابقة

وجه الاستدلال بالأحاديث السابقة: حيث دلت هذه الأحاديث على أن تلاوة القرآن الكريم إذا قصد بها القاري نفع الملدوغ أو المعتوه، نفعته بإذن الله تعالى، وقد أقر ذلك النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - فإذا كانت تلاوة القرآن تنفع الحي بالقصد، فإن انتفاع الميِّت بها أولى، وعلى هذا فإنّه يجوز الاستئجار عليها (¬1). مناقشة الاستدلال: نوقش الاستدلال بالأحاديث السابقة بأن أخذ الأجرة فيها إنّما كان على الرقية، والرقية إنّما المقصود منها التّداوي، وعليه فإن التلاوة في هذه النصوص لم تفعل للقربة وإهداء الثّواب، بل للتداوي، وعليه فلا حجة في هذه الأحاديث على جواز الاستئجار على التلاوة، ومن ادّعى الجواز مطلقًا فعليه البيان (¬2). ب - الأدلة العقلية: الدّليل الأوّل: قالوا: يصح الاستئجار على تلاوة القرآن الكريم قياسًا على صحته في الأذان وتعليم القرآن (¬3). مناقشة الاستدلال: نوقش الاستدلال بهذا الدّليل من وجهين: الأوّل: أن الإجارة على التعليم إنّما دعت إليها الضّرورة والحاجة، وهي خشية ضياع القرآن بخلاف القراءة للأموات فلا ضرورة تدعو إليها (¬4). ¬

_ (¬1) مغني المحتاج للشربيني 3/ 70، إعانة الطالبين للبكري 3/ 113، سبل السّلام للصنعاني 3/ 172. (¬2) البناية شرح الهداية للعيني 9/ 341، مجموعة رسائل ابن عابدين 1/ 157، 181. (¬3) أسنى المطالب، لزكريا الأنصاري 2/ 412. (¬4) حاشية ابن عابدين 2/ 236.

الدليل الثاني

الثّاني: أن هذا قياس لا يصح؛ لأنّ حكم الأصل المقيس عليه، مختلف فيه، ومن شروط صحة القياس أن يكون حكم الأصل متفق عليه بين الخصمين، كما تقدّم بيان ذلك (¬1). الدّليل الثّاني: وهذا الدّليل عبارة عن توجيه للحالات الأربع الّتي ذكرها الشّافعيّة آنفًا وتعليل لصحة الاستئجار على القراءة للميت، قالوا: إنَّ موضع قراءة القرآن بركة وبه تنزل الرّحمة، فإذا قرأ عند القبر حصل النفع للميت في قبره، فإذا حصل النفع صحت الإجارة على التلاوة. وأمّا الدُّعاء بعدها، فإنّه أقرب للإجابة وأكثر بركة، وهذا ينفع الميت، فإذا حصل النفع صحت الإجارة. وأمّا القراءة بحضرة المستأجر أو استحضاره بقلبه حالة القراءة، فإن ذلك سبب لشمول الرّحمة للمستأجر، إذا تنزلت على قلب القاري، وبهذا يحصل النفع للمستأجر، وإذا حصل النفع له صحت الإجارة (¬2). وحاصل هذا الدّليل، أن الميِّت يحصل له نفع القراءة وبركتها، فإذا حصل له نفع القراءة جاز الاستئجار عليها. مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الدّليل بأن الّذي يصل للميت هو ثواب القراءة، وليس مجرد الانتفاع ببركتها، فإذا قرأ الإنسان القرآن وأهدى ثواب قراءته للميت وصله ذلك إذا كان يقرأ بدون أجرة بأن كان يقرأ محتسبًا؛ لأنّ القاري إذا قرأ لأجل الأجرة فلا ثواب له على قراته، وإذا لم يكن في قراته ثواب، فلا يصل إلي الميِّت شيء وعليه فلا تصح الإجارة على القراءة (¬3). ¬

_ (¬1) تقدّم بيان ذلك، ص 179. (¬2) روضة الطالبين للنووي 5/ 191، نهاية المحتاج للرملي 5/ 293، حاشية قليوبي 6/ 158 إعانة الطالبين للبكري 3/ 112. (¬3) مجموع الفتاوى لابن تيمية 24/ 316، النكت والفوائد السنية على المحرر لابن مفلح 1/ 209.

ثانيا: أدلة أصحاب القول الأول

ثانيًا: أدلة أصحاب القول الأوّل: استدل جمهور الفقهاء فيما ذهبوا إليه من عدم جواز الاستئجار على تلاوة القرآن الكريم بأدلة من القرآن الكريم والسُّنَّة المطهرة والإجماع والمعقول. أ - الأدلة من القرأن الكريم: الدّليل الأوّل: قوله تعالى {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 41]. وجه الاستدلال: أن الله تعالى نهانا أن نشتري بآياته ثمنًا قليلًا، وأخذ الأجرة على قراءة القرآن من الشراء بآيات الله ثمنًا قليلًا، فلا يجوز ذلك. الدّليل الثّاني: قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]. وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النِّساء: 29]. وجه الاستدلال: أن الله تبارك وتعالى نهى عن أكل الأموال بالباطل، وأخذ الأجرة على تلاوة القرآن من أكل المال بالباطل؛ لأنّ تلاوة القرآن إذا فعلت بالأجرة، لم يكن للقارئ ثواب، فأي شيء يهديه للميت، فإذا لم يكن هناك شيء يهديه للميت، يكون ما يأخذه من أجره أكل للمال بالباطل (¬1). الدّليل الثّالث: قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39]. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى لابن تيمية 24/ 316، النكت والفوائد السنية لابن مفلح 1/ 209.

وجه الاستدلال

وجه الاستدلال: قال ابن كثير: "ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشّافعيّ رحمه الله ومن اتبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى؛ لأنّه ليس من عملهم ولا كسبهم". (¬1). فإذا كان القاري لا ثواب له يهديه للميت فبما يستحل الأجرة على ذلك. مناقشة الاستدلال: تمكن مناقشة هذا الدّليل بأن الثّواب المجرد عن الأعواض بأن كان على سبيل الاحتساب فإن الراجح كما سبق أن ثواب ذلك يصل إلى الميِّت، ولكن إذا كان القاري يقرأ لأجل الأجرة، فإنّه لا ثواب له، وإن كان لا ثواب له يهديه للميت، فلا تحل له الأجرة حينئذ؛ لأنّه من أكل المال بالباطل. الدّليل الرّابع: قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]. وقوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]. وجه الاستدلال: حيث دلت هذه الآيات على أن شرط صحة الأعمال هو الإخلاص لله تعالى وأن تكون على السُّنَّة، ومن المعلوم أن التالي بالأجرة، عمله ليس خالصًا لله؛ لأنّه إنّما قصد بعمله المال، ولا صوابًا؛ لأنّ التلاوة بالأجرة بدعة منكرة، وعلى هذا فلا تجوز الإجارة على التلاوة (¬2). ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 7/ 440. (¬2) انظر: إقامة الدّليل والبرهان على تحريم أخذ الأجرة على تلاوة القرآن للشيخ المانع، ص: 9 قال الشّيخ محمّد بن عبد العزيز المانع: "ومن المعلوم أن التالي بالأجرة، عمله ليس خالصًا لله؛ لأنّه قصد به المال، ولا صوابًا؛ لأنّ التلاوة بالأجرة بدعة منكرة".

ب - الأدلة من السنة

ب - الأدلة من السنّة: لأصحاب هذا القول أدلة كثيرة من السُّنَّة، وقد تقدّم معنا معظم هذه الأدلة، وذلك أن هذه الأدلة تشمل ما يأتي: أوَّلًا: الأدلة الّتي استدل بها من منع من وصول ثواب التلاوة للأموات مثل: 1 - حديث أبي هريرة: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إِلَّا من ثلاث ...) الحديث (¬1). 2 - حديث ابن مسعود: (من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة ...) الحديث (¬2). وجه الاستدلال: أن هذه الأحاديث دلت على المنع من وصول ثواب التلاوة للموتى، فإذا كان الثّواب لا يصل للموتى، فلا يجوز الاستئجار على التلاوة؛ لأنّ صحة الإجارة مبنية على حصول الثّواب وفرع عنه (¬3). مناقشة الاستدلال: تمكن مناقشة هذا الاستدلال بأن المانع من صحة الإجارة ليس هو عدم وصول الثّواب في الأصل وإنّما المانع هو التلاوة بأجرة؛ لأنّ القاري إذا كانت قراءته للأجرة لم يكن له ثواب، فلا شيء يهديه للميت، وعلى هذا فلا تصح الإجارة، ولكن إذا كانت قراءته احتسابًا فإنها تصل الميِّت وتنفعه لقيام الأدلة على ذلك كما تقدّم (¬4). ثانيًا: الأدلة الّتي استدل بها من منع أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم. ¬

_ (¬1) تقدّم تخريجه، راجع ص: 166. (¬2) تقدّم تخريجه، راجع، ص: 508. (¬3) رسائل ابن عابدين 1/ 167، مجموع الفتاوى لابن تيمية 24/ 316. (¬4) مجموع الفتاوى لابن تيمية 24/ 316.

وجه الاستدلال بهذه الأحاديث

ومن هذه الأدلة: 1 - حديث أبي بن كعب: (ان أخذتها أخذت قوسًا من نار) قال: فرددتها" (¬1). 2 - حديث أبي الدرداء: (من أخذ قوسًا على تعليم القرآن قلّده الله قوسًا من نار) (¬2). وغير ذلك من الأحاديث، كحديث عبادة بن الصامت، وحديث عبد الرّحمن ابن شبل، وحديث عمران بن حصين، وحديث جابر وغيرها (¬3). وجه الاستدلال بهذه الأحاديث: دلت هذه الأحاديث على تحريم التكسب بالقرآن الكريم، ومن ذلك أخذ الأجرة على تلاوته، بل إنَّ دلالة هذه الأحاديث على المنع من أخذ الأجرة على التلاوة أظهر، كحديث سهل بن سعد، وحديث عمران بن حصين، وحديث جابر وغيرهم. بالإضافة إلى الأحاديث السابقة فقد استدلوا كذلك ببعض الأدلة، ومن هذه الأدلة: الدّليل الأوّل: عن عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يقول: (إنّما الأعمال بالنيات، وإنّما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ¬

_ (¬1) تقدّم تخريجه، راجع ص: 398. (¬2) تقدّم تخريجه، راجع ص: 473. (¬3) تقدّم تخريج هذه الأحاديث كلها عند ذكر أدلة المانعين من أخذ الأجرة على تعليم القرآن، راجع ص 539.

وجه الاستدلال

يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) (¬1). وجه الاستدلال: حيث دلّ الحديث على وجوب الإخلاص في الأعمال، ومن ذلك تلاوة القرآن، فإذا كان القاري يقرأ لأجل المال فهذا حظه من القراءة ولا ثواب له على قراءته، وإذا كان لا ثواب له لم تحصل المنفعة المقصودة للمستأجر؛ لأنّه استأجره لأجل الثّواب فلا تصح الإجارة (¬2). الدّليل الثّاني: عن عائشة رضي الله عنها قالت، قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) (¬3). وجه الاستدلال: بين النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أن أي أمر محدث في دين الله ليس عليه دليل، فهو مردود على صاحبه، وأخذ الأجرة على قراءة القرآن للأموات أمر محدث مردود لم ينقل عن أحد من الأئمة الإذن فيه، فلا يصح (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي على رسول الله - صلّى الله عليه وسلم 1/ 15 (1)، وفي الإيمان باب ما جاء أن الأعمال بالنية 1/ 163 (54) وفي العتق، باب الخطأ والنِّسيان في العتاقة والطلاق 5/ 190 (2529)، وفي فضائل الصّحابة، باب هجرة النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة 7/ 267 (3898) وفي النِّكاح، باب من هاجر أو عمل خيرًا لتزويج امرأة 9/ 17 (5070). وأخرجه مسلم في الإمارة، باب قوله - صلّى الله عليه وسلم - (إنّما الأعمال بالنيات) 3/ 1515 (1907). (¬2) رسائل ابن عابدين 1/ 167. (¬3) أخرجه البخاريّ، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود 5/ 355 (2697)، ومسلم في الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور 3/ 1343 (1718). (¬4) رسائل ابن عابدين 1/ 182، حاشية ابن عابدين 5/ 35، الاختيارات الفقهية لابن تيمية للبعلي، ص: 152.

جـ - الدليل من الإجماع

هذه معظم أدلة هذا القول من السُّنَّة المطهرة، ولهم أدلة أخرى ضربت صفحًا عنها؛ لأنّها أحاديث موضوعة منكرة لم تصح عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، أذكرها هنا للتنبيه على بطلانها، من هذه الأحاديث: 1 - حديث: (من قرأ القرآن يتآكل به النَّاس، جاء يوم القيامة ووجه عظم ليس عليه لحم ...) (¬1). 2 - حديث: (من أخذ على القرآن أجرًا فذاك حظه من القرآن) (¬2). 3 - حديث (من أخذ على القرآن أجرًا فقد تعجل حسناته في الدنيا والقرآن يخاصمه يوم القيامة) (¬3). جـ - الدّليل من الإجماع: قال ابن عابدين: "وأمّا الإجماع فإن الأُمَّة اتفقوا على أن لا ثواب للعمل إِلَّا بالنية، وهي الحالة الباعثة على العمل المعبر عنها بالقصد والعزم، ولم توجد فيما نحن فيه، فلا ثواب، فلا إجارة" (¬4). وحاصل هذا الدّليل أن العمل لا بد أن يكون خالصًا لله وأن ينوي به صاحبه التقرب إلى الله، فإذا فعله للأجرة، فلا ثواب له، ومن ثمّ فلا تصح الأجرة لعدم حصول المنفعة للمستأجر. ¬

_ (¬1) حديث موضوع، أخرجه ابن حبّان في الضعفاء والمتروكين 1/ 148، قال ابن حبّان: لا أصل له، وأقره الذهبي، وابن حجر وابن الجوزي والسيوطي وغيرهم، قال الألباني: موضوع سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني 3/ 531 وما بعدها رقم (1356). (¬2) حديث موضوع، أخرجه أبو نعيم الإصفهاني في حلية الأولياء 7/ 142، وفي إسناده: إسحاق بن العنبري، قال الذهبي عنه: كذّاب، قال الألباني: موضوع، انظر: السلسلة الضعيفة 3/ 613 (¬3) حديث منكر، أخرجه أبو نعيم في الحلية 4/ 20، قال الألباني في السلسلة الضعيفة 3/ 614 (1422): إسناده مظلم. (¬4) رسائل ابن عابدين 1/ 182، حاشية ابن عابدين 5/ 35.

د - الأدلة من المعقول

د - الأدلة من المعقول: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ القراءة مثل الصّلاة والصوم في كونها عبادة بدنية محضة، فكما لا تجوز الإجارة عليهما، لا تجوز على القراءة (¬1). الدّليل الثّاني: قالوا: الإجارة على التلاوة هنا عبارة عن بيع الثّواب، وهو معدوم وبيع المعدوم باطل، ولو سلّم وجود الثّواب، فإنّه ليس بمال، ولو سلم أنّه مال فليس بمقدور التسليم (¬2). الترجيح: بعد ذكر الأقوال وعرض أدلة كلّ قول مفصلة، يتبين بوضوح رجحان القول الأوّل القاضي بمنع الاستئجار على تلاوة القرآن الكريم للأموات، وذلك بما يأتي: أوَّلًا: قوة ما استدل به أصحاب هذا القول، حيث جاءت أدلتهم في معظمها صريحة وواضحة في الدلالة على المطلوب، وكانت في معظمها سالمة من المناقشة. ثانيًا: ضعف ما استدل به أصحاب القول الثّاني، حيث أمكن مناقشتها جميعًا بما يضعف من دلالتها، أو يخرجها عن دلالتها بالكلية، فالأدلة من السُّنَّة، إنّما هي صريحة في الرقية والمداواة لا في تلاوة القرآن للأموات، والأدلة من العقول ضعيفة أمكن الجواب عنها فضلًا عن أنّها جاءت مخالفة ومعارضة للأدلة من الكتاب والسُّنَّة الّتي استدل بها أصحاب القول الأوّل. ¬

_ (¬1) رسائل ابن عابدين 1/ 182. (¬2) المرجع السابق.

ثالثًا: أن ممّا يضعف هذا القول تنصيص العلماء على كون الاستئجار على التلاوة بدعة وأمر محدث لم يقل به أحد من الأئمة المعتبرين (¬1). قال ابن عابدين: "والإجارة في ذلك باطلة وهي بدعة لم يفعلها أحد من الخلفاء" (¬2). قال ابن القيم - رحمه الله -: "ولم يكن من هديه - صلّى الله عليه وسلم - أن يجتمع للعزاء ويقرأ له - للميت - القرآن لا عند قبره، ولا غيره، وكل هذا بدعة حادثة مكروهة" (¬3). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين 5/ 35، مسائل الإمام أحمد لابن هانئ 1/ 190، الاختيارات الفقهية لابن تيمية ص: 152، زاد المعاد لابن القيم 1/ 527. (¬2) حاشية ابن عابدين 5/ 35، نقلًا عن خير الدِّين الرملي الحنفي (ت: 1081 ص). (¬3) زاد المعاد لابن القيم 1/ 527.

المطلب الثالث أخذ المال على كتابة المصحف وطباعته

المطلب الثّالث أخذ المال على كتابة المصحف وطباعته أجمع العلماء على استحباب كتابة المصحف وتحسين كتابته وتببينها وإيضاحها، وإيضاح الخط، دون مشقة، ويستحب نقط المصحف وشكله، فإنّه صيانة له من اللحن فيه والتصحيف والتحريف (¬1). قال الإمام النووي - حمه الله -: "وأجمعوا على استحباب كتابة المصحف وتحسين كتابته ... " (¬2). وأمّا أخذ الأجرة على كتابة المصحف وطباعته، فالظاهر من كلام الأئمة أرباب المذاهب الأربعة والظاهرية أن ذلك محل اتفاق عندهم، ولا خلاف بينهم في جواز ذلك (¬3). وقد نقل ابن رشد الإجماع على ذلك، فقال: "إجماعهم على جواز الإجارة في كتب المصاحف" (¬4). أمّا الحنفية: فلا خلاف بينهم في جواز الاستئجار على كتابة القرآن الكريم (¬5). ¬

_ (¬1) المجموع للنووي 2/ 71، وانظر: التبيان في آداب حملة القرآن للنووي، ص: 149. (¬2) المجموع للنووي 2/ 71، وانظر: التبيان في آداب حملة القرآن للنووي، ص: 149. (¬3) المبسوط للسرخسي 16/ 42، المدوّنة للإمام مالك 4/ 420، المجموع للنووي 9/ 252 المغني لابن قدامة 8/ 39، المحلى لابن حزم 8/ 193. (¬4) بداية المجتهد لابن رشد 1/ 321. (¬5) المبسوط للسرخسي 16/ 42، البناية شرح الهداية للعيني 9/ 338، فتاوى قاضي خان بهامش الفتاوى الهندية 2/ 323، الفتاوى الهندية 4/ 449.

وأما المالكية

قال الإمام السرخسي: "ولو استاجر رجلًا يكتب له مصحفًا ... كان ذلك جائزًا" (¬1). وأمّا المالكية: فقد جاء في المدوّنة: (قلت: أرأيت إنَّ استأجرت كاتبًا يكتب لي شعرًا أو نوحًا أو مصحفًا؟ قال مالك: أمّا كتابة المصحف فلا بأس بذلك) (¬2). ولا خلاف بين المالكية في جواز الاستئجار على كتابة المصاحف (¬3). وأمّا الشّافعيّة: فقد اتفقوا على جواز الاستئجار على نسخ المصحف، ولا خلاف بينهم في ذلك (¬4). قال النووي - رحمه الله -: " اتفق أصحابنا على صحة بيع المصحف وشرائه وإجارته ونسخه بالأجرة" (¬5). وأمّا الحنابلة: فلا خلاف بينهم في ذلك (¬6)، قال ابن قدامة: "يجوز أن يستأجر من يكتب له مصحفًا" (¬7). وقال المرداوي: "يصح بأجرة نصّ عليه" (¬8). ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي 16/ 42. (¬2) المدوّنة للإمام مالك 4/ 420. (¬3) مواهب الجليل للحطاب 423/ 5، جواهر الإكليل للأبي 2/ 189، منح الجليل لعلّيش 7/ 495. (¬4) الحاوي الكبير للماوردي 9/ 279، المجموع للنووي 9/ 252، الفتاوى للعز بن عبد السّلام، ص: 48. (¬5) المجموع للنووي 9/ 252. (¬6) المغني لابن قدامة 8/ 39، الفروع لابن مفلح 4/ 17، المبدع لابن مفلح 4/ 13، 5/ 75، الإنصاف للمرداوي 6/ 27، كشاف القناع للبهوتي 4/ 17 - 19. (¬7) المغني لابن قدامة 8/ 39. (¬8) الإنصاف للمرداوي 6/ 27.

وأما الظاهرية

وأمّا الظاهرية: فقد ذهبوا إلى جواز ذلك، قال ابن حزم: "والإجارة جائزة على تعليم القرآن ... وعلى نسخ المصاحف" (¬1). الأدلة على جواز الاستئجار على كتابة المصحف: استدل الفقهاء على جواز الاستئجار على نسخ المصحف بأدلة كثيرة من السُّنَّة والأثر والمعقول: أ - أدلتهم من السُّنَّة: ما ورد عن ابن عبّاس - صلّى الله عليه وسلم - في قصة اللديغ أن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله) (¬2). وجه الاستدلال: يمكن توجيه الاستدلال بهذا الحديث، بأن الحديث خرج مخرج العموم فيشمل عموم أخذ الأجرة على كتاب الله، ومن ذلك أخذ الأجرة على كتابته. ب - أدلتهم من الأثر: عن مالك بن دينار (¬3) قال: دخل عليّ جابر بن زيد (¬4)، وأنا أكتب مصحفًا، ¬

_ (¬1) المحلى لابن حزم 8/ 193. (¬2) تقدّم تخريجه، راجع ص 402. (¬3) هو: مالك بن دينار البصري الزاهد أبو يحيى، روى عن أنس وسعيد بن جبير والحسن وغيرهم وروى عنه همام بن يحيى وجعفر بن سليمان الضبعي وعبد الله بن شوذب وغيرهم، قال الحافظ ابن حجر: صدوق عابد من الخامسة، توفي سنة 130 ص، وقيل: غير ذلك. انظر: الجرح والتعديل لابن أي حاتم 8/ 208، تقريب التهذيب لابن حجر، ص: 915. (¬4) هو: جابر بن زيد الأزدي اليحمدي، مولاهم، البصري عالم أهل البصرة في زمانه من كبار تلامذة ابن عبّاس رضي الله عنهما، حدث عنه عمرو بن دينار وأيوب السختياني وقتادة وآخرون، توفي سنة 93 هـ على الصحيح. انظر: سير أعلام النُّبَلاء للذهبي 4/ 481، تهذيب التهذيب لابن حجر 2/ 38.

جـ - أدلتهم من المعقول

فقال: نِعم العمل عملك هذا الكسب الطيب، تنقل كتاب الله من ورقة إلى ورقة. قال مالك بن دينار: وسألت عنه الحسن والشعبي (¬1) فلم يريا به بأسًا (¬2). جـ - أدلتهم من المعقول: الدّليل الأوّل: أن كتابة المصحف عمل مباح يجوز أن ينوب فيه الغير عن الغير، فجاز أخذ الأجرة عليه، ككتابة الحديث (¬3). الدّليل الثّاني: أن في نسخ المصاحف والتكسب به استذكارًزا للقراءة فيباح (¬4). وبهذا يتضح أن الاستئجار على نسخ كتاب الله لا حرج فيه؛ لما ذكر من الأدلة، ولما في ذلك من المصلحة العظيمة في نشر كتاب الله وتيسيره للناس كافة (¬5). ¬

_ (¬1) هو: عامر بن شراحيل بن عبد ذي كبار الهمداني الشّعبيّ أبو عامر، ولد سنة 19 هـ، ورأى عليّا - رضي الله عنه - وصلّى خلفه، وحديث عن أبي موسى وسعد بن أبي وقّاص وغيرهما من الصّحابة، توفي سنة 103 هـ على الصحيح، وقيل غير ذلك. انظر: تاريخ بغداد 12/ 227، سير أعلام النُّبَلاء 4/ 294. (¬2) أخرجه عبد الرزّاق في المصنِّف، كتاب البيوع، باب بيع المصاحف 8/ 113 (14528). (¬3) الحاوي الكبير للماوردي 9/ 279، المغني لابن قدامة 8/ 39، كشاف القناع للبهوتي 3/ 561. (¬4) فتاوى العز بن عبد السّلام ص: 48. (¬5) ومما يجدر التنويه به في هذا المقام ما قام به خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود حفظه الله من إنشاء مجمع الملك فهد لطباعة المصحف ونشره وتوزيعه إلى الدنيا جميعًا حتّى أصبح المصحف الشريف في يد كلّ مسلم في أنحاء المعمورة في أجمل طبعه وأبهى حلة فجزاه الله عن المسلمين خير الجزاء.

تنبيه: ذكر ابن قدامة عن علقمة (¬1) -رحمه الله- أن كره كتابة المصاحف بالأجر (¬2). ونسب الماوردي المنع من الاستئجار على نسخ المصحف إلى بعض العراقيين وأهل المدينة (¬3). قال ابن قدامة: "وكره علقمة كتابة المصحف بالأجر، ولعلّه يرى أن ذلك ممّا يختص فاعله بكونه من أهل القربة فكره الأجر عليه كالصلاة" (¬4). ¬

_ (¬1) هو: علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك النخعي الكوفي أبو شبل، فقيه الكوفة وعالمها ومقرئها الإمام المجتهد الكبير من المخضرمين، هاجر في طلب العلم والجهاد ولازم ابن مسعود - رضي الله عنه - حتّى أصبح رأسًا في العلم والعمل، حدث عن ابن مسعود وعمر وعثمان وسلمان وأبي الدرداء وعائشة وخلق من الصّحابة، وحدث عنه أبو وائل والشعبي وإبراهيم النخعي وغيرهم، وقد اختلف في وفاته على أقوال: أصحها سنة 62 هـ. انظر: سير أعلام النُّبَلاء 4/ 53، تهذيب التهذيب لابن حجر 7/ 276. (¬2) المغني لابن قدامة 8/ 39. (¬3) الحاوي الكبير للماوردي 9/ 279. (¬4) المغني لابن قدامة: 8/ 39.

المطلب الرابع أخذ المال على إجارة المصحف وبيعه

المطلب الرّابع أخذ المال على إجارة المصحف وبيعه المسألة الأولى: بيع المصحف وشراؤه الفرع الأوّل بيع المصحف للمسلم اختلف العلماء في حكم بيع المصحف للمسلم وشرائه منه على أقوال ثلاثة: القول الأوّل: يصح بيع المصحف للمسلم وشراؤه منه بلا كراهة. وبهذا قال الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشّافعيّة (¬3) على اتفاق بينهم في صحة شرائه بلا كراهة، وأمّا البيع فوجهان، أحدهما أنّه لا يكره كذلك (¬4). وهذا القول هو إحدى الروايات عن الإمام أحمد (¬5)، وهو مذهب الظاهرية (¬6). القول الثّاني: يصح بيع المصحف للمسلم وشراؤه منه مع الكراهة. ¬

_ (¬1) مختصر اختلاف العلماء للطحاوي 3/ 87. (¬2) المدوّنة للإمام مالك 8/ 414، عقد الجواهر المْينة لابن شاس 2/ 839، الذّخيرة للقرافي 5/ 402، مواهب الجليل للحطاب 5/ 423. (¬3) المجموع للنووي 9/ 252، حاشية عميرة على شرح المحلي 2/ 157، حاشية الجمل 3/ 22. (¬4) التبيان للنووي، ص: 154، 155، حاشية الجمل على شرح المنهج 3/ 22. (¬5) الفروع لابن مفلح 4/ 14، تصحيح الفروع للمرداوي 5/ 14، الإنصاف للمرداوي 4/ 279. (¬6) المحلي لابن حزم 9/ 44.

الأدلة والمناقشة

وهذا القول هو الصحيح من المذهب عند الشّافعيّة، نصّ عليه الشّافعيّ إِلَّا أن الكراهة عندهم مختصة بالبيع دون الشراء (¬1). وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها جمع من الحنابلة (¬2)، قال المرداوي في تصحيح الفروع: (وعليه العمل ولا يسع النَّاس غيره) (¬3). القول الثّالث: يحرم بيع المصحف ولا يصح، أمّا شراؤه فيجوز: وهذا القول هو الرِّواية المشهورة عن الإمام أحمد وهو المذهب عند الحنابلة (¬4). قال ابن قدامة: "قال أحمد: لا أعلم في بيع المصاحف رخصة، ورخص في شرائها، وقال: الشراء أهون" (¬5). الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة القول الثّالث: استدل أصحاب القول الثّالث بالقائلون بالمنع من بيع المصحف وعدم صحة ذلك بأدلة من الأثر والمعقول: أ - الدّليل من الأثر: عن سالم بن عبد الله بن عمر (¬6) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ¬

_ (¬1) المجموع للنووي 9/ 252، والتبيان للنووي، ص: 154، 155. (¬2) الإنصاف للمرداوي 4/ 278، تصحيح الفروع للمرداوي 4/ 15. (¬3) تصحيح الفروع 4/ 15. (¬4) المغني لابن قدامة 6/ 367، الإنصاف للمرداوي 4/ 278، الإقناع للحجاوي 2/ 60. (¬5) المغني لابن قدامة 6/ 367. (¬6) هو: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب، القرشي العدوي أبو عمرو، أبو عبد الله المدني، أحد فقهاء المدينة السبعة، من سادات التابعين وعلمائهم، أجمع العلماء على إمامته وعلو مرتبته وتوثيقه، كان أشبه النَّاس بجده في الهدى والسمت، توفي بالمدينة سنة 106 هـ. انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي 1/ 88، وفيات الأعيان لابن خلكان 2/ 349.

وجه الاستدلال

لوددت أن الأيدي قطعت في بيع الصاحف (¬1). وجه الاستدلال: دلّ كلام ابن عمر السابق على أن بيع المصاحف لا يجوز، حيث ودّ ابن عمر أن تقطع الأيدي في بيعها، واليد لا تقطع إِلَّا في السّرقة، والسّرقة محرّمة لا تجوز، فكذلك بيع المصحف. مناقشة الاستدلال: أوَّلًا: أن هذا قول صحابي، وقول الصحابي مختلف في حجيته (¬2). ثانيًا: أن هذا محمول على ما إذا كان الصحف يبتذل بالبيع والشراء، فإن هذا لا يجوز؛ لأنّه ينافي التعظيم والتكريم لكتاب الله تعالى (¬3). ب - الدّليل من المعقول: قالوا: إنَّ المصحف يشتمل على كلام الله تعالى، وكلام الله تعالى تجب صيانته، وفي بيعه إهانة له وابتذال فيحرم بيعه (¬4). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الدّليل، بأنّه لا يسلم أن بيع المصحف فيه إهانة له وابتذال، بل إنَّ المنفعة في بيعه ظاهرة، وهي تيسير الحصول على كتاب الله لكل أحد، وفي هذا من تبليغ الدِّين والدعوة إلى الله ما لا يخفى، والنفوس المسلمة قد جبلت على حب ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي، كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع المصاحف 6/ 27 (11068) وابن أبي شيبة في البيوع والأقضية، باب من كره شراء المصاحف 6/ 61 (250)، وعبد الرزّاق في المصنِّف 8/ 112 (14525). (¬2) سبق بيان ذلك، راجع ص 199. (¬3) انظر السنن الكبرى للبيهقي 6/ 28، المغني لابن قدامة 6/ 368. (¬4) المغني لابن قدامة 6/ 368.

ثانيا: أدلة القول الثاني

كتاب الله وتعظيمة، فلا يتصور من مسلم أن يقدم على إهانة كتاب الله، ثمّ لو وقع هذا لكان كفرًا بالله العظيم. أمّا جواز شراء المصحف، فقد استدلوا له بما يأتي: قال ابن قدامة: "وأمّا الشراء فهو أسهل؛ لأنّه استنقاذ للمصحف وبذل لماله فيه فجاز، كما أجاز شراء رباع مكّة، واستئجار دورها من لا يرى بيعها ولا أخذ أجرتها" (¬1). ثانيًا: أدلة القول الثّاني: استدل أصحاب هذا القول، القائلون بصحة بيع المصحف وشرائه مع الكراهة بأدلة من الآثار: الدّليل الأوّل: عن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان ابن عمر يمر بأصحاب المصاحف، فيقول: بئس التجارة (¬2). الدّليل الثّاني: ما رواه عبد الله بن شقيق قال: كان أصحاب رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يكرهون بيع المصاحف (¬3). الدّليل الثّالث: عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود أنّه كره شراء المصاحف وبيعها (¬4). ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) أخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع المصحف: 6/ 27 (11069)، وابن أبى داود في كتاب المصاحف، باب بيع المصاحف وشرئها، ص: 180. (¬3) أخرجه البيهقي، كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع المصاحف 6/ 27 (11070) وعبد الرزّاق في مصنفه، باب الأجر على تعليم الغلمان وقسمة الأموال 8/ 115 (14534) وقال النووي: إسناده صحيح (المجموع 9/ 252). (¬4) أخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع المصاحف 6/ 28 (11071).

وجه الاستدلال

وجه الاستدلال: حيث جاءت هذه النصوص صريحة عن أصحاب النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّهم كانوا يكرهون بيع المصاحف، فدل ذلك على أن بيع المصاحف وشراءها مكروه. قال البيهقي: "وهذه الكراهة على وجه التنزيه تعظيمًا للمصحف على أن يبتذل بالبيع أو يجعل متجرًا" (¬1). مناقشة الاستدلال: أوَّلًا: يمكن مناقشة هذه اللآثار بأنّها عبارة عن أقوال صحابة، وقول الصحابي مختلف في حجيته. ثانيًا: أن هذه الآثار معارضة بالأدلة الدالة على الإباحة. وستأتي مفصلة إن شاء الله تعالى. ثالثًا: أدلة أصحاب القول الأوّل: استدل أصحاب هذا القول القائلون بأنّه يجوز بيع المصحف وشراؤه بلا كراهة بأدلة من القرآن الكريم والأثر والمعقول: أ - الأدلة من القرآن الكريم: الدّليل الأوّل: قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]. وجه الاستدلال: حيث أباح الله تعالى في هذه الآية الكريمة البيع، فيدخل في ذلك بيع المصحف حيث لم يردّ نهي عن بيعه يخرجه من عموم هذه الآية. ¬

_ (¬1) السنن الكبرى للبيهقي 6/ 28.

الدليل الثاني

الدّليل الثّاني: قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]. وجه الاستدلال: قال ابن حزم في وجه الاستدلال بهذه الآية: "فبيع المصاحف كلها حلال؛ إذ لم يفصل لنا تحريمه، وما كان ربك نسيًا، ولو فصل تحريمه لحفظه الله تعالى حتّى تقوم به الحجة على عباده" (¬1). ب - الأدلة من الأثر: الدّليل الأوّل: عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود قال: رُخص في بيع المصاحف (¬2). الدّليل الثّاني: عن مالك بن دينار: أن عكرمة (¬3) باع مصحفًا له وأن الحسن كان لا يرى به بأسًا (¬4). الدّليل الثّالث: عن مطر الورَّاق (¬5) قال: أتنهوني عن بيع المصاحف وقد كان حبرا هذه الأُمَّة أو ¬

_ (¬1) المحلى لابن حزم 9/ 47. (¬2) أخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع المصاحف 6/ 28 (11072). (¬3) هو: عكرمة أبو عبد الله مولى ابن عبّاس رضي الله عنهما، أحد أوعية العلم، ثقة ثبت، عالم بالتفسير وثقه جماعة واعتمده البخاريّ، لم يثبت عنه بدعة، أذن له ابن عبّاس بالإفتاء، توفي سنة 159 هـ انظر: ميزان الاعتدال للذهبي 3/ 93، تقريب التهذيب لابن حجر، ص: 687. (¬4) أخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع المصاحف 6/ 29. (¬5) هو: مطر بن طهمان الورَّاق أبو رجاء الخرساني السلمي مولى علي، سكن البصرة، روى عن أنس وعكرمة وعطاء وسعيد بن أبي عروبة وغيرهم، وروى عنه إبراهيم بن طهمان وأبو هلال الراسبي والحمادان وغيرهم، قال ابن حجر: صدوق كثير الخطأ وحديثه عن عطاء ضعيف، مات سنة: 109 هـ على الصحيح. انظر: تهذيب التهذيب لابن حجر 10/ 168، التقريب له، ص: 947.

الدليل الرابع

قال: فقيها هذه الأُمَّة لا يريان به بأسًا: الحسن والشعبي (¬1). الدّليل الرّابع: عن الحسن: أنّه كان لا يرى بأسا ببيع المصاحف واشترائها (¬2). الدّليل الخامس: عن الشّعبيّ أنّه سئل عن ذلك، فقال: إنّما يبتغى ثمن ورقة وأجر كتابة (¬3). وفي رواية: إنهم ليسوا يبيعون كتاب الله، وإنّما يبيعون الورق وعمل أيديهم (¬4). وجه الاستدلال بهذه الآثار: هذه الآثار تدل صراحة على جواز بيع المصاحف وشرائها بلا كراهة. جـ - الأدلة من المعقول: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ المصحف طاهر منتفع به، فجاز بيعه وشراؤه كسائر الأموال (¬5). الدّليل الثّاني: إنَّ الّذي يباع إنّما هو الورق أو الكاغد أو القرطاس والمداد الأديم إن كانت مجلدة ومحلاة، وأمّا العلم فلا يباع؛ لأنّه ليس بجسم (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع المصاحف 6/ 28 (11073). (¬2) أخرجه البيهقي، كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع المصاحف: 6/ 28، (11074). (¬3) المرجع السابق. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنِّف، كتاب البيوع، باب من رخص في بيع المصاحف 6/ 64 (270). (¬5) المهذب للشيرازي 1/ 262. (¬6) المحلى لابن حزم 9/ 45.

الترجيح

الترجيح: بعد ذكر الأدلة وما ورد عليها من مناقشات فالذي يظهر هو رجحان القول الأوّل وهو جواز بيع المصحف وشرائه بلا كراهة، وذلك لما يأتي: أوَّلًا: قوة أدلة هذا القول، حيث استدلوا بآيات من كتاب الله ومن الأثر والمعقول، وأدلتهم من القرآن قوية، ولا ترد عليها مناقشة؛ إذ الأصل حل البيع إِلَّا ما حرّمه الله تعالى، ولا يوجد نصّ يحرم بيع المصاحف، وأمّا الكراهة فمعللة بالابتذال والامتهان، وهذا إذا حدث لا يخالف أحد في حرمته وعدم حل بيعه حينئذ. ثانيًا: ضعف أدلة الأقوال الأخرى حيث لا تخرج عن كونها بعض الآثار والتعليلات، وقد أمكن مناقشتها بما يضعف من دلالتها. ثالثًا: إنَّ الحاجة داعية إلى بيع وشراء المصاحف، لما في ذلك من تيسير الاطلاع على كتاب الله قراءة وتدبرًا وحفظًا، وتيسيره لكل مسلم ولا يسع النَّاس غير هذا؛ لأنّ تيسير المصحف لكل أحد مجانًا أمر متعذر خاصّة في هذا الزّمان الّذي كثر فيه المسلمون، وتفرقوا في البلاد. رابعًا: أن البيع إنّما هو واقع على الورق والتجليد والطباعة، وليس على كلام الله تعالى. خامسًا: أن القول يحواز البيع والشراء للمصحف بلا كراهة هو الّذي عليه عمل المسلمين في الماضي وإلى يومنا هذا.

الفرع الثاني بيع المصحف لغير المسلم

الفرع الثّاني بيع المصحف لغير المسلم تناول الفقهاء حكم هذه المسألة من جهتين: الجهة الأولى: حكمها التكليفي: والذي يظهر من كلام الفقهاء أنّه لا خلاف بينهم في حرمة بيع المصحف لغير المسلم، حتّى عند من صحح البيع، كما سيأتي: وقد عللوا ذلك: بأن بيع المصحف للكافر فيه امتهان للمصحف وابتذال، وهذا لا يجوز (¬1). الجهة الثّانية: الحكم الوضعي: والمراد حكم عقد البيع من حيث الصِّحَّة والفساد، وقد اختلف الفقهاء في حكم صحة بيع المصحف لغير المسلم على قولين: القول الأوّل: لا يصح بيع المصحف لغير المسلم، وإذا وقع فالعقد باطل. وإلى هذا ذهب أكثر أصحاب الإمام مالك رحمه الله (¬2)، قال الحطاب: "قال سحنون وأكثر أصحاب مالك: ينقض البيع ... " (¬3). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين 4/ 134، مجمع الأنّهر لداماد أفندي 2/ 62، الشرح الكبير للدردير 3/ 7، مواصب الجليل للحطاب 4/ 253، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3/ 7، المجموع للنووي 9/ 355، قال النوويّ: "ولا خلاف أنّه حرام"، المغني لابن قدامة 6/ 368، 13/ 251، الإنصاف للمرداوي 4/ 280. (¬2) مواهب الجليل للحطاب 4/ 253، حاشية الدسوقي 3/ 7. (¬3) مواهب الجليل للحطاب 4/ 253.

وهو القول المشهور عند الشّافعيّة (¬1)، قال الإمام النوويّ: "أمّا إذا اشترى الكافر مصحفًا، ففيه طريقان مشهوران: أحدهما: وبه قطع المصنِّف وجماعة أنّه على القولين، كالعبد، أصحهما: أنّه لا يصح البيع ... والطريق الثّاني: القطع بأنّه لا يصح البيع، وقطع به جماعة وصححه آخرون" (¬2). وبهذا القول قال الحنابلة (¬3)، قال المرداوي: " ... فأمّا إنَّ كان كافرًا، فلا يجوز بيعه له قولًا واحدًا" (¬4). القول الثّاني: أن بيع المصحف للكافر إذا وقع صح، وأجبر الكافر على إزالة ملكه عنه. وبهذا قال الحنفية (¬5)، قال صاحب ملتقى الأبحر (¬6): "ولو شرى كافر عبدًا مسلمًا أو مصحفًا صح، ويجبر على إخراجهما من ملكه" (¬7). ¬

_ (¬1) روضة الطالبين للنووي 3/ 346، المجموع للنووي 9/ 355، مغني المحتاج للشربيني 2/ 8. (¬2) المجموع للنووي 9/ 355. (¬3) المغني لابن قدامة 6/ 368، 13/ 251، الفروع لابن مفلح 4/ 17، الإنصاف للمرداوي 4/ 80، الإقناع للحجاوي 2/ 60. (¬4) الإنصاف للمرداوي 4/ 280. (¬5) الدر المختار للحصفكي 4/ 134، حاشية ابن عابدين 4/ 134، مجمع الأنّهر شرح ملتقى الأبحر 2/ 62. (¬6) هو: إبراهيم بن محمَّد بن إبراهيم الحلبي أحد فقهاء الحنفية من أهل حلب، تفقه بها وبمصر، ثمّ استقر في القسطنطينية، له مؤلفات كثيرة منها: ملتقى الأبحر وتلخيص القاموس المحيط، وتلخيص الجواهر المضية وغيرها، توفي بالقسطنطينية سنة 956 هـ. انظر: كشف الظنون لحاجي خليفة 2/ 1814، الأعلام للزركلي 1/ 66. (¬7) ملتقى الأبحر لإبراهيم الحلبي 2/ 23، تحقيق: وهبي سليمان غاوجي.

الأدلة والمناقشة

وهو القول المشهور عند المالكية (¬1)، قال الحطاب: "فمذهب المدوّنة أن البيع يمضي ويجبر الكافر على إخراج ذلك عن ملكه ... ، وصرح المازري (¬2) بأنّه المشهور" (¬3). وهو قول عند الشّافعيّة (¬4)، قال النوويّ: "إذا اشترى الكافر مصحفًا ففيه طريقان مشهوران، أحدهما: ... أنّه على القولين كالعبد أصحهما أنّه لا يصح البيع والثّاني: يصح ... " (¬5). الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة أصحاب القول الثّاني: استدل أصحاب هذا القول بما يأتي: قالوا: أمّا كون البيع يصح فلأن الكافر أهل للشراء، والمصحف محل له فيصح البيع (¬6). ¬

_ (¬1) المدوّنة للإمام مالك 4/ 275، مواهب الجليل للحطاب 4/ 253، الفواكه الدواني للأزهري 2/ 110. (¬2) هو: محمَّد بن علي بن عمر التميمي المازري أبو عبد الله المعروف بالإمام أحد أعلام المالكية، بلغ رتبة الاجتهاد، له مؤلفات جليلة تدل على تبحره منها: المعلم بفوائد صحيح مسلم، وشرح التلقين للقاضي عبد الوهّاب، وهو من أنفس الكتب، والمحصول من برهان الأصول وغيرها، توفي سنة 536 هـ. انظر: سير أعلام النُّبَلاء 20/ 104، شجرة النور الزكية لخلوف، ص: 127. (¬3) مواهب الجليل للحطاب 4/ 253. (¬4) المجموع للنووي 9/ 355، روضة الطالبين 3/ 346. (¬5) المجموع للنووي 9/ 355. (¬6) المغني لابن قدامة 6/ 368.

مناقشة الاستدلال

وأمّا كونه يجبر على إخراجه من ملكه ويمنع استدامة ملكه عليه؛ فلأن في تملك الكافر للمصحف إهانة لكتاب الله وابتذال له، وهذا لا يجوز، فيجبر على إزالة ملكه عنه (¬1). مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الاستدلال بأنّه إذا كان تملك المصحف إهانة له وابتذال فلا فائدة من تصحيح بيعه، ولذلك منع العلماء من بيع المصحف للكافر، ولو كان يعظمه وعللوا ذلك: بأن مجرد تملكه له يعد إهانة (¬2). ثانيًا: أدلة أصحاب القول الأوّل: استدل أصحاب هذا القول وهم القائلون ببطلان بيع المصحف للكافر بأدلة من السُّنَّة والمعقول. أ - أدلتهم من السُّنَّة: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - نهى أن يُسافر بالقرآن إلى أرض العدو) (¬3). وفي رواية: (وأنّه - صلّى الله عليه وسلم - كان ينهى أن يُسافر بالقرآن إلى أرض العدو، مخافة أن يناله العدو) (¬4). ¬

_ (¬1) مجمع الأنّهر 2/ 62، حاشية الدسوقي 3/ 7. (¬2) حاشية الدسوقي 3/ 7. (¬3) أخرجه البخاريّ في الجهاد، باب كراهية السَّفر بالمصاحف إلى أرض العدو 4/ 155 (2990)، ومسلم في الإمارة، باب النهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار 3/ 1490 (1869). (¬4) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب النّهي أن يُسافر بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف وقوعه بأيديهم 3/

وجه الاستدلال

وفي رواية: "عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (لا تسافروا بالقرآن، فإني لا آمن أن يناله العدو) (¬1). وجه الاستدلال: دلت هذه الروايات على أنّه لا يجوز السَّفر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم، فدلّ ذلك على أنّه لا يصح بيعه للكافر من باب أولى (¬2). ب - الأدلة من المعقول: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ الكافر يمنع من استدامة ملكه على المصحف، فيمنع من ابتداء ملكه له كسائر ما يحرم بيعه (¬3). الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ الكافر يمنع من استدامة ملكة على المصحف، فيمنع من ابتداء ملكه له قياسًا على نكاحه للمسلمة (¬4). الترجيح: بعد ذكر أقوال الفقهاء في هذه المسألة وما استدلوا به وما ورد على هذه الأدلة من مناقشات يتضح رجحان القول الأوّل القاضي ببطلان بيع المصحف للكافر، وذلك لما يأتي: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب النّهي عن أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار ... 3/ 1491 (1869). (¬2) الكافي لابن قدامة: 2/ 7، المبدع لابن مفلح 4/ 13. (¬3) المغني لابن قدامة 6/ 368. (¬4) الكافي لابن قدامة 2/ 7.

المسألة الثانية: إجارة المصحف

أوَّلًا: قوة ما استدل به أصحاب هذا القول، حيث جاءت الروايات من الستة صحيحة وصريحة في النّهي عن تمكين الكفار من المصحف بأي نوع من أنواع التمكين سواء أكان ذلك بالسفر به إلى بلادهم أم بالبيع من باب أولى. ثانيًا: أن ما استدل به أصحاب القول الآخر أمكن الجواب عنه وبيان عدم حجيته. ثالثا: أن أصحاب القول الآخر متفقون على وجوب إخراج المصحف من ملكية الكافر له وعدم صحة استدامة ملكه له. فالنتيجة واحدة، وعليه فلا فائدة من القول بصحة البيع في هذه الحالة. المسألة الثّانية: إجارة المصحف إذا دفع المسلم مصحفه إلى غيره ليقرأ فيه مقابل أجرة يأخذها على ذلك فهل يجوز؟ اختلف الفقهاء في حكم ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأوّل: يباح تأجير المصحف للقراءة فيه. وبهذا قال المالكية (¬1)، جاء في المدوّنة الكبرى لسحنون (¬2): "قلت: أرأيت المصحف هل يصح أن يستأجره الرَّجل يقرأ فيه؛ قلت: لا بأس بذلك قلت: لم ¬

_ (¬1) المدوّنة الكبرى 4/ 418، مختصر خليل، ص/243، مواهب الجليل للحطاب 5/ 423. (¬2) هو: عبد السّلام بن سعيد بن حبيب بن سعيد التنوخي، أبو سعيد الفقيه المالكي القاضي، وسحنون لقب له، وأصله شامي، ولد بالقيروان سنة 160 هـ، تفقه على ابن القاسم وابن وهب وأشهب وغيرهم، تولى قضاء القيروان، واشترط عدم الأجرة على القضاء وأن ينفذ قضاؤه على الولاة ومن حولهم، صنف المدوّنة في مذهب مالك، وهي من أعظم مصادر المذهب المالكي، توفي سنة 240 هـ بالقيروان. انظر: الديباج المذهب لابن فرحون، ص: 154، شجرة النور الزكية لمخلوف، ص: 64.

جوزته؟ قال: لأنَّ مالكًا قال: لا بأس ببيع المصحف، فلما جوز مالك بيعه جازت فيها الإجارة" (¬1). وهو قول الشّافعيّة (¬2)، قال النوويّ: "تجوز إجارة المصحف والكتب لمطالعتها والقراءة فيها" (¬3). وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد، هي وجه في المذهب (¬4). قال ابن قدامة: "وفي إجارة المصحف وجهان ... الثّاني: تجوز إجارته" (¬5). وقال المرداوي: "في جواز إجارة المصحف ليقرأ فيه ثلاث روايات الكراهة، والتحريم والإباحة، أطلقهن في الفروع، والخلاف هنا مبني على الخلاف في بيعه، أحدها: لا يجوز وهو المذهب، الثّاني: يجوز. وقيل يباح" (¬6). القول الثّاني: يكره تأجير المصحف للقراءة فيه. وهذا القول هو إحدى الروايات عن الإمام أحمد كما تقدّم من قول المرداوي (¬7) القول الثّالث: لا يجوز تأجير المصحف للقراءة فيه. ¬

_ (¬1) المدوّنة الكبرى 4/ 418، والسائل هو سحنون، والمجيب هو ابن القاسم صاحب مالك. (¬2) روضة الطالبين للنووي 5/ 256، المجموع للنووي 9/ 252. (¬3) روضة الطالبين للنووي 5/ 256. (¬4) المغني لابن قدامة 8/ 134، الفروع لابن مفلح 4/ 14، 16، الإنصاف للمرداوي 6/ 27. (¬5) المغني لابن قدامة 8/ 134. (¬6) الإنصاف للمرداوي 6/ 27. (¬7) الفروع لابن مفلح 4/ 14، 16، الإنصاف للمرادي 6/ 27.

الأدلة والمناقشة

وبهذا قال الحنفية (¬1)، قال الموصلّي (¬2) في الاختيار: "ولو استأجر مصحفًا أو كتابًا ليقرأ منه لم يجز ولا أجرة له" (¬3). وهذا القول هو إحدى الروايات عن أحمد، هي المذهب كما تقدّم ذلك في كلام المرداوي. الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة أصحاب القول الثّالث: استدل أصحاب هذا القول القائلون بتحريم استئجار المصحف للقراءة فيه بما يأتي: 1 - استدل هؤلاء بالأدلة الدالة على المنع من بيع المصحف وشرائه، وقد تقدّمت هذه الأدلة مفصلة (¬4). وجه الاستدلال من هذه الأدلة: قالوا: إذا كان بيع المصحف محرمًا فإجارته محرّمة كذلك؛ لأنَّ ما لا يجوز بيعه لا تجوز إجارته، قال المرداوي: "ما حرم بيعه حرم إجارته" (¬5). ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي 16/ 36، بدائع الصنائع للكاساني 4/ 175، فتاوى قاضي خان 2/ 321، مجمع الأنّهر لداماد أفندي 2/ 385. (¬2) هو: عبد الله بن محمود بن مودود بن محمود أبو الفضل مجد الدِّين الموصلّي الحنفي، ولد بالموصل سنة 599 هـ، كان إمامًا في الأصول والفروع له مؤلفات كثيرة منها: المختار وشرحه الاختيار لتعليل المختار، وكتابه المختار أحد المتون الأربعة الّتي عليها مدار الفنون عند المتأخرين، تولى القضاء بالكوفة، ثمّ عزل، وما زال يدرس ويفتي إلى أن مات سنة 683 هـ. انظر: الجواهر المضية للقرشي 2/ 349، الفوائد البهية للكنوي ص: 106. (¬3) الإنصاف للمرداوي 6/ 27. (¬4) راجع ص 542. (¬5) الإنصاف للمرداوي 6/ 27.

مناقشة الاستدلال

مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذه الأدلة بأنّه لا يسلم أن بيع المصاحف لا يجوز حيث تقدّم أن الراجح هو جواز بيعها وشرائها بلا كراهة (¬1)، وعليه فلا يصح الاستدلال بتلك الأدلة على المنع من إجارة المصحف. 2 - استدلوا كذلك ببعض الأدلة الأخرى ومنها: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ في عدم إجارة المصحف إجلالًا لكلام الله تعالى وكتابه عن المعارضة به وابتذاله بالأجرة في الإجارة (¬2). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الدّليل: بأنّه لا يسلم أن في إجارة المصحف ابتذال لكتاب الله تعالى، أو عدم إجلال له؛ لأنَّ الإجارة ليست واقعة على كلام الله تعالى إنّما الإجارة واقعة على الورق، وما بذل من جهد وعمل، ثمّ إنَّ الإجارة ليس فيها في -حدّ ذاتها- ابتذال، بل هي أمر شرعه الله تعالى لمصالح عظيمة. الدّليل الثّاني: قالوا: إنّه ليس في إجارة المصحف أكثر من النظر إلى المصحف، ولا تجوز الإجارة لمثل ذلك، بدليل أنّه لا يجوز أن يستأجر سقفًا لينظر إلى عمله وتصاويره، أو شمعًا ليتجمل به (¬3). ¬

_ (¬1) راجع ص 548. (¬2) المغني لابن قدامة 8/ 138. (¬3) الاختيار لتعليل المختار للموصلّي 2/ 60، المغني لابن قدامة 8/ 134، 135.

مناقشة الاستدلال

مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الدّليل بأن النظر في المصحف ليس كالنظر في غيره، فإن النظر في المصحف يحتاج إليه للقراءة والحفظ، والنسخ منها ونحو ذلك من الفوائد العظيمة المطلوبة شرعًا، وهو انتفاع مقصود محتاج إليه بخلاف النظر إلى السقف، ونحوه فلا حاجة إليه، وعليه فلا يصح القياس على هذه الأشياء فإنّه قياس مع الفارق (¬1). ثانيًا: أدلة أصحاب القول الثّاني: استدل هؤلاء بالأدلة الدالة على كراهة بيع المصحف وقد سبق ذكرها وما ورد عليها من مناقشات (¬2). ثالثًا: أدلة أصحاب القول الأوّل: استدل أصحاب هذا القول بأدلة من السُّنَّة والمعقول: أ - الدّليل من السُّنَّة: عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (إنَّ أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله) (¬3). وجه الاستدلال: أن هذا الحديث خرج مخرج العموم فيدخل فيه إجارة الصحف، فتباح. ب- الأدلة من المعقول: الدّليل الأوّل: إنَّ إجارة المصحف انتفاع مباح يحتاج إليه وتجوز الإعارة له، فجازت إجارته كسائر المنافع (¬4). ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة 8/ 135. (¬2) راجع ص 544. (¬3) سبق تخريجه، راجع ص 402. (¬4) المغني لابن قدامة 8/ 135.

الدليل الثاني

الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ المصحف يجوز بيعه فتجوز إجارته قياسًا عليه (¬1). الترجيح: بعد ذكر الأدلة وما ورد عليها من مناقشات يظهر أن القول الأوّل القائل بإباحة إجارة المصحف هو الراجح لما يأتي: أوَّلًا: قوة ما استدلوا به حيث استدلوا بأدلة من السُّنَّة المعقول، والدّليل من السُّنَّة دلالته ظاهرة على إباحة الأجرة. ثانيا: أنّه أمكن مناقشة أدلة الأقوال الأخرى، حيث جاءت في معظمها أدلة ضعيفة في الدلالة على المطلوب. ¬

_ (¬1) المدوّنة للإمام مالك 4/ 418.

المبحث الثاني أخذ المال على العلوم الشرعية

المبحث الثّاني أخذ المال على العلوم الشرعية المطلب الأوّل أخذ المال على طلب العلم (¬1) لا بد للناس من العلم، بل لا تستقيم حياتهم بدونه، ومن هنا كان لطالب العلم مكانة لا تعدلها مكانة، فطالب العلم اليوم، هو عالم الغد، فهو القاضي، وهو المفتي، وهو معلم النَّاس الخير. وطلب العلم الشرعي من أجل القرب، وأفضل الطاعات، ولذا فإن طالب العلم له منزلة عظيمة عند الله تعالى، كيف لا؟ وأفضل العلم وأشرفه هو العلم بالله تعالى، وشرف العلم، يكون بشرف المعلوم (¬2). ¬

_ (¬1) 1) يشمل طلب العلم: تعلم القرآن الكريم حفظًا وتجويدًا وتفسيرًا، وتعلم العلوم الشرعية من فقه وأصول وتوحيد وحديث وغير ذلك من علوم الشّريعة. (¬2) وقد ورد في فضل طلب العلم نصوص كثيرة من الكتاب والسُّنَّة، منها ما يلي: (أ) قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] (ب) قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. (جـ) حديث معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (من يردّ الله به خيرًا يفقهه في لدِّين). أخرجه البخاريّ في مواضع من صحيحه منها: كتاب العلم، باب من يردّ الله به خيرًا يفقهه في الدِّين 1/ 197 (71) وأخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرمي ... 2/ 719 (1037). (د) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (من سلك طريقًا يلتمس فيه لمًا، سهّل الله له طريقًا إلى الجنّة). أخرجه أبو داود، كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم 4/ 317 (3643) والترمذي في العلم، باب إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا فقهه في الدِّين 5/ 28 (2646)، قال التّرمذيّ: هذا حديث حسن.

النوع الأول: الأرزاق

من أجل ذلك فقد اعتنت الشّريعة الغراء بطالب العلم عناية فائقة وأحاطه فقهاء الإسلام بأحكام كثيرة وآداب جمة، ومن تلك الأحكام ما يتعلّق بخاصة نفسه من حيث ما يحتاج إليه في حياته المعيشية من مأكل وملبس ومسكن وكتب وغير ذلك من آلة الطلب والبحث، وقد تكلم الفقهاء فيما يخص طالب العلم من نفقة ومال يُعينه على الطلب حتّى يؤدِّي رسالته على أكمل وجه ومن ثمّ يعود نفعه ويظهر أثره في المجتمع. وما يؤخذ من مال على طلب العلم الشرعي يعود في مجمله إلى ثلاثة أنواع: النوع الأوّل: الأرزاق لا خلاف بين الفقهاء في جواز أخذ طالب العلم الرزق من بيت المال، وذلك؛ لأنَّ بيت المال معد لمصالح المسلمين العامة وطلب العلم منها، فإذا فرغ طالب العلم نفسه لإفادة العلم واستفادته، فإنّه يأخذ كفايته من بيت مال المسلمين (¬1). قال الغزالي: "كلّ من يتولى أمرًا يقوم به، تتعدى مصحلته إلى المسلمين ولو اشتغل بالكسب لتعطل عليه ما هو فيه فله في بيت المال حق الكفاية، ويدخل فيه العلماء كلهم أعني العلوم الّتي تتعلّق بمصالح الدِّين من علم الفقه والحديث والتفسير والقراءة حتّى يدخل فيه المعلمون والمؤذنون، وطلبة هذه العلوم أيضًا يدخلون فيه فإنهم إنَّ لم يكفوا لم يتمكنوا من الطلب" (¬2). ويلحق بالرزق من بيت المال، المال الموقوف على طلبة العلم (¬3) والموصى به ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي 3/ 18، حاشية ابن عابدين 2/ 58، 3/ 281، الشرح الصغير للدردير 2/ 295، حاشية الدسوقي 1/ 497، 498، إحياء علوم الدِّين للغزالي 2/ 217، تحرير المقال فيما يحل ويحرم من بيت المال، ص: 149، حاشية قليوبي 2/ 213، المغني لابن قدامة 9/ 198. (¬2) إحياء علوم الدِّين للغزالي 2/ 217. (¬3) وقد اتفق الفقهاء على صحة الوقف على طلبة العلم؛ لأنّها جهة برّ والغالب في طلبة العلم الفقر والحاجة. انظر لبيان ذلك: حاشية ابن عابدين 3/ 376، الشرح الصغير للدردير 4/ 108، 118، 124، روضة الطالبين للنووي 5/ 321، كشاف القناع للبهوتي 4/ 245.

النوع الثاني: الزكاة

لهم، والمال المنذور، فكل ذلك في معنى الرزق، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأمّا ما يؤخذ من بيت المال فليس عوضًا وأجرة بل رزق للإعانة على الطّاعة، فمن عمل منهم لله أثيب، وما يأخذ من رزق للمعونة على الطّاعة، وكذلك المال الموقوف على أعمال البرّ، والموصى به كذلك، والمنذور كذلك ليس كالأجرة" (¬1). النوع الثّاني: الزَّكاة اتفق الفقهاء رحمهم الله تعالى على جواز إعطاء طالب العلم من الزَّكاة، وقد صرّح بهذا فقهاء الحنفية (¬2) والمالكية (¬3) والشّافعيّة (¬4) والحنابلة (¬5)، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (¬6). قال علاء الدِّين الحصفكي (¬7): "وطالب العلم يجوز له أخذ الزَّكاة ولو غنيًا إذا ¬

_ (¬1) الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية للبعلي، ص: 153. (¬2) شرح فتح القدير لابن الهمام 2/ 15، 27، الدر المختار للحصفكي مع حاشية ابن عابدين 2/ 59، 682، 3/ 280، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح، ص: 592، حاشية ابن عابدين 2/ 59، مجمع الأنّهر شرح ملتقى الأبحر 1/ 220. (¬3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1/ 497، 498، وقد نقل الدسوقي ذلك عن جمع من المالكية، إِلَّا أنّهم اتفقوا على تقييد ذلك بما إذا كان الطالب قد منع حقه من بيت المال. (¬4) المجموع للنووي 6/ 190. (¬5) شرح منتهى الإرادات للبهوتي 2/ 425، كشاف القناع للبهوتي 2/ 273. (¬6) الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية للبعلي، ص: 105. (¬7) هو: محمَّد بن علي بن محمَّد، الحصني، المعروف بعلاء الدِّين الحصفكي، الفقيه الحنفي، ولد بدمشق سنة 1025 هـ، رحل في طلب العلم إلى الرملة ثمّ القدس ثمّ مكّة والمدينة ثمّ رجع إلى دمشق، له مؤلفات كثيرة منها: الدر المختار في شرح تنوير الأبصار للتمرتاشي، الدر المنتفى شرح ملتقى الأبحر، شرح قطر الندى في النحو، وغيرها، توفي سنة 1088 هـ بدمشق. انظر: خلاصة الأثر للمحبي 4/ 63، الأعلام للزركلي 6/ 294.

فرغ نفسه لإفادة العلم واستفادته، لعجزه عن الكسب والحاجة داعية إلى ما لا بد منه" (¬1). قال الدسوقي: "لا تعطى الزَّكاة للعالم والمفتي والقاضي إِلَّا أن يُمنعوا حقهم من بيت المال، وإلَّا جاز لهم الأخذ بوصف الفقر، أمّا الغني فلا يجوز له الأخذ، وقال اللخمي وابن رشد: إذا منعوا من بيت المال جاز لهم أخذ الزَّكاة مطلقًا سواء أكانوا فقراء أم كانوا أغنياء بالأولى من الأصناف المذكورة في الآية" (¬2). وقال النوويّ: "ولو قدر على كسب يليق بحاله إِلَّا أنّه مشتغل بتحصيل بعض العلوم الشرعية، بحيث لو أقبل على الكسب لانقطع عن التحصيل، حلت له الزَّكاة؛ لأنَّ تحصيل العلم فرض كفاية" (¬3). وقال البهوتي: "وإن تفرغ قادر على الكسب تفرغًا كليًا للعلّم الشرعي .. وتعذر الجمع بين التكسب والاشتغال بالعلّم أعطي من الزَّكاة لحاجته .. ويجوز أخذه ما يحتاج إليه من كتب العلم الّتي لا بد لمصلحة دينه ودنياه منها" (¬4). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن ليس معه ما يشتري به كتبًا يشتغل فيها بعلم الدِّين، يجوز له الأخذ من الزَّكاة ما يشتري له به ما يحتاج إليه من كتب ¬

_ (¬1) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 2/ 59. تنبيه: أخذ طالب العلم من الزَّكاة مع الغنى، يأتي بحثه في مسألة مستقلة. (¬2) حاشية الدسوقي 1/ 497، 498. (¬3) المجموع للنووي 6/ 190. (¬4) شرح منتهى الإرادات للبهوتي 2/ 425.

العلم الّتي لا بد لتعلم دينه ودنياه منها" (¬1). فالذي يظهر من كلام العلماء السابق أن طالب العلم يأخذ من الزَّكاة وإن كان قادرًا على الكسب ببدنه؛ لأنّه لو أقبل على التكسب لنفسه انقطع عن تحصيل العلم وإفادته فيضعف الدِّين لعدم من يتحمله (¬2). ولكن بقيت هنا مسألة وهي: هل يجوز لطالب العلم الأخذ من الزَّكاة مع الغنى؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين: القول الأوّل: لا يجوز لطالب العلم الأخذ من الزَّكاة مع الغنى. وإلى هذا ذهب جمهور العلماء، فقد قال به بعض الحنفية وهو الأوجه عندهم (¬3). وبه قال بعض المالكية، وهو الراجح عندهم (¬4). وهو قول الشّافعيّة (¬5) والحنابلة (¬6). القول الثّاني: يجوز لطالب العلم الأخذ من الزَّكاة مع الغنى. ¬

_ (¬1) الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية للبعلي، ص: 105. (¬2) قلت: ولعلّ كلام العلماء هنا متوجه إلى من تعلّق تكسبه ببدنه وتعذر عليه الجمع بين طلب العلم والتكسب، أمّا من كان يملك عقارًا أو شركة أو مصنعًا مثلًا يدر عليه دخلًا يغنيه ولا يتطلب ذلك منه مجهودًا بدنيًا يقطعه عن الطلب لتمكنه من إدارته بوكيله أو مديره، فإنّه حينئذ لا يجوز له الأخذ من الزَّكاة لانتفاء العلّة، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا. (¬3) حاشية ابن عابدين 2/ 59. (¬4) حاشية الدسوقي 1/ 497، 498. (¬5) المجموع للنووي 6/ 190. (¬6) شرح منتهى الإرادات للبهوتي 2/ 425.

سبب الخلاف

وبهذا قال بعض الحنفية (¬1)، وبعض المالكية (¬2). سبب الخلاف: يرجع سبب الخلاف في هذه المسألة إلى إلحاق طالب العلم بالعامل على الزَّكاة، فمن ألحقه بالعامل قال يجوز الأخذ من الزَّكاة مع الغنى، كالعامل فإنّه يأخذ من الزَّكاة مع الغنى بالاتفاق (¬3). ومن لم يلحقه بالعامل، بل أعطاه بوصف الفقر قال: لا يأخذ مع الغنى وفي هذا نظر كما لا يخفى، فإن وصف الفقر يجيز الأخذ من الزَّكاة وإن لم يكن طالب علم فرغ نفسه لذلك. ثمّ إنَّ ما يأخذه العامل على الزَّكاة إنّما هو أجرة على الراجح كما تقدّم (¬4)، وليس زكاة وإن كان ما يأخذه من الزَّكاة بخلاف طالب العلم فإن ما يأخذه من الزَّكاة إنّما هو على سبيل الرزق وإن أخذه من الزَّكاة، والجامع بينه وبين العامل أن كلًا منهما قد فرغ نفسه لمصلحة المسلمين فتكون كفايته في أموالهم ويفترقان بأن العامل إنّما يأخذ في مقابلة عمله وجهده وسعيه في تحصيل الزَّكاة وتفريقها، وأمّا طالب العلم فإنّه يأخذ من الزَّكاة في مقابلة تفريغ نفسه وتركه التكسب لإفادة العلم واستفادته، ومصلحة ذلك راجعة إلى المسلمين فتكون كفايته في مالهم. وهذا ما جعل كثير من العلماء يقيدون ذلك -أعني أخذ طالب العلم من الزَّكاة- بما إذا كان طالب العلم لا يأخذ كفايته من بيت المال، فإذا تعذر الأخذ من بيت المال تعين الأخذ حينئذ من مال الزَّكاة. ¬

_ (¬1) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 2/ 59، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح، ص: 592، حاشية ابن عابدين 2/ 59، وقد نقل ذلك عن السرخسي. (¬2) حاشية الدسوقي 1/ 497، 498. (¬3) راجع ص 246 عند الكلام عن العامل الزَّكاة في مسائل أخذ المال على الزَّكاة. (¬4) راجع ص 262 من مباحث الزَّكاة

الأدلة والمناقشة

الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة أصحاب القول الثّاني: استدل من قال بجواز أخذ طالب العلم من الزَّكاة مع الغنى بما يأتي: الدّليل الأوّل: ما روي أن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: (يجوز دفع الزَّكاة لطالب العلم وإن كان له نفقة أربعين سنة) (¬1). وجه الاستدلال: حيث دلّ الحديث بظاهره على دفع الزَّكاة لطالب العلم مع غناه؛ لأنَّ من يملك نفقة أربعين سنة فهو من الأغنياء. مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة الاستدلال بهذا الحديث بما يأتي: أن هذا يسلم لو كان هذا الحديث يصح رفعه إلى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، ولكن هذا الحديث لا أصل له، ولا يوجد في دواوين السُّنَّة المعروفة فلا عبرة في الاحتجاج به. الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ طالب العلم لما فرغ نفسه لإفادة العلم واستفادته، مع حاجته إلى أشياء ضرورية لا غنى له عنها، فإذا لم يجز له قبول الزَّكاة مع عدم اكتسابه أنفق ما عنده ¬

_ (¬1) هذا الحديث ذكره ابن عابدين في حاشيته 2/ 59، وفي منحة الخالق على البحر الرائق 2/ 260، محتجًا به على جواز دفع الزَّكاة لطالب العلم وإن كان غنيًا، ولم يعزه إلى من رواه، وبعد البحث الشديد لم أجده في الكتب الستة ولا غيرها من المسانيد والمصنفات وكتب السُّنَّة المعروفة وغير المعروفة الّتي أمكن الوقوف عليها، وقد سألت عنه كثيرًا من أهل العلم، ولم أتمكن من الوقوف عليه، والذي يظهر أنّه ليس بحديث، ولعلّه من كلام بعض أهل العلم. والله تعالى أعلم.

مناقشة الاستدلال

من مال ومكث محتاجًا فينقطع عن الإفادة والاستفادة، فيضعف الدِّين لعدم من يتحمله، من أجل ذلك فإنّه يعطى من الزَّكاة ولو كان غنيًا (¬1). مناقشة الاستدلال: تمكن مناقشة هذا الدّليل بما يأتي: أن هذا افتراض لا أساس له من الواقع؛ لأنَّ طالب العلم إذا كان غنيًا فأنفق ما عنده حتّى بلغ درجة الحاجة، فإنّه حينئذ تحل له الزَّكاة بالاتفاق، وذلك لفقره وحاجته، فإذا أخذ من الزَّكاة كفايته لم يمكث حينئذ محتاجًا، ومن ثمّ لا ينقطع عن إفادة العلم واستفادته، فبطل بذلك ما افترضوه في هذا الدّليل. ثانيًا: أدلة أصحاب القول الأوّل: استدل جمهور الفقهاء القائلون بعدم الأخذ من الزَّكاة مع الغنى بما يأتي: قالوا: إنَّ طالب العلم إذا كان غنيًا، فإنّه حينئذ لا يكون داخلًا في الأصناف الزكوية، فلا يحل له الأخذ من الزَّكاة (¬2). الترجيح: الراجح من القولين هو قول الجمهور؛ لقوة ما عللوا به إذ إنَّ الله تعالى قد نصّ على مصارف الزَّكاة، ومنها الفقير والمسكين، ومفهومه أنّها لا تحل لغني وإلَّا لما كان للتنصيص على الفقير والمسكين معنى. ثمّ إنّه أمكن مناقشة ما استدل به أصحاب القول الآخر بما يخرجها عن دلالتها. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين 2/ 59. (¬2) حاشية ابن عابدين 2/ 59، حاشية الدسوقي 1/ 497، كشاف القناع للبهوتي 2/ 271.

النوع الثالث: النفقة

النوع الثّالث: النفقة (¬1) أجمع أهل العلم على وجوب نفقة الوالدين والمولودين، إذا توفرت شروط الوجوب (¬2). أمّا ما عدا الوالدين والمولودين من الأقارب، فقد ذهب الجمهور إلى أنّه إذا كان القريب من عمودي النسب، وجبت نفقته مطلقًا (¬3)، وذهب المالكية إلى وجوب النفقة على الشخص لأبيه الأدنى فقط ولأمه الّتي ولدته خاصّة، فأمّا نفقة الأولاد، فتجب للابن الأدنى فقط حتّى يبلغ ولبنته الدنيا فقط حتّى تزوّج (¬4). وأمّا إذا كان القريب من غير عمودي النسب، فقد ذهب إلى وجوب النفقة له كذلك الحنفية (¬5) والحنابلة (¬6)، وخالف في ذلك المالكية (¬7) والشّافعيّة (¬8) على تفاوت بين الفقهاء في شرائط ذلك وضوابطه. ¬

_ (¬1) النفقة شرعًا: (هي كفاية الإنسان من يمونه بالمعروف) وذلك من مأكل وملبس ومسكن وتعليم وإعفاف وغير ذلك: الروض المربع مع حاشية ابن قاسم 7/ 107. (¬2) مراتب الإجماع لابن حزم، ص: 79، المغني لابن قدامة 11/ 373 نقلًا عن ابن المنذر، قال ابن قدامة: "وأمّا الإجماع فحكى ابن المنذر قال: أجمع أهل العلم على أن نفقة الوالدين الفقيرين اللذين لا كسب لهما ولا مال واجبة في مال الولد، وأجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أن على المرء نفقة أولاده الأطفال الذين لا مال لهم". (¬3) بدائع الصنائع للكاساني 4/ 30، 31، شرح فتح القدير لابن الهمام 3/ 350، مغني المحتاج للشربيني 3/ 446، نهاية المحتاج للرملي 7/ 220، المغني لابن قدامة 11/ 372. (¬4) قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي، ص: 246، حاشية الدسوقي 2/ 522. (¬5) بدائع الصنائع للكاساني 4/ 30، 31، تببين الحقائق للزيلعي 3/ 64. (¬6) المغني لابن قدامة 11/ 373 وما بعدها، زاد المعاد لابن القيم 5/ 548. (¬7) الشرح الصغير للدردير مع حاشية الصاوي 2/ 750 - 753. (¬8) مغني المحتاج للشربيني 3/ 446، وما بعدها، حاشية البجيرمي على الخطيب 4/ 65، 66.

طالب العلم الشرعي

ومن الشروط الّتي اشترطها الفقهاء لوجوب النفقة: أن يكون طالب النفقة فقيرًا لا مال له، عاجزًا عن كسب يستغني به عن إنفاق غيره (¬1). فإذا كان طالب النفقة موسرًا فلا نفقة له، وإذا كان قادرًا على الكسب فإنّه لا يستحق النفقة؛ لأنّه بقدرته على الكسب يكون مستغنيًا وتكون نفقته على نفسه كما لو كان غنيًا بماله. وقد استثنى الفقهاء من شرط القدرة على الكسب بعض الأشخاص وهؤلاء الأشخاص تجب لهم النفقة وإن كانوا قادرين على الكسب ما داموا فقراء، فهؤلاء يعتبرون في حكم العاجز عن الكسب فتجب له النفقة. ومن هؤلاء: طالب العلم الشرعي: قال الفقهاء: إنَّ طالب العلم الشرعي الّذي لا يتفرغ للكسب، بل هو مشتغل بالعلّم منصرف إليه، فهذا يعتبر عاجزًا عن الكسب، فتجب له النفقة وإن كان قادرًا على الكسب (¬2). وقد استدل الفقهاء على ذلك بما يأتي: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ اشتغال طالب العلم بالكسب عن التحصيل وطلب العلم يؤدِّي إلى ضياع العلم، والتعطيل، فيضعف الدِّين لعدم من يتحمله وفي هذا من الفساد ما لا يخفى، من أجل ذلك وجبت له النفقة (¬3). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني 4/ 34، قوانين الأحكام الشرعية، ص: 246، الشرح الصغير للدردير 2/ 753، حاشية البجيرمي على الخطيب 4/ 67، المغني لابن قدامة 11/ 374. (¬2) شرح فتح القدير لابن الهمام 3/ 344، تببين الحقائق للزيلعي 3/ 64، حاشية ابن عابدين 2/ 672، حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 7/ 220، حاشية البجيرمي على الخطيب 4/ 67، حاشية قليوبي 4/ 85، كشاف القناع للبهوتى 2/ 271. (¬3) حاشية ابن عابدين 2/ 672.

الدليل الثاني

الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ اشتغال طالب العلم بالطلب والتحصيل، يجعله عاجزًا عن الكسب ولا يهتدي إليه، فلا تسقط نفقته عن الأب كالزمن والأنثى (¬1). الدّليل الثّالث: قالوا: لما كان طالب العلم مشتغلًا بالعلّم والطلب والإفادة والاستفادة والكسب يمنعه من ذلك وجبت له النفقة قياسًا على الزَّكاة (¬2). ومن خلال كلام أهل العلم نجد أنّهم اشترطوا لوجوب النفقة لطالب العلم: أن يكون مشتغلًا حقيقة بالطلب والتحصيل والإفادة والاستفادة، مجدًا في ذلك، رشيدًا مستقيمًا، غير منشغل عن التحصيل والطلب والاستفادة. قال ابن عابدين: "الحقال في تقبله الطباع المستقيمة، ولا تنفر منه الأذواق السليمة القول بوجوبها -أي النفقة- لذي الرشد لا غيره ولا حرج في التمييز بين المصلح والمفسد لظهور مسالك الاستقامة وتمييزه من غيره" (¬3). وخلاصة ما عليه الراجح من أقوال الفقهاء أن طالب العلم إذا كان رشيدًا بمعنى أن يكون ناجحًا في طلب العلم، مجدًا فيه مفيدًا ومستفيدًا، وكان فقيرًا، فإن النفقة تجب له على أبيه أو على قريبه ذي الرّحم المحرم -على خلاف في الأخير-؛ لأنّه يعتبر عاجزًا عن الكسب بطلب العلم إذ طلب العلم وتحصيله يشغله عن كسب قوته وحاجاته الضرورية. أمّا إذا كان طالب العلم غير رشيد ولا مجد في الطلب، ولا هو حريص عليه، فإنّه في هذه الحالة لا يستحق نفقة في مال غيره، ما دام صحيحًا قادرًا على كسب قوته. ¬

_ (¬1) البناية شرح الهداية للعيش 5/ 539. (¬2) حاشية الشبراملسي 7/ 220، حاشية البجيرمي 4/ 67. (¬3) حاشية ابن عابدين 2/ 672.

وليس معنى كون طالب العلم يعتبر عاجزًا عن التكسب بطلبه للعلّم أن ذلك يكون شأنّه دائمًا، فقد يكون متكسبًا حقيقة ومشتغلًا في ذات الوقت بطلب العلم إذا كان التكسب لا يمنعه ولا يشغله عن طلب العلم، كأن تكون له تجارة، أو عقارات أو نحو ذلك ممّا يدر عليه دخلًا، ولا يحتاج منه إلى تفرغ واشتغال بالكسب أو يحتاج منه إلى تفرغ لكنه لا يشغله عن طلب العلم، فمثل هذا لا تجب له النفقة؛ إذ النفقة وجبت للحاجة والعجز عن التكسب، وهو في هذه الحالة ليس كذلك فلا نفقة له (¬1). ¬

_ (¬1) الأحوال الشخصية لعبد العزيز عامر، ص: 519.

المطلب الثاني أخذ المال على تعليم العلوم الشرعية

المطلب الثّاني أخذ المال على تعليم العلوم الشرعية (¬1) لا خلاف بين العلماء في أن تعليم العلوم الشرعية احتسابًا بدون أجرة جائز، بل هو من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله تعالى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "أمّا تعليم القرآن والعلّم بغير أجرة فهو أفضل الأعمال وأحبها إلى الله تعالى، وهذا ممّا يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، ليس هذا ممّا يخفى على أحد ممّن نشأ بديار الإسلام. والصحابة والتابعون وتابعو التابعين وغيرهم من العلماء المشهورين عند الأُمَّة بالقرآن والحديث والفقه، إنّما كانوا يعلمون بغير أجرة، ولم يكن فيهم من يعلم بأجرة أصلًا ... وتعليم القرآن والحديث والفقه وغير ذلك بغير أجرة لم يتنازع العلماء في أنّه عمل صالح فضلًا عن أن يكون جائزًا، بل هو من فروض الكفاية ... " (¬2). ولا خلاف بين الفقهاء في جواز أخذ الرزق من بيت المال على تعليم العلوم الشرعية؛ لأنَّ ما يؤخذ من بيت المال ليس بعوض إنّما هو إحسان ومعروف وإعانة على الطّاعة (¬3)، ولدعاء الحاجة إلى القيام بذلك ¬

_ (¬1) الكلام في هذه المسألة كالكلام في مسألة (أخذ المال على تعليم القرآن)، وكان بالإمكان جعلهما مسألة واحدة، إلّا أن بعض العلماء فرقوا في الحكم بين المسألتين كالمالكية، ولذا فقد جعلتها مسألة مستقلة. (¬2) مجموع الفتاوى لابن تيمية 30/ 204، 205، أضواء البيان للشنقيطي 3/ 18. (¬3) المبسوط للسرخسي 3/ 18، الاختيار لتعليل المختار للموصلّي 4/ 141، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/ 336، الفروق للقرافي 3/ 4، الشرح الصغير للدردير 2/ 295، حاشية قليوبي 4/ 296، المغني لابن قدامة 8/ 139، كشاف القناع للبهوتي 4/ 12، 6/ 291، مجموع الفتاوى لابن تيمية 30/ 206، الاختيارات الفقهية لابن تيمية ص: 153، الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي 2/ 347، قال الخطيب رحمه الله: "وعلى الإمام أن يفرض لمن نصب نفسه لتدريس الفقه والفتوى في الأحكام، ما يغنيه عن الاحتراف والتكسب، ويجعل ذلك في بيت مال المسلمين". أضواء البيان للشنقيطي 3/ 22.

والانقطاع له (¬1). وأمّا أخذ الأجرة على تعليم العلوم الشرعية فقد اختلف الفقهاء في حكمه على أربعة أقوال: القول الأوّل: يجوز أخذ الأجرة على تعليم العلوم الشرعية، وذلك للحاجة والضرورة. وبهذا قال متأخرو الحنفية وعليه الفتوى (¬2)، وهو وجه في المذهب عند الشّافعيّة (¬3)، وقول عند الحنابلة (¬4)، اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (¬5). القول الثّاني: يكره أخذ الأجرة على تعليم العلوم الشرعية. وبهذا قال المالكية في المعتمد عندهم (¬6). القول الثّالث: يجوز مطلقًا أخذ الأجرة على تعليم العلوم الشرعية. وبهذا قال بعض المالكية (¬7)، وبه قال الشّافعيّة بشرط تعيين المتعلم وما يتعلمه من ¬

_ (¬1) كشاف القناع للبهوتي 6/ 291. (¬2) المبسوط للسرخسي 16/ 37، تببين الحقائق للزيلعي 5/ 125، مجموعة رسائل ابن عابدين 1/ 161. (¬3) تكملة المجموع للمطيعي 15/ 30. (¬4) الفروع لابن مفلح 4/ 435، الإنصاف للمرداوي 6/ 46، مجموع الفتاوى لابن تيمية 23/ 367. (¬5) مجموع الفتاوى لابن تيمية 30/ 205 - 207. (¬6) المدوّنة للإمام مالك 4/ 419، التاج والإكليل للمواق 5/ 418، مواهب الجليل للحطاب 5/ 418، حاشية الدسوقي 4/ 18، المعيار المعرب للونشريسي 8/ 236. (¬7) التاج والإكليل للمواق 5/ 418، حاشية الدسوقي 4/ 18، منح الجليل لعلّيش 7/ 487.

مسائل مضبوطة يعلمها له (¬1)، وهو قول عند الحنابلة (¬2)، قال المرداوي: "وهو الصحيح" (¬3)، وبه قال الظاهرية (¬4). القول الرّابع: لا يجوز مطلقًا أخذ الأجرة على تعليم العلوم الشرعية. وبهذا قال متقدمو الحنفية (¬5)، وهو المشهور من المذهب عند الحنابلة (¬6). قال الحجاوي (¬7): "ويحرم ولا تصح إجارة على عمل يختص فاعله أن يكون من أهل القربة وهو المسلم، ولا يقع إِلَّا قربة لفاعله كالحج ... وتعليم قرآن وفقه وحديث، وكذا القضاء، قاله ابن حمدان (¬8) " (¬9). ¬

_ (¬1) روضة الطالبين للنووي 5/ 188، مغني المحتاج للشربيني 2/ 344، نهاية المحتاج للرملي 5/ 193. (¬2) الفروع لابن مفلح 4/ 435، الإنصاف للمرداوي 6/ 47. (¬3) تصحيح الفروع 4/ 435. وقال في الإنصاف 6/ 47: "وهو المذهب على المصطلح". (¬4) المحلى لابن حزم 8/ 193. (¬5) المبسوط للسرخسي 16/ 37، بدائع الصنائع للكاساني 4/ 191، الهداية للمرغيناني مع شرحها فتح القدير لابن الهمام 7/ 179، مجموعة رسائل ابن عابدين 1/ 154. (¬6) الإنصاف للمرداوي 6/ 46، تصحيح الفروع للمرداوي 4/ 435، كشاف القناع للبهوتى 4/ 12. (¬7) هو: شرف الدِّين موسى بن أحمد بن موسى بن سالم الحجاوي المقدسي مفتي الحنابلة بدمشق من مؤلفاته: الإقناع لطالب الانتفاع في الفقه، شرح المفردات، زاد المستنقع وغيرها، توفي سنة: 968 هـ. انظر: النعت الأكمل للعامري ص: 124، مختصر طبقات الحنابلة لابن شطي ص: 93. (¬8) هو: أحمد بن حمدان بن شبيب بن حمدان بن شبيب بن حمدان، أبو عبد الله ابن أبي الثّناء، النميري الحراني، الفقيه الحنبلي الأصولي القاضي، نجم الدِّين، ولد سنة 603 هـ بحران، برع في شتى العلوم، وله تصانيف كثيرة منها: مختصر المغني، صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، والوافي وغيرها، توفي سنة 695 هـ. انظر: المنهج الأحمد للعلّيمي 4/ 345، المقصد الأرشد لابن مفلح 1/ 439. (¬9) الإقناع للحجاوي 2/ 301.

الأدلة والمناقشة

سبب الخلاف: سبب خلاف الفقهاء في حكم أخذ الأجرة على تعليم العلوم الشرعية هو نفسه سبب الخلاف الّذي تقدّم ذكره في حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم، وقد تقدّم مفصلًا فأغنى عن الإعادة (¬1). الأدلة والمناقشة: من الملاحظ أن الأقوال في هذه المسألة هي نفس الأقوال في مسألة أخذ الأجرة على تعليم القرآن مع اختلاف يسير يأتي بيانه. من أجل ذلك كانت أدلتهم في المسألتين واحدة، فأدلة من منع مطلقًا من أخذ الأجرة على تعليم القرآن هي نفس أدلتهم في المنع من أخذه الأجرة على تعليم العلوم الشرعية، وهكذا أدلة من أجاز مطلقًا، وأدلة من أجاز للحاجة والضرورة، وقد تقدّمت كلّ هذه الأدلة مع مناقشاتها فأغنى عن إعادتها (¬2). وقد استدل المالكية على كراهة الاستئجار على تعليم العلوم الشرعية بما يأتي: الدّليل الأوّل: قالوا: إنّه يخشى أن يؤدِّي الاستئجار على التعليم تقليل الطلب للعلّم الشرعي، والمطلوب هو كثرة طلبه، فلهذا تكره الإجار عليه (¬3). مناقشة الاستدلال: تمكن مناقشة هذا الدّليل: بأن أخذ الأجرة على تعليم القرآن إنّما تجوز للضرورة والحاجة، وهذا فيه محافظة على العلم وتكثير طلبه؛ لأنّه إذا لم تراع حاجة المعلم انصرف إلى الكسب وترك التعليم، وهذا فيه من الفساد وذهاب العلم ما لا يخفى، فإذا جاز للضرورة والحاجة فلا كراهة حينئذ. ¬

_ (¬1) راجع ص: 467. (¬2) راجع ص 467 مبحث أخذ المال على تعليم القرآن الكريم. (¬3) حاشية الدسوقي 4/ 18، الخرشي على خليل 7/ 19.

الدليل الثاني

الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ الإجارة على تعليم العلم الشرعي خلاف ما عليه السلف الصالح (¬1). تمكن مناقشة هذا الدّليل: بأن السلف وإن يكثر فيهم الاحتساب، وكان للعلّماء أعطيات من بيت المال، وتكثر في المتعلمين المروءة فلم يكن السلف بحاجة إلى الاستئجار على التعليم (¬2). الترجيح: الترجيح في هذه المسألة كالترجيح في مسألة تعليم القرآن الكريم، حيث يترجح القول الأوّل الّذي يقضي بجواز الاستئجار على تعليم العلوم الشرعية للحاجة والضرورة؛ لما في هذا القول من الجمع بين الأدلة والعمل بها جميعًا والعمل بالدّليلين أولى من إهمال أحدهما، ولغير ذلك من المرجحات الّتي سبق ذكرها في مسألة أخذ المال على القرآن الكريم (¬3). ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي 4/ 18، الخرشي على خليل 7/ 17، الفواكه الدواني 2/ 164. (¬2) المبسوط للسرخسي 16/ 37. (¬3) راجع ص 498 مطلب أخذ المال على تعليم القرآن الكريم.

المطلب الثالث أخذ المال على كتابة العلم الشرعي

المطلب الثّالث أخذ المال على كتابة العلم الشرعي وفيه مسألتان: المسألة الأولى: أخذ المال على نسخ كتب العلم وطباعتها القول في هذه المسألة كالقول في مسألة أخذ الأجرة على كتابة المصحف وطباعته، فإن كثيرًا من العلماء لم يفرقوا بين المسألتين. فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز أخذ الأجرة على نسخ كتب العلم وطباعتها، وممن قال بذلك: الحنفية (¬1)، وهو المعتمد عند المتأخرين من المالكية (¬2)، وهو قول الشّافعيّة (¬3) والحنابلة (¬4) والظاهرية (¬5). قال الإمام السرخسي: "ولو استأجر رجلًا يكتب له مصحفًا أو فقهًا معلومًا وإن جائزًا" (¬6). وقال عليش (¬7): " ... وعلى هذا فتجوز الإجارة على تعليمه وكتابته وهو أحسن، ولا أرى أن يختلف فيه اليوم لنقص فهم النَّاس وحفظهم عمن تقدّم" (¬8). ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي 16/ 42، حاشية ابن عابدين 5/ 56، 57. (¬2) حاشية الدسوقي 4/ 18، حاشية البناني على الزرقاني 7/ 20، منح الجليل لعلّيش 7/ 487. (¬3) حاشية قليوبي 3/ 74. (¬4) المغني لابن قدامة 8/ 38، كشاف القناع للبهوتي 4/ 10. (¬5) المحلى لابن حزم 8/ 193. (¬6) المبسوط للسرخسي 16/ 42. (¬7) هو: محمَّد بن أحمد بن محمَّد، أبو عبد الله، المعروف بالشيخ عليش الفقيه المالكي، أصله مغربي، ولد في القاهرة سنة 1217 هـ، وتعلم في الأزهر، ثمّ درس فيه، له مؤلفات كثيرة في الفقه المالكي من ذلك: فتح العلّي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك، منح الجليل على مختصر خليل، حاشية على الشرح الصغير للدردير، وغير ذلك كثير، توفي بالقاهرة سنة 1299 هـ انظر: شجرة النور الزكية لمخلوف، ص: 385، الأعلام للزركلي 6/ 19. (¬8) منح الجليل لعلّيش 7/ 487.

وقال قليوبي (¬1): "يصح الاستئجار للنساخة يبين كيفية الخط ورقته وغلظه، وعدد الأوراق وسطور كلّ صفحة كذا" (¬2). وقال ابن قدامة: "ويجوز استئجار ناسخ لينسخ له كتب فقه أو حديث أو شعر مباح أو سجلات، نصّ عليه ... ، ولا بد من التقدير بالمدة أو العمل" (¬3). وقال ابن حزم: "والإجارة جائزة على تعليم القرآن ... ونسخ كتب العلم" (¬4). وأمّا المالكية فقد ذهبوا في المعتمد في المذهب إلى كراهة أخذ الأجرة على نسخ كتب العلم (¬5)، وقد بنوا هذا القول على القول بكراهة بيع كتب الفقه، فإذا كره بيع كتب الفقه كرهت كتابتها، كما يكره كذلك أخذ الأجرة على تعليم الفقه ونحوه، وقد تقدّم قولهم في ذلك وما ذكروه من أدلة وما ورد عليها من مناقشات. والحق الذي لا ريب فيه أن ما ذهب إليه الجمهور هو الصواب وهو الأولى بالأخذ لما يأتي: أوَّلًا: لما تقدّم من أدلة على جواز كتابة المصحف وطبعه (¬6). ثانيًا: أن الكتابة عمل معلوم، وهو يتحقق من المسلم والكافر فلا يختص أن يكون فاعله من أهل القربة، فجاز أخذ الأجرة عليه (¬7). ¬

_ (¬1) هو: أحمد بن أحمد بن سلامة، أبو العباس، شهاب الدِّين القليوبي المصري، فقيه شافعي متأدب، له مؤلفات كثيرة وحواشي، منها: تحفة الراغب، تذكرة القليوبي، فضائل مكّة والمدينة، وغيرها، توفي سنة 1069 هـ انظر: خلاصة الأثر للمحبي 1/ 175، الأعلام للزركلي 1/ 92. (¬2) حاشية قليوبي 3/ 74. (¬3) المغني لابن قدامة 8/ 38. (¬4) المحلى لابن حزم 8/ 193. (¬5) شرح الزرقاني على خليل 7/ 20، منح الجليل لعلّيش 7/ 487. (¬6) راجع ص 538. (¬7) المبسوط للسرخسي 16/ 42.

المسألة الثانية: أخذ المال على التأليف والتحقيق

ثالثًا: إنَّ الاستئجار على كتابة العلم الشرعي أمر متعارف عليه من غير نكير، فدلّ على جوازه (¬1). وأمّا ما ذهب إليه المالكية من القول بالكراهة، فقد ردّ ذلك المحققون من أهل المذهب (¬2)، وبينوا أنّه لا ينبغي أن يختلف في جواز ذلك خاصّة في هذا الزّمان وعللوا ذلك بما يأتي: أوَّلًا: إنَّ حفظ النَّاس للعلّم قد نقص، وكذلك أفهامهم قد نقصت بخلاف ما كان عليه الصدر الأوّل من العلماء، وعليه فلا وجه للكراهة، بل القول بجواز ذلك هو الأولى والأحسن (¬3). ثانيًا: أن القول بكراهة كتابة العلم وطباعته يؤدِّي إلى ضياع العلم وذهاب رسمه فلا يصح القول بالكراهة (¬4). المسألة الثّانية: أخذ المال على التأليف (¬5) والتحقيق (¬6) المراد بهذه المسألة هو أخذ المال على التأليف والتحقيق في مجال العلوم الشرعية ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي 16/ 42. (¬2) انظر: حاشية الدسوقي 4/ 18، حاشية البناني على الزرقاني 7/ 20، منح الجليل للشيخ عليش 7/ 487. (¬3) حاشية البناني 7/ 20، منح الجليل لعلّيش 7/ 487. (¬4) حاشية الدسوقي 4/ 18، حاشية البناني على الزرقاني 7/ 20. (¬5) التأليف لغة: الجمع، والوصل، من ألّفت الشيء تأليفًا: إذا وصلت بعضه ببعض، ومنه تأليف الكتب، يقال: ألف الكتاب: إذا جمعه ووضعه، والمؤلَّف هو: الكتاب، يدون فيه علم أو فن أو أدب. انظر: لسان العرب لابن منظور 9/ 10، مادة: (أَلف)، المعجم الوسيط 1/ 24 مادة: (ألف). (¬6) التحقيق لغة: الإحكام والصّحيح، والإثبات، يقال: أحقّ الشيء: إذا أحكمه وصححه، وحقّق الشيءَ: أحكمه، ومنه كلام محقق: محكم الصنعة رصين. انظر: لسان العرب لابن منظور 10/ 49، مادة: (حقق)، المعجم الوسيط 1/ 187. والمراد بالتحقيق: هو خدمة النص من حيث إخراجه مصححًا أقرب ما يكون إلى لفظ مؤلفه، مع إدخال علامات الترقيم، وتمييز مقاطع الكلام وتخريج النصوص، وتفسير الغريب والتعريف بالأعلام ووضع الفهارس ونحو ذلك ممّا هو متعارف عليه: تحقيق النصوص ونشرها لعبد السّلام هارون، ص: 42 وما بعدها.

الأمر الأول: جلوسه للتعليم مشافهة

من تفسير وفقه وحديث ودعوة وغيرها من علوم الشّريعة المطهرة. والتأليف في مجال العلوم الشرعية هو من أهم الوسائل لتقييد العلم وتداوله ونشره بين النَّاس في كلّ عصر وفي كلّ مصر وما زال النَّاس ينتفعون بذلك، وإلى ما شاء الله تعالى، ولولا ذلك ما وصل إلينا ما وصل من علوم الشّريعة. والتأليف بهذه المثابة من أجل القرب وأفضل الطاعات، وهو من العلم الّذي ينتفع به صاحبه في حياته وبعد مماته ففي الدنيا برفع ذكره وثناء النَّاس عليه ودعائهم له، وفي الآخرة بالجزاء الأوفى من الله تعالى، وهو من عمل المرء الصالح الّذي ينتفع به في حياته ولا ينقطع بوفاته. ويدلُّ لذلك ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إِلَّا من ثلاث: صدقة جارية وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له) (¬1). والعلّم الّذي ينفع صاحبه في حياته وبعد موته يحصل بأمرين أو بأحدهما: الأمر الأوّل: جلوسه للتعليم مشافهة وهذا شأن العلماء في كلّ عصر وفي كلّ مصر من لدن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - وإلى عصرنا هذا، يجلسون لتعليم العلم في كلّ فن ويحمله عنهم طلابهم، ثمّ يقومون بدورهم بنشر هذا العلم ونقله إلى بعدهم، وهكذا. فيلحق العالم ثواب ذلك كله إلى ما شاء الله أن يكون. الأمر الثّاني: التأليف والتصنيف وهذه الطريقة من أجل الطرق لحفظ العلم وبقائه، فينتفع النَّاس بذلك في حياة المؤلِّف وبعد وفاته، وإلى أجيال كثيرة، وما نراه اليوم من كثرة المؤلِّفات ووفرة الأمهات في كلّ فن من فنون الشّريعة ما هو إِلَّا ثمرة من ثمرات التأليف وكتابة العلم وتحريره. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه، راجع ص 166 مبحث أخذ المال على الصّلاة.

أمّا ما يتعلّق بالأمر الأوّل وهو الجلوس للتعليم فقد سبق الكلام عليه من حيث جواز أخذ الرزق على التعليم وكذلك جواز أخذ الأجرة عليه على الراجح من أقوال العلماء. وأمّا ما يتعلّق بالأمر الثّاني وهو التأليف والتصنيف في مجال العلوم الشرعية فلا خلاف في أن من ألف كتابًا أو حقق كتابًا في علوم الشّريعة الّتي يحتاج إليها المسلمون واحتسب ذلك فلم يأخذ عليه عوضًا أن ذلك من أفضل القرب وأحبها إلى الله تعالى، وذلك أن الأصل هو نشر العلم احتسابًا، وهذا كان شأن علماء الأُمَّة منذ البعثة المحمدية وإلى يومنا هذا، فقد كان الصّحابة رضي الله عنهم، والتابعون وتابعوهم بإحسان، وغيرهم من الأئمة الأعلام، في الفقه والحديث والقرآن وغيرها من العلوم، يقومون بالتعليم ونشر العلم بين عامة النَّاس وفي كافة الأمصار احتسابًا لوجه الله تعالى، سواء أكان ذلك بالمشافهة أم بالكتابة (¬1). ولم تعرف هذه النازلة وهي أخذ الحقوق المالية على التأليف ونشر العلم إِلَّا في هذا العصر، وهذه النازلة تسمى (حق التأليف)، وهي أحد مفردات ما يسمى بالحقوق المعنوية. وقد برزت هذه النازلة في هذا العصر، في أعقاب التطور الهائل والسريع في وسائل الطباعة ونشر الكتب والأبحاث، وكان ذلك على إثر التوجه الكبير والعناية الفائقة، بالعلّم الشرعي والتأليف فيه (¬2). والذي يعنينا هنا من هذه الحقوق، هو العوض المالي على حق التأليف والتحقيق، وقد انبرى العلماء من أهل العصر لدراسة هذه النازلة وبيان حكمها الشرعي، والذي يهمنا هنا هو: حق التأليف في مجال العلوم الشرعية باعتباره قربة إلى الله تعالى. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 30/ 204 - 205، أضواء البيان للشيخ الشنقيطي 3/ 18. (¬2) فقه النوازل لبكر أبو زيد 2/ 77.

أولا: صورة المسألة

وسيكون البحث في هذه المسألة على النحو التالي: أوَّلًا: صورة المسألة: إذا قام عالم أو باحث بتأليف كتاب في العلم الشرعي، أو قام بتحقيق كتاب لأحد العلماء السابقين، فهل يجوز له أخذ العوض المالي من أجرة أو جعالة على هذا العلم أم لا؟ ثانيًا: تحرير محلّ النزاع: 1 - لا خلاف بأن التأليف أو التحقيق في غير العلوم الشرعية يجوز أخذه الأجرة عليه والاحتفاظ بحقوق التأليف فيها وبخاصة الحق المالي؛ لأنَّ التأليف أو التحقيق في هذه الحالة ليس بقربة بل هو أمر مباح، فيجوز أخذ العوض عليه، ومن نظائره: تعليم الخط والحساب والشعر ونحوها، فإنّه يجوز أخذ الأجرة على ذلك بغير خلاف (¬1). 2 - ولا خلاف بأن المؤلِّف أو المحقق إذا قام بطبع عمله أن له أن يأخذ عوض ما أنفقه من تكاليف النسخ والطبع والتوزيع، فإذا قام المؤلِّف ببيع كتابه بسعر ما تكلفه فلا حرج عليه في أخذ ذلك؛ لأنّه حقه أنفقه، فله استرجاعه (¬2). 3 - إذا قام المؤلِّف أو المحقق بنشر عمله هذا متبرعًا محتسبًا، فهذا من أحب الأعمال إلى الله تعالى، والله تعالى يجزيه على ذلك (¬3). ¬

_ (¬1) هذا النوع من التأليف لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة، فجاز أخذ العوض المالي عليه، على ما سبق تفصيله في التمهيد. وانظر: المبسوط للسرخسي 4/ 158، والمغني لابن قدامة 8/ 141. (¬2) وهذا ما يسمى عند أرباب الطباعة والنشر بسعر التكلفة، فالمؤلِّف يأخذ ما أنفقه من ماله الخاص دون زيادة في مقابلة التأليف أو التحقيق، وعليه فيكون ما يأخذه المؤلِّف في هذه الحالة خارج عن محلّ النزاع. (¬3) لأنَّ هذا من باب نشر العلم، ونشر العلم احتسابًا هو ما كان عليه الصدر الأوّل من الصّحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة وتقدم نقل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ذلك في مسألة أخذ الأجرة على التعليم.

القول الأول

4 - إذا قام المؤلِّف أو المحقق ببيع كتابة أو تأليفه إلى أحد دور النشر وأخذ العوض على ذلك، وكان غرضه هو الربح المادي، والاحتفاظ بحق التأليف المالي فهل يجوز له ذلك أم لا؟ اختلف فقهاء العصر والباحثون في حكم ذلك على قولين: القول الأوّل: يجوز للمؤلف أو المحقق أخذ العوض المالي على تأليفه أو تحقيقه في مجال العلوم الشرعية، وأن يحتفظ بهذا الحق، ويعد هذا حق مصون يحرم الاعتداء عليه (¬1). القول الثّاني: لا يجوز للمؤلف أو المحقق أخذ العوض المالي على تأليفه أو تحقيقه في العلوم الشرعية (¬2). سبب الخلاف: يرجع سبب الخلاف في هذه المسألة إلى ما يلي: أن التأليف والتحقيق في العلوم الشرعية قربة إلى الله تعالى كتعليم القرآن وأمور الاعتقاد والحلال والحرام، وهذه الأمور مختلف فيها، فجاء الخلاف هنا أثر الخلاف هناك، فمن قال: بجواز الاستئجار على القرب قال: بجواز أخذ العوض على التأليف لكونه قربة، ومن منع من الاستئجار على القرب، منع من أخذ العوض هنا، بجامع القربة في كلٍ (¬3). ¬

_ (¬1) مجلة المجمع الفقهي بجدة، الدورة الخامسة، العدد الخامس 3/ 2581، فقه النوازل لبكر أبو زيد، 2/ 131، حق المؤلِّف للدكتور نواف كنعان، ص: 21 - 30، الملكية للدكتور العبادي 1/ 196، حق الابتكار للدكتور الدريني، ص: 99 وما بعدها. (¬2) ملاحظات حول حقوق التأليف للدكتور عماد الدِّين خليل، نقلا عن تقي الدِّين النبهاني في كتابه مقدمة الدستور الإِسلامي، حق الابتكار للدريني ص: 153، فقه النوازل للشيخ بكر أبو زبد 2/ 142. (¬3) فقه النوازل للدكتور بكر أبو زيد 2/ 131.

الأدلة والمناقشة

الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة أصحاب القول الثّاني: استدل أصحاب هذا القول على ما ذهبوا إليه من المنع من أخذ العوض المالي على التأليف أو التحقيق في العلوم الشرعية بما يأتي: الدّليل الأوّل: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: (من كتم علمًا يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار) (¬1). وجه الاستدلال: أن حبس المؤلِّف لكتابه عن الطبع والتداول إِلَّا بثمن باب من أبواب كتم العلم، فيناله الوعيد، فيمتنع ذلك والله أعلم (¬2). مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الاستدلال بما يأتي: أن الوعيد في هذا الحديث متوجه لمن كتم العلم الّذي يلزمه تعليمه إياه، ويتعين عليه فرضه، كمن رأى كافرًا يريد الإسلام فيقول: علموني ما الإسلام وما الدِّين؟ وكمن يرى رجلًا حديث عهد بالإِسلام، ولا يحسن الصّلاة وقد حضر وقتها يقول: علموني كيف أصلّي؟ وكمن جاء مستفتيًا في حلال أو حرام يقول: أفتوني ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، كتاب العلم، باب كراهية منع العلم 3/ 321 (3658)، والترمذي، كتاب العلم، باب: ما جاء في كتمان العلم 5/ 29 (2649)، وابن ماجه في المقدِّمة، باب من سئل عن علم فكتمه 1/ 96 (261)، والحديث صحيح فقد صححه التّرمذيّ فقال: حديث أبي هريرة حديث صحيح، وصححه ابن حبّان 1/ 297، والحاكم 1/ 101، ووافقه الذهبي. (¬2) فقه النوازل لبكر أبو زيد 2/ 142.

الدليل الثاني

أرشدوني، فإنّه يلزم في مثل ذلك أن يُعرّف الجواب، فمن منعه استحق الوعيد، وليس الأمركذلك في نوافل العلم الّتي لا يلزم تعليمها (¬1). الدّليل الثّاني: قالوا: إنّه لا يجوز التعبد بعوض، والعلّم عبادة ليس صناعة أو تجارة، فالتأليف في العلوم الشرعية عبادة، وعليه فلا تجوز المعاوضة عليه (¬2). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الاستدلال بما يأتي: أن التأليف في العلوم الشرعية وإن كان عبادة إِلَّا أنّه يجوز المعاوضة عليه، قياسًا على تعليم القرآن والعلّوم الشرعية، فإن الراجح -كما تقدّم- جواز المعاوضة عليها، وهي من القربات، فكذلك التأليف والتحقيق، بجامع أن كلًا منها نشر للعلّم الشرعي وبيان لدين الله عَزَّ وَجَلَّ. الدّليل الثّالث: قالوا: إنَّ حق المؤلِّف لا يعدو أن يكون حقًا مجردًا، والحق المجرد لا يقوّم بمال ولا يستعاض عنه بالمال كحق الشُّفعَةِ، وعليه فلا يجوز أخذ العوض المالي على التأليف أو التحقيق (¬3). الدّليل الرّابع: قالوا: إنَّ عدم الاحتفاظ بحق التأليف أو الاعتياض عنه بمال، بمعنى أن يكون حق الطبع لكل مسلم، يحقق مقصدًا من مقاصد الشّريعة، ألَّا وهو نشر العلم الشرعي، وراوجة بين النَّاس وإغناء المكتبة الإِسلامية به (¬4). ¬

_ (¬1) جامع الأصول لابن الأثير 8/ 12 - 13. (¬2) فقه النوازل لبكر أبو زيد 2/ 242، نقلًا عن مجلة الهدى النبوي، ص: 59. (¬3) المرجع السابق. (¬4) حق الابتكار للدريني ص: 163، فقه النوازل لبكر أبو زيد 2/ 243.

ثانيا: أدلة أصحاب القول الأول

ثانيًا: أدلة أصحاب القول الأوّل: استدل هؤلاء بعدد من الأدلة، ومن جملتها الأدلة الدالة على جواز الاستئجار على تعليم القرآن الكريم والعلّوم الشرعية، وكذلك الأدلة الدالة على نسخ المصحف، ونسخ كتب العلم ومن هذه الأدلة: الدّليل الأوّل: حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما في الرقية، وفيه قول النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: (إنَّ أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله) (¬1). وجه الاستدلال: أن هذا الحديث دلّ على جواز أخذ العوض على القرآن الكريم، وعليه فيجوز أخذ العوض على السُّنَّة من باب أولى، وإذا جاز أخذ العوض على الوحبين، ففيما تفرع عنهما من الاستنباط والفهوم، وتقعيد القواعد، وتأصيل الأصول من باب أولى، فصارت دلالة هذا الحديث على جواز أخذ العوض على التأليف أولى من مورد النص (¬2). الدّليل الثّاني: حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - في قصة جعل القرآن صداقًا حيث جاء فيه قول النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: (انطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن) (¬3). وجه الاستدلال: أنّه إذا جاز جعل تعليم القرآن عوضًا تستحل به الأبضاع فمن باب أولى أخذ العوض عليه لتعليمه ونشره، وأولى منهما أخذ العوض على التأليف؛ لأنّه يحمل ¬

_ (¬1) سبق تخريجه، انظر ص 402. (¬2) فقه النوازل لبكر أبو زيد 2/ 133. (¬3) سبق تخريجه، انظر ص 491.

الدليل الثالث

أحكام ومفاهيم الكتاب والسُّنَّة، وعليه فإن دلالة هذا الحديث على جواز العوض على التأليف أولى من مورد النص والله أعلم (¬1). الدّليل الثّالث: أنّه إذا كان المصنَّف ملك لمصنفه وثبتت ملكيته، فله أن يتصرف في ملكه بأنواع التصرفات الجائزة أو المشروعة كبيعه أو هبته أو وقفه أو نحو ذلك من التصرفات (¬2). الدّليل الرّابع: أن تجويز أخذ العوض المالي على التأليف والتحقيق، فيه دفع عظيم للبحث والتحقيق ونشر العلم، وشحذ لهمم العلماء لنشر علمهم وإبداعهم واجتهادهم، وهذا من أهم مقاصد الشّرع (¬3). الدّليل الخامس: دلّ صنيع أهل العلم المتقدمين على أن مصنفاتهم ملك لهم أصلًا، ولولا أنّها ملك لهم لما استجازوا بيعها بالمال، وقد ثبت أن كثيرًا من أهل العلم بيعت كتبهم بأثمان كثيرة (¬4). فدلّ ذلك على جواز أخذ العوض المالي على التأليف. الترجيح: الراجح من القولين السابقين هو القول الأوّل القاضي بجواز أخذ العوض المالي على التأليف في العلوم الشرعية، وترجع أسباب رجحانه لما يأتي: ¬

_ (¬1) فقه النوازل لبكر أبو زيد 2/ 133. (¬2) المرجع السابق. (¬3) المرجع السابق. (¬4) ذكر فضيلة الشّيخ بكر أمثلة كثيرة على بيع السلف لكتبهم منهم الحافظ أبو نعيم الإصفهاني، بيع كتاب (الحلية) في حياته بنيسابور بأربع مئة دينار، وبيع كتاب للحافظ ابن حجر في حياته بنحو ثلاثمائة دينار وغيرهما كثير ممّن فعل ذلك دون نكير من أحد من أهل العلم، فدلّ ذلك على الجواز، والله أعلم.

أوَّلًا: قوة أدلة هذا القول حيث جاءت الأدلة من السُّنَّة واضحة الدلالة على جواز ذلك. ثانيًا: أنّه أمكن مناقشة ما أورده المانعون. ثالثًا: أن هذا القول هو الّذي اختاره أهل العلم قاطبة في هذا العصر إِلَّا القليل منهم، وقد بحث مجمع الفقه الإِسلامي بجدة هذه النازلة وخرج بالقرار التالي: "حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرعًا ولأصحابها حق التصرف فيها، ولا يجوز الاعتداء عليها" (¬1). ¬

_ (¬1) مجلة مجمع الفقه الإِسلامي بجدة، الدورة الخامسة، العدد الخامس: 3/ 2581.

الباب الثاني أخد المال على المعاملات والولايات الشرعية

الباب الثّاني أخد المال على المعاملات والولايات الشرعية وفيه فصلان: الفصل الأوّل: أخذ المال على المعاملات. الفصل الثّاني: أخذ المال على الولايات الشرعية.

الفصل الأول أخذ المال على المعاملات

الفصل الأوّل أخذ المال على المعاملات وفيه ستة مباحث: المبحث الأوّل: أخذ المال على القرض المبحث الثّاني: أخذ المال على الضمان والكفالة المبحث الثّالث: أخذ المال على الصلح المبحث الرّابع: أخذ المال على الوديعة المبحث الخامس: أخذ المال على نظارة الوقف المبحث السّادس: أخذ المال على الوصايا

المبحث الأول أخذ المال على القرض

المبحث الأوّل أخذ المال على القرض (¬1) لا خلاف بين الفقهاء في أن القرض أحد أهم عقود الإرفاق والإحسان والبر والتبرع، وهو قربة بل ومن أجلّ القرب إذا كان بضوابطه وشروطه الشرعية، وذلك لما فيه من إيصال النفع للمقترض، وقضاء حاجته، وتفريج كربته (¬2). والناظر في حياة النَّاس يجد الحاجة إليه عامة، فما من أحد إِلَّا وهو محتاج إليه في معاملاته، سواء أكان مقرضًا أم مستقرضًا، ومن هنا فقد اعتنى الفقهاء به عناية ¬

_ (¬1) القرض في اللُّغة والاصطلاح: أ - القرض في اللُّغة: القطع، يقال: قرضَ الشيء يقرضه: إذا قطعه، والقرض: ما تعطيه الإنسان من مالك لتقضاه، وكأنّه شيء قد قطعته من مالك. ومن معانيه: السلف، والسلف أعم من القرض لوروده لمعانٍ أخرى كالسَّلم. معجم مقاييس اللُّغة لابن فارس 5/ 71 - 72، لسان العرب 7/ 216، وما بعدها، الزاهر للأزهري، ص: 148، 196. ب - القرض في الاصطلاح: تعددت تعريفات الفقهاء للقرض إِلَّا أنّها اتفقت في المضمون، ومن أجمع هذه التعريفات ما عرّفه به الحنابلة، وهو أنّه: "دفع مال إرفاقًا لمن ينتفع به، ويرد بدله". الإقاع للحجاوي 2/ 146، ويسمى المال المدفوع على هذا الوجه قرضًا، والدافع للمال: مقرضًا والآخذ له: مقترضًا ومستقرضًا، ويسمى المال الّذي يرده المقترض: بدل القرض، وأخذ المال على جهة القرض: اقتراضا. الدر المختار حاشية ابن عابدين 4/ 171، كفاية الطالب الرباني 2/ 150 تحفة المحتاج 5/ 36، كشاف القناع 3/ 298. (¬2) بدائع الصنائع للكاساني 7/ 394، مواهب الجليل للحطاب 4/ 545، حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 5/ 36، المغني لابن قدامة 6/ 429، 430، المحلى لابن حزم 8/ 77 قال ابن حزم: "واتفقوا على أن القرض فعل خير". مراتب الإجماع ص: 94.

خاصّة، فبينوا أحكامه وضبطوا مسائله، ومن أهم المسائل الّتي عني بها الفقهاء هي مسألة أخذ العوض على القرض سواء أكان ذلك في سورة زيادة صريحة أم كان في سورة زيادة غير صريحة يمكن أن يتمثل في هدية أو عقد آخر أو اشتراط أي منفعة يحتال بها على الوصول إلى الزيادة أو المنفعة على القرض. وكان سبب هذه العناية بأحكام القرض وبخاصة مسألة العوض عليه هو أن الزيادة أو الفائدةُ المحرمة تخرج القرض من دائرة البرّ والإحسان والإرفاق، إلى براثن الرِّبَا المحرم، وحرمة الرِّبَا وخطره على المسلم في الدنيا والآخرة من الأمور المعلومة بالضرورة. وسأتناول الكلام على أخذ المال على القرض في المطالب التالية:

المطلب الأولى اشتراط الزيادة على القرض

المطلب الأولى اشتراط الزيادة على القرض أجمع العلماء على أنّه إذا شرط المقرض على المقترض زيادة أو هدية أو منفعة أن ذلك لا يجوز والزيادة على القرض تكون ربا، ويترتب على ذلك فساد عقد القرض، سواء أكانت هذه الزيادة في القدر، بأن يردّ المقترض أكثر ممّا أخذ من جنسه، أم بأن يزيد هدية من مال آخر، أم كانت هذه الزيادة في الصِّفَة بأن يردّ المقترض أجود ممّا أخذ (¬1). قال ابن عبد البرّ: "وكل زيادة في سلف أو منفعة ينتفع بها المسلف فهي ربا، ولو كانت قبضة من علف، وذلك حرام إنَّ كان عن شرط" (¬2). وقال ابن المنذر: "أجمعوا على أن المسلِف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك، أن أخذ الزيادة على ذلك ربا" (¬3). بالإضافة إلى الإجماع السابق على تحريم الزيادة على القرض فقد استدل الفقهاء على ذلك بما يأتي: ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني 7/ 395، النتف في الفتاوى للسِّغدي 1/ 493 عقد الجواهر المْينة لابن شاس 2/ 567، مواهب الجليل للحطاب 5/ 232، روضة الطالبين للنووي 4/ 34 أسنى المطالب للأنصاري 2/ 142، المغني لابن قدامة 6/ 436، منتهى الإرادات 2/ 227 كشاف القناع 3/ 304، المحلى لابن حزم 8/ 77، فتح الباري لابن حجر 5/ 70، نيل الأوطار للشوكاني 5/ 232. (¬2) الكافي لابن عبد البرّ 2/ 728. (¬3) المغني لابن قدامة 6/ 436، قال ابن قدامة: "وكل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف"، ثمّ نقل الموفق الإجماع عن ابن المنذر، وممن نقل الإجماع على ذلك: شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 29/ 333، والعيني في عمدة القاري 12/ 45، وابن حجر الهيتمي كما في الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/ 222، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3/ 241.

الدليل الأول

الدّليل الأوّل: عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (إذا أقرض أحدكم قرضًا فأهدى إليه طبقًا، فلا يقبله أو حمله على دابة فلا يركبها، إِلَّا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك) (¬1). وجه الاستدلال: حيث منع النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - المقرض من قبول هدية المقترض أو منفعته، ما لم يكن بينهما عادة جارية بذلك قبل القرض، فدلّ ذلك على أن أي منفعة أو هدية تكون بسبب القرض أنّها محرّمة (¬2). الدّليل الثّاني: عن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - أنّه قال: "كلّ قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الرِّبَا" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه، كتاب الصدقات، باب القرض 2/ 813 (2432)، والبيهقيُّ في الكبرى، كتاب البيوع، باب كلّ قرض جر منفعة فهو ربا، 5/ 573 (10934) من طريق إسماعيل بن عياش: حدثني عتبة بن حميد الضبي عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي قال سألت أنس ... الحديث: وهذا الحديث ضعيف ضعفه جماعة من أهل العلم منهم البوصيري وابن عبد الهادي والألباني وذلك لجهالة يحيى الهنائي، وضعف إسماعيل بن عياش وعتبة الضبي. الإرواء للألباني 5/ 236 - 237. (¬2) إغاثة اللهفان لابن القيم 1/ 363 - 364. (¬3) أخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب البيوع، باب كلّ قرض جر منفعة فهو ربا 5/ 573 (10933)، وفي إسناده إدريس بن يحيى، قال الألباني: لم أجد له ترجمة. الإرواء 5/ 235 وقد روي هذا الحديث مرفوعًا للنبي- صلّى الله عليه وسلم -، ولا يصح رفعه قال الحافظ ابن حجر: "قال عمر ابن بدر في المغني: لم يصح فيه شيء، وأمّا إمام الحرمين فقال: إنّه صح، وتبعه الغزالي، وقد رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده من حديث علي باللفظ الأوّل: (أن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - نهى عن قرض جر منفعة)، وفي إسناده سوار بن مُصْعَب وهو متروك) تلخيص الحبير 3/ 34. وقال في بلوغ المرام: "ورواه الحارث بن أبي أسامة وإسناده ساقط" ص 252.

الدليل الثالث

قال الإمام البيهقي (¬1): "وروينا في معناه عن عبد الله بن مسعود وأبي ابن كعب، وعبد الله بن سلام وابن عبّاس" (¬2). الدّليل الثّالث: قالوا: إنَّ موضوع عقد القرض الإرفاق والقربة، فإذا اشترط المقرض فيه زيادة أو حقًا لنفسه، خرج عن موضوعه فمنع صحتَه؛ لأنّه يكون بذلك قرضًا للزيادة، لا للإرفاق والقربة (¬3). الدّليل الرّابع: قالوا: إنَّ الزيادة المشروطة تشبه الرِّبَا؛ لأنّها فضل، لا يقابله عوض، والتحرز عن حقيقة الرِّبَا، وعن شبهة الرِّبَا واجب (¬4). ¬

_ (¬1) هو: أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله أبو بكر البيهقي النيسابوري، الحافظ الإمام الفقيه الشّافعيّ، صاحب المنّة على المذهب الشّافعيّ، إذ هو جامع نصوص الشّافعيّ وناصر مذهبه أصولًا وفروعًا من مؤلفاته: السنن الكبرى، والسنن الصغرى، ومعرفة السنن والآثار والأسماء والصفات وغيرها توفي سنة 458 هـ. سير أعلام النُّبَلاء للذهبي 18/ 163، طبقات الشّافعيّة الكبرى للسبكي 4/ 8 - 16. (¬2) السنن الكبرى 5/ 573. (¬3) أسنى المطالب للأنصاري 2/ 142، المغنى لابن قدامة 6/ 436. (¬4) بدائع الصنائع للكاساني 7/ 395. تنبيه: تتنوع الزيادة أو الفائدةُ على القرض، وتأخذ صورًا شتى في ذلك: اشتراط المقرض أي عمل يجر إليه نفعًا، كأن يشترط على المقترض أن يسكنه داره مجانًا أو يعيره دابته أو ينتفع برهنه ونحو ذلك. البهجة شرح التحفة للتسولي 2/ 288، شرح منتهى الإرادات 2/ 227، مجلة الأحكام الشرعية للقادري ص: 271 - 272.

المطلب الثاني الزيادة على القرض مع عدم الاشتراط

المطلب الثّاني الزيادة على القرض مع عدم الاشتراط إذا أقرض الرَّجلُ الرجلَ فقضاه المقترض بأجود أو أكثر ممّا أخذ أو ببلد آخر ونحو ذلك، ولم يكن ذلك عن شرط أو جرى به عرف، فقد اختلف الفقهاء في حكم ذلك على قولين: القول الأوّل: يجوز رد القرض بأفضل أو أكثر منه إذا لم يكن ذلك عن شرط أو جرى به عرف. وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشّافعيّة (¬3) والحنابلة (¬4). القول الثّاني: لا يجوز ذلك، بل يجب رد المثل دون زيادة. وإلى هذا ذهب بعض الصّحابة منهم ابن عبّاس وابن عمر (¬5)، وهو وجه عند الشّافعيّة في الربويات (¬6) خاصّة، وذكر أبو الخطّاب: أنّه رواية في المذهب (¬7). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني 7/ 395، الفتاوى الهندية 3/ 202 - 203. (¬2) البهجة شرح التحفة للتسولي 2/ 288. (¬3) فتح العزيز شرح الوجيز للرافعي 9/ 370 وما بعدها، روضة الطالبين للنووي 4/ 34. (¬4) المغني لابن قدامة 6/ 438 - 439، المبدع لابن مفلح 4/ 209 - 212. (¬5) المغني لابن قدامة 6/ 438 - 439. (¬6) فتح العزيز للرافعي 9/ 377. (¬7) المغني لابن قدامة 6/ 439، قال ابن قدامة: (وقال أبو الخطّاب: وإن قضاه خيًرا منه أو زاده زيادة بعد الوفاء من غير مواطأة فعلى روايتين).

الأدلة والمناقشة

الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة أصحاب القول الثّاني: استدل هؤلاء على المنع من الزيادة على القرض إنَّ لم تكن عن شرط بما يأتي: قالوا: إنّه إنَّ أخذ فضلًا كان قرضًا جر منفعة وهذا لا يجوز؛ لأنَّه ربا (¬1). وستأتي مناقشة هذا التعليل ضمن أدلة الجمهور. ثانيًا: أدلة أصحاب القول الأوّل: استدل الجمهور على الجواز بأدلة كثيرة من السُّنَّة والمعقول. أ - أدلتهم من السُّنَّة: الدّليل الأوّل: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان لرجل على رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - سنّ من الإبل، فأغلظ له، فهمّ به أصحاب النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - فقال - صلّى الله عليه وسلم -: (دعوه فإن لصاحب الحق مقالًا، واشتروا له بعيرًا فأعطوه إياه)، وقالوا: لا نجد إِلَّا أفضل من سنه، قال: (اشتروه فأعطوه إياه، فإن خيركم أحسنكم قضاء) (¬2). وجه الاستدلال: حيث دلّ فعل النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - على جواز وفاء ما هو أفضل من المثل المقترض إذا لم تقع شرطية ذلك في العقد (¬3). ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة 6/ 439. (¬2) أخرجه البخاريّ، كتاب الاستقراض، باب استقراض الإبل 5/ 69 (2390) وباب هل يعطي أكبر من سنه 5/ 71 (2392)، وباب حسن القضاء 5/ 72 (2393)، ومسلم كتاب المساقاة، باب من استسلف شيئًا فقضى خيرًا منه 3/ 1224 (1600) و (1601). (¬3) فتح الباري لابن حجر 5/ 70.

الدليل الثاني

الدّليل الثّاني: عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: أتيت النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - وهو في المسجد، فقال: (صل ركعتين) وكان لي عليه دين فقضاني وزادني (¬1). وجه الاستدلال: حيث دلّ فعل النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - على جواز الزيادة على القرض إذا لم يكن ذلك عن شرط. الدّليل الثّالث: قالوا: إنَّ المقرض لم يجعل تلك الزيادة عوضًا في القرض ولا وسيلة إليه ولا إلى استيفاء دينه فحلت، كما لو لم يكن قرض (¬2). الدّليل الرّابع: قالوا: إنَّ الرِّبَا اسم لزيادة مشروطة في العقد، ولم توجد، فدلّ ذلك على جوازها (¬3). الترجيح: الراجح من القولين هو قول الجمهور لقوة ما استدلوا به، حيث جاءت أدلتهم نصية، فحديث أبي هريرة وحديث جابر صريحة في جواز الزيادة بدون اشتراط، فهي نصّ في محلّ النزاع. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ، كتاب الاستقراض، باب حسن القضاء 5/ 72 (2394). (¬2) المغني لابن قدامة 6/ 439. (¬3) بدائع الصنائع للكاساني 7/ 395.

المطلب الثالث الهدية ونحوها للمقرض

المطلب الثّالث الهدية ونحوها للمقرض تتبع الفقهاء رحمهم الله تعالى جميع الطرق والمنافذ الّتي قد يدخل منها أرباب القلوب المريضة للوصول إلى أخذ الزيادة المحرمة على القرض، ومن هذه الطرق الّتي قد تفضي إلى قلب القرض من وسيلة إحسان وإرفاق وبر وقربة إلى وسيلة لأكل الرِّبَا المحرم: طريق الهدية. والهدية مستحبة في الأصل وهي من طرق المحبة والألفة والبر بين المسلمين، ولكنها إذا اتخذت وسيلة للمحرم، فإنها تكون حينئذ محرّمة وذلك؛ لأنَّ الوسائل لها حكم المقاصد. أمّا حكم الهدية على القرض فيمكن حصر القول في ذلك على النحو التالي: - اتفق الفقهاء رحمهم الله على أن الهدية من المقترض للمقرض إذا لم تكن من أجل القرض ولم تكن عن شرط، وقد جرت بها العادة قبل القرض أنّها في هذه الحالة تكون جائزة ولا حرج على المقرض في قبولها (¬1). جاء في الفتاوى الهندية: (ولا بأس بهدية من عليه القرض، والأفضل أن يتورع من قبول الهدية، إذا علم أنّه يعطيه لأجل القرض، وإن علم أنّه يعطيه لا لأجل القرض، بل لقرابة أو صداقة بينهما لا يتورع) (¬2). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين 4/ 311، الفتاوى الهندية 3/ 203، عقد الجواهر لابن شاس 2/ 567، شرح الزرقاني على خليل 5/ 227 - 228، الحاوي الكبير للماوردي 6/ 440، مغني المحتاج للشربيني 2/ 119، المغني لابن قدامة 6/ 437، المحلى لابن حزم 8/ 85، نيل الأوطار للشوكاني 5/ 232. (¬2) الفتاوى الهندية 3/ 203.

الدليل الأول

وقال ابن عبد البرّ: "وكره مالك أكل هدية الغريم إِلَّا أن يكون ذلك بينهما معروفًا قبل السلف أو يعلم أن هديته ليست لمكان الدِّين" (¬1). قال الشربيني: "ولا يكره للمقرض أخذه -أي الزائد بلا شرط- ولا أخذ هدية المستقرض بغير شرط" (¬2). وقال ابن قدامة: "وإن فعل ذلك من غير شرط، قبل الوفاء لم يقبله ولم يجز قبوله إِلَّا أن يكافئه أو يحسبه من دينه، إِلَّا أن يكون شيئًا جرت العادة به بينهما، قبل القرض" (¬3). وقال ابن حزم: "وهدية الّذي عليه الدِّين إلى الّذي له عليه الدِّين حلال وكذلك ضيافته إياه، ما لم يكن شيء من ذلك عن شرط، فإن كان شيء عن شرط فهو حرام" (¬4). وقد استدل الفقهاء على ذلك بما يأتي: الدّليل الأوّل: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إليّ كراع لقبلت) (¬5). وجه الاستدلال: دلّ الحديث بعمومه على قبول الهدية سواء أكانت من الغريم أم من غيره، قال ابن حزم: "فهذا عموم لم يخص -عليه السّلام- من ذلك غريمًا من غيره" (¬6). ¬

_ (¬1) الكافي في فقه أهل المدينة لابن عبد البر 2/ 728. (¬2) مغني المحتاج للشربيني 2/ 116. (¬3) المغني لابن قدامة 6/ 437. (¬4) المحلى لابن حزم 8/ 85. (¬5) أخرجه البخاريّ، كتاب النِّكاح، باب من أجاب إلى كراع 9/ 154 (5178). (¬6) المحلى لابن حزم 8/ 85.

الدليل الثاني

الدّليل الثّاني: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (إذا أقرض أحدكم قرضًا فأهدى إليه طبقًا فلا يقبله، أو حمله على الدابة، فلا يركبها ولا يقبله، إِلَّا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك) (¬1). وجه الاستدلال: حيث دلّ الحديث على أن الهدية من المقترض للمقرض إذا كانت لأجل عادة جارية بينهما قبل التداين فلا بأس بقبولها (¬2). الدّليل الثّالث: عن ابن سيرين أن عمر أسلف أبي بن كعب عشرة آلاف درهم، فأهدى إليه أبي بن كعب من ثمرة أرضه، فردها عليه ولم يقبلها، فأتاه أبي، فقال: لقد علم أهل المدينة أني من أطيبهم ثمرة؛ وإنه لا حاجة لنا، فبم منعت هديتنا؟ ثمّ أهدى إليه بعد ذلك فقبل (¬3). الدّليل الرّابع: قالوا: إنَّ المقترض لم يجعل تلك الزيادة عوضًا في القرض ولا وسيلة إليه ولا إلى استيفاء دينه، أشبه ما لم يكن قرض، فدلّ ذلك على جواز قبول الهدية من المقترض إذا لم تكن عن شرط، ولا مواطأة (¬4). قال ابن القيم: رحمه الله "فكان رد عمر لما توهم أن تكون هديته بسبب القرض، فلما تيقن أنّها ليست بسبب القرض، قبلها، وهذا فصل النزاع في مسألة ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في أول هذه المسألة. (¬2) نيل الأوطار للشوكلاني 5/ 232. (¬3) أخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب البيوع، باب كلّ قرض جر منفعة فهو ربا 5/ 572 (10929)، وقال: هذا منقطع. (¬4) المبدع لإبراهيم بن مفلح 4/ 209 - 210.

هدية المقرض" (¬1). أمّا إذا كانت الهدية عن شرط، فقد أجمع العلماء على المنع منها وأنّها عين الرِّبَا، قال ابن المنذر: "أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك، أن أخذ الزيادة على ذلك ربا" (¬2). وقد تقدّم مستند هذا الإجماع، وما استدل به الفقهاء على المنع من الهدية أو الزيادة في المسألة الأولى فأغنى عن الإعادة (¬3). ¬

_ (¬1) تهذيب مختصر سنن أبي داود لابن القيم 5/ 150 - 153. (¬2) المغنى لابن قدامة 6/ 436. (¬3) وهذا منصوص الفقهاء في كتبهم وانظر لبيان ذلك: حاشية ابن عابدين 4/ 311، عقد الجواهر لابن شاس 2/ 567، الحاوي للماوردي 6/ 440، المغنى لابن قدامة 6/ 437، المحلى لابن حزم 8/ 85 - 87، وتهذيب مختصر سنن أبي داود 5/ 150 - 153، نيل الأوطار للشوكاني 5/ 232.

المطلب الرابع اشتراط عقد آخر في القرض

المطلب الرّابع اشتراط عقد آخر في القرض من الذرائع المفضية إلى الرِّبَا المحرم: اشتراط عقدًا آخر في عقد القرض كبيع أو إجارة أو مزارعة أو مساقاة أو قرض آخر وقد اتفق الفقهاء رحمهم الله تعالى على المنع من ذلك، وعدوا ذلك من الشروط الفاسدة، وذلك لمنافة هذه العقود لمقتضى عقد القرض. وقد استدلوا على المنع من ذلك بما يأتي: الدّليل الأوّل: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدة، قال، قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (لا يحل سلف وبيع) (¬1). وجه الاستدلال: قال ابن القيم رحمه الله تعالى مبينا وجه الاستدلال من هذا الحديث: "وحرم الجمع بين السلف والبيع لما فيه من الذريعة إلى الربح في السلف بأكثر ممّا أعطى، والتوسل إلى ذلك بالبيع أو الإجارة كما هو الواقع ... وكل ذلك سدًا لذريعة أخذ الزيادة في القرض الّذي موجبه ردّ المثل" (¬2). وقال رحمه الله: "وأمّا السلف والبيع، فإنّه إذا أقرضه مائة إلى سنة ثمّ باعه ما يساوي خمسين بمائة، فقد جعل هذا البيع ذريعة إلى الزيادة في القرض الّذي موجبه ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، كتاب البيوع، باب في الرَّجل يبيع ما ليس عنده 3/ 283 والنسائي، كتاب البيوع، باب بيع ما ليس عند البائع 7/ 333 (4625) وباب سلف وبيع 7/ 340 (4643) والترمذي، كتاب البيوع باب ما جاء في الإمام بيع ما ليس عندك 3/ 535 (1234)، قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن صحيح. (¬2) إغاثة اللهفان لابن القيم 1/ 363 - 364.

الدليل الثاني

رد المثل، ولولا هذا البيع لما أقرضه، ولولا عقد القرض لما اشترى ذلك" (¬1). الدّليل الثّاني: قالوا: ولأنّهما جعلا رفق القرض ثمنًا، والشرط لغو، فيسقط بسقوطه بعض الثّمن، ويصير الباقي مجهولًا، قال الخطابي: "وذلك فاسد؛ لأنّه إنّما يقرضه على أن يحابيه في الثّمن، فيدخل الثّمن في حدّ الجهالة" (¬2). الدّليل الثّالث: قالوا: إنَّ القرض ليس من عقود المعاوضة، وإنّما هو من عقود البرّ والمكارمة، فلا يصح أن يكون له عوض، فإن قارن القرض عقد معاوضة كان له حصة من العوض، فخرج عن مقتضاه، فبطل وبطل ما قارنه من عقود المعاوضة (¬3). الدّليل الرّابع: قالوا: إذا كان القرض غير مؤقت فهو غير لازم للمقرض والبيع وما أشبهه من العقود اللازمة، كالإجارة والنِّكاح لا يجوز أن يقارنها عقد غير لازم لتنافي حكميهما (¬4). الدّليل الخامس: قالوا: ولأنّه شرط عقد في عقد فلم يجز، كما لو باعه داره بشرط أن يبيعه الآخر داره (¬5). ¬

_ (¬1) تهذيب مختصر سنن أبي داود لابن القيم 5/ 149. (¬2) معالم السنن للخطابي مع مختصر السنن للمنذري 5/ 144. (¬3) شرح المنتقى للباجي 5/ 29. (¬4) المرجع السابق. (¬5) المغني لابن قدامة 6/ 437.

المطلب الخامس القروض البنكية

المطلب الخامس القروض البنكية القروض البنكية لها صور وأشكال وهي في مجملها لا تخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون ضمن خدمات مصرفية: وأمثلة ذلك خطاب الضمان والاعتمادات المستندية، وخطابات الاعتماد الشخصية ونحو ذلك، وقد تقدّم معنا أن هذه الخدمات الّتي تقدمها البنوك تنتهي -غالبًا- إلى قروض ربوية، وقد سبق الحديث عنها مفصلًا. الحالة الثّانية: أن تكون هذه القروض بصورة مباشرة: وهذه الحالة هي موضوع حديثنا، وهي من أخطر ما تقوم به البنوك وهي في نفس الوقت من أبسط صور الاعتمادات المصرفية، ولا يبعد القول بأن معاملات البنوك تكاد تنحصر في الاتجار بالديون إقراضًا واقتراضًا وإن تعددت الصور والأشكال في ذلك. فالبنك يقوم باقتراض الودائع من عملائه -وهذا هو الراجح كما تقدّم- ثمّ يقوم بدوره بإقراض حصيلة هذه الودائع أو الديون للمتمولين أو للمستثمرين، وكل ذلك يتم وفق فائدة محددة متفق عليها سلفًا (¬1). وسيكون البحث في القروض البنكية على النحو التالي: ¬

_ (¬1) مقدمة النقود والبنوك للدكتور، محمَّد زكي شافعي ص: 197، القاهرة، دار النهضة العربيّة 1969 م، تطوير الأعمال المصرفية للدكتور سامي حمود، ص: 283، موقف الشّريعة من المصارف الإِسلامية المعاصرة للعبادي، ص: 30 - 33، المصارف وبيوت التمويل الإِسلامية للجمال، ص: 77.

أولا: تعريف الإقراض البنكي

أوَّلًا: تعريف الإقراض البنكي: الإقراض البنكي هو: "اتفاق يسمح بموجبه المصرف لشخص فتح له اعتمادًا، بسحب المبالغ المعينة في هذا الاعتماد، خلال مدة معينة، أو يتفق مع المصرف على أن يدفع هذا الأخير قيمة الاعتماد لشخص آخر يعينه العميل" (¬1). والتعريف السابق تركز على فتح الاعتماد سواء كان القرض لنفس العميل أم كان لشخص آخر يحدده العميل. والتعريف السابق يشمل سورة واحدة من صور الأقراض البنكي وهي فتح الاعتماد. وهناك سورة أخرى وهي عملية القرض العادي المباشر من البنك للعميل فيتقدم العميل بطلبه للبنك، ويتسلم بموجبه مقدارًا محددًا من المال (¬2). وقد عرف الباحثون هذا النوع من الإقراض بأنّه: "هو تسليم النقود مباشرة للعميل، وتحديد أجل للرد، واتفاق على سعر الفائدةُ، وبيان الضمانات إذا اشترطت لذلك" (¬3). والفرق بين القرض النقدي المباشر وبين فتح الاعتماد يتلخص في النقاط التالية: 1 - المقترض يتسلم قيمة القرض بأكملها بعد توقيع العقد مباشرة بينما فاتح الاعتماد يسحب ما يشاء عن طريق شبكات أو غيرها في خلال المدة المسموح بها للاعتماد. 2 - المقترض يتسلم القرض كله، بينما فاتح الاعتمادات قد يتسلم القرض كله وقد لا يتسلمه وقد يتسلم البعض فقط دون البعض الآخر. ¬

_ (¬1) المصارف والأعمال المصرفية للدكتور غريب الجمال، ص 95 - 96. وانظر: موقف الشّريعة من المصارف الإِسلامية المعاصرة للعبادي ص 32. (¬2) البنك اللاربوي للصدر، ص: 154، تطوير الأعمال المصرفية لحمود، ص: 299. (¬3) العقود وعمليات البنوك التجارية للدكتور علي البارودي، ص: 361.

ثانيا: تكييف الإقراض المصرفي في الفقه الإسلامي

3 - المقترض يدفع كامل الفائدةُ على كامل المبلغ، بينما فاتح الاعتماد لا يحاسب إِلَّا على الأرصدة المدينة الّتي تم سحبها بالفعل. 4 - المقترض يردّ كامل المبلغ والفوائد، بينما فاتح الاعتماد لا يردّ إِلَّا ما قد سحبه بالفعل، ونسبة الفائدةُ المستحقة على المبلغ المسحوب فقط (¬1). ثانيًا: تكييف الإقراض المصرفي في الفقه الإِسلامي: القرض في المعاملات البنكية وغيرها من الأنظمة الحديثة يعد أول عقد ربوي، فهو يعد أصل كلّ العقود الربوية المعاصرة. وبالنظر في أحكام الشّريعة نجد الأمر على العكس فإن القرض لا يعد أصلًا من أصول العقود الربوية، إذ البيع هو الأصل في جميع أنواع الرِّبَا. ويأتي الكلام عن القرض الربوي الّذي يجر منفعة للمقرض، تابعًا للكلام عن البيع الربوي، فالبيع الربوي يشمل القرض الربوي، ويدخل في عموم النصوص المحرمة للبيع الربوي. من هذا المنطلق فقد خرج الفقهاء المعاصرون الإقراض البنكي على أنّه أحد عقدين: العقد الأوّل: عقد قرض. وهذا التخريج بعيد وإن سمته المصارف قرضًا، فلا يجوز أن يكون قرضًا عند الفقهاء؛ لأنَّ القرض في الشّرع إنّما هو دفع مبلغ من المال لآخر على وجه الإرفاق والمعونة على أن يردّ المقترض بدله دون شرط زيادة على القرض أو جريان عرف بهذه الزيادة أو أي طريقة أخرى للحصول على الزيادة، على ما سبق بيانه في الكلام حول القرض الشرعي. ¬

_ (¬1) موقف الشّريعة من المصارف الإِسلامية للعبادي، ص 32 - 33.

العقد الثاني: عقد بيع

أمّا القرض المصرفي فهو دفع مبلغ لشخص على أن يرده مع فائدة يتفقان عليها فهذا مغاير تمامًا للقرض الشرعي (¬1). العقد الثّاني: عقد بيع: وهذه التّسمية هي الّتي جاءت بها النصوص؛ لأنَّ القرض البنكي يتضمن معاوضة مالية بين نقدين -غالبًا- أحدهما عاجل، والآخر آجل على وجه المغالبة، وقصد التنمية والاستثمار، وقد سمى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - مثل هذا بيعًا ومن ذلك: 1 - عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: (لا تبيعوا الدّينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين) (¬2). 2 - عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إِلَّا سواء بسواء، والفضة بالفضة إِلَّا سواء بسواء، وبيعوا الذهب بالفضة، والفضة بالذهب كيف شئتم) (¬3). وجه الاستدلال من الحديثين: أن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - سمى مبادلة المال بالمال على وجه الزيادة بيعًا (¬4). ثالثًا: حكم الإقراض المصرفي في الفقه الإِسلامي: إذا خُرّج الإقراض المصرفي على أنّه قرض فهو حرام بالإجماع؛ لأنّه قرض جر نفعًا مشروطًا، وهذا هو عين الرِّبَا، وتقدم بيان حكم ذلك والأدلة على تحريمه، وأن هذا محلّ إجماع بين الفقهاء لا خلاف بينهم في ذلك. ¬

_ (¬1) مجلة البحوث الإِسلامية، العدد الثّامن، ص: 76 - 77، الرِّبَا والمعاملات المصرفية للمترك، ص: 182. (¬2) أخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب الرِّبَا 3/ 1309 (1585). (¬3) أخرجه البخاريّ، كتاب البيوع، باب بيع الذهب بالذهب 4/ 443 (2175). (¬4) مجلة البحوث الإِسلامية، العدد الثّامن، ص: 76.

الدليل الأول

وإذا خُرج على أنّه بيع، فهو من البيوع المحرمة، لتضمنه ربا الفضل وربا النسيئة. أمّا ربا الفضل فللزيادة الّتي يدفعها المقترض بالإضافة إلى ما اقترضه بناءً على الشرط المتفق عليه مع الصّرف وأمّا ربا النسيئة فلتأجيل ما يدفعه المقترض للمصرف وفاءً للدين وقد يعجز المقترض عن الوفاء في الميعاد فيمتد الأجل ويلزمه دفع فائدة عن الدِّين الأصلّي، وما أضيف إليه من الفوائد قبل امتداد الأجل فيكون ربا مركبًا (¬1). ومن الأدلة الدالة على تحريم ذلك وأنّه متضمن للربا بنوعيه ما يأتي: الدّليل الأوّل: عن عبادة الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير والتّمر بالتّمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل سواء بسواء يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد) (¬2). الدّليل الثّاني: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتّمر بالتّمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء) (¬3). الدّليل الثّالث: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (الذهب بالذهب، وزنًا بوزن، مثلًا بمثل، والفضة بالفضة وزنًا بوزن، مثلًا بمثل، فمن زاد أو استزاد فهو ربا) (¬4). ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) أخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب الصّرف وبيع الذهب بالورق نقدًا 3/ 1211 (1587). (¬3) أخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب الصّرف ... 3/ 1211 (1587). (¬4) أخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب الصّرف ... 3/ 1212 (1588).

وجه الاستدلال من النصوص السابقة

وجه الاستدلال من النصوص السابقة: حيث نهى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، متفاضلًا، حالًا أو مؤجلًا، ونهى عن بيع الذهب بالفضة، والفضة بالذهب مؤجلًا، والنهي يقتضي التّحريم، والقرض المصرفي قد يكون مبادلة ذهب بذهب أو فضة بفضة مع التأجيل، والزيادة فيتحقق فيه ربا الفضل والنساء، وقد يكون مبادلة ذهب بفضة أو فضة بذهب مع التأجيل فيتحقق فيه ربا النِّساء وعلى هذا فيكون داخلًا في عموم ما دلت عليه الأدلة السابقة من النّهي (¬1). ¬

_ (¬1) مجلة البحوث الإِسلامية، العدد الثّامن، ص: 75.

المبحث الثاني أخذ المال على الضمان والكفالة

المبحث الثّاني أخذ المال على الضمان والكفالة المطلب الأوّل أخد المال على الضمان (¬1) المراد بالضمان هنا عقد الضمان المالي أو الكفالة بالمال (¬2)، وهو أحد عقود التوثيق الّتي لها أهمية كبرى في حياة النَّاس ومعاملاتهم. وقد اعتنى الفقهاء قديمًا بهذا العقد، وخصوه بباب في مؤلفاتهم الفقهية، وحرروا مسائله وأحكامه على نحو محكم متين (¬3). ¬

_ (¬1) الضمان في اللُّغة: يطلق الضمان في اللُّغة على عدة معان: الأوّل: الالتزام: يقال ضمنت المال وبه ضمانًا، فأنا ضامن وضمن: التزمته، ويعدّى بالتضعيف، فيقال: ضمّنته المال: ألزمته إياه. الثّاني: الكفالة: يقال: ضمن الشيء ضمانًا، فهو ضامن وضمين إذا كفله. الثّالث: التغريم: يقال: ضمنته الشيء تضمينًا: إذا غرَّمته فالتزمه. المصباح المنير ص: 364، القاموس المحيط 4/ 156، لسان العرب 13/ 257. (¬2) مصطلح الضمان في الأصل يراد به عند الفقهاء أمران: الأمر الأوّل: الالتزام الناشء من أحد لضمان دين على غيره. الأمر الثّاني: الإلزام بالتعويض عن الإتلافات والأضرار ونحو ذلك، والمراد بالبحث هنا هو الأوّل، وهو الضمان المالي أو الكفالة بالمال: الضمان في الفقه الإِسلامي للشيخ علي الخفيف ص: 5 وما بعدها، عقد الضمان المالي للدكتور عبد الرّحمن الأطرم ص: 7. (¬3) بالنظر في دواوين الفقه نجد أن الفقهاء قد تنوعت إطلاقاتهم في هذا الباب، فمنهم من يطلق على هذا الباب مصطلح (الكفالة) وهو يشمل الكفالة بالمال والكفالة بالبدن. ومنهم من يطلق عليه مصطلح (الضمان) وهو كذلك شامل لضمان المال وضمان النفس، ومنهم من يفرق، فيجعل مصطلح (الضمان) خاص بالضمان المالي فقط، ومصطلح (الكفالة) خاص بكفالة البدن فقط، وعلى كلّ فهو اختلاف في مجرد الاصطلاح ولا مشاحة في ذلك. بدائع الصنائع 6/ 2، مواهب الجليل للحطاب 5/ 96، نهاية المحتاج للرملي 4/ 432 الروض المربع للبهوتي 5/ 97، 108.

وعقد الضمان (¬1)، أحد عقود الإرفاق والمعروف والإحسان والتبرع يقصد به ثواب الله تعالى، ورفع الضيق والحرج عن المسلم (¬2)، وهذا شأن الضامن (¬3) دائمًا، وما عليه إِلَّا إخلاص النية لله تعالى. ¬

_ (¬1) الضمان في الاصطلاح: للفقهاء في تعريف الضمان ثلاث اتجاهات تبعًا للأثر المترتب عليه: الاتجاه الأوّل: يرى أصحاب هذا الاتجاه أن الضمان ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في الدِّين، فتنشغل به ذمة الضامن مع بقائه في ذمة المضمون عنه، وهذا مذهب الجمهور من المالكية والشّافعيّة والحنابلة ومن تعريفاتهم: أن الضمان هو: "ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الدِّين". الاتجاه الثّاني: يرى أن الضامن تشغل ذمته بالدين كله، ويسقط عن المضمون عنه فلا تحل مطالبته بعد ذلك. وإلى هذا ذهب ابن حزم، ولذا فإنّه قد عرّف الضمان بأنّه: "نقل الدِّين من ذمة إلى أخرى". الاتجاه الثّالث: يرى أصحابه أن الضمان ضم ذمة إلى أخرى في المطالبة فقط -مجرد المطالبة- لا في تحمل الدِّين، وهذا ما ذهب إليه الحنفية على الصحيح من مذهبهم، ولذا فقد عرفوا الضمان بأنّه: "ضم ذمة إلى أخرى في المطالبة". والصّحيح من التعريفات هو ما ذهب إليه الجمهور وهم أصحاب الاتجاه الأوّل؛ لموافقته للأدلة الشرعية وتوسطه بين أصحاب الاتجاهين الآخرين: الهداية للمرغيناني 5/ 389، الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي 3/ 329، الإقناع للشربينى مع حاشية البجيرمي 3/ 95، المغني لابن قدامة 7/ 71، المحلى لابن حزم 8/ 111. (¬2) شرح فتح القدير لابن الهمام 5/ 389، 403، التاج والإكليل للمواق 5/ 111، الأم للشافعي 3/ 230. (¬3) الضامن هو أحد أركان الضمان الخمسة وهي: الأوّل: الضامن: وهو ملتزم الحقال في على غيره. الثّاني: المضمون عنه: وهو الّذي عليه الحق. الثّالث: المضمون له: وهو صاحب الحق. الرّابع: المضمون: وهو الحقال في كان سببًا في الضمان. الخامس: الصيفة: وهي ما يدلُّ على الرضا بالتزام الحق.

المسألة الأولى: أخذ العوض على الضمان

قال ابن الهمام: "ومحاسن الكفالة جليلة، وهي تفريج كرب الطالب الخائف على ماله، والمطلوب الخائف على نفسه، حيث كفيا مؤنة ما أهمهما وقر جأشهما، وذلك نعمة كبيرة عليهما، ولذا كانت الكفالة من الأفعال العالية ... (¬1). من هنا فإن الكفالة المالية، قد جمعت كثيًرا من الخصال والمنافع والمقاصد الشرعية الجليلة ممّا يجعلها محض إرفاق وتبرع وإحسان لا مطمع فيها لمكتسب، وإنّما هي وظيفة المحتسب. ولما كان الضمان عقد تبرع وإحسان، وإن الأصل فيه الغرم لا الغنم، يؤيد هذا ما رواه أبو أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يقول في خطبته عام حجة الوداع: (العارية مؤداة، والزعيم غارم، والدين مقضي) (¬2). والزعيم: هو الكفيل والضامن، قال الإمام الخطابي: "الزعيم الكفيل، والزعامة الكفالة، ومنه قيل لرئيس القوم: الزعيم؛ لأنّه هو المتكفل بأمورهم" (¬3). أمّا ما يتعلّق بأخذ المال على الضمان المالي فيتضح من خلال المسائل التالية. المسألة الأولى: أخذ العوض على الضمان اتفق الفقهاء رحمهم الله تعالى على أنّه لا يجوز مطلقًا أخذ الجعل أو الأجرة ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير لابن الهمام 5/ 389. (¬2) أخرجه أبو داود في البيوع، باب في تضمين العارية 3/ 396 (3565) والترمذي، في البيوع، باب ما جاء في أن العارية مؤداة 3/ 565 (1265) وفي الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث 4/ 376 (2121)، وقال: حديث حسن غريب، وأخرجه ابن ماجه في الصدقات، باب الكفالة 2/ 804 (2405)، قال الألباني: "صحيح" كما في صحيح سنن التّرمذيّ 2/ 20 (1016). (¬3) معالم السنن للخطابي مع سنن أبي داود 3/ 825.

ونحوهما من الأعواض على الضمان، لا خلاف بينهم في ذلك (¬1). قال ابن الهمام: "إذا كفل بمال على أن يجعل له الطالب جعلًا فإن لم يكن مشروطًا في الكفالة، فالشرط باطل، وإن كان مشروطًا فيها فالكفالة باطلة" (¬2). وقال: "والكفالة عقد تبرع كالنذر لا يقصد به سوى ثواب الله أو رفع الضيق عن الحبيب فلا يبالي بما التزم في ذلك" (¬3). وقال المواق (¬4): "لا يجوز ضمان بجعل؛ لأنَّ الضمان معروف، ولا يجوز أن يؤخذ عوض على معروف، وفعل خير، كما لا يجوز على صوم ولا صلاة؛ لأنَّ طريقها ليس لكسب الدنيا" (¬5). وقال الرملي: "الضمان محض التزام لا معاوضة فيه" (¬6). وقال ابن قدامة: "ولو قال اكفل عني ولك ألف لم يجز"، وعلل ذلك بقوله: "وأمّا الكفالة فإن الكفيل ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير لابن الهمام 5/ 406، الفتاوى البزازية 6/ 18، مجمع الضمانات للبغدادي ص: 282، منحة الخالق لابن عابدين 6/ 242، التاج والإكليل للمواق 5/ 111، مواهب الجليل للحطاب 5/ 112، الزرقاني على خليل 6/ 32، 33، حاشية البناني على الزرقاني 6/ 32، 33، منح الجليل لعلّيش 6/ 228، الأم للشافعي 3/ 230، روضة الطالبين للنووي 4/ 241، 242، نهاية المحتاج للرملي 4/ 438، المغني لابن قدامة 6/ 441، المبدع لابن مفلح 4/ 212، كشاف القناع للبهوتي 3/ 319، المحلى لابن حزم 8/ 110 وما بعدها. (¬2) شرح فتح القدير لابن الهمام 5/ 406. (¬3) المرجع السابق 5/ 403. (¬4) هو: محمَّد بن يوسف العبدري أبو عبد الله الشهير بالمواق، أحد فقهاء المالكية، له شرحان على مختصر خليل، أحدهما: التاج والإكليل، توفي سنة 863 هـ. نيل الابتهاج، ص: 324 - 325، شجرة النور الزكية 1/ 262. (¬5) التاج والإكليل للمواق 5/ 111، وقد نصّ الإمام مالك على ذلك، فقال: "والحمالة بالجعل حرام". البيان والتحصيل لابن رشد 11/ 289. (¬6) نهاية المحتاج للرملي 4/ 438. وما ذكره الرملي هو معنى كلام الشّافعيّ في الأم حيث قال: "الكفالة استهلاك مال لا كسب مال": 3/ 230.

يلزمه الدِّين، فإن أداه وجب له على المكفول عنه، فصار كالقرض، فإذا أخذ عوضًا صار القرض جارًا للمنفعة فلم يجز" (¬1). فهذه أقوال المذاهب الأربعة تدل على أن الجعل أو الأجرة على الضمان لا تجوز، وأمّا الظاهرية ومن وافقهم فلا نحتاج إلى ذكر قولهم في ذلك؛ لأنَّ الدِّين عندهم ينتقل إلى ذمة الضامن ويسقط عن المدين الأصلّي، ولا يحل حينئذ الرجوع على المدين بشيء ولا على ورثته، سواء أكان الرجوع من صاحب الدِّين أم من الضامن الّذي أدى الدِّين عنه، إِلَّا إذا قال المدين للضامن: اضمن عني ما لهذا عليّ، فإذا أديت عني فهو دين لك عليّ، فههنا يرجع عليه بما أدى عنه فقط؛ لأنّه استقرضه ما أدى عنه فهو قرض صحيح (¬2). يتضح ممّا سبق أن الفقهاء رحمهم الله تعالى متفقون على المنع من أخذ الأجرة على الضمان. وقد حكى ابن المنذر الإجماع على ذلك، إِلَّا أنّه قد ورد في معرض كلامه ما قد يشوش على هذا الإجماع، قال ابن المنذر: "أجمع من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الحمالة بجعل يأخذه الحميل لا تحل ولا تجوز، واختلفوا في ثبوت الضمان على هذا الشرط، فكان الثّوريّ يقول: إذا قال الرَّجل للرجل: اكفل عني ولك ألف درهم فإن الكفالة جائزة وترد إليه الألف درهم. وإذا قال استقرض لي من فلان ألف درهم ولك عشرة دراهم، قال: هذا الأخير فيه؛ لأنّه قرض جر منفعة. وقال أحمد في مسألة الكفالة: ما أرى هذا يأخذ شيئًا بحق. ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة 6/ 441. (¬2) المحلى لابن حزم 8/ 111.

الدليل الأول

وقال إسحاق: ما عطاه من شيء فهو حسن (¬1). وقال أحمد في المسألة الثّانية في القرض: لا بأس به، وقال إسحاق: أكرهه" (¬2). وقد استدل الفقهاء على المنع من أخذ العوض على الضمان بعدة أدلة أبرزها: الدّليل الأوّل: الإجماع على ذلك، والإجماع حجة في ذاته كما لا يخفى، وتقدم ذكر ذلك الإجماع والكلام حوله. الدّليل الثّاني: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النِّساء: 29]. وجه الاستدلال: أن أخذ المال على الكفالة ليس من قبيل التجارة؛ لأنَّ الكفيل لا يعطي بكفالته شيئًا يعتاض عنه بما يعطاه من عوض يأخذه من المضمون عنه أو المضمون له، وإنّما ¬

_ (¬1) يجمل كلام إسحاق على الإعطاء بدون شرط، ويؤيد هذا الحمل ما يأتي: أ - أن هذا هو الظّاهر من عبارة إسحاق، وهو أن ذلك كان عن طيب نفس. ب - أنّه يستبعد أن ينقل ابن المنذر الإجماع ثمّ ينقضه بعد عدة أسطر. جـ - ولأن الماوردي ذكر خلاف إسحاق هذا في حكم الاشتراط وأن الشرط باطل عنده، ويصح الضمان، فدلّ ذلك على أن الإعطاء المذكور هو ما كان عن غير شرط. انظر: أحكام الأوراق النقدية والتجارية لستر الجعيد ص: 303، عقد الضمان المالي للدكتور عبد الرّحمن بن صالح الأطرم، ص: 102 - 103. (¬2) الإشراف لابن المنذر 1/ 120، 121، تحقيق محمَّد نجيب سراج الدِّين. وقد نقل الإجماع كذلك ابن القطان عن صاحب الإنباء، كما ذكر ذلك الحطاب. انظر: مواهب الجليل 5/ 113.

الدليل الثالث

التزم متبرعًا بأداء ما على المضمون عنه من الدِّين، فإذا أداه ورجع به عليه لم يكن عندئذ ما يستوجب به أخذ مال آخر زيادة على ذلك وهو الجعل، فإذا أخذ يكون ذلك من قبيل أكل المال بالباطل وهو لا يجوز (¬1). الدّليل الثّالث: قالوا: إنَّ الضامن يلزمه الدِّين، فإن أداه المضمون عنه كان الجعل للضامن باطلًا؛ لأنّه أكل للمال بالباطل، وإن أداه الضامن، ورجع به على المضمون عنه، فإنّه يصبح قرضًا، فإن أخذ الجعل، صار القرض جارًا للمنفعة فلم يجز؛ لأنّه ربا (¬2). الدّليل الرّابع: قالوا: إنَّ الضمان أحد الثّلاثة الّتي لا تكون إِلَّا لله، والثّاني القرض والثّالث الجاه، لما يروى في الحديث: "ثلاثة لا تكون إِلَّا لله القرض والضمان والجاه "فلا يجوز أخذ العوض عليه" (¬3). الدّليل الخامس: أن الضمان معروف وإحسان وعقد تبرع محض، لا يقصد به سوى ثواب الله ¬

_ (¬1) الشرح الصغير للدردير 3/ 442، الضمان في الفقه الإِسلامي للشيخ علي الخفيف ص: 22. (¬2) الفتاوى البزازية 6/ 18، منحة الخالق لابن عابدين 6/ 242، الزرقاني على خليل 6/ 32، حاشية البناني على الزرقاني 6/ 32، 33، المغني لابن قدامة 6/ 447. (¬3) الزرقاني على خليل 6/ 32، 33، حاشية الصاوي على الشرح الصغير 3/ 442، منح الجليل لعلّيش 6/ 228، وهذا الحديث الّذي ذكره المالكية لم أقف عليه بعد البحث في دواوين السُّنَّة والمظان المتوفرة لدي، ولعلّه من كلام بعض الفقهاء، والله تعالى أعلم، ولكن معناه صحيح للاتفاق على أن القرض من عقود الإرفاق والإحسان، كما تقدّم.

المسألة الثانية: التطبيقات المعاصرة لعقد الضمان

تعالى، وأخذ المال على المعروف سحت لا يجوز بحال (¬4). هذا مجمل ما استدل به الفقهاء على المنع من أخذ العوض على الضمان، وحاصل ذلك يرجع إلى حالتين: الحالة الأولى: إذا حصل الضمان ولم يغرم الضامن ما على المضمون عنه وفي هذا الحالة يكون أخذه للعوض على ضمانه أكلًا للمال بالباطل من جهة، ومن جهة أخرى يكون آخذا للعوض على المعروف والإحسان وهذا سحت. الحالة الثّانية: إذا غرم الضامن ما على المضمون عنه، فإنّه يكون في هذه الحالة مقرض للمضمون عنه، فإذا أخذ العوض على ذلك فإنّه يكون آخذًا للربا؛ لأنّه سلف وزيادة وكل قرض جر نفعًا فهو ربا. هذا فضلًا عن أن الضمان في أصله معروف وإحسان كما تقدّم ذلك والله أعلم. المسألة الثّانية: التطبيقات المعاصرة لعقد الضمان عقد الضمان بمعناه الشرعي معروف منذ بداية الإسلام وقد بينه الفقهاء أتم بيان، وأحكامه مبسوطة في دواوين الإسلام، وما زال المسلمون يتعاملون به بضوابطه المعروفة، وهو من التشريعات العظيمة، إذا الغرض منه -كما تقدّم- هو الإحسان والبر والمعروف للمسلم لرفع ما به من ضيق وشدة وحاجة. ¬

_ (¬4) شرح فتح القدير لابن الهمام 5/ 406، المنتقى للباجي 6/ 84، البنوك الإِسلامية بين النظرية والتطبيق للدكتور عبد الله الطيار ص: 150، فقه النوازل للشيخ بكر أبو زيد 1/ 208، (نازلة خطاب الضمان).

المعاملة الأولى: خطاب الضمان

ومع تطور الحياة وكثرة المعاملات، نشأ في هذا العصر ما يسمى بمصطلح: (البنك) أو (المصرف) (¬5). والبنك له وظائف كثيرة جدًا، وتتنوع معاملاته، وما يهمنا هنا هو ما له تعلّق بعقد الضمان، ومن المعاملات الّتي تقوم بها البنوك وهي متعلّقة بعقد الضمان ما يأتي: المعاملة الأولى: خطاب الضمان. المعاملة الثّانية: الاعتماد المستندي. وسأتحدث عن كلّ منهما بالتفصيل على النحو التالي: المعاملة الأولى: خطاب الضمان: يعد خطاب الضمان من أبرز صور الكفالات البنكية الّتي يقصد بها التوثيق، وقد نشأت الحاجة إليه في هذا العصر لكثرة المعاملات المالية والمبادلات التجارية وغير ذلك، وسيكون الحديث عنه على النحو التالي: ¬

_ (¬5) تعريف البنك: البنك مفرد وجمعه بنوك، وهذه اللفظة غير عربيّة فهي من الكلمات الدخيلة على اللُّغة العربيّة، وقد اشتهرت نظرًا لتوسع النَّاس في استعمالها وهذه الكلمة إيطالية، مأخوذة من كلمة: (بانكو) أي: مائدة، وذلك؛ لأنَّ الصيارفة في القرون الوسطى كانوا يجلسون في الموانئ والأمكنة العامة للاتجار في النقود -الصّرف- وأمامهم مناضد عليها نقودهم تسمى (بانكو) ثمّ نقلت إلى العربيّة حتّى أصبح يطلق عليها لفظ (بنك). ويقابلها بالعربيّة لفظ (مصرف) بكسر الراء، وهي مأخوذة من الصّرف، وهي اسم مكان على وزن (مفعِل) ويقصد بها المكان، الّذي يتم فيه الصّرف، ومن هنا كان وجه التناسب في تسمية البنك مصرفًا. جاء في المعجم الوسيط: المصرِف: مكان الصّرف وبه سمي البنك مصرفًا. انظر: المعجم الوسيط، ص: 513، مادة: صَرَف، المصارف والأعمال المصرفية في الشّريعة الإِسلامية والقانون للدكتور/ غريب الحمال، ص: 8، الرِّبَا والمعاملات المصرفية للدكتور/ عمر بن عبد العزيز المشترك، ص: 309 وما بعدها.

أ - تعريفه

أ - تعريفه: خطاب الضمان المصرفي هو: "تعهد من البنك بقبول دفع مبلغ معين لدى الطلب إلى المستفيد في ذلك الخطّاب نيابة عن طالب الضمان، عند عدم قيام الطالب بالتزامات معينة قبل المستفيد" (¬1). ب - طبيعة خطاب الضمان: خطاب الضمان المصرفي كما هو ظاهر من تعريفه، هو تعهد قطعي مقيد بزمن محدد غيرقابل للرجوع، يصدر من البنك بناء على طلب طرف آخر (عميل له)، بدفع مبلغ معين لأمر جهة أخرى مستفيدة من هذا العميل، لقاء قيام العميل بالدخول في مناقصة أو تنفيذ مشروع بأداء حسن، ليكون استيفاء المستفيد من هذا التعهد (خطاب الضمان)، متى تأخر أو قصر العميل في تنفيذ ما التزم به للمستفيد في مناقصة أو تنفيذ مشروع ونحوهما، ويرجع البنك بعده على العميل بما دفعه عنه للمستفيد (¬2). جـ - أركان خطاب الضمان: ممّا سبق يتضح أن أركان خطاب الضمان أربعة أركان: ¬

_ (¬1) البنك اللاربوي في الإسلام لمحمد باقر الصدر، ص: 128، تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإِسلامية للدكتور سامي حمود، ص: 324، الكفالات البنكية للدكتور عبد المجيد عبوده، ص: 39، معهد الإدارة العامة بالرياض. (¬2) فقه النوازل للدكتور بكر أبو زيد ص: 201، الكفالة في ضوء الشّريعة الإِسلامية للدكتور علي أحمد السالوس، ص: 131. قلت: وبالنظر في مفهوم خطاب الضمان يتبين أن تعريف الحنابلة للضمان جاء دقيقًا وشاملًا لمفهوم الضمان البنكى، وذلك في قولهم في التعريف: (وما قد يجب)؛ لأنَّ الضمان البنكي إنّما يكون لما قد يجب على العميل، وذلك في حال تقصيره في القيام بالعمل أو عدم حسن التنفيذ لذلك العمل، وإن دلّ ذلك على شيء، إنّما يدلُّ على مدى دقة الفقهاء رحمهم الله تعالى ومدى سعة أفقهم وبصرهم بالجزئيات، فلله الحمد والمنة على ما حبى به هذه الأُمَّة.

1 - البنك (المصرف)

1 - البنك (المصرف): وهو الطرف الضامن، والمراد بالضامن: هو من التزم ما على غيره. 2 - العميل: وهو المضمون عنه. 3 - المستفيد: وهو صاحب الحقال في التزمه الصّرف، أي: هو الضمون له. 4 - قيمة الضمان: وهو المبلغ المضمون، الّذي التزمه الضامن (¬1). د - أنواع خطاب الضمان: تتنوع خطابات الضمان تبعًا لتنوع الغرض منها ومن أبرز أنواعها ما يلي: الأوّل: خطاب الضمان الابتدائي: وهو تعهد موجه إلى المستفيد سواء أكان هيئة حكومية أو غيرها بضمان دفع مبلغ من النقود من قيمة العملية (¬2) الّتي يتقدم طالب الضمان للحصول عليها، ويستحق الدفع عند عدم قيام الطالب باتخاذ الترتيبات اللازمة عند رسو العملية عليه. الثّاني: خطاب الضمان النهائي: هو تعهد للجهة الحكومية أو غيرها بضمان دفع مبلغ من النقود يعادل نسبة أكبر من قيمة العملية (¬3)، الّتي استقرت على عهدة العميل ويصبح الدفع واجبًا عند ¬

_ (¬1) فقه النوازل للشيخ بكر أبو زيد 1/ 201، 202 (خطاب الضمان). (¬2) تتراوح نسبة هذا الضمان ما بين 1جـ إلى 2جـ من قيمة المناقصة أو المشروع. (¬3) ويقدر بنسبة: 5 % من قيمة المناقصة أو المشروع.

الثالث: خطاب ضمان الدفعة المقدمة أو السلفة

تخلف العميل عن الوفاء بالتزاماته المنصوص عليها في العقد النهائي للعملية والجهة الّتي صدر خطاب الضمان لصالحها (¬1). الثّالث: خطاب ضمان الدفعة المقدِّمة أو السلفة: إذا دفع المستفيد سلفة مقدمة للعميل المتعاقد معه، فإن المستفيد في هذه الحالة يطلب خطاب ضمان مساوٍ لقيمة هذه السلفة أو الدفعة المقدِّمة. وهناك خطابات ضمان أخرى يكون الغرض منها تسهيل بعض المصالح الضرورية ومن أمثلة ذلك: 1 - خطاب ضمان لضريبة الدخل والتأخير والزكاة الشرعية. 2 - خطاب ضمان لاستقدام الأيدي العاملة من أجل تشغيلها في الغرض الّذي تم استقدامها لأجله. 3 - خطاب ضمان يطلب من الطلاب المبتعثين للدراسة من قِبل وزارة التعليم العالي. 4 - خطاب ضمان سفر المدرسين المتعاقدين. وذلك إذا أراد المدرس السَّفر بمناسبة عطل الأعياد أو نصف السُّنَّة، فإن الجهة المتعاقدة معه تطلب منه خطاب ضمان بمبلغ معين يحدده النظام. وهناك أنواع أخرى من خطابات الضمان تتنوع حسب الحاجة، ولكن أشهرها هما النوع الأوّل والثّاني، وهي وإن تنوعت إِلَّا أن مضمونها وحكمها واحد (¬2). ¬

_ (¬1) البنك اللاربوي، للصدر ص: 128، 129، الرِّبَا والمعاملات المصرفية في نظر الشّريعة الإِسلامية للشيخ عمر الترك، ص: 368. (¬2) الكفالات البنكية في المملكة، ص: 58 - 68، مجلة البحوث الإِسلامية، العدد الثّامن، ص: 102، 103، عقد الضمان المالي للأطرم، ص: 91، 92.

هـ - التخريج الفقهي لخطاب الضمان

هـ - التخريج الفقهي لخطاب الضمان: ذهب بعض الفقهاء المعاصرين وبعض الباحثين إلى تكييف خطاب الضمان بناء على كونه مغطى من قبل العميل أو غير مغطى، فقالوا: إنَّ خطاب الضمان من حيث وجود غطاء له وعدمه له ثلاثة أحوال: 1 - خطاب ضمان له غطاء كامل من العميل: إذا أودع العميل لدى المصرف ما يغطي خطاب الضمان غطاءً كلاملًا، فإنّه في هذه الحالة تكون العلّاقة بين المصرف والعميل علاقة وكالة، حيث وكل العميل المصرف ليقوم بالأداء عنه للمستفيد. 2 - خطاب ضمان ليس له غطاء ألبتة: إذ كان خطاب الضمان غير مغطى من العميل ألبتة، فمن الواضح أنّه يعتبر في هذه الحالة عقد ضمان وكفالة بالمال، على ما سبق بيانه في تعريف الضمان، فالضامن هو المصرف والمضمون هو العميل والمضمون له هو المستفيد. 3 - خطاب ضمان له غطاء جزئي: وفي هذه الحالة تكون علاقة المصرف بالعميل علاقة ضمان، ووكالة معًا فالمصرف وكيل في الجزء المغطى، وضامن بالنسبة للجزء غير المغطى، والذي عليه العمل في المصارف أن الغالب أن يقوم العميل بالغطاء الجزئي لا الكلي (¬1). ¬

_ (¬1) الرِّبَا والمعاملات المصرفية للمترك، ص: 391، فقه النوازل لبكر أبي زيد ص: 210، الكفالة للسالوس، ص: 134، مجلة مجمع الفقه الإِسلامي بجدة، العدد الثّاني، المجلد الثّاني ص: 1132. ملحوظة: الغطاء هنا قد يكون مبالغ نقدية يقدمها العميل للبنك تعادل قيمة الضمان أو جزء منه، وقد يكون للعميل حساب جار لدى البنك فيتم حجز قيمة خطاب الضمان أو جزء منه تحت حساب خاص باسم احتياطي خطابات الضمان، وقد يكون أوراقًا مالية مملوكة للعميل فيقدمها للبنك. وفي حالات نادرة لا يكون هناك غطاء ألبتة، وذلك راجع إلى مركز العميل المالي القوي: مجلة البحوث الإِسلامية 8/ 106، 107.

وذهب البعض إلى أن خطاب الضمان ما هو إِلَّا سورة لعقد الضمان المالي المعروف عند الفقهاء، حيث توفرت في خطاب الضمان كافة أركان عقد الضمان المعروفة عند الفقهاء (¬1). وقد تقدّم ذكر أركان خطاب الضمان، وأنّها هي نفسها أركان عقد الضمان، وإن وجد فرق، فإنّما هو في بعض الشكليات الّتي لا تؤثر ولا تعد فرقًا بين عقد الضمان وخطاب الضمان، ومن ذلك مثلًا: 1 - أن المضمون به قد لا يثبت إِلَّا في المستقبل، فيكون ذلك من ضمان ما لم يجب، وهذا لا يؤثر؛ لأنَّ صحة ضمان ما لم يجب هو الراجح عند الفقهاء (¬2). 2 - أن المضمون به قد يكون مجهولًا، وهذا فرق لا يؤثر؛ لأنّه يجوز ضمان المجهول على الصحيح (¬3). 3 - أن المطالبة بالمضمون به تتوجه للضامن وهو المصرف دون المضمون عنه، وهذا فرق لا يؤثر؛ لأنَّ ذلك راجع إلى الشروط في الضمان بين المصرف والمستفيد والعميل، وهذا لا يؤثر في أصل العقد (¬4). ¬

_ (¬1) عقد الضمان المالي للأطرم، ص: 96، 97، وانظر مجلة البحوث الإِسلامية 8/ 114. (¬2) وهذا مذهب الجمهور من الحنفية والمالكية وقول عند الشّافعيّة، وهو قول الحنابلة: شرح فتح القدير 5/ 402، 403، مواهب الجليل للحطاب 5/ 99، روضة الطالبين 4/ 244، الإنصاف للمرداوي 5/ 195. (¬3) وإلى هذا ذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشّافعيّة في القديم، وهو قول الحنابلة: بدائع الصنائع للكاساني 6/ 3، عقد الجواهر الثمينة لابن شاش 2/ 657، مغني المحتاج 2/ 302، المغني لابن قدامة 7/ 73، وقد فصل القول في ذلك فضيلة الشّيخ عبد الرّحمن الأطرم في عقد الضمان المالي، انظر ص: 55 - 58. (¬4) عقد الضمان المالي للأطرم، ص: 97.

و - أخذ العوض على خطاب الضمان

و - أخذ العوض على خطاب الضمان: أوَّلًا: ذهب الفقهاء والباحثون المعاصرون إلى أن المصروفات الإدارية الّتي يأخذها البنك من العميل، لا حرج فيها شرعًا، وذلك نظير ما يقوم به البنك من أعمال إدارية وعلمية وعملية ونحو ذلك من الخدمات. وقد اشترطوا في ذلك أن لا تزيد هذه المصروفات عن أجرة المثل، حتّى لا يكون ذلك ذريعة للبنك لإدخال عمولة الضمان تحت هذا المسمى (¬1). ووجه ما ذهبوا إليه: 1 - أن هذه المصروفات، إنّما هي في مقابل ما يقوم به البنك من أعمال إدارية ونحوها، فلا تعلّق لها بالضمان أصلًا (¬2). 2 - أن هذه الأعمال مباحة في أصلها، ولم يلحق بها أي وصف يخرجها عن اللإباحة إلى الحرمة. وقد أيّد هذا مجمع الفقه الإِسلامي، وجاءت كلمة الباحثين والفقهاء الذين بحثوا خطاب الضمان متفقة على جواز ذلك. ومما جاء في قرار المجمع ما يلي: "أمّا المصاريف الإدارية لإصدار خطاب الضمان بنوعيه فجائزة شرعًا مع مراعاة عدم الزيادة على أجر المثل" (¬3). ثانيًا: إذا سدد البنك عن عملية للجهة المستفيدة، فإنّه يرجع على العميل، فإن كان لخطاب الضمان غطاء أخذ منه وإلا رجع على العميل، فإذا تأخر العميل عن التسديد في الموعد المحدد بينهما فإن البنك في هذه الحالة يجعل نسبة معينة من الفائدةُ ¬

_ (¬1) مجلة مجمع الفقه الإِسلامي بجدة، العدد الثّاني: 2/ 1210، وقد ضمت بحوثًا كثيرة لعدد من الفقهاء والباحثين المعاصرين حول خطاب الضمان، عقد الضمان المالي للأطرم، ص: 117. (¬2) عقد الضمان المالي، للدكتور عبد الرّحمن الأطرم، ص: 107 - 108. (¬3) مجلة المجمع الفقهي، العدد الثّاني: 2/ 1210.

مقابل التأخير (¬1)، وفي هذه الحالة يكون البنك مقرضًا للعميل وقد أخذ فائدة على هذا القرض، ومن المتفق عليه بين الفقهاء أن الفائدةُ على القرض ربا، قال ابن قدامة: "وكل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن السلف إذا شرط على المتسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك، أن أخذ الزيادة على ذلك ربا" (¬2). ثالثًا: إذا أصدر البنك خطاب الضمان فإنّه يأخذ عوضًا عليها من العميل وهذا العوض يسميه البنك (عمولة)، وهذه العمولة لها نسب محددة تزيد وتقل حسب المبالغ المضمونة. وهذه العمولة تناولها الفقهاء المعاصرون بالبحث والدراسة وبنوا حكمهم عليها تبعًا للتكييف الشرعي لها كما سبق. فمن ذهب إلى أن خطاب الضمان ما هو إِلَّا عقد ضمان من المصرف لعميله في مقابل فائدة قالوا: لا يجوز مطلقًا أخذ عمولة أو فائدة على خطاب الضمان. ولم يفرق هؤلاء بين ما كان منه مغطى أوغير مغطى. وممن ذهب إلى هذا مجمع الفقه الإِسلامي بجدة، وكذلك اللجنة الدائمة للإفتاء (المنبثقة عن هيئة كبار العلماء)، وبعض الباحثين، وقد جاء نصّ قرار مجمع الفقه الإِسلامي بجدة على النحو التالي: أوَّلًا: أن خطاب الضمان لا يجوز أخذ الأجر عليه لقاء عملية الضمان (والتي يراعى فيها عادة مبلغ الضمان ومدته) سواء أكان بغطاء أم بدونه. ثانيًا: أمّا المصاريف الإدارية لإصدار خطاب الضمان بنوعيه فجائزة شرعًا مع مراعاة عدم الزيادة على أجر المثل، وفي حالة تقديم غطاء كلي أو جزئي يجوز أن ¬

_ (¬1) مجلة البحوث الإِسلامية، العدد: 8، ص 114، عقد الضمان المالي، ص: 101. (¬2) المغني لابن قدامة 6/ 436.

يراعى في تقدير المصاريف لإصدار خطاب الضمان ما قد تتطلبه المهمة الفعلية لأداء ذلك الغطاء، والله أعلم (¬1). أهـ أمّا اللجنة الدائمة فقد رأوا أنّه لا يجوز أخذ عمولة وفائدة في مقابلة الضمان من قبل البنك وذلك لأمور: 1 - أخذ المصرف مالًا في مقابلة الضمان، والضمان من باب المعروف الّذي يبذل ابتغاء الثّواب من الله. 2 - أخذ فائدة في مقابلة ما دفعه من المال عن عميله فإنّه يعتبر قرضًا جرّ نفعًا. 3 - ما قد ينتفع به من استغلال للغطاء والغطاء هنا من باب الرَّهْن، فكان انتفاع الضامن به محرمًا حيث لم يكن ظهرًا يركب بنفقته أو ذا در يحلب بنفقته (¬2). أهـ. ويلاحظ عدم تعرض اللجنة إلى المصروفات الإدارية للبنك وإنّما تركز كلامها على العمولة على خطاب الضمان فقط، والذي يظهر أنّها لا تندرج تحت كلامهم السابق لعدم شمول التعليل السابق لها (¬3). وذهب البعض إلى التفريق بين ما كان له غطاء وبين ما ليس له غطاء. ففي حالة الغطاء الكلي لخطاب الضمان فإن العلّاقة حينئذ بين البنك والعميل علاقة وكالة، والوكالة تجوز بأجرة، فيجوز للبنك حينئذ أخذ الأجرة على خطاب الضمان. وإذا كان الغطاء جزئيا فإن العلّاقة حينئذ تكون وكالة في الجزء المغطى وكفالة في الجزء غير المغطى فيجوز أخذ الأجرة حينئذ على الجزء المغطى دون غيره. أمّا إذا لم يكن خطاب الضمان مغطى فالعلّاقة حينئذ هي كفالة مالية فلا يجوز ¬

_ (¬1) مجلة المجمع الفقهي، العدد الثّاني 2/ 1210. (¬2) مجلة البحوث الإِسلامية 8/ 114. (¬3) عقد الضمان المالي، ص: 115.

أخذ العوض عليها (¬1). وقد نوقش هذا التفصيل بما يأتي: 1 - إنَّ الغطاء قد يكون نقدًا، وقد يكون غير نقد من الأشياء العينية فإذا كان عينا فإن المقصود في هذه الحالة هو توثيق البنك تجاه العميل، فالبنك في هذه الحالة ضامن مرتهن، وليس وكيلًا. 2 - إنَّ كان الغطاء نقدًا فثمة عدد من الملاحظات: الأولى: أن هذا الغطاء ليس أمانة عند البنك؛ لأنّه لا يحفظه بعينه. الثّانية: أنّه يضمنه للعميل. الثّالثة: أن البنك يستفيد منه مدة بقائه عنده ويتاجر به ضمن أمواله، ومن المعلوم أن الوكيل أمين، وإذا تلف ما بيده، فإنّه لا يضمنه إِلَّا بتعد أو تفريط، وأنّه لا يتاجر بما في يده لمصلحة نفسه ... ثمّ إنَّ الضمان عقد لازم وأمّا الوكالة فعقد جائز ... ، ولهذه الاعتبارات فإن الأظهر والأقرب في هذا الغطاء أنّه ليس أمانة وكل عليها البنك، بل هو إمّا رهن عنده أو قرض له من العميل. وعليه فلا يصلح أن تفسر العلّاقة بين العميل والبنك على أنّها وكالة (¬2). والذي يظهر ترجيحه ممّا سبق هو ما ذهب إليه القائلون بعدم التفريق بين ما كان مغطى وغير مغطى، باعتبار أن خطاب الضمان سورة حقيقية تطبيقية لعقد الضمان، وقد تقدّم ذكر الإجماع على أنّه لا يجوز أخذ العوض على عقد الضمان المالي، فكذلك هنا لا يجوز أخذ العوض على خطاب الضمان، وقد تقدّمت الأدلة على ذلك مفصلة. ¬

_ (¬1) فقه النوازل لبكر أبو زيد 1/ 210، مجلة مجمع الفقه الإِسلامي، العدد الثّاني 2/ 1209، الكفالة للسالوس ص: 134. (¬2) عقد الضمان المالي ص: 98 - 99.

المسألة الثانية: الاعتماد المستندي

المسألة الثّانية: الاعتماد المستندي: بعض الباحثين بحثوا هذا الموضوع ضمن خطاب الضمان، كأحد أنواع خطابات الضمان، وأفرده البعض الآخر لأهميته، واختصاصه بجانب التجارة الخارجية، والاعتماد المستندي عملية هامة تعرفها التجارة الناشئة عن استيراد البضائع من الخارج، وتسديد قيمتها إلى المصدِّر، وتقوم المصارف بدور هام في تسهيل هذه المهمة ففي التجارة الخارجية تعترض كلًا من البائع والمشتري صعوبات ترجع إلى وجود كلّ منهما في دولة تختلف عن الأخرى، فهناك اختلاف في قوانين كلّ بلد، والخوف من الصعوبات الّتي تنشأ من التقاضي أو انعدام الثقة بين الطرفين، فبينما نجد أن البائع "المصدر" لا يطمئن إلى إرسال بضاعته إلى قطر آخر دون أن يحصل على ثمنها قبل الشحن نجد أن المشتري "المستورد" كذلك لا يطمئن إلى إرسال الثّمن إِلَّا بعد الحصول على البضاعة كاملة والتأكد من مطابقتها للمواصفات المتفق عليها. من هنا قامت المصارف بدور هام بالتوسط في تذليل تلك الصعوبات ممّا يحقق غرض كلّ طرف ممّا يساعد على إتمام الصفقة ويضفي على علاقتها أسباب الثقة والطمأنينة (¬1). أ - تعريف الاعتماد المستندي: الاعتماد المستندي هو: (تعهد كتابي يصدره البنك بناء على طلب مستورد البضاعة لصالح مورِّد، يتعهد فيه المصرف بدفع المبالغ الّتي يستحقها المورد، ثمنًا لسلع يصدرها للمستورد طالب فتح الاعتماد متى قدم المورد المستندات المتعلّقة بالسلع، والشحن، على أن تكون هذه المستندات مطابقة لشروط الاعتماد) (¬2). ¬

_ (¬1) الرِّبَا والمعاملات المصرفية للمترك ص: 398، البنك اللاربوي للصدر، ص: 131. (¬2) موسوعة المصطلاحات الاقتصادية للدكتور/ عبد العزيز هيكل، ص: 488، الكفالة للسالوس ص: 159، مجلة البحوث الإِسلامية 8/ 115، البنك اللاربوي للصدر، ص 131 تطوير الأعمال المصرفية لحمودة، ص: 335.

ب - التخريج الفقهي للاعتماد المستندي

ب - التخريج الفقهي للاعتماد المستندي: توجد في الاعتمادات المستندية ثلاث علاقات: 1 - علاقة بين المصرف والآمر وهو طالب فتح الاعتماد وهو العميل المستورد. 2 - علاقة بين المصرف والمستفيد من فتح الاعتماد هو البائع وتتمثل في التزام البنك بدفع المبلغ (ثمن البضاعة) له. 3 - علاقة بين المستفيد والآمر من أجل صفقة البيع. وبين هؤلاء الثّلاثة عدة عقود مرتبطة بعضها ببعض وهي: 1 - عقد بيع بين البائع المستفيد وبين المشتري العميل. 2 - عقد ضمان التزم فيه البنك التزامًا خاصًا للبائع المستفيد بدفع مبلغ معين من أجل الصفقة عند وصول الوثائق اللازمة مستوفية للشروط. 3 - عقد وكالة من المشتري للمصرف لقيامه عنه بإجراءات معينة تتعلّق بإتمام الصفقة. وهذه العقود كلّ منها جائز في نفسه، ولا مانع من تعددها لعدم التضارب بين خواصها وآثارها، بل بعضها يخدم بعضًا، ويساعد على الانجاز بسهولة في أقرب وقت ممكن (¬1). جـ - أخذ العوض على إصدار خطاب الاعتماد المستندي: ذهب البعض إلى التفريق بين خطاب الاعتماد المغطى وغير المغطى فإذا كان الاعتماد مغطى غطاءً كاملًا، بأن قام المشتري بدفع ثمن البضاعة كاملًا للبنك، ففي هذه الحالة يكون البنك مجرد وكيل عن المشتري، فما يأخذه البنك من عمولة، تعد أجرًا أو جعلًا عن وكالته لا عن كفالته. ¬

_ (¬1) مجلة البحوث الإِسلامية 8/ 145 - 146.

وإن كان الاعتماد غير مغطى كليًا أو جزئيًا، فإن المصرف في هذه الحالة يعد كفيلًا وضامنًا فإذا أخذ عمولة على ضمانه فإن ذلك لا يجوز كما تقدّم في خطاب الضمان (¬1). وذهبت اللجنة الدائمة للإفتاء إلى أن الاعتماد المستندي قد اقترن به عدة أمور لكل أمر حكمه، منها: 1 - دفع المستورد فائدة للمصرف الوسيط لما دفعه عنه للمصدر من الثّمن، وهو ربا واضح (¬2). قلت: وهذا في حالة تأخر المشتري عن دفع ثمن البضاعة وقيام البنك بدفع الثّمن للبائع (المستفيد) وذلك بناء على التزامه بذلك كما في خطاب الاعتماد، ففي هذه الحالة يكون البنك مقرضًا للمشتري وأخذه للفائدة على القرض ربا واضح لا خلاف فيه. 2 - ما يدفعه المستورد للبنك من عمولة لضمان المصرف وفي إباحتها نظر. قلت: توقف اللجنة الدائمة في إباحة عمولة الضمان له ما يبرره؛ لأنَّ خطاب الاعتماد المستندي إذا لم يكن مغطى بثمن البضاعة كاملًا فإنّه في هذه الحالة لا يجوز دفع العمولة للبنك على خطاب الاعتماد؛ لأنَّ البنك ضامن والضمان لا يجوز أخذ العوض عليه كما تقدّم وإذا كان مغطى كاملًا ففي هذه الحالة ذهب البعض كما تقدّم إلى أن العلّاقة حينئذ بين البنك والعميل هي علاقة وكالة وأخذ العوض أو الأجر على الوكالة جائز. ¬

_ (¬1) الكفالة للسالوس ص 160، الرِّبَا والمعاملات المصرفية للمترك ص: 402. (¬2) مجلة البحوث الإِسلامية 8/ 146، وقد ذكرت اللجنة الدائمة للإفتاء هذه الأمور وقرنت كلّ أمر بحكمه الشرعى.

أمّا إذا كان الاعتماد له غطاء جزئي فالتفصيل كما تقدّم في خطاب الضمان أنّه يكون في الجزء المغطى عقد وكالة وفي غير المغطى عقد كفالة فيجوز أخذ العوض على الجزء المغطى دون الجزء غير المغطى، فلعلّه في ظل هذا التفصيل لم تبت اللجنة في ذلك، بخلاف خطاب الضمان فإنهم منعوا أخذ العوض على خطاب الضمان دون تفصيل بين المغطى وغير المغطى. 3 - دفع مقابل التّأمين على البضاعة من المخاطر أو التزام ذلك وقد يقال بتحريمه لما فيه من المغامرة وأكل المال بالباطل. 4 - دفع المستورد أجرة للمصرف مقابل ما يقوم به من خدمات وإجراءات تتعلّق بالبضاعة وهو جائز إنَّ لم يتخذ ستارًا للربا، وإلا امتنع. 5 - بيع المصرف البضاعة المشتراه قبل قبضها ليستوفي منها دينه على المشتري إذا امتنع من تسلمها، وهذا محرم مطلقًا أو إذا كانت البضاعة طعامًا للأحاديث الواردة في ذلك. ثمّ خلصت اللجنة الدائمة للإفتاء إلى الحكم التالي: "فإذا ثبت تحريم ما ذكر أو بعضه فالاعتمادات المستندية محرّمة لما لابسها لا لذاتها، وهل يعود ذلك التّحريم على العقد بالفساد أو يبطل الشرط الملابس للعقد ويمضي العقد، هذا محلّ نظر وموضع اجتهاد اختلفت في مثله آراء الفقهاء وعلماء الأصول" (¬1). ¬

_ (¬1) مجلة البحوث الإِسلامية 8/ 147.

المطلب الثاني أخذ المال على الكفالة

المطلب الثّاني أخذ المال على الكفالة (¬1) المراد بالكفالة هنا هي الكفالة بالنفس (¬2)، وهي -كما تقدّم- أحد نوعي الكفالة أو الضمان عند الفقهاء بمعناه العام. والكفالة أحد عقود التوثيق المهمة وهي أوسع من الضمان المالي؛ لأنَّ الضمان المالي يمتنع منه كثير من النَّاس، بخلاف كفالة النفس (¬3). والكفالة عقد تبرع وإرفاق وإحسان ومعروف، والكلام في الكفالة كالكلام في عقد الضمان المالي من حيث عدم جواز أخذ الأجرة أو الجعل عليها. وقد تقدّم نقل الإجماع وذكر الأدلة الأخرى الدالة على المنع من أخذ العوض على الكفالة والضمان، حيث إنَّ العلماء لم يفرقوا بين الضمان والكفالة في ذلك بل ¬

_ (¬1) الكفالة في اللُّغة: الضمان والالتزام. والكفالة مصدر كفل، يقال: كفل كفالة: إذا التزم، والكفالة: تكون بالمال وبالنفس، يقال كفلت بالمال وبالنفس كفلًا، وكفل بالرجل كفلًا وكفاله: ضمنه. والكفيل: الضامن، والجمع كفلاء، وكُفّل. انظر: المصباح المنير للفيومي ص: 536، مادة (كفل)، القاموس المحيط، مادة: (كفل) ص: 1361، لسان العرب، مادة (كفل) 11/ 590. (¬2) الكفالة في الاصطلاح: جاء تعريف الكفالة في الاصطلاح عند الفقهاء على وجهين: الأوّل: الكفالة بمعناها العام الشامل لكفالة المال وكفالة النفس ومن ذلك ما عرفها به الحنفية قالوا: "هي ضم ذمة الكفيل إلى ذمة الأصيل في المطالب بنفس أو دين أو عين". الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 4/ 249. الثّاني: الكفالة بمعناها الخاص: وهو كفالة النفس فقط دون كفالة المال، ومن ذلك ما عرفها به الحنابلة، فقالوا: "هي التزام رشيد إحضار من عليه حق مالي لربه". الروض المربع مع حاشية ابن قاسم 5/ 108. (¬3) حاشية ابن قاسم على الروض المربع 5/ 108.

جاءت عباراتهم عامة شاملة للضمان بمعناه العام الشامل لكفالة النفس أو البدن، أو للكفالة بمعناها العام الشامل للكفالة بالمال والكفالة بالنفس (¬1). والكفالة بالنفس وإن كان لا يتعلّق بها التزام مالي في الأصل (¬2) فلا تؤول إلى قرض وعليه فإنّه ينتفي محذور الرِّبَا، إِلَّا أنّها تبقى من عقود التبرع والإحسان فلا يجوز الاعتياض عنها بمال (¬3). وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الكفالة بالنفس قد تؤول إلى الضمان المالي ويغرم فيها الكفيل ما على المكفول من الدِّين، وذلك إذا فرط في إحضار المكفول إلى المكفول له في الوقت العين وفي الموضع المتفق عليه أو في موضع يتمكن فيه صاحب الحق من إحضاره إلى مجلس القضاء ليستوفي حقه، وهذا هو المقصود من عقد الكفالة. وممن ذهب إلى أن الكفيل يغرم إذا قصر في ذلك: المالكية (¬4) وهو قول عند الشّافعيّة (¬5)، وهو المذهب عند الحنابلة (¬6). وفي هذه الحالة يكون لا فرق بين الكفالة والضمان من حيث النتيجة إذ تؤول إلى قرض فإذا أخذ الأجرة على كفالته كان القرض سلف وزيادة فيكون ربا فلا يجوز حينئذ أخذ الأجرة على الكفالة. ¬

_ (¬1) الهداية للمرغيناني 5/ 391، شرح فتح القدير لابن الهمام 5/ 391، الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 4/ 249، شرح حدود ابن عرفة للرصاع 2/ 427، التاج والإكليل للمواق 5/ 111، الإقناع للشربيني مع حاشية البجيرمي 3/ 95، نهاية المحتاج للرملي 4/ 432، المغني لابن قدامة 6/ 441، شرح منتهى الإرادات للبهوتي 2/ 225. (¬2) لأنّها كما هو ظاهر التزام بإحضار نفس المكفول إلى رب الدِّين كما تقدّم في تعريفها. (¬3) شرح فتح القدير لابن الهمام 5/ 389، 406، التاج والإكليل للمواق 5/ 111، نهاية المحتاج للرملي 4/ 438 مطالب أولى النّهي 3/ 300. (¬4) التاج والإكليل للمواق 5/ 105، حاشية الدسوقي 3/ 345. (¬5) نهاية المحتاج للرملي 4/ 452. (¬6) كشاف القناع للبهوتي 3/ 362.

المبحث الثالث أخذ المال على الصلح

المبحث الثّالث أخذ المال على الصلح (¬1) لا تخفى أهمية الصلح وما له من مكانة في الشّريعة الإِسلامية، وقد تواردت النصوص من الكتاب والسُّنَّة على أهميته وفضله (¬2)، لما يترتب عليه من المصالح الخاصة والعامة، وذلك لما فيه من قطع المنازعة بين المتخاصمين، وإزالة العداوة والبغضاء من القلوب وإشاعة المحبة والخير بين كافة أفراد المجتمع. قال البهوتي: "الصلح من أكبر العقود فائدة، لما فيه من قطع النزاع والشقاق، ولذلك أبيح فيه الكذب" (¬3). ¬

_ (¬1) الصُّلح في اللُّغة: اسم بمعنى المصالحة والتصالح، والصُّلح: التوفيق، يقال: أصلحت بين القوم: وفقت بينهم، والصلح: السِّلم، والصلاح: ضد الفساد، قال الراغب الأصفهاني: "والصلح يختص بإزالة النفار بين النَّاس". مفردات القرآن للراغب ص: 489، لسان العرب لابن منظور 2/ 516 - 517. واصطلاحًا: جاءت تريفات الفقهاء للصلح متقاربة في المعنى، ومن هذه التعريفات أنّه: "عقد يرفع النزاع ويقطع الخصومة"، إذن: فالصلح معاقدة يرتفع بها النزاع بعد وقوعه ويتم به التوفيق بين المختلفين، وهذا ما عليه جمهور الفقهاء، إِلَّا أن المالكية يرون أنّه يرفع كذلك ما يخشى وقوعه، ولذلك زادوا قيدًا في تعريفاتهم وهو: "أو خوف وقوعه". الدر المختار للحصفكي 4/ 472، مواهب الجليل للحطاب 5/ 79، نهاية المحتاج للرملي 4/ 371، كشاف القناع للبهوتي 3/ 390. (¬2) ومن هذه النصوص قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} الحجرات، آية: 9، وقوله تعالى، {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النِّساء: 128]، وقوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النِّساء: 114]. وما رواه سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: إنَّ أهل قباء اقتتلوا حتّى تراموا بالحجارة فأخبر رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - فقال: (اذهبوا بنا نصلح بينهم). أخرجه البخاريّ، كتاب الصلح، باب قول الإمام لأصحابه: اذهبوا بنا نصلح 5/ 354 (2693). (¬3) كشاف القناع للبهوتي 3/ 391.

وأمّا ما يتعلّق بأخذ المال على الصلح، فالمراد به هنا هو من يقوم بالإصلاح بين الخصوم، هل يجوز له أخذ مال على عمله أم لا؟. يتوقف حكم هذه المسألة على صفة من يقوم بمباشرة الصلح فقد يكون المباشر للصلح هو الإمام الأعظم أو نائبه، وقد يكون القاضي، وقد يكون إنسانًا صالحًا متبرعًا بذلك، وقد يكون محكمًا يختارونه وبيان ذلك كما في المطالب الآتية:

المطلب الأول الإمام الأعظم أو نائبه

المطلب الأوّل الإمام الأعظم أو نائبه إذا كان الّذي يباشر عملية الإصلاح بين الخصوم هو إمام المسلمين أو نائبه ففي هذه الحالة فإنّه لا يجوز له أخذ عوض على ذلك؛ لأنَّ الإصلاح بين الرعية من مهام عمله، ويدلُّ على ذلك ما يأتي: الدّليل الأوّل: حديث سهل بن سعد المتقدم قال: أن أهل قباء اقتتلوا حتّى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - فقال: (اذهبوا بنا نصلح بينهم) (¬1). وجه الاستدلال: وجه الاستدلال من هذا الحديث ظاهر، حيث قام رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - وهو الإمام الأعظم للمسلمين بالصلح بين أهل قباء، فدلّ ذلك على أن الإصلاح بين المتخاصمين من عمل إمام المسلمين، والإمام لا يعتاض عن ذلك لما له من الكفاية في بيت المال بالإجماع وقد تقدّم ذلك (¬2). الدّليل الثّاني: عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: (كان قتال بين بني عمرو بن عوف فبلغ ذلك النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، فصلّى الظهر ثمّ أتاهم يصلح بينهم) (¬3). وفي رواية: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ، كتاب الصلح، باب قول الإمام لأصحابه "اذهبوا بنا نصلح" 5/ 354 (2693). (¬2) انظر: فتح الباري لابن حجر 13/ 194 - 195. (¬3) أخرجه البخاريّ، كتاب الأحكام، باب الإمام يأتي قومًا فيصلح بينهم 13/ 194 (7190).

وجه الاستدلال

(أن ناسًا من بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء، فخرج إليهم النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في أناس من أصحابه يُصلح بينهم) (¬1). وجه الاستدلال: حيث دلّ الحديث على جواز مباشرة الحاكم الصلح بين الخصوم، وقد ترجم الإمام البخاريّ لهذا الحديث بقوله: "باب الإمام يأتي قومًا فيصلح بينهم" (¬2)، قال ابن المنير: "فقه التّرجمة التنبيه على جواز مباشرة الصلح بين الخصوم ... وعلى جواز ذهاب الحاكم إلى موضع الخصوم للفصل بينهم" (¬3). فهذه الأحاديث تدل صراحة على أن الإمام الأعظم يباشر الصلح بين المسلمين فيما وقع بينهم من خصام أو عداوة وإن اضطره ذلك للذهاب إلى موضع الخصوم، وقد تقدّم أن الحاكم إنّما يأخذ نفقته ونفقة من يمونه، وكل ما يلزم هذا المنصب الشريف من بيت المال، وهذا محلّ إجماع بين المسلمين كما سيأتي (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ، كتاب الصلح، باب ما جاء في الإصلاح بين النَّاس، وخروج الإمام إلى المواضع ليصلح بين النَّاس بأصحابه 5/ 350 (2690). (¬2) صحيح البخاريّ مع فتح الباري لابن حجر 13/ 194. (¬3) فتح الباري لابن حجر 13/ 194 - 195. (¬4) راجع مبحث أخذ المال على الإمامة العظمى ص 693.

المطلب الثاني القاضي أو من ينيبه

المطلب الثّاني القاضي أو من ينيبه إذا قام القاضي بنفسه بمباشرة الصلح بين الخصوم أو أناب أحدًا من أعوانه للقيام بذلك، فإن ذلك من مهام القاضي وهو مندوب إلى الإصلاح بين الخصوم ويدلُّ لذلك: الدّليل الأوّل: قوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النِّساء: 128]. وجه الاستدلال: حيث دلت اللآية الكريمة أن الصلح خير، فكأن ردّ القاضي للخصوم حتّى يصطلحوا ردًا للخير (¬1). الدّليل الثّاني: ما روي عن عمر - رضي الله عنه - قال: (ردوا الخصوم حتّى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث الضغائن بين النَّاس) (¬2). وجه الاستدلال: دلّ الأثر على أنّه يستحب للقاضي رد الخصوم إلى الصلح، وأن لا يبادر إلى القضاء لما يترتب عليه من إبقاء الضغائن في النفوس، وعليه فإنّه إذا قام القاضي ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني 7/ 13، قال الإمام السرخسي معقبًا على أثر عمر: "فيه دليل على أن القاضي لا ينبغى أن يعجل بالحكم وأنّه مندوب إليه أن يردّ الخصوم ليصطلحوا على شيء، أو يدعوهم إلى ذلك فالفصل بطريق الصلح يكون أقرب إلى بقاء المودة والتحرز من النفرة بين المسلمين". المبسوط للسرخسي 20/ 136 - 138. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6/ 109 (11360)، وابن أبي شيبة، كتاب البيوع والأقضية، باب في الصلح بين الخصوم 7/ 213 (2938)، وعبد الرزّاق في مصنفه 8/ 304 (15304)، قال البيهقي: "هذه الروايات عن عمر - رضي الله عنه - منقطعة".

بالصلح أو ندب أحد أعوانه من الصلحاء الموثوق بهم، فإن ذلك لا يوجب عوضًا؛ لأنَّ القاضي يأخذ رزقه من بيت المال على عمله وهذا من عمله وسيأتي تفصيل ذلك (¬1). ¬

_ (¬1) راجع ص: 697 مبحث أخذ المال على القضاء.

المطلب الثالث إذا تطوع إنسان بذلك

المطلب الثّالث إذا تطوع إنسان بذلك إذا قام أحد أهل الخير والصلاح بالتدخل بين الخصوم، فأصلح بينهم فإن هذا من أحب الأعمال وأزكاها عند الله تعالى، وفي هذه الحالة فإنّه لا يستحق عوضًا على عمله هذا وذلك لما يأتي: الدّليل الأوّل: قوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النِّساء: 114]. وجه الاستدلال: دلت هذه الآية الكريمة على الترغيب في الإصلاح بين النَّاس وأن يقوم به الإنسان على وجه الاحتساب والإخلاص لله عَزَّ وَجَلَّ ابتغاء الثّواب الجزيل في الآخرة؛ لأنَّ من فعله لغير ذلك، فهو غير مستحق لهذا المدح والجزاء، بل قد يكون غير ناج من الوزر، وهذا يدلُّ على أنّه لا يجوز أخذ العوض على الإصلاح بين النَّاس؛ لأنَّ أخذ العوض ينافي الاحتساب (¬1). الدّليل الثّاني: يمكن الاستدلال لذلك بأن من قام بالإصلاح متطوعًا بذلك، فإنّه يكون متبرعًا به، وعليه فلا يجوز أخذ العوض على عمله في هذه الحالة. فإن غرم بسبب الإصلاح دينًا في ذمته، بأن يكون الصلح متوقفًا على المال، فيلتزم ذلك المال في ذمته حتّى يتم الصلح وترتفع العداوة وتزول الخصومة، فإنّه في ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/ 365، فتح القدير للشوكاني 1/ 515.

أ - القرآن

هذه الحالة قد أتى معروفًا كبيرًا، فيعطي من أموال الزَّكاة ما يسد به دينه وما تفرغ به ذمته. وقد دلّ على ذلك القرآن والسُّنَّة: أ - القرآن: قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60]. وجه الاستدلال: دلت الآية الكريمة في قوله تعالى: {وَالْغَارِمِينَ} على أن الغارم يعطي من الزَّكاة ما يوفي به دينه، ومن ذلك الغارم لإصلاح ذات البين، قال الإمام القرطبي عند تفسير هذه الآية: "ويجوز للمتحمل في صلاح وبر أن يعطي من الصَّدقة ما يؤدِّي ما تحمل به، إذا وجب عليه وإن كان غنيًا" (¬1). ب - السُّنَّة: عن قبيصة بن المخارق الهلالي - رضي الله عنه - قال: تحملت حمالة (¬2) فأتيت رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أسأله فيها، فقال: (أقم حتّى تأتينا الصَّدقة فنأمر لك بها) قال: ثمّ قال: (يا قبيصة إنَّ المسألة لا تحل إِلَّا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فعلت له المسألة حتّى يصيبها ثمّ يمسك ... " الحديث (¬3). ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/ 184. (¬2) الحمَالة: الحمالة بالفتح: ما يتحمله الإنسان عن غيره من دية أو غرامة مثل أن تقع حرب بين فريقين تسفك فيها الدماء، فيدخل بينهم رجل يتحمل ديات القتلى ليصلح ذات البين، والتحمّل: أن يحملها على نفسه. النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 1/ 442، شرح النوويّ على مسلم 7/ 133. (¬3) أخرجه مسلم، كتاب الزَّكاة، باب من تحل له المسألة 2/ 722 (1044).

وجه الاستدلال

وجه الاستدلال: دلّ الحديث على حل الزَّكاة للغارم لمصلحة غيره، وهو الغارم لإصلاح ذات البين، فيأخذ مقدار ما تحمله من الزَّكاة وإن كان غنيًا. وإعطاء المتحمل لإصلاح ذات البين أو الغارم لمصلحة الغير هو مذهب جمهور العلماء من المالكية (¬1) والشّافعيّة (¬2) والحنابلة (¬3). وقد استدلوا لمذهبهم بما تقدّم ذكره من أدلة. وخالف الحنفية في ذلك فقالوا: إنَّ المتحمل لا يعطي من الزَّكاة إِلَّا إنَّ كان لا يملك نصابًا، فاضلًا عن دينه كغيره من المدينين (¬4). وقد استدلوا لمذهبهم بما يأتي: حديث معاذ حين بعثه النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - إلى اليمن فقال له: (فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) (¬5). وجه الاستدلال: دلّ الحديث على أن الزَّكاة لا تعطى إِلَّا للفقراء وهم من لا يملكون مائتي درهم. مناقشة الاستدلال: أوَّلًا: أن ذكر الفقراء في الحديث إنّما خرج مخرج الغالب؛ لأنّهم أكثر من تدفع إليهم الصَّدقة، وحقهم آكد من غيرهم (¬6). ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/ 184، وانظر: الشرح الكبير لشمس الدِّين ابن قدامة 2/ 704. (¬2) المهذب للشيرازي 1/ 172، روضة الطالبين 2/ 318. (¬3) المغني لابن قدامة 9/ 324، الشرح الكبير لشمس الدِّين ابن قدامة 2/ 704. (¬4) الهداية للمرغيناني 2/ 17، العناية على الهداية للبابرتي 2/ 17. (¬5) الحديث متفق عليه، وتقدم تخريجه ص 481 مبحث الزَّكاة. (¬6) سبل السّلام للصنعاني 2/ 244.

ثانيًا: أن هذا الحديث عام مخصوص (¬1)، والذي خصصه قوله - صلّى الله عليه وسلم -: (لا تحل الصَّدقة لغني إِلَّا لخمسة وذكر منها: الغارم) (¬2). ثالثًا: أن حصر ذلك في الفقراء فقط فيه إبطال لحق باقي الأصناف المنصوص عليها في آية الصدقات (¬3). رابعًا: أن الغارم لإصلاح ذات البين، إنّما يوثق بضمانه، إذا كان مليئًا ولا ملاءة مع الفقر (¬4). خامسًا: أن الغارم لمصلحة الغير يأخذ من الزَّكاة لحاجتنا إليه أشبه العامل والمؤلِّف (¬5). وعليه فإن الراجح هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن الغارم لإصلاح ذات البين يعطى من الزَّكاة قدر حمالته لوجود النص الصحيح الصريح في ذلك وهو حديث قبيصة المتقدم، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) الشرح الكبير لشمس الدِّين ابن قدامة 2/ 704. (¬2) تقدّم تخريجه ص 261 مبحث الزَّكاة. (¬3) الشرح الكبير 2/ 704. (¬4) المرجع السابق. (¬5) المرجع السابق.

المطلب الرابع المحكم

المطلب الرّابع المحكَّم (¬1) التحكيم (¬2) أحد طرق الإصلاح بين الخصوم، ووسيلة لإزالة الخصومة وحصول التوفيق بين أرباب النزاع. وهو مشروع بالكتاب (¬3) والسُّنَّة (¬4) والإجماع، فقد أجمع العلماء رحمهم الله تعالى على جواز التحكيم في أمور المسلمين، قال الإمام النوويّ رحمه الله تعالى: " ... وقد أجمع العلماء عليه، ولم يخالف فيه إِلَّا الخوارج فإنهم أنكروا على علي التحكيم" (¬5). وأمّا ما يأخذ المحكم من مال على تحكيمه فعلى النحو التالي: ¬

_ (¬1) المحكَّم في اللُّغة: الشّيخ المجرّب المنسوب إلى الحكمة، وحكّمه في الأمر تحكيمًا: أمره أن يحكم، فاحتكم. لسان العرب لابن منظور 12/ 143، القاموس المحيط ص:1415. واصطلاحًا: "هو الشخص الّذي يوليه الخصمان ليحكم بينهما". وهذا يتضح من خلال معنى التحكيم الآتي: (¬2) التحكيم لغة: مصد حكمه في الأمر والشيء: جعله حكمًا وفوض الحكم إليه. لسان العرب لابن منظور 12/ 143، القاموس المحيط ص: 1415، مختار الصحاح ص: 148. واصطلاحًا: "هو تولية الخصمين حاكمًا يحكم بينهما"، وقيل: "هو عبارة عن اتخاذ الخصمين حاكمًا برضاهما لفصل خصومتهما ودعواهما". الدر المختار للحصفكي 4/ 347، البحر الرائق لابن نجيم 7/ 24، مجلة الأحكام العدلية مع شرحها درر الحكام 4/ 578. (¬3) وذلك في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النِّساء: 35]. (¬4) حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ ... " الحديث أخرجه مسلم، كتاب الجهاد، باب جواز قتال من نقض العهد ... 3/ 1388 (1768). (¬5) شرح النوويّ على مسلم 12/ 92.

أولا: أخذه بلا شرط

أوَّلًا: أخذه بلا شرط: إذا لم يشترط المحكَّم مالًا على تحكيمه، وقام الخصوم بإعطائه شيئًا من المال على سبيل الهدية، بعد انتهاء التحكيم مجازاة له على إحسانه فهذا لا خلاف فيه بين الفقهاء (¬1). ثانيًا: إذا اشترط المحكم أجرًا على عمله: إذا اشترط المحكم أجرة على عمله، فقد اختلف الفقهاء في حكم ذلك على قولين: القول الأوّل: يجوز أخذ الجعل على التحكيم لا الأجرة. وإلى هذا ذهب المالكية (¬2)، والشّافعيّة (¬3)، والحنابلة (¬4)، واختاره ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى (¬5). القول الثّاني: لا يجوز أخذ الجعل على التحكيم. وهذا مقتضى مذهب الحنفية (¬6). ¬

_ (¬1) الدر المختار للحصفكي 4/ 350، حاشية ابن عابدين 4/ 350، الخرشي على خليل 7/ 23، وقد قلت ذلك تخريجًا على مذهبهم في جواز الاستئجار على ما لا يتعين على المرء فعله، فإذا جازت الأجرة، جاز ما دونها من باب أولى، ومن المعلوم أن التحكيم عقد جائز غير لازم. إيضاح الأحكام لما يأخذه العمال والحكام لابن حجر الهيتمي 2/ 392 - 393، مطالب أولي النهى للرحيباني 6/ 460، وهذا مخرج على قول الحنابلة بجواز أخذ الجعل عن شرط، فما كان عن غير شرط فهو أولى بالجواز. (¬2) الخرشي على خليل 7/ 23، تخريجًا على قاعدتهم السابقة. (¬3) إيضاح الأحكام لابن حجر الهيتمي 2/ 392 - 393. (¬4) مطالب أولي النهى للرحيباني 6/ 460. (¬5) بدائع الفوائد لابن القيم 3/ 146. (¬6) وهذا تخريجًا على أصلهم وهو أن كلّ طاعة يختص بها المسلم لا يجوز الاستئجار عليها. الهداية للمرغيناني 7/ 179.

الأدلة والمناقشة

الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة القول الثّاني: استدل هؤلاء بما يأتي: الحنفية لهم أصل في المنع من الاستئجار على الطاعات وهو: أن كلّ طاعة يختص بها المسلم لا يجوز الاستئجار عليها (¬1). ومن المعلوم أن التحكيم طاعة بل ومن أجل الطاعات، ولم يستثن المتأخرون من ذلك سوى تعليم القرآن والآذان والإمامة وتعليم الفقه للضرورة (¬2)، فعلم من ذلك أن التحكيم لا يجوز أخذ العوض عليه. قال المرغيناني: "والأصل أن كلّ طاعة يختص بها السلم لا يجوز الاستئجار عليها عندنا" (¬3). وقال ابن عابدين: " ... جميع ما قدمناه هو مذهب أئمتنا الثّلاثة ومن تبعهم من مشايخ المذهب المتقدمين، وحاصله منع الاستئجار والجعالة على شيء من الطاعات سواء كانت واجبة أم لا" (¬4). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة أصل الحنفية هذا بأنكم قد جوزتم الاستئجار على كثير من الطاعات كالآذان والإمامة والتعليم ونحو ذلك للضرورة، والتحكيم يدخل في ذلك نظزا لأهميته الشديدة وحاجة النَّاس الماسة إليه لقطع النزاع وفصل الخصومات وإزالة الشحناء، وحفظ الحقوق مع كثرة ما يقع من ذلك بين النَّاس في كلّ يوم ¬

_ (¬1) الهداية للمرغيناني 7/ 179، مجموعة رسائل ابن عابدين 1/ 157. (¬2) مجموعة رسائل ابن عابدين 1/ 161. (¬3) الهداية للمرغيناني 7/ 179. (¬4) مجموع رسائل ابن عابدين 1/ 157.

ثانيا: أدلة القول الأول

فكانت حاجتهم إلى التحكيم ضرصرة، وقد لا يوجد المحتسب فيتعطل هذا المنصب فتكثر العداوة والبغضاء بين النَّاس وربما تسفك الدماء. ثانيًا: أدلة القول الأوّل: استدل أصحاب هذا القول بما يأتي: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ التحكيم عمل مباح، لا يتعين عليه، فجاز أخذ الأجرة عليه كسائر الأعمال المباحة (¬1). الدّليل الثّاني: قالوا: يجوز للمحكم أخذ الجعل على التحكيم كالقاضي لحاجة النَّاس ولئلا يتعطل هذا المنصب وتضييع الحقوق (¬2). الدّليل الثّالث: القياس على القاسم، فكما أنّه يجوز للقاسم أخذ الأجرة على القسمة فكذلك المحكم، بجامع أن عمل كلّ منهما يؤدِّي إلى فض النزاع بين المتخاصمين، وليس لهما رزق من بيت المال على هذا العمل (¬3). الترجيح: الّذي يظهر من خلال ما سبق هو رجحان القول الأوّل القاضي بجواز أخذ الجعل على التحكيم، لقوة ما علل به هؤلاء، وللفارق بين المحكم والقاضي، ولكون التحكيم عمل لا يلزم كلا الطرفين فهو أقرب إلى المباحات، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) إيضاح الأحكام لابن حجر الهيتمي 2/ 394، بدائع الفوائد لابن القيم 3/ 146. (¬2) مطالب أولي النهى للرحيباني 6/ 460. (¬3) الضوابط الشرعية للتحكيم للدكتور صالح الحسن ص: 82 - 83.

المبحث الرابع أخد المال على الوديعة

المبحث الرّابع أخد المال على الوديعة (¬1) عقد الوديعة عند الفقهاء من عقود الإرفاق والإحسان والأمانة والتبرع، وهو سورة من صور التعاون على البرّ والتقوى بين المسلمين (¬2). ¬

_ (¬1) الوديعة في اللُّغة: أوَّلًا: الوديعة في اللُّغة: السكون والترك، والخفض والدعة، والوديعة واحدة الودائع، وهي: ما استودع. وهي من ودع الشيء إذا تركه، فالوديعة متروكة عند المودَع، وقيل: هي من ودع الشيء يدع: إذا الشقر وسكن؛ لأنّها ساكنة ومستقرة عند الوديع، والمستودع: المكان الّذي تجعل فيه الوديعة، واستودعه مالًا، وأودعه إياه: دفعه إليه ليكون عنده وديعة. المصباح المنير للفيومي، ص: 653، لسان العرب لابن منظور 8/ 386، 387. وأمّا الوديعة في الاصطلاح: يطلق الفقهاء كلمة (الوديعة) في الاصطلاح على العين المستحفظة، وعلى الإيداع بمعنى العقد المقتضى للحفظ، وهي حقيقة شرعية فيهما، ومن تعريفات الفقهاء للوديعة: (أ) تعريف الحنفية: "هي تسليط الغير على حفظ ماله صريحًا أو دلالة". الدر المختار للحصكفي 4/ 492. (ب) تعريف المالكية: "هي توكيل بحفظ مال". مختصر خليل، ص: 223. (جـ) تعريف الشّافعيّة: "هي توكيل في حفظ مملوك أو محترم مختص على وجه مخصوص". مغني المحتاج 3/ 79. (د) تعريف الحنابلة: "هي المال المدفوع إلى من يحفظه بلا عوض". شرح منتهى الإرادات للبهوتي 2/ 449. تنبيه: الّذي عليه جمهور العلماء أن الوديعة في حقيقتها عقد شرعي من عقود الأمانات، وليست مجرد إذن بالحفظ، كما ذهب إلى ذلك بعض الشّافعيّة والمالكية. (¬2) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 4/ 493، عقد الجواهر لابن شاس 2/ 721، المهذب للشيرازي 1/ 359، مغني المحتاج للشربيني 3/ 79، قال الشربيني: (والأصح أنّها عقد) المغني لابن قدامة 9/ 256.

المطلب الأول اشتراط الأجرة على عقد الوديعة

أمّا ما يتعلّق بأخذ الأجرة على عقد الوديعة فبيان ذلك في المطلبين التالبين: المطلب الأوّل اشتراط الأجرة على عقد الوديعة لا خلاف بين الفقهاء في أن الأصل في الوديعة أنّها من عقود التبرعات الّتي تقوم على الرفق والمعونة والإحسان وتنفيس الكربة، وقضاء الحاجة، فمن قام بحفظها لصاحبها تبرعًا واحتسابًا للأجر من الله تعالى، فإن ذلك من أحب الأعمال وأفضلها وأن العبد يؤجر على ذلك من الله تعالى. أمّا إذا شرط الوديع أجرة على الوديعة في مقابل حفظها، وحرزها (¬1) فقد اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأوّل: لا يجوز أخذ الأجرة على الوديعة سواء أكانت أجرة حفظها أم أجرة حرزها. وإلى هذا ذهب الحنابلة (¬2)، وبعض الشّافعيّة (¬3). القول الثّاني: يجوز أخذ الأجرة على حرز الوديعة، أمّا أخذ الأجرة على حفظها فلا يجوز. وإلي هذا التفصيل ذهب المالكية (¬4). ¬

_ (¬1) الحرز في اللُّغة: هو المكان الّذي يحفظ فيه، والموضع الحصين، والجمع أحراز. مختار الصحاح للرازي ص: 130، المصباح المنير للفيومي، ص: 129. وفي الاصطلاح: قيل هو: "المكان الّذي يحفظ فيه المال"، وقيل هو: "ما من شأنّه أن تحفظ فيه الأموال كي يعسر أخذها". شرح فتح القدير لابن الهمام 4/ 238، بداية المجتهد لابن رشد 2/ 449. (¬2) معونة أولي النهى لابن النجار 5/ 482، كشاف القناع للبهوتي 4/ 66. (¬3) نهاية المحتاج للرملي 6/ 111، أسنى المطالب 3/ 76، الأشباه والنظائر للسبكي 2/ 87، 88. (¬4) بداية المجتهد لابن رشد 2/ 312، عقد الجواهر لابن شاس 2/ 729، الزرقاني على خليل 6/ 125.

الأدلة والمناقشة

القول الثّالث: يجوز مطلقًا أخذ الأجرة على حفظ الوديعة وعلى حرزها. وإلى هذا ذهب الحنفية (¬1)، وجمهور الشّافعيّة، وهو الصحيح عندهم (¬2). الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة أصحاب القول الثّالث: استدل أصحاب هذا القول على جواز أخذ الأجرة على الحفظ والحرز بما يأتي: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ الواجب على الوديع هو أصل القبول للوديعة، دون إتلاف منفعته، ومنفعة حرزة في الحفظ بلا عوض (¬3). الدّليل الثّاني: قالوا: يجوز أخذ الأجرة على الوديعة وإن كانت متعينة، قياسًا على أخذ الأجرة على تعليم الفاتحة وسقي اللبأ (¬4) وإنقاذ الغريق وإن كانت متعينة بجامع أن كلا منها واجب متعين على المرء فعله (¬5). ثانيًا: أدلة أصحاب القول الثّاني: استدل من قال بالتفصيل بما يأتي: قالوا: أمّا عدم أخذ الأجرة على الحفظ فذلك لما يأتي: ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص: 275، الفتاوى الهندية 4/ 342، مجلة الأحكام العدلية: مادة: 780، ص: 239، مع شرح علي حيدر. (¬2) تحفة المحتاج للهيتمي 7/ 100، مغني المحتاج 3/ 79. (¬3) أسنى المطالب للأنصاري 3/ 74. (¬4) اللبأ هو: أول اللبن عند الولادة، يقال: لبأت الشاة ألبؤها: حلبتُ. المصباح المنير ص: 548 (¬5) تحفة المحتاج للهيتمي 7/ 100، نهاية المحتاج للرملي 6/ 111.

ثالثا: أدلة أصحاب القول الأول

1 - إنَّ حفظ الوديعة نوع من الجاه وهو لا يؤخذ عليه أجرة كالقرض والضمان (¬1). 2 - إنَّ عادة النَّاس أنّهم لا يأخذون لحفظ الودائع أجرة (¬2)، وأمّا جواز أخذ الأجرة على الحرز فلأنّه لا يلزمه بذل منفعة حرزه بدون عوض (¬3). ثالثًا: أدلة أصحاب القول الأوّل: استدل أصحاب هذا القول على المنع مطلقًا من أخذ الأجرة على الوديعة بما يأتي: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ الأجر إنّما يكون في الإجارة على حفظ المال لا على الوديعة، وفي هذه الحالة يكون الآخذ أجيرًا لا وديعًا (¬4). الدّليل الثّاني: قالوا: إذا أخذت الأجرة على الحفظ، فإن الوديعة في هذه الحالة تخرج عن اسمها، فلا تكون وديعة وإنّما هو إجارة على حفظ مال (¬5). فهذه أدلة أصحاب هذا القول ويستدل لهم كذلك بأدلة أصحاب القول الثّاني، وهي الأدلة على عدم جواز أخذ الأجرة على حفظ الوديعة. الترجيح: الّذي يظهر رجحانه من الأقوال السابقة هو القول الأوّل القاضي بالمنع من أخذ المال على الوديعة، وذلك لما يأتي: ¬

_ (¬1) الزرقاني على خليل 6/ 125. (¬2) حاشية البناني على الزرقاني 6/ 125، حاشية الصاوي على الشرح الصغير للدردير 3/ 566. (¬3) التاج والإكليل للمواق 5/ 266، أسنى المطالب 3/ 76. (¬4) معونة أولي النهى لابن النجار 5/ 482، كشاف القناع 4/ 166. (¬5) جواهر الأكليل للآبي 2/ 144.

أوَّلًا: قوة أدلته بالمقارنة بأدة الأقوال الأخرى. ثانيًا: أن هذا القول هو الّذي يتفق مع طبيعة عقد الوديعة؛ إذ هو عقد تبرع ومعروف وإحسان وقربة إلى الله تعالى، فأخذ الأجرة عليه ينافي طبيعته ومقصوده. ثالثا: أننا إذا جوزنا أخذ الأجرة على الوديعة، فإننا بذلك نخرجها من بابها إلى باب آخر، وهو: حفظ المال بأجرة، وهذا ليس بمقصود هنا.

المطلب الثاني التطبيق المعاصر لعقد الوديعة

المطلب الثّاني التطبيق المعاصر لعقد الوديعة من التطبيقات المعاصرة لعقد الوديعة ما يسمى (بالودائع المصرفية) أو (الوديعة البنكية)، والكلام حولها على النحو التالي من خلال المسائل التالية: المسألة الأولى: التعريف بالوديعة البنكية عُرّفت الوديعة البنكية بتعريفات عديدة من أهمها: أن الوديعة البنكية هي: "مبلغ من النقود يودع لدى البنوك بوسيلة من وسائل الإيداع، فينشئ وديعة تحت الطلب أو لأجل محدد اتفاقًا، ويترتب عليه من ناحية البنك، الالتزام بدفع مبلغ معين من وحدات النقد القانونية، للمودع أو لأمره لدى الطلب أو بعد أجل" (¬1). المسألة الثّانية: أنواع الودائع البنكية تتنوع الودائع المصرفية وذلك بحسب تاريخ استردادها إلى ثلاثة أنواع: النوع الأوّل: الودائع الجارية (تحت الطلب): وهي المبالغ الّتي يودعها أصحابها في البنوك، ويجوز لهم سحبها واستردادها متى شاؤوا، وبدون سابق إخطار، ويلتزم البنك بردها فورًا إذا طولب بذلك. وهذا النوع لا تدفع البنوك لأصحابه فائدة، وذلك؛ لأنَّ المصارف لا تستطيع الاعتماد على هذا النوع من الودائع في تمويل نشاطها المصرفي، ولما تقتضيه الضّرورة من احتفاظ البنك في خزانته بأموال كافية لدفع قيمتها عند الطلب (¬2). ¬

_ (¬1) موسوعة المصطلحات الاقتصادية والإحصائية للدكتور عبد العزيز هيكل، ص: 64، البنك اللاريوي في الإسلام ص: 83 - 84، المصارف والأعمال المصرفية في الشّريعة الإسلامية والقانون للدكتور غريب الجمال ص: 36، دار الشروق ومؤسسة الرسالة، بيروت. (¬2) موسوعة المصطلحات الاقتصادية للدكتور حسين عمر، ص: 263، المصارف والأعمال المصرفية للدكتور غريب الجمال، ص: 37، الودائع المصرفية النقدية، واستثمارها في الإسلام للدكتور حسن عبد الله الأمين، ص: 209، 210. وهذا النوع من الحسابات أو الودائع هو أكثر أنواع الودائع نسبة في التعامل، والتعبير المتبع في التعامل به هو: (حسابات جارية).

النوع الثاني: الودائع الثابتة (الودائع لأجل)

النوع الثّاني: الودائع الثابتة (الودائع لأجل): هي عبارة عن المبالغ الّتي يضعها أصحابها في البنك بناء على اتفاق بينهما، بعدم سحب المودع لها أو شيئًا منها إِلَّا بعد مضي فترة زمنية محددة متفق عليها. وعليه فإن العميل لا يتمكن من سحب وديعته إِلَّا بعد انتهاء المدة المحددة، وتقوم المصارف بدفع فوائد على هذا النوع من الودائع، وتكون هذه الفوائد ثابتة وينسبه معينه في المائة تختلف حسب المدة المنصوص عليها في العقد، ويزيد مقدار هذه الفائدةُ كلما زادت المدة المحددة (¬1). النوع الثّالث: ودائع التوفير وهي عبارة عن المبالغ الّتي يودعها أصحابها في البنك بغرض التوفير والادخار، وينشئون بها حسابًا في دفتر خاص (دفتر التوفير) توضح فيه إيداعات ومسحوبات صاحبه. وتوجد حدود للسحب اليومي من الرصيد في هذا الدفتر، ولا يمكن لصاحبه سحب كامل رصيده دفعة واحدة (¬2). ومن الملاحظ أن هذا النوع من الودائع ذو طبيعة مزدوجة إذ يلتقي مع الودائع الجارية في إمكان السحب منها متى شاء المودع لكن في الحدود المتفق عليها، كما أنّها تلتقي مع الودائع لأجل في أن المودع لا يمكنه سحبها دفعة واحدة، وكذلك فإن البنك يدفع فوائد عليها للموفرين كما الحال في الودائع لأجل (¬3). ¬

_ (¬1) الودائع المصرفية للدكتور حسن الأمين، ص: 210، المصارف والأعمال المصرفية للجمال، ص: 37، الرِّبَا والمعاملات المصرفية للمترك، ص: 345. (¬2) الودائع المصرفية للأمين، ص: 210، المعاملات المصرفية للمترك ص: 354. (¬3) الودائع المصرفية للأمين، ص: 210.

المسألة الثالثة: التكييف الفقهي للودائع المصرفية

المسألة الثّالثة: التكييف الفقهي للودائع المصرفية بعد التعريف بالودائع المصرفية وبيان أنواعها يتبين أن هذه الودائع ليست ودائع حقيقية بالمفهوم الشرعي للوديعة، وإنّما هي سورة من صور الإقراض، فالودائع المصرفية في حقيقتها تنطوي على عقد قرض وتسميتها بالوديعة لا يغير هذه الحقيقة، وذلك لأنّ الوديعة الشرعية لها خصائص وآثار تميزها، ومن ذلك: 1 - أن الوديع يلتزم بحفظ الوديعة ويلتزم بردها بذاتها فإن تصرف فيها فإن ذلك يعد خيانة للأمانة، بينما العرف في المصارف أنّهم يملكون الوديعة ويتصرفون فيها ولا يحتفظون بعينها ويضمنون مثلها. 2 - أن الوديعة إذا تلفت بقوة قاهرة من غير تعد ولا تفريط من المودَع أو ضاعت بغير صفة فلا ضمان عليه، وهذا محل اتفاق بين الفقهاء. أمّا في غير المصارف فإننا نجد أنّهم ملزمون بردها وضامنون لها، ولو تلفت بغير تفريط. 3 - لو أفلس المصرف، ففي هذه الحالة لا يعامل المودع على أساس أنّه مالك للوديعة فتكون له الأولوية على الغرماء، ولكنه يعامل في هذه الحالة على أساس أنّه دائن عادي يخضع لقسمة غرمائه. ممّا سبق يتبين أن هذه الخصائص المميزة لعقد الوديعة الشرعية لا تسري على الوديعة المصرفية، وأن حقيقتها الظاهرة أنّها قرض لا وديعة بالمفهوم الشرعي (¬1). ومما يؤيد هذا أن الإيداع المصرفي لم يكن من أجل الحفظ كما هو الشأن في الوديعة الشرعية، وإنّما انطوى على إذن صريح باستعمال الوديعة (¬2)، والوديعة هنا نقدية، وهي ممّا يهلك بالاستعمال فتصبح قرضًا يملكه البنك ويتحمل خطر هلاكه ¬

_ (¬1) الرِّبَا والمعاملات المصرفية للمترك، ص: 346 - 347، البنك اللاربوي للصدر، ص:210 الودائع المصرفية للأمين، ص: 232. (¬2) بل تشترط البنوك على المودع أن تستعمل الوديعة في أعمالها المصرفية والاتجار بها ولا يحق للعميل طلب الربح عليها، جاء في طلب فتح حساب جار لشركة الراجحي المصرفية ما يأتى: (يحق للشركة استخدام الأموال المودعة في هذا الحساب مع ضمان الشركة بدفعها عند الطلب بدون حق لي في الأرباح الّتي تحققها الشركة ...).

ولو بقوة قاهرة (¬1)، بقي أن إطلاق اسم الوديعة على هذه الأموال الّتي تتلقاها البنوك، حتّى اشتهرت باسم الودائع المصرفية، لا يغير من حقيقتها وهي كونها قرضًا، وإنّما أطلق عليها اسم الودائع؛ لأنّها تاريخيا بدأت بشكل ودائع وتطورت خلال تجارب البنوك واتساع أعمالها إلى قروض، فظلت تحتفظ من الناحية اللفظية باسم الودائع، وإن فقدت المضمون الفقهي لهذا المصطلح (¬2). وقد ذهب البعض إلى التفريق بين أنواع الودائع ففرقوا بين الوديعة الجارية (تحت الطلب)، وبين الوديعة لأجل، فعدوا الوديعة المؤجلة قرضًا، والوديعة تحت الطلب وديعة حقيقية بالمعنى الشرعي للوديعة (¬3). وفي الحقيقة أن هذا تفريق بعيد لا يلتفت إليه؛ لأنَّ ما ذكر سابقًا عن حقيقة الوديعة الشرعية لا يمكن بحال أن يسري على أحكام الوديعة الجارية (تحت الطلب)، فلا يمكن للوديعة تحت الطلب أن تكون وديعة حقيقية إِلَّا إذا توفرت فيها جميع خصائص وسمات الوديعة الشرعية وهذا لا يقول به أحد. وذهب البعض إلى تكييف الوديعة المصرفية على أنّها إجارة شرعية بناءً على أن بعض الفقهاء عد الوديعة الشرعية بأجرة من قبيل الإجارة وقد عللوا ذلك: بأن عقد الإجارة ينصب على بيع المنفعة أي الخدمة وهي هنا تتمثل في قيام المصرف بأداء خدمة (منفعة) لعميله من حيث تولية حفظ النقود أو المستندات المودعة بمعرفة ¬

_ (¬1) الودائع المصرفية للأمين ص: 232. (¬2) البنك اللاربوي للصدر، ص: 84. (¬3) وقد ذهب إلى هذا الدكتور حسن عبد الله الأمين، كما في كتابه الودائع المصرفية ص: 232 - 233.

أما في الودائع إلى أجل

العميل وإعادتها إليه عند الطلب أو في الأجل المحدد حسب الاتفاق، ومن ثمّ تعتبر هذه الأعمال مشروعة والأجرة المحددة لها باتِّفاق المصرف والعميل مشروعة أيضًا (¬1). وهذا الرأي كما هو واضح ظاهر البطلان لما يأتي: أوَّلًا: أن الأجرة على الوديعة مختلف فيها بين الفقهاء، وتقدم أن الراجح عدم جواز أخذ الأجرة على الوديعة. ثانيًا: أن الأجرة على الوديعة -على القول بجوازها- إنّما هي على مجرد الحفظ والحرز، أمّا البنك فإنّه يتصرف في الوديعة ويتملكها بمجرد وضعها في البنك ويجني فوائدها وأرباحها، وعليه فإن عمل الوديع غير عمل البنك. ثالثًا: أن الواقع في الودائع المصرفية أن الّذي يدفع هو البنك حيث يقوم بدفع فائدة محددة للوديع كما تقدّم بيان ذلك. وعليه فإن تخريج الودائع البنكية على أنّها إجارة كلام لا يستقيم ولا يمكن أن تسري على الودائع البنكية أحكام الإجارة الشرعية، ولا يتفق هذا مع واقع عمل البنوك. المسألة الرّابعة: حكم الفوائد المأخوذة على الودائع المصرفية تقدّم أن الصحيح الّذي ذهب إليه جلَّ الفقهاء المعاصرين والباحثين أن الودائع بأنواعها ما هي إِلَّا قروض من العميل للبنك. وعليه فإن الفائدةُ الّتي يدفعها البنك للعميل تدخل في نطاق الرِّبَا المحرم إذ تعد هذه الودائع عبارة عن إقراض بفائدة. أمّا في الودائع إلى أجل: فإنها تعد إقراض إلى أجل بفائدة ففيها ربا الفضل وربا النسيئة فأمّا ربا الفضل: فالزيادة الّتي يدفعها المصرف للمودع بناءً على الاتفاق السابق بينهما تعتبر ربا ¬

_ (¬1) المصارف والأعمال المصرفية للدكتور غريب الجمال، ص: 64 - 68.

وأما في الودائع الجارية

صريحًا؛ لأنّه سلف وزيادة. وأمّا ربا النسيئة فلتأجيل ما يدفعه المصرف (المقترض) للمودع (المقرض)، وهذا من الرِّبَا المحرم بالكتاب والسُّنَّة الإجماع (¬1). وأمّا في الودائع الجارية: فإن رب المال وإن كان لا يتقاضى فائدة عليها من البنك إِلَّا أن هذا النوع من الودائع تترتب عليه محاذير شرعية كثيرة منها: 1 - أنّها تعد قرضًا؛ لأنَّ ملكية العميل تزول نهائيًا عن المبلغ الّذي وضعه لدى البنك، ويصبح للبنك السلطة الكاملة على التصرف فيه، وهذا ما لا يتفق مع طبيعة الوديعة الشرعية (¬2). 2 - أن إيداع هذه الأموال في البنوك الربوية، يساعد هذه البنوك على استغلالها بالرِّبَا، وهذا فيه أكبر عون على الإثم والعدوان، والتعاون على الإثم أمر محظور بنص القرآن يجب الابتعاد عنه (¬3). وعليه فإن المسلم الّذي يحتاط لدينه ويريد الابتعاد بماله عن الحرام فعليه أن يتحرى الحلال الطيب في ماله، وفي كلّ شؤونه، فإن كان عنده فضل مال يريد الحفاظ عليه فعليه أن يلجأ أوَّلًا إلى المصارف الإسلامية الّتي لا تتعامل بالرِّبَا المحرم، فإن تمكن من استئجار الخزائن الحديدية ليدع فيها أمواله فهذا طيب وإلا وضعها في الحسابات الجارية أو تحت الطلب، دون أن يأخذ عليها أي فائدة، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) الرِّبَا والمعاملات المصرفية للمترك، ص: 348، وقد نقل أن لجنة الفتوى بالأزهر اعتبرت هذه الفائدةُ من الرِّبَا المحرم بالإجماع. (¬2) البنك اللاربوي للصدر، ص: 84. (¬3) الرِّبَا والمعاملات المصرفية للمترك، ص: 349، الوديعة البنكية والوديعة الشرعية للدكتور عبد الله المطلق، مجلة الدّعوة السعودية، العدد رقم: 1604 لسنة 1418 هـ، ص: 19.

المبحث الخامس أخذ المال على نظارة الوقف

المبحث الخامس أخذ المال على نظارة الوقف ناظر الوقف هو من يقوم بإدارة الوقف، والعناية بمصالحة من عمارة، وإصلاح، واستغلال، وبيع غلات، ونحو ذلك ممّا يلزم للوقف حتّى يتحقق غرض الواقف منه، وكذلك القيام بصرف ما اجتمع عنده من غلات الوقف إلى المستحقين (¬1). فإذا وقف إنسان وقفًا معينًا، وعين له ناظرًا يقوم بشئونه وصرف غلته إلى المستحقين، وجعل الواقف للناظر أجرة من ريع الوقف، فهل يستحق الناظر هذا الأجرة؟ وإذا لم يجعل له الواقف أجرة، فهل يجوز له أخذها من ريع الوقف مطلقًا أم لا بد من إذن القاضي؟، وإذا قلنا باستحقاق الناظر للأجرة فما هو مقدارها؟ بيان ذلك كله في المطالب التالية: ¬

_ (¬1) كشاف القناع للبهوتي 4/ 268.

المطلب الأول إذا شرط الواقف للناظر أجرة

المطلب الأوّل إذا شرط الواقف للناظر أجرة اتفق الفقهاء رحمهم الله تعالى على أن الناظر على الوقف يستحق الأجرة على عمله، إذا شرطها له الواقف من ريع الوقف وهذا الاستحقاق هو من حيث الجواز وعدمه (¬1). وقد استدلوا على جواز ذلك بأدلة من السُّنَّة والآثار والمعقول: أ - أدلتهم من السُّنَّة: الدّليل الأوّل: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: (لا يقتسم ورثتي دينارًا ما تركت بعد نفقة نسائي، ومؤنة عاملي فهو صدقة) (¬2). وجه الاستدلال: حيث دل الحديث على جواز إعطاء العامل على الوقف أجرته منه، قال ابن حجر في شرحه للحديث: "وهو دال على مشروعية أجرة العامل على الوقف" (¬3). ب - الأدلة من الآثار: الدّليل الأوّل: ما رواه نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن عمر اشترط في وقفه أن يأكل ¬

_ (¬1) الإسعاف في أحكام الأوقاف للطرابلسي ص 57، أحكام الأوقاف للخصاف ص: 346، البحر الرائق لابن نجيم 5/ 244، مواهب الجليل للحطاب 6/ 40، حاشية الدسوقي 4/ 88، روضة الطالبين للنووي 5/ 348، نهاية المحتاج للرملي 5/ 401، أسنى المطالب للأنصاري 2/ 472، الإنصاف للمرداوي 7/ 63، كشاف القناع للبهوتي 4/ 271 الاختيارات الفقهية لشيخ ابن تيمة الإسلام للبعلي ص: 177، فتح الباري لابن حجر 5/ 476. (¬2) سبق تخريجه ص 192 مبحث الأذان. (¬3) فتح الباري لابن حجر 5/ 476.

وجه الاستدلال

من وليه ويؤكل صديقه غير متمولٍ مالًا" (¬1). وجه الاستدلال: حيث دلّ فعل عمر - رضي الله عنه - أن الناظر على الوقف يستحق ما شرطه له الواقف، حيث إنَّ عمر - رضي الله عنه - اشترط لناظر وقفه أن يأكل منه بقدر عمالته (¬2). الدّليل الثّاني: ما يروى عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أنّه جعل للعبيد الذين وقفهم مع صدقته، يقومون بعمارة صدقته (¬3). وجه الاستدلال: قال الطرابلسي (¬4): " ... وما فعله علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - حيث جعل نفقة العبيد الذين وقفهم مع صدقته ليقوموا بعمارته من الغلة وهذا بمنزلة الأجير في الوقف" (¬5). جـ - الأدلة من المعقول: قياس الناظر على الأجير في الوقف، وبيان ذلك: أنّه كما يجوز للناظر أن يستأجر الأجراء، لما يحتاج إليه من عمارة الوقف وصيانته، وإصلاحه، ونحو ذلك، جاز له أن يأخذ أجرًا على نظارته إذ هو في حكمهم (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ، كتاب الوصايا، باب نفقة القيم للوقف 5/ 476 (2777) ومسلم، كتاب الوصيَّة، باب الوقف 5/ 1253 (1632). (¬2) فتح الباري لابن حجر 473/ 5. (¬3) هذا الأثر ذكره الخصاف في أحكام الأوقاف ص: 346، والطرابلسي في كتابه الإسعاف في أحكام الأوقاف ص 57، ولم أجده فيما بين يدي الآن من كتب السُّنَّة والآثار. (¬4) هو: إبراهيم بن موسى بن أبي بكر الطرابلسي الحنفي، برهان الدِّين ولد في طرابلس الشّام سنة 853 هـ، تعلم ودرس في دمشق ثمّ رحل إلى القاهرة، وله مؤلفات كثيرة منها: الإسعاف في أحكام الأوقاف، مواهب الرّحمن، وشرحه البرهان في مذهب النعمان، توفي سنة 922 هـ. انظر: معجم المؤلِّفين لكحالة 1/ 117، الأعلام للزركلي 1/ 76. (¬5) الإسعاف للطرابلسي، ص: 453. (¬6) الإسعاف في أحكام الأوقاف للطرابلسي ص 57، أحكام الأوقاف للخصاف ص: 345.

المطلب الثاني إذا حدد الواقف للناظر مقدار الأجرة

المطلب الثّاني إذا حدد الواقف للناظر مقدار الأجرة اتفق الفقهاءكذلك على أن الواقف إذا شرط أجرة للناظر وحدد مقدارها أن الناظر يستحق جميع هذه الأجرة سواء أكانت بقدر أجرة المثل أم أقل أم أكثر، وهذا الاتفاق في الجملة على تفصيل بينهم في بعض الجزئيات (¬1). وقد استدلوا على ذلك بما يأتي: قالوا: إنّه لما جاز أن يقدر للناظر مالًا معلومًا، يأخذه في كلّ سنة أر في كلّ شهر، من غلة الوقف، من غير أن يشترط عليه القيام بأمر الوقف جاز له أن يقدر له ذلك مع تكليفه بالقيام بالوقف من باب أولى (¬2). ¬

_ (¬1) أحكام الأوقاف للخصاف ص: 346، الإسعاف للطرابلسي ص: 58، حاشية ابن عابدين 4/ 436، منحة الخالق على البحر الرائق لابن عابدين 5/ 264، مواهب الجليل للحطاب 6/ 33، الشرح الصغير للدردير 4/ 133، مغني المحتاج للشربني 2/ 394، تحفة المحتاج 6/ 190، الفروع لابن مفلح 4/ 595، الإنصاف للمرداوي 7/ 58، كشاف القناع للبهوتي 4/ 217. (¬2) أحكام الأوقاف للخصاف ص: 346، الإسعاف للطرابلسي ص: 58.

المطلب الثالث إذا لم يعين الواقف للناظر أجرة

المطلب الثّالث إذا لم يعين الواقف للناظر أجرة اختلف الفقهاء فيما إذا لم يعين الواقف للناظر أجرة، فهل يجوز للناظر أخذها مطلقًا أم لا بد من إذن القاضي؟ اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأوّل: لا يجوز للناظر أخذ أجرته من الوقف إِلَّا بإذن القاضي أول ان معروفًا بأخذ الأجرة على مثل هذه الأعمال. وهذا هو الصحيح. من المذهب عند الحنفية (¬1)، وهو قياس المذهب عند الحنابلة (¬2). القول الثّاني: لا يجوز للناظر أخذ أجرته من الوقف إِلَّا بإذن القاضي. وبهذا قال بعض الحنفية (¬3) وبه قال أكثر الشّافعيّة (¬4). القول الثّالث: يجوز للناظر أخذ أجرته من الوقف مطلقًا، دون توقف ذلك على إذن القاضي. وهذا قول عند الحنفية (¬5)، وبه قال بعض الشّافعيّة (¬6). ¬

_ (¬1) منحة الخالق لابن عابدين 5/ 264. (¬2) الفروع لابن مفلح 4/ 595، الإنصاف للمرداوي 7/ 64، كشاف القناع 4/ 271. (¬3) البحر الرائق لابن نجيم 5/ 264. (¬4) نهاية المحتاج للرملي 5/ 401. (¬5) البحر الرائق لابن نجيم 5/ 264. (¬6) تحفة المحتاج للهيثمي 6/ 290.

الأدلة والمناقشة

الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة أصحاب القول الثّالث: استدل هؤلاء بما يأتي: قالوا: إنَّ الناظر لا يقبل القوامة ظاهرًا إِلَّا بأجرة، وهذا هو المعروف والمعهود، والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا (¬1)، وعليه فلا يتوقف استحقاق الناظر للأجرة على إذن القاضي (¬2). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الدّليل بما يأتي: أن هذا الدّليل محمول على ما إذا كان الناظر معروفًا بأخذ الأجرة على مثل هذه الأعمال، أمّا إذا كان غير معروف بأخذ الأجرة، فإن المفهوم من الدّليل أنّه لا يأخذ وهذا يوافق ما قاله أصحاب القول الأوّل، وهو الصحيح عند التحقيق كما سيأتي. ثانيًا: أدلة أصحاب القول الثّاني: استدل هؤلاء بما يأتي: قالوا: إنَّ الناظر إذا عمل وقد علم أنّه لم يشترط له شيء كأجرة على عمله، ولم يطلبه، دلّ ذلك على أنّه متبرع بعمله فلا يستحق شيئًا (¬3). مناقشة هذا الدّليل: يمكن مناقشة هذا الدّليل، بأنّه محمول على ما إذا كان الناظر غير مشهور بأخذ ¬

_ (¬1) (المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا)، قاعدة فقهية، وانظر لبيأنّها: الأشباه والنظائر لابن نجيم ص: 99، والأشباه والنظائر للسيوطي، ص: 192، وقد ذكرها بلفظ: (العادة المضطردة في ناحية، هل تنزل عادتهم منزلة الشرط). (¬2) البحر الرائق لابن نجيم 5/ 264. (¬3) كشاف القناع للبهوتي 4/ 271.

ثالثا: أدلة أصحاب القول الأول

الأجرة على مثل هذه الأعمال، أمّا إذا كان مشهورًا بذلك ومعروفًا به، فإنّه يأخذ أجرته، لما تقدّم من الدّليل على ذلك. ثالثًا: أدلة أصحاب القول الأوّل: استدل هؤلاء على الجواز بما استدل به أصحاب القول الثّالث وقد تقدّم واستدلوا على المنع إذا لم يكن ثمّ عرف بذلك بما استدل به أصحاب القول الثّاني. الترجيح: الّذي يظهر رجحانه من الأقوال السابقة، بعد ذكر ما استدلوا به ومناقشته، هو القول الأوّل، القاضي بالمنع من استحقاق الناظر للأجرة إِلَّا بإذن القاضي أو كان مشهورًا بأخذ الأجرة على مثل هذه الأعمال، وذلك لأنَّ فيه جمع بين الأقوال كلها، فإن القول الثّاني يحمل على ما إذا كان الناظر غير مشهور بأخذ الأجرة، وبهذا لا يتعارض مع القول الأوّل، كذلك القول الثّالث، فإنّه من خلال ذكر دليله ومناقشته تبين أنّه يعود في حقيقته إلى القول الأوّل (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: منحة الخالق لابن عابدين 5/ 264.

المطلب الرابع مقدار أجرة الناظر إذا لم يحددها الواقف

المطلب الرّابع مقدار أجرة الناظر إذا لم يحددها الواقف اختلف الفقهاء رحمهم الله تعالى في مقدار أجرة الناظر إذا لم يحددها الواقف على قولين: القول الأوّل: أن الناظر في هذه الحالة له أجرة المثل. وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء، فقد قال به: الحنفية على الصحيح المشهور من المذهب (¬1)، وبه قال المالكية (¬2)، وبعض الشّافعيّة (¬3)، وهو قول الحنابلة (¬4). القول الثّاني: أن الناظر لا يستحق إِلَّا الأقل من أجرة المثل أو نفقته بالمعروف، وبه قال بعض الشّافعيّة (¬5). الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة القول الثّاني: قالوا: إنَّ إعطاء الناظر الأقل من نفقته وأجرة مثله، هو الأحوط للوقف (¬6). ¬

_ (¬1) الإسعاف للطرابلسي ص: 59، البحر الرائق لابن نجيم 5/ 264، منحة الخالق لابن عابدين 5/ 264، حاشية ابن عابدين 3/ 417. وقد ذهب بعض الحنفية إلى أن الناظر له عشر الغلة وهذا ليس قولًا مستقلأ؛ لأنَّ المراد بعشر الغلة هنا كما حققه ابن عابدين هو: أجر المثل، قال ابن عابدين: "وعبر بعضهم بالعشر، والصواب أن المراد من العشر: أجر المثل". حاشية ابن عابدين 3/ 417. (¬2) حاشية الدسوقي 4/ 88، حاشية الصاوي على الشرح الصغير 4/ 119. (¬3) نهاية المحتاج للرملى 5/ 401، أسنى المطالب للأنصاري 2/ 472. (¬4) الفروع لابن مفلح 4/ 595، كشاف القناع للبهوتي 4/ 271. (¬5) تحفة المحتاج للهيثمي 6/ 290، نهاية المحتاج للرملى 5/ 401. (¬6) تحفة المحتاج للهيثمي 6/ 290.

مناقشة الاستدلال

مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الدّليل بأن ما يأخذه الناظر إنّما هو في مقابل جهده وعمله وقيامه على شئون الوقف، فيجب مراعاة ذلك، وهذا لا يتحقق إِلَّا بأجرة المثل؛ لأنّ إعطاء الناظر الأقل من أجرة المثل فيه هضم لحقه وهذا لا يجوز. ثانيًا: أدلة القول الأوّل: استدل هؤلاء بما يأتي: قالوا: إنَّ إعطاء الناظر أجرة المثل هو المعهود والمتعارف عليه فيجب المصير إلى ذلك، كأن الواقف شرطها في وقفه؛ لأنَّ المعهود كالمشروط (¬1). الترجيح: من خلال ذكر الأدلة وما نوقشت به يتبين رجحان القول الأوّل القاضي بإعطاء الناظر أجرة المثل، إذا لم يعين له الواقف شيئًا ويعود هذا الترجيح لما يأتي: 1 - قوة ما عللوا به حيث جاء متمشيًا مع العرف والعادة في مثل هذه الأمور. 2 - أن هذا القول يحقق مبدأ العدل في التعامل، وذلك بعدم إعطاء الناظر أقل ممّا يستحقه؛ لأنَّ في ذلك ظلمًا له، وكذلك بعدم الأخذ من الوقف أكثر ممّا يجب؛ لأنّ في ذلك ظلمًا للموقوف عليهم، فكانت أجرة المثل أعدل وأقوم للطرفين. ¬

_ (¬1) منحة الخالق لابن عابدين 5/ 264.

المبحث السادس أخذ المال على الوصايا

المبحث السّادس أخذ المال على الوصايا (¬1) المراد بهذه المسألة هو ما يأخذه الوصي أو الموصي إليه من مال في مقابل القيام على شئون الصغير الّذي هو اليتيم (¬2)، أو المجنون تربية وتعليمًا، كذلك النظر في أموالهم بالمحافظة عليها وتنميتها، وكذلك تزويج البنات، وغير ذلك ممّا يعهد إليه به الموصي، وعليه فتكون الوصيَّة هنا على معنى الإيصاء (¬3). فإذا أقام الإنسان غيره مقامه بعد وفاته في تدبير شئون أولاده الصغار ورعايتهم وغير ذلك، فهل يجوز للوصي في هذه الحالة الأكل من مال اليتيم أم لا؟ وما هو مقدار ما يأكله؟ وهل يفرق بين الوصي الغني وبين الوصي الفقير؟ وهل ما يأخذه الوصي من مال هو على سبيل القرض أم على سبيل الإباحة فيملكه بذلك؟ وهل يجوز للوصي أخذ الأجرة على عمله أم لا؟ ¬

_ (¬1) تقدّم في التمهيد تعريف الوصيَّة بمعناها العامل الشامل للإيصاء الّذي هو إقامة الإنسان غيره مقامه بعد وفاته في تصرف من التصرفات كتدبير شئون أولاده الصغار أو المجانين ورعايتهم وتزويج بناته ونحو ذلك، وهذا الشخص الموصي إليه يسمى: الوصي، ولمزيد البيان يرجع إلى التمهيد ص عند تعريف الوصيَّة. (¬2) اليتيم هو: (الّذي لا أب له ولم يبلغ الحلم)، ويدلُّ لذلك ما رواه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: حفظت من رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - اثنتين: (لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى اللّيل). أخرجه أبو داود، كتاب الوصايا، باب ما جاء متى ينقطع اليُتم 3/ 115، (2873)، والحديث حسن بشواهده حسنه النووي، والسخاوي وصححه الألباني. المقاصد الحسنة للسخاوي ص: 729، صحيح سنن أبي داود للألباني 2/ 555، (2497) وانظر في تعريف اليتيم: المغني لابن قدامة 9/ 296. (¬3) الإيصاء يشبه الوكالة في أن كلًا منهما فيه تفويض للغير في القيام ببعض الأمور نيابة عمن فوضه إِلَّا أن بينهما فرقًا من ناحية أن التفويض للغير في الإيصاء يكون بعد الموت، أمّا في الوكالة فإن التفويض يكون في حالة الحياة. انظر: حاشية ابن عابدين 5/ 448.

المطلب الأول الأكل بالمعروف من مال اليتيم

وحاصل ما يأخذه الوصي، إمّا كفايته بالمعروف أو أجرة مثله، وبيان حكم ذلك في المطالب التالية: المطلب الأوّل الأكل بالمعروف من مال اليتيم اختلف الفقهاء في حكم أكل الوصي من مال اليتيم بالمعروف (¬1) على سبعة أقوال: القول الأوّل: يجوز للوصي إذا كان فقيرًا، أن يأكل من مال اليتيم بالمعروف، أمّا إذا كان غنيًا فلا يجوز له ذلك. وإلى هذا ذهب جمهور العلماء من الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، وهو الصحيح عند الشّافعيّة (¬4)، والمشهور من المذهب عند الحنابلة (¬5)، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (¬6)، وتلميذه ابن القيم رحمه الله تعالى (¬7). ¬

_ (¬1) المراد بالمعروف هنا: "قدر أجرة مثله أو كفايته أيهما كان أقل فهو المعروف" أ. هـ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/ 42 - 43، مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 31/ 334، مطالب أولي النهى 3/ 417. (¬2) بدائع الصنائع للكاساني 5/ 154 - 155، حاشية الطحطاوي على الدر المختار 4/ 348 حاشية ابن عابدين 5/ 455 - 456، الاختيار لتعليل المختار للموصلّي 5/ 69 - 70. (¬3) أحكام القرآن لابن العربي 1/ 325، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/ 44. (¬4) روضة الطالبين للنووي 4/ 189 - 190، تحفتتة المحتاج للهيثمي 5/ 186، مغني المحتاج للشربيني 2/ 176. (¬5) المبدع لابن مفلح 4/ 345، الإنصاف للمرداوي 5/ 338 - 339. (¬6) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 31/ 334. (¬7) بدائع الفوائد لابن القيم 3/ 147.

القول الثّاني: لا يجوز مطلقًا للوصي أن يأكل من مال اليتيم، سواء كان الوصي فقيرًا أم غنيًا. وإلى هذا ذهب بعض الحنفية (¬1)، وهو قول الظاهرية (¬2)، وهو قول عند الحنابلة (¬3)، ونسبه ابن حزم إلى ابن عبّاس رضي الله عنهما (¬4)، ونسبه القرطبي في تفسيره إلى مجاهد (¬5). القول الثّالث: يجوز مطلقًا للوصي أن يأكل من مال اليتيم سواء أكان الوصي غنيًا أم فقيرًا. وإلى هذا ذهب بعض الشّافعيّة (¬6)، وبعض الحنابلة (¬7). القول الرّابع: يجوز لوصي الأب خاصّة أن يأكل من مال اليتيم بالمعروف، وأمّا وصي الحاكم، فلا يجوز له الأكل من مال اليتيم مطلقًا (¬8). وبه قال الحسن بن صالح بن حيّ (¬9). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين 5/ 455، الفتاوى الهندية 6/ 150. (¬2) المحلى لابن حزم 8/ 325 - 329. (¬3) المبدع شرح المقنع لابن مفلح 4/ 345/ 346. (¬4) المحلى لابن حزم 8/ 325، قال ابن حزم: "وذهب آخرون إلى أنّه لا يحل له أن يأكل من مال اليتيم شيئًا، روي ذلك عن ابن عبّاس، وهو قول أبي سليمان وأصحابنا". (¬5) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/ 42، وقال ابن العربي في أحكام القرآن 1/ 324: "اختاره زيد بن أسلم واحتج به". (¬6) روضة الطالبين للنووي 4/ 190. (¬7) الشرح الكبير لشمس الدِّين ابن قدامة 4/ 531، المبدع لابن مفلح 4/ 345، الإنصاف للمرداوي 5/ 339. (¬8) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/ 43. (¬9) هو: الحسن بن صالح بن صالح بن حي، وهو حيّان بن شُفيّ الهمداني الثّوريّ، ثقة فقيه عابد رُمي بالتشيع، توفي سنة 169 هـ على الصحيح. انظر: شذرات الذهب لابن العماد 2/ 298، تقريب التهذيب لابن حجر ص: 239.

الأدله والمناقشة

القول الخامس: التفريق بين السَّفر والحضر، فيمنع من الأكل، إنَّ كان مقيمًا معه في المصر، فإذا احتاج أن يسافر من أجله، فله أن يأخذ ما يحتاج إليه، ولا يقتني شيئًا. وبه قال أبو حنيفة رحمه الله وصاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن (¬1). القول السّادس: يجوز للوصي الأكل بالمعروف ممّا يجني من الغلة، فأمّا المال الناض (¬2) فليس له الأكل منه. وإلى هذا أبو قلابة. القول السابع: يجوز الأكل من مال اليتيم للحاجة والضرورة فقط. وإلى هذا ذهب الشّعبيّ رحمه الله تعالى، وهو مروي عن ابن عبّاس (¬3) رضي الله عنهما، وهو اختيار ابن جرير في تفسيره (¬4). الأدله والمناقشة: أوَّلًا: أدلة القول السابع: استدل أصحاب هذا القول القائلون بجواز الأكل من مال اليتيم للضرورة بما يأتي: ¬

_ (¬1) مختصر اختلاف العلماء للطحاوي 5/ 78، الفتاوى الهندية 6/ 150، المحلى لابن حزم 8/ 325، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/ 43. (¬2) المراد بالناض هو الدرهم والدينار عند أهل الحجاز، ويسمى ناضًا: إذا تحول إلى نقدٍ بعد أن كان متاعًا. لسان العرب لابن منظور 7/ 237. (¬3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/ 43. (¬4) جامع البيان للطبري 4/ 260.

الدليل الأول

الدّليل الأوّل: عن عكرمة عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النِّساء: 6]: إذا احتاج اضطر (¬1). وجه الاستدلال: وجه الاستدلال من هذا الأثر ظاهر، وهو أنّه لا يجوز للولي الأكل من مال اليتيم إِلَّا عند الضّرورة والحاجة. الدّليل الثّاني: إنَّ مال اليتيم لا يأكل منه الوصي إِلَّا للضرورة والحاجة قياسًا على الأكل من الدِّم ولحم الخنزير (¬2). مناقشة الاستدلال: نوقش ما استدل به أصحاب هذا القول وهو أن الأكل من مال اليتيم لا يجوز إِلَّا للضرورة والحاجة، بأنّه استدلال لا معنى له؛ لأنّه إذا اضطر هذا الاضطرار كان له أخذ ما يقيمه من مال يتيمه أو غيره من قريب أو بعيد (¬3). ثانيًا: أدلة القول السّادس: لم أقف على دليل لأصحاب هذا القول القائلين بجواز الأكل من الغلة فقط، ويمكن أن يستدل له بما يأتي: ¬

_ أن الأكل من الغلة أمر متعارف عليه بين الخلق متسامح فيه فيجوز للوصي

ثالثا: أدلة القول الخامس

حينئذ الأكل من الغلة (¬1)، أمّا المال الناض فيبقى على المنع ويمكن الاستدلال للمنع بما استدل به من منع مطلقًا وهم أصحاب القول الثّاني وستأتي أدلتهم إن شاء الله تعالي. ثالثًا: أدلة القول الخامس: لم أقف على دليل صريح لأصحاب هذا القول الذين أجازوا الأكل للوصي في السَّفر فقط، ويمكن الاستدلال لهم بما يأتي: أن السَّفر يحتاج إلى كلفة ومشقة ولا يتسنى إِلَّا بدابة ونحو ذلك ممّا يلزم المسافر، ومصلحة ذلك راجعة إلى اليتيم، فتكون النفقة في ماله (¬2). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة القولين الخامس والسّادس وما استدل لهم به بما يأتي: أوَّلًا: أن مرد هذين القولين إلى قول القائلين بالمنع مطلقًا، وأمّا ما ذكروه من الاستثناء وهو الإباحة في السَّفر، والإباحة في الأكل من الغلة، فهو خارج محل النزاع، وذلك؛ لأنّ الأكل في حالة السَّفر إنّما هو راجع إلى اليتيم؛ لأنّ السَّفر من أجل ماله ومصلحته، والوصي في هذه الحالة يكون نائبًا محضًا بدليل أنّهم قالوا: إنَّ الوصي إذا رجع من السَّفر رد الدابة التي سافر عليها والثياب الّتي لبسها، قال أبو يوسف رحمه الله: "لا يأكل الوصي من مال اليتيم إذا كان مقيمًا، وإذا أراد أن يخرج في تقاضي دين لهم وإلي ضياع لهم فله أن ينفق ويكتسي ويشتري دابة، فإذا رجع رد الثِّياب الّتي عليه، إنَّ كان بقي منها شيئًا ويرد الدابة" (¬3). ¬

_ (¬1) أحكام القرآن لابن العربي 1/ 325. (¬2) انظر: الفتاوى الهندية 6/ 150. (¬3) مختصر اختلاف العلماء للطحاوي 5/ 78، أحكام القرآن للجصاص2/ 360.

رابعا: أدلة القول الرابع

وأمّا الأكل من الغلة فهو كأكل التّمر من الجذوع وشرب اللبن من الضرع أمر متعارف بين الخلق متسامح فيه (¬1)، فهو خارج عما نحن فيه. رابعًا: أدلة القول الرّابع: لم أقف على دليل أو تعليل لأصحاب هذا القول القائلين بجواز الأكل لوصي الأب دون غيره، ولا أعرف له وجه صحيح؛ لأنَّ الله تعالى لم يفرق بين وصي الأب ووصي الحاكم، وإنّما جاء الإطلاق في الآية فيشمل الجميع، وإنّما حصل التفريق بين الغني والفقير (¬2)، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. خامسًا: أدلة القول الثّالث: استدل أصحاب هذا القول القائلون بجواز الأكل من مال اليتيم حتّى مع الغنى بما يأتي: قالوا: إنَّ الوصي يأكل وإن كان غنيًا قياسًا على العامل على الزَّكاة، وأمّا قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النِّساء: 6]، فالأمر فيها بالتعفف محمول على الاستحباب (¬3). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الاستدلال بأن هذا قياس في مقابلة النص فلا يعتد به، فإن الآية قد جاء فيها الأمر صريحًا بالاستعفاف إنَّ كان غنيًا، والأمر المطلق يقتضي الوجوب ما لم يصرفه صارف ولا صارف له هنا إلى الاستحباب (¬4). ¬

_ (¬1) أحكام القرآن لابن العربي 1/ 325. (¬2) وذلك في قوله تعالى: (ومن كان غنيًا فليستعفف، ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف). النِّساء: 6. (¬3) الشرح الكبير لشمس الدِّين ابن قدامة 4/ 531، الإنصاف للمرداوي 5/ 339. (¬4) انظر: الشرح الكبير 4/ 531.

سادسا: أدلة القول الثاني

سادسًا: أدلة القول الثّاني: استدل أصحاب هذا القول القائلون بالمنع مطلقًا بما يأتي: الدّليل الأوّل: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النِّساء: 10]. وجه الاستدلال: أن الله تعالى حرم أكل أموال اليتامى أشد التّحريم، ويستثنى من ذلك ما كان على سبيل الأجرة أو البيع اللذين أباحهما الله تعالى (¬1). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الاستدلال بأن المحرم في الآية إنّما هو أكلها على وجه الظلم، أمّا الأكل على وجه المعروف فلا تدل الآية على المنع منه، بل جاء القرآن بجوازه. الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ جواز الأكل بالمعروف من مال اليتيم الوارد في قوله تعالى: {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} منسوخ، والناسخ له: 1 - قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النِّساء:29]. وجه الاستدلال: أن الأكل بالمعروف من مال اليتيم ليس بتجارة فلا يجوز الأكل منه. 2 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا ...} [النِّساء: 10]. وجه الاستدلال: أن الله تعالى حرم الأكل من مال اليتيم أشد التّحريم، إِلَّا ما كان على سبيل ¬

_ (¬1) المحلى لابن حزم 8/ 325.

مناقشة الاستدلال

الإجارة أو البيع، وليس الأكل بالمعروف واحدًا منهما (¬1). مناقشة الاستدلال: ناقش الإمام ابن العربي دعوى النسخ هذه فقال: "أمّا من قال: إنّه منسوخ فهو بعيد، لا أرضاه؛ لأنَّ الله تعالى يقول: {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} وهو الجائز الحسن، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} فكيف ينسخ الظلم المعروف، بل هو تأكيد له في التجويز؛ لأنّه خارج عنه مغاير له، وإذا كان المباح غير المحظور لم يصح دعوى نسخ فيه" (¬2). سابعًا: أدلة القول الأوّل: استدل أصحاب هذا القول القائلون بجواز الأكل للوصي الفقير دون الغني بأدلة من القرآن والسُّنَّة والآثار والمعقول: أ - أدلتهم من القرآن: قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النِّساء: 6]. وجه الاستدلال: حيث بين سبحانه وتعالى ما يحل للوصي من مال اليتيم فأمر الغني بالإمساك، وأباح للوصي الفقير أن يأكل من مال وليه بالمعروف (¬3). مناقشة الاستدلال: نوقش الاستدلال بهذه الآية، بأن الأمر بالإمساك فيها أمر استحباب وليس أمر وجوب (¬4). ¬

_ (¬1) المحلى لابن حزم 8/ 325. (¬2) أحكام القرآن لابن العربي 1/ 325. (¬3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/ 41. (¬4) المبدع لابن مفلح 4/ 345، الإنصاف للمرداوي 5/ 339.

الجواب عن المناقشة

الجواب عن المناقشة: من المقرر عند جمهور الأصوليين أن الأمر المطلق إنّما هو للوجوب وليس للاستحباب، ما لم يصرفه صارف إلى الاستحباب، ولم يذكر من صرفه للاستحباب دليلًا على ذلك، فبقي الأمر في الآية على أصله وهو الوجوب. ب - أدلتهم من السُّنَّة: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: جاء رجل إلى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - فقال: إنِّي فقير ليس لي شيء، ولي يتيم له مال، فقال - صلّى الله عليه وسلم -: (كلّ من مال يتيمك، غير مسرفٍ، ولا مبادر ولا متأثل) (¬1). وجه الاستدلال: حيث أباح النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - للرجل الأكل من مال اليتيم، وذلك لفقره وحاجته، ونهاه عن الإسراف ومجاوزه قدر الحاجة على أي صفةٍ كانت المجاوزة. جـ - أدلتهم من الأثر: الدّليل الأوّل: ما روي عن عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - قال: إنِّي أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم، إنَّ احتجت أخذت منه، فإذا أيسرت رددته، وإن استغنيت استعففت (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، كتاب الوصايا، باب ما جاء في ما لولي اليتيم أن ينال من مال اليتيم: 3/ 115، (2872)، وأخرجه النسائيُّ في الصغرى، كتاب الوصايا، باب ما للوصي من مال اليتيم إذا قام عليه: 6/ 567 (3670)، وابن ماجه، كتاب الوصايا، باب قوله: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} 2/ 907 (2718)، وقد صححه ابن حجر كما في الفتح 8/ 90، وحسنه الألباني كما في الإرواء: 5/ 277. المبادر: الّذي يستغنم مال محجوره فيأكله قبل أن يكبر ويأخذ مال. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/ 41. والمتأثل: الجامع لمال اليتيم، فقد نهى رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - الوصي عن جمع مال اليتيم لنفسه. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 1/ 23. (¬2) أخرجه ابن جرير الطّبريّ في تفسيره 4/ 255، وابن حزم في المحلى 8/ 324، قال ابن حجر: "وسنده صحيح"، فتح الباري 13/ 161، وتغليق التعليق لابن حجر 5/ 294.

الدليل الثاني

الدّليل الثّاني: ما ورد عن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قالت: أنزلت في والي اليتيم أن يصيب من ماله إذا كان محتاجًا بقدر ماله بالمعروف (¬1). د - الأدلة من المعقول: قالوا: إنَّ الوصي، قد تصرف في مال من لا تمكن مراجعته فجاز له الأخذ بغير إذنه كعامل الصدقات (¬2). الترجيح: بعد ذكر الأقوال وما استدل به لكل قول، وما ورد على هذه الأدلة من مناقشات وما أجيب به عنها يتبين رجحان القول الأوّل القاضي بجواز أكل الوصي من مال اليتيم إذا كان فقيرًا، أمّا الوصي الغني فلا يحل له الأكل من مال اليتيم. وتعود أسباب الترجيح لما يأتي: أوَّلًا: قوة أدلة هذا القول حيث جاءت صريحة وواضحة ومعظمها أدلة نصية. ثانيًا: أن هذا القول هو الموافق لما جاء في القرآن والسُّنَّة حيث جاءت الآية في ذلك صريحة وواضحة في المنع من الأكل للغني، والإباحة للفقير. ثالثًا: أنّه أمكن مناقشة أدلة الأقوال الأخرى ممّا يضعف من دلالتها. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ، كتاب الوصايا، باب ما للموصي أن يعمل في مال اليتيم 5/ 460 (2765)، ومسلم، كتاب التفسير 4/ 2315 (3019). (¬2) حاشية الجمل 3/ 347.

المطلب الثاني ما يأكله الولي هل يكون على سبيل الإباحة أم القرض

المطلب الثّاني ما يأكله الولي هل يكون على سبيل الإباحة أم القرض بناءً على القول الراجح في المسألة السابقة وهو أنّه يجوز للوصي الفقير الأكل من مال اليتيم، فهل ما يأكله هو على سبيل الإباحة بمعنى أنّه لا يلزمه عوض ذلك إذا أيسر؟ أم أن ما يأكله يكون على سبيل القرض فيلزمه العوض ورد البدل إذا أيسر؟ اختلف الفقهاء في حكم ذلك على قولين: القول الأوّل: أن ما يأكله الوصي من مال اليتيم إنّما هو على سبيل الإباحة لا القرض فلا يلزمه العوض إذا أيسر. وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، وهو قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى (¬1)، وبه قال المالكية (¬2)، وهو الأظهر عند الشّافعيّة (¬3)، وهو الصحيح من المذهب عند الحنابلة (¬4). القول الثّاني: أن ما يأكله الوصي من مال اليتيم إنّما هو على سبيل القرض فيلزمه العوض إذا أيسر. وإلى هذا ذهب بعض الحنفية (¬5)، وهو قول عند الشّافعيّة (¬6)، ورواية عن الإمام ¬

_ (¬1) مجمع الضمانات للبغدادي ص: 398. (¬2) أحكام القرآن لابن العربي 1/ 326، المفهم لأبي العباس القرطبي 7/ 332. (¬3) روضة الطالبين للنووي 4/ 190، مغني المحتاج للشربيني 2/ 176. (¬4) الإنصاف للمرداوي 5/ 340، مطالب أولي النهى للرحيباني 3/ 417. (¬5) مختصر اختلاف العلماء للطحاوي 5/ 78، مجمع الضمانات للبغدادي ص: 398. (¬6) روضة الطالبين للنووي 4/ 190.

الأدلة والمناقشة

أحمد رحمه الله تعالى (¬1). الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة القول الثّاني: استدل أصحاب هذا القول بأدلة من القرآن والأثر والمعقول: أ - دليلهم من القرآن: قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النِّساء:6]. وجه الاستدلال: حيث أمر الله تعالى بالإشهاد على الأيتام عند دفع المال إليهم، فدل ذلك على أن ما يأكله الوصي بالمعروف من مال اليتيم، إنّما هو على سبيل القرض؛ لأنّ الحاجة إلى الإشهاد إنّما تكون عند الأخذ قرضًا ليأكل منه، ولو كان المال في يد الوصي أمانة لما كان هناك حاجة إلى الإشهاد (¬2). مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الاستدلال بما يأتي: أوَّلًا: أن المراد بالآية هو الإشهاد على دفع مال اليتيم الّذي تحت يد الوصي، وهو وإن كان أمانة إِلَّا أن الأمر بالإشهاد هنا جاء تنبيهًا على التحصين وزوالًا للتهم ثمّ إنَّ كلّ مال قبض على وجه الأمانة بإشهاد لا يبرأ منه إِلَّا بالإشهاد على دفعه ومال اليتيم عند الوصي أمانة، فلو ضاع قبل قوله، فإذا قال دفعتُ لم يقبل إِلَّا بالإشهاد؛ لأنَّ الضياع لا يمكنه إقامة البينة عليه وقت ضياعه، فلا يكلف ما لا سبيل إليه، والبينة يقدر أن يقيمها وقت الدفع فتفريطه فيها موجب عليه الضمان (¬3). ¬

_ (¬1) الإنصاف للمرداوي 5/ 340. (¬2) بدائع الصنائع للكاساني 5/ 154، جامع البيان لابن جرير الطّبريّ 4/ 255. (¬3) أحكام القرآن لابن العربي 1/ 327.

ب - الدليل من الأثر

ثانيًا: أن المراد بالآية هو الإشهاد على مقدار ما أنفقه الوصي على اليتيم حتّى إذا وقع خلاف أمكن إقامة البينة (¬1). ب - الدّليل من الأثر: ما روي عن عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - أنّه قال: إنِّي أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم، إن احتجت أخذت منه فإذا أيسرت رددته، وإن استغنيت استعففت (¬2). وجه الاستدلال: حيث دل قول عمر - رضي الله عنه - على أن ما يأخذه الوصي من مال اليتيم إذا احتاج إلى ذلك إنّما هو على سبيل القرض بدليل قوله: "فإذا أيسرت رددته". مناقشة الاستدلال: ناقش الإمام القرطبي في تفسيره هذا الاستدلال فقال: "إجماع الأُمَّة على أن الإمام الناظر للمسلمين لا يجب عليه غرم ما أكل بالمعروف؛ لأنَّ الله تعالى قد فرض سهمه في مال الله، فلا حجة لهم في قول عمر (فإذا أيسرت قضيت) أن لو صح" (¬3). جـ - الدّليل من المعقول: قالوا: إنَّ أكل الوصي من مال اليتيم، استباحة بالحاجة من مال غيره، فلزمه قضاؤه كالمضطر إلى طعام غيره (¬4). مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الاستدلال بأنّه قياس مع الفارق، فإن المضطر إلى طعام غيره يكون العوض واجبًا عليه في ذمته؛ ولأنّه لم يأكله عوضًا عن شيء والوصي بخلافه (¬5). ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/ 45. (¬2) سبق تخريجه، ص 680. (¬3) الجامع لأحكام القرآن 5/ 42. (¬4) الشرح الكبير لشمس الدِّين ابن قدامة 4/ 531. (¬5) المرجع السابق.

ثانيا: أدلة القول الأول

ثانيا: أدلة القول الأوّل: استدل أصحاب هذا القول بأدلة من القرآن والسُّنَّة والأثر والمعقول: أ - دليلهم من القرآن: قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النِّساء: 6]. وجه الاستدلال: أن الله تعالى قد أمر بالأكل بالمعروف من مال اليتيم، ولم يذكر العوض فأشبه سائر ما أمر بأكله (¬1). ب - دليلهم من السُّنَّة: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء رجل إلى النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - فقال: إنِّي فقير ليس لي شيء ولي يتيم له مال فقال - صلّى الله عليه وسلم -: (كلّ من مال يتيمك، غير مسرف، ولا مبادر، ولا متأثل) (¬2). وجه الاستدلال: حيث أذن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - للوصي الأكل من مال اليتيم ولم يذكر العوض، فدل ذلك على أن ما يأكله الوصي إنّما هو على سبيل الإباحة. جـ - دليلهم من الأثر الدّليل الأوّل: ما ورد عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنّها قالت في وصي اليتيم: يصيب من ماله إذا كان محتاجًا بقدر ماله بالمعروف (¬3). ¬

_ (¬1) الشرح الكبير لشمس الدِّين ابن قدامة 4/ 531. (¬2) سبق تخريجه، راجع ص 680. (¬3) سبق تخريجه، راجع ص 681.

الدليل الثاني

الدّليل الثّاني: عن القاسم بن محمَّد قال: جاء رجل إلى ابن عبّاس رضي الله عنهما فقال: إنَّ في حجري أموال يتامى، وهو يستأذنه أن يصيب منها، فقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: ألست تبغي ضالتها، قال: بلى. قال: ألست تهنأ جرباها؟ قال: بلى، قال: ألست تلوط حياضها؟ قال: بلى، قال: ألست تفرط عليها يوم وردها؟ قال: بلى، قال: فأصب من رسلها -يعني من لبنها- (¬1). وجه الاستدلال من الأثرين: حيث رخصت أم المؤمنين وكذلك ابن عبّاس رضي الله عنهم للوصي الأكل من مال اليتيم في مقابل عمله في ماله، فإذا كان الأكل عوض العمل، لم يجب على الوصي رد ما أخذ؛ لأنّه كالأجرة. د - الدّليل من المعقول: الدّليل الأوّل: أن ما يأكله الوصي إنّما هو عوض عمله فلم يلزمه بدله كالأجير والمضارب (¬2). الدّليل الثّاني: أنّه لو وجب على الوصي القضاء إذا أيسر، لكان واجبًا في الذِّمَّة قبل اليسار، فإن اليسار ليس سببًا للوجوب، فإذا لم يجب السبب الّذي هو الأكل لم يجب بعده (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب البيوع، باب الولي يأكل من مال اليتيم مكان قيامه عليه بالمعروف إذا كان فقيرًا 6/ 6 (10995)، وأخرجه ابن جرير في تفسيره 4/ 258. وقوله: تهنأ جرباها: تعالج جرب إبله بالقطران، وقوله: تلوط حياضها: تطينه وتصلحه، وقوله: تفرط عليها يوم وردها: تتقدمها في طلب الماء. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 4/ 277، 5/ 277، المصباح المنير للفيومي 2/ 469. (¬2) الشرح الكبير لشمس الدِّين ابن قدامة 4/ 531. (¬3) المرجع السابق.

الترجيح

الترجيح: بعد عرض الأدلة لكل قول، وذكر ما ورد عليها من مناقشات، يظهر رجحان القول الأوّل القائل بأن الوصي إنّما يأكل من مال اليتيم على سبيل الإباحة فلا يلزمه عوض إذا أيسر. ويعود ترجيح هذا القول لما يأتي: أوَّلًا: قوة ما استدل به أصحاب هذا القول حيث جاءت أدلتهم قوية خالية من المناقشات. ثانيًا: أن هذا القول جاء موافقًا لظاهر النصوص من القرآن والسُّنَّة، حيث دل القرآن بظاهره على جواز الأكل من مال اليتيم عند الحاجة على سبيل الإباحة، وذلك في قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}، ولم تذكر الآية عوضًا عند اليسار، فدل ذلك على الإباحة. ثالثًا: أن أمكن مناقشة ما استدل به أصحاب القول الآخر من أدلة ممّا يضعف من دلالتها وحجيتها.

المطلب الثالث أخذ الأجرة على الوصاية

المطلب الثّالث أخذ الأجرة على الوصاية إذا طلب الوصي أجرةً على نظره وعمله في مال اليتيم، وقضاء حوائجه فهل يجوز له ذلك؟ اتفق الفقهاء رحمهم الله تعالى على أن الوصي إذا طلب أجرة على عمله في مال اليتيم، ورعايته له، فعلى الحاكم أو القاضي أن يفرض له أجرة على عمله ونظره في شئون اليتيم، بقدر أجرة مثل عمله وشغله. قال ابن نجيم: "الوصي إذا نصبه القاضي وعين له أجرًا بقدر أجرة مثله جاز" (¬1) وقال أبو الحسن التسولي (¬2): "على القاضي أن يفرض للوصي أجرة على نظره بقدر شغله بالنظر في مال اليتيم، من تصرف في غلات أصوله، وشراء نفقته إذا طلب الوصي ذلك" (¬3). وقال الشربيني: "وإن كان الناظر في أمر الطفل أجنبيًا فله أن يأخذ من مال الطفل قدر أجرة عمله" (¬4). وقال البهوتي: "ويجوز أن يجعل الموصي أو الحاكم للوصي جعلًا" (¬5). ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص: 365. (¬2) هو: علي بن عبد السّلام التسولي المدعو مديدش القاضي أبو الحسن الفقيه المالكي، له مؤلفات كثيرة تدل على إمامته منها: البهجة شرح التحفة، وحاشية على شرح الشّيخ التاودي على لامية الزقاق، وشرح الشامل وغيرها، توفي سنة 1258 هـ انظر: شجرة النور الزكية لمخلوف، ص: 397. (¬3) البهجة في شرح التحفة 2/ 309. (¬4) مغني المحتاج للشربيني 3/ 78 - 79. (¬5) كشاف القناع للبهوتي 4/ 397.

الدليل الأول

وقال ابن حزم: "فإن أبي الوصي من النظر لليتيم، ولم يجد الحاكم من ينظر له حسبة، فليستأجر له وكيلًا ناظرًا، وهذا إنّما هو حظ اليتيم فهذا جائز بلا خلاف" (¬1). وقال رحمه الله: " ... لكن إنَّ احتاج استأجره له الحاكم بأجرة مثل عمله" (¬2). وقد استدل الفقهاء لذلك بما يأتي: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ الوصاية بمنزلة الوكالة، والوكالة يجوز أخذ الأجرة عليها فكذلك الوصاية (¬3)، وعلى هذا فإنّه يجوز للوصي أخذ الأجرة كالوكيل. الدليل الثّاني: قالوا: إنَّ أخذ الأجرة على الوصاية، داخل في عموم أمره - صلّى الله عليه وسلم - بالمؤاجرة فتجوز (¬4). الدّليل الثّالث: أن الوصي يجوز له أخذ الأجرة قياسًا على غيره من الإجراء، فإن الوصي يجوز أن يستأجر له الإجراء إذا كان اليتيم محتاجًا إلى ذلك بأجرة معلومة فكذلك يجوز للحاكم أو القاضي أن يستأجر الوصي بأجره معلومة كغيره من الإجراء (¬5). الدّليل الرّابع: قالوا: إنَّ الأجرة على الوصاية إنّما هي في مقابلة العمل، والعمل حق للوصي فجاز أخذ الأجرة عليه (¬6). ¬

_ (¬1) المحلى لابن حزم 8/ 329. (¬2) المرجع السابق 8/ 325. (¬3) المغني لابن قدامة 8/ 557، كشاف القناع للبهوتي 4/ 397. (¬4) المحلى لابن حزم 8/ 329. (¬5) جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 4/ 261. (¬6) أحكام القرآن للكيا الهراسي 2/ 330.

الفصل الثاني أخذ المال على الولايات الشرعية

الفصل الثّاني أخذ المال على الولايات الشرعية وفيه أربعة مباحث: المبحث الأوّل: أخذ المال على الإمامة العظمى (نفقة الإمام) المبحث الثّاني: أخذ المال على القضاء والشهادة المبحث الثّالث: أخذ المال على الإفتاء المبحث الرّابع: أخذ المال على الحسبة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)

المبحث الأول أخذ المال على الإمامة العظمى (نفقة الإمام)

المبحث الأوّل أخذ المال على الإمامة العظمى (نفقة الإمام) الإمامة العظمى (¬1) هي أجل منصب وأرفع ولاية بعد النبوة، وكان من نعم الله على هذه الأُمَّة، أن ندب لها زعيمًا، خلف به النبوة، وحاط به الملة، وفوض إليه السياسة، ليصدر التّدبير عن دين مشروع، وتجتمع الكلمة على رأي متبوع، فكانت الإمامة أصلًا عليه استقرت قواعد الملة، وانتظمت به مصالحع الأُمَّة (¬2). وقد أجمعت الأُمَّة على وجوب عقد الإمامة، وأجمعوا كذلك على أن طاعة الإمام الواجب إمامته، فرض في كلّ أمر ما لم يكن معصية وأن القتال دونه فرض، وخدمته فيما أمر به واجبة، وأحكامه وأحكام من ولاّه نافذة، وعزل من عزل نافذ (¬3). ¬

_ (¬1) الإمامة في اللُّغة: الإمامة: مصدر أمّ القوم وأمّ بهم: إذا تقدمهم، والإمام: ما ائتم به من رئيس وغيره، والإمام: الّذي يقتدى به، والجمع: أئمة، يقال: فلان إمام القوم معناه: هو المتقدم لهم، ويكون الإمام رئيسًا كقولك: إمام المسلمين، والإمام: الخليفة. مختار الصحاح للرازي ص: 26، لسان العرب لابن منظور 12/ 24 - 26، المصباح المنير للفيومي 1/ 23، القاموس المحيط للفيروزآبادي ص: 1392. وأمّا الإمامة في الاصطلاح: فقد عرّفها الفقهاء بأنّها: "رئاسة عامة في الدِّين والدنيا خلافة عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -"، وقيل هي: "استحقاق تصرف عام على الأنام"، وقيل هي: خلافة عن صاحب الشّرع في حراسة الدِّين وسياسة الدنيا به". حاشية ابن عابدين 1/ 268، نهاية المحتاج للرملي 7/ 409، مقدمة تاريخ ابن خلدون ص: 239. والتعريف الأوّل أرجح لخلوه من الاعتراضات. (¬2) الأحكام السلطانية للماوردي ص: 3. (¬3) مراتب الإجماع لابن حزم ص 124، شرح النووي على مسلم 12/ 305.

والإمام هو العامل الأوّل في مصلحة المسلمين، ولذا فإن الفقهاء قد بينوا كلّ ما يتعلّق به من أحكام ومن ذلك ما يستحقه من نفقة لنفسه وعياله من بيت المال وبيان ذلك على النحو التالي: اتفق الصّحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من العلماء على أن الإمام تجب له النفقة لنفسه ولعياله ومن يمونه بالمعروف من بيت المال (¬1). قال الإمام السرخسي: "وتجب للإمام نفقته في بيت المال قدر ما يغنيه يفرض له ذلك" (¬2). وقال الدردير: "وله: أي الإمام، النفقة من بيت المال على نفسه وعياله بالمعروف" (¬3). وقال الإمام النوويّ: "وكذا الإمام يأخذ لنفسه ما يليق به من الخيل والغلمان والدار الواسعة" (¬4). وقال الإمام البغوي: "يجوز للوالي أن يأخذ من بيت المال قدر كفايته من النفقة والكسوة لنفسه، ولمن يلزمه نفقته، يتخذ منه مسكنًا وخادمًا" (¬5). وقد استدل الفقهاء على هذا الاتفاق بما يأتي: ¬

_ (¬1) الأصل لمحمد بن الحسن 2/ 182، المبسوط للسرخسي 3/ 19، عقد الجواهر لابن شاش 2/ 823، جواهر الإكليل للآبي 1/ 260، روضة الطالبين للنووي 11/ 137، مغني المحتاج للشربيني 4/ 390، المغني لابن قدامة 4/ 9 - 10، شرح منتهى الإرادات 3/ 462، مجموع الفتاوى لابن تيمية 28/ 286، 287، 566، 576، فتح الباري لابن حجر 4/ 357. (¬2) المبسوط للسرخسي 3/ 19. (¬3) الشرح الصغير للدردير 2/ 295. (¬4) روضة الطالبين 11/ 137. (¬5) شرح السُّنَّة للبغوي 10/ 86.

الدليل الأول

الدّليل الأوّل: ما ورد عن المستورد بن شداد قال: سمعت النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - يقول: (من كان لنا عاملًا، فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادمًا، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنًا) (¬2). وجه الاستدلال: دلّ الحديث على أنّه يجوز للوالي أن يأخذ من بيت المال قدر كفايته من النفقة والكسوة لنفسه، ولمن يلزمه نفقته ويتخذ لنفسه منه مسكنًا وخادمًا (¬3). الدّليل الثّاني: ما ورد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: (من استعملناه على عمل فرزقناه رزقًا، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول) (¬4). وجه الاستدلال: دل الحديث على أنّه يجوز أخذ الرزق من بيت المال على أعمال الولاية والإمارة (¬5). الدّليل الثّالث: ما ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما استخلف أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤونة أهلي وشغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال واحترف للمسلمين فيه (¬6). ¬

_ (¬2) أخرجه أبو داود، كتاب الخراج والفيء والإمارة، باب في أرزاق العمال 3/ 134 (2945)، وأحمد في المسند 4/ 313 (17980)، (17982)، والحديث صححه ابن خزيمة 4/ 70 (2370)، والألباني كما في صحيح سنن أبي داود 2/ 568 (2552). (¬3) شرح السُّنَّة للبغوي 10/ 86. (¬4) سبق تخريجه، راجع ص: 264 مبحث الزَّكاة (الهدية ونحوها للعاملين عليها). (¬5) عون المعبود للعظيم آبادي 8/ 114. (¬6) أخرجه البخاريّ، كتاب البيوع، باب كسب الرَّجل وعمله بيده 4/ 355 (2070).

وجه الاستدلال

وجه الاستدلال: دل قول الصديق - رضي الله عنه - على أن من شغل بأمر المسلمين حقيق أن يأكل هو وعياله من بيت المال (¬1). وقال ابن التين (¬2): "وفيه دليل على أن للعامل أن يأخذ من عرض المال الّذي يعمل فيه قدر حاجته، إذا لم يكن فوقه إمام يقطع له أجرة معلومة" (¬3). الدّليل الرّابع: ما روى عن عمر - رضي الله عنه - قال: إنِّي أنزلت مال الله تعالى مني بمنزلة مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف (¬4). وفي رواية لأثر عائشة رضي الله عنها السابق: "فلما استخلف عمر - رضي الله عنه - أكل هو وأهله من المال - أي مال المسلمين- واحترف في مال نفسه" (¬5). وجه الاستدلال: دل فعل عمر - رضي الله عنه - على أن الإمام يجوز له أخذ ما يحتاجه وعياله من بيت المال. الدّليل الخامس: اتفاق الصّحابة رضي الله عنهم على أنّه يفرض للإمام في بيت المال ما يكفيه وعياله بالمعروف (¬6). ¬

_ (¬1) فتح الباري لابن حجر 4/ 357. (¬2) هو عبد الواحد بن التين الصفاقسي، أبو محمّد، الإمام المالكي له شرح على البخاريّ مشهور سماه. المخبر الفصيح في شرح البخاريّ الصحيح، له اعتناء زائد في الفقه، اعتمده الحافظ ابن حجر في الفتح، توفي سنة 611 هـ بصفاقس. انظر: شجرة النور الزكية لمخلوف ص:168. (¬3) فتح الباري لابن حجر 4/ 357. (¬4) تقدّم تخريجه ص 680 مبحث الوصايا. (¬5) أخرجه الإسماعيلي كما في فتح الباري 4/ 357، والبيهقي في الكبرى، كتاب قسم الفيء والغنيمية، باب ما يكون للولي الأعظم ووالي الأقاليم من مال الله 6/ 574 (13007). (¬6) فتح الباري لابن حجر 4/ 357،: قال ابن حجر معلقًا على أثر عائشة السابق: "لكن في قصة أبي بكر أن القدر الّذي كان يتناوله فرضٍ له باتِّفاق الصّحابة، فروى ابن سعد بإسناد مرسل رجاله ثقات قال: "لما استخلف أبو بكر أصبح غاديًا إلى السوق على رأسه أثواب يتجر بها، فلقيه عمر بن الخطّاب، وأبو عبيدة بن الجراح، فقال: كيف تصنع هذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ قالوا: نفرض لك. ففرضوا له كلّ يوم شطر شاة. وانظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 3/ 137.

المبحث الثاني أخذ المال على القضاء والشهادة

المبحث الثّاني أخذ المال على القضاء والشهادة وفيه مطلبان: المطلب الأوّل أخذ المال على القضاء وفيه أربع مسائل: المسألة الأوّل: ما يأخذه القاضي من مال على قضائه القضاء (¬1) من أجل الولايات الشرعية، وأرفعها مكانة، وأشدها خطرًا، وأعظمها أثرًا في المجتمع، وذلك لما يترتب عليه من حصول الاستقرار واستتباب الأمين وظهور العدل، وانحسار الظلم، وإنهاء الخصومة فيصبح النَّاس بذلك آمنين على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم. وقد وفرت الشّريعة الغراء لهذا المنصب الرفيع، كلّ عوامل النجاح والاستقرار والثبات، بما يكفل للقاضي القيام بعمله على أحسن وجه. وقد اعتنى الفقهاء رحمهم الله تعالى بأحكام القضاء، كما بينوا آداب القاضي، ومن ذلك ما يأخذه القاضي من مال على منصب القضاء وهذا هو المراد بالبحث في ¬

_ (¬1) القضاء في اللُّغة: الحكم، والجمع الأقضية، يقال: قضى عليه، يقضي، قضيًا وقضاة وقضية، والقاضي: هو القاطع للأمور، المحكم لها، واستُقضي فلان: جُعل قاضيًا يحكم بين النَّاس، والقضايا: الأحكام، واحدتها: قضية مختار الصحاح للرازي ص: 540، لسان العرب لابن منظور 15/ 186. وفي الاصطلاح: عرّف الفقهاء القضاء بتعريفات كثيرة مختلفة، ولكن هذا الاختلاف إنّما هو في العبارة لا في المعنى، ومن أجمع هذه التعريفات ما عرّفه به الحنابلة بأنّه: "تببين الحكم الشرعي والإلزام به وفصل الخصومات". منتهى الإرادات لابن النجار الفتوحي مع شرحه للبهوتى 3/ 459.

الفرع الأول: أخذ الرزق على القضاء من بيت المال

هذه المسألة، وتفصيل ذلك في الفروع التالية: الفرع الأوّل: أخذ الرزق على القضاء من بيت المال: تفاوتت أنظار الفقهاء في هذه المسألة فمنهم من أطلق جواز أخذ الرزق من بيت المال على القضاء سواء أكان القاضي غنيًا أم فقيرًا، تعين عليه القضاء أم لا، ومنهم من فرق بين الغني والفقير فمنع من الأخذ مع الغني وأجاز الأخذ مع الفقر، وعلى هذا فإن القاضي لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إذا كان القاضي فقيرًا: في هذه الحالة اتفق الفقهاء رحمهم الله تعالى على أنّه يجوز للقاضي إنَّ كان فقيرًا محتاجًا أن يأخذ الرزق من بيت المال على قضائه، فيأخذ ما يكفيه وعياله، وأنّه ينبغي للإمام أن يوسع على القاضي وعلى عياله في ذلك (¬1). وعمدة هذا الاتفاق ما يأتي: الدّليل الأوّل: عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما استخلف أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤونة أهلي، وشغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال، واحترف للمسلمين فيه (¬2). ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي 16/ 102، بدائع الصنائع للكاساني 7/ 13، تبصرة الحكام لابن فرحون 1/ 29 - 30، القوانين الفقهية لابن جزي ص: 323، الحاوي الكبير للماوردي20/ 364، روضة الطالبين للنووي 11/ 137 - 138، المغني لابن قدامة 14/ 9، كشاف القناع للبهوتي 6/ 290، المحلى لابن حزم 9/ 435، مراتب الإجماع لابن حزم ص: 51، مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 28/ 576. (¬2) سبق تخريجه، ص 695 مبحث الإمامة العظمى.

وجه الاستدلال

وجه الاستدلال: دل الأثر على أن من شغل بأمر المسلماين فله أن يأكل هو وعياله من بيت المال ما يكفيهم بالمعروف، إنَّ لم تكن له كفاية في ماله؛ لأنّ الصديق - رضي الله عنه - كان كاسب أهله فلما انقطع عن الكسب بسبب الخلافة لم تعد له كفاية فكانت كفايته في مال المسلمين والقاضي مثله لانقطاعه عن الكسب لنفسه وعياله بسبب القضاء والانشغال بأمر المسلمين فكانت كفايته في مالهم. الدّليل الثّاني: ما روي عن عمر - رضي الله عنه - قال: إنِّي أنزلت مال الله تعالى مني بمنزلة مال اليتيم، إنَّ استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف (¬1). وجه الاستدلال: يمكن توجيه الاستدلال بأنّه لما جاز للخليفة الارتزاق مع الحاجة، لانشغاله بأمر المسلمين، فكذلك القاضي. الدّليل الثّالث: قالوا: إنَّ القاضي قد فرغ نفسه لعمل المسلمين، فلا بد له من الكفاية ولا كفاية له، فكانت كفايته وكفاية عياله في بيت المال (¬2). الدّليل الرّابع: قالوا: إنَّ القاضي محبوس بحق العامة، فكان عاجزًا عن الكسب، فلو لم يأخذ كفايته لنفسه وعياله ومن يمونهم من أهله وأعوانه احتاج أن يأخذ من أموال النَّاس فيأخذ الرشوة وذلك حرام (¬3). ¬

_ (¬1) تقدّم تخريجه ص 680 مبحث الوصايا. (¬2) المبسوط للسرخسي 16/ 102، بدائع الصنائع للكاساني 7/ 13. (¬3) شرح أدب القاضي للخصاف للصدر الشهيد 2/ 11.

الحالة الأخرى: إذا كان القاضي غنيا

الحالة الأخرى: إذا كان القاضي غنيًا: إذا كان القاضي غنيًا غير محتاج للرزق من بيت المال فهل يجوز له في هذه الحالة الارتزاق من بيت المال أم لا؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: القول الأوّل: يجوز للقاضي أخذ الرزق من بيت المال وإن كان غنيًا. وإلى هذا ذهب الحنفية في الأصح (¬1)، والحنابلة في الصحيح من المذهب (¬2)، وهو قول الظاهرية (¬3). القول الثّاني: لا يجوز للقاضي أخذ الرزق من بيت المال إنَّ كان غنيًا، وإلى هذا ذهب بعض الحنفية (¬4)، وبه قال المالكية (¬5)، والشّافعيّة (¬6)، وهو وجه عند الحنابلة (¬7) وإليه مال ابن القيم رحمه الله تعالى (¬8). ¬

_ (¬1) روضة القضاة وطريق النجاة للسمناني 1/ 85 - 87، بدائع الصنائع للكاساني 7/ 13 - 14 الدر المختار شرح تنوير الأبصار للحصفكي 5/ 249. (¬2) المغني لابن قدامة 14/ 9 - 10، شرح منتهى الإرادات للبهوتي 3/ 462. (¬3) المحلى لابن حزم 9/ 435. (¬4) بدائع الصنائع للكاساني 7/ 13 - 14. (¬5) تبصرة الحكام لابن فرحون 1/ 30، الذّخيرة للقرافي10/ 78، مواهب الجليل للحطاب 6/ 120. (¬6) كتاب أدب القاضي (من التهذيب) للإمام البغوي ص: 151، روضة الطالبين للنووي 11/ 137 مغني المحتاج للشربيني 4/ 389، نهاية المحتاج للرملي 8/ 215. (¬7) المغنى لابن قدامة 14/ 9، الكافي لابن قدامة 4/ 278، كشاف القناع للبهوتي 6/ 290 - 291. (¬8) بدائع الفوائد لابن القيم 3/ 146 - 147، إعلام الموقعين لابن القيم 4/ 231 - 232.

سبب الخلاف

سبب الخلاف: بين الإمام ابن قيم الجوزية سبب الخلاف في هذه المسألة فقال رحمه الله تعالى: "أصل هذه المسألة عامل الزَّكاة وقيم اليتيم فإن الله تعالى أباح لعامل الزَّكاة جزأ منها فهو يأخذه مع الفقر والغنى ... وأمّا ناظر التيم فالله تعالى أمره بالاستعفاف مع الغنى وأباح له الأكل بالمعروف مع الفقر ... والحاكم (القاضي) فرع متردد بين أصلّين، عامل الزَّكاة وناظر اليتيم، فمن نظر إلى عموم الحاجة إليه وحصول الصلحة العامة به ألحقه بعامل الزَّكاة فيأخذ الرزق مع الغنى، كما يأخذه عامل الزَّكاة، ومن نظر إلى كونه راعيًا منتصبًا لمعاملة الرعية بالأحظ لهم ألحقه بولي اليتيم، إنَّ احتاج أخذ، وإن استغنى ترك" (¬1). الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة القول الثّاني: استدل أصحاب هذا القول، القائلون بعدم جواز أخذ الرزق على القضاء من بيت المال مع الغنى بما يأتي: الدّليل الأوّل: إنَّ القضاء يختص فاعله أن يكون من أهل القربة فلم يجز أخذ الأجرة عليه كالصلاة (¬2). ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد لابن قيم الجوزية 3/ 146 - 147. (¬2) الكافي لابن قدامة 4/ 278. تنبيه: ساق ابن قدامة هذا الدّليل في معرض كلامه عن الرزق، ولكن الّذي يظهر أن هذا الدّليل خاص بالمنع من الاستئجار على القضاء، وليس بالرزق من بيت المال؛ لأنّ أخذ الرزق من بيت المال يختص بأهل القرب، ثمّ إنّه قد ساقه في "المغني" في معرض الاستدلال على المنع من الاستئجار، ولم يذكره في كلامه عن الارزق، ثمّ إنَّ قوله في الدّليل (فلم يجز أخذ الأجرة ...) يدلُّ لما ذكرت وأنّه في الأجرة وليس في الرزق، ويؤيد هذا صنيع برهان الدِّين ابن مفلح في المبدع حيث ذكر هذا الدّليل في معرض الاستدلال على المنع من الرزق، ثمّ فصل القول في الاستئجار بعد ذلك مباشرة. المبدع لابن مفلح 10/ 13.

مناقشة الاستدلال

مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الدّليل بما يأتي: أن هذا الدّليل لا يصح إيراده هنا؛ لأنّه خاص بالمنع من الاستئجار على القضاء، وهذا لا خلاف فيه، وإنّما الكلام هنا عن الرزق، وهو جائز على أعمال القرب؛ لأنّه ليس من باب المعاوضة، إنّما هو من باب الإعانة على الطّاعة. الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ القاضي إنّما يأخذ الرزق من بيت المال لحاجته إليه، فإذا كان غنيًا، فلا حاجة له إلى أخذ الرزق، فلا يجوز (¬1). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الدّليل بما يأتي: أن القاضي لا يأخذ الرزق لحاجته فقط وإنّما يأخذ؛ لأنّه حبس نفسه لمصلحة المسلمين، ولم يردّ نصّ يخص الرزق بالعامل الفقير فقط دون الغني، بل وردت كثير من الأدلة تدل على جواز أخذ العامل للرزق مطلقًا غنيًا كان أم فقيرًا، وستأتي هذه الأدلة مفصلة عند ذكر أدلة أصحاب القول الأوّل. الدّليل الثّالث: قالوا: إنَّ عدم أخذ الرزق إذا كان القاضي غنيًا، أبلغ في المهذَّبة وأدعى للنفوس إلى اعتقاد التعظيم والجلالة (¬2). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الدّليل بما يأتي: ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني 7/ 14. (¬2) تبصرة الحكام لابن فرحون 1/ 30، مواهب الجليل للحطاب 6/ 120.

الدليل الرابع

أن القاضي إنّما يأخذ الرزق من بيت المال، وبيت المال جهة عامة وأمواله مصروفة في مصالحع المسلمين العامة، وهذا منها، فالأخذ منه لا يترتب عليه شيء ممّا ذكر في الدّليل، وإنّما قد يردّ ذلك إذا كان ما يأخذه القاضي من الخصوم وليس من بيت المال. الدّليل الرّابع: قالوا: إنَّ القاضي كولي اليتيم، لا يجوز له أخذ الرزق من بيت المال على القضاء، إِلَّا إذا كان فقيرًا، فالوصي يعمل في مال اليتيم كما أن القاضي يعمل للمسلمين، فكل منهما منتصبًا لمعاملة الرعية بالأحظ لهم، فإن احتاج أخذ وإن استغنى ترك (¬1). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الدّليل بأن القاضي فرع متردد بين أصلّين، عامل الزَّكاة وناظر اليتيم، وإلحاقه بعامل الزَّكاة أولى لعموم الحاجة إلى القاضي وحصول المصلحة العامة به، وللأدلة الدالة على جواز الرزق مع الغني وستأتي عند ذكر أدلة القول الأوّل. ثانيًا: أدلة القول الأوّل: استدل أصحاب هذا القول بأدلة كثيرة من السُّنَّة والأثر والمعقول. أ - أدلتهم من السُّنَّة: الدّليل الأوّل: عن عبد الله بن السعدي - رضي الله عنه - أنّه قدم على عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - من الشّام، فقال عمر: ألم أحدّث أنك تلي من أعمال النَّاس أعمالًا، فإذا أعطيت العُمالة كرهتها؟ فقلت: بلى، فقال عمر - رضي الله عنه -: فما تريد إلى ذلك؟ فقلت: إنَّ لي أفراسًا وأعبدًا وأنا بخير، وأريد أن تكون عُمَالتي صدقة على المسلمين، فقال له عمر: لا تفعل، فإني ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي 7/ 13، بدائع الفوائد لابن القيم 3/ 146 - 147.

وجه الاستدلال

كنت أردت مثل الّذي أردت، فكان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يعطيني العطاء فأقول: أعطه أفقر إليه مني، فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (خذه فتموله، وتصدق به، ما جاءك من هذا المال، وأنت غير مشرف، ولا سائل فخذه، وما لا تتبعه نفسك) (¬1). وجه الاستدلال: دل الحديث على أن من شغل بشيء من أعمال المسلمين، جاز له أخذ الرزق على عمله ذلك كالولاة والقضاة وجباة مال الفىء وعمال الصَّدقة ونحوهم لإعطاء رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - عمر العُمالة على عمله، ولا فرق في ذلك بين الغني والفقير لأنَّ ابن السعدي وعمر كانا من الأغنياء ومع ذلك أخذا الرزق على عملهما (¬2). الدّليل الثّاني: عن جابر أن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - استعمل عتّاب بن أسيد على مكّة وفرض له عُمالته أربعين أوقية من فضة (¬3). وجه الاستدلال: حيث دلّ فعل النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - مع عتاب بن أسيد على جواز أخذ الرزق على العمل في مصلحة المسلمين دون فرق بين غنى وفقير، حيث لم يستفصل عن حالة أسيد من حيث الفقر والغنى. فدلّ ذلك على الجواز مطلقًا فكذلك القاضي؛ لأنَّ كلا منهما عامل للمسلمين. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ، كتاب الأحكام، باب رزق الحاكم والعاملين عليها 13/ 160 (7163)، ومسلم كتاب الزَّكاة، باب إباحة الأخذ من غير مسألة ولا إشراف 2/ 723 (1045)، والإشراف هو: التطلع والطمع والمعنى: ما جاءك من هذا المال، وأنت غير متطلع إليه ولا طامع فيه. النهاية لابن الأثير 2/ 462. (¬2) فتح الباري لابن حجر 13/ 164. (¬3) أخرجه البيهقي، كتاب قسمة الفيء والغنيمة، باب ما يكون للوالي الأعظم ووالي الأقاليم من مال الله ... 6/ 578 (13022).

ب - الأدلة من الآثار

ب - الأدلة من الآثار الدّليل الأوّل: عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما استخلف أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجزُ عن مؤونة أهلي، وشغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال واحترف للمسلمين فيه (¬1). الدّليل الثّاني: عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أستخلف عمر - رضي الله عنه - أكل هو وأهله (¬2). وجه الاستدلال من الأثرين السابقين: حيث دل فعل الصّحابة رضي الله عنهم على أن من عمل للمسلمين فإنّه يأكل من أموالهم من بيت المال، والقاضي قد شغل بعمل المسلمين فيأكل من بيت المال غنيًا كان أم فقيرًا (¬3). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذه الآثار بما يأتى: أن الصّحابة رضي الله عنهم إنّما أكلوا بقدر الحاجة والضرورة أي مع الفقر والحاجة لا مع الغني بدليل قول عمر - رضي الله عنه -: "إنَّ استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف" (¬4). الجواب عن المناقشة: أجيب عن هذه المناقشة بأن فعل عمر - رضي الله عنه - محمول على الورع، إذ الخليفة ليس ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص 695 مبحث الإمامة العظمى. (¬2) سبق تخريجه ص 696 مبحث الإمامة العظمى. (¬3) شرح أدب القاضي للخصاف للصدر الشهيد 2/ 9، وما بعدها، المغنى لابن قدامة 14/ 9. (¬4) سبق تخريجه ص 785 مبحث الوصايا.

الدليل الثالث

كالوصي، ولكن عمر بورعه جعل نفسه كالوصي (¬1)، ويؤيد هذا فعل عمر بعد ذلك، حيث فرض الرزق لمن تولى القضاء ووسع عليهم في ذلك كما سيأتي. الدّليل الثّالث: ما ورد أن عمر - رضي الله عنه - رزق شريحًا (¬2) وسلمان بن ربيعة (¬3) الباهلي على القضاء (¬4). الدّليل الرّابع: عن ابن أبي ليلى قال: بلغني أن عليًا رزق شريحًا خمسمائة (¬5). الدّليل الخامس: ما روي أن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى معاذ بن جبل وأبي عبيده رضي الله عنهما حين بعثهما إلى الشّام، أن انظروا رجالًا من صالحي من قبلكم، فاستعملوهم على القضاء وأوسعوا عليهم وارزقوهم واكفوهم من مال الله (¬6). ¬

_ (¬1) أحكام القرآن لابن العربي 1/ 336. (¬2) هو شريح بن الحارث بن قيس بن النخعي أبو أمية الكوفي، قاضي الكوفة، ولاه عمر - رضي الله عنه - القضاء، ثمّ بقي في هذا المنصب لمن بعد عمر دهرًا طويلًا، وله مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أخبار في ذلك، وهو ثقة مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام، ويقال له صحبه، مات قبل الثمانين وقد جاوز المائة. انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي 1/ 59، فتح الباري لابن حجر 13/ 161 تقريب التهذيب لابن حجر ص: 434. (¬3) هو: سلمان بن رييعة بن يزيد بن عمرو بن سهم الباهلي أبو عبد الله، وهو سلمان الخيل، يقال له صحبة، روى عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - وعن عمر، ولاه عمر قضاء الكوفة، وغزا أرمينية في زمن عثمان - رضي الله عنه -، فاستشهد سنة 25 هـ على الصحيح. انظر: تهذيب التهذيب لابن حجر 4/ 136 - 137. (¬4) أخرجه البخاريّ معلقا بصيغه الجزم بلفظ: (وكان شريح القاضي يأخذ على القضاء أجرة) 13/ 160، كتاب الأحكام وعبد الرزّاق، كتاب البيوع، باب: هل يؤخذ على القضاء رزق؟ 8/ 297 (5282) قال ابن حجر: وهذا ضعيف منقطع. تلخيص الحبير 4/ 194. (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة، كتاب البيوع والأقضية، باب في القاضي يأخذ الرزق 6/ 506 (1847). (¬6) ذكره ابن قدامة في المغني 9/ 14 - 10، وقال الألباني: لم أقف عليه. الإرواء 8/ 234.

وجه الاستدلال من الآثار السابقة

وجه الاستدلال من الآثار السابقة: حيث دل فعل الصّحابة رضي الله عنهم على جواز إرزاق القضاة من بيت المال مطلقًا غنيا كان أم فقيرًا، إذ لم يردّ في هذه الآثار تقييد ذلك بالفقير دون الغني. جـ - الأدلة من المعقول: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ بالناس حاجة إلى القضاء، ولو لم يجز فرض الرزق للقاضي، لتعطل القضاء، وضاعت الحقوق (¬1). الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ القاضي يجوز له أخذ الرزق على القضاء وإن كان غنيًا قياسًا على عامل الزَّكاة، بجامع عموم الحاجة إلى كلّ منهما، وحصول المصلحة العامة بهما (¬2). مناقشة الاستدلال: نوقش هذا الدّليل بأنّه قياس القاضي على عامل الزَّكاة قياس مع الفارق وبيان ذلك: "أن عامل الزَّكاة مستأجر من جهة الإمام لجباية أموال المستحقين لها وجمعها فما يأخذه بعمله كمن يستأجره الرَّجل لجباية أمواله، وأمّا الحاكم فإنّه منتصب لإلزام النَّاس بشرائع الرب تبارك وتعالى وأحكامه، وتبليغها إليهم فهو مبلغ عن الله تعالى عَزَّ وَجَلَّ بفتياه، ويتميز عن المفتي بالإلزام بولايته وقدرته، والمبلغ عن الله تعالى الملزم للأمة بدينه لا يستحق عليهم شيئًا، فإن كان محتاجًا فله من الفيء ما يسد حاجته" (¬3). ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة 14/ 10، شرح منتهى الإرادات للبهوتي 3/ 462. (¬2) بدائع الفوائد لابن القيم 3/ 146 - 147، أدب القاضي لابن القاص 1/ 109، روضة القضاة للسمناني 1/ 87. (¬3) بدائع الفوائد لابن القيم 3/ 147.

الترجيح

الترجيح: بعد عرض الأقوال وذكر ما استدل به أصحاب كلّ قول، وما ورد على هذه الأدلة من مناقشات وما أجيب به عنها يتبين بوضوح رجحان القول الأوّل وهو جواز أخذ الرزق على القضاء من بيت المال وإن كان القاضي غنيا، وذلك لما يأتي: 1 - قوة ما استدل به أصحاب هذا القول، حيث جاءت أدلتهم في معظمها صريحة في الدلالة على المطلوب، ومن ذلك حديث ابن السعدي حيث جاء نصا صريحًا في جواز الأخذ مع الغنى، بل في استحباب ذلك. 2 - أن هذه السنن الصحيحة الصريحة جاءت مؤيدة بفعل أصحاب النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - حيث اتخذوا القضاة وارزقوهم من بيت المال ووسعوا عليهم في ذلك كما تقدّم. 3 - أن أخذ الرزق مع الغنى أعون في العمل وألزم للنصيحة من التارك، قال ابن حجر مبينا ذلك: "أن الأخذ أعون في العمل وألزم للنصيحة من التارك؛ لأنّه إنَّ لم يأخذ كان عند نفسه متطوعًا بالعمل فقد لا يجدُّ جدّ من أخذ ركونًا إلى أنّه غير ملتزم بخلاف الّذي يأخذ فإنّه يكون مستشعرًا بأن العمل واجب عليه، فيجدّ جدّه فيها" (¬1). 4 - أن بعض العلماء نقل الإجماع على جواز الرزق على القضاء مطلقًا دون تفريق بين غنى وفقير ومن ذلك: 1 - قال أبو علي الكرابيسي (¬2): "لا بأس للقاضي أن يأخذ الرزق على القضاء عند أهل العلم قاطبة من الصّحابة ومن بعدهم، وهو قول فقهاء الأمصار، لا أعلم ¬

_ (¬1) فتح الباري لابن حجر 13/ 165. (¬2) هو: الحسين بن علي بن يزيد البغدادي الكرابيسي، أبو علي أحد أصحاب الإمام الشّافعيّ رحمه الله تعالى، كان متضلعا في الفقه والحديث والأصول، سمي بالكرابيسي؛ لأنّه كان يبيع الكرابيس وهي الثِّياب الخام، هجره الإمام أحمد رحمه الله لتكلمه في مسألة اللقط، توفي سنة 245 هـ، وقيل غير ذلك. انظر: طبقات الشّافعيّة لابن كثير 1/ 132، طبقات الشّافعيّة لابن هداية الله ص: 26.

بينهم اختلافًا" (¬1). 2 - نقل الحافظ ابن حجر الإجماع عن بعض العلماء فقال: "وقال غيره: أخذ الرزق على القضاء إذا كانت جهة الأخذ من الحلال جائز إجماعًا، ومن تركه إنّما تركه تورعًا" (¬2). 3 - قال القرافي: "القضاة يجوز أن يكون لهم أرزاق من بيت المال على القضاء إجماعًا" (¬3). 5 - أن أدلة القول الآخر جاءت كلها أدلة عقلية، وقد أمكن مناقشتها جميعًا بما يضعف من دلالتها، وعلى فرض التسليم بعد مناقشتها فإنها لا تنهض لمعارضة الأدلة النصية من السُّنَّة والأثر الّتي استدل بها أصحاب القول الأوّل. وعلى هذا فإنّه ينبغي للإمام أن يعطي القاضي كفايته وكفاية من يعول من بيت المال، ويوسع عليه في ذلك، ويكفيه همّ دنياه ممّا يجعله مرتاح البال خالي الذهن، ومن نظر في الصفات المطلوية في القاضي، وما يجب أن يكون عليه حال القضاء بين النَّاس أيقن بصحة هذا القول. والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) فتح الباري لابن حجر 13/ 161. (¬2) المصدر السابق. (¬3) الفروق للقرافي 3/ 3. قلتُ: وهذا الإطلاق في إجماع القرافي جاء مقيدًا في الذّخيرة 10/ 78 - 79 قال: "من تعين عليه القضاء وعنده كفايته وكفاية من تلزمه كفايته لم يجز أن يأخذ عليه رزقًا؛ لأنّه فرض تعين عليه، وإن لم تكن له كفاية جاز له الرزق من بيت المال".

الفرع الثاني أخذ الرزق على القضاء من الخصوم

الفرع الثّاني أخذ الرزق على القضاء من الخصوم إذا تعذر رزق القاضي من بيت المال، إمّا لخلوه من المال أو لقلتها أو لأيّ سبب آخر، فهل يجوز للقاضي في هذه الحالة أخذ الرزق على قضائه من الخصوم؟ أوَّلًا: إذا كان غنيًا: اتفق الفقهاء رحمهم الله تعالى على أن القاضي إذا كان له ما يكفيه وعياله فليس له أخذ شيء من الخصوم (المتداعبين) (¬1). واستدلوا لذلك بما يأتي: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ الأخذ من الخصوم مع عدم الحاجة يعد من أكل أموال النَّاس بالباطل فلا يجوز (¬2). الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ الأخذ من الخصوم يورث تهمة في حق القاضي، ويؤدِّي إلى الميل في الحكم فلا يجوز (¬3). الدّليل الثّالث: قالوا: إنَّ عدم أخذ القاضي الرزق من الخصوم، أبلغ في المهذَّبة وأدعى للنفوس ¬

_ (¬1) روضة القضاة للسمناني 1/ 132، مواهب الجليل للحطاب 6/ 120، الشرح الصغير للدردير 4/ 192، الحاوي الكبير للماوردي 20/ 365، أدب القضاء لابن أبي الدِّم ص: 101، فتح الباري لابن حجر 13/ 161، المغني لابن قدامة 9/ 14 - 10، شرح منتهى الإرادات للبهوتي 3/ 462. (¬2) الشرح الصغير للدردير 4/ 192. (¬3) روضة الطالبين للنووي 11/ 137، 138.

ثانيا: إذا كان القاضي فقيرا

إلى اعتقاد التعظيم والجلالة، وعليه فلا يجوز أخذ الرزق من الخصوم مع الكفاية (¬1). ثانيًا: إذا كان القاضي فقيرًا: إذا كان القاضي فقيرًا ليس له كفاية من ماله، فهل يجوز له في هذه الحالة الأخذ من أعيان الخصوم أم لا؟ اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأوّل: يجوز الأخذ من أعيان الخصوم إذا كان يقطعه النظر عن الاكتساب مع صدق الحاجة، وذلك بشروط ثمانية (¬2). وإلى هذا ذهب الإمام الماوردي من الشّافعيّة (¬3). القول الثّاني: لا يجوز مطلقًا أخذ الرزق على القضاء من أعيان الخصوم، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء من الحنفية (¬4)، والمالكية (¬5) والشّافعيّة (¬6) وهو وجه عند الحنابلة (¬7). القول الثّالث: يجوز مطلقًا أخذ الرزق من أعيان الخصوم. وبه قال بعض الشّافعيّة (¬8)، وهو المشهور من المذهب عند الحنابلة (¬9). ¬

_ (¬1) تبصرة الحكام لابن فرحون 1/ 29 - 30، 6/ 120. (¬2) ستأتي هذه الشروط مفصلة عند ذكر أدلة هذا القول. (¬3) الحاوي الكبير للماوردي 20/ 365 - 366. (¬4) روضة القضاة للسمناني 1/ 132. (¬5) الشرح الصغير للدردير 4/ 192. (¬6) روضة الطالبين للنووي 11/ 137 - 138، نهاية المحتاج للرملي 8/ 251. (¬7) المغني لابن قدامة 14/ 10، الفروع لابن مفلح 6/ 439، المبدع لابن مفلح 10/ 14. (¬8) أسنى المطالب للأنصاري 4/ 296. (¬9) المغني لابن قدامة 14/ 10، شرح منتهى الإرادات للبهوتي 3/ 462.

الأدلة والمناقشة

الأدلة والمناقشة أوَّلًا: أدلة القول الثّالث: الدّليل الأوّل: قالوا: إنّه إذا لم يأخذ من الخصمين مع حاجته، أدى ذلك إلى تعطيل القضاء والفصل بين النَّاس ولا سبيل إلى التعطيل لما يترتب على ذلك من المفاسد (¬1). الدّليل الثّاني: القياس على التحكيم، فكما يجوز أخذ الرزق من الخصمين على التحكيم فكذلك القضاء؛ لأنَّ كلا منهما عمل مباح (¬2). الدّليل الثّالث: القياس على الوصي وأمين الحاكم، فكما أنّه يجوز للوصي وأمين الحاكم الأكل من مال اليتيم بقدر الحاجة فكذلك القاضي؛ لأنّه مع عدم الرزق من بيت المال لا يتعين عليه الحكم فجاز أخذ الرزق من الخصوم بقدر الحاجة (¬3). ثانيًا: أدلة القول الثّاني: استدل أصحاب هذا القول بما يأتي: قالوا: إنَّ أخذ الرزق من أعيان الخصوم على القضاء بينهم يورث تهمة في حق القاضي ويؤدِّي إلى الميل في الحكم، فيمنع ذلك سدًا لذريعة أخذ الرشوة على الحكم، وما يترتب على ذلك من الميل والجور في الأحكام (¬4). ¬

_ (¬1) حاشية الرملي على أسنى المطالب 4/ 296. (¬2) بدائع الفوائد لابن القيم 3/ 146، إعلام الموقعين 4/ 231. (¬3) بدائع الفوائد لابن القيم 3/ 146، إعلام الموقعين 4/ 231. (¬4) روضة الطالبين للنووي 11/ 137 - 138، مغني المحتاج للشربيني 4/ 389.

ثالثا: أدلة القول الأول

ثالثًا: أدلة القول الأوّل: استدل الماوردي لما ذهب إليه بما يأتي: أن أخذ القاضي للرزق من الخصمين إنّما هو للضرورة والحاجة (¬1) لئلا يتعطل القضاء، وبالتالي تضيع الحقوق، وتكثر الخصومات. والقول بالجواز عند الماوردي للضرورة مقيد بثمانية شروط لا بد من توفرها، قال الماوردي: "وإن كان يقطعه النظر عن اكتساب المال مع صدق الحاجة جاز له الارتزاق منهم على ثمانية شروط" (¬2). ثمّ ساق رحمه الله تعالى الشروط الثمانية على النحو التالي: الشرط الأوّل: أن يعلم به الخصمان قبل التحاكم إليه، فإن لم يعلما به إِلَّا بعد الحكم لم يجز أن يرتزقهما. الشرط الثّاني: أن يكون رزقه على الطالب والمطلوب، ولا يأخذه من أحدهما، فيصير به متهما. الشرط الثّالث: أن يكون عن إذن الإمام لتوجه الحق عليه، فإن لم يأذن به الإمام لم يجز. الشرط الرّابع: أن لا يجد الإمام متطوعًا، فإن وجد الإمام متطوعًا لم يجز. الشرط الخامس: أن يعجز الإمام عن دفع رزقه، فإن قدر عليه لم يجز. ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير للماوردي 20/ 365. (¬2) الحاوي الكبير للماوردي 20/ 365.

الترجيح

الشرط السّادس: أن يكون ما يرتزقه من الخصوم غير مؤثر عليهم، ولا مضر بهم، فإن أضر بهم أو أثر عليهم لم يجز. الشرط السابع: أن لا يستزيد على قدر حاجته، فإن زاد عليها لم يجز. الشرط الثّامن: أن يكون قدر المأخوذ مشهورًا يتساوى فيه جميع الخصوم، وإن تفاضلوا في المطالبات؛ لأنّه يأخذه على زمان النظر فلم تعتبر مقادير الحقوق، فإن فاضل بينهم فيه لم يجز، إِلَّا أن يتفاضلوا في الزّمان فيجوز. ثمّ قال رحمه الله تعالى: "وفي مثل هذا مضرة تدخل على جميع المسلمين، ولئن جازت في الضرورات، فواجب على الإمام وكافة المسلمين أن تزال مع الإمكان، إمّا بأن يتطوع منهم بالقضاء من يكون من أهله، واما أن يقام لهذا بكفايته؛ لأنّه لا كانت ولاية القضاء من فروض الكفايات كان رزق القاضي بمثابة ولايته" (¬1). الترجيح: بعد ذكر الأقوال وعرض الأدلة لكل قول يتبين أن القول الراجح هو القول الأوّل القائل بجواز أخذ الرزق من الخصمين للضرورة بعد توفر الشروط الثمانية المذكورة. ولكن الّذي يظهر أنّه لا تعارض بين هذه الأقوال وذلك لما يأتي: ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير للماوردي 20/ 365.

1 - أنّه يمكن حمل قول من منع مطلقًا على غير المحتاج، قال زكريا الأنصاري (¬1) الشّافعيّ: "واستشكل عدم جواز ذلك بأن الرافعي رجح في الكلام على الرشوة جوازه وأسقطه النوويّ ثمّ، ويجاب: بأن ما هناك في المحتاج وما هنا في غيره" (¬2). 2 - وأمّا قول من جوز مطلقًا فإنهم قد عللوا ذلك بالحاجة والضرورة. وبهذا تأتلف الأقوال في القول بجواز أخذ الرزق من الخصوم للحاجة والضرورة. وأمّا ما ذكر من شروط، فإنّه يلاحظ أن هذه الشروط عبارة عن ضوابط شرعية تحكم عمل القاضي، وتضبط مسألة أخذ الرزق من غير بيت المال، وكل ذلك حتّى لا يدب الشرّة في نفس القاضي إلى أموال النَّاس، فينفتح بذلك باب الرشوة في الحكم، وهذا فيه من الفساد ما فيه، والفقهاء لا يخالفون في ذلك بل هم أحرص النَّاس على نزاهة القاضي وإعفافه وضبط سلوكه، بما يضمن عدم الميل في الحكم. وعليه فإن هذا القول يعد أعدل الأقوال وأولاها بالترجيح، لقوته وإحكامه وعدم مخالفة الأقوال الأخرى له في حقيقة الأمر. والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) هو: زكريا بن محمَّد بن أحمد بن زكريا، أبو يحيى الأنصاري، الفقيه الشّافعيّ الأصولي، ولد في قرية سنيكه بشرقية مصر سنة 833 هـ، ثمّ طلب العلم وبرع في شتى العلوم وبخاصة علمي الفقه والأصول، وله مصنفات كثيرة منها: فتح الرّحمن في التفسير، وغاية الوصول إلى علم الأصول، ولب الأصول، وأسنى المطالب شرح روضة الطالب وغيرها، توفي سنة 926 هـ بالقاهرة. انظر: البدر الطالع للشوكاني 1/ 252، شذرات الذهب لابن العماد 10/ 186. (¬2) أسنى المطالب لزكريا الأنصاري 4/ 296.

الفرع الثالث الاستئجار على القضاء

الفرع الثّالث الاستئجار على القضاء اختلف الفقهاء في حكم الاستئجارعلى القضاء على قولين: القول الأوّل: لا يجوز مطلقًا الاستئجار على القضاء. وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء، فبه قال الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، وهو المذهب عند الشّافعيّة (¬3)، وبه قال الحنابلة (¬4). وقد نقل بعض الفقهاء الاتفاق على هذا القول، ومن ذلك: قال ابن قدامة: "وأمّا الاستئجار على القضاء فلا يجوز ... ، ولا نعلم فيه خلافًا" (¬5). وقال ابن حجر: "واتفقوا على أنّه لا يجوز الاستئجار عليه" (¬6). وقال الإمام القرافي: "ولا يجوز أن يُستأجروا على القضاء إجماعًا" (¬7) وهذه الاتفاقات محل نظر لوجود الخلاف، كما هو ظاهر. ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي 16/ 102، حاشية ابن عابدين 5/ 250. (¬2) الذّخيرة للقرافي 10/ 79، الموافقات للشاطبي 2/ 136. (¬3) روضة الطالبين للنووي 5/ 188، 11/ 137، مغني المحتاج 4/ 389. (¬4) المغني لابن قدامة 9/ 14 - 10، شرح منتهى الإرادات 3/ 462. (¬5) المغني لابن قدامة 14/ 10. (¬6) فتح الباري لابن حجر 13/ 161. (¬7) الفروق للقرافي 3/ 3، قال في الذّخيرة 10/ 79: "واتفقت الأئمة والأمة فيما علمت على تحريم الإجارة".

الأدلة والمناقشة

القول الثّاني: يجوز الاستئجار على القضاء. وبه قال بعض الشّافعيّة وهو وجه في المذهب (¬1)، وذلك إذا عين ما يقضي به وعليه (¬2)، وبه قال الظاهرية، وخصوه بالإمام فقط دون غيره (¬3). قال الإمام النوويّ: "ولا يجوز عقد الإجارة على القضاء، وفي فتاوى القاضي حسين وجه أنّه يجوز، والمذهب الأوّل، وبه قطع الجمهور" (¬4). وقال ابن حزم: "وإجارة الأمير من يقضي بين النَّاس مشاهرة جائزة" (¬5). الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة القول الثّاني: استدل أصحاب هذا القول بما يأتي: الدّليل الأوّل: أن الاستئجار على القضاء داخل في عموم أمره - رضي الله عنه - بالمؤاجرة فيجوز (¬6). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الاستدلال بما يأتي: أن هذا العموم مخصوص بالأدلة الكثيرة على المنع من الاستئجار على القضاء، وستأتي. ¬

_ (¬1) روضة الطالبين للنووي 11/ 137، حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 6/ 157. (¬2) حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 6/ 157. (¬3) المحلى لابن حزم 8/ 196. (¬4) روضة الطالبين للنووي 11/ 137. (¬5) المحلى لابن حزم 8/ 196. (¬6) المحلى لابن حزم 8/ 196.

الدليل الثاني

الدّليل الثّاني: أن القاضي إذا عين ما يقضي به وعليه، انتفت الجهالة فيصح الاستئجار (¬1). مناقشة الاستدلال: أن تحريم الاستئجار على الاقضاء ليس لوجود الجهالة في عقد الإجارة فقط، وإنّما لأدلة أخرى كثيرة كما سياتى. ثانيًا: أدلة القول الأوّل: استدل أصحاب هذا القول بأدلة كثيرة وهي: الدّليل الأوّل: ما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنّه قال: لا ينبغي لقاضي المسلمين أن يأخذ أجرًا ولا صاحب مغنمهم (¬2). الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ القضاء قربة يختص فاعله أن يكون من أهل القربة فلا يجوز الاستئجار عليه كالصلاة (¬3). الدّليل الثّالث: قالوا: إنَّ القضاء لا يعمله الإنسان عن غيره، وإنّما يقع عن نفسه فأشبه الصّلاة فلا يجوز الاستئجار عليه (¬4). ¬

_ (¬1) حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 6/ 157. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنِّف، كتاب البيوع والأقضية، باب في القاضي يأخذ الرزق 6/ 505 (1845)، وعبد الرزّاق في مصنفه، كتاب البيوع، بانب هل يؤخذ على القضاء رزق 8/ 297 (15281). (¬3) المغني لابن قدامة 14/ 10. (¬4) المغني لابن قدامة 14/ 10.

الدليل الرابع

الدّليل الرّابع: قالوا: إنَّ القضاء عمل غير معلوم، يتعذر ضبطه، فلا يجوز الاستئجار عليه للجهالة (¬1). الدّليل الخامس: قالوا: إنَّ أخذ الأجرة على القضاء يؤدِّي إلى دخول التهمة في الحكم بمعاوضة صاحب العوض، فيكون كمن أخذ رشوة على الحكم، وعليه فيمتنع الاستئجار لذلك (¬2). الترجيح: بعد ذكر الأدلة وما ورد عليها من مناقشات يتبين رجحان القول الأوّل القاضي بالمنع من الاستئجار على القضاء، وذلك لما يأتي: 1 - قوة ما استدل به أصحاب هذا القول. 2 - ضعف ما استدل به أصحاب القول الآخر حيث أمكن متاقشة ما استدلوا به بما يوهن من دلالته. 3 - أنّه قد نقل الإجماع والاتفاق بين العلماء على المنع من الاستئجار على القضاء، كما سبق ذكر ذلك. ¬

_ (¬1) الذّخيرة للقرافي 10/ 79، المغني لابن قدامة 14/ 10. (¬2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 4/ 10، الفروق للقرافي 3/ 3.

الفرع الرابع الهدية للقاضي

الفرع الرّابع الهدية للقاضي للهدية أثر بالغ على الإنسان حيث تسكن إليها النفوس، وتستمال بها القلوب وقد شرعت في الأصل بين المسلمين، لإشاعة المحبة والرّحمة وإزالة الضغائن من الصدور (¬1). ولما كانت الهدية لها تأثير على النفوس والقلوب فقد بيَّن الفقهاء حكمها وبخاصة لأصحاب الولايات الشرعية. ومن أخطر هذه الولايات، ولاية القضاء، وقد تناول الفقهاء حكم الهدية للقاضي، وتفصيل ذلك عندهم على النحو التالي: أوَّلًا: إذا كانت الهدية من الخصمين أو أحدهما: اتفق الفقهاء رحمهم الله تعالى على أنّه يحرم على القاضي قبول الهدية من الخصمين أو أحدهما مطلقًا، على أي وجه كانت هذه الهدية (¬2). ¬

_ (¬1) وردت بعض النصوص تدل على استحباب الهدية وتبين ما لها من تأثير في النفوس والقلوب ومن ذلك: أ - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (تهادوا تحابوا) أخرجه البخاريّ في الأدب المفرد 2/ 50، والبيهقيُّ في السنن الكبرى 6/ 280 (11946)، والحديث حسن، فقد حسنه ابن حجر كما في تلخيص الحبير 3/ 70، والألباني كما في الإرواء 6/ 44 (1601). ب - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - (تهادوا، فإن الهدية تذهب وَحَر الصدر) أخرجه التّرمذيّ. كتاب الولاء، باب في حث النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - على التهادي 4/ 383 (2130). ضعفه التّرمذيّ والألباني، ضعيف التّرمذيّ ص: 243. (¬2) البحر الرائق لابن نجيم 6/ 305، حاشية ابن عابدين 4/ 310، تبصرة الحكام لابن فرحون 1/ 29 - 30، مواهب الجليل للحطاب 6/ 120، أدب القضاء لابن أبي الدِّم ص: 114 أدب القاضي لابن القاص 1/ 107، المغنى لابن قدامة 14/ 58 - 59، الإنصاف للمرداوي 11/ 210، بدائع الفوائد لابن القيم 3/ 146.

الدليل الأول

وقد استدلوا على ذلك بما يأتي: الدّليل الأوّل: عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - رجلًا من بني أسدّ يقال له ابن اللتبيَّة على الصَّدقة، فلما قدم، قال: هذا لكم وهذا أهدي لي، قال: فقام رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - على المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وقال: (ما بال العامل نبعثه فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمّه حتّى ينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمَّد بيده، لا ينال أحدٌ منكم منها شيئًا إِلَّا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر) (¬1). وجه الاستدلال: حيث دلّ الحديث على تحريم الهدية الّتي سببها الولاية، ومن ذلك ولاية القضاء، ويلحق بالهدية الاستقراض والاستعارة ممّن يحرم عليه قبول هديته وكذا سائر التبرعات فتحرم المحاباة ونحوها (¬2). الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ حدوث الهدية عند حدوث الولاية، يدلُّ على أنّها من أجلها ليتوسل بها إلى ميل الحاكم معه في الحق، فلم يجز قبولها منه كالرشوة (¬3). الدّليل الثّالث: قالوا: إنَّ أخذ الهدية يسبب الولاية، من أكل أموال النَّاس بالباطل فلا تجوز مطلقًا (¬4). ¬

_ (¬1) الحديث متفق عليه، وتقدم تخريجه مفصلًا ص 296، مبحث الزَّكاة في الهدية للعاملين عليها. (¬2) حاشية ابن عابدين 4/ 310، شرح النوويّ على مسلم 12/ 219. (¬3) المغني لابن قدامة 14/ 58 - 59. (¬4) الشرح الصغير للدردير 4/ 192.

الدليل الرابع

الدّليل الرّابع: قالوا: إنَّ الهدية تورث إذلال المهدي إليه، وفي ذلك ضرر القاضي ودخول الفساد عليه (¬1). الدّليل الخامس: قالوا: إنَّ الهدية تؤدي إلى سكون النفس للمهدي فيميل القاضي في حكمه وهذا لا يجوز (¬2). الدّليل السّادس: قالوا: إنَّ الهدية للقاضي تطفئ نور الحكمة عنده (¬3)، وعليه فإن القاضي إذا فقد نور الحكمة حرم التوفيق والسداد في أحكامه. ثانيًا: إذا كانت الهدية ممّن ليست له خصومة: إذا كانت الهدية للقاضي ممّن ليست له خصومه عند القاضي فلها حالتان: الحالة الأولى: أن تكون من خواص قرابته أو صحبته أو ممّن جرت له عادة بمهاداته قبل الولاية. إذا كانت الهدية للقاضي من خواص قرابته كالوالد والولد والعمة والخالة ونحوهم من كلّ ذي رحم محرم، أو من خواص صحبته المقربين له أو ممّن جرت له عادة بمهاداته قبل الولاية، ففي هذه الحالة لا خلاف بين الفقهاء في جواز قبول القاضي للهدية (¬4). ¬

_ (¬1) تبصرة الحكام لابن فرحون 1/ 29 - 30. (¬2) شرح الزرقاني على خليل 7/ 133. (¬3) تبصرة الحكام لابن فرحون 1/ 29 - 30، شرح الزرقاني على خليل 7/ 133. (¬4) تببين الحقائق للزيلعي 4/ 178، حاشية ابن عابدين 4/ 310، تبصرة الحكام لابن فرحون 1/ 29 - 30، الشرح الصغير للدردير 4/ 192، أدب القضاء لابن أبي الدِّم ص: 114 المغني لابن قدامة 14/ 58 - 59، الإنصاف للمرداوي 11/ 210.

واستدلوا لذلك بما يأتي: قالوا: إنَّ الهدية في هذه الحالة لم تكن من أجل الولاية لوجود سببها قبل الولاية من قرابة أو صحبة أو صلة، بدليل وجود هذه الهدايا قبل الولاية، وعليه فلا حرج على القاضي في قبولها (¬1). الحالة الثّانية: إذا كانت الهدية ممّن ليس من خواص قرابته أو صحبته أو ممّن ليست له عادة بمهاداته قبل الولاية. وفي هذه الحالة لا يجوز للقاضي قبول الهدية باتِّفاق الفقهاء (¬2). وعلل الفقهاء ذلك بما يأتي: أن الهدية يقصد بها في الغالب استمالة قلبه، ليعتني به في الحكم فتشبه الرشوة (¬3). والأولى للقاضي في كلّ ما سبق سد باب قبول الهدايا؛ لأنّها تورث إذلال المهدي، وإغضاء المهدي إليه، وتوقع التهمة، وتؤدي إلى أن يطمع فيه النَّاس (¬4). ويستثنى من ذلك: الهدية من ذوي الرّحم المحرم، ممّن ليست له خصومة، فالأولى قبولها لصلة الرّحم، ولأن في ردها قطيعة للرحم وهذا لا يجوز (¬5). والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة 14/ 58. (¬2) المراجع السابقة. (¬3) المغني لابن قدامة 14/ 58. (¬4) أدب القضاء لابن أبي الدِّم ص: 114، أدب القاضي لابن القاص 1/ 110. (¬5) تببين الحقائق للزيلعي 4/ 178.

المسألة الثانية: ما يأخذه أعوان القاضي

المسألة الثّانية: ما يأخذه أعوان القاضي القاضي لا يمكنه العمل بمفرده، بل لا بد له من أعوان يعينونه على الفصل بين النَّاس، خاصّة في هذا الزّمان الّذي كثرت فيه الخصومات ويتمثل أعوان القاضي في كتّاب العدل، وكتات الضبط وكتّاب سجل الأحكام، والكتاب من أهم أعوان القاضي ولهذا نصّ العلماء على أنّه يستحب للقاضي أن يتخذ كاتبًا أو كتّابا؛ لأنّهم من هيبة المنصب من عون وإسعاف، وضبط الأقارير والدعاوي وتنظيم محاضر الجلسات وتحديد مواعيد الجلسات وغير ذلك من الأعمال المهمة الّتي تناط بكتاب القاضي. ومن الأعوان كذلك: الشُّرَط ومهمتهم الوقوف بين يدي القاضي أو القيام حسب استدعاء الحال لمنع النَّاس من التقدم بين يديه أو إساءة الأدب. كذلك من أعوان القاضي المترجم الّذي يقوم بترجمة اللغات المختلفة إلى العربيّة أو العكس حسب اقتضاء المقام. وغير ذلك نحو: كتاب الصادر والوارد، وكتاب الأرشيف، ومُحَضِّر خصوم، وهيئة خبراء (نظر) وحاسب ومسّاح ونسّاخ على الآلات الحديثة وغيرهم ممّا يحتاج إليهم القاضي في تأدية عمله على الوجه الأكمل (¬1). وأمّا ما يتعلّق بالحقوق المالية لأعوان القاضي وما يستحقونه على عملهم فالقول فيها على النحو التالي: ¬

_ (¬1) روضة القضاة للسمناني 1/ 113 - 132، شرح أدب القاضي للصدر الشهيد 1/ 244، تبصرة الحكام لابن فرحون 1/ 35 - 37، حاشية الدسوقي 4/ 138، الشرح الصغير للدسوقي 4/ 202، روضة الطالبين للنووي 11/ 168، أدب القضاء لابن أبي الدِّم ص: 108 - 112، مغني المحتاج للشربيني 4/ 338، المغني لابن قدامة 14/ 122، شرح منتهى الإرادات للبهوتي 3/ 472، النور الوضاء في بيان أحكام القضاء ص: 136، 333.

أولا: الرزق من بيت المال

أوَّلًا: الرزق من بيت المال: اتفق الفقهاء رحمهم الله تعالى على أن أعوان القاضي يجوز لهم أخذ الرزق من بيت المال كالقاضي (¬1). واستدل الفقهاء لذلك بما يأتي: الدّليل الأوّل: القياس على القاضي، فكما يجوز للقاضي أخذ الرزق من بيت المال فكذلك أعوانه، بجامع أن الكل يعمل في مصلحة المسلمين، فتكون كفايتهم في أموال بيت مال المسلمين (¬2). الدّليل الثّاني: أن أعوان القاضي محبوسون بحق العامة، فهم عاجزون عن الكسب، فلو لم يأخذوا الرزق من بيت المال، احتاجوا أن يأخذوا من أموال الخصوم فيأخذوا الرشوة وذلك حرام (¬3). الدّليل الثّالث: قالوا: يجوز لأعوان القاضي أخذ الرزق من بيت المال، وذلك لئلا تشره أنفسهم إلى أموال النَّاس وهذا لا يجوز (¬4). ¬

_ (¬1) روضة القضاة للسمناني 1/ 132، المبسوط للسرخسي 16/ 94، تبصرة الحكام لابن فرحون 1/ 37، البيان والتحصيل لابن رشد 9/ 333، الذّخيرة للقرافي 10/ 77 - 78 الحاوي الكبير للماوردي 20/ 364، روضة الطالبين للنووي 11/ 137 - 138، أدب القاضى للبغوي ص: 151 - 156، أدب القاضي لابن القاص 1/ 113، شرح منتهى الإرادات للبهوتي 3/ 462. (¬2) روضة القضاة للسمناني 1/ 132، كشاف القناع للبهوتي 6/ 290. (¬3) شرح أدب القاضى للصدر الشهيد 2/ 11. (¬4) شرح أدب القاضي للصدر الشهيد 2/ 22.

الدليل الرابع

الدّليل الرّابع: أن عمل أعوان القاضي من المنافع الّتي تعم المسلمين، فجاز أخذ الرزق عليه من مالهم (¬1). الدّليل الخامس: قالوا: إنَّ أعوان القاضي، عملهم متصل بعمل القاضي فهو محتاج إليهم في كتب المحاضر وإحضار الخصوم، وكفاية القاضي في بيت المال، فما يتصل به لا بأس بأن يجعل رزقه في مال بيت المال (¬2). ثانيًا: أجرة أعوان القاضي: إذا تعذر رزق أعوان القاضي من بيت المال لأي سبب كان، فهل يجوز لهم أخذ الأجرة من الخصوم؟ الّذي يظهر أنّه لا خلاف بين المذاهب الفقهية في جواز أخذ الأجرة من الخصوم. قال السرخسي: "وإن رأي أن يجعل ذلك على الخصوم فلا بأس" (¬3). وقال ابن فرحون: "فإن لم يصرف لهم شيء من بيت المال ... فأحسن الوجوه أن يكون الطالب هو المستأجر" (¬4). وقال النوويّ: "فإن لم يكن في بيت المال شيء واحتيج إليه لما هو أهم فإذ أتي المدعي بورقة تثبت فيها خصومته وشهادة الشهود وبأجرة الكاتب فذاك ... " (¬5). ولم أجد نصًا عند الحنابلة في ذلك إِلَّا أنّه قد تقدّم أن المذهب هو جواز أخذ ¬

_ (¬1) البيان والتحصيل لابن رشد 9/ 333، روضة الطالبين للنووي 11/ 137. (¬2) المبسوط للسرخسي 16/ 94. (¬3) المبسوط للسرخسي 16/ 94. (¬4) تبصرة الحكام لابن فرحون 1/ 37. (¬5) روضة الطالبين للنووي 11/ 137 - 138.

الدليل الأول

القاضي للجعل من الخصمين إذا تعذر رزقه من بيت المال (¬1)، وعليه فإن جواز أخذ أعوانه أولى. وأمّا الظاهرية فإنهم نصوا على استئجار الأمير للقاضي مشاهرة من بيت المال، وأن ما لا يتعين على المرء فعله يجوز أخذ الأجرة عليه، وعليه فإن مذهبهم لا يأبى الجواز وإن لم ينصوا عليه (¬2). وقد استدل الفقهاء على ذلك بما يأتي: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ هذه الأعمال الّتي يقوم بها الأعوان لا يُستحق على القاضي مباشرتها، فجاز جعل أجرة ذلك على الخصوم؛ لأنَّ الأعوان يعملون لهم (¬3). الدّليل الثّاني: يمكن أن يستدل لهم كذلك: بأن هذه الأعمال تختلف عن عمل القاضي، فإن القاضي منع من الأخذ من الخصوم حتّى لا يتطرق الميل إلى الحكم فيقع القاضي في الرشوة، وهذا فيه من الفساد ما فيه، أمّا عمل أعوان القاضي فلا حكم فيه فلا يخشى من الأخذ حصول الميل والفساد في الأحكام. والله تعالى أعلم. المسألة الثّالثة: ما يأخذه المأذون الشرعي على عقود الأنكحة مأذون عقود الأنكحة، أو المأذون الشرعي، يعد في الأصل من أعوان القاضي، إذ إنَّ عقد النِّكاح يعد من مهام القاضي ولكن لما كان القاضي مشغولًا بالنظر في قضايا المراجعين المتعددة شغلًا شديدًا ملك عليه كلّ وقته، وقد لا يوجد لديه متسع ¬

_ (¬1) شرح منتهى الإرادات للبهوتي 3/ 462. (¬2) انظر: المحلى لابن حزم 8/ 191، 196. (¬3) المبسوط للسرخسي 16/ 94.

الحالة الأولى: إذا كان المباشر للعقد هو القاضي

لإجراء عقود النِّكاح، فقد أذن لبعض الأشخاص من ذوي الأهلية والعدالة (¬1)، في إجراء عقود الأنكحة، وكتابة الصكوك الخاصة بها، وتسجيل ذلك في دفاتر خاصّة معدة من قبل المحكمة، ثمّ تسليم ذلك إلى المحكمة لتوثيق تلك العقود وتسجيلها في سجلاتها. إذن فوجود مأذون الأنكحة أمر تمليه المصلحة العامة، حتّى يتمكن القاضي من التفرغ للنظر فيما هو أهم من مجرد إجراء العقود وهو الفصل في المنازعات والخصومات ونحو ذلك (¬2). ووظيفة مأذون الأنكحة وظيفة شريفة، إذ تتعلّق بعقد هو من أهم وأشرف العقود في الفقه الإسلامي، ألَّا وهو عقد النِّكاح، ولهذا فإنّه لا يباشره إِلَّا القاضي أو من ينوب منابه. وبناء على ما سبق فإن بيان حكم أخذ المال على عقود الأنكحة يختلف باختلاف من هو قائم بإجراء هذه العقود وصفته، وهذا له حالات: الحالة الأولى: إذا كان المباشر للعقد هو القاضي: إذا كان الّذي قام بمباشرة العقد هو القاضي فإن هذا يكون من عمله ووظيفته، وقد تقدّم تفصيل القول فيما يأخذه القاضي على عمله من رزق وإجارة ونحوهما. الحالة الثّانية: إذا كان المباشر للعقد هو مأذون الأنكحة: وهذا هو محلّ البحث في هذه المسألة، ومأذون الأنكحة له حالان: ¬

_ (¬1) يشترط في المأذون: الإسلام والبلوغ والعقل والعدالة والأهلية، وأن يكون له إلمام بالفقه بصفة عامة، وبأحكام النِّكاح بصفة خاصّة: النور الوضاء للمعافا، ص: 151. (¬2) النور الوضاء في بيان أحكام القضاء، للقاضي أحمد المعافا ص: 151.

الأول: أن يكون موظفا راتبا لهذا العمل

الأوّل: أن يكون موظفًا راتبًا لهذا العمل: بمعنى أن وظيفته في المحكمة هي القيام بإجراء عقود الأنكحة وما يتعلّق بها، وفي هذه الحالة يكون أحد أعوان القاضي وقد تقدّم الكلام حول ما يستحقونه مفصلًا فأغنى عن الإعادة. الثّاني: أن يكون غير موظف ولكن مأذون له في إجراء العقود: إذا لم يكن المأذون موظفًا لهذا العمل، ولكن أذن له القاضي أو المحكمة، بإجراء عقود الأنكحة وفق ضوابط معينة، فلا يخلو: إمّا أن يكون متبرعًا بعمله هذا، أو يكون غير متبرع ولكن أذن له القاضي بأخذ الأجرة على عمله من العاقد. أوَّلًا: إذا كان المأذون متبرعًا: فإنّه في هذه الحالة لا يجوز له أخذ أجرة على عمله؛ لأنّه أداه متبرعًا فلا يستحق شيئًا. ثانيًا: إذا كان المأذون غير متبرع ولكن أذن له القاضي بالأخذ (¬1): إذا كان المأذون غير متبرع، وأذن له القاضي بالأخذ من العاقد فلا بأس بذلك، وقد تقدّم أنّه يجوز أخذ الأجرة لأعوان القاضي، وهذا في حكمهم، وما يأخذه المأذون إمّا أن يكون مقدارًا من جهة القاضي أو غير مقدر. فإن كان مقدرًا فلا يتعداه المأذون، بل يأخذ ما قدر له دون زيادة. وإن كان غير مقدر من قبل القاضي، فإن مقدار ذلك يرجع إلى عرف النَّاس في تعاملاتهم. ووجه جواز أخذ الأجرة على عقود الأنكحة ما يلي: ¬

_ (¬1) في بعض البلاد الإسلامية تعد وظيفة مأذون الأنكحة وظيفة رسمية ويحدد له أجر من قبل المحكمة، وهذا الأجر مشاع بنسبة محددة من المهر، مثل: خمسة أو عشرة في المائة ونحو ذلك.

الدليل الأول

الدّليل الأوّل: أن هذا العمل غير واجب عليه، وما لا يجب عليه يحل أخذ الأجرة عليه (¬1). الدّليل الثّاني: القياس على القاضي: فإن القاضي إذا كتب سجلًا أو محضرًا أو وثيقة جاز له أخذ الأجرة على ذلك، فكذلك المأذون يجوز له أخذ الأجرة على كتابة صك الزواج (¬2). الدّليل الثّالث: القياس على الصكاك -كاتب الصكوك- فإن الصكاك يجوز له أخذ أجر كتابة الصك ممّن يأخذ الصك فكذلك المأذون يجوز له أخذ الأجرة على كتابة صك الزواج من الزواج (¬3). قال ابن عابدين: "وعلى هذا أجر الصكاك على من يأخذ الصك في عرفنا" (¬4). الدّليل الرّابع: القياس على القاضي، فإن القاضي يجوز له أخذ الأجرة على إجراء عقد النِّكاح فكذلك المأذون بجامع أن هذا العمل لا يجب عليهما (¬5). ¬

_ (¬1) الفتاوى البزازية 5/ 140، البحر الرائق لابن نجيم 5/ 263. (¬2) الدر المختار للحصفكي 5/ 56. (¬3) حاشية ابن عابدين 5/ 56، روضة الطالبين للنووي11/ 137 - 138. (¬4) حاشية ابن عابدين 5/ 56. (¬5) الفتاوى البزازية 5/ 140.

الدليل الخامس

قال ابن البزاز (¬1): "وإن كتب سجلًا أو تولى قسمة، وأخذ أجر المثل له ذلك، ولو تولى نكاح صغيرة، لا يحل له أخذ شيء؛ لأنّه واجب عليه، وكل ما وجب عليه لا يجوز أخذ الأجر وما لا يجب عليه يحل أخذ الأجر، وذكر عن البقالي في القاضي يقول: إذا عقدت عقد البكر فلي دينار، ولو ثيبًا فلي نصفه، أنّه لا يحل له، إنَّ لم يكن لها ولي، ولو كان لها ولي غيره يحل بناءً على ما ذكرنا" (¬2). الدّليل الخامس: يمكن أن يستدل على جواز أخذ الأجرة على عقود الأنكحة كذلك بما يأتي: أن المأذون إنّما يأخذ الأجرة في مقابل ما يبذله من جهد في ذلك من الذهاب والمجيء إلى مكان العقد أو استقبال العاقدين في منزله، وما يتكلفه في سبيل ذلك، كذلك كتابته للصكوك، وتدوين ذلك في الدفاتر، ومراجعة المحاكم، وكذلك المخاطرة وتحمل المسؤولية إذ الأمر متعلّق بالأعراض، فكل ذلك ممّا يسوغ للمأذون أخذ الأجرة على عمله. أمّا إنَّ أعطي من غير شرط فهذا من الحلال الطيب ولا حرج على المأذون في قبوله لحديث عبد الله بن السعدي المتقدم حيث جاء فيه قوله - صلّى الله عليه وسلم -: (ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه ...) (¬3). ¬

_ (¬1) هو: محمَّد بن محمَّد بن شهاب بن يوسف الكردري الخوارزمي الشهير بالبزازي أحد أئمة الحنفية في الفقه والأصول، صاحب الفتاوى البزازية المعروفة بالوجيز أو الجامع الوجيز، وله كتاب في مناقب الإمام أبي حنيفة، توفي سنة 827 هـ انظر: الفوائد البهية في تراجم الحنفية للكنوي ص: 187 - 188، الأعلام للزركلي 7/ 45. (¬2) الفتاوى البزازية 5/ 140. (¬3) تقدّم تخريجه عند الكلام عن رزق القاضي إنَّ كان غنيا ص 704.

المسألة الرابعة: ما يأخذه القسام

المسألة الرّابعة: ما يأخذه القسّام (¬1) القسّام أو القاسم من يتولى القسمة بين الشركاء فيقوم بتمييز نصيب كلّ واحد منهم، وتعبينه. والقسمة من جنس عمل القاضي؛ لأنَّ بها يتم إنهاء الخصومات وقطع المنازعات، وتعبين الحقوق لأربابها، ولهذا شرعت بالإجماع، قال ابن قدامة: "وأجمعت الأُمَّة على جواز القسمة" (¬2)، ولا خلاف بين الفقهاء في أنّها من المصالح العامة للمسلمين (¬3). وأمّا ما يتعلّق بما يستحقه الماسم على عمله من رزق أو أجرة، فلا يخلو أن يكون القسام أو القاسم هو قسّام القاضي أو غيره ممّن ارتضاه الشركاء ليقسم بينهم، وتفصيل ما يستحقه كلّ منهما في الفروع التالية: ¬

_ (¬1) القسّام في اللُّغة: الّذي يقسم الدور والأرض بين الشركاء فيها، وقيل: هو الّذي يقسم الأشياء بين النَّاس، وهو فاعل من القسمة يقال: قاسم، وقسّام على سبيل المبالغة، قال لبيد: فارضوا بما قسم المليك فإنّما ... قسم المعيشة بيننا قَسَّامُها المصباح المنير للفيومي 2/ 503، لسان العرب لابن منظور 12/ 479 - 480. وفي الاصطلاح: القسّام أو القاسم هو الّذي يباشر القسمة، والقسمة في الاصطلاح: "هي تمييز بعض الأنصباء عن بعض وإفرازها عنها". وقيل هي: "جمع نصيب شائع في معين"، وقيل: "هي تمييز الحصص بعضها من بعض". وقيل هي: "تعيين نصيب كلّ شريك في مشاع". تببين الحقائق للزيلعي 5/ 264، الشرح الصغبر للدردير 3/ 659، حاشية الشرقاوي على التحرير 2/ 497، معونه أولي النهى لابن النجار 9/ 219. (¬2) المغني لابن قدامة 14/ 97. (¬3) الهداية شرح البداية للمرغيناني 8/ 5، البيان والتحصيل لابن رشد 12/ 109 - 110، مغني المحتاج للشربيني 4/ 419، المغني لابن قدامة 14/ 114 - 115.

الفرع الأول ما يستحقه قسام القاضي

الفرع الأوّل ما يستحقه قسّام القاضي قسّام القاضي أحد أعوانه وعمله من جنس عمل القاضي وعلى هذا فإن ما يأخذه على عمله لا يخلو أن يكون رزقًا من بيت المال أو أجرة من الشركاء إذا تعذر الرزق من بيت المال وبيان ذلك على النحو التالي: أوَّلًا: الرزق من بيت المال: لا خلاف بين الفقهاء على جواز أخذ القسام الرزق من بيت المال على عمله (¬1). قال السرخسي: "الأولى أن يجعل كفاية قاسم القاضي في بيت المال ككفاية القاضي" (¬2). وقال سحنون: "قلت: أفرأيت إنَّ جعل للقسام أرزاقًا من بيت المال، قال: لا بأس بذلك" (¬3). قال الإمام الشّافعيّ: "ينبغي أن يعطى أجر القسام من بيت المال" (¬4). وقال ابن قدامة: "وعلى الإمام أن يرزق القاسم من بيت المال" (¬5). وقد استدل الفقهاء على ذلك بما يأتي: ¬

_ (¬1) شرح أدب القاضي للصدر الشهيد 4/ 103 - 104، الهداية شرح البداية للمرغيناني 8/ 2 البيان والتحصيل لابن رشد 12/ 109 - 110، الذّخيرة للقرافي 5/ 403، منح الجليل لعلّيش 7/ 256، الحاوي للماوردي 4/ 174 - 175، روضة الطالبين للنووي 11/ 202، المغني لابن قدامة 14/ 114 - 115. (¬2) المبسوط للسرخسي 16/ 102. (¬3) المدوّنة للإمام مالك 5/ 518. (¬4) الأم للشافعي 6/ 212. (¬5) المغني لابن قدامة 14/ 114.

الدليل الأول

الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ القسمة من جنس عمل القضاء من حيث إنّه يتم به قطع المنازعة فأشبه رزق القاضي (¬1). الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ منفعة نصب القاسم تعم العامة؛ لأنَّ القسمة من المصالحع العامة، فتكون كفايته في مالهم غرمًا بالغنم (¬2). الدّليل الثّالث: قالوا: إنَّ القاسم بمنزلة كاتب القاضي، ورزق الكاتب في بيت المال فكذلك القاسم بجامع أن كلًا منهما من أعوان القاضي (¬3). الدّليل الرّابع: قالوا: إنَّ جعل رزق القاسم في بيت المال، أرفق بالناس وأبعد عن التهمة؛ لأنّه متى علم أن أجر عمله يصله من بيت المال على كلّ حال، امتنع من أخذ الرشوة فلا يميل إلى البعض فكان هذا أرفق بالناس وأبعد عن التهمة (¬4). الدّليل الخامس: قالوا: إنَّ القسّام حكام ورزق الحاكم (القاضي) في بيت المال، فكذلك القاسم (¬5). ¬

_ (¬1) الهداية للمرغيناني 8/ 5. (¬2) الهداية للمرغيناني 8/ 5، مغني المحتاج للشربيني 4/ 419، المغني لابن قدامة 14/ 114. (¬3) شرح أدب القاضي للصدر الشهيد 4/ 104. (¬4) الهداية للمرغيناني 8/ 5، شرح أدب القاضي للصدر الشهيد 4/ 103 - 104. (¬5) الأم للشافعي 6/ 212.

الدليل السادس

الدّليل السّادس: ما روي أن عليًا - رضي الله عنه -اتخذ قاسمًا، وجعل له رزقًا من بيت المال (¬1). ثانيًا: أجرة قسّام القاضي: إذا تعذر رزق قسّام القاضي من بيت المال لخلوه أو نحو ذلك، فهل يجوز أخذ الأجرة من الشركاء على القسمة؟ بالنظر في كلام الفقهاء أرباب المذاهب المعتبرة، يظهر أنّه لا خلاف بينهم في ذلك، فقد نصّ عليه الحنفية (¬2)، والمالكية إِلَّا أن المالكية قالوا بالجواز مع الكراهة (¬3)، وقال بالجواز كذلك الشّافعيّة (¬4)، والحنابلة (¬5). قال السرخسي: "فإن لم يقدر على ذلك -أي: على رزق القاسم من بيت المال -أمر الذين يريدون القسمة أن يستأجروه بأجرٍ معلوم، وذلك صحيح" (¬6). وقال سحنون: "قلت: أتجوز إجارة قسام الدور وحسابهم؟ قال: سألت مالكًا عن ذلك غير مرّة فكرهه" (¬7). ¬

_ (¬1) هذا الأثر ذكره جمع من الفقهاء منهم: السرخسي في المبسوط 16/ 102، والماوردي في الحاوي 20/ 313، وابن قدامة في المغني 14/ 114. ولم أجده فيما وقفت عليه من كتب السُّنَّة والآثار. (¬2) المبسوط للسرخسي 16/ 102 - 103، الهداية شرح البداية 8/ 5، الدر المختار للحصفكي 5/ 162. (¬3) المدوّنة للإمام مالك 1/ 62، 4/ 423، 5/ 518 - 519، الذّخيرة للقرافي 5/ 403 البيان والتحصيل لابن رشد 12/ 109 - 110. (¬4) الحاوي للماوردي 20/ 314، روضة الطالبين للنووي 11/ 202، مغني المحتاج 4/ 419. (¬5) المغني لابن قدامة 14/ 114 - 115، الفروع لابن مفلح 6/ 512، وقد نقل ابن مفلح الكراهة عن أحمد قال: "نقل صالح: أكرهه"، شرح منتهى الإرادات للبهوتي 6/ 378. (¬6) المبسوط للسرخسي 16/ 102 - 103. (¬7) المدوّنة للإمام مالك 4/ 423.

وقد استدل الفقهاء على جواز أخذ قسام القاضي للأجرة من الشركاء بما يأتي

وقال عليش: "وكره للقاسم أخذ أجرة القسم من المقسوم بينهم" (¬1). قال الماوردي: "إذا اعوزت أجور القسام من بيت المال، إمّا لعدمه فيه وإما لحاجة المقاتلة إليه كانت أجورهم على المتقاسمين" (¬2). وقال ابن قدامة: "فإن لم يرزقه الإمام قال الحاكم للمتقاسمين: ادفعا إلى القاسم أجرة ليقسم بينكما ... " (¬3). وقد استدل الفقهاء على جواز أخذ قسّام القاضي للأجرة من الشركاء بما يأتي: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ القسمة ليست بقضاء حقيقة، فجاز له أخذ الأجرة عليها (¬4). الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ القاسم يعمل للشركاء عملًا معلومًا، غير مستحق عليه فجاز أخذ الأجرة عليه كالكتابة (¬5). الدّليل الثّالث: قالوا: إنَّ نفع القسمة عائد إلى الشركاء على الخصوص، فكانت أجرة القسمة عليهم (¬6). ¬

_ (¬1) منح الجليل لعلّيش 7/ 256. (¬2) الحاوي الكبير 20/ 314 - 315. (¬3) المغني لابن قدامة 14/ 114 - 115. (¬4) الدر المختار للحصفكي 5/ 162، حاشية ابن عابدين 5/ 162. (¬5) المبسوط للسرخسي 16/ 102 - 103، شرح أدب القاضي للصدر الشهيد 4/ 103 - 104. (¬6) شرح أدب القاضي للصدر الشهيد 4/ 106، الهداية شرح البداية للمرغيناني 8/ 5، مغني المحتاج للشربيني 4/ 419.

الدليل الرابع

الدّليل الرّابع: قالوا: إنَّ القسمة ليست بقربة وطاعة، فجاز أخذ الأجرة عليها كسائر الأعمال (¬1). الدّليل الخامس: قالوا: إنَّ القسمة من حقوق الآدمين المحضة، فجاز للقاسم الاعتياض عنها (¬2). وأمّا الدّليل على الكراهة عند من قال بذلك ما يأتي: الدّليل الأوّل: ما ذكره مالك رحمه الله تعالى: كان خارجة بن زيد بن ثابت ومجاهد يقسمان مع القضاة ويحسبان ولا يأخذان لذلك جعلا (¬3). الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ القاضي هو الحاكم بذلك على اليتيم باجتهاده فلعلّه لو كان مالكًا لأمره واحتاج إلى القسمة لوجد من يستأجره على ذلك بأقل ممّا جعله القاضي عليه (¬4). الدّليل الثّالث: قالوا: إنَّ القسمة تشبه القربة فتكره أخذ الأجرة عليها (¬5). ¬

_ (¬1) شرح أدب القاضي للصدر الشهيد 4/ 106، كشاف القناع للبهوتي 6/ 378. (¬2) الحاوي للماوردي 20/ 315، نهاية المحتاج للرملي 8/ 284. (¬3) المدوّنة للإمام مالك 4/ 423. (¬4) البيان والتحصيل لابن رشد 12/ 109 - 110. (¬5) الفروع لابن مفلح 6/ 512.

الفرع الثاني أجرة قسام الشركاء

الفرع الثّاني أجرة قسّام الشركاء إذا كان الّذي يقوم بالقسمة بين الشركاء ليس قسّام القاضي، إنّما هو قسّام آخر غيره ارتضاه الشركاء واصطلحوا عليه، فإن أجرته في هذه الحالة واجبة على الشركاء. ويجوز للقاسم في هذه الحالة أخذ الأجرة على عمله من الشركاء، وهذا لا خلاف فيه بين الفقهاء (¬1). قال الكاساني: "ولو أراد النَّاس أن يستأجروا قسامًا آخر غير الّذي نصبه القاضي، لا يمنعهم القاضي عن ذلك، ولا يجبرهم على أن يستأجروا قسامًا" (¬2). وقال الخرشي (¬3): "وأمّا الشركاء أو الورثة إذا تراضوا على من يقسم لهم بأجر معلوم فذلك جائز بلا خلاف" (¬4). قال الماوردي: "فإن عدل المقتسمون عنهم إلى قسمة من تراضوا به من غيرهم جاز، ولم يعترض عليهم، وجاز أن يكون من ارتضوه، عبدًا أو فاسقًا وكانت أجرته في أموالهم ولم تكن في بيت المال" (¬5). ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي 16/ 103، المدوّنة للإمام مالك 5/ 518 - 519، البيان والتحصيل لابن رشد 12/ 109 - 110، الذّخيرة للقرافي 5/ 403، الأم للشافعي 6/ 212، الحاوي الكبير للماوردي 20/ 314، مغني المحتاج للشربيني 4/ 419، الكافي لابن قدامة 4/ 308. (¬2) بدائع الصنائع للكاساني 7/ 19. (¬3) هو: محمَّد بن عبد الله الخرشي، أبو عبد الله، شيخ المالكية بمصر، أخذ العلم عن والده والبرهان اللقاني، والنور الأجهوري، له شرحان على مختصر خليل شرح كبير وشرح صغير رزق فيه القبول، توفي سنة1101 هـ انظر: شجرة النور الزكية لمخلوف ص: 317. (¬4) الخرشي على خليل 4/ 189. (¬5) الحاوي الكبير للماوردي 20/ 313.

وقال ابن قدامة: "وإن كان الشركاء، نصبوا قاسمًا، فأجرته بينهم على ما شرطوه" (¬1). وقد استدل الفقهاء على ذلك بما يأتي: قالوا: إنَّ القاسم الّذي استأجره الشركاء إنّما هو أجيرهم، والأجير تجب له أجرته على عمله، وتكون بينهم على ما شرطوه (¬2). ¬

_ (¬1) الكافي لابن قدامة 4/ 308. (¬2) الكافي لابن قدامة 4/ 308.

المطلب الثاني أخذ المال على الشهادة

المطلب الثّاني أخذ المال على الشّهادة (¬1) الشّهادة أحد طرائق الأحكام، وأهم وسائل الإثبات، دل على مشروعيتها الكتاب والسُّنَّة والإجماع والعقل. وقد اتفق الفقهاء رحمهم الله تعالى على أن تحمل الشّهادة وأدائها من فروض الكفايات، وقد يكون تحملها وأداؤها أو أحدهما من فروض الأعيان، وذلك إذا لم يوجد إِلَّا ذلك العدد من الشهود الّذي يحصل بهم الحكم وتثبت بهم الدعوى، وخيف ضياع الحق (¬2). وأمّا ما يؤخذ من مال على الشّهادة تحملًا وأداءً، لا يخلو إمّا أن يكون نفقة أو رزقًا من بيت المال أو أجرة من المشهود لهم، وتفصيل ذلك في المسائل الآتية: المسألة الأولى: أخذ النفقة على الشّهادة إذا احتاجت الشّهادة إلى نفقة وركوب، فهل يجوز للشاهد أخذ النفقة عليها؟ بيان ذلك فيما يأتي: ¬

_ (¬1) الشّهادة في اللُّغة: الخبر القاطع، والحضور والمعاينة، والإقرار والاطلاع على الشيء عيانا. الصحاح للجوهري 2/ 494، المصباح المنير 1/ 324. وفي الاصطلاح: عرفها الفقهاء بتعريفات عديدة كلها متقارية في المعنى، ومن أجمع هذه التعريفات ما عرّفها به ابن الهمام فقال: "هي إخبار صدق لإثبات حق بلفظ الشّهادة في مجلس القضاء". شرح فتح القدير لابن الهمام 6/ 2، ولمزيد من المتعريفات انظر: الشرح الكبير للدردير 4/ 164، حاشية الجمل 5/ 377، منتهى الإرادات لابن النجار 2/ 647. (¬2) البحر الرائق لابن نجيم 7/ 57، الدر المختار للحصفكي 4/ 370، قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي ص: 339، التاج والإكليل للمواق 6/ 194 - 195، روضة الطالبين للنووي 11/ 271 - 274، مغني المحتاج للشربيني 4/ 450، المغني لابن قدامة 14/ 137، الإنصاف للمرداوي 12/ 3 وما بعدها.

أولا: إذا كان الشاهد فقيرا

أوَّلًا: إذا كان الشّاهد فقيرًا: إذا كان الشّاهد فقيرًا، فقد اتفق الفقهاء رحمهم الله تعالى على جواز أخذ النفقة وأجرة الرُّكوب، مدة ذهابه وإيابه (¬1). واستدلوا على ذلك بما يأتي: الدّليل الأوّل: قوله تعالى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة:282]. وجه الاستدلال: حيث نهى الله تعالى عن الإضرار بالشّاهد، وتكليف الشّاهد بالسفر من أجل الشّهادة، وليس عنده نفقة ولا دابة، إضرار به، وعليه فإنّه لا تجب عليه الشّهادة إذا كان فقيرًا، وإلا أعطى نفقة ذهابه وإيابه وركوبه (¬2). الدّليل الثّاني: عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: (أكرموا الشهود، فإن الله تعالى يستخرج بهم الحقوق، ويدفع بهم الظلم) (¬3). وجه الاستدلال: حيث أمر النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بإكرام الشهود، ودفع النفقة للشاهد إذا كان محتاجًا، من باب أكرامه، فيجوز له أخذها (¬4). ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير لابن الهمام 6/ 403، البحر الرائق لابن نجيم 7/ 58، الدر المختار للحصفكي 4/ 370، التاج والإكليل للمواق 6/ 195 - 196، الشرح الكبير للدردير 4/ 199، الشرح الصغير للدردير 4/ 286، جواهر الإكليل للآبي 2/ 242، روضة الطالبين للنووي 11/ 275، أدب القضاء لابن أبي الدِّم ص: 356، المغني لابن قدامة 14/ 137، الإنصاف للمرداوي 12/ 7. (¬2) البحر الرائق لابن نجيم 7/ 57. (¬3) الحديث أورده السيوطيّ في جمع الجوامع، وعزاه للبانياسي في جزئه، وقد رواه الديلمي في الفردوس بمأثور الخطّاب 1/ 67 (195)، وعزاه الألباني لابن عساكر، ثمّ قال: "ضعيف"، ضعيف الجامع الصغير ص: 159 (1128). (¬4) البحر الرائق لابن نجيم 7/ 57، الدر المختار للحصفكي 4/ 370.

الدليل الثالث

الدّليل الثّالث: قالوا: إنَّ أداء الشّهادة، لا يجب عليه، فجاز أخذ النفقة عليه (¬1). الدّليل الرّابع: قالوا: إنَّ انفاق الشّاهد على عياله فرض عين عليه، فلا يشتغل عنه بفرض الكفاية، فإن أعطي النفقة لنفسه وعياله في ذلك اليوم سقط عنه فرض العين وجاز حينئذ أن يشتغل بالشهادة (¬2). ثانيًا: إذا كان الشّاهد غنيًا: إذا كان الشّاهد في كفاية ولا يحتاج إلى ركوب أو نفقة لاستغنائه عن ذلك بماله فهل يجوز له حينئذ أخذ النفقة على شهادته ممّن شهد له؟ ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، والشّافعيّة (¬5)، والحنابلة (¬6) إِلَّا أنّه لا يجوز للشاهد أخذ نفقة أو أجرة ركوب ونحو ذلك على شهادته، إذا كان غير محتاج. وقد استدل الفقهاء على ذلك بما ياتىِ: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ الشّاهد إذا كان له كفاية، فليس له أخذ النفقة على الشّهادة لأنّه أداء فرض، فإن فرض الكفاية إذا قام به البعض وقع منه فرضًا، كصلاة الجنازة (¬7). ¬

_ (¬1) الشرح الكبير للدردير 4/ 199 - 200. (¬2) المغني لابن قدامة 14/ 138. (¬3) شرح فتح القدير لابن الهمام 6/ 4، الدر المختار للحصفكي 4/ 370. (¬4) التاج والإكليل للمواق 6/ 195، الشرح الصغير للدردير 4/ 286. (¬5) روضة الطالبين للنووي 11/ 275 - 276. (¬6) المغني لابن قدامة 14/ 138، الإنصاف للمرداوي 12/ 6 - 7، كشاف القناع للبهوتي 6/ 406. (¬7) المغني لابن قدامة 14/ 138، كشاف القناع للبهوتي 6/ 406.

الدليل الثاني

الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ الشّاهد إذا كان غير محتاج، فلا يحل له أخذ النفقة؛ لأنَّ ما أخذه في هذه الحالة يعد رشوة، فيكون فعله هذا معصية وجرحًا قادحًا في شهادته (¬1). المسألة الثّانية: أخذ الرزق على الشّهادة ذهب جمهور الفقهاء (¬2) من المالكية (¬3) والشّافعيّة (¬4) والحنابلة (¬5) إلى أنّه يجوز للشاهد أخذ الرزق من بيت المال على تحمله الشّهادة وأدائها. فإذا أقام الإمام للناس شهودًا فلا يكون لهم شغل إِلَّا تحمل حقوق النَّاس حفظًا، وإحياؤها لهم أداءً، وجعل كفايتهم في بيت المال جاز ذلك. وقد استدلوا على ذلك بما يأتي: الدّليل الأوّل: قوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]. وجه الاستدلال: قال الإمام القرطبي مبينًا وجه الاستدلال من هذه الآية على جواز أخذ الرزق من بيت المال قال: "وقد يستلوح (¬6) من هذه الآية دليلٌ على أن جائزا للإمام أن يقيم للناس شهودًا ويجعل لهم من بيت المال كفايتهم فلا يكون لهم شغل، إِلَّا تحمل ¬

_ (¬1) التاج والإكليل للمواق 6/ 195، الشرح الكبير للدردير 4/ 199 - 200. (¬2) لم أجد نصا عند الحنفية في ذلك، ولكن يمكن تخريج ذلك قولًا لهم بالجواز قياسًا على القاضي وأعوانه وغيرهم من عمال المسلمين فإنهم لا يخالفون في ذلك؛ لأنَّ ذلك كله من المصالح العامة والله تعالى أعلم. (¬3) أحكام القرآن لابن العربي 1/ 256، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3/ 398. (¬4) روضة الطالبين للنووي 11/ 275، أسنى المطالب للأنصاري 4/ 371. (¬5) مطالب أولي النهى للرحيباني 3/ 641. (¬6) من لاح الشيء: إذا بدا وظهر. المصباح المنير للفيومي 2/ 560.

الدليل الثاني

حقوق النَّاس حفظًا لها وإن لم يكن ضاعت الحقوق وبطلت" (¬1). الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ تحمل الشّاهد للشهادة وأدائها من المصالح العامة، فيجوز أخذ الرزق عليها من بيت المال (¬2). المسألة الثّالثة: أخذ الأجرة على الشّهادة اختلف الفقهاء في حكم أخذ الأجرة على الشّهادة تحملًا وأداء على أربعة أقوال: القول الأوّل: لا يجوز مطلقًا أخذ الأجرة على الشّهادة. وبهذا قال الحنفية (¬3)، والحنابلة إذا تعينت، وإذا لم تتعين في الأصح (¬4). القول الثّاني: يجوز أخذ الأجرة على تحمل الشّهادة، أمّا الأداء فلا يجوز أخذ الأجرة عليه. وبهذا قال المالكية (¬5)، وهو الأصح عند الشّافعيّة (¬6). القول الثّالث: لا يجوز أخذ الأجرة على الشّهادة، إِلَّا عند الحاجة، فيجوز أخذ الأجرة عليها عند التحمل وعند الأداء ولو تعينت عليه. هذا قول عند الحنابلة (¬7)، اختاره شيخ ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3/ 398 - 399. (¬2) مطالب أولي النهى للرحيباني 3/ 641. (¬3) نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار (تكملة شرح فتح القدير القاضي زادة 6/ 2، الاختيار للموصلّي 2/ 147، الدر المختار للحصفكي 4/ 370، حاشية الشلبي على تببين الحقائق 4/ 207. (¬4) الفروع لابن مفلح 6/ 550، الإنصاف للمرداوي 12/ 6 - 7، كشاف القناع للبهوتي 6/ 406. (¬5) الخرشي على خليل 7/ 213، الشرح الكبير للدردير 4/ 199 - 200، حاشية الدسوقي 4/ 199. (¬6) المهذب للشيرازي 2/ 224، روضة الطالبين للنووي 11/ 275 - 276. (¬7) الفروع لابن مفلح 6/ 550، الإنصاف للمرداوي 12/ 6.

الأدلة والمناقشة

الإسلام ابن تيمية رحمه الله (¬1). القول الرّابع: يجوز أخذ الأجرة على الشّهادة إذا لم تتعين، فإن تعينت فلا يجوز. وهذا قول عند الشّافعيّة (¬2)، ووجه عند الحنابلة (¬3). الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة القول الرّابع: استدل أصحاب هذا القول بما يأتي: أ - دليلهم على أنّه إذا تعينت لا يجوز أخذ الأجرة عليها: قالوا: إنَّ الشّهادة إذا تعينت لا يجوز حينئذ أخذ الأجرة عليها؛ لأنّها فرض تعين عليه فلم يجز أن يأخذ عليه أجرة كسائر الفروض (¬4). ب - دليلهم على جواز أخذ الأجرة إذا لم تتعين: الدّليل الأوّل: قالوا: يجوز أخذ الأجرة على الشّهادة إذا لم تتعين، قياسًا على كتب الوثيقة (¬5). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة الاستدلال بما يأتي: لا نسلم لكم قياس تحمل الشّهادة وأدائها على كتب الوثيقة، فإنّه قياس مع الفارق وبيان ذلك أن الشّهادة فرض كفاية أو فرض عين علي الشّاهد، فإذا كانت ¬

_ (¬1) الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية للبعلي ص: 354. وانظر: الفروع لابن مفلح 6/ 550، الإنصاف للمرداوي 12/ 6. (¬2) المهذب للشيرازي 2/ 224، روضة الطالبين للنووي 11/ 275 - 276. (¬3) الفروع لابن مفلح 6/ 550، الإنصاف للمرداوي 12/ 6 - 7. (¬4) المهذب للشيرازي 2/ 224، المغني لابن قدامة 14/ 138. (¬5) المهذب للشيرازي 2/ 224.

الدليل الثاني

فرض عين فلا خلاف، أمّا إذا كانت فرض كفاية، فإن الشّاهد إذا قام بها كانت فرض عين في حقه يسقط به فرض الكفاية عن الأُمَّة، كصلاة الجنازة (¬1). ثمّ إنَّ الشّهادة ممّا يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة بخلاف الكتابة فإنها عمل مباح في أصله لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة. ثمّ إنَّ الشّهادة هو مأمور بأدائها احتسابًا لوجه الله تعالى، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطّلاق: 2]. وقال تعالى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]. وعليه فقد فارقت الشّهادة الكتابة فلا يصح القياس، والله تعالى أعلم. الدّليل الثّاني: إنَّ النفقة على عياله فرض عين، فلا يشتغل عنه بفرض الكفاية، فإن اشتغل بالشهادة جاز له حينئذ أخذ الأجرة عليها (¬2). مناقشة الاستدلال: أوَّلًا: أن الشّهادة وإن كانت فرض كفاية في الأصل، إِلَّا أنّه إذا اشتغل بها تعينت في حقه كصلاة الجنازة فلا يجوز له أخذ الأجرة عليها (¬3). ثانيًا: أن أخذ الأجرة على الشّهادة يورث تهمة في حق الشّاهد؛ لأنَّ الأجرة على أداء الشّهادة كالرشوة وهذا يقدح في عدالة الشّاهد (¬4). ثانيًا: أدلة القول الثّالث: استدل أصحاب هذا القول بما يأتي: ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة 14/ 138، كشاف القناع للبهوتي 6/ 406. (¬2) الشرح الكبير لشمس الدِّين ابن قدامة 12/ 5. (¬3) المرجع السابق. (¬4) الخرشي على خليل 7/ 213.

أ - إذا كانت غير متعينة

الشّهادة إمّا أن تكون غير متعينة عليه، وإما أن تكون متعينة. أ - إذا كانت غير متعينة: قالوا: يجوز له في هذه الحالة أخذ الأجرة على شهادته؛ لأنَّ النفقة على عياله فرض عين فلا يشتغل عنه بفرض الكفاية، فإذا أخذ الأجرة يكون قد جمع بين الأمرين: النفقة على العيال وأداء الشّهادة (¬1). ب - إذا كانت متعينة: قالوا: إنَّ أخذ الأجرة في هذه الحالة جائز كذلك؛ لأنَّ النفقة على العيال فرض عين وأداء الشّهادة فرض عين، ولا يمكن تأدية هذه الفروض إِلَّا بالأجرة، وينوي المحتاج عملها لله، ويأخذ الأجرة ليستعين بها على تأدية هذه الفروض، بخلاف الغني فليس هناك حاجة تدعوه إلى الكسب وأخذ الأجرة على شهادته، فلا حاجة تدعوه أن يؤدِّي شهادته لغير وجه الله تعالى (¬2). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة ما استدل به أصحاب هذا القول بما يأتي: لا نسلم لكم أن الشّاهد يجوز له أخذ الأجرة على الشّهادة، ولو كان ذلك للحاجة؛ لأنَّ الحاجة يمكن دفعها بغير الأجرة، وهي النفقة فقد تقدّم نقل اتفاق الفقهاء رحمهم الله تعالى على جواز النفقة على الشّهادة حتّى لو كان يكسب قوت يومه يومًا بيوم فإنّه يجوز له في هذه الحالة أن يأخذ نفقة نفسه وعياله في ذلك اليوم، وعليه فلا حاجة للقول بجواز الأجرة للحاجة لانتفاء الحاجة بالنفقة. والله أعلم. ثالثًا: أدلة القول الثّاني: استدل أصحاب هذا القول بما يأتي: ¬

_ (¬1) الشرح الكبير لشمس الدِّين ابن قدامة 12/ 5. (¬2) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 30/ 206 - 207.

1 - أدلتهم على جواز أخذ الأجرة على تحمل الشهادة

1 - أدلتهم على جواز أخذ الأجرة على تحمل الشّهادة: قالوا: إنَّ تحمل الشّهادة فرض كفاية، لا يلزمه، فجاز أخذ الأجرة عليه (¬1). 2 - أدلتهم على عدم جواز الأجرة على أداء الشّهادة: أدلة هذا القول على عدم جواز الأجرة على أداء الشّهادة هي نفسها أدلة القول الأوّل، وستأتي. وقد تقدّم مناقشة دليلهم على الجواز إذا كانت فرض كفاية عند مناقشة أدلة القول الرابع. رابعًا: أدلة القول الأوّل: استدل أصحاب هذا القول بأدلة من القرآن والمعقول: أ - أدلتهم من القرآن: الدّليل الأوّل: قوله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]. وجه الاستدلال: حيث نهى الله تعالى عن كتمان الشّهادة، ورتب عليه الإثم العظيم، ومن امتنع من أداء الشّهادة إِلَّا بأجرة، فإنّه يعد كاتمًا لها، فيدخل تحت الوعيد في هذه الآية (¬2). الدّليل الثّاني: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطّلاق: 2]. وجه الاستدلال: هذا أمر للشهود بأن يأتوا بما شهدوا به، تقربًا إلى الله تعالى، فإذا كان الشهود مأمورين بأداء الشّهادة، كانت الشّهادة حينئذ فرض عين عليهم، فلا يجوز أخذ ¬

_ (¬1) الشرح الكبير للدردير 4/ 199 - 200. (¬2) الشرح الصغير للدردير 4/ 286.

ب - أدلتهم من المعقول

العوض عليها (¬1). ب - أدلتهم من المعقول: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ الشّهادة لا يجوز أخذ العوض عليها مطلقًا سواءً أكانت فرض كفاية أم فرض عين، أمّا إذا كانت فرض كفاية فلأنّه إذا أخذ العوض عليها تلحقه التهمة بذلك (¬2)، ثمّ إنَّ فرض الكفاية إذا قام به البعض وقع منه فرضًا فلا يجوز أخذ الأجرة عليه كصلاة الجنازة (¬3). وأمّا إذا كانت الشّهادة فرض عين عليه، فلا يجوزكذلك أخذ الأجرة عليها، كسائر فروض الأعيان (¬4). الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ الشّهادة كلام يسير لا أجرة لمثله، فلا يجوز أخذ الأجرة عليها (¬5). الدّليل الثّالث: قالوا: إنَّ الشّاهد إذا امتنع من الشّهادة إِلَّا بعوض، فإن ذلك يكون جرح قادح في شهادته؛ لأنّه معصية؛ لأنّه رشوة أخذها في نظيرما وجب عليه (¬6). الترجيح: بعد عرض الأقوال، وذكر الأدلة لكل قول وما ورد عليها من مناقشات فالذي يظهر هو رجحان القول الأوّل القائل بعدم جواز أخذ الأجرة على الشّهادة مطلقًا وذلك لما يأتي: ¬

_ (¬1) فتح القدير للشوكاني 5/ 241، المغني لابن قدامة 14/ 138. (¬2) المهذب للشيرازي 2/ 224. (¬3) كشاف القناع للبهوتي 6/ 404. (¬4) المهذب للشيرازي 2/ 224، المغني لابن قدامة 14/ 138. (¬5) روضة الطالبين للنووي 11/ 275. (¬6) الشرح الكبير للدردير 4/ 199.

أوَّلًا: قوة ما استدل به أصحاب هذا القول وبخاصة الأدلة من القرآن الكريم، فهي تدل على وجوب أداء الشّهادة، وأن يكون ذلك قربة إلى الله تعالى، قال الإمام الشوكاني: "هذا أمر للشهود بأن يأتوا بما شاهدوا به تقربًا إلى الله" (¬1). إذن فالشهادة واجبة إمّا على الكفاية فإذا أتى بها الشّاهد تغنيت عليه، أو تكون واجبة على الأعيان من الأصل، وفي كلّ من الحالين فهي من القرب إلى الله تعالى، وعليه فلا يجوز أخذ الأجرة عليها. ثانيًا: أن ما ذكره أصحاب الأقوال الأخرى من الأدلة أمكن مناقشتها وإخراجها عن دلالتها. ثالثًا: أن هذا القول لا يردّ عليه اعتراضات كما ورد على الأقوال الأخرى، فإن قول من قال بالجواز للحاجة، يمكن دفعه، بما حصل الاتفاق عليه من جواز النفقة للشاهد، فإن بها تندفع الحاجة. وأمّا بقية الأقوال الأخرى فمدارها على الجواز إذا كانت الشّهادة فرض كفاية، وهذا يندفع بما إذا قام بها الشّاهد، فإنها تصبح حينئذ فرض عين، وفي هذه الحالة لا يجوز أخذه أجرة عليها بالاتفاق. والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) فتح القدير للشوكاني 5/ 241.

المبحث الثالث أخذ المال على الإفتاء

المبحث الثّالث أخذ المال على الإفتاء وتحته ثلاثة مطالب: المطلب الأوّل أخذ الرزق من بيت المال على الإفتاء (¬1) من أجل المناصب وأخطرها في الإسلام منصب الإفتاء. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: "اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر كبير الموقع كثير الفضل؛ لأنّ المفتي وارث الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وقائم بفرض الكفاية، لكنه معرض للخطأ ولهذا قالوا: المفتي موقع عن الله" (¬2). ¬

_ (¬1) الإفتاء في اللُّغة: البيان والإجابة، وهو مصدر من أفتى يفتي إفتاءً، ومنه الفتوى والفتيا، وهما اسمان يوضعان موضع المصدر، يقال: أفتاه في الأمر: أبانه له، وأفتيته في المسألة: أجبته عنها. المصباح المنير للفيومي 2/ 462، لسان العرب لابن منظور 15/ 147، القاموس المحيط للفيروزآبادي ص:1702. وفي الاصطلاح: عرف العلماء الإفتاء أو الفتوى بتعريفات كثيرة كلها تدور حول معان محددة منها: أن الفتوى إخبار أو بيان للحكم الشرعي، وأنّها غير ملزمة للمستفتي، ومن أجمع هذه التعريفات، أنّها: "الإخبار بالحكم الشرعي لا على وجه الإلزام". الشرح الصغير للدردير 2/ 272، شرح منتهى الإرادات للبهوتي 3/ 456. ومن هنا تتضح الفروق بين الإفتاء والقضاء، ومنها: 1 - أن الفتوى إخبار عن الحكم الشرعي والقضاء إنشاء للحكم الشرعي. 2 - أن الفتوى لا إلزام فيها للمستفتي، أمّا القضاء فهو ملزم. الدر المختار للحصفكي 1/ 51، البهجة شرح التحفة للتسولي 1/ 17، البحر المحيط للزركلشي 6/ 315، إعلام الموقعين لابن القيم، 2/ 175، 4/ 210. (¬2) المجموع للنووي 1/ 40. وقد أبان ابن القيم رحمه الله تعالى عن حقيقة هذا المنصب، وأهميته وعظيم خطره بكلام نفيس كما في إعلام الموقعين 1/ 10 - 11، فليراجع للاستفادة.

وعمدة هذا الاتفاق

وقد اتفق الفقهاء رحمهم الله تعالى على أن المفتي إذا كان فقيرا فإن له أخذ الرزق من بيت المال (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وأمّا من يأخذ بمصلحة عامة فإنّه يأخذ مع حاجته باتِّفاق المسلمين، وهل له أن يأخذ مع الغنى، كالقاضي والشّاهد والمفتي والحاسب والمقري والمحدث إذا كان غنيًا، فهل له أن يرتزق على ذلك من بيت المال مع غناه؛ قولان مشهوران للعلّماء" (¬2). وعمدة هذا الاتفاق: أن المفتي قد فرغ نفسه لعمل من أهم أعمال المسلمين على وجه الحسبة فكافيته تكون في بيت المال (¬3). ثمّ إنَّ بيت مال المسلمين معد لمصالحع المسلمين العامة وهذا منها. ثمّ إنَّ الحاجة داعية إلى القيام بذلك المنصب والانقطاع له إذ هو في معنى الإمامة والقضاء (¬4). وقد اختلف الفقهاء في حكم أخذ الرزق على الإفتاء من بيت المال إذا كان المفتي غنيًا على قولين: القول الأوّل: يجوز مطلقًا أخذ الرزق على الإفتاء، من بيت مال المسلمين سواء أكان المفتي غنيًا أم فقيرًا، وسواء تعين عليه أم لا. ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي 1/ 3 , 140/ 18، الاختيار للموصلّي 4/ 141، مواهب الجليل للحطاب 5/ 418، حاشية الدسوقي 1/ 498، المجموع للنووي 1/ 46، روضة الطالبين 11/ 138، مغني المحتاج للشربيني 4/ 390، إعلام الموقعين لابن القيم 4/ 231 - 232 شرح منتهى الإرادات للبهوتي 6/ 462. (¬2) مجموع الفتاوى لابن تيمية 28/ 576. (¬3) المبسوط للسرخسي 3/ 18. (¬4) كشاف القناع 6/ 291.

سبب الخلاف

وإلى هذا ذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2) وهو قول عند الشّافعيّة (¬3)، ووجه عند الحنابلة (¬4). القول الثّاني: لا يجوز أخذ الرزق على الإفتاء إِلَّا إذا كان المفتي محتاجًا، ولم يتعين عليه الإفتاء. وبهذا قال الشّافعيّة في الأصح (¬5)، والحنابلة في المشهور من المذهب (¬6). سبب الخلاف: بين الإمام ابن القيم سبب الخلاف فقال: "وهذا فرع متردد بين عامل الزَّكاة وعامل اليتيم فمن ألحقه بعامل الزَّكاة قال: النفع فيه عام فله الأخذ، ومن ألحقه بعامل اليتيم منعه من الأخذ" (¬7). الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة القول الثّاني: استدل أصحاب هذا القول بما يأتي: ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي 3/ 18، الاختيار للموصلّي 4/ 141. (¬2) مواهب الجليل للحطاب 5/ 418، الشرح الصغير للدردير 2/ 295، 4/ 10، حاشية الدسوقي (¬3) المجموع للنووي 1/ 46، حاشية قليوبي 4/ 296. (¬4) إعلام الموقعين لابن القيم 4/ 231 - 232، كشاف القناع للبهوتي 6/ 291. (¬5) المجموع للنووي 1/ 46، روضة الطالبين للنووي 11/ 138، مغني المحتاج للشربيني 4/ 390. (¬6) إعلام الموقعين لابن القيم 4/ 231 - 232، شرح منتهى الإرادات للبهوتي 6/ 462. (¬7) إعلام المودعين لابن القيم 4/ 232.

الدليل الأول

الدّليل الأوّل: قالوا: لا يجوز للمفتي أخذ الرزق على عمله إِلَّا إذا كان محتاجًا ولم يتعين عليه قياسًا على وليّ اليتيم، فإنّه يأخذ مع الفقر ولا يأخذ مع الغنى، قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النِّساء: 6] بجامع أن كلًا منهما منتصبًا لمعاملة الرعية بالأحظ لهم (¬1). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الاستدلال بما يأتي: إنَّ قياس المفتي على وصي اليتيم قياس مع الفارق، فإن ولي اليتيم المنفعة منه خاصّة، والمنفعة من المفتي عامة، فإلحاقه بعامل الزَّكاة أولى لعموم الحاجة إليه وحصول المصلحة العامة به (¬2)، وعليه فإنّه يجوز له أخذ الرزق من بيت المال مطلقًا. الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ الإفتاء إذا كان متعينًا على المفتي لعدم وجود غيره أو نحو ذلك وكان في كفاية فلا يجوز له أخذ الرزق على الإفتاء؛ لأنّه يؤدِّي فرض عين، ولا حاجة تدعوه لأخذ الرزق (¬3). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الاستدلال بما يأتي: أن الرزق من بيت المال لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة، إنّما هو إعانة على الطّاعة وليس عوضًا عنها؛ لأنّه لما فرغ نفسه لعمل المسلمين كانت كفايته في مالهم، وإلا تعطل هذا المنصب، وهذا لا يمكن لحاجة المسلمين الشديدة إليه. ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين لابن القيم 4/ 231 - 232، 3/ 146 - 147. (¬2) إعلام الموقعين لابن القيم 3/ 146. (¬3) كشاف القناع للبهوتي 6/ 291، وانظر: أدب القضاء لابن أبي الدِّم ص: 101.

ثانيا: أدلة القول الأول

ثانيًا: أدلة القول الأوّل: استدل أصحاب هذا القول بما يأتي: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ الإفتاء من مصاع المسلمين العامة فجاز أخذ الرزق عليه مطلقًا غنيًا كان أم فقيرًا (¬1). الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ الحاجة داعية إلى الإفتاء، والانقطاع له عن التكسب، فجاز أخذ الرزق عليه من بيت المال مطلقًا وإلا تعطل هذا المنصب الشريف (¬2). الدّليل الثّالث: القياس على القاضي فكما يرزق الإمام القاضي من بيت المال فكذلك يرزق المفتي يحامع أن مصلحة عمل كلّ منهما ترجع إلى عامة المسلمين (¬3). الدّليل الرّابع: قالوا: إنَّ المفتي يعمل للمسلمين فتجب كفايته في أموالهم (¬4). الدّليل الخامس: القياس على الزوجة، فكما أن الزوجة قد حبست نفسها لحق زوجها فكانت نفقتها عليه، فكذلك المفتي تجب نفقته على المسلمين؛ لأنّه قد حبس نفسه لمصلحتهم (¬5). ¬

_ (¬1) كشاف القناع للبهوتي 6/ 291. (¬2) كشاف القناع 6/ 291. (¬3) روضة الطالبين للنووي 11/ 138. (¬4) المبسوط للسرخسي 3/ 18، الاختيار للموصلّي 4/ 141. (¬5) الاختيار للموصلّي 4/ 141.

الترجيح

الترجيح: من خلال ما ذكر من أدلة وما ورد عليها من مناقشات يتبين رجحان القول الأوّل القاضي يحواز أخذ الرزق على الإفتاء مطلقًا سواء أكان المفتي غنيًا أم فقيرًا تعينت عليه الفتوى أم لا وذلك لما يأتي: أوَّلًا: قوة ما استدل به أصحاب هذا القول وتعود قوته لما يأتي: 1 - أن منصب الإفتاء كان يقوم به النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - وكانت كفايته - صلّى الله عليه وسلم - من بيت المال. 2 - أن هذا المنصب كان يناط بالخلفاء وأئمة المسلمين، وكانوا يأخذون الأرزاق من بيت المال، وهذا محل اتفاق كما سبق فهذا القول جاء متمشيًا مع أصول الشربعة، وما جرى عليه العمل عند المسلمين منذ عهد النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - وإلى يومنا هذا. 3 - أن أموال بيت المال مخصصة للمصلحة العامة والإفتاء من أعظم مصالح المسلمين لشدة حاجة المسلمين إليه لما فيه من بيان الأحكام الشرعية، والقيام بواجب البلاغ لدين الله عَزَّ وَجَلَّ. ثانيًا: أنّه أمكن مناقشة ما استدل به أصحاب القول الآخر بما يضعف من دلالته. ثالثًا: أن المفتي قد حبس نفسه لمصلحة المسلمين فكانت كفايته عليهم لقيام مصالحهم (¬1). ¬

_ (¬1) الاختيار للموصلّي 4/ 141. تنبيه: البحث هنا حول من فرغ نفسه لهذا المنصب سواء فرغه إمام المسلمين لذلك، أم قام هو بتفريغ نفسه لهذا العمل نظرا لحاجة المسلمين إليه ففي هذه الحالة يجب على الإمام إعطاؤه كفايته من بيت المال، أمّا من لم يكن متفرغًا لهذا العمل ولا يشغله عن تكسبه، كان يكون عنده عمل خاص من وظيفة كأستاذ جامعة أو نحوها، أو يملك عقارًا أو مؤسسة تجارية مثلًا، فإن هذا ليس له الأخذ من بيت المال، وعليه أن يحتسب عمله لوجه الله تعالى لأنّ هذا هو الأصل والله تعالى أعلم.

المطلب الثاني أخذ الأجرة على الإفتاء

المطلب الثّاني أخذ الأجرة على الإفتاء إذا لم يكن للمفتي كفاية، سواء أكان الإفتاء في حقه فرض عين أم فرض كفاية فهل يجوز له أخذ الأجرة من المستفتي على فتواه؟ يلاحظ هنا أن الفقهاء رحمهم الله تعالى فرقوا بين الفتوى باللسان والفتوى بالكتابة وفي كلّ من الحالتاين حصل خلاف بينهم في جواز أخذ الأجرة سواء أكانت الفتوى باللسان أم كانت بالكتابة على النحو التالي: المسألة الأولى: إذا كانت الفتوى باللسان فقط اختلف الفقهاء في حكم أخذ الأجرة من المستفتي إذا أفتاه بالقول فقط دون الكتابة على قولين مشهورين: القول الأوّل: لا يجوز مطلقًا أخذ الأجرة على الإفتاء سواء أكان الإفتاء في حقه فرض عين أم فرض كفاية. وإلى هذا ذهب: الحنفية (¬1)، والشّافعيّة في الأصح (¬2)، والحنابلة (¬3). القول الثّاني: يجوز أخذ الأجرة على الإفتاء إذا لم يتعين عليه، بأن كان فرض كفاية في حقه لوجود غيره لا فرض عين. وبهذا قال المالكية (¬4)، والظاهرية (¬5). ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي 1/ 140، حاشية ابن عابدين 4/ 311. (¬2) المجموع للنووي 1/ 46، أدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح ص: 47 - 48. (¬3) إعلام الموقعين لابن القيم 4/ 231 - 232، شرح منتهى الإرادات للبهوتي 3/ 462، كشاف القناع للبهوتي 6/ 291. (¬4) حاشية الدسوقي 1/ 20، الشرح الصغير للدردير 4/ 10، حاشية الصاوي 4/ 10 - 12. (¬5) المحلى لابن حزم 8/ 191.

الأدلة والمناقشة

الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة أصحاب القول الثّاني: استدل هؤلاء بما يأتي: قالوا: إنَّ أخذ الأجرة على الفتوى إذا تعينت، يعد من أكل المال بالباطل؛ لأنّ الطّاعة المفترضة عليه لا بد له من عملها فأخذ الأجرة على ذلك لا وجه له. أمّا إذا لم تتعين فيجوز للمفتي حينئذ أخذ الأجرة عليها, لعدم وجوبها عليه (¬1). مناقشة الاستدلال: يمكن مناقشة هذا الدّليل بما يأتي: لا نسلم لكم أن الإفتاء إذا كان فرض كفاية يجوز أخذ الأجرة عليه؛ لأنّ الإفتاء قربة إلى الله تعالى، فإذا كان المفتي في كفاية فلا حاجة تدعوه إلى أن يكون عمله لغير وجه الله؛ لأنّ الإفتاء إذا فعل بالأجرة لم يبق عبادة لله، بل يبقى عملًا مباحًا مستحقًا بالعوض معمولًا لأجله، والعمل إذا عمل للعوض لم يبق عبادة فإذا كان الله تعالى قد أغناه، وهذا فرض كفاية، وإن هو مخاطبًا به وإذا لم يقم إِلَّا به وإن ذلك واجبًا عليه عينًا، فلا يجوز له أخذ الأجرة عليه بكل حال تعين عليه أم لم يتعين (¬2). ثانيًا: أدلة القول الأوّل: استدل أصحاب هذا القول بأدلة من القرآن والسُّنَّة والمعقول. أ - دليلهم من القرآن: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159]. ¬

_ (¬1) المحلى لابن حزم 8/ 191 - 192. (¬2) انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 30/ 206 - 207.

وجه الاستدلال

وجه الاستدلال: حيث دلت هذه الآية الكريمة على وجوب تبليغ العلم الحق وتبيان العلم على الجملة، دون أخذ الأجرة عليه؛ إذ لا يستحق الأجرة على ما عليه فعله كما لا يستحق الأجرة على الإسلام (¬1). ب - الدّليل من السُّنَّة: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة) (¬2). وجه الاستدلال: حيث دل الحديث على وجوب تبليغ العلم وتحريم كتمانه، فإذا امتنع المفتي من الإفتاء إِلَّا بأجرة فإنّه يكون كاتمًا للعلّم فيدخل تحت الوعيد، حيث جاء الحديث عامًا لكل علم سئل عنه العالم ولكل مسئول سواء أكان فرض كفاية أم فرض عين (¬3). جـ - الأدلة من المعقول: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ منصب الإفتاء منصب تبليغ عن الله تعالى وعن رسوله - صلّى الله عليه وسلم -، فلا تجوز المعاوضة عليه، كما لو قال له لا أعلمك الإسلام أو الوضوء أو الصّلاة إِلَّا بأجرة، أو سئل عن حلال أو حرام فقال للسائل: لا أجيبك عنه إِلَّا بأجرة فهذا حرام قطعًا ويلزمه رد العوض ولا يملكه (¬4). ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2/ 185. (¬2) أخرجه أبو داود، كتاب العلم، باب كراهية منع العلم 3/ 321 (3658) والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في كتمان العلم 5/ 29 (2649)، قال التّرمذيّ: حديث أبي هريرة حديث حسن، وقد صححه الألباني كما صحيح سنن أبي داود 2/ 696 (3106)، وصحيح سنن التّرمذيّ 2/ 336 (2135). (¬3) جامع الأصول لابن الأثير 8/ 12 - 13، عون المعبود للعظيم آبادي 10/ 66. (¬4) إعلام الموقعين لابن القيم 4/ 231.

الترجيح

الترجيح: من خلال ذكر الأدلة لكل قول وما نوقشت به يتبين رجحان القول الأوّل القائل بمنع أخذ الأجرة على الإفتاء مطلقًا من المستفتي تعين عليه أم لم يتعين، وذلك لما يأتي: أوَّلًا: قوة ما استدل به أصحاب هذا القول وبخاصة ما استدلوا به من أدلة من القرآن الكريم والسُّنَّة المطهرة، فإنها ظاهرة الدلالة على ما نحن بصدد. ثانيًا: أن ما استدل به أصحاب القول الآخر، ما هي إِلَّا أدلة عقلية أمكن مناقشتها بما يضعف من حجيتها. وعليه فإن كان للمفتي رزق من بيت المال أوكان مكفيًا مسألة الخاص فلا يحل له حينئذ أخذ الأجرة، فإن لم يكن له كفاية من بيت المال أو من ماله الخاص، فإنّه يسوغ لأهل البلد حينئذ أن يجتمعوا ويجعلوا له من أموالهم رزقًا، ليتفرغ لفتاويهم وجوابات نوازلهم، ويحل للمفتي أخذ ذلك الرزق؛ لأنّ الأرزاق معروف غير لازم لجهة معينة وهو أدخل في باب الإحسان وأبعد عن المعاوضة (¬1). فإن تعذر كلّ ذلك، وكان المفتي في حاجة للكفاية، فإن لم يأخذ لحقه الضيق والضرر، وربما تعطل هذا المنصب فيلحق الحرج والضيق عموم المسلمين فإن هذه حالة ضرورة والضرورة تقدر بقدرها فيجوز القول حينئذ يحواز أخذ الأجرة للضرورة لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]، والله تعالى أعلم (¬2). ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي 1/ 140، الفروق للقرافي 3/ 3، المجموع للنووي 1/ 46، كشاف القناع للبهوتي 6/ 301، الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي 2/ 347. (¬2) انظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 30/ 206 - 207، حيث فرق رحمه الله بين الغني والفقير، فأجاز ذلك للحاجة والضرورة والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية: إذا كانت الفتوى بالكتابة

المسألة الثّانية: إذا كانت الفتوى بالكتابة إذا طلب المستفتي من المفتي الجواب على الفتوى كتابة لا مشافهة فهل يلزم المفتي ذلك، وهل يجوز له حينئذ طلب الأجرة على كتابته للفتوى أم لا؟ اختلف الفقهاء رحمهم الله تعالى في حكم هذه المسألة على قولين: القول الأوّل: يجوز أخذ الأجرة على كتابة الفتوى. وإلى هذا القول ذهب الحنفية (¬1)، وهو مقتضى المذهب عند المالكية (¬2)، وهو قول بعض الشّافعيّة (¬3)، وبه قال الحنابلة (¬4). القول الثّاني: لا يجوز أخذ الأجرة على كتابة الفتوى. وبهذا قال الشّافعيّة (¬5)، وهو اختيار ابن القيم رحمه الله، قال ابن القيم: "ولكن لا يلزمه الورق ولا الحبر" (¬6). الأدلة والمناقشة: أوَّلًا: أدلة القول الثّاني: لم يذكر أصحاب هذا المذهب دليلًا بخصوص الكتابة ولكن يمكن الاستدلال لهم بما استدلوا به على المنع من أخذ الأجرة على الفتوى فهذه الأدلة تدل بعمومها على المنع من أخذ الأجرة على الفتوى سواء أكانت باللسان أم بالكتابة. ¬

_ (¬1) الدر المختار للحصفكي 5/ 56، حاشية ابن عابدين 4/ 311. (¬2) يخرج هذا قولًا للمالكية على قولهم السابق بأن الفتوى إذا لم تتعين جاز أخذ الأجرة عليها، والكتابة غير واجبة على المفتي فيجوز أخذ الأجرة عليها. وانظر: حاشية الدسوقي 1/ 220 الشرح الصغير للدردير 4/ 10. (¬3) المجموع للنووي 1/ 46. (¬4) كشاف القناع للبهوتي 6/ 291. (¬5) المجموع للنووي 1/ 46، ولم ينص النووي على ذلك ولكن يفهم من قوله: "واحتال الشّيخ أبو حاتم ... " أنّه لا يجوز ذلك، وأن المذهب هو المنع مطلقًا. (¬6) إعلام الموقعين لابن القيم 4/ 232.

ثانيا: أدلة القول الأول

قال ابن القيم رحمه الله: "والصّحيح خلاف ذلك، وأنّه يلزمه الجواب مجانًا لله تعالى بلفظه وخطه، ولكن لا يلزمه الورق ولا الحبر" (¬1). ثانيًا: أدلة القول الأوّل: استدل هؤلاء بما يأتي: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ الكتابة غير واجبة عليه، وإنّما يجب عليه الجواب باللسان، فإذا كانت الكتابة غير واجبة عليه جاز له أخذ الأجرة عليها (¬2). الدّليل الثّاني: القياس على الناسخ، فإنّه يجوز له أخذ الأجرة على خطه فكذلك المفتي؛ لأنّ الخط قدر زائد على الجواب، فيجوز أخذ الأجرة عليه (¬3). الترجيح: الراجح من القولين هو القول الأوّل القاضي بجواز أخذ الأجرة على الفتوى إذا كانت كتابة وذلك لما يأتي: أوَّلًا: أن الكتابة لا تلزمه إذ هي قدر زائد على الجواب فيجوز أخذ الأجرة عليها. ثانيًا: أن الكتابة فيها كلفة ومشقة وتحتاج إلى وقت وقد يمتد ذلك فيشغله عن جلَّ وقته فلا يبقى وقت لتكسبه فيجوز له حينئذ أخذ الأجرة على الكتابة. ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) الدر المختار للحصفكي 5/ 56، حاشية ابن عابدين 4/ 311. (¬3) إعلام الموقعين لابن القيم 4/ 231.

ومع ذلك فالأولى للمفتي عدم أخذ الأجرة على كتابة الفتوى، احترازا عن القيل والقال، وصيانة لماء الوجه عن الابتذال (¬1). وأمّا ما يحتاج إليه المفتي من ورق وحبر ونحوهما فلا يلزمه على قول (¬2) الجميع. والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) الدر المختار للحصفكي 5/ 56. (¬2) إعلام الموقعين لابن القيم 4/ 232.

المطلب الثالث الهدية للمفتي

المطلب الثّالث الهدية للمفتي اتفق الفقهاء رحمهم الله تعالى على أن الهدية إذا كان سببها أن يرخص له في الفتوى على خلاف المعمول به، فيفتيه بما يريد لا كما دل عليه الكتاب والسُّنَّة، ونص عليه علماء الأُمَّة فإنّه لا يجوز مطلقًا للمفتي قبولها، فإن قبلها فهو رجل فاجر يبدل أحكام الله تعالى ويشتري به ثمنًا قليلًا (¬1). وعللواذلك: بأن الهدية في هذه الحالة ما هي إِلَّا رشوة محرّمة يأخذها سحتًا ليبدل بها دين الله تعالى (¬2). كما اتفق الفقهاء رحمهم الله تعالى، على أن الهدية إذا لم تكن بسبب الفتوى، وإنّما على سبيل المحبة والتودد إليه لما فيه من صلاح وعلم واستقامة، أو لأنّ له عادة بمهاداته قبل ذلك، أو لكونه عالمًا ولا يعرف عنه أنّه مفتٍ أو لأي سبب آخر غير الفتيا، فإنّه يجوز للمفتي في هذه الحالة قبولها، وإن كان الأولى له التورع عن ذلك أو يكافئه عليها (¬3). وذلك لأنّ الهدية إذا لم تكن بسبب ولاية الإفتاء، فهي مستحبة في أصلها فيجوز له قبولها (¬4). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين 4/ 311، تبصرة الحكام 1/ 30، شرح الزرقاني على خليل 7/ 133 المجموع للنووي 1/ 46، إعلام الموقعين لابن القيم 4/ 232، الإنصاف للمرداوي 11/ 211 - 212. (¬2) تبصرة الحكام لابن فرحون 1/ 30، المجموع للنووي 1/ 46. (¬3) المراجع السابقة. (¬4) ينظر ما كتب في مبحث الهدية للقاضي وما فيه من تفصيل وأدلة فإنها تنسحب على المفتي؛ لأنّ كلًا منهما من الولايات العامة فالكلام فيهما من باب واحد، جاء في حاشية ابن عابدين: "وكل من عمل للمسلمين عملًا حكمه في الهدية حكم القاضي": 4/ 310.

المبحث الرابع أخذ المال على الحسبة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)

المبحث الرّابع أخذ المال على الحسبة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وتحته مطلبان: المطلب الأوّل أخذ الرزق على الحسبة (¬1) من بيت المال الحسبة من أهم الوظائف الدينية، وأشرف الولايات الشرعية، إذ ترتكز على مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الّذي هو القطب الأعظم في الدِّين والمهمة الّتي بعث الله تعالى بها الأنبياء والمرسلين، والتي بسببها فضل الله تعالى هذه الأُمَّة على العالمين، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]. ووظيفة المحتسب (¬2) من أشرف الوظائف، وأفضل القربات، وقد تناول الفقهاء رحمهم الله تعالى أحكام هذه الوظيفة الشريفة، ومن ذلك ما يتعلّق بأخذ المال عليها من رزق وأجرة ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) الحسبة في اللُّغة: الإنكار والأجر، وحسن التّدبير والنظر، والاختبار، يقال: احتسب فلان على فلان: أنكر عليه قبيح عمله. المصباح المنير 1/ 134، لسان العرب لابن منظور 1/ 317، القاموس المحيط للفيروزآباري ص: 94. وفي الاصطلاح: "هي الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله "، وقيل: "هو وظيفة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". الأحكام السلطانية للماورري ص: 240، والأحكام السلطانية لأبي يعلي ص: 268. (¬2) المحتسب هو: "من نصبه الإمام أو نائبة، للنظر في أحوال الرعية، والكشف عن أمورهم ومصالحهم": معالم القربة في أحكام الحسبة لابن الإخوة ص: 7.

الدليل الأول

أمّا ما يتعلّق بأخذ الرزق على ولاية الحسبة، فقد اتفق الفقهاء رحمهم الله تعالى على أنّه يجوز للمحتسب أخذ الرزق من بيت المال (¬1). وقد استدل الفقهاء على ذلك بما يأتي: الدّليل الأوّل: قالوا: إنَّ المحتسب قد فرغ نفسه لعمل من أعمال المسلمين على وجه الحسبة، فكفايته في مال بيت المال (¬2). الدّليل الثّاني: قالوا: إنَّ مصلحة عمل المحتسب ترجع إلى عامة المسلمين فجاز أخذ الرزق عليه من بيت مالهم (¬3). ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي 3/ 18، الفروق للقرافي 3/ 4، روضة الطالبين للنووي 11/ 138، مغني المحتاج للشربيني 4/ 390، الأحكام السلطانية لأبي يعلي ص: 269، معالم القربة في أحكام الحسبة لابن الأخوة ص 11، نهاية الرتبة في طلب الحسبة لابن بسّام، ص: 15. (¬2) المبسوط للسرخسي 3/ 18. (¬3) روضة الطالبين للنووي 11/ 138، حاشية قليوبي 4/ 296.

المطلب الثاني أخذ الأجرة على الحسبة

المطلب الثّاني أخذ الأجرة على الحسبة المحتسب قد يكون منصويًا من جهة الإمام (¬1)، وقد يكون متطوعًا بعمله (¬2) فإذا كان المحتسب متطوعًا بعمله، وله كفاية، فإنّه في هذه الحالة ليس له أخذ عوض على عمله، لكفايته أوَّلًا ولكونه متبرعًا بعمله، فإن كان الله قد أغناه فلا حاجة تدعوه إلى أخذ العوض حتّى لا يكون عمله لغير الله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مفرقًا بين الغني والمحتاج في حكم أخذ العوض على أفعال القرب، قال: " ... بخلاف الغني لأنّه لا يحتاج إلى الكسب فلا حاجة تدعوه أن يعملها لغير الله، بل إذا كان الله تعالى قد أغناه وهذا فرض على الكفاية، كان هو مخاطبًا به، وإذا لم يقم إِلَّا به كان ذلك واجبًا عليه عينًا والله أعلم" (¬3). وأمّا المحتسب المنصوب من قبل الإمام فإن كان له رزق من بيت المال، فهذا لا ¬

_ (¬1) وفي هذه الحالة يسمى "المحتسب" أو "والي الحسبة": معالم القربة لابن الأخوة ص 11، تحفة الناظر وغنية الذاكر للتلمساني، ص: 176. (¬2) وقد فرق العلماء بين المحتسب المنصوب من قبل الإمام والمتطوع بعدة فروق منها: أوَّلًا: أن الحسبة تكون فرض عين على المنصوب من قبل الإمام بخلاف المتطوع فإنها تكون في حقه فرض كفاية، فإذا قام بها غيره سقطت عنه كما في صلاة الجنازة ورد السّلام ونحوهما. ثانيًا: أن لا يجوز للمحتسب المنصوب أن يتشاغل عن الحسبة بغيرها؛ لأنّها وظيفته وعمله الرئيس، بخلاف المتطوع فله التشاغل عنها بغيرها من أموره الخاصة. ثالثًا: أن المحتسب المنصوب له الارتزاق من بيت المال؛ لأنّه من عمال المسلمين محبوس لمصلحتهم فتكون كفايته في بيت المال كلالولاة والقضاة والمفتين والغزاة ونحوهم، بخلاف المتطوع فليس له ذلك. الأحكام السلطانية للماوردي، ص: 240، الأحكام السلطانية لأبي يعلي ص: 268، معالم القربة لابن الأخوة ص: 11، نصاب الاحتساب للسنامي ص: 322. (¬3) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 30/ 207.

يجوز له أخذ العوض على الحسبة مطلقًا، وذلك لكفايته ولكون الحسبة في حقه فرض عين، ولا يجوز أخذ العوض على فرض العين كالقاضي والمفتي إذا تعين عليهما القضاء والإفتاء بجامع الولاية في كلّ من هذه المناصب (¬1). فإذا لم يكن لوالي الحسبة رزق من بيت المال، لعدم وجود المال أو لتعذره لأي سبب كان، فهل يجوز في هذه الحالة للمحتسب أخذ الأجرة على عمله من عامة النَّاس أم لا (¬2)؟. الّذي يظهر أن القول في هذه المسألة كالقول في مسألة المفتي، وقد تقدّم ذكر الأقوال والأدلة والراجح فيها وخلاصة ذلك: أن المحتسب إذا لم، تكن له كفاية من بيت المال، فلأهل البلد أن يجعلوا له رزقًا من أموالهم؛ لأنّه يعمل لمصلحتهم فكانت كفايته في أموالهم. فإن تعذر ذلك فله حينئذ أخذ الأجرة على عمل الحسبة للحاجة والضرورة (¬3)، فإن الفقير إذا قام بواجب الحسبة وإنّما أخذ الأجرة لحاجته إلى ذلك، وليستعين بذلك على طاعة الله، فالله بأجره على نيته، فيكون قد أكل طيبا وعمل صالحا (¬4)، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) انظر لبيان وجه الإلحاق: المبسوط للسرخسي 3/ 18، الفروق للقرافي 3/ 4، روضة الطالبين للنووي 11/ 138 , مغني المحتاج للشربيني 4/ 390، الأحكام السلطانية لأبي يعلي ص: 269، مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 28/ 576. (¬2) لم أقف للأئمة على نصّ في هذه المسألة سوى الحنفية، قد نصوا على عدم جواز الاستئجار على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما في المبسوط للسرخسي 11/ 17. (¬3) وهذا الّذي رجحه واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية فيما يتعلّق بأخذ الأجرة على القرب. وانظر: 30/ 206 - 207، 24/ 315 - 316. (¬4) انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 24/ 316.

الخاتمة

الخاتمة

الخاتمة الحمد لله، الّذي يسر بكرمه ومنه، إنجاز هذا البحث، وأعان بقدرته على تجاوز عقباته، وما عرض من صعابه، فالحمد لله الّذي بنعمته تتم الصالحات. وفي هذه الخاتمة - نسأل الله حسنها - أذكر ملخصًا لهذه الرسالة يعطي فكرة واضحة عن مضمونها، ومن خلال ذلك أبرز أهم النتائج الّتي توصلت إليها من خلال البحث في هذا الموضوع، والتي يغلب على ظني أنّها جديرة بالذكر في هذا المقام. وهذه النتائج -في الحقيقة- تكشف عن سمات هذا البحث وأصوله العامة، وتعطي للقارئ تصورًا عامًا وسريعًا عما حوته هذه الرسالة، وبيان ذلك على النحو التالي: 1 - لا تخفى أهمية المال في حياة النَّاس، ولهذا كان لا بد له من مفهوم واضح بينهم، ونظرًا لتنوعه وكثرة أشكاله وصوره في حياة النَّاس فقد ترك الشارع تحديد مفهومه لعرف النَّاس في تعاملاتهم فكل ما عد في العرف مالًا فهو المال. 2 - المال في الاصطلاح الفقهي شامل للأعيان والمنافع على السواء كما ذهب إليه جمهور الفقهاء، وخالفهم في ذلك الحنفية، والحق هو ما ذهب إليه الجمهور، لكون المنافع هي المقصودة من الأعيان، ولولاها ما طلبت، ولأنّه يمكن حيازتها بحيازة أصلها. ولأن الأخذ بهذا المفهوم للمال، يجعل دائرته تتسع في هذا العصر لتشمل الحقوق المعنوية كحق الابتكار والاختراع والحقوق الذهنية وغيرها.

3 - أنواع المال المأخوذ على القرب كثيرة من أهمها: الرزق -بالفتح والكسر في الراء- والأجرة، والجعالة، والهدية، والوقف، والوصية، والزكاة، ويختلف حكم المال المأخوذ على القرب باختلاف هذه الأنواع على تفصيل في ذلك سبق بيانه. 4 - الرزق هو من أهم أنواع المال المأخوذ على أعمال القرب، وهو -في الجملة- جائز بالاتفاق، إِلَّا أنّه وقع فيه خلاف في بعض المسائل كالقضاء وغيره وذلك لمدارك أخرى. 5 - الرزق بمفهومه الخاص عند الفقهاء: (هو ما يرتبه الإمام من بيت المال لمن يقوم بمصالح المسلمين) وهذا النوع من الأزاق خاص بما يؤخذ من بيت المال إِلَّا أن الرزق تتسع دائرته لتشمل ما كان من بيت المال وما كان من غيره نحو ما يؤخذ من الجمعيات الخيرية وبعض الأفراد على أعمال القربة كتدريس القرآن والدعوة ونحو ذلك، ولهذا كان لا بد من تعريف الرزق بمعناه العام وهو أنّه: "ما يأخذه المسلم، إعانة له على أعمال القرب الّتي يتعدى نفعها للمسلمين". 6 - الإجارة من أكثر أنواع المال المأخوذ على القرب أهمية نظرًا لكثرة الخلاف فيها في جلَّ الأبواب، ولهذا قمت ببيأنّها بتحديد معناها في اللُّغة والاصطلاح، وبيان حكمها وأقسامها وشروطها لتعلّق ذلك كله بمباحث الرسالة. 7 - الجعالة صحيحة ومشروعة، خلافًا للحنفية، الذين عدوها من أنواع الإجارة الفاسدة أو الباطلة، وهي من المعاوضات المأخوذة على القرب، وإن اختلفت عن الإجارة في أشياء كثيرة، من كونها تصح مع جهالة العمل، والعامل، وكونها عقد جائز لا لازم وغير ذلك من الفروق. 8 - الهِبَة والوقف والوصية ونحوها ممّا يؤخذ على القرب تعد في حقيقتها في معنى الأرزاق للإعانة على الطّاعة، وليست في معنى العوض، إِلَّا أن الهدية، قد تأخذ معنى العوض إذا كانت بسبب ولاية من الولايات الشرعية، فحينئذ تحرم على الصحيح. وقد تأخذ حكم الجواز إذا لم تكن بسبب الولاية، والأولى تركها.

9 - بيت المال، وهو الجهة الّتي تختص بكل ما يردّ إلى الدولة أو يخرج منها ممّا يستحقه المسلمون من مال، وهو يشبه في هذا العصر ما يسمى بوزارة المالية أو الخزانة، وبيت المال يمثله إمام المسلمين أو من يعهد إليه بذلك. ولبيت المال موارد كثيرة منها الفيء وزكاة الأموال الظاهرة وخمس الخارج من الأرض من معدن، وهذا الخارج من البحر وغير ذلك من الموارد الّتي سبق بيانها. 10 - ولبيت المال مصارف كثيرة ومتنوعة بحسب تنوع المال الموجود فيه. فالأموال الزكوية والصدقات مصرفها لمن سمى الله في كتابه، وهم الأصناف الثمانية المنصوص عليها. وأهم مصرف فيه هو الفيء حيث يصرف منه كلّ ما يتعلّق بالمصالح العامة للمسلمين كعطاء الجند وأرزاقهم، وتكاليف الجهاد، والمصالح العامة للبلد من مساجد وطرق ومدارس ونحو ذلك، ورواتب الموظفين الذين يحتاج إليهم المسلمون في أمورهم العامة كالقضاة والمفتين والمحتسبين والأئمة والمؤذنين والمدرسين ونحوهم ممّن فرغ نفسه لمصالح المسلمين. 11 - القربة الشرعية هي ما يتقرب به إلى الله، وهذا هو المفهوم الراجح لمعنى القربة، فإن للعلّماء في تحديد معنى القربة اتجاهين: اتجاه يرى أن القربة هي نفس الشيء المتقرب به إلى الله، والاتجاه الآخر على أن القربة هي نفس فعل التقرب، دون النظر إلى ذات القربة من حيث هي. 12 - هناك فرق بين القربة وبين الطّاعة والعبادة، فالطاعة أعم من القربة ومن العبادة، فكل قربة أو عبادة طاعة ولا ينعكس، والقربة أعم من العبادة فكل عبادة قربة ولا ينعكس. 13 - القرب تتنوع من حيث حكمها التكليفي، ومن حيث العموم والخصوص، ومن حيث اشتراط النيّة فيها وعدمه، ومن حيث تعدي نفعها فاعلها وعدم تعديه،

فهناك قرب عامة، وقرب خاصّة، وهناك قرب يشترط فيها النية، وقرب لا يشترط فيها ذلك وهكذا. 14 - لا يجوز إجماعًا، الاستئجار على الصّلاة عن الحي سواء أكانت صلاة واجبة، أم كانت صلاة تطوع، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المرء قد تركها متعمدًا أم تركها لعذر، وسواء أكان حين تركها صحيحًا أم مريضًا. 15 - الصلوات المنذورة الّتي تركها الميِّت ولم يوف بها، يجوز على الراجح من أقوال الفقهاء قضاؤها عن الميِّت بأجرة، إذا لم يؤدها الولي عنه ولم يتبرع أحد بأدائها عنه، وعليه فإن اللإنسان إذا أوصى قبل موته، بقضاء ما وجب في ذمته من صلاة نذر، وكان له تركه استؤجر من تركته من يقضي هذه الصلوات عنه. 16 - إذا وجد متطوع بالأذان والإقامة حسبة لله تعالى، فإنّه لا يجوز في هذه الحالة إرزاق غيره من بيت المال ولا الاستئجار على هذه الشعيرة العظيمة، فإن عُدم المتطوع جاز أخذ الرزق على الأذان حينئذ، وأمّا الأجرة فالصحيح الراجح من أقوال الفقهاء أنّه لا يجوز الاستئجار على الأذان واللإقامة إِلَّا للحاجة أو الضّرورة، وهي خشية تعطل هذه الشعيرة، وحاجة المؤذن لقوته الواجب. 17 - لا خلاف بين الفقهاء أن ما يعطاه الإمام في الصلوات، من غيرشرط أن ذلك جائز، سواء أكان ذلك رزقًا من بيت المال، أم وقفًا، أم هدية أم نحو ذلك ممّا يكون على سبيل البرّ والصلة واللإحسان، فإن لم يتيسر ذلك، فإنّه لا يجوز الاستئجار على إمامة الصلوات إِلَّا للحاجة أو الضّرورة كما سبق في الأذان. 18 - عمارة المساجد وصيانتها من أجل القرب إلى الله تعالى، وقد اتفق الفقهاء على جواز الاستئجار على ذلك. 19 - لا يجوز باتِّفاق الفقهاء الاستئجار على صلاة الجنازة أمّا تجهيز الميِّت ودفنه، فإنّه إنَّ كان فرض كفاية، جاز الاستئجار عليه، وإن تعين فإنّه لا يجوز ذلك.

20 - النيابة في العبادات الّتي لها تعلّق بالمال كالزكاة والصدقات والمنذورات والكفارات، ونحوها تصح النيابة فيها بالاتفاق. 21 - العاملون على الزَّكاة هم من يوليهم الإمام جمع الزَّكاة والقيام عليها، حتّى تصل إلى مستحقها، وهؤلاء يستحقون العوض على عملهم على قدرعنائهم وعملهم وسعيهم، باتِّفاق الفقهاء؛ لأنّهم أحد الأصناف الزكوية، وما يأخذونه إنّما هو أجرة عمله وليس رزقًا على الصحيح من أقوال الفقهاء رحمهم الله تعالى، ولهذا فإنهم يأخذون من الزَّكاة وإن كانوا أغنياء باتِّفاق الفقهاء. 22 - لا يجوز للعامل على الزَّكاة قبول هدية أرباب الأموال الزكوية بالاتفاق سواء أذن له الإمام أم لا، وسواء كان للمهدي عادة بإهداء العامل قبل ولايته أم لا، على الصحيح. 23 - الحي القادر على الصِّيام بنفسه، لا يجوز بالإجماع النيابة عنه في فعله، أمّا إنَّ كان عاجزًا، سواء أكان عجزه عجزًا دائمًا أم موقتًا، فهذا لا تجوز النيابة عنه كذلك بالإجماع، سواء أكان ذلك في الصوم الواجب أم في صوم التطوع. 24 - أجمع العلماء على عدم صحة الإجارة على صوم الفرض عن الحي العاجز عن الصوم بنفسه، سواء أكان عجزه دائمًا أم موقتًا، وكذلك اتفقوا على عدم جواز الاستئجار على صوم التطوع عن العاجز، ولم يخالف في ذلك سوى ابن حزم فقال: بالجواز، وهو قول مردود. 25 - إذا مات المسلم وقد وجب عليه صوم سواء أكان صومًا من رمضان أم من نذر أم من كفارة فله حالتان: الأولى: أن يموت قبل تمكنه من صيام ما وجب عليه لعذر شرعي ففي هذه الحالة لا شيء عليه، وتبرأ ذمته بذلك. الثّانية: أن يموت بعد تمكنه من صيام ما وجب عليه، ولكنه فرط في الصِّيام إلى أن أدركه الموت، وفي هذه الحالة فإن الراجح من أقوال الفقهاء أنّه يستحب لوليه

قضاء ما وجب عليه من صيام، سواء أكان صومًا من رمضان أم من نذر أم من كفارة، وكذلك تصح نيابة الأجنبي عنه كما تصح من الولي. 26 - تصح الإجارة على الصوم الواجب على الميّت بالنذر فقط دون غيره من الصوم الواجب بأصل الشّرع، على الصحيح من أقوال الفقهاء. 27 - الاعتكاف عبادة بدنية محضة لا تصح النيابة فيها عن الحي باتِّفاق الفقهاء، أمّا عن الميِّت فإنّه يستحب للولي النيابة عنه في قضاء ما وجب عليه من الاعتكاف، وعليه فإنّه لا يصح الاستئجار على الاعتكاف عن الحي بالاتفاق، أمّا عن الميِّت فالصحيح جواز ذلك. 28 - أجمع العلماء على أن الحي القادر المستطيع للحج بنفسه وماله لا يجوز له أن يستنيب غيره في الحجِّ الواجب، بل يجب عليه أن يحج بنفسه، فإن كان الحجِّ تطوعًا جاز له أن يستنيب على الصحيح. وأمّا العاجز عجزًا دائمًا بنفسه وماله، فهذا لا حج عليه أصلًا فلا يلزمه استنابة غيره للحج عنه، فإن عجز عن الحجِّ ببدنه عجزًا دائمًا ولكنه يملك المال الّذي يكفي للحج، ووجد من ينوب عنه في الحجِّ، فالصحيح الراجح من أقوال الفقهاء أنّه يجب عليه أن يستنيب غيره ليحج عنه الحجِّ الواجب عليه. فإن كان عجزه مؤقتا فقد اتفق الفقهاء على أنّه لا يجب عليه الاستنابة فإن استناب غيره حال عجزه، فالصحيح أن الاستنابة لا تصح في هذه الحالة وإن صح لزمه الحجِّ بنفسه. أمّا في حج التطوع فإنّه يجوز للعاجز سواء كان عجزه دائمًا أم مؤقتًا أن يستنيب غيره ليحج عنه حج التطوع على الصحيح من أقوال الفقهاء. 29 - الميِّت إذا أوصى أن يحج عنه بعد موته، فإنّه يجوز في هذه الحالة النيابة عنه في أداء ما وجب عليه من حج واجب، وذلك باتِّفاق الفقهاء، لا خلاف بينهم في ذلك، أمّا إذا مات ولم يوص بما وجب عليه من حج واجب، فالصحيح من أقوال

الفقهاء أنّه يلزم ورثته أن يقيموا من يحج عنه من رأس ماله فإن تطوع أحد بالحج عنه جاز ذلك. أمّا حج التطوع عن الميِّت فالصحيح جواز النيابة عنه مطلقًا في ذلك سواء أوصى بذلك أم لم يوص. 30 - المال المأخوذ على الحجِّ عن الغير، أنواع ثلاثة: الأوّل: النفقة: فإن حج أحد عن الميِّت بنفقته مدة حجه، فإن هذا جائز بالاتفاق، والحاج في هذه الحالة يكون نائبًا محضًا. الثّاني: الجعالة: وهي جائزة على الحجِّ على الراجح من قولي الفقهاء، فإن قال له: حج عني ولك ألف، أو من حج عنه فله كذا، فإن حج عنه استحق الجعل على الصحيح كما سبق. الثّالث: الإجارة: الإجارة على الحجِّ والعمرة عمن تصح النيابة عنه صحيحة وجائزة على الراجح من أقوال الفقهاء، ولكن ينبغي أن يكون قصد النائب هو الإحسان إلى المحجوج عنه، وتحصيل النفقة المشروعة، لا أن يكون قصده من الحجِّ هو الاكتساب بذلك فقط. 31 - أجمع العلماء على صحة النيابة في ذبح الهدي والأضاحي، وعليه فإن الاستئجار على ذبح الهدي أو الأضاحي، جائز بالاتفاق إذا كانت أجرة الجازر من غيرها، أمّا إذا كانت أجرته منها بأن يأخذ لحمًا أو نحوه في مقابل عمله، فالذي عليه جمهور العلماء أن ذلك لا يجوز للنص والمعقول. 32 - يجوز للمجاهدين والمرابطين في الثغور الأخذ من الزَّكاة قدر حاجتهم وجهادهم، وهذا محل اتفاق بين الفقهاء. كما يجوز للمجاهدين أخذ الرزق أو العطاء من بيت المال قدر كفايتهم وكفاية من يعولون وهذا بالاتفاق، ونقل بعضهم الإجماع على ذلك.

33 - الاستئجار على الجهاد إذا كان فرض عين لا يجوز بالاتفاق أمّا إذا كان فرض كفاية فلا يجوز كذلك على الصحيح، سواء أكان المستأجر هو الإمام أم غيره من الرعية، وسواء أكان الأجير ممّن يلزمه الجهاد في الأصل وهو المسلم الحر أم كان لا يلزمه الجهاد أصلًا كالعبد والمرأة. 34 - الجعل على الجهاد إذا كان على معنى النفقة في سبيل الله، فإنّه في هذه الحالة يكون من الجهاد بالمال، وحكمه حكم الجهاد بالنفس فقد يكون فرض عين أو فرض كفاية, وقد جاء الشّرع بالترغيب فيه والحض عليه، وهو من أعظم القرب إلى الله تعالى. أمّا إذا كان الجعل على معنى المعاوضة، فحكمه حكم الإجارة سواء بسواء على ما سبق بيانه. 35 - تعليم القرآن الكريم بغير أجرة من أفضل القرب إلى الله تعالى، وهذا محل اتفاق بين الفقهاء، فإن أخذ المعلم الرزق على ذلك من بيت المال، جاز ذلك بالاتفاق. أمّا الأجرة على تعليم القرآن، فالراجح أنّها تجوز للحاجة والضرورة. 36 - أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن الكريم جائز بالاتفاق، والأصل في ذلك قوله - صلّى الله عليه وسلم -: "إنَّ أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله). 37 - الصحيح من قول العلماء أن قراءة القرآن يصل ثوابها للميت، وهو مذهب جمهور السلف، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه تعالى وتلميذه الإمام ابن قيم الجوقلة. 38 - لا يجوز الاستئجار على تلاوة القرآن الكريم للأموات وهذا الّذي عليه جمهور أهل العلم، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. 39 - أجمع العلماء على استحباب كتابة المصحف وتحسين كتابته وأن من قام بذلك حسبة لله تعالى، فإن عمله هذا من أفضل القربات إلى الله تعالى.

فإن أخذ الكاتب أجرة على ذلك، فالذي يظهر من كلام الفقهاء جواز ذلك بلا خلاف، وقد نقل بعض أهل العلم الإجماع على جواز ذلك. 40 - بيع المصحف وشرائه جائز على القول الراجح من قولي الفقهاء لدعاء الحاجة لذلك، ولعموم الأدلة الدالة على حل البيع والشراء، والبيع إنّما وقع على الورق والجلد والطباعة ونحو ذلك. وأمّا بيع المصحف للكافر فالصحيح بطلان ذلك وأنّه لا يجوز. 41 - يجوز لطالب العلم أخذ الرزق من بيت المال بلا خلاف، كما يجوز له الأخذ من الزَّكاة إنَّ كان فقيرًا بالاتفاق، أمّا إذا كان غنيًا فالصحيح أنّه لا يجوز له الأخذ منها. 42 - طالب العلم الشرعي الّذي لا يتفرغ للكسب لانشغاله بالعلّم، تجب له النفقة وإن كان قادرًا على الكسب. 43 - تعليم العلوم الشرعية احتسابًا من أفضل القرب، ولكن إن أخذ المعلم الرزق من بيت المال فإن ذلك جائز بالاتفاق. وأمّا الاستئجار عليه فالكلام في هذه المسألة كالكلام في مسألة الاستئجار على تعليم القرآن الكريم، وهو الجواز للحاجة والضرورة. 44 - يجوز أخذ العوض المالي على التأليف والتحقيق في العلوم الشرعية، ويعد حق التأليف والنشر من الحقوق المصونة شرعًا ولأصحابها حق التصرف فيها ولا يجوز الاعتداء عليها. 45 - عقد الضمان المالي من عقود الإرفاق والإحسان والتبرعات لا يجوز أخذ العوض عليه سواء أكان ذلك أجرة أم جعالة وهذا باتِّفاق الفقهاء رحمهم الله تعالى. ومن التطبيقات المعاصرة لهذا العقد ما تقوم به البنوك من معاملات مبينة على هذا العقد ومن ذلك: خطاب الضمان والاعتماد المستندي، فإذا كان ما يأخذه البنك على هذه المعاملات هي مصروفات إدارية فهذا لا حرج فيه.

أمّا أخذ المال في مقابل ما يقوم به البنك من ضمان للعميل، فالصحيح أنّه لا يجوز للبنك أخذ عموله أو فائدة أو أجرة مقابل الضمان، لكون الضمان في الأصل من عقود الإحسان ولأن الفائدةُ الّتي يأخذها البنك ربًا فلا يحل له ذلك. 46 - الوديعة عند الفقهاء من عقود الإحسان والإرفاق، والأصل فيها أن يقوم بها الإنسان احتسابًا لوجه الله تعالى، فإن شرط أجرة على حفظها وحرزها فالصحيح عدم جواز ذلك لأنّها معروف وإحسان. 47 - الودائع المصرفية في حقيقتها هي قروض من العميل للبنك فأي فائدة يدفعها البنك للعميل فإنها ربا محرم لا يجوز، فإن كانت لأجل ففيها ربا الفضل وربا النسيئة، وإن كانت ودائع جارية ففيها ربا الفضل، فإن لم يأخذ العميل عليها فائدة، فلا تخلوا من محاذير شرعية كثيرة أخرى. 48 - القرض من أهم عقود الإحسان والإرفاق والتبرع، وقد أجمع العلماء على أن المقرض إذا شرط زيادة أو هدية أو منفعة على القرض أن ذلك يكون ربًا، ويترتب على ذلك فساد عقد القرض. أمّا إذا كان القرض على سبيل الإحسان والبر، ثمّ قام المقترض برد أفضل أو أكثر من القرض فالصحيح جواز ذلك، إذا لم يكن عن شرط أو جرى بذلك عرف. 49 - الناظر على الوقف يستحق الأجرة على عمله فإذا شرطها له الواقف وحدد لها مقدارًا استحق ما حدده له كثيرًا كان أو قليلًا، فإذا لم يحدد له الواقف أجرة، فإنّه لا يأخذ أجرته إِلَّا بإذن القاضي، ما لم يكن معروفًا بأخذ الأجرة على مثل هذه الأعمال، وتقدر أجرته في هذه الحالة بأجرة المثل. 50 - للوصي على اليتيم أن يأكل من ماله بالمعروف إنَّ كان فقيرًا فإن كان غنيًا فلا يجوز له ذلك، وما يأكله يكون على سبيل الإباحة فيملكه بذلك، فإن طلب الوصي أجرة على عمله وقيامه على شئون اليتيم جاز ذلك وتقدر الأجرة بأجرة المثل.

51 - أجمع العلماء على أن ولي أمر المسلمين تجب له النفقة ولعياله بالمعروف من بيت مال المسلمين، وكل ما يستلزمه ذلك المنصب من نفقة فإن ذلك في بيت المال. 52 - للقاضي أخذ الرزق من بيت المال إنَّ كان فقيرا بالاتفاق، أمّا إنَّ كان غنيًا فالصحيح جواز ذلك أيضًا، أمّا إذا كان الرزق من الخصوم، فإن كانت له كفاية فلا يجوز له الأخذ من الخصوم، فإن كان فقيرًا فله الأخذ إذا كان الاكتساب يقطعه عن القضاء وذلك وفق شروط محددة، أمّا الاستئجار على القضاء فالصحيح أن ذلك لا يجوز مطلقًا، وكذلك الهدية إذا كانت بسبب الولاية. 53 - أعوان القاضي يجوز لهم أخذ الرزق من بيت المال، أمّا إذا عدم الرزق فإنّه يجوز لهم أخذ الأجرة على أعمالهم من الخصوم. 54 - المأذون الشرعي لعقود الأنكحة، إذا كان مفرغًا لهذا العمل من قبل الإمام فله رزقه من بيت المال كبقية أعوان القاضي، وإلا جاز له أخذ الأجرة على عمله من العاقد ما لم يكن متبرعًا بعمله فلا يجوز له ذلك. 55 - القسام له أخذ الرزق من بيت المال باتِّفاق الفقهاء، فإن تعذر رزقه من بيت المال، جاز له أخذ الأجرة على عمله ممّن يريدون القسمة، سواء أكان هو قسام القاضي أم قسام الشركاء. 56 - يجوز للشاهد إنَّ كان فقيرًا أخذ النفقة الّتي يحتاجها لإقامة الشّهادة وذلك بلا خلاف بين الفقهاء، فإذا كان الشّاهد غنيًا، فالصحيح أنّه لا يجوز له أخذ النفقة الّتي تتطلبها الشّهادة ممّن شهد له لوجوبها عليه. أمّا الرزق من بيت المال فإنّه يجوز للشاهد أخذه على تحمل الشّهادة وأدائها باتِّفاق الجمهور، بخلاف الأجرة على الشّهادة فإنّه لا يجوز للشاهد أخذ الأجرة على الشّهادة على الراجح من أقوال الفقهاء.

57 - الإفتاء من أهم المناصب الشرعية، فإذا فرغ الإمام من يقوم بهذا المنصب فإن كان فقيرًا فله أخذ الرزق على عمله من بيت المال بالاتفاق، أمّا إذا كان المفتي غنيًا فالصحيح جواز ذلك أيضًا. أمّا أخذ الأجرة على الإفتاء من المستفتين، فلا يجوز ذلك مطلقًا إِلَّا إذا كانت الفتوى كتابةً فتجوز الأجرة عليها حينئذ؛ لأنّ الكتابة لا تلزمه على الصحيح. 58 - الحسبة من أهم الوظائف الدينية وأشرف الولايات الشرعية، وقد اتفق الفقهاء على جواز أخذ الرزق من بيت المال على الحسبة، أمّا الأجرة على ذلك فإن كان له رزق من بيت المال فلا يجوز له أخذ الأجرة على عمله، فإن لم يكن له رزق، فلأهل البلد أن يعطوه كفايته مجازاة له على إحسانه إليهم، وإلا جاز له أخذ الأجرة على عمله للحاجة والضرورة ليستعين بها على عمله ويقضي بها حاجته الضرورية، فيكون قد أكل طيبًا وعمل صالحًا، والله تعالى أعلم. وبعد هذا السَّرد لمحتوى الرسالة بإيجاز شديد تكون الرسالة قد أتت على نهايتها، وأكون قد أنجزت بعون الله تعالى وتوفيقه ما خططت لبحثه ودراسته وهنا أكرر ما سبق أن قلته: أن هذا جهدي ومستطاعي، فما فيه من صواب فمن الله وحده، وما كان فيه من خطأ فمن نفسي ومن الشيطان، وأستغفر الله من ذلك وأتوب إليه. والحمد لله الّذي بنعمته تتم الصالحات وصلّى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا كثيرًا.

فهرس المصادر والمراجع

فهرس المصادر والمراجع 1 - الإجارة الواردة على عمل الإنسان للدكتور شرف بن علي الشريف، دار الشروق، جدة، الطبعة الأولى، 1400 هـ 2 - الإجماع لأبي بكر بن محمَّد بن إبراهيم بن المنذر (ت: 318 هـ) تحقي: أبو حماد صفير أحمد بن محمَّد حنيف، دار طيبة، الرياض، الطبعة الأولى 1402 هـ 3 - أحكام الأوراق النقدية والتجارية في الفقه الإِسلامي لستر بن ثواب الجعيد، مكتبة الصديق، الطائف، الطبعة الأولى، 1413 هـ 4 - أحكام الأوقاف لأبي بكر أحمد بن عمرو الخصاف (ت: 261 هـ)، مطبعة ديوان عموم الأوقاف المصرية، الطبعة الأولى، 1322 هـ 5 - أحكام الجنائز لمحمد ناصر الدِّين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى، 1412 هـ. 6 - الأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلي محمَّد بن الحسين الفراء، تحقيق: محمَّد حامد الفقي، دار نشر الكتب الإِسلامية، لاهور باكستان. 7 - الأحكام السلطانية والولايات الشرعية لأبي الحسن علي بن محمَّد الماوردي (ت: 455 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت، 1398 هـ 8 - أحكام القرآن لأبي بكر أحمد بن علي الجصاص (ت: 370 هـ)، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 9 - أحكام القرآن لأبي بكر محمَّد بن عبد الله بن العربي، تحقيق: علي محمَّد البجاوي، دار المعرفة، بيروت. 10 - أحكام القرآن لعماد الدِّين بن محمَّد الطّبريّ المعروف بالكيا الهراسي (ت: 504 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1403 هـ 11 - أحكام المعاملات الشرعية للشيخ: علي الخفيف، دار الفكر، بيروت.

12 - أحكام الوقف في الشّريعة الإِسلامية للدكتور محمَّد عبيد عبد الله الكبيسي، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1397 هـ. 13 - الأحوال الشخصية في الشّريعة الإِسلامية لعبد العزيز عامر، دار الفكر العربي، القاهرة، 1381 هـ. 14 - أدب القاضي لأبي العباس أحمد بن أحمد الطّبريّ المعروف بابن القاص (ت: 335 هـ)، تحقيق: د. حسين بن خلف الجبوري، مكتبة الصديق الطائف، الطبعة الأولى، 1409 هـ. 15 - الأذكار ليحيى بن شرف النووي (ت: 676 هـ)، تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط، دار الهجرة، الرياض، الطبعة السّادسة، 1417 هـ 16 - أسدّ الغابة في معرفة الصّحابة لعز الدِّين ابن الأثير أبي الحسن علي بن محمَّد الجزري (ت: 630 هـ) تحقيق علي محمَّد معوض، عادل عبد الموجود، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى. 17 - أسنى المطالب شرح روض الطالب لأبي يحيى زكريا الأنصاري الشّافعيّ (ت: 926 هـ)، دار الكتاب الإِسلامي، القاهرة. 18 - الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشّافعيّة لجلال الدِّين عبد الرّحمن ابن أبي بكر السيوطيّ (ت: 911 هـ)، تحقيق: محمَّد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1407 هـ 19 - الأشباه والنظائر لتاج الدِّين عبد الوهّاب بن علي بن عبد الكافي السبكي (ت: 771 هـ) تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمَّد معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1411 هـ 20 - الأشباه والنظائر لزين العابدين بن إبراهيم بن نجيم، دار الكتب العلمية، بيروت 1405 هـ.

21 - الأشباه والنظائر لمحمد بن عمر بن مكي المعروف بابن الوكيل (ت: 716 هـ)، تحقيق: د. أحمد بن محمَّد العنقري، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، 1413 هـ. 22 - الأصل (المبسوط) لمحمد بن الحسن الشيباني (ت: 189 هـ)، تحقيق: أبو الوفاء الأفغاني، إدارة القرآن والعلّوم الإِسلامية، كراتشَي، باكستان. 23 - أصول فقه الإمام مالك النقلية، للدكتور عبد الرّحمن بن عبد الله الشعلان، رسالة دكتوراه من كلية الشّريعة بالرياض، قسم أصول الفقه، 1411 هـ 24 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن لمحمد الأمين الشنقيطي، مكتبة ابن تيمية،1413 هـ. 25 - الأعلام لخير الدِّين الزركلي، دار العلم للملابين، بيروت، الطبعة العاشرة، 1992 م. 26 - الأم لمحمد بن إدريس الشّافعيّ (204 هـ)، دار المعرفة، بيروت. 27 - الأمنية في إدراك النية لأحمد بن إدريس القرافي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1404 هـ 28 - الأنساب لأبي سعيد عبد الكريم بن محمَّد التميمي السمعاني (ت: 562 هـ) تحقيق: عبد الله عمر البارودي، دار الجنان، بييوت، الطبعة الأولى، 1408 هـ. 29 - أحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد، محمَّد بنعلي بن وهب القشير (ت: 702 هـ) تحقيق: محب الدِّين الخطيب، وعلي بن محمَّد الهندي، المكتبة السلفية بالقاهرة، الطبعة الثّانية 1409 هـ 30 - الأحكام في أصول الأحكام لعلّي بن محمَّد الآمدي، تحقيق: عبد الرزّاق عفيفي، المكتب الإِسلامي، بيروت، الطبعة الثّانية، 1402 هـ.

31 - إحياء علوم الدِّين لأبي حامد، محمَّد بن محمَّد الغزالي (ت: 505 هـ) تحقيق: سيد إبراهيم، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الأولى، 1412 هـ 32 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل لمحمد ناصر الدِّين الألباني، المكتب الإِسلامي، بيروت، الطبعة الثّانية، 1405 هـ. 33 - الإسعاف في أحكام الأوقاف لبرهان الدِّين إبراهيم بن موسى بن أبي بكر الطرابلسي (ت: 922 هـ)، المطبعة التجارية الكبرى, القاهرة. 34 - الإَشراف على مذاهب العلماء للإمام محمَّد بن إبراهيم بن المنذر (ت: 318 هـ)، تحقيق: محمَّد نجيب سراج الدِّين، إدارة إحياء التراث الإِسلامي بدولة قطر، الطبعة الأولى، 1406 هـ. 35 - الإصابة في تمييز الصّحابة لأحمد بن علي بن محمَّد بن حجر العسقلاني، دار الكتاب العربي، بيروت. 36 - إعانة الطالبين لأبي بكر بن محمَّد شطا الدمياطي، مكتبة محمَّد سعيد وعبد الرسول فدا، مكّة المكرمة. 37 - إعلاء السنن لظفر أحمد العثماني التهانوي (ت: 1394 هـ)، تحقيق: محمَّد تقي العثماني، إدارة القرآن والعلّوم الإِسلامية، كراتشي، باكستان، الطبعة الثّالثة، 1415 هـ. 38 - الإعلام بفوائد عمدة الأحكام لأبي حفص عمر بن علي بن أحمد الأنصاري الشّافعيّ ابن الملقن (ت: 804 هـ)، تحقيق: عبد العزيز بن أحمد بن محمَّد المشقح، دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى، 1417 هـ 39 - إعلام الساجد بأحكام المساجد لمحمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي الشّافعيّ (ت: 794 هـ)، تحقيق: أبو الوفا مصطفى المراغي، المجلس الأعلى للشؤون الإِسلامية، القاهرة، الطبعة الثّانية، 1403 هـ

40 - إعلام الموقعين عن رب العالمين لشمس الدِّين أبي عبد الله محمَّد بن أبي بكر بن قيم الجوزي (ت: 751 هـ)، تحقيق: محمَّد محيي الدِّين عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت، 1407 هـ. 41 - إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لمحمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية (ت: 751 هـ)، حقيق: محمَّد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت. 42 - إفادة الطلاب بأحكام القراءة على الموتى ووصول الثّواب لمحمد بن أحمد الأهدل، مكتبة النهضة الحديثة، مكّة المكرمة، الطبعة الرّابعة، 1402 هـ 43 - إقامة الدّليل والبرهان على تحريم أخذ الأجرة على تلاوة القرآن للشيخ محمَّد بن عبد العزيز المانع (ت: 1385 هـ)، المكتب الإِسلامي، بيروت، الطبعة الرّابعة، 1399 هـ. 44 - الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع لمحمد بن أحمد الخطيب الشربيني (ت: 977 هـ)، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأخيرة، 1451 هـ، وهو مطبوع مع حاشية البجيرمي. 45 - الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل لأبي النجا شرف الدِّين موسى الحجاوي (ت: 968 هـ)، تحقيق: عبد اللطيف السبكي، دار المعرفة، بيروت. 46 - الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد حنبل لعلّاء الدِّين علي بن سليمان المرداوي (ت: 885 هـ)، تحقيق: محمَّد حامد الفقي، مكتبة السُّنَّة المحمدية، ومكتبة ابن تيمية، القاهرة، الطبعة الأولى 1374 هـ. 47 - الإيثار بالقرب دراسة تأصيلية تطبيقية للدكتور الشّيخ/ صالح بن عثمان الهليل مطبوع بالحاسوب، 1418 هـ 48 - إيضاح الأحكام لما يأخذ العمال والحكام لابن حجر الهيتمي الشّافعيّ، تحقيق: د. حسين بن محمَّد آل الشّيخ، رسالة دكتوراه، المعهد العالي للقضاء بالرياض 1408 هـ.

49 - اختلاف الحديث (مع مختصر الزني) لمحمد بن إدريس الشّافعيّ (ت: 204 هـ)، د ار المعرفة، بيروت. 50 - الاختيار لتعليل المختار لعبد الله بن محمود بن مودود الموصلّي (ت: 683 هـ) تحقيق: محمود أبو دقيقة، المكتبة الإِسلامية، استانبول- تركيا، الطبعة الثّانية 1370 هـ. 51 - الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، اختيار العلّامة علاء الدِّين أبو الحسن علي بن محمَّد البعلي الحنبلي، تحقيق: محمَّد حامد الفقي، مكتبة السُّنَّة المحمدية، مصر. 52 - الاستذكار لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البرّ النمري (ت: 463 هـ)، تحقيق: د. عبد المطعي أمين قلعي، دار قتيبة، دمشق، ودار الوعي، حلب والقاهرة، الطبعة الأولى، 1413 هـ 53 - الاستعانة بغير المسلمين في الفقه الإِسلامي للدكتور عبد الله بن إبراهيم الطريقي، الرياض، الطبعة الأولى، 1409 هـ 54 - الاستيعاب في أسماء الأصحاب لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البرّ القرطبي، دار الكتاب العربي، بيروت. 55 - الاعتصام لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي (ت: 790 هـ)، تحقيق: سليم بن عيد الهلالي، دار ابن عفان. 56 - البحر الرائق شرح كنز الدقائق لزين الدِّين إبراهيم بن محمَّد بن بكر بن نجيم (ت: 970 هـ)، دار الكتاب الإِسلامي، القاهرة، الطبعة الثّانية. 57 - البحر المحيط في أصول الفقه لبدر الدِّين ممد بن بهادر الرزكشي (ت: 794 هـ)، تحقيق: عبد القادر العاني، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الكويت، الطبعة الثّانية، 1413 هـ.

58 - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لعلّاء الدِّين أبي بكر بن مسعود الكاساني (ت: 587 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت الطبعة الثّانية، 1406 هـ. 59 - بدائع الفوائد لمحمد بن أبي بكر المعروف بابن القيم الجوزية، دار الكتاب العربي، بيروت. 60 - بداية المجتهد ونهاية المقتصد لمحمد بن أحمد بن محمَّد بن أحمد بن رشد القرطبي (ت: 595 هـ)، مصطفى البابي الحلبي، مصر، الطبعة الخامسة 1401 هـ 61 - البداية والنهاية لأبي الفداء ابن كثير الدمشقي (ت: 774 هـ)، تحقيق: علي معوض، عادل عبد الموجود وجماعة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثّانية، 1418 هـ. 62 - البدر الطالع لمحاسن من بعد القرن السابع لمحمد بن علي الشوكاني (ت: 1250 هـ)، دار الكتاب الإِسلامي، القاهرة. 63 - البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين، أبي المعالي، عبد الملك بن عبد الله الجويني (ت: 478 هـ)، تحقيق: د. عبد العظيم الديب، دار الأنصار، القاهرة، الطبعة الثّانية، 1400 هـ. 64 - بغية الوعاة في طبقات اللغوبين والنحاة لجلال الدِّين عبد الرّحمن السيوطيّ، تحقيق: محمَّد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت. 65 - بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني لأحمد عبد الرّحمن البنا، دار الشهاب القاهرة. 66 - بلوغ المرام من أدلة الأحكام لأبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت: 852 هـ)، تحقيق: صفي الرّحمن المباركفوري، دار الفيحاء، دمشق الطبعة الأولى، 1413 هـ. 67 - البناية في شرح الهداية لأبي محمَّد محمود بن أحمد العيني، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثّانية، 1411 هـ.

68 - البنك اللاربوي في الإسلام لمحمد باقر الصدر، المطبعة العصرية بالكويت. 69 - البنوك الإِسلامية بين النظرية والتطبيق للدكتور عبد الله الطيار، دار الوطن، الرياض، الطبعة الثّانية، 1414 هـ 70 - البهجة شرح التحفة لأبي الحسن علي بن عبد السّلام التسولي، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، الطبعة الثّانية، 1370 هـ 71 - البيان والتحصيل لأبي الوليد ابن رشد القرطبي، تحقيق: د. محمَّد حجي، دار الغرب الإِسلامي، بيروت، الطبعة الثّانية، 1408 هـ 72 - تأسيس النظر لأبي زيد عبيد الله بن عيسى الدبوسي، تحقيق: مصطفى قباني دار ابن زيدون، بيروت. 73 - تاج التراجم لزين الدِّين أبي العدل قاسم بن قطلويغا (ت: 879 هـ)، تحقيق: إبراهيم صاع، دار المأمون للتراث، الطبعة الأولى، 1412 هـ 74 - التاج والإكليل لمختصر خليل (بهامش مواهب الجليل) لمحمد بن يوسف بن أبي القاسم العبدري المواق (ت: 897 هـ)، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثّالثة، 1412 هـ. 75 - تاريخ الأمم والملوك لأبي جعفر محمَّد بن جرير الطّبريّ (ت: 310 هـ) دار الفكر، بيروت، 1399 هـ. 76 - التاريخ الكبير لمحمد بن إسماعيل البخاريّ (ت: 256 هـ)، توزيع: دار الباز، مكّة المكرمة. 77 - تاريخ بغداد للخطيب البغدادي أحمد بن علي (ت: 463 هـ)، مكتبة الخانجي القاهرة. 78 - تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام لإبراهيم بن علي بن فرحون المالكي (ت: 799 هـ)، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1406 هـ.

79 - التبيان في آداب حملة القرآن لأبي زكريا يحيى بن شرف الدِّين النووي (ت: 676 هـ) تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط، مكتبة دار البيان، دمشق، الطبعة الأولى، 1403 هـ. 80 - تببين الحقائق شرح كنز الدقائق لفخر الدِّين بن علي الزيلعي الحنفي، المطبعة الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1313 هـ 81 - تحرير ألفاظ التنبيه لمحي الدِّين بن شرف النووي، تحقيق: عبد الغني الدقر، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1408 هـ 82 - تحرير المقال فيما يحل ويحرم من بيت المال لتقي الدِّين أبي بكر محمَّد بن محمَّد البلاطنسي (ت: 936 هـ)، تحقيق: فتح الله محمَّد غازي الصباغ، دار الوفاء، المنصورة، مصر، الطبعة الأولى، 1409 هـ 83 - تحفة الأحوذي بشرح جامع التّرمذيّ لمحمد بن عبد الرّحمن بن عبد الرحيم المباركفوري (ت: 1353 هـ)، تحقيق: عبد الوهّاب عبد اللطيف، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، الطبعة الثّالثة، 1407 هـ. 84 - تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف لجمال الدِّين يوسف بن التركي المزي (ت: 742 هـ)، تحقيق: عبد الصمد شرف الدِّين، المكتب الإِسلامي، بيروت الطبعة الثّانية، 1403 هـ. 85 - تحفة الفقهاء لعلّاء الدِّين السمرقندي (ت: 539 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثّانية، 1414 هـ 86 - تحفة المحتاج بشرح المنهاج (بهامش حواشي الشرواني والعبادي) لشهاب الدِّين أحمد بن حجر الهيتمي، دار الفكر، بيروت. 87 - تذكرة الحفاظ لأبي عبد الله، شمس الدِّين محمَّد الذهبي (ت: 748 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت.

88 - تحقيق النصوص ونشرها, لعبد السّلام هارون، مكتبة السُّنَّة، القاهرة، الطبعة الخامسة، 1410 هـ 89 - ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك للقاضي عياض بن موسى بن عياض اليحصبي (ت: 544 هـ)، تحقيق: الدكتور أحمد بكية محمود، دار مكتبة الحياة، بيروت. 90 - تصحيح الفروع (مع كتاب الفروع) لعلّي بن سليمان المرداوي (ت: 885 هـ)، تحقيق: عبد الستار أحمد فرج، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الرّابعة، 1405 هـ. 91 - تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإِسلامية للدكتور سامي حسن أحمد حمود، دار الاتحاد العربي للطباعة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1396هـ. 92 - التعريفات لعلّي بن محمَّد الجرجاني، تحقيق: محمَّد عبد الكريم القاضي، دار الكتاب المصري، القاهرة، الطبعة الأولى، 1411 هـ. 93 - التعليقات السنية على الفوائد البهية لأبي الحسنات محمَّد عبد الحي اللكنوي الهندي (ت: 1304 هـ)، تحقيق: محمَّد بدر الدِّين أبو فراس النعساني، دار الكتاب الإِسلامي، القاهرة. 94 - تغليق التعليق على صحيح البخاريّ للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت: 852هـ)، تحقيق: سعيد عبد الرّحمن موسى القرني، المكتب الإسلامي، بيروت، ودار عمار، الأردن، الطبعة الأولى، 1405 هـ 95 - التفريع لأبي القاسم عبيد الله بن الحسين بن الجلّاب (ت: 378 هـ)، تحقيق د. حسين بن سالم الدهماني، دار الغرب الإِسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 1408 هـ.

96 - تفسير القرآن العظيم لأبي الفداء إسماعيل بن كثير (ت: 774 هـ)، تحقيق: عبد العزيز غنيم، محمَّد أحمد عاشور، محمَّد إبراهيم البنا، مكتبة الشعيب، القاهرة. 97 - التفسير الكبير ومفاتيح الغيب لمحمد بن عمر الرازي (فخر الدِّين الرازي) (ت: 654 هـ)، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثّالثة، 1405 هـ 98 - تفسير المنار (تفسير القرآن الحكيم) لمحمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، 1414 هـ. 99 - تقريب التهذيب لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: صفير أحمد شاغف الباكستاني، دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى، 1416 هـ 100 - تقسيمات الواجب وأحكامه للدكتور مختار باب آدو، مراجعة ونشر أحمد محمَّد عبد الله الشنقيطي، الطبعة الأولى 1414 هـ 101 - تكملة المجموع (التكملة الثّانية) لمحمد نجيب المطيعي، دار الفكر، بيروت. 102 - تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت: 852هـ)، تحقيق: عبد الله هاشم اليماني المدني، دار المعرفة، بيروت، 1384 هـ. 103 - تلخيص المستدرك (مطبوع مع المستدرك) لمحمد بن عثمان الذهبي، دار الفكر، بيروت، 1398 هـ 104 - التلويح على التوضيح لسعد الدِّين بن مسعود التفتازاني، دار الكتب العلمية، بيروت. 105 - التمهيد في تخريج الفروع على الأصول لجمال الدِّين عبد الرحيم بن حسن الأسنوي (ت: 772 هـ)، تحقيق: د. محمَّد حسن هيتو، مؤسسة الرسالة بيروت، الطبعة الثّالثة، 1404 هـ

106 - التمهيد لما في الموطَّأ من المعاني والأسانيد ليوسف بن عبد الله بن محمَّد بن عبد البرّ النمري (ت: 463 هـ)، تحقيق: مجموعة من العلماء بوزارة الأوقاف المغربية، مطبعة فضالة، المحمدية بالمغرب. 107 - التنبيه لأبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، دار عالم الكتب، الطبعة الأولى، 1403 هـ 108 - تنوير الأبصار (مع شرحه الدر المختار وحاشية ابن عابدين) للتمرتاشي الحنفي (ت: 1004 هـ)، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 109 - تهذيب الأسماء واللغات لمحي الدِّين بن شرف النووي (ت: 676 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت. 110 - تهذيب التهذيب لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة. 111 - تهذيب الفروق والقواعد السنية لمحمد بن علي بن حسين المكي المالكي، عالم الكتب، بيروت. 112 - تهذيب الكمال في أسماء الرجال لجمال الدِّين يوسف المزي (ت: 742 هـ) تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1408 هـ. 113 - تهذيب اللُّغة لأبي منصور محمَّد بن أحمد الأزهري (ت: 370 هـ)، تحقيق: يعقوب عبد النّبيّ ومراجعة: محمَّد علي النجار، الدَّار المصرية للتأليف والترجمة القاهرة. 114 - تهذيب سنن أبي داود لمحمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية، تحقيق: أحمد محمَّد شاكر، ومحمد حامد الفقي، المكتبة الأثرية، باكستان، الطبعة الثّانية، 1399 هـ.

115 - تيسير الكريم الرّحمن في تفسيركلام المنان لعبد الرّحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376 هـ)، تحقيق: محمَّد زهري النجار، الرئاسة العامة لإدارات البحوث والإفتاء، الرياض، 1404 هـ 116 - جامع الأصول في أحاديث الرسول لمجد الدِّين أبي السعادات المبارك بن محمَّد بن الأثير الجزري (ت: 606 هـ)، تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثّانية، 1403 هـ 117 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن لأبي جعفر محمَّد بن جرير الطّبريّ (ت: 310 هـ)، دار الفكر، بيروت، 1408 هـ 118 - الجامع لأحكام القرآن لمحمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي، تحقيق: مركز تحقيق التراث بالهيئة العامة للكتاب، مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الثّانية، 1978 م. 119 - الجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي (ت: 327 هـ) مطبعة مجلس دائرة المعارف النعمانية بحيدرآباد، الدكن، الهند، الطبعة الأولى. 120 - الجهاد والقتال في السياسة الشرعية للدكتور محمَّد خير هيكل، دار البيارق، بيروت، الطبعة الأولى، 1414 هـ 121 - جواهر الإكليل لصالحع عبد السميع الآبي الأزهري، دار المعرفة، بيروت. 122 - الجواهر المضية في طبقات الحنفية لمحي الدِّين أبي محمَّد عبد القادر القرشي الحنفي (ت: 775 هـ)، تحقيق: د. عبد الفتاح محمَّد الحلو، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة، 1398 هـ 123 - الجوهر النقي على سنن البيهقي لعلّاء الدِّين علي بن عثمان بن التركماني (ت: 750 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1414 هـ 124 - حاشية الإمام السندي على سنن النسائي لمحمد بن عبد الهادي التتوي المدني أبي الحسن نور الدِّين (ت: 1138 هـ)، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثّانية 1412 هـ.

125 - حاشية البجيرمي على الخطيب لسليمان البجيرمي، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأخيرة، 1401 هـ. 126 - حاشية البنّاني على شرح المحلي على جمع الجوامع لعبد الرّحمن بن جاد الله البناني (ت: 1197 هـ)، دار الفكر، بيروت. 127 - حاشية البناني على الزرقاني، لمحمد البناني، دار الفكر، بيروت، 1398هـ. 128 - حاشية الجمل على تفسير الجلالين لسليمان بن عمر العجيلي الشهير بالجمل، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة. 129 - حاشية الجمل على شرح المنهج لسليمان الجمل، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 130 - حاشية الدسوقي على الشرح الكبير لمحمد بن عرفة الدسوقي، دار إحياء التراث العربي (عيسى الحلبي وشركاه)، مصر. 131 - حاشية الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل لمحمد بن أحمد بن محمَّد الرهوني، المطبعة الأميرية بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1306 هـ 132 - حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع لعبد الرّحمن بن محمَّد بن قاسم العاصمي النجدي (ت: 1392 هـ)، الطبعة الثّانية، 1403 هـ 133 - حاشية السندي على سنن ابن ماجه لمحمد بن عبد الهادي السندي الحنفي (ت: 1138 هـ)، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثّانية. 134 - حاشية الشبراملس على نهاية المحتاج لأبي الضياء نور الدِّين علي بن علي الشبراملسي (ت: 1087 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت، 1414 هـ 135 - حاشية الشرقاوي على التحرير لعبد الله بن حجازي الشرقاوي، دار إحياء الكتب العربيّة (عيسى البابي) القاهرة.

136 - حاشية الشرواني على تحفة المحتاج لعبد الحميد الشرواني، دار الفكر، بيروت. 137 - حاشية الشلبي على تببين الحقائق، الطبعة الأميرية الكبرى بولاق، الطبعة اللأولى، 1313 هـ. 138 - حاشية الصاوي علي الشرح الصغير لأحمد بن محمَّد الصاوي، دار المعارف، مصر. 139 - حاشية الطحطاوي على الدر المختار لأحمد الطحطاوي الحنفي، دار المعرفة، بيروت - 1395 هـ 140 - حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح لأحمد بن محمَّد بن إسماعيل الطحطاوي (ت: 1231 هـ)، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، الطبعة الثّانية 1389 هـ. 141 - حاشية العدوي على الخرشي لعلّي بن أحمد الصعيدي العدوي، دار الفكر، بيروت. 142 - حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني لعلّي الصعيدي العدوي، مكتبة القاهرة. 143 - حاشية على المقنع منسوية للشيخ/ سليمان بن عبد الله بن محمَّد بن عبد الوهّاب، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، 1400 هـ. 144 - حاشية عميرة على شرح المحلي على المنهاج لشهاب الدِّين أحمد البرلسي الملقب بعميرة (ت: 957 هـ)، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، الطبعة الثّالثة، 1375 هـ. 145 - حاشية قليوبي على"شرح المنهاج للمحلي لشهاب الدِّين أحمد بن أحمد ابن سلامة القليوبي (ت: 1069 هـ)، مصطفى الحلبي وأولاده، مصر، الطبعة الثّالثة، 1375 هـ.

146 - الحاوي الكبير لأبي الحسين علي بن محمَّد بن حبيب الماوردي (ت: 450 هـ)، تحقيق: د. محمود مطرجي وآخرون، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى، 1414 هـ. 147 - حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة لجلال الدِّين عبد الرّحمن السيوطيّ، تحقيق: محمَّد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الأولى، 1387 هـ. 148 - حق الابتكار في الفقه الإِسلامي المقارن للدكتور فتحي الدريني، وفئة من العلماء، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثّالثة، 1404 هـ. 149 - حق المؤلِّف للدكتور نواف كنعان، مطابع الفرزدق التجارية، الرياض، 1987م. 150 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني (ت: 430 هـ)، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثّالثة، 1400 هـ. 151 - حلية البشر في تاريخ القرن الثّالث عشر لعبد الرزّاق البيطار (ت: 1335 هـ) تحقيق: محمَّد بهجة البيطار، دار صادر، بيروت، الطبعة الثّانية 1413 هـ. 152 - الخراج لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم (ت: 182 هـ)، المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة، الطبعة الخامسة، 1396 هـ. 153 - الخرشي على مختصر خليل لأبي عبد الله محمَّد بن عبد الله الخرشي (ت: 1101 هـ)، دار الفكر، بيروت. 154 - خطبة الحاجة، الّتي كان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يعلمها أصحابه لمحمد ناصر الدِّين الألباني، المكتب الإِسلامي - بيروت، الطبعة الثّالثة، 1397 هـ. 155 - خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر للمحبي، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.

156 - الدر المختار شرح تنوير الأبصار (بهامش رد المختار) لعلّاء الدِّين محمَّد ابن علي الحصني الحصفكي (ت: 1088 هـ)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثّانية، 1407 هـ. 157 - درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: د. محمَّد رشاد سالم، دار الكنوز الأدبية. 158 - الدراية في تخريج أحاديث الهداية لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: عبد الله هاشم اليماني، مكتبة ابن تيمية، مصر. 159 - درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلّي حيدر، دار الكتب العلمية، بيروت. 160 - درر الأحكام في شرح غرر الأحكام لمحمد بن فراموز الشهير بمنلا خسرو (ت: 885 هـ)، مير محمَّد كتب خانه، كراتشي، باكستان. 161 - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لشهاب الدِّين أحمد بن علي بن محمَّد ابن حجر العسقلاني (ت: 852 هـ)، دار الجيل، بيروت. 162 - دستور العلماء (جامع العلوم في اصطلاحات الفنون) لعبد النّبيّ بن عبد الرسول الله الأحمد نكري، مطبعة دائرة المعارف النظامية، حيدر آباد، الدكن، الهند، الطبعة الأولى، 1329 هـ. 163 - الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب لبرهان الدِّين إبراهيم بن علي بن محمَّد بن فرحون، دار الكتب العلمية، بيروت. 164 - الذّخيرة لشهاب الدِّين أحمد بن إدريس القرافي (ت: 684 هـ)، تحقيق: د. محمَّد حجي، دار الغرب الإِسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 1994 م. 165 - الذِّمَّة والحق والالتزام للدكتور المكاشفي طه الكباشي، مكتبة الحرمين، الرياض الطبعة الأولى، 1409 هـ.

166 - الذيل على طبقات الحنابلة لزين الدِّين أبي الفرج عبد الرّحمن بن شهاب ابن رجب (795 هـ)، دار المعرفة، بيروت. 167 - الريا والمعاملات المصرفية في نظر الشّريعة الإِسلامية لمعالي الدكتور عمر ابن عبد العزيز المشترك، دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى، 1414 هـ. 168 - رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين) لمحمد أمين بن عمر بن عبد العزيز بن عابدين (ت: 1252 هـ)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثّانية - 1407 هـ. 169 - الرسالة الفقهية لأبي محمَّد عبد الله بن أبي زيد القيرواني (ت: 386 هـ)، تحقيق: د. الهادي حمّو، د. محمَّد أبو الأجفان، دار الغرب الإِسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1406 هـ. 170 - الرسالة لمحمد بن إدريس الشّافعيّ (ت: 204 هـ)، تحقيق: أحمد بن محمَّد شاكر، لا توجد معلومات عن الطبع مطلقًا. 171 - الرُّوح لشمس الدِّين أبي عبد الله بن قيم الجوزية، دار الرشد، الرياض. 172 - الروض المربع شرح زاد المستنقع (مع حاشية ابن قاسم) لمنصور بن يونس بن صلاح البهوتي المصري (ت: 1051 هـ)، الطبعة الثّانية، 1403 هـ 173 - روضة الطالبين وعمدة المفتين لمحي الدِّين بن شرف النووي، المكتب الإِسلامي بيروت، الطبعة الثّالثة، 1412 هـ. 174 - روضة القضاة وطريق النجاة لعلّي بن محمَّد بن أحمد الرحبي السمناني (ت: 499 هـ)، تحقيق: د. صلاح الدِّين النهامي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثّانية، 1404 هـ. 175 - روضة الناظر وجنة المناظر لموفق الدِّين ابن قدامة المقدسي، تحقيق: د. عبد العزيز السعيد، جامعة الإمام محمَّد بن سعود الإِسلامية، الطبعة الأولى 1408 هـ.

176 - زاد المحتاج بشرح المنهاج لعبد الله حسن الحسن الكوهجي، تحقيق: عبد الله الأنصاري، المكتبة العصرية، بيروت، 1409 هـ 177 - زاد المعاد في هدي خير العباد لمحمد بن أبي بكر الزرعي المعروف بابن قيم الجوزية (ت: 751 هـ) تحقيق: شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الخامسة عشر، 1407 هـ 178 - الزاهر في غريب ألفاظ الشّافعيّ لأبي منصور الأزهري (ت: 370 هـ)، تحقيق: د. محمَّد جبر الألفي، إدارة الشؤون الإِسلامية، وزارة الأوقاف بالكويت، الطبعة الأولى، 1399 هـ. 179 - الزواجر عن اقتراف الكبائر لأحمد بن محمَّد بن حجر الهيتمي (ت: 974 هـ)، تحقيق: أحمد عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1407 هـ. 180 - سبل السّلام شرح بلوغ المرام لمحمد إسماعيل الأمير اليمني الصنعاني (ت: 1182 هـ)، تحقيق: فواز أحمد زمرلي، إبراهيم محمَّد الجمل، دار الريان للتراث، القاهرة، الطبعة الرّابعة، 1407 هـ 181 - السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة لمحمد بن عبد الله بن حميد النجدي (ت: 1295 هـ، تحقيق: د. بكر بن عبد الله أبوزيد، د. عبد الرّحمن بن سليمان العثيمين، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1416 هـ 182 - السراج الوهاج على متن المنهاج لمحمد الزّهريُّ الغمرواي، دار الجيل، بيروت 1408 هـ. 183 - سلسلة الأحاديث الضعيفة وأثرها السيء في الأُمَّة لمحمد ناصر الدِّين الألباني، مكتبة المعارف بالرياض، الطبعة الرّابعة، 1408 هـ. 184 - السلسلة الصحيحة لمحمد ناصر الدِّين الألباني، مكتبة المعارف بالرياض، الطبعة الجديدة، 1415 هـ.

185 - سنن- أبي داود للحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني (ت: 275 هـ) تحقيق: محمَّد محيي الدِّين عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت. 186 - سنن ابن ماجة لمحمد بن يزيد القزويني (ت: 275 هـ)، تحقيق: محمَّد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث، القاهرة. 187 - سنن التّرمذيّ (الجامع الصحيح) للحافظ أبي عيسى محمَّد بن عيسى بن سوره التّرمذيّ (ت: 279 هـ)، تحقيق: أحمد محمَّد شاكر، دار الكتب العلمية، بيروت. 188 - سنن الدارمي للحافظ عبد الله بن عبد الرّحمن الدارمي السمرقندي (ت: 255 هـ)، تحقيق: فواز أحمد زمرلي، خالد السبع العلّمي، دار الرياض، القاهرة، الطبعة الأولى، 1407 هـ. 189 - السنن الكبرى لأبي بكر بن الحسين البيهقي (ت: 458 هـ)، تحقيق: محمَّد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1414 هـ. 190 - السنن الكبرى لأبي عبد الرّحمن أحمد بن شعيب النسائي، تحقيق: د. عبد الغفار البنداري، سيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية، بيروت الطبعة الأولى، 1411 هـ. 191 - سنن النسائي للحافظ أحمد بن شعيب النسائي (ت: 303 هـ)، تحقيق: مكتب تحقيق التراث الإِسلامي بدار المعرفة، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثّانية، 1412 هـ. 192 - سنن سعيد بن منصور للإمام سعيد بن منصور الخرساني (ت: 227 هـ) تحقيق: حبيب الرّحمن الأعظمي، الدَّار السلفية، بومباي، الهند، الطبعة الأولى، 1403 هـ. 193 - سير أعلام النُّبَلاء لمحمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت: 748 هـ) تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة السابعة، 1410 هـ

194 - السير الكبير لمحمد بن الحسن الشيباني، إملاء محمَّد بن أحمد السرخسي، تحقيق: د. صلاح الدِّين المنجد، دار المدني، جدة. 195 - السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار لمحمد بن علي الشوكاني، تحقيق: محمود إبراهيم زايد، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1405 هـ. 196 - شجرة النور الزكية في طبقات المالكية لمحمد بن محمَّد مخلوف، دار الفكر، بيروت. 197 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد، شهاب الدِّين أبي الفلاح عبد الحي بن أحمد بن محمَّد العكري الحنبلي (ت: 1089 هـ)، تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط ومحمود الأرناؤوط، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، الطبعة الأولى، 1406 هـ. 198 - شرح أدب القاضي للخصاف، لعمر بن عبد العزيز بن مازة المعروف بالصدر الشهيد (: 536 هـ)، تحقيق: محيي الدِّين هلال سرحان، مطبعة الإرشاد، بغداد، الطبعة الأولى، 1397 هـ. 199 - شرح الزرقاني على خليل لعبد الباقي الزرقاني، دار الفكر، بيروت، 1398 هـ. 200 - شرح الزرقاني على موطَّأ مالك لمحمد الزرقاني، دار الفكر، بيروت، 1355 هـ. 201 - شرح الزركشي على مختصر الخرقي لشمس الدِّين محمَّد بن عبد الله الزركشي المصري الحنبلي (ت: 772 هـ)، تحقيق: الشّيخ الدكتور: عبد الله بن عبد الله الجبرين، الطبعة الأولى، 1410 هـ 202 - شرح السُّنَّة للحسين بن مسعود البغوي (ت: 516 هـ)، تحقيق: شعيب الأرناؤوط ومحمد زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثّانية 1403 هـ.

203 - شرح السير الكبير لمحمد بن أحمد السرخسي، تحقيق: د. صلاح الدِّين المنجد، دار المدني، جدة. 204 - شرح السيوطيّ على سنن النسائي لجلال الدِّين السيوطيّ، مكتبة المؤيد، الرياض، الطبعة الثّانية، 1412 هـ 205 - الشرح الصغير على أقرب المسالك لأبي البركات أحمد بن محمَّد بن أحمد الدردير، تحقيق: د. مصطفى كمال وصفي، دار المعارف، مصر. 206 - شرح العقيدة الطحاوية لعلّي بن أبي العز الحنفي، تحقيق: محمَّد ناصر الدِّين الألباني، المكتب الإِسلامي، بيروت، الطبعة الثامنة، 1404 هـ. 207 - شرح العقيدة الطحاوية لعلّي بن محمَّد بن أبي العز الدمشقي (ت: 792 هـ)، تحقيق: د. عبد الله التركي وشعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة اللأولى 1408 هـ. 208 - شرح العناية على الهداية (بهامش شرح فتح القدير) لأكمل الدِّين محمَّد ابن محمود البابرتي (ت: 786 هـ)، المطبعة الكبرى الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى 1218 هـ. 209 - شرح القواعد الفقهية لأحمد الزرقاء، تحقيق: د. عبد الستار أبو غدة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 1403 هـ 210 - الشرح الكبير على المقنع (مطبوع مع المغني) لشمس الدِّين أبي الفرج عبد الرّحمن بن محمَّد بن أحمد بن قدامة (ت: 682 هـ)، دار الكتاب العربي، بيروت، 1403 هـ. 211 - الشرح الكبير على مختصر خليل لأبي البركات أحمد الدردير، دار إحياء الكتب العربيّة (فيصل الحلبي) مصر. 212 - شرح الكوكب المنير لمحمد بن أحمد بن عبد العزيز الفتوحي (ابن النجار) (ت: 972 هـ)، تحقيق: د. محمَّد الزحيلي، د. نزيه حماد، جامعة أم القرى، مكّة المكرمة، 1400 هـ.

213 - شرح المنهج (مع حاشية الجمل) لزكريا الأنصاري الشّافعيّ، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 214 - شرح النووي على مسلم لمحي الدِّين بن شرف النووي، دار الكتب العلمية، بيروت. 215 - شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول لشهاب الدِّين أبي العباس أحمد بن إدريس القرافي، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة. 216 - شرح جلال الدِّين المحلي على المنهاج لجلال الدِّين محمَّد بن أحمد المحلي (ت: 864 هـ) مصطفى البابي الحلبي، مصر، الطبعة الثّالثة، 1375 هـ. 217 - شرح حدود ابن عرقة لأبي عبد الله محمَّد الأنصاري الرصاع (ت: 894 هـ) تحقيق: محمَّد الأجفان، دار الغرب، بيروت، الطبعة الأولى، 993 هـ. 218 - شرح خطبة الحاجة لسليم بن عيد الهلالي، دار الأضحى، عمان- الأردن، الطبعة الأولى 1409 هـ. 219 - شرح صحيح مسلم (إكمال إكمال المعلم) لأبي عبد الله محمَّد بن خلف الأبي المالكي (ت: 827 هـ)، مكتبة طبرية، الرياض. 220 - شرح فتح القدير لكمال الدِّين محمَّد بن عبد الواحد بن الهمام (ت: 681 هـ)، دار صادر، بيروت عن الطبعة الأميرية ببولاق 1218 هـ. 221 - شرح مختصر الروضة لنجم الدِّين أبي الربيع سليمان بن عبد القوي الطوفي، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1410 هـ. 222 - شرح مشكل الآثار لأبي جعفر أحمد بن محمَّد بن سلامة الطحاوي (ت: 321 هـ)، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1415 هـ.

223 - شرح معاني الآثار لأبي جعفر أحمد بن محمَّد بن سلامة الطحاوي (ت: 321 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثّانية، 1407 هـ. 224 - شرح منتهى الإرادات لمنصور البهوتي (ت: 1051 هـ)، المكتبة السلفية لصاحبها محمَّد عبد المحسن الكتبي. 225 - صحيح ابن حبّان بترتيب ابن بلبان لعلّاء الدِّين علي بن بلبان الفارسي (ت: 739 هـ)، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثّانية 1414 هـ. 226 - صحيح ابن خزيمة لأبي بكر محمَّد بن إسحاق بن خزيمة (ت: 311 هـ) تحقيق: د. محمَّد مصطفى الأعظمي، المكتب الإِسلامي، بيروت، 1400 هـ. 227 - صحيح الإمام البخاريّ (مع فتح الباري) لمحمد بن إسماعيل البخاريّ، وتحقيق: عبد العزيز بن باز، محب الدِّين الخطيب، محمَّد فؤاد عبد الباقي، المكتبة السلفية، القاهرة، الطبعة الثّالثة 1407 هـ. 228 - صحيح الإمام مسلم لمسلم بن الحجاج، تحقيق: محمَّد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 229 - صحيح سنن أبي داود لمحمد ناصر الدِّين الألباني، مكتب التربية العربي لدول الخليج، الطبعة الأولى 1409 هـ. 230 - صحيح سنن ابن ماجه لمحمد ناصر الدِّين الألباني، مكتبة التربية العربي لدول الخليج، الطبعة الأولى 1409 هـ. 231 - صحيح سنن التّرمذيّ لمحمد ناصر الدِّين الألباني، مكتب التربية العربي لدول الخليج، الطبعة الأولى 1409 هـ. 232 - صحيح سنن النسائي لمحمد ناصر الدِّين الألباني، مكتبة التربية العربي لدول الخليج، الطبعة الأولى 1409 هـ.

233 - ضعيف الجامع الصغير وزياداته لمحمد ناصر الدِّين الألباني، المكتب الإِسلامي بيروت، الطبعة الثّانية، 1408 هـ. 234 - ضعيف سنن التّرمذيّ لمحمد ناصر الدِّين الألباني، مكتب التربية العربي لدول الخليج، الطبعة الأولى 1411 هـ. 235 - الضمان في الفقه الإِسلامي للشيخ علي الخفيف، دار الفكر العربي، القاهرة. 236 - الضوء اللامع لأهل القرن التّاسع لشمس الدِّين محمَّد بن عبد الرّحمن السخاوي منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت. 237 - الضوابط الشرعية للتحكيم للدكتور صالح بن محمَّد الحسن، الطبعة الأولى 1417 هـ. 238 - طبقات الحنابلة للقاضي أبي الحساين محمَّد بن أبي يعلي، دار المعرفة، بيروت. 239 - الطبقات السنية في تراجم الحنفية لتقي الدِّين بن عبد القادر التميمي الغزي المصري (ت: 1010 هـ)، تحقيق: د. عبد الفتاح الحلو، دار الرفاعي، الرياض، الطبعة الأولى 1403 هـ. 240 - طبقات الشّافعيّة الكبرى لعبد الوهّاب بن علي بن عبد الكافي السبكي (ت: 771 هـ)، تحقيق: محمود محمَّد الطناحي وعبد الفتاح الحلو، دار إحياء الكتب العربيّة (عيسى الحلبي)، مصر. 241 - طبقات الشّافعيّة لأبي بكر بن هداية الله الحسيني (ت: 1014 هـ)، تحقيق: عادل نويهض، دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الثّالثة 1402 هـ. 242 - طبقات الشّافعيّة لجمال الدِّين عبد الرحيم الأسنوي (ت: 772 هـ) تحقيق: عبد الله الجبوري، دار العلوم، الرياض 1400 هـ.

243 - طبقات الفقهاء الشّافعيّين للحافظ عماد الدِّين أبي الفداء إسماعيل بن كثير (ت: 774 هـ) تحقيق: د. أحمد عمر هاشم، د. محمَّد زينهم محمَّد عزب مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 1413 هـ. 244 - طبقات الفقهاء لأبي إسحاق الشيرازي (ت: 476 هـ)، تحقيق: خليل الميس دار القلم، بيروت. 245 - الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد بن منيع الهاشمي (ابن سعد) (ت: 230 هـ) تحقيق: محمَّد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1410هـ. 246 - طلحة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية لنجم الدِّين أبي حفص عمر بن محمَّد النسفي (ت: 537 هـ)، تحقيق: خالد العك، دار النفائس، بيروت، الطبعة اللأولى، 1416 هـ. 247 - عارضة الأحوذي بشرح صحيح التّرمذيّ لأبي بكر بن العربي المالكي (ت: 543 هـ)، دار الفكر، بيروت. 248 - العدة (حاشية على عمدة الأحكام لابن دقيق العيد) لمحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، تحقيق: محب الدِّين الخطيب، علي بن محمَّد الهندي. 249 - العدة في أصول الفقه للقاضي أبي يعلي محمَّد بن الحسين الفراء، تحقيق: د. أحمد بن علي سير المباركي، الرياض، الطبعة الثّانية 1410 هـ. 250 - العذب الفائض شرح عمدة الفارض لإبراهيم بن عبد الله الفرضي، مطبعة الحلبي، مصر، 1372 هـ 1935/ م. 251 - عقد الجواهر المْينة في مذهب عالم المدينة لجلال الدِّين عبد الله بن نجم ابن شاس (ت: 616 هـ)، تحقيق: د. محمَّد أبو الأجفان، عبد الحفيظ منصور دار الغرب الإِسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 1415 هـ.

252 - عقد الضمان المالي، وتطبيقه المصرفي في خطاب الضمان، للدكتور عبد الرّحمن بن صالح الأطرم، مكتوب بواسطة الحاسوب. 253 - العقود وعمليات البنوك التجارية للدكتور سامي البارودي، منشاة المعارف الإسكندرية. 254 - عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ لبدر الدِّين أبي محمَّد محمود العيني (ت: 855 هـ)، دار الفكر، بيروت. 255 - عون المعبود شرح سنن أبي داود لأبي الطيب محمَّد شمس الحق العظيم آبادي دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1410 هـ. 256 - الغياثي (غياث الأمم في التياث الظلم) لأبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني، تحقيق: د. عبد العظيم الديب، الطبعة الثّانية 1401 هـ. 257 - فتاوى ابن رشد لأبي الوليد محمَّد بن أحمد بن رشد (ت: 525 هـ)، تحقيق: د. المختار بن الطّاهر التليلي، دار الغرب الإِسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 1407 هـ. 258 - الفتاوى البزازية (بهامش الفتاوى الهندية) لمحمد بن محمَّد بن شهاب المعروف بابن البزار الكردري (ت: 827 هـ)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الرّابعة 1406 هـ. 259 - الفتاوى الخانية (بهامش الفتاوى الهندية) لحسن بن منصور الأوز جندي الفرغاني (ت: 295 هـ)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الرّابعة. 260 - فتاوى المنار، لفضيلة الشّيخ محمَّد صالح العثيمين، جمع الدكتور عبد الله الطيار، دار الوطن 1415 هـ. 261 - الفتاوى الهندية (العالمكيرية) لمجموعة من علماء الهند، برئاسة الشّيخ النظام، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الرّابعة.

262 - فتاوى سلطان العلماء للعز بن عبد السّلام (ت: 660 هـ)، مكتبة القرآن القاهرة، تحقيق: مصطفى عاشور. 263 - فتح الباري بشرح صحيح البخاريّ لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت: 852 هـ)، تحقيق: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، محب الدِّين الخطيب محمَّد فؤاد عبد الباقي، المكتبة السلفية، القاهرة، الطبعة الثّالثة، 1407. 264 - الفتح الرباني ترتيب مسند الإمام أحمد لأحمد عبد الرّحمن البنا، دار الشهاب القاهرة. 265 - فتح العزيز شرح الوجيز (مع المجموع) لأبي القاسم عبد الكريم بن محمَّد الرافعي (ت: 623 هـ)، دار الفكر، بيروت. 266 - فتح القدير الجامع بين فني الرِّواية والدراية في علم التفسير لمحمد بن علي الشوكاني (ت: 1250 هـ)، مكتبة مصطفى الحلبي وأولاده، مصر، الطبعة الثّانية 1383 هـ. 267 - فتح المعين (مع إعانة الطالبين) لزين الدِّين المليباري، مكتبة محمَّد سعيد وعبد الرسول فدا، مكّة المكرمة. 268 - الفروع لشمس الدِّين أبي عبد الله بن مفلح (ت: 763 هـ)، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الرّابعة، 1405 هـ. 269 - الفروق (أنوار البروق في أنواء الفروق)، شهاب الدِّين أحمد بن إدريس القرافي، عالم الكتب، بيروت. 270 - الفصل في الملل والأهواء والنحل لأبي محمَّد علي بن أحمد بن حزم الظاهري، تحقيق: د. محمَّد إبراهيم نصير، د. عبد الرّحمن عميرة، عكاظ للنشر والتوقيع، جدة، الطبعة الأولى 1402 هـ. 271 - فضائل القرآن لأبي عبد الله، محمَّد بن أيوب بن الضريس البجلي (ت: 294 هـ)، تحقيق: غزوة بدير، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى، 1408 هـ.

272 - فقة النوازل للشيخ بكر بن عبد الله أبي زيد، مكتبة الصديق، الطائف، الطبعة الأولى 1409 هـ. 273 - الفقية والمتفقه لأحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي (ت: 462 هـ)، تحقيق: عادل بن يوسف الغزازي، دار ابن الجوزي، الدمام، الطبعة الأولى 1417هـ. 274 - الفوائد البهية في تراجم الحنفية لأبي الحسنات محمَّد بن عبد الحي اللكنوي الهندي (ت: 1304 هـ)، تحقيق: محمَّد بدر الدِّين أبو فراس النعساني، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة. 275 - الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة لمحمد بن علي الشوكاني، تحقيق: عبد الرّحمن المعلمي اليماني، المكتب الإِسلامي، بيروت، الطبعة الثّالثة، 1402 هـ. 276 - الفواكه الدواني لأحمد بن غنيم بن سالم النفرواي المالكي (ت: 1120 هـ)، دار المعرفة، بيروت. 277 - القاموس المحيط لمجد الدِّين محمَّد بن يعقوب الفيروزآبادي (ت: 817 هـ)، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة. مؤسسة الرسالة، بييوت، الطبعة الثّانية 1407 هـ. 278 - قواعد الأحكام للعز بن عبد السّلام، دار الكتب العلمية، بيروت. 279 - القواعد لأبي الفرج عبد الرّحمن بن رجب الحنبلي (ت: 795 هـ)، دار المعرفة، بيروت. 280 - القواعد والأصول الجامعة لعبد الرّحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: سمير الماضي، رمادي للنشر، الدمام، السعودية، الطبعة الأولى، 1417 هـ. 281 - قوانين الأحكام الشرعية لمحمد بن أحمد بن محمَّد المعروف بابن جزي (ت: 741 هـ)، دار العلم للملابين، بيروت.

282 - الكافي فقه أهل المدينة لأبي عمر يوسف بن عبد البرّ النمري، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض. 283 - الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل لموفق الدِّين عبد الله بن قدامة المقدسي، تحقيق: سليم يوسف، سعيد محمَّد اللحام، المكتبة التجارية، مكّة المكرمة. 284 - الكامل في ضعفاء الرجال لأبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثّانية 1405 هـ. 285 - كتاب أدب القاضي (من التهذيب) لأبي محمَّد الحسين بن مسعود بن محمَّد الفراء البغوي (ت: 615 هـ)، تحقيق: د. إبراهيم علي صندقجي دار المنار، القاهرة، الطبعة الأولى 1412 هـ. 286 - كتاب أدب القضاء "الدرر المنظومات في الأقضية والحكومات) لشهاب الدِّين أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الله المعروف بابن أبي الدِّم الحموي الشّافعيّ (ت: 642 هـ)، تحقيق: د. محمَّد مصطفى الزحيلي، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثّانية 1402هـ. 287 - كتاب الثقات لمحمد بن حبّان بن أحمد أبي حاتم البستي (ت: 354 هـ) مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الدكن، الهند، 1398 هـ. 288 - كتاب الحجة على أهل المدينة لمحمد بن الحسن الشيباني (ت: 189 هـ)، تحقيق: مهدي حسن الكيلاني، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الثّالثة 1403 هـ. 289 - كتاب الصِّيام من شرح العمدة لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: زائد ابن أحمد النشيري، دار الأنصاري، مكّة المكرمة، الطبعة الأولى،1417هـ. 290 - كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي البصري (ت: 175 هـ)، تحقيق: د. مهدي المحزومي وآخرون، دار الحرية، بغداد، الطبعة الأولى 1406 هـ.

291 - كتاب المصاحف للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1405 هـ 292 - الكتاب المصنِّف (الجزء المفقود) لابن أبي شيبة، تحقيق: عمر بن غرامة العمروي، دار عالم الكتب، الرياض، الطبعة الأولى 1408 هـ 293 - الكتاب المصنِّف في الأحاديث والآثار لأبي بكر بن أبي شيبة الكوفي (ت: 235 هـ)، الدَّار السلفية، الهند. 294 - كتاب تحفة الناظر وغنية الذاكر في حفظ الشعائر وتغيير المناكر لأبي عبد الله محمَّد بن أحمد بن قاسم التلمساني (ت: 871هـ) تحقيق: علي الشنوفي، مطبوع سنة 1967 م. 295 - كشاف القناع عن متن الإقناع لمنصور بن يونس البهوتي، عالم الكتب، بيروت. 296 - كشف الأستار عن زوائد البزار لأحمد بن سلمة بن عبد الله، أبو الفضل البزار (ت: 209 هـ)، تحقيق: حبيب الرّحمن الأعظمي مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1399 هـ. 297 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة مصطفى بن عبد الله القسطنطيني (ت: 1067 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت، 1413 هـ 298 - الكفالات البنكية للدكتور عبد المجيد محمَّد عبودة، معهد الإدارة بالرياض، إدارة البحوث. 299 - الكفالة في ضوء الشّريعة للدكتور علي أحمد السالوس، مكتبة الفلاح، الكويت، الطبعة الأولى 1406 هـ. 300 - الكفاية على الهداية (مع شرح فتح القدير) لجلال الدِّين الخوارزمي الكولاني، دار إحياء التراث العربي، بييوت، 1406 هـ.

301 - الكليات لأبي البقاء أيوب بن موسى الكفوي (ت: 1094 هـ)، تحقيق: د. عدنان درويش، محمَّد المصري، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثّانية 1413 هـ. 302 - اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة لجلال الدِّين عبد الرّحمن السيوطيّ (ت: 911 هـ)، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثّالثة، 1401 هـ 303 - اللباب في شرح الكتاب لعبد الغني الغنيمي الدمشقي الميداني، المكتبة العلمية، بيروت 1400 هـ. 304 - لسان العرب لأبي الفضل جمال الدِّين محمَّد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري (ت: 711 هـ)، دار صادر ودار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى (ملونة) 1410 هـ. 305 - لسان الميزان لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، الطبعة الثّالثة 1406 هـ. 306 - المبدع في شرح المقنع لأبي إسحاق برهان الدِّين إبراهيم بن محمَّد بن عبد الله ابن مفلح (ت: 884 هـ)، المكتب الإِسلامي، بيروت، 1980 م. 307 - المبسوط لشمس الدِّين محمَّد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي (ت: 483 هـ) دار المعرفة، بيروت، 1409 هـ. 308 - مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل للشيخ أحمد بن عبد الله القادري (ت: 1359 هـ)، تحقيق: د. عبد الوهّاب أبو سليمان، د. محمَّد إبراهيم أحمد علي، مطبوعات تهامة، الطبعة الأولى، 1401 هـ. 309 - مجلة الأحكام العدلية (مع شرحها درر الأحكام) لمجموعة من العلماء في الدولة العثمانية، دار الكتب العلمية، بيروت. 310 - مجلة البحوث الإِسلامية، صادرة عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، العدد الثّامن، 1403 - 1404 هـ.

311 - مجلة مجمع الفقه الإِسلامي، جدة، الدورة الخامسة، 1409 هـ. 312 - مجلة مجمع الفقه الإِسلامي، جدة، الدورة الثّانية، 1407 هـ. 313 - مجمع الأنّهر في شرح ملتقى الأبحر لعبد الله بن محمَّد بن سليمان المعروف بدامار أفندي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 314 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد لنور الدِّين علي بن أبي بكر الهيثمي (ت: 807 هـ)، مؤسسة العارف، بيروت 1406 هـ. 315 - مجمع الضمانات في مذهب أبي حنيفة لأبي محمَّد بن غانم بن محمَّد البغداري دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، الطبعة الأولى 1308 هـ. 316 - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية، جمع وترتيب عبد الرّحمن بن محمَّد بن قاسم، مكتبة العارف، الرِّباط، المغرب. 317 - المجموع شرح المهذب لمحي الدِّين بن شرف النووي (ت: 676 هـ) دار الفكر، بيروت. 318 - مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين، للشيخ محمَّد بن صالح العثيمين، جمع وترتيب فهد السلمان، دار الوطن بالرياض 1411 هـ. 319 - مجموعة رسائل ابن عابدين لمحمد أيمن بن عمر عابدين، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 320 - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لأبي محمَّد عبد الحق بن غالب بن عطية (ت: 546 هـ) تحقيق: المجلس العلّمي بفاس، المغرب، 1395 هـ. 321 - المحصول في علم الأصول لفخر الدِّين محمَّد بن عمر الرازي (ت: 606 هـ)، تحقيق د. طه جابر العلّواني، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثّانية 1412هـ. 322 - المحلى لأبي محمَّد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم (ت: 456 هـ) تحقيق أحمد محمَّد شاكر، لجنة إحياء التراث بدار الآفاق، دار الآفاق الجديدة، بيروت.

323 - مختار الصحاح لمحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي (ت: 666 هـ)، دار الدّعوة، استنابول، تركيا، طبع سنة 1408 هـ. 324 - مختصر اختلاف العلماء لأبي جعفر أحمد بن محمَّد بن سلامة الطحاوي (ت: 321 هـ)، تحقيق: د. عبد الله نذير أحمد، دار البشائر الإِسلامية، بيروت، الطبعة اللأولى 1416 هـ. 325 - مختصر القدوري (الكتاب) لأحمد بن محمَّد بن أحمد أبي الحسن النقدوري (ت: 428 هـ)، المكتبة العلمية، بيروت، 1400، وهو مطبوع مع شرحه اللباب. 326 - مختصر خليل لخليل بن إسحاق المالكي، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأخيرة 1401 هـ. 327 - مختصر طبقات الحنابلة لمحمد جيل بن عمر البغدادي (ابن شطي)، تحقيق: فواز أحمد زمرلي، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1406 هـ. 328 - المدخل الفقهي العام لمصطفى بن أحمد الزرقاء، دار الفكر، بيروت، الطبعة التّاسعة، 1967 - 1968 م. 329 - المدخل في التعريف بالفقه الإِسلامي لمحمد مصطفى شلبي، دار النهضة العربيّة، بيروت 1405 هـ. 330 - المدوّنة الكبرى للإمام مالك، رواية الإمام سحنون بن سعيد التنوخي عن ابن القاسم، دار صادر، بيروت. 331 - مذكرة في أصول الفقه لمحمد الأمين الشنقيطي، المكتبة السلفية، المدينة المنورة. 332 - مراتب الإجماع لأبي محمَّد علي بن أحمد بن حزم، دار الكتب العلمية، بيروت.

333 - المراسيل لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني (ت: 275 هـ)، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1406 هـ. 334 - مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح لأبي الإخلاص الحسن بن عمار الشرنبلالي (ت: 1069 هـ)، تحقيق: عبد الجليل عطا البكري، دار النعمان للعلّوم حلبوني، سوريا، الطبعة الأولى 1411 هـ 335 - مرجع العلوم الإِسلامية للدكتور محمَّد الزحيلي، دار الصرفة، بيروت، الطبعة الثّانية 1412 هـ. 336 - مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن إبراهيم بن هانئ،، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإِسلامي، بيروت. 337 - مسائل الإمام أحمد لعبد الله بن أحمد بن حنبل، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإِسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 1401 هـ. 338 - المسائل الّتي بناها الإمام مالك على عمل أهل المدينة للدكتور محمَّد بن المدني بوساق، رسالة دكتوراه من كلية الشّريعة بالرياض، قسم الفقه 1413 هـ. 339 - المستدرك على الصحيحين لأبي عبد الله محمَّد الحاكم النيسابوري، دار الفكر بيروت 1398 هـ. 340 - المستوعب لنصير الدِّين محمَّد بن عبد الله السامري، تحقيق: د. مساعد بن قاسم الفالح، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى 1413 هـ. 341 - المسند لأبي داود الطيالسي، سليمان بن داود (ت: 204 هـ)، دار الباز، مكّة المكرمة. 342 - مسند الإمام أحمد بن حنبل لأحمد بن حنبل الشيباني الإمام (ت: 241 هـ)، تحقيق: محمَّد سليم سمارة، علي نايف البقاعي وآخرون، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 1413 هـ.

343 - المصارف والأعمال المصرفية في الشّريعة الإِسلامية والقانون للدكتور غريب الجمال، دار الشروق، جدة. 344 - المصارف وبيوت التمويل الإِسلامية للدكتور غريب الجمال، دار الشروق يحدة، الطبعة الأولى. 345 - مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه للشهاب أحمد بن أبي بكر البوصيرى (ت: 840 هـ)، تحقيق: موسى محمَّد علي، ود. عزت علي عطية، دار الكتب الحديثة، القاهرة. 346 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي لأحمد بن محمَّد بن علي المقري الفيومي (ت: 770 هـ)، دار الفكر، بيروت. 347 - المصنِّف لأبي بكر عبد الرزّاق همام الصنعاني (ت: 211 هـ)، تحقيق: حبيب الرّحمن الأعظمي، المجلس العلّمي، الهند، الطبعة الأولى، 1390 هـ. 348 - مطالب أولي النّهي في شرح غاية المنتهى لمصطفى السيوطيّ الرحيباني، الطبعة الثّانية، 1415 هـ. 349 - المطلع على أبواب المقنع لشمس الدِّين محمَّد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي (ت: 709 هـ) المكتب الإِسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1401 هـ. 350 - معالم التنزيل لأبي محمَّد الحسين بن مسعود البغوي (ت: 516 هـ)، تحقيق محمَّد النمر وعثمان ضميرية وسليمان الحرش، دار طيبة، الرياض، الطبعة الأولى 1409 هـ. 351 - معالم السنن شرح سنن أبي داود لحمد بن محمَّد بن إبراهيم بن الخطّاب الخطابي (ت: 388 هـ)، تحقيق: عزت عبيد الدعاس، دار الحديث، بيروت، الطبعة الأولى 1388 هـ. 352 - معالم القرية في أحكام الحسبة لمحمد بن محمَّد بن أحمد القرشي المعروف بابن الأخوة، نقله إلى العربيّة وصححه روبن ليوي، مكتبة المتنبي، القاهرة.

353 - معجم الأدباء لأبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي شهاب الدِّين (ت: 626 هـ)، دار المستشرق، بيروت، الطبعة الثّانية، 1922 م. 354 - المعجم الأوسط لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (ت: 360 هـ)، تحقيق: طارق عوض الله وعبد المحسن إبراهيم الحسيني، دار الحرمين، القاهرة، الطبعة الأولى 1415 هـ. 355 - المعجم الكبير لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (ت: 360 هـ) تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة. 356 - معجم المؤلِّفين (تراجم مصنفي الكتب العربيّة) لعمر رضا كحالة، دار إحياء التراث العربي، بييوت 1376 هـ. 357 - معجم المصطلحات الاقتصادي في لغة الفقهاء للدكتور نزيه حماد، الدَّار العالمية للكتاب الإِسلامي، الرياض، الطبعة الثّالثة 1415 هـ. 358 - المعجم الوسيط لإبراهيم مصطفى وجماعة، دار الدّعوة، استانبول، تركيا 1406 هـ. 359 - معجم مقاييس اللُّغة لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا (ت: 395 هـ)، تحقيق: عبد السّلام محمَّد هارون، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى 1411 هـ. 360 - معرفة السنن والآثار لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت: 458 هـ)، تحقيق: د. عبد المعطي أمين قلعجي، دار الوعي، القاهرة، الطبعة الأولى 1411 هـ. 361 - معونة أولي النّهي شرح المنتهى لمحمد بن أحمد الفتوحي المعروف بابن البخار (ت: 972 هـ)، تحقيق: د. عبد الملك بن دهيش، دار خضر، بيروت الطبعة الأولى 1416 هـ. 362 - المعونة على مذهب عالم المدينة للقاضي عبد الوهّاب البغدادي (ت: 422 هـ)، تحقيق: حميش عبد الحق، مكتبة نزار الباز، مكّة المكرمة، 1415 هـ.

363 - المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى علماء أفريقية والأندلس والمغرب لأحمد بن يحيى الونشريسي (ت: 914 هـ)، تحقيق د. محمَّد حجي، دار الغرب الإِسلامي، بيروت 1401 هـ. 364 - المغرب في ترتيب المغرب لأبي الفتح المطرزي (ت: 616 هـ)، دار الكتاب العربي، بيروت. 365 - مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج لمحمد الشربيني الخطيب، دار الفكر، بيروت. 366 - المغني شرح مختصر الخرقي لموفق الدِّين عبد الله بن أحمد بن قدامة (ت: 620 هـ)، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، د. عبد الفتاح الحلو هجر للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الثّانية، 1412 هـ. 367 - المغني للإمام موفق الدِّين أبي محمَّد، عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي (ت: 620 هـ)، مطبوع مع الشرح الكبير لشمس الدِّين ابن قدامة، تحقيق وتعليق محمَّد رشيد رضا، مطبعة المنار بالقاهرة، الطبعة الأولى، 1345 هـ. 368 - مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، تحقيق: صفوان عدنان داوودي دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى 1412 هـ. 369 - المفهم لما أشكل من صحيح مسلم لأبي العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي (ت: 656 هـ)، تحقيق: محيي الدِّين مستو وجماعة، دار ابن كثير دمشق وييروت، الطبعة الأولى 1417 هـ. 370 - المقدِّمات الممهِّدات لأبي الوليد محمَّد بن أحمد بن رشد القرطبي (ت: 520 هـ)، تحقيق: سعيد أحمد أعراب، دار الغرب الإِسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 1408 هـ. 371 - مقدمة تاريخ ابن خلدون لعبد الرّحمن بن خلدون (ت: 808 هـ)، تحقيق: خليل شحاتة، دار الفكر العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1401 هـ.

372 - مقدمة في النقود والبنوك للدكتور محمَّد زكي شافعي، دار النهضة العربيّة، القاهرة 1969 م. 373 - المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد لبرهان الدِّين بن مفلح (ت: 884 هـ)، تحقيق: د. عبد الرّحمن بن سليمان العثيمين، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الأولى. 374 - المقنع في شرح مختصر الخرقي لأبي علي الحسن بن أحمد بن عبد الله بن البنا (ت: 471 هـ)، تحقيق: د. عبد العزيز بن سليمان البعيمي، مكتبة الرشد، الرضا، الطبعة الأولى 1414 هـ. 375 - المقنع لموفق الدِّين عبد الله بن أحمد بن قدامة، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض 1400 هـ. 376 - ملاحظات حول حقوق التأليف للدكتور عماد الدِّين خليل، مطبوع ضمن كتاب حق الابتكار للدريني، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثّالثة 1404 هـ. 377 - ملتقى الأبحر، لإبراهيم بن محمَّد بن إبراهيم الحلبي (ت: 956 هـ)، تحقيق: وهبي سليمان غاوجي الألباني، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1406 هـ. 378 - الملكية في الشّريعة الإِسلامية للدكتور عبد السّلام داود العبادي، مكتبة الأقصى عمان، الأردق، الطبعة الأولى 1397 هـ. 379 - الملكية ونظرية العقد في الشّريعة الإِسلامية لمحمد بن أحمد أبي زهرة، دار الفكر العربي، بيروت. 380 - الممتع في شرح المقنع لزين الدِّين المنجي بن عثمان بن أسدّ بن المنجي (ت: 695 هـ)، تحقيق: د. عبد الملك بن عبد الله بن دهيش، دار خضر، الطبعة الأولى 1418 هـ.

381 - المنتقى شرح الموطَّأ لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي (ت: 494 هـ) مطبعة السعادة، القاهرة، الطبعة الأولى 1332 هـ. 382 - المنتقى من أخبار المصطفى - صلّى الله عليه وسلم - لمجد الدِّين أبي البركات عبد السّلام بن تيمية الحراني، تحقيق: محمّد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثّانية 1398 هـ. 383 - منتهى الإرادات لتقي الدِّين الفتوحي الشهير بابن النجار، تحقيق: عبد الغني عبد الخالق، دار عالم الكتب، بيروت. 384 - المنثور في القواعد لمحمد بن بهادر الزركشي (ت: 794 هـ)، تحقيق: تيسير فائق أحمد محمود، وزارة الأوقاف، الكويت، الطبعة الأولى، 1402 هـ. 385 - منح الجليل شرح مختصر خليل لمحمد عليش، دار الفكر للطباعة، بيروت. 386 - منحة الخالق على البحر الرائق (بهامش البحر الرائق) لمحمد أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين (ت: 1252 هـ)، دار الكتاب الإِسلامي، القاهرة، الطبعة الثّانية. 387 - المنهاج (مع مغني المحتاج) لمحي الدِّين بن شرف النووي، دار الفكر بيروت. 388 - منهاج الطالبين وعمدة المفتين (مع شرحه مغني المحتاج) لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676 هـ)، دار الفكر، بيروت. 389 - المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد لعبد الرّحمن بن محمَّد بن عبد الرّحمن العلّيمي المقدسي (ت: 928 هـ)، تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط، ومحمود الأرناؤوط، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى 1997 م. 390 - المهذب في فقه الإمام الشّافعيّ لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي دار الفكر، بيروت.

391 - الموافقات في أصول الشّريعة لأبي إسحاق الشاطبي إبراهيم بن موسى اللخمي (ت: 790 هـ)، تحقيق: عبد الله دراز، محمَّد عبد الله دراز، عبد السّلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1411 هـ. 392 - مواهب الجليل لشرح مختصر خليل لمحمد بن محمَّد بن عبد الرّحمن المعروف بالحطاب، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثّالثة 1412 هـ. 393 - مواهب الجليل من أدلة خليل لأحمد الجكني الشنقيطي، إدارة إحياء التراث الإِسلامي، قطر 1403 هـ. 394 - موسوعة الإجماع في الفقه الإِسلامي لسعدي أبي حبيب، دار العربيّة، بيروت. 395 - الموسوعة الفقهية لمجموعة من العلماء تحت إشراف وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية، الكويت، طباعة ذات السلاسل، الكويت، الطبعة الثّانية، 1404هـ. 396 - موسوعة المصطلحات الاقتصادية والإحصائية للدكتور عبد العزيز فهمي هيكل، دار النهضة العربيّة، بيروت 1980 م. 397 - موسوعة المصطلحات الاقتصادية للدكتوو حسين عمر، دار الشروق بجدة، الطبعة الثّالثة، 1399 هـ. 398 - الموضوعات لأبي الفرج عبد الرّحمن بن الجوزي (ت: 597 هـ)، تحقيق: عبد الرّحمن بن محمَّد عثمان، المكتبة السلفية، المدينة، الطبعة الأولى 1386هـ. 399 - موطَّأ الإمام مالك، رواية: محمَّد بن الحسن الشيباني، تحقيق: عبد الوهّاب عبد اللطيف، دار القلم، دمشق. 400 - الموطَّأ للإمام مالك بن أنس (ت: 179 هـ)، تحقيق: محمَّد فؤاد عبد الباقي دار إحياء التراث العربي، بيروت.

401 - ميزان الأصول في نتائج العقول لعلّاء الدِّين أبي بكر محمَّد بن أحمد السمرقندي (ت: 539 هـ)، تحقيق: د. محمَّد زكي عبد البرّ، إدارة إحياء التراث الإِسلامي، قطر، الطبعة الأولى 1404 هـ. 402 - ميزان الاعتدال في نقد الرجال لأبي عبد الله محمَّد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت: 748 هـ)، تحقيق: علي محمَّد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى 1382 هـ. 403 - نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار (تكملة شرح فتح القدير) لشمس الدِّين أحمد بن قودر المعروف بقاضي زاده، المطبعة الأميرية، بولاق مصر، الطبعة الأولى 1218 هـ. 404 - النتف في الفتاوى لعلّي بن الحسين بن محمَّد السعدي (ت: 461 هـ)، تحقيق د. صلاح الدِّين الناهي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثّانية، 1404 هـ 405 - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ليوسف بن تغري بردي (ت: 874 هـ)، دار الكتب العلمية 1413 هـ. 406 - نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت: 852 هـ) تحقيق: علي حسن علي عبد الحميد، دار ابن الجوزي، الرياض، الطبعة الثّالثة 1416 هـ. 407 - نشر البنود على مراقي السعود لسيدي عبد الله الشنقيطي، دار الكتب العلمية، بيروت. 408 - نصاب الاحتساب لعمر بن محمَّد بن عوض السنامي، المتوفى في الربع الأوّل من القرن الثّامن، تحقيق: مريزن سعيد مريزن عسيري، مكتبة الطالب الجامعي مكّة المكرمة، الطبعة الأولى، 1406 هـ. 409 - نصب الراية لأحاديث الهداية لجمال الدِّين أبي محمَّد عبد الله بن يوسف الزيلعي (ت: 762 هـ)، المجلس العلّمي، الهند، الطبعة الثّانية، 1408 هـ.

410 - النعت الأكمل لأصحاب الإمام أحمد بن حنبل لمحمد كمال الدِّين بن محمَّد الغزي العامري (ت: 1214 هـ)، تحقيق: محمَّد مطيع الحافظ، دار الفكر المعاصر، بيروت 1402 هـ. 411 - النفح الشذي في شرح جامع التّرمذيّ لأبي الفتح بن سيد النَّاس اليعمري (ت: 734 هـ)، تحقيق: د. أحمد معبد عبد الكريم، دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى 1409 هـ. 412 - النكت والفوائد السنية على المحرر لشمس الدِّين ابن مفلح (ت: 763 هـ)، دار الكتاب العربي، بيروت. 413 - نهاية الرتبة في طلب الحسبة لمحمد بن أحمد بن بسام المحتسب، تحقيق: حسام الدِّين السامرائي، مطبعة المعارف، بغداد 1968 م. 414 - نهاية السُّول في شرح منهاج الوصول للقاضي ناصر الدِّين عبد الله بن عمر البيضاوي (ت: 685 هـ)، عالم الكتب. 415 - نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج لشهاب الدِّين محمَّد بن أبي العباس الرملي (ت: 1004 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت 1414 هـ. 416 - النهاية في غريب الحديث والأثر لمجد الدِّين أبو السعادات المبارك بن محمَّد الجزري ابن الأثير (ت: 606 هـ (تحقيق: محمود محمَّد الطناحي وطاهر محمَّد الزاوي، المكتبة الإِسلامي لصاحبها رياض الشّيخ. 417 - النور الوضاء في بيان أحكام القضاء للقاضي أحمد بن محمَّد الشعفي المعافا، مطابع مؤسسة المدينة للصحافة، جدة، الطبعة الأولى 1414 هـ. 418 - النيابة في العبادات للدكتور صالح بن عثمان بن عبد العزيز الهليل، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1417 هـ. 419 - نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار لمحمد بن علي الشوكاني (ت: 1255 هـ) دار الكتب العلمية، بيروت.

420 - نيل الابتهاج بتطريز الديباج (بهامش الديباج المذهب) لأحمد بن أحمد ابن أحمد بن عمر المعروف ببابا التنبكتي، دار الكتب العلمية، بيروت. 421 - الهداية شرح البداية (مع شرح فتح القدير) لعلّي بن أبي بكر المرغيناني (ت: 593 هـ)، المطبعة الأميرية الكبرى بولاق، مصر 1218 هـ. 422 - الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية لمحمد صدقي البورنو، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1404 هـ. 423 - الودائع المصرفية النقدية واستثمارها في الإسلام للدكتور حسن عبد الله الأمين، دار الشروق بجدة، الطبعة الأولى 1403 هـ. 424 - الوديعة البنكية والوديعة الشرعية، مقال للدكتور عبد الله المطلق، مجلة الدّعوة السعودية، العدد (1604)، لسنة 1418 هـ. 425 - الوسيط في علوم ومصطلح الحديث للدكتور محمَّد بن محمَّد بن أبي شهبة عالم المعرفة، جدة، المملكة العربيّة السعودية، الطبعة الأولى 1403 هـ. 426 - الوظائف الاقتصادية للدولة في الإسلام (رسالة دكتوراه)، للدكتور أحمد بن يوسف الدريويش، كلية الشّريعة بالرياض، قسم الفقه 1409 هـ. 427 - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزّمان لأبي العباس شمس الدِّين أحمد بن محمَّد بن أبي بكر بن خلكان (ت: 681 هـ)، تحقيق: د. إحسان عبّاس دار صادر، بيروت، دار الكتب العلمية، بيروت.

التعديل والإخراج وتنفيذ أعمال الطباعة دار كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع المملكة العربيّة السعودية - الرياض هاتف: 4773959 - 4794354 فاكس: 4787140 Email: [email protected]

أخذ المال على أعمال القُرَب

(ح) دار كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع، 1424 هـ فهرسة مكتبة لملك فهد الوطنية أثناء النشر شاهين، عادل بن شاهين محمّد أخذ المال على أعمال القرب./ عادل بن شاهين بن محمَّد شاهين - الرياض 1434 هـ 840 ص؛ 17×34 سم ردمك: 9 - 6 - 9461 - 960 (مجموعة) 7 - 7 - 9461 - 960 (ج2) 1 - المعاملات (فقه إسلامي) أ - العنوان ديوي 253 ... 4763/ 1424 رقم الإيداع: 4763/ 1424 رمك:9 - 6 - 9461 - 960 (مجموعة) 7 - 7 - 9461 - 960 (ج1) مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى 1425 هـ - 2004م دار كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع المملكة العربيّة السعودية ص. ب 13371 الرياض 11493 هاتف. 4742458 - 4773959 - 2910704 فاكس: 4787140 E-mail: [email protected]

§1/1