أخبار سلاجقة الروم = مختصر سلجوقنامه

مجهول - من أهل القرن السابع الهجري

مقدمة التحقيق

مقدمة الطبعة الثانية لولا كتاب «الأوامر العلائية» الذى ألّفه حسين بن محمد الرّغدى المعروف بابن البيبى باللغة الفارسية فى القرن السابع الهجرى/ الثالث عشر الميلادى، لضاع تاريخ دولة من أهم الدولة الإسلامية، هى دولة «سلاجقة الروم»، التى مكّنت للحضارة الإسلامية من التوطن والاستقرار فى بلاد الروم (آسيا الصغرى)، والتى ظلت لقرون عديدة متطاولة- ومنذ أيام الصراع الذى قام بين الفرس والروم فى عهد الإمبراطوريتين الساسانية والروم الشرقية- موضع تنازل دائم لا تخضع لإحداهما فترة حتى تعود بعدها إلى الإمبراطورية الأخرى. وحين سيطر السلاجقة على إيران فى النصف الأول من القرن الخامس الهجرى/ الحادى عشر الميلادى واصلوا التوسّع غربا حتى اصطدموا بالروم الشرقيين على مشارف تلك المنطقة وألحقوا بهم هزيمة منكرة وأسروا إمبراطورهم فى معركة فاصلة تعرف بموقعة «ملازگرد» (سنة 463 هـ/ 1071 م) كانت بمثابة تمهيد لحسم هذا النزاع الطويل لصالح السلاجقة بصورة نهائية وقاطعة. ولم يضيّع السلاجقة وقتا، وإنما تحركوا بسرعة لفرض الأمر الواقع؛ فأسسوا فى سنة 470 هـ/ 1078 م دولة فى آسيا الصغرى عرفت بسلاجقة الروم، ظلت تتوسع بالتدريج حتى شمل نفوذها بلاد الأرمن والقوقاز والروس. واستمرت دولة سلاجقة الروم نحو قرنين ونصف انتشرت فيها مظاهر الحضارة الإسلامية، واستقرت فى تلك المنطقة حتى انتقل الدّور من هذه الدولة إلى دولة أخرى ناشئة فتيّة برز دورها المؤثر فى الأحداث الجارية فى المنطقة حين أخذ نجم دولة سلاجقة الروم فى الأفول، وظل يتوارى رويدا رويدا حتى غاب وراء الأفق البعيد.

ولولا كتاب «الأوامر العلائية» الذى ألفه ابن البيبى فى ذكر أخبار هذه الدولة ووقائعها لمحيت صفحتها من الوجود، ولم يبق لها من أثر. لقد ألّف ابن البيبى كتابه بأمر من «الصاحب علاء الدين عطا ملك الجوينى» حاكم العراق بعد انقضاء الخلافة العباسية فى بغداد (ت 681 هـ/ 1281 م)، كان الصاحب «عطا ملك» رجلا يعرف ما للتاريخ من أهمية وقيمة فى اكتساف المعرفة، وفى تحقيق التواصل بين الأجيال المتعاقبة، بل كان هو نفسه أول من ألّف فى تاريخ المغول حين أخرج كتابه القيّم «جهانگشاى» - أى فاتح العالم- باللغة الفارسية فى ثلاثة أجزاء، معتمدا على روايات شفهية موثقة من شهود عدول، وعلى وثائق فائقة القيمة، بهدف التعريف- بطريقة موضوعية وبنظرة حيادية- بهؤلاء الأقوام (المغول) الذين برزوا فجأة على مسرح الأحداث ولم يكن أحد يعرف من أمرهم شيئا. ويبدو أن الصاحب عطا ملك خشى على أخبار دولة سلاجقة الروم أن تضيع وتندثر، فكلّف ابن البيبى بتدوين تاريخها حين رآه جديرا بالنهوض بهذا العمل بحكم قربه من مصادر صنع القرار فى بلاط السلاجقة ومراقبته للأحداث الجارية أمام عينيه من كثب، واطّلاعه على الوثائق والأسانيد المهمة، فامتثل ابن البيبى للأمر. لكن الميل إلى إظهار القدرة على البلاغة غلبت ابن البيبى وهو يدوّن تاريخ تلك الدولة، فبالغ فى استخدام المحسّنات البديعية والصور البيانية، وبذلك احتجبت الأحداث التاريخية وكادت أن تختفى تماما وراء هذا الركام الهائل من المحسنات والصّور، فضلا عن أن المؤلف حشد كتابه بالعديد من الشواهد والأشعار العربية؛ مما أدى إلى تضخم حجم الكتاب، وجعل قراءته مهمة صعبة عسيرة. ورأى رجل- عاش فى عصر ابن البيبى وما زال اسمه مجهولا حتى الآن- أن يختصر الكتاب ويهذّبه، فحذف ما فيه من حشو وزوائد، واقتصر على مجرد توصيف الوقائع وبيان الأحداث التاريخية، مستخدما الألفاظ نفسها التى استخدمها ابن البيبى، وأطلق ذلك الرجل المجهول على عمله هذا عنوان «مختصر سلجوقنامه».

كان هذا المختصر هو الذى قمت برجمته إلى العربية، استنادا إلى طبعة «ليدن» بهولندا، سنة 1902 م، والتى توفّر على إخراجها المستشرق الهولندى «هوتسما». وهذه هى الطبعة الثانية من الترجمة، كانت الطبعة الأولى قد صدرت عن مركز الوثائق والدراسات الإنسانية بجامعة قطر- الدوحة- سنة 1995 م، ثم نفدت منذ سنوات؛ مما حدا بالمركز القومى للترجمة فى مصر أن يعيد طبع هذه الترجمة ضمن إصدارات المشروع القومى للترجمة، وفى مناسبة انعقاد ندوة «ترجمة المصادر التاريخية فى اللغات الشرقية»، وهى الندوة التى عقدها المجلس الأعلى للثقافة يومى 26 و 27 أبريل سنة 1906 م. ولا يسعنى إلا أن أنوّه بالجهد المشكور والعمل المبرور الذى ينهض به المركز القومى للترجمة ممثلا فى مديره الأستاذ الدكتور/ جابر عصفور من أجل تزويد المكتبة العربية بترجمات لأمهات الكتب التى ألفت باللغات الشرقية بعامة واللغة الفارسية بخاصة. والله ولىّ التوفيق محمد السعيد جمال الدين

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة بهذا المجلّد نقدّم للمكتبة العربيّة- لأوّل مّرة- ترجمة لأوفى مصدر في تاريخ دولة سلاجقة الرّوم، وأعني به كتاب «مختصر سلجوقنامه» الذي يعدّ تلخيصا واختصارا لكتاب «الأوامر العلائية في الأمور العلائية» لابن البيبي مؤرّخ تلك الدّولة الفتيّة التي نشأت في آسيا الصّغرى في منتصف القرن الخامس الهجري، وظلّت قائمة لا تزعزعها الخطوب والمحن التي توالت عليها من كلّ جانب: من الصّليبيين في الغرب، والمغول في الشرق، وغيرهم، ولا تصرفها الأحداث الجسام التي منيت بها عن التشبّث بما تستطيع من الأقاليم في تلك البلاد، وأخذت تطاول الزّمن حتى شاء لها القدر ألّا تسلم الرّاية في النّهاية إلّا بعد أن مهّدت لقيام الدّولة العثمانية في آسيا الصغرى، واتّساع رقعتها بعد ذلك حتى شملت أوربا وبلاد الشام ومصر والبحر الأبيض المتوسّط وشمال إفريقيا. كانت دولة سلاجقة الرّوم قد نشأت في أعقاب الهزيمة التي ألحقها السّلاجقة الأتراك بالإمبراطورية البيزنطية في سنة 413 هـ (1071 م) في موقعة «ملازكرد»؛ وبانهيار الجيش البيزنطي وتراجعه السّريع أمام السّلاجقة انفتح لهم سبيل السيطرة على آسيا الوسطى وجعلها قاعدة للنّفوذ والتوسّع في بلاد الأرمن والقفقاز والرّوس.

واندفع السّلاجقة في اجتياحهم- عند ذاك- لمنطقة آسيا الصغرى حتى بلغوا «نيقية» على ساحل بحر «مرمرة» فاتّخذوها عاصمة لدولتهم التى أسّست في سنة 470 هـ (1078 م) كجناح من أجنحة الإمبراطورية السّلجوقية العظمى التي كانت تتمركز في إيران. وقد أطلق على هذا الجناح اسم «سلاجقة الروم». ثم ما لبثوا- بعد بضعة أعوام- أن نقلوا عاصمتهم إلى «قونية» تحت الضّغط المتواصل للحملات الصليبية. كان «سليمان بن قتلمش بن إسرائيل بن أرسلان بن سلجوق» قد أبلى بلاء حسنا فى معركة «ملازكرد» وفتوحات الأناضول، فأصدر السلطان ملكشاه (ت: 485 هـ- 1092 م) قرارا بتنصيبه ملكا لذلك الجناح الشّمالي الغربي من الإمبراطورية، وما لبث «سلاجقة الرّوم» أن استقلوا بدولتهم التي تعاقب أبناء سليمان بن قتلمش على عرشها حتى انقضت في النهاية سنة 708 هـ (1309 م) بوفاة آخر سلاطينها غياث الدين مسعود الثالث. كانت الدّولة السّلجوقية الكبرى قد انقسمت بعد وفاة السلطان ملكشاه إلى عدّة دول مستقلّة، سمّيت كلّ واحدة منها باسم المنطقة التي تسيطر عليها، فكانت هناك دولة سلاجقة إيران والعراق، وسلاجقة كرمان، وسلاجقة الرّوم. واحتفظ لنا التاريخ بتسجيل للوقائع والأحداث التي جرت في كل دولة من تلك الدّول (¬1). ¬

(¬1) انظر سلاجقة العراق: تاريخ دولة آل سلجوق (بالعربية) للعماد الإصفهاني، وقد اختصره الفتح بن علي بن محمد البنداري، ونشر بمصر سنة 1900 م. وفي سلاجقة إيران والعراق: راحة الصّدور وآية السّرور (بالفارسية) لنجم الدين أبي بكر محمد الرّاوندي، نشر في ليدن 1921. وقد ترجمه إلى العربية الأساتذة: إبراهيم الشواربي، وعبد النّعيم حسنين، وفؤاد الصيّاد، ونشر بالقاهرة سنة 1960 م. وفي-

أولا: الكتاب

أولا: الكتاب أمّا دولة سلاجقة الرّوم فلا نجد مصدرا عني بأخبارها بقدر ما عني كتاب «الأوامر العلائيّة في الأمور العلائيّة» لحسين بن محمد بن علي الجعفري الرّغدي المعروف بابن البيبي، والذي أتمه بأحداث سنة 679 هـ، قبل زوال تلك الدولة بنحو ربع قرن. فلقد خصّ «ابن البيبي» سلاجقة الرّوم دون غيرهم بكتابه، وسجّل ما رأى وسمع من الوقائع والأحداث التي جرت منذ أواخر عهد السلطان قلج أرسلان الثاني (ت: 588 هـ) خامس سلاطين السّلاجقة حتى سنة 679 بداية عهد السلطان غياث الدين مسعود. ولم يتمكّن المؤلف من تسجيل أحداث الفترة الأولى من ظهور دولة السّلاجقة في آسيا الصغرى وتأسيسها على يد «سليمان بن قتلمش» لأن المصادر التي قد أرّخت لذلك العصر قد أعوزته، ولم يكن بوسعه- كما أشار في مقدّمة كتابه- الاعتماد في التأريخ لتلك الفترة على «أقوال النّقلة وأقاصيص السّمّار لبعد عهدهم» من تلك الأحداث، فضلا عما في أقوالهم من تباين واختلاف. ولذلك حرمت الفترة التي تسبق عهد السلطان «غياث الدين كيخسرو» أبي السلطان «علاء الدين كيقباد» من تسجيل تاريخيّ وتوثيقيّ مفصّل يضارع ما حظيت به أحداث الفترة التّالية من تاريخ تلك الدّولة. ومع أنّ عنوان كتاب «الأوامر العلائية» - الذي هو أصل هذا المختصر- عربي، فإن الكتاب مؤلّف باللغة الفارسية شأنه في ذلك شأن العديد من الكتب ¬

- سلاجقة كرمان: كتاب تاريخ سلاجقة كرمان لمحمد بن إبراهيم، نشره هوتسما سنة 1882 - 1902 م بهولندا.

التّاريخية القيّمة التي ألّفت بتلك اللّغة، واختار لها مؤلّفوها عناوين عربية، مثل: «جامع التّواريخ» و «روضة الصّفا» و «حبيب السّير» وغيرها. وما اختار «ابن البيبي» هذا العنوان لكتابه إلا لأنّه- كما صرّح هو-: «جاء متضمّنا لمقامات عزائم السلطان الأعظم علاء الخلق والدين كيقباد- أنار الله برهانه- برمّتها، فمن أجل ذلك سمي بالأوامر العلائيّةّ في الأمور العلائيةّ». ولا يعني هذا اختصاص الكتاب بالتأريخ لعهد السلطان علاء الدين كيقباد وحده، بل يشتمل على تاريخ سلاطين تلك الدّولة- ومن بينهم السلطان علاء الدين نفسه- من سنة 588 إلى سنة 679؛ غير أن السلطان علاء الدين كان شامة بينهم، بل واسطة العقد فيهم، ولعلّ هذا هو السبب في أن المؤلّف عنون الكتاب باسمه. وإذا تأمّلنا عنوان الكتاب وجدنا مؤلّفه يكرّر كلمة «العلائيّة» مرّتين: الأوامر العلائية في الأمور العلائية، فهل الكلمة في كلتا الحالتين منسوبة إلى السلطان علاء الدين كيقباد؟ أم أنّ هناك «علاء الدين» آخر نسب إليه شطر العنوان؟ إذا نظرنا إلى خاتمة الكتاب وجدنا المؤلّف يشير إلى أنّ الكتاب قد تمّ تأليفه بمقتضى الحكم المطاع «للجناب الأعلى ملك الوزراء أبي المعالى عطا ملك بن محمد- أعلى الله شأنه» (¬1). فما ألّف الكتاب إذن إلّا بناء على أوامر صدرت ¬

(¬1) خصّ «ابن البيبي» علاء الدين عطاملك بمدح مستطاب في الشعر والنثر على السّواء، ووصفه بأوصاف بليغة في مقدّمة كتابه، ثم عاد في الخاتمة وأنشد قصيدة عربيّة في مدح علاء الدين مطلعها:-

إليه من «علاء الدين عطا ملك الجويني» حاكم العراق من قبل المغول والمؤرّخ الفارسي المعروف (ت 681 هـ- 1281 م). فأوامر علاء الدين عطاملك قد صدرت للمؤلّف بالتأريخ للأمور التي جرت في عهد السلطان علاء الدين كيقباد، ومن هنا جاء عنوان الكتاب: «الأوامر العلائية في الأمور العلائية». وقد حظيّ الكتاب منذ زمن تأليفه بشهرة واسعة بين الناس، بيد أنّه كان يحمل في طيّاته بعض عوامل القصور الذّاتي التي حالت دون انتفاع النّاس واستفادتهم به على نطاق واسع، ومن أهم هذه العوامل: 1 - ضخامة حجم الكتاب؛ إذ تقع النّسخة الوحيدة التي عثر عليها منه في 744 صفحة من القطع الكبير. 2 - الأسلوب الذي ألّف به. نعم، لقد أحسن مؤلّفه التأليف وأجاد التّصنيف، وحقّق الوقائع والأحداث، لكنّه ساق ذلك كله بأسلوب ينطوي على الكثير من المبالغة والإغراق في استخدام المحسّنات البلاغية والبديعيّة، وحرص على إظهار التمكّن من استعمال أساليب الصّنعة اللّفظية من سجع، وجناس، وطباق وتشبيه ونحوه فبدا المؤلف وكأنه لا يرمي إلى بيان الوقائع التاريخية فحسب، بل يسعى كذلك إلى إظهار مهارته في الكتابة وبراعته في الإنشاء. 3 - كثرة استخدام الكلمات والشّواهد العربيّة التي قد تبدو صعبة على من لا يلمّ إلماما كافيا بالعربيّة وآدابها من قرّاء الفارسية. ¬

- كهف الأنام علاء الدّين سيّدنا ... علّامة الدّهر، زان الملك والحسبا (الأوامر العلائية، ص 5 - 9، 743).

ولا شكّ أن العاملين الثّاني والثّالث قد ساعدا على تضخّم حجم الكتاب حتى بلغت عدّة صفحاته نحو سبعمائة وخمسين صفحة من القطع الكبير (¬1)، الأمر الذي أدّى بالضّرورة إلى ندرة النّسخ المتاحة أمام المثقّفين المعاصرين للمؤلّف للإفادة به. هذه العوامل الثّلاثة مجتمعة هي التي حفزت أحد الأدباء في عصر المؤلّف نفسه على النّهوض بتلخيص الكتاب وتهذيبه وتخليصه مما به من فضول وحشو زائد، والاقتصار منه على القدر المناسب من الاستشهادات العربيّة والفارسيّة، والتّركيز- قدر الإمكان- على سياقة الأخبار التاريخيّة دون إطناب أو إطالة، لكي تكون هذه الثّروة النّادرة من المعلومات التّاريخية بمتناول كلّ إنسان. ولقد أتمّ هذا الأديب الفاضل- والذي ظل اسمه مجهولا لا يعرف إلى وقتنا هذا- عمله الهام في نحو أربعة عشر شهرا، حيث بدأ التّلخيص في شعبان سنة 683، وأتمّه في شوّال سنة 684 هـ (وكان «ابن البيبي» نفسه لا يزال على قيد الحياة) وأطلق على كتابه اسم «مختصر سلجوقنامه»، وكتب في مقدّمته أنّ جماعة من إخوانه لما اشتكوا من كبر حجم كتاب «الأوامر العلائية»: «وبقوا محرومين من مطالعته والإفادة منه تعهّد هذا العبد الضّعيف ... أن يفي .. بمقاصد الكتاب ومغازيه دون إطناب في الأوصاف وإغراق في التّشبيهات، كي يكون كلّ إنسان قادرا على تحصيل نسخة وتحقيق المطلوب، فيصل نفعه لعموم الخلق». ¬

(¬1) انظر: كتاب الأوامر العلائيّة في الأمور العلائية، نشر عدنان صادق إرزي، أنقرة 1956 م.

ولقد التزم صاحب هذا المختصر بما تعهّد به من الوفاء بمقاصد الكتاب الأصلي ومغازيه فلم يحذف من موضوعات الكتاب شيئا وإنّما حافظ على التّسلسل الموضوعي الذي انتهجه ابن البيبي، وفي المرّة التي عدل فيها عن اختصار أحد الفصول، أتى بنبذة عن مضمونه في الفصل الذي يليه مباشرة، للدّلالة على التزامه بما تعهّد به منذ البداية (¬1). وكان أهمّ ما حرص عليه صاحب المختصر، هو الاحتفاظ بألفاظ «ابن البيبي» وعباراته نفسها، فقلّما استخدم ألفاظا وعبارات من عنده، ولذلك جاء المختصر بمثابة صورة مصغّرة من كتاب «الأوامر العلائية» وإن كانت تنزع في أسلوبها إلى البساطة والسّهولة متى قورنت بأصلها الأوّل. وإمعانا في التيّسير على القارئ عمد صاحب المختصر إلى الأبواب التي أوردها «ابن البيبي» شعرا في «الأوامر العلائية» وبخاصّة عند ذكره لحروب السلطان علاء الدين كيقباد (¬2) فحوّل تلك الأبواب إلى نثر سهل لا صنعة فيه. وكانت نتيجة هذا الجهد كلّه أن خرج ذلك الأديب- المجهول الهويّة- على النّاس بهذا المختصر الذي يبلغ عدد صفحاته في أصوله الفارسيّة 337 صفحة من القطع المتوسّط، أي أنّه اختصر من كتاب «الأوامر العلائية» أكثر من نصفه، وأطلق عليه اسم «مختصر سلجوقنامه»؛ وهو الذي نقدّم ترجمته العربية اليوم بعنوان رئيسي هو «أخبار سلاجقة الروم» لتقريب موضوعه إلى القرّاء العرب. ¬

(¬1) انظر فيما يلي ص 157. (¬2) انظر: الأوامر العلائية، ص 122 - 127، 317 - 319، 392 - 406، 671 - 679.

وواضح أنّ المختصر كان- من حيث عناية النّاس به واهتمامهم بالانتفاع بمادتّه- أوفر حظا من الكتاب الأصلي نفسه. ففي القرن التّاسع الهجري نقل أحد الأدباء الأتراك كتاب «مختصر سلجوقنامه» إلى التّركيّة، وقدّمه حوالي سنة 827 هـ إلى السلطان العثماني مراد الثّاني، وهو أمر لم يتح لكتاب «الأوامر العلائيّة» نفسه، فيما نعلم. وفي العصر الحديث عثر المستشرق الهولندي المعروف «م. هـ. هوتسما» (المتوفّى سنة 1943 م) على نسخة من هذا المختصر في «المكتبة الوطنّية بباريس» تحت عنوان: «تواريخ آل سلجوق، وهذا المجلّد مشتمل على مختصر سلجوقنامه، وأصله تأليف «ناصر الملّة والدين يحيى بن محمد المعروف بابن البيبي». وقام «هوتسما» بطبع الكتاب- معتمدا على هذه النسخة الوحيدة- بمطبعة «بريل» في «ليدن» بهولندا سنة 1902 م (¬1)، ونفدت نسخ هذه الطبعة بعد نشرها بزمن يسير، وأصبح من المتعذّر العثور على نسخة منها. حتى قام الدكتور «محمد جواد مشكور» - الأستاذ بجامعة طهران- فى سنة 1971 م بتصوير طبعة «هوتسما» وضمّنها كتابه «أخبار سلاجقة روم» الذي جمع فيه- إلى جانب المختصر- الكثير من النّصوص التّاريخية الفارسية عن تلك الدّولة وزوّدها بالعديد من الهوامش والتّعليقات الضّافية والتي أفاد في كتابة العديد منها بكتاب «الأوامر العلائية» بعد طبعه في تركيا سنة 1956 م. ¬

(¬1) M.H.Houtsma, Histoire des Seldjoucides d Asie Mineure, d, Apres l Abrege de Seldjouknameh d ibn- Bibi, Texts Persan, publie d apres le Ms de Paris, Leide E.J.Brill, 1920.

ثانيا- مؤلف الأوامر العلائية

وكان الأستاذ «عدنان صادق أرزي» قد عثر على نسخة خطّية وحيدة لكتاب الأوامر العلائية بمكتبة «آيا صوفيا» في استانبول نسخت في سنة تأليفها (سنة 679 هـ) وقدّمت لغياث الدين كيخسرو الثّالث، فقام الأستاذ عدنان إرزي بطبع هذه النّسخة نفسها بحيث تكون مطابقة للمخطوط الأصلي بطريقة «الفاكسميل»، ونشرها بأنقرة سنة 1956 (¬1). ثانيا- مؤلّف الأوامر العلائية (¬2) هو الأمير ناصر الدين حسين بن علي الجعفري الرّغدي، المعروف بابن البيبي، من أدباء القرن السّابع الهجرى ومؤرّخيه. وقد عرف المؤلف بابن البيبي نسبة إلى أمّه «بي بي» المنجّمة التي كانت تتمتّع بقدر كبير من النّفوذ في عهد السلطان «علاء الدين كيقباد». ويصل نسبها القريب إلى اثنين من كبار الفقهاء في عصر السّلاجقة في خراسان، فأبوها «كمال الدين السّمناني» رئيس الشّافعية في نيسابور، وجدّها لأبيها الإمام الربّاني «محمد بن يحيى» رئيس الحنفيّة في نيسابور، والذي قتل في فتنة الغزّ بخراسان سنة 548 هـ (أوائل سنة 1154 م). وفي بلاط السلطان جلال الدين خوارزمشاه، عملت «بي بي» وزوجها مجد الدين، وكان من سادات «جرجان». وحين سافر أحد أمراء السلطان «علاء الدين كيقباد» في سفارة لبلاط السلطان جلال الدين خوارزمشاه وجد ¬

(¬1) انظر المقدّمة التركية التي كتبها الأستاذ عدنان إرزي لكتاب الأوامر العلائية، ص 5. (¬2) راجع الأوامر العلائية، ص 10، 442، ومختصر سلجوقنامه، ص 194 وانظر فيما يلي ص 234 - 235.

هذه السّيدة مسموعة الكلمة عند جلال الدين لمهارتها في أحكام النجوم، فلمّا عاد الأمير إلى مليكه حكى له حكاية هذه السّيدة على سبيل التندّر. وكانت «بي بي» فاتحة خير لكلّ من زوجها: مجد الدين محمّد، وابنها ناصر الدين حسين مؤلّف كتاب الأوامر العلائية. ولم يمرّ وقت طويل حتى قتل السلطان جلال الدين، فدعيت «بي بي» المنجّمة وزوجها للعمل في خدمة «علاء الدين كيقباد». فلما أثبتت مهارتها في علم النجوم وموافقة أحكامها- غالبا- للقضاء والقدر، طلبت إلى السلطان تعيين زوجها «مجد الدين محمّد التّرجمان» رئيسا لديوان الإنشاء الخاصّ بالسلطان، فتحقّق لها ما أرادت وأصبح زوجها من الملازمين الدّائمين للسلطان في الحضّر والسّفر، وبلغ من ثقة السلطان به أنّه لم يكن يرى أحدا أصلح منه لحمل الرّسائل إلى البلاطات الكبرى كبغداد والشّام والخوارزميين، والإسماعيلية، والمغول، ولذلك لقّب مجد الدين بلقب «التّرجمان» وتوفي سنة 670 هـ. أمّا مؤلّف الأوامر العلائيّة (الذي يعدّ هذا المختصر صورة مصغّرة من كتابه) فلا نكاد نعرف عنه إلّا معلومات ضئيلة للغاية، فقد منح لقب الأمير، حين صار أميرا لديوان الإنشاء بعد اعتزال أبيه للعمل، فيما يبدو، وكان يلقّب بأمير ديوان «الطّغرا» حيث كان يتولى كتابة المراسيم والأوامر السلطانية ويمسك أختام السلطنة، وقد تزوّج ناصر الدين حسين من ابنة أمير الأمراء «كمال الدين كاميار» الذي حظي بمكانه بارزة لدى السلطان «علاء الدين كيقباد» بعد أن تيسّر للسلطان- بفضل كفاءته وخبرته- الاستيلاء على أرمينيا وبلاد الكرج وأجزاء من بلاد الشّام، غير أنّ كمال الدين لم يلبث أن قتل في أوائل عهد

السلطان «غياث الدين كيخسرو» سنة 634 هـ. هذا هو مجمل لما ورد من أخبار المؤلّف، وهو يدلّنا على مدى ما لديه من مؤهّلات تمكّنه من مراقبة الأحداث من كثب، وتسجيلها باعتباره شاهد عيان لها. على أننا إذا تأمّلنا كتاب «الأوامر العلائيّة» وجدنا مؤلّفه من كبار أدباء الفرس، ومن أصحاب اللّسانين العربي والفارسي، بل ينظم الشعر بكلتا اللغتين، وله اطّلاع واسع عميق بالعربيّة وآدابها. والحقّ أن «علاء الدين عطاملك الجويني» - وهو المؤرّخ الثّبت وصاحب المدرسة التوثيقية في كتابة التّاريخ عند الفرس- لم يكن ليعهد إلى ابن البيبي بكتابة تأريخ لسلاجقة الرّوم إلا إذا كان قد أنس فيه القدرة وأيقن أنه يمتلك عدّة النّهوض بأعباء هذا العمل الكبير، فهو بحكم منصبه في ديوان سلاجقة الرّوم قادر على الاطلاع على الوثائق التاريخيّة الهامّة، مراقب للأحداث والوقائع، مطّلع على ما يحاك من مؤامرات القصور ويدبّر فيها من دسائس، فضلا عن مكانة أبيه «مجد الدين الترّجمان» وأمّه «بيبي المنجّمة» في بلاط السّلاجقة، مما أتاح له فرصة سماع الكثير من الأحداث التي لم يشهدها بنفسه من أقرب المصادر وأوثقها. لقد عاش ابن البيبي وتربى في كنف هذه الدّولة، وتبوّأ مركزا يقرّبه من سلاطينها «فخط في هذا المجلد ما جرى من الأمور في السّنين والشّهور في بلاد الرّوم مما قد رأى وسمع» (¬1). وبفضل هذا التثبّت جاء الكتاب سجلا ناطقا لكل مظاهر الحياة السّياسية، والعسكرية، والاقتصادية والاجتماعية، والثّقافية والمعمارية، والحضارية بعامّة في دولة سلاجقة الرّوم. ¬

(¬1) «مما قد شاهد وسمع» هي نفس عبارة عطاملك الجويني في مقدمة جهانكشاي، طبع ليدن سنة 1911، 1: 3.

ثالثا- هذه الترجمة

ثالثا- هذه الترجمة وقد اعتمدت في نقل كتاب «مختصر سلجوقنامه» إلى العربية على نسخة المستشرق الهولندي «هوتسما»، والتي نشرها في ليدن سنة 1902 م. غير أني صادفت منذ الوهلة الأولى صعوبات جمّة في التّرجمة، لامتلاء تلك الطّبعة بكلمات وعبارات محّرفة أو مصحّفة غير مستقيمة المعنى ولا واضحة الغرض، يحتاج إصلاحها إلى وقت طويل وفحص في المعاجم غير قليل، وتحوّط من الخطأ، وتفهّم لما يقتضيه السّياق من المعاني والأغراض، ومعرفة بأساليب الكتابة الفارسيّة ومصطلحاتها في ذلك العصر. وبدا لي نقل الكتاب في ظلّ هذا التّحريف والتّصحيف أمرا بعيد المنال، إلى أن يسّر الله- عزّ وجلّ- لي الحصول على نسخة مصوّرة من كتاب «الأوامر العلائية» وهو أصل هذا المختصر، فعمدت إلى مقارنة المختصر بالأصل، وأمكن من خلال المقارنة إصلاح المحرّف والمصحّف من الكلمات، وتكميل النّاقص من الجمل، وتحقيق الأعلام وضبطها، وضبط الملتبس من الألفاظ، وإيضاح الغامض من العبارات. وقد نبّهت على ذلك كلّه في حواشي الترجمة، وأشرت اختصارا إلى كتاب الأوامر العلائية بالحرفين أ. ع. وأودّ أن أنبه إلى أنّ صاحب هذا المختصر لم يستطع منذ البداية أن يتخلّص من إسار طريقة «ابن البيبي» في الكتابة، وإنما سايره كلّ المسايرة، وحذا حذوه وتابعه فنقل عباراته بنصّها- كما أسلفنا، واقتصر جلّ عمله على حذف الفقرات التي رآها لا تضيف كثيرا إلى توصيف الوقائع وبيان الأحداث التاريخيّة، واكتفى من العبارات بما يعين على أداء المعنى دون إطناب فاستبعد بذلك سائر العبارات التي تؤدي المعنى نفسه. ولم يتدخّل في تغيير ما انتقاه من عبارات

الأصل إلا لماما، ولم يضف من عنده شيئا، اللهم إلا بعض العبارات الإنشائية في عديد من المواضع (¬1)؛ ولذلك ظلّت مسحة من التكلّف والحلية اللفظية عالقة بالأسلوب، ولقد كان ذلك- على كلّ حال- طابع العصر. ولقد حاولت- ما استطعت- أن أحافظ على أسلوب الكتاب وأن أنقل في التّرجمة كلّ ما يرمي المؤلّف إلى بيانه، لكى تصبح هذه التّرجمة صورة صادقة للنصّ الفارسي. وأثبتّ أرقام صفحات الأصل الفارسي في الهامش الجانبيّ للصفحات لكي يتيسّر بذلك الرّجوع إلى الأصل عند الحاجة. أما الآيات القرآنية التي وردت في المتن فقد رددتها إلى مواضعها من كتاب الله العزيز، وأشرت في الهوامش إلى ما اشتمل عليه المتن الفارسي من نصوص وأمثال وعبارات عربيّة. أما الأشعار العربيّة فقد استطعت ردّ بعضها إلى قائليها من شعرائنا العرب، من الذين جرت أشعارهم مجرى الأمثال في آداب الأمم الإسلاميّة بعامّة والأدب الفارسي بخاصّة. ثم عمدت في الحواشي إلى التّعريف بالمجاهيل وبعض الأعلام، وشرح بعض صور التّعبير المألوفة في الفارسية لتقريبها إلى القارئ العربي، وزوّدت المجلّد بخريطة تفصيلية تشتمل على معظم أسماء الأقاليم والمدن الواردة بالتّرجمة، ثم ذيّلته بفهارس للأعلام والأماكن والشعوب والطوائف (1). وأرجو أن تكون التّرجمة بذلك قد نالت حظّها من العناية. ¬

(¬1) أبقيت في الترجمة على الحروف الفارسية الواردة في أسماء الأعلام. وإليك بيان بكيفية نطق هذه الحروف: پ تنطق مثل حرف (P) في الإنجليزية. چ ينطق مثل حرفي (CH) في الإنجليزية. گ ينطق مثل حرف (G) في كلمة Garden الإنجليزية، أو مثل الجيم المصرية في اللهجة العامية.

وبعد، فإن هذا العمل- الذي يمثّل إضافة حقيقية للمكتبة العربية هي في أمسّ الحاجة إليه لندرة الأعمال التي تعالج موضوعه- ما كان يمكن أن يخرج بهذه الصّورة لولا التّشجيع الذي لقيته من جامعة قطر ممثّلة في مديرها الفاضل الأستاذ الدكتور عبد الله جمعة الكبيسي، والأستاذ الجليل الدكتور عثمان سيّد أحمد مدير مركز الوثائق والدّراسات الإنسانية، والأستاذ الكريم الدكتور عادل حسن غنيم رئيس وحدة بحوث التّاريخ والوثائق، وسائر الإخوة الأفاضل أعضاء الوحدة، فجزاهم الله عن العلم وأهله خير الجزاء. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، محمد السعيد جمال الدين القاهرة: ضحوة الإثنين 24 ربيع الثاني 1414 هـ 11 أكتوبر 1993 م

المصادر والمراجع التي رجعنا إليها في تحقيق الكتاب وتحرير حواشيه

المصادر والمراجع التي رجعنا إليها في تحقيق الكتاب وتحرير حواشيه أولا: المصادر العربية: - المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، لمحمد فؤاد عبد الباقي. - أطلس التاريخ الإسلامي، للدكتور حسين مؤنس. - الأعلام للزركلي. - تاج العروس، لمحب الدين السيد محمد مرتضى الزبيدي. - تاج اللغة وصحاح العربية، لأبي نصر إسماعيل بن حمّاد الجوهري. - تاريخ الأدب في إيران، لإدوارد براون، ترجمة الدكتور إبراهيم الشواربي. - دائرة المعارف الإسلامية، الطبعة الجديدة بالإنجليزية. - ديوان الحماسة، لأبي تمّام حبيب بن أوس الطائي، طبع فرايتاج. - الشّرق الإسلامي في عهد الإيلخانيين، للدكتور فؤاد عبد المعطي الصيّاد، طبع مركز الوثائق والدراسات الإنسانية، جامعة قطر. - صبح الأعشى في كتابة الإنشا، لشهاب الدين أبي العباس أحمد القلقشندي. - صحيح البخاري، للإمام أبي جعفر محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري. - عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان، لبدر الدين محمود العيني، (عصر سلاطين المماليك)، تحقيق الدكتور محمد محمد أمين.

- علاء الدين عطاملك الجويني، حاكم العراق بعد انقضاء الخلافة العباسيّة في بغداد، للدكتور محمد السّعيد جمال الدين. - القاموس المحيط، لمحمد بن يعقوب الفيروز آبادي. - الكامل في التاريخ، لعز الدين على بن أبي الكرم، المعروف بابن الأثير، طبع أوربا. - كشّاف اصطلاحات الفنون، للتّهانوي. - معجم الأسرات الحاكمة، لزامباور. - معجم البلدان، لياقوت الحموي (شهاب الدين أبو عبد الله). - معجم الدّولة العثمانية، للدكتور حسين مجيب المصري. - معجم شواهد العربية لعبد السّلام هارون، طبع مصر. - المعجم الوسيط، أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة. - المعرّب من الكلام الأعجمي، لأبي منصور موهوب الجواليقي. - مفرّج الكروب في أخبار بني أيّوب، لجمال الدين محمد بن واصل. - النّجوم الزّاهرة في ملوك مصر والقاهرة، لجمال الدين أبي المحاسن يوسف، ابن تغري بردي. - نهاية الأرب فى فنون الأدب، لشهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النّويري. - وفيات الأعيان، للقاضي أبي العباس شمس الدين، ابن خلّكان.

ثانيا: المصادر الفارسية

ثانيا: المصادر الفارسية: - الأوامر العلائية لناصر الحسين بن محمد الرّغدي المعروف بابن البيبي، النسّخة المصوّرة عن مخطوط آيا صوفيا رقم 2985 - نشر عدنان إرزي، أنقرة. - برهان قاطع، لابن خلف التبريزي. - تاريخ أدبيات در إيران، للدكتور ذبيح الله صفا. - تاريخ جهانگشاي، لعلاء الدين عطا ملك الجويني، تحقيق محمد بن عبد الوهّاب القزويني، طبع ليدن. - تاريخ گزيده، لحمد الله بن أبي بكر المستوفي القزويني، باهتمام إدوارد براون. - تاريخ مغول، لعبّاس إقبال. - حبيب السّير، لغياث الدين بن حسام الدين الحسيني المعروف ب «خواندامير». - راحة الصّدور، لمحمد بن علي بن سليمان الراوندي، تصحيح محمد إقبال. - روضة الصّفا، لمير محمد بن سيد برهان الدين (مير خواند). - فرهنك ادبيات فارسي دري زهراى خانلري. - فرهنك انكليسى فارسي لاشتاين جاس. - فرهنك جديد لفريدون- كار. - فرهنك عميد لحسن عميد. - لغت نامه دهخدا لعلي أكبر دهخدا.

تقديم

بسم الله الرّحمن الرّحيم [تقديم] ربّ تمّم وأعن بعد حمد البارى والسلام الدائم المتواصل على السيد المختار، عليه السلام وعلى آله الأخيار. فإنّه لا يخفي على من يطالع هذه الأوراق أن كتاب «سلجوق نامه» كتاب عديم النّظير فقيد المثل، من منشآت الصّدر العلّامة نادرة الزمان مالك الطّغرا (¬1) ناصر الملّه والدين يحيى بن محمد، المعروف بابن البيبي، دامت فضائله. وقد استخدم فيه أسلوبا بارعا وساق فيه الكلام على وجه لا قدرة لصاحب صنعة على مجاراته ومباراته. غير أن جماعة الإخوان لما اشتكوا من كبر حجمه وبقوا محرومين من مطالعته والإفادة منه تعهّد هذا الضّعيف والتزم- مع قلّة البضاعة في الصّناعة- أن يفي- في أجزاء معدودة- بمقاصد الكتاب ومغازيه دون إطناب في الأوصاف وإغراق في التّشبيهات، كي يكون كلّ إنسان قادرا على تحصيل (¬2) نسخة وتحقيق المطلوب، فيصل نفعه لعموم الخلق. والله وليّ ذلك. ¬

(¬1) الطغرا: وهي الطرّة التي تكتب في أعلى المناشير فوق البسملة، بالقلم الجليّ، تتضمن اسم الملك وألقابه، وهي تنسب إلى الشخص الذى يكون شغله ومنصبه كتابة الطغرا وألقاب الملوك والأمراء على الفرامين والمناشير وتحرير الأوامر وإمساك الأختام السلطانية، والكلمة أعجمية محرّفة من الطرّة العربية. راجع لغت نامه لعلي أكبر دهخدا. (¬2) في الأصل: بى تحصيل، أي دون تحصيل، وقد قرأها الدكتور محمد جواد مشكور: به تحصيل؛ انظر أخبار سلاجقة الروم، طبع طهران. 135 هـ. ش، المقدمة، ص بيست ونه.

قد اعتذر مؤلف الأصل

مقدمة قد اعتذر مؤلّف الأصل في الدّيباجه أوّلا، فقال إنّ كيفية وصول السّلطان سليمان بن قتلمش بن اسرائيل إلى السّلطة، وأحوال أمرائه الكبار كالأمير منكوجك، والأمير أرتق، والأمير دانشمند ليست من الأمور المحقّقة. ومن المتعذّر تماما وجود الكتب التي أرّخت لذلك العصر، وليس بالإمكان- بسبب (¬1) اختلاف الرّوايات- الوثوق بأقوال النّقلة وأقاصيص السّمّار لبعد عهدهم. / ومن ثمّ فقد بدأ [المؤلّف] من عهد دولة السّلطان غياث الدين كيخسرو، والد السلطان علاء الدين كيقباد. ذكر تنصيب السّلطان قليج ارسلان للأمير غياث الدين كيخسرو وليّا للعهد حين تبّدلت حلّة شباب السّلطان السّعيد قليج ارسلان الأرجوانية برداء المشيب القشيب، ووصل مركب الحياة الكاملة البهيج، وحلّ وقت الوداع وتفرّق الاجتماع، استدعى [السّلطان] غياث الدّين كيخسرو، وكان أصغر الأولاد، وقد اختصّ من بين إخوته الأحد عشر بشرف ملازمة أبيه، وقال له: يا بنىّ، اعلم أنّه قد دنا ارتحالي من هذا الفناء، وها أنذا أتأهّب للتزوّد بزاد طريق المعاد. وأنت بحمد الله بشرى الثّمار في حديقة الملك، ونوّار روضة الألطاف الإلهيّة. ما أسعد العرش بأن يجلس عليه مثلك؛ وليس لنا أن نؤثر أحدا عليك. ¬

(¬1) في الأصل، بحسب، والمعنى بها لا يستقيم.

وأنا ما اخترتك على الإخوان إلا لما رأيته فيك من لياقة للملك؛ إنني أنصبك على رأس الخلق، وما الخلق إلا ودائع الحقّ، وأنا إنما أعهد بالملك إليك وبالرّوح لرضوان (¬1). «يا بنيّ لا تشرك بالله إن الشّرك لظلم عظيم .... يا بنيّ أقم الصّلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إنّ ذلك من عزم الأمور، ولا تصعّر خدّك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحبّ كلّ مختال فخور» (¬2). يا بنيّ، إنما يسأل الملوك عن العدل: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلّكم تذكّرون» (¬3) الدنيا فرّارة ما قرت لأحد أبدا، إنما هي كسجم السحاب ليس له من دوام، وبكاؤها كابتسام البرق لا يصدر عن رضا وارتياح، إن أضحك ساعة أبكى سنة، وإذا أتى بسيّئة/ جعلها سنّة. فلمّا وعظه بتلك الوصايا البليغة، أمر فاجتمع أركان الحضرة وأعيان السّلطنة. ولما رأى صفّة الديوان غاصّة بالخاصّ والعامّ قال: قد بلغت شمس إقبالي درجة الزّوال، ومعلوم أنّ الملك لا يبقى بلا مالك، كما لا تبقى المدينة بغير مدبّر، شعر: - يمضي واحد ويحلّ محلّه آخر ... لا يدع الله الدنيا بغير حاكم. ¬

(¬1) خازن الجنّة. (¬2) سورة لقمان: 13: 18. (¬3) سورة النحل: 9.

وإنّ ابني كيخسرو ذا الوجه الّذي يشبه وجه «منوتشهر» (¬1) إنما يتحلّى بالآداب السّلطانية، وهو في حلبة هذا المضمار يتمتّع بالسّبق والبروز على إخوانه، وعلى ملوك سائر الديار. ولقد منحته ولاية العهد، وفتحت أمامه باب هذه الدّولة، وأجريت حكمه في الولاية والرعيّة طالما كنت على قيد الحياة، وجعلته وارثا للتاج والخاتم، ونحّيت نفسي جانبا. إنّما عليكم أن تبايعوه، وأن يتبين منكم رسوخ القدم- كالصّخرة الصّماء- على محبّته والولاء له. فما لبث أعيان الدولة- بعد البكاء والعويل والسّكوت الطّويل- أن رأوا أن الانقياد لأوامر السّلطان من أوجب الواجبات، وقالوا: السلطان غياث الدين بطلنا، وهو عندنا في الظاهر والباطن والغيبة والحضور سواء، نسلك طريق الغلظة والحدّة- كالسّيف والسّنان- مع خصوم دولته. وأضافوا إلى تلك المواثيق من الحلف والأيمان ما لا يمكن لتأويل أن ينقضه عند أهل الإيمان. وبعد الحلف على درء المخالفة ونصب راية الموافقة، وإحكام أحكام النّصرة والمعاضدة، أقروّه على السلطنة [شعر]: - جلس السلطان مبارك القدم بيمن القدوم ... فوق عرش السّلطنة في بسيط خطّة الرّوم. ووقف قادة الأطراف بجوار العرش يمينا ويسارا، وجعل ما لا حصر له من الدّرهم والدينار نثارا، ووصلت الخلع والتّشريفات الثمينة من خزانة السلطنة/ إلى طبقات الأمراء والكبراء، فازداد بذلك النّوال ميل الكافّة، وقضوا في السّرور والطّرب أياما عشرة، ولم يدعوا في شرعة اللهو والطّرب من بقيّة إلا جرعة السّاقي. ¬

(¬1) منوتشهر، من ملوك الفرس القدماء، وقد وصف ببهاء الطلعة.

ذكر اجتماع الإخوان بالملك ركن الدين وتحريضه على التمرد

ثم ما لبث أن التفت إلى عمارة البلاد والأمصار، ونقلت الأخبار إلى أطراف المملكة. وكانت هذه الحكاية في سنة ثمان وثمانين وخمسماية. ذكر اجتماع الإخوان بالملك ركن الدين وتحريضه على التمّرد حين بلغ الخبر مسامع الإخوان تحرّكت بواعث الحسد- عند كل منهم- في باطن الجسد، وجلس كلّ أخ على نار، مع أن كلا منهم كان مستحوذا على إقليم ومستوليا على مملكة؛ فكانت توقات مع توابع ركن الدين سليمانشاه، ونكيسار مع مضافات ناصر الدين بركيا رقشاه بينما تولى آبلستان مغيث الدين طغرلشاه، وقيصرية نور الدين سلطانشاه، وسيواس وآقسرا قطب الدّين ملكشاه، وملطيّة معزّ الدّين قيصر شاه، وأراكلية سنجر شاه، ونكيده ارسلانشاه، وأماسية نظام الدّين أرغون شاه، وأنكورية محيى الدّين مسعود شاه، وبرغلو غيّاث الدّين كيخسرو. ولم يكن يعود من أعمال تلك الدّيار على ديوان سلطنة الوالد شىء قطّ قلّ أو كثر، بل كانوا يقدمون على أبيهم مرة واحدة في السّنة، ويعودون بعد تحقّق المقصود. مجمل القول أن الملوك حين تحرّكت فيهم نوازع الغلبة وبواعث السيطرة، تجمعوا عند ركن الدّين سليمانشاه، وكان أخاهم الأكبر، وأخذوا في تفنيد رأي أبيهم وتوهين فكره، وذهبوا إلى أنه إنما تيمّم ببقايا الزّبال مع وجود الماء الزّلال، وتشبّث بحيلة الثعلب الأعرج رغم أن صولة الفهد على أهبة الاستعداد [بيت]:/

- لن نرضى بما حكم الأب ... كيف نزيل هذا الشّنار ونمسح هذا العار. وذكروا من هذا النوع من الكلام المغشوش (¬1) ما يشبه العهن المنفوش. ونظرا لما كان يتمتع به الملك ركن الدين من دهاء وعقل أجاب بقوله: إن سيّد العالم- خلّد الله أيّامه- حاكم موفّق، كل ما يأمر به ويقوله إنما يذعن له الفلك رغبا ورهبا. ولما كانت ذاته الشريفة هي السبب في تكوين طينتنا نحن فإن عدم ارتسام أحكامه وامتثال أمره مفض إلى العقوق ومؤدّ لنكران الحقوق: [شعر]: - لا أبيع رضاه بملك ما في الأرض جميعافما لتراب الكثيب الفاني ذلك المقدار. سيّما وأن سيماه الكريمة قد تغيّرت .. ومعين ترفه ونعيمه قد تكدّر، فالنهوض لنقض أحكامه- وهو ما يجعله مضغة في الأفواه وأضحوكة للأشباه- أمر بعيد عن الرأي السديد. إن غياث الدين وإن كان صغير السن (¬2) قد التحق بمدرسة: «وعلّمناه من لدنّا علما» (¬3)، وأتقن فيها استيعاب الآداب الملوكية، وأخرجها من القوة إلى الفعل، «والله يؤيد بنصره من يشاء» (¬4). وحين سمع الإخوة هذه النصائح نبذوا ما كان قد تسلل إلى رؤوسهم من هواجس سوداوية، ¬

(¬1) كذا في الأصل مغشوش، والمغشوش: غير الخالص (المعجم الوسيط). (¬2) في الأصل پسين خردست: متأخرا صغيرا، وفي الأوامر العلائية [ص 28] بسنّ خردست: صغير السن، وهو الأصح كما هو واضح. (¬3) تضمين من القرآن الكريم، سورة الكهف: 65. (¬4) سورة آل عمران: 13.

ذكر سماع السلطان ركن الدين وفاة أبيه، وصرف همته لانتزاع الملك من قبضة أخيه

وآب كل منهم إلى ملكه خاسرا خائبا. وفي أثناء هذه الحالات وصل الخبر بأن السلطان «قلج ارسلان» قد التحق بدار الجنان، وجلس غياث الدين منفردا على مسند الملك، واستوى على العرش. ذكر سماع السلطان ركن الدين وفاة أبيه، وصرف همّته لانتزاع الملك من قبضة أخيه حين علم الملك ركن الدين في شهور سنة ثمان وثمانين وخمسمائة بوفاة أبيه أشعل القلب بنار احترق بها لفراقه، وبعد شرائط العزاء ولوازم البكاء دفع برسل مسرعين إلى أعوانه وأعضاده حيث تتجمّع الأجناد في الأغوار والأنجاد. وغادر بنفسه توقات دون أن يصطحب معه جندا، وما كاد يصل إلى آقسرا حتى لحق به جيش ضخم جدا، فبلغ الجميع «قونية» في خدمة ركاب مظلّته الملكية، فشهر أهل «قونية» درع المقاومة في وجوههم، وظل ستون ألفا من حملة الأقواس طيلة أربعة أشهر، وبصورة يومية، مشتبكين في الطّعان والنّزال مع عساكر الملك ركن الدين. وفي النهاية أرسلوا رسولا إلى الملك واصطلحوا على أن ينطلق السلطان غياث الدين مع أبنائه وأتباعه وأشياعه إلى أية ناحية يرتضيها خاطره، ويصل سالما إلى مقصده، ثم يدخل الملك المدينة من بعد ذلك فيبايعه أهلها على الولاء له. فأبرم العهود وفقا لما التمسوه، وأرسلها. فعرضت جميعا في حضرة السلطان، ووقعت منه موقع الحمد والاستحسان، وأمر بأن يذهب اثنان آخران من أهل المدينة ممن لهم علم بظواهر الأمور وبواطنها، إلى حضرة الملك

ذكر جلاء غياث الدين كيخسرو والوقائع التي شاهدها فى غربته

بهدف التأكيد، وأن يحصلوا على وثيقة ورسالة خطّية منه مؤكّدة بأقسام القسم والأيمان الغلاظ. ففعلا ذلك في الحال وحين طالع السلطان العهود آثر تسكين روع القلب وجيشان النفس (¬1)، واختار الجلاء مضطرّا. ذكر جلاء غياث الدين كيخسرو والوقائع التي شاهدها فى غربته في سنة ست وتسعين وخمسمائة، عند صلاة العشاء، وقد ظهرت الكواكب الدرارى في/ الدّغل اللازوردى للقبة الزرقاء كأنّها الزهور النّديّة، غادر السلطان المدينة في كوكبة من الخواصّ وسلك طريق آقشهر قاصدا «ستنبول». ولفرط الاستعجال واضطراب الحال عرض للملك عز الدين كيكاوس والملك علاء الدين كيقباد ما أدى إلى غيابهما عند ذاك عن خدمة أبيهما، ولم ينتبه لهما السلطان، وانطلق مسرعا من المدينة. فلما وصل إلى قرية لاديق من أعمال قونية استخفّ رعاياها بغلمانه وخواصّه، وجرحوا بعضهم، وعرّضوا الأمتعة للتّلف، فحزن السلطان لذلك وسلك طريق «لا رنده» وكتب- متعجلا- رسالة تتضمن العتاب إلى أخيه، وشكا مما لحق بعرق السلطنة النجيب من إهانة وإذلال. وحين دخل ركن الدين المدينة في اليوم التالي، وجلس على العرش، سلّم ¬

(¬1) الترجمة الحرفية: سكّن روع الرّوع، وجيشان الجأش، والرّوع: القلب، والجأش: النفس.

الرسل الرسالة، فهاج وماج من فرط الغضب، غير أنه كظم غيظه كسبا للوقت، وصاح في الرسل قائلا: مثل هذا يجب أن يحلّ بمخالفي الدولة، والمخلّفين من أنصارها (¬1). ثم أومأ خفية إلى بعض أفراد حاشيته بأن يعملوا على تهدئة خواطرهم (¬2). وأمر بأن ينادى في الناس بأن كل من أغار على أخي السلطان وألحق الأذى والضرر بمن معه، عليه أن يتقدّم ويعدّ ذلك سببا للتقرّب والزّلفى. فاغترّ أولئك المجاهيل بهذه المغريات، وبادر كل منهم يستبق غيره حتى تجمّعوا بأجمعهم في الديوان وقد أحضر كل منهم بصحبته كل ما كان قد استلبه، وهو يقصد بذلك أن يروّج سوقه. فأسلم السلطان كل فوج إلى جماعة، واستدعى الملكين (¬3) وأجلسهما على العرش فوق ركبتيه، وأبدى عطفه وحدبه عليهما، وخيّرهما بين الإقامة والارتحال، فاختارا السفر واللحاق بأبيهما، وتحدّرت رغما عنهما/ العبرات مدرارا على وجنتيهما كحّبات الرمّان. فأخذت السلطان رقّة لهما، وسيّرهما مع أهلهما بمودّة صادقة وقد زوّدهما بالخلع النفيسة من الأحزمة المرصّعة وما يوافقها ويجانسها. ثم أمر بصلب الجناة العصاة من شرفات سور المدينة وسلب كسوة الحياة من أبدانهم المرتعشة، وإضرام النار في القرية، ولذلك ظل اسم «سوخته» (¬4) يطلق على «لاديق» إلى وقتنا هذا. وقال السلطان: هذا ما لابد أن يلحق بمن يستخفّ بالسلاجقة من جزاء وعقاب. ¬

(¬1) الترجمة الحرفية: ومخلّفي تلك الشيعة. (¬2) يعني تهدئة خواطر الرّسل. (¬3) يعني عز الدين كيكاوس وعلاء الدين كيقباد. وكانا قد تخلفا عن مصاحبة أبيهما عند مغادرته قونية، كما مرّ. (¬4) ومعناها: المحترقة.

ذكر وصول السلطان غياث الدين لأرمينيا

ظل السلطان في مكانه لا يبرح إلى أن وصل ابناه، فلما وصلا عرضا ما لقياه من عطف عمّهما. وتقدّم رسل السلطان ركن الدين بأعذار واهية (¬1)، فاستمع إليها السلطان غياث الدين بحسن الإصغاء، ثم أعادهم مكرّمين معزّزين من حيث أتوا، وشرع هو في دخول ممالك الأرمن التي كانت في ذلك الوقت ملكا لليفون تكفور. ذكر وصول السلطان غياث الدين لأرمينيا حين جاء ليفون الخبر بقدوم السلطان، خفّ للاستقبال إجلالا كما يخفّ الظمآن للماء الزّلال، فلما ألقى نظرة على المظلّة المباركة، نزل من فوق جواده، وأصبح الجسد كلّه لسانا ناطقا بالترحيب بالسلطان. واتفق للسلطان أن توقّف شهرا هناك، ثم انطلق موليا وجهه شطر آبلستان. وبلغ الملك مغيث الدين ابن قلج ارسلان [ملك آبلستان] (¬2) الغاية (¬3) في ما تقتضيه الأخوّة من ولاء وخدمة. فأحضر قاضي المدينة وأئمتها في خلاء فسيح، وأقرّ بأن ملك آبلستان وتوابعه- كما ولّانيه أبي- أشهد على نفسى أنا طغرلشاه بأنه ملك سيّدى وأخي السلطان غياث الدين كيخسرو، ثم قدّم الصكّ/ لحضرة السلطان في الاجتماع العام. فقال السلطان: ¬

(¬1) «تقدموا بأعذار واهية فاسدة عن البقاء مدة في خدمة السلطان، فأصغى لمعاذيرهم بحسن الاستماع، وسمح لهم بالعودة مع التشريفات والكرامات» الأوامر العلائية ص 139. (¬2) إضافة من الأوامر العلائية ص 40. (¬3) في الأصل والأوامر العلائية 40: برعايت رسانيد، وينبغي أن تقرأ: برعايت رسانيد. والملاحظ بصفة عامة أن نسخة الأوامر العلائية لا تهتم بإثبات النقط.

قبلناه، ثم رددناه إليه بشهادة الحاضرين. وتوجه إلى ملطيه بعد بضعة أيام. فلما بلغ الخبر الملك معز الدين قيصر شاه استعد للضيافة والاستقبال، وذهب في جملة من الاقارب والأتباع للترحيب، فلما رأى السلطان من بعيد، ترجل وسارع بتقبيل اليد، واعتذر عن غدر أخيه واجلائه له من بلاده، وخلوّ سرير السلطنة من جلال السلطان وأبهّته، وأظهر التفجّع والتوجّع، ثم انطلق به إلى المدينة بكل تكريم وتعظيم، ووضع قصر السلطنة بكل ما فيه من متاع البيوتات تحت تصّرف نوّاب السلطان وحجّابه، وأخذ يبدي ولاءه كل يوم بصنف من صنوف الإبداع الحسنة. وذات ليلة تقدم- أثناء المنادمة- إلى السلطان فقال وقد جثا على ركبتيه: يجول بخاطرى أن أذهب بإذن السلطان عند والد زوجتي: الملك العادل، وليقنع السلطان برقعة ملطية هذه، حتى تنقضي أيام البؤس والنّحس، وعند ذاك أعود أنا إلى هذه الديار ويجلس السلطان وفق مراده، على عرش السلطنة فقال السلطان (¬1) وقد تبسّم لقوله: إن الملك العادل سلطان عاقل، والأجدر بي أنا، بسبب مصاهرتك (¬2) أنت له، أن ¬

(¬1) الملك العادل: هو الملك أبو بكر بن أيوب (540 - 615) ملك دمشق وديار مصر بعد وفاة أخيه صلاح الدين، وقسّم البلاد في حياته بين أولاده، فجعل بمصر «الكامل محمدا»، وبدمشق والقدس وطبرية والأردنّ والكرك وغيرها من الحصون المجاورة لها، ابنه «المعظم عيسى» وجعل بعض ديار الجزيرة وميّافرقين وخلاط وأعمالها لابنه «الملك الأشرف موسى»، وأعطى الرّها لولده «شهاب الدين غازي»، وأعطى قلعة جعبر لولده «الحافظ أرسلانشاه» فلمّا توفي ثبت كلّ منهم في المملكة التي أعطاها له، وسترد أسماء هؤلاء الملوك جميعا فيما يلي من أحداث. (¬2) في الأصل: خوشى: حسن، والأوامر 42: خويشى: قرابة، مصاهرة، وهو الأصح.

ذكر التحاق السلطان بملك الشام

أذهب إليه وأرى بماذا يشير عليّ، فليبق الملك مكانه، وليترقب ما سيأتي به اللاعب بالأفلاك من حجاب الغيب من صور. وعزم من بعد ذلك على التوجّه إلى حلب، فأخرج معزّ الدين من حريمه قلنسوة قيمتها خمسون ألف دينارا وسلّمها لخازن السلطان؛ وزوده- فوق ذلك- من الأمتعة بما لا حصر له. ذكر التحاق السلطان بملك الشام حين أصبح معلوما لملوك الشّام أنّ صبح الفلك الملكي قد أشرق على ديارهم/، أرسلوا الأنزال والأحمال لاستقباله، وانطلق الجيش كلّه والناس أجمعون نحوه، وترجّلوا ونالوا شرف تقبيل اليد، وتغنّوا: قدمت قدوم البدر بيت سعوده (¬1) ثم قالوا قدم سلطان العالم إلى بيته وقاعدة ملكه، ونحن إنما نضع كلّ ما لدينا لدفع وحشة الخاطر الأشرف طالما كان في الأجل تأخير وفي جعبة الإمكان سهم، وتالله ليحمينّ حمى نفسه من مداخلة الأفكار المزعجة، وليجعل من أسباب تسكين القلب المحزون قول أمير المؤمنين كرّم الله وجهه: إن للمحن غايات، وسبيل العاقل أن ينام عنها حتى يتجاوزها، ونظم قابوس الذى قاله زمن انتكاس راية دولته (¬2): ¬

(¬1) المصراع الأول من بيت عربي، ومصراعه الثاني: وجدّك عال صاعد كصعوده. (راجع الأوامر العلائية: ص 43). (¬2) يعنى به: قابوس بن وشمگير، الملقب بشمس المعالي، أمير جرجان وبلاد الجبل وطبرستان، وليها سنة 366 هـ، وهو فارسي مستعرب، نابغة في الأدب والإنشاء، وله شعر جيد بالعربية والفارسية، توفي 3، 4 هـ. (الأعلام للّزركلي)، وراجع-

وفي السماء نجوم غير ذي عدد ... وليس يكسف إلا الشمس والقمر وطوال تلك المدة كان كل ملك يقيم ضيافة للسلطان ويعرض من التّقدمات ما يليق بالوليمة. وفجأة بدا للسلطان أن يتوجه إلى «آمد»، فسارع الملوك إلى تقديم الخدمات بقدر الإمكان، ولزموا ركاب السلطان بضعة أيام برسم الوداع، ثم انقلبوا عند ذاك عائدين بالتشريفات القيّمة. وحين وصل إلى حدود آمد، أرسل الملك الصالح (وكان صهر السلطان، إذ بنى بكريمة من أولاد قلج أرسلان) أرسل أبناءه مع جملة الحشم للاستقبال، وكان قد زين قصر السلطنة بما تزدان به القصور من خزائن/ ومعدات وغلمان وجوار، ثم تهيأ هو للاستقبال بعد يومين مع كوكبة من الخواصّ، وحين وقع بصره على المظلّة المباركة ترجّل، [فأمر السّلطان الحجّاب] أن يتقدموا مسرعين وأن يجعلوا الملك يمتطي صهوة حصانه من جديد. فلما اقترب عزم على الترجّل من جديد، فأقسم السلطان عليه ألا يفعل، وأن يقبّل اليد وهو على ظهر الحصان. وحين اقتربوا من المدينة ترجّل الملك الصّالح وأمسك بعنان فرس السلطان، وجعل يسير في الرّكاب الميمون. فلما شارفوا باب القصر نثر أبناء الملك الصالح أطباقا مملوءة بالدّنانير، ولما جلس على العرش بسط الملك الصالح مفاتيح القلاع ¬

- وفيات الأعيان لابن خلكان 1: 425 طبع مصر 1948 م وتتمة الأبيات: قل للذي بصروف الدهر عيّرنا ... هل عاند الدهر إلا من له خطر أما ترى البحر يعلو فوقه جيف ... ويستقرّ بأقصى قعره الدرر [الأوامر العلائية 44)

والبقاع في سائر بلاده أمام السلطان. فتعجب السلطان من علوّ همّته، وبالغ في مدحه ثم قال: قبلناها وبأفضل المنن قابلناها ثم رددناها إليك، متّعك الله بها وبأمثالها. وهنالك وضعوا المائدة ثم رفعوها وتحول السلطان للحريم الملكي لرؤية شقيقته، وحين وقع نظر الملكة على جمال السلطان أكبّت بوجهها على قدم أخيها، وقالت: قد جعلت كل مالي من خدم وحشم نثارا لركاب المليك، فليتّخذ من هذه المدينة مقاما، وينتظر لطف الفعّال لما يريد ومواتاة الأقدار، فلعل المصلحة كانت في الجلاء [عن الدّيار]: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ «1». وقضى الأخ والأخت زمنا في هذه المناصحة والمحادثة، ثم توجّه إلى قصر صغير مخصص للخلوة، فدخلت الطواويس «2» الخضر سافرة لخدمة صقر الفضاء الملكي، فلاحظها بعين القبول، واستراح ساعة مع تلك الفتيات على مخدّة الدّعة ووسادة الرّاحة. ثم انطلق بعد ذلك إلى الحفل، وأخذ يزيل عن حواشي الزمن غبار الحزن بمحاورة الغليظ الرفيع من أوتار النّغم، وأسلم زمام الطبع للمسرة والحبور. وبعد فترة من الزّمن تحرّكت نفسه للتوجّه إلى أخلاط فيمم وجهه شطر بسيط ذلك البساط. وحين علم الملك «بلبان» / بيمن قدوم السلطان، أرسل أبناءه وأشياعه للترحيب مسيرة خمسة أيام، وسار بنفسه على الأثر، وجاء مترجّلا في ركاب ¬

(1) سورة البقرة، الآية 216. (2) الطاووس كناية عن حور الجنة، انظر: ابن خلف التبريزى: برهان قاطع.

السلطان حتى عتبة البيت، وجعل كل ما كان يملكه ابتداء من أنواع النفائس إلى الروح العزيز موطأ قدم مالكه، وأتى بمفاتيح القلاع وتفاصيل خزائن البقاع فوضعها بين يدي السلطان، وأقسم بأغلظ الأيمان أنه لم يخالجه تردد في هذا الصدد، فقال السلطان: إن مجال فتوة الملك يتسع لمثل ألف مما يقول. والمأمول أن تظل أنهار السعادة تجري- بفضل الباري- في إرم (¬1) مرامنا، وتبدو نهاية للحلقة المفرغة للأيام. ويرجى الاعتذار عن ما أبداه الملك من ألطاف. وبعد فترة من الإقامة هناك، توجّه نحو جانيت، ولبث بها مدّة، ثم استقل منها سفينة للسفر إلى ستنبول، وفجأة هبت ريح من مهبّ: تجري الرياح بما لا تشتهي السّفن، فتكررت حالة: وجاءهم الموج من كل مكان، فألقى بالسفينة على ساحل بحر ديار المغرب، فما كان منهم إلا أن ألقوا بمراسيهم، وحملوا الأمتعة من ذلك البلل إلى اليابسة بعيون دامعة وشفاه جافّة. وجعل السلطان يطوف مدة في تلك الأطراف، ويقابل شراسة أخلاق المغاربة بهشاشة ألطاف المشارقة، وكان آمنا من كيد نكد الأيام في كنف رعاية أمير المؤمنين عبد المؤمن (¬2) - رضي الله عنه، ونال حظوة تفقّده وتعهّده مّرات عديدة، وفي النهاية ولّى عنانه صوب استانبول بعد أن أذن له الخليفة. ¬

(¬1) إرم، يشيع استخدامها في الأدب الفارسي بمعنى الجنّات والحدائق الغّناء، وكان شداد بن عاد قد أنشأ مثل هذه الحدائق الرائعة في شبه الجزيرة العربية أيام عاد الأولى التي سميت بعاد إرم. وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم، في سورة الفجر الآية 6، 7: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ. (¬2) هو عبد المؤمن بن علي بن مخلوف [487 - 558]، مؤسس دولة الموحّدين في شمال إفريقية خضع له المغربان: الأقصى والأوسط، واستولى على اشبيلية وقرطبة وغرناطة والجزائر والمهديّة وطرابلس الغرب، وسائر بلاد إفريقية. [الأعلام للزركلي].

ذكر وصول السلطان من المغرب إلى استانبول

ذكر وصول السلطان من المغرب إلى استانبول عدّ فاسليوس ذلك العهد مقدم السلطان مغنما كبيرا، ورأى من الواجب أن يشارك السلطان في الحكم بل يستقلّ بملك البلاد (¬1). وكانا في وقت الاجتماع يجلسان على العرش سويّا فيتباسطان ويتلاطفان. وفي تلك الأثناء كان هناك أحد الفرنجة معروفا بالشدّة والصّرامة، ومشهورا بالشجاعة والشهامة، فلقد كان يشنّ بنفسه هجوما على ألف مقاتل فيقاتلهم بمفرده. وكانت أعطيته تبلغ عشرة آلاف دينار كل عام. وذات يوم حدث بينه وبين أصحاب الديوان قيل وقال بسبب عطائه من الثّياب، فانطلق إلى فاسليوس وشرع يشكو ويطيل في شكواه ويرغي ويزبد بغير طائل. فأخذ فاسليوس يقول بالإفرنجية: السلطان حاضر اليوم، فتوقف عند هذا الحدّ، وغدا يتم التوصّل إلى حلّ يرضيك. لكن الفرنجي ظل على وقاحته، ولم يتراجع عن صلابة جبهته وحماقته، فضاق السلطان بالأمر وسأل تكفور: ماذا يقول هذا الأمير؟ فأجاب: ربما أهمل أهل الديوان في إيصال أعطيته. فقال السلطان: ما الذي يحمل العبيد على أن يبلغوا في جرأتهم هذا المدى. وهنا سبّ الفرنجي السلطان، فأخذ الغضب منه كل مأخذ، ولفّ منديلا على يده، وبلطمة من قبضته وجّهها تحت أذن الفرنجي أطاح به من فوق كرسيّه فاقدا الوعى. فهاج الفرنجة والروم وماجوا، وحملوا على السلطان قاصدين هلاكه. فأمر فاسليوس رجاله بردّهم على أعقابهم، ونزل بنفسه من ¬

(¬1) راجع أ. ع، 51.

فوق العرش، وسكّن الفتنة. وأخرج الناس جميعا من القصر، واختلى بالسلطان فبدأ في تهدئته وأخذ يعمل على تسكين غضبه. كانت النار قد سرت في رأس السلطان من فرط الحميّة، فاغرورقت عيناه بالدموع، وما من نفس كان يتنفسه إلا وهو زفرة باردة تخرج من كبد مفعمة بالألم تهبّ على أطلال عمره. / قال لفاسليوس: إنك تعلم أنني ابن قلج ارسلان ومن صلب آلب ارسلان (¬1) وملكشاه (¬2)، كان أجدادي وأعمامي يجوبون العالم من مشرقه إلى مغربه فاتحين، وكان أجدادك يبعثون بالخراج والجزية إلى دور خزائنهم، وكنت أنت تسلك نفس الطريق معي، والآن إن كنت تجيز أن يستهزأ بي على هذا النحو لا لشىء إلا لأن القضاء السماوى قد ألقاني بأرضك، فإن إخواني- وكل منهم يمتلك بلدا- إن سمعوا بهذا صاحوا بالقول المأثور: آكل لحم أخي ولا أدعه لغيري، وجيّشوا الجيوش لهذا السبب، وجعلوا من ديارك مرابض للسباع والضباع. فلم يعجل فاسليوس في الجواب حتى هدأت سورة غضب السلطان، ومن ثم دخل من باب الاعتذار والاستغفار، وقال: كل حكم يأمر به السلطان، جار على جيشي وبلادي. قال السلطان: أيكون مصداق هذا التصوّر ألا تعدل عن كل ما أقول. فأقسم فاسليوس مجدّدا بأنه لن يحيد عن أحكام السلطان. ¬

(¬1) تولى حكم الدولة السلجوقية بعد وفاة عمهّ طغرل سنة 455 هـ، واستطاع هزيمة البيزنطيين في موقعة ملازكرد بآسيا الصغرى سنة 463 هـ. (¬2) دعي لتولى عرش الدولة السلجوقية بعد وفاة أبيه آلب ارسلان سنة 465 هـ، وبلغت تلك الدولة في عهده أقصى اتساعها.

قال السلطان: عليك إذن بتجهيز عدة سلاح أختارها بنفسي، وحصان يليق بالفرسان ويناسب الميدان، ويدخل الفرنجي معي في مبارزة، فإن كانت الغلبة للفرنجي تخلّصت من محنة الغربة وعنائها، وإن كان الظّفر لي استراح فاسليوس من جرأة الفرنجي وإساءته. قال فاسليوس: حاشاى أن أسمح بمثل هذا، فلو حلّ بالمليك- لا قدّر الله- مكروه في القتال بمصادمته للفرنجي فإنني سأوسم بالحماقة لأنني دفعت سلطانا لمقابلة واحد من آحاد الجند، ولن يكون بوسعي المقام هاهنا خوفا من انتقام إخوتك. فأقسم السلطان بأغلظ الأيمان أنه لو حدث من فاسليوس توقف في هذه القضية فسوف يقتل نفسه دون إبطاء. / وحين بلغ إلحاح السلطان الغاية أتوا من دار السلاح بعدّة وجهاز ملكي، فاختار السلطان عدة منها. وأخبروا الفرنجي بأن الغد يوم النّزال، فظلّ الفرنجي يهيّىء عدة القتال طيلة الليل، ثم ربط نفسه بإحكام على السّرج فوق ظهر الحصان، ودخل ساحة الميدان متأهّبا للقتال، فانقسم أهل تلك الديار من الصّغار والكبار والقارئ والأمّي، والمسلم والذمّي قسمين: فمال بعضهم نحو السلطان، وانحاز جماعة إلى الفرنجي الذي أهمّه القتال. كان الروح الأمين يسمع السلطان في كل لحظة قول الله عز وجل وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (¬1). وكان السلطان قد وقف في القلب مع فاسليوس ¬

(¬1) سورة الفتح. الآية 3.

كجبل الحديد، وتلا وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (¬1). وسار إلى كل طرف كالشمس في برج الشرف، وأخذ يجول حول العساكر كالبدر الزاهر. بدأ الفرنجي بالهجوم بالسّنان، فاتقاه السلطان بالدّرع، ثم أعاد المحاولة نفسها من جديد فردّها السلطان. وفي المرة الثالثة حمل عليه السلطان، وبضربة دبوس كرأس الثور مرّغ وجه من يعبد حافر حمار عيسى فى التراب، فبلغ أنينه المقيمين بخطة أسفل سافلين، [شعر]: بضربة لم تكن منّي مخالصة ... ولا تعجّلتها جبنا ولا فرقا (¬2) ولم يلق حصان الفرنجي لشدة وقع الدبوس مفرّا من الفرار، ولأن الفرنجي كان قد أوثق نفسه بإحكام على الحصان فقد بقي متدليا، فاقدا الوعي ذاهلا عن نفسه، فصاح المسلمون وفاسليوس ومن حضر من التجّار وكبار الأمراء صيحة إعجاب بلغت عنان السماء. وأراد دهماء الفرنجة إثارة الفتنة/، فأمر فاسليوس بردعهم وأنزل العقوبة ببعضهم فسكن بحر الفتنة الهائج، وأخذ السلطان من الميدان إلى داره، وقدّم الهدايا الوفيرة، وأعملوا العود والرّاح طوال تلك الليلة حتى انفلاق عمود الصباح، وأوصلوا خيط الغبوق بالصبوح (¬3). وفي اليوم التالى جيء بسائر آلات الطرب- التي كان يدّخرها آباء فاسليوس وأجداده- إلى قصر السلطان، ورأوا من الواجب يومئذ إحياء موات المتعة بإراقة ¬

(¬1) سورة الطلاق، الآية 3. (¬2) والبيت في الأوامر العلائية على النحو التالي: بضربة مثل لمع البرق مسرعة ... من غير ما فزع منه ولا فرق (¬3) الغبوق: الشرب بالعشي، والصّبوح ضّده، وهو الشرب بالغداة.

دم الدين- وهو في شرع الندماء أمر محلل، وفي أعقاب معاقرة الخمر انطلق لسان فاسليوس قائلا: إن محبّة ملك الإسلام قد تمكّنت من قلبي وروحي بحيث لا تقبل الانفصال عنهما بأي حال، ولو مرّت بي لحظة دون الأنس بوجود الجمال المبارك للمليك فإني أعّدها وبالا. غير أني أفضّل مصلحة ملك العالم على إرادة نفسي، فلو أن السلطان تكبّد المشقّة بضعة أيام- إلى أن تخمد نائرة حقد الفرنجة وغضبهم- وتوجه إلى الملك مفروزم وهو من أكابر قياصرة الروم، فلن يقصّر هذا المملوك- بكل ما يرد في دائرة الإمكان- في رفدكم، بل يؤدي بنفسه ما يوجبه تعظيم المليك من شروط (¬1) لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (¬2). فوقعت هذه الكلمات موقع القبول من مسامع أشرف الملوك، واستصوب الأمر. وبعد بضعة أيّام ولّى وجهه مع الخدم والحشم صوب تلك الجزيرة، ولم يكن يلقي بالا لجور دورة الفلك لانشغاله بدوران الكأس والرّاح. وعندما كان الملكان عز الدين وعلاء الدين يفرغان من المكتب وتعلّم الأدب (¬3) يقضيان وقتهما في صيد/ البّر والبحر. قد حان الوقت الآن للبدء بذكر سلطنة السلطان ركن الدين. ... ¬

(¬1) قارن أ. ع، ص 57. (¬2) سورة الطلاق، الآية 1. (¬3) قارن أ. ع، ص 58.

ذكر أيام سلطنة ركن الدين سليمان شاه، وتقرير جانب من مناقبه الكريمة

ذكر أيام سلطنة ركن الدين سليمان شاه، وتقرير جانب من مناقبه الكريمة كان السلطان القاهر ركن الدين سليمان شاه ملكا لم تعل في روضة الدولة دوحة مثمرة (¬1) تضاهيه من أولاد السلطان قلج ارسلان بل من أحفاد سلجوق (¬2). إن هو إلا دبوس ثقيل، وحلم بالغ على الرعية، عفّة بلغت الغاية، وورع بغير نهاية، في الحلم ذو وقار كالجبل، وفي الحكم كالقضاء المبرم لخالق الكون: حلو الفكاهة مرّ الجدّ قد مزجت ... بقسوة البأس منه رقّة الغزل هو في أنواع العلوم ريّان، وفي التزود من بضاعتها صاد وعطشان. ومن بين ما أنتجته قريحته هذا الدو بيت الذى قاله في حق أخيه قطب الدين ملكشاه، ملك سيواس وآقسرا، بسبب ما كان بينهما من عداء: أيها القطب، أنا كقطر الدائرة فلست مشيحا برأسي عنك فطالما أنا كالنقطة فلينسلخ جلد جسدي من الكتف إن أنا لم أنشر علمك من فوق رأسي. ¬

(¬1) قارن أ. ع، 57. (¬2) الجدّ الأعلى للسلاجقة، وكان رئيسا لقبيلة من قبائل الأتراك الغزّ.

حين خرج السلطان غياث الدين من بوّابة قونية، استقبل الأعيان والأشراف السلطان ركن الدين، فاعتذروا عما كان قد بدر منهم من تطاول، فقرأ الآية الكريمة: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ (¬1)، من مصحف الإغضاء وسورة الإغماض،/ وضرب عن الماضي صفحا، ودخل المدينة بالطالع المسعود في ظل المظلّة الملكية الظليل، وأضفي على العرش الملكي- بعظمة قدومه- رسما وجمالا كسرويا. وبلغ به السخاء مبلغا جعله يوّزع خراج الجند لخمس سنوات كاملة- وكان قد تجمّع لديه دفعة واحدة- على الخاصّ والعامّ برأس الصولجان في وجود المبعوثين (¬2)، وكان يأخذ بيد الفضلاء والشعراء والفنانين بلطف عنايته من وهدة الفقر والفاقة إلى رياض الدّعة والنّعمة، وحين أرسل إليه إمام الكلام ظهير الدين الفاريابي (¬3) قصيدته المشهورة التي مطلعها: زلف سرمستش چودر مجلس پريشانى كند ... جان اكر جان در نيندازد كران جانى كند [وترجمتها]: إذا ما تشوشت ذؤابته السّكرى في المحفل ... إن لم يسلم الحبيب الروح، يصاب بالسّقم ¬

(¬1) سورة يوسف: 92. (¬2) يعني المبعوثين الذين أتوا إليه بالخراج، قارن أ. ع، ص 60. (¬3) هو أبو الفضل طاهر بن محمد الفاريابي [ت 598] من شعراء الفرس الكبار في القرن السادس، مدح الكثيرين من حكام عصره.

سّلم مبعوثيه جائزة قدرها ألفي دينار وعشرة من الخيول وخمسة من البغال، وخمسة من الغلمان، وخمسا من الجوارى، وخمسين ثوبا من كل نوع. ومن عدله البالغ، أنه كان له غلام يسمى إياز، محمود السيرة، وكانت رقعة خاطره بل كان جماع قلبه يميل إلى عشق ذلك القمري الوجه مانع الحبّ، غير أن الغلام كان عائدا ذات يوم من الصيد يحمل على يده صقرا، فالتقى بعجوز كانت تحمل بيدها إناء مملوءا باللبن الخثير، ولشدة تأثير حرارة الشمس واستيلاء العطش عليه وإعواز الماء اختطف الإناء وتناول ما فيه، فركضت العجوز على الأثر إلى المدينة، ووقفت على باب قصر السلطان، وجأرت بالنواح والشكوى صائحة: إن أحد الغلمان أخذ إناء اللبن الذى كنت قد وضعته لإعداد خبز لمن أعولهم من الأيتام، ولم يعطني ثمنا. فأمر السلطان بالتحّري عن أمر تلك/ المظلومة، وهنالك حضر الغلام فقالت العجوز: ها هو ذا الخصم، فأنكر الغلام خوفا من السلطان الذي قال: إن شققنا بطن الغلام ولم يكن قد تناول اللبن فلن يكون جزاؤك إلا القتل؛ فقبلت المرأة. وفي الحال صدر الأمر إلى الجرّاح بأن يشق بطنه [قالت العجوز؛ لعلكم إن أحضرتم الجّراح فشق بطن الغلام وقلّب أمعاءه ووجدها مملوءة باللبن لزم قتل الغلام أولا وتواترت أحزان السلطان عليه بسبب ذلك، وصدق فيه المثل القائل: نحن السبب فيما يجري لنا (¬1). فأمر السلطان بمعاقبة الغلام في الحال، وأنعم على العجوز بألف دينار] (¬2). ¬

(¬1) المثل الفارسي هو: از ماست كه بر ماست، وهو يعني أيضا بسبب اللبن الخاثر ما يجري لنا، وقد أرادت العجوز نفس هذا المعنى. (¬2) اعتمدنا في ترجمة هذه السطور على أ. ع، ص 65 لاضطراب السياق في الأصل.

وعلى هذا النحو جرت السلطنة زمنا، ثم انبعث في سويداء قلبه هاجس الغزو، فعقد العزم على غزو الكرج. وكان سبب ذلك أن تامار ملكة الكرج- وكان لها على مملكة الأبخاز ودار الملك تفليس ما لبلقيس من حكم ونفاذ أمر ونهي- كانت قد سمعت أن للسلطان قلج ارسلان اثني عشر ولدا كل منهم يتمتع بملاحة القمر في السماء وصباحة الملك في الأرض. وكانت هي- مصداقا لقول القائل: أما النساء فميلهنّ إلى الهوى- حيثما وجدت أثر أمير جميل الطلعة فصيح اللسان أخذت تدعوه بلسان التعشّق قائلة: الأذن تعشق قبل العين أحيانا؛ وكانت تجلب الصيد المقصود إلى الشباك إما بالذّهب أو بمعسول الكلام. وكانت قد بعثت لبلاد الرّوم رسّاما، فرسم صورة كل أمير من الأمراء، فما تحركت جواذب العشق عندها إلا للملك ركن الدين سليمانشاه، فعشقت صورته، وأرسلت من ثمّ مبعوثا تطلب الزواج منه، فطرح قلج ارسلان القضية في الخلوة مع سليمانشاه وعمل على استرضائه وأخذ رأيه، ففتل سليمان حبل العتاب في ذلك الأمر/ الجلل، وقال: كيف يسمح ملك العالم أن يرسلني إلى مملكة الأبخاز- وهي مصطبة الكفر والضّلال- بهذا اليسر لتحصيل مقصد دنيويّ دنيّ، وإني لأرجو أن ينجز الله ما وعد في قوله تعالى: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها (¬1) بفتح الأبخاز، فأحشد الجند وأذرو تراب تلك الديار في الرياح، ثم آتي بتلك الفاجرة إلى أعتاب السلطان في قيد الإسار والخسار، مأخوذة بالنواصي والأقدام. ولكم أحسّ السلطان من أعماق الروح والقلب بالسرور والارتياح لعلوّ همّة ولده، فأبدى إعجابه بما قال، وطلب إليه المعذرة. ¬

(¬1) سورة الفتح: 20.

ذكر عزم السلطان ركن الدين سليمانشاه غزو الكرج، والعودة من هناك على خلاف الإرادة وذكر الملك فخر الدين بهرامشاه

ذكر عزم السلطان ركن الدين سليمانشاه غزو الكرج، والعودة من هناك على خلاف الإرادة وذكر الملك فخر الدين بهرامشاه كان ذلك الضّغن القديم قد تمكن في قلب السلطان، فلما أصابته نوبة السلطنة ولىّ وجهه شطر تلك الحدود بجيش ثقيل، وكان قد أرسل من قبل مبعوثين مسرعين إلى ملوك الأطراف وإخوته، كي يستعدوا للقتال والنّزال، فبادر مغيث الدين طغرلشاه ملك آبلستان بالانضمام إليه قبل غيره، كما أرسل كذلك إلى الملك فخر الدين بهرامشاه- وكان صهر السلطان ومن أحفاد منكوجك غازي (¬1) ووحيد دهره في لطف النّفس وحسن السيرة وعلوّ الهمة ونقاء الجيب وطهارة الذّيل وفرط الّرحمة والشّفقة، ولم يقم في أيام ملكه عرس ولا مأتم إلا وكان المأكل والمشرب فيه من مطبخه، أو يحضره بنفسه، وفي موسم الشتاء حين كانت الغلال والمحاصيل في الجبال/ والبرارى تحرم من إنعام الغمام، كان يأمر بحمل الحبوب في آنية ضخمة إلى الجبال والصحاري ونثرها علي الأرض لتطعم منها الطيور والوحوش بانتظام. وقد جعل «نظامي الكنجوى» (¬2) كتاب «مخزن الأسرار» باسمه، وأرسله هدية إليه فأمر له بجائزة ¬

(¬1) كان السلطان ألب ارسلان قد ولّاه إمارة أرزنجان في سنة 464، فأسس بها أسرة عرفت باسم بني منكوجك، أما حفيده الملك السعيد فخر الدين بهرامشاه فقد تولي إمارة أرزنجان سنة 550. [انظر محمد جواد مشكور، مقدمه بر اخبار سلاجقه روم، صد وهشت]. (¬2) هو الحكيم جمال الدين أبو محمد إلياس، من كبار شعراء الفرس برع في القصص التمثيلي، وتنطوي قصصه على نزعة أخلاقية واضحة، وقد بقيت له خمس قصص من بينهما مخزن الأسرار المشار إليه في المتن.

قدرها خمسة آلاف دينار وخمس من البغال السّريعة السّير. فلنعد إلى أصل الموضوع؛ ولقد دعا فخر الدين أيضا- بمقتضى الرأي الأزهر- (¬1) بالجند لكي تأتيه من كلّ ناحية، وتوجّه في خدمة السّلطان إلى أرزنجان. أما علاء الدين سلتقي- ملك أرزن الروم- فقد أخذ يتباطأ في حشد الجند والامتثال والانقياد للأمر المطاع، فأمر السلطان بعزله وعهد بتلك المملكة إلى مغيث الدين طغرلشاه (¬2)، وتوغّل من هناك في ممالك الأبخاز بجيش في عدد النجوم على خيول كالجبال، فنفر أولئك الكفرة الفجرة جميعا في جمّ غفير، وحدثت بين الجيشين مصادمات عديدة، بحيث غطّت أجساد القتلى كل مكان في صحراء المعركة، وأوشك فتح كبير أن يطلّ بوجهه من وراء ستار الغيب، وكادوا يصفون الكفار بمن ولّوا على أدبارهم (¬3)، غير أن حكم وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (¬4) قد اختطف زمام المرام من يد أهل الإسلام، وساخت قدم الحصان الذى يحمل المظلّة في جحر يربوع فسقطت المظلة على الأرض فلما وقعت أبصار الحشم والمقاتلين في المعركة عليها ظنوا أن العدوّ ربما ¬

(¬1) راجع أ. ع ص 72. (¬2) كان هذا آخر عهد بني سلدوق [سلتقي] بتولي إدارة أرزن الروم، وكان جدّهم الأعلى علي بن أبي القاسم المعروف ب سلدوق قد أسس فيها أسرة حاكمة حوالي سنة 496. (¬3) إشارة إلى قوله تعالى: وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً سورة الإسراء: 46. (¬4) سورة الأحزاب: 38.

اقتحم القلب وحلّت بالسلطان نكبة، فألقوا باليزنيّات والمشرفيّات (¬1) جانبا، وتبدل الكّر بالفرّ، وأصبح الضّارب مضروبا والقاتل/ مقتولا، فصار الأسير أميرا والأمير أسيرا، (وكان ذلك على الله يسيرا) (¬2). وأوقعوا بالملك فخر الدين مع جماعة من الحشم، وقبضوا عليهم، ونزل السلطان مع الملك مغيث الدين وكوكبة من الجيش في أرزن الروم، وبعد حصول الاستراحة وأسو الجراحة توجّه نحو الروم وذهب إلى قونية، وهناك أخذ يتهيأ للعودة وإعادة الدعوة، وفي أثناء ذلك انتقل إلى جوار ربه بسبب مرض ألمّ به، وكان ذلك في شهور سنة إحدى وستمائة: [شعر]: فقدناه لما تم واعتمّ بالعلى ... كذاك كسوف البدر عند تمامه (¬3) - نهاية الدنيا ليست سوى التراب ... وليس لها من نوال إلا السمّ ... ¬

(¬1) كذا في الأصل: يزنيات ومشرفيات، كلمتان عربيّتان، والمشرفيّة سيوف منسوبة إلى مشارف، وهي قرى من أرض العرب، [الصحاح]، أما اليزنيات، فيبدو أنها نسبة إلى ذى يزن بفتح الياء والزاى، أحد ملوك حمير. [القاموس المحيط]. (¬2) العبارة بين الحاصرتين مكتوبة في الأصل بالعربية. (¬3) من قصيدة مطلعها: مضى طاهر الأثواب لم يبق بعده ... كريم يرّوى الأرض فيض غمامه راجع الأوامر العلائية ص 74.

ذكر أيام سلطنة عز الدين قلج ارسلان ابن ركن الدين سليمان شاه

ذكر أيام سلطنة عز الدين قلج ارسلان ابن ركن الدين سليمان شاه حين انتقل السلطان ركن الدين إلى الجنّة دار السلام، أجمع أمراء الدولة- مثل نوح ألب وتوز بيك وكان كلاهما قد قدم من توقات المحروسة للانضمام إلى رايات السلطان فتقلدا المناصب الكبرى وصارا موضع الأسرار الملكية- أجمعوا على إجلاس عز الدين قلج أرسلان ابن السلطان على العرش ولم يكن قد ناهز بعد حدّ البلوغ، فبادروا بأداء النعمة/ التي أجزلها لهم الأب من خلال إمضاء مصالح الابن. ولقد تيسّر فتح ولاية سپرطه- وكانت من أضخم القلاع على سواحل بحر المغرب- في أيام حكم ذلك الطفل المعصوم، وبايع ملوك الإسلام وقياصرة الروم وتكافرة الدّرج (¬1) على الولاء له، وظلت الإتاوات والأحمال ترد إلى الخزانة من الأطراف كما كانت من قبل، وسوف نعرض لانقراض تلك الدولة في موضعه. أما مظفر الدين محمود وظهير الدين إيلي وبدر الدين يوسف أولاد ياغي بسان (¬2)، فلأنهم كانوا يميلون إلى غياث الدين كيخسرو، فقد أخذوا ¬

(¬1) إشارة إلى ملوك الأرمن، راجع ما كتبه هوتسما في هامش ص 24 من الأصل الفارسي. (¬2) هو ياغي بسان نظام الدين بن كمشتكين، من أبناء دانشمند، ممن تولوا إمارة سيواس في ظل حكم سلاجقة الرّوم. وقد توفي سنة 562. انظر محمد جواد مشكور، مقدمه، صد وشصت ويك.

يسلكون طريق الخلاف ويتنكّبون طريق الوفاق، وكان هؤلاء الإخوة الثلاثة قادة مطاعين لدى جند الأوج، فحملوا أمراء الأطراف على الميل للسلطان، وحلفوا الأيمان، وأخذوا المواثيق والحجج، ووقع اختيارهم على زكريا الحاجب- وكان معروفا بكفاءته العالية ومشارا إليه بالبنان في فرط الّدهاء ومعرفة الألسنة واللغات- ليكون رسولهم إلى السلطان. ووضعوا تلك العهود والمكاتيب في تجويف عصا وأعطوها له، وألبسوه ثوب القساوسة، وسيّروه مزوّدا بالوعود الجميلة. فلما وصل إلى ملك الملك مفروزم، واستدل على بيت السلطان، أخذ في الطواف حول البيت، ولبث يتحين الفرصة، فرأى عند الظهيرة أن أبناء السلطان قد أخذوا في النزهة مع جماعة من الغلمان، وبدأوا- على عادة الأطفال- في بناء طاحون (¬1) هناك على أطراف مرج كانت حوافّه الخضراء قد نمت وربت حول صفحة وجهه كأنها شهود. فصعد زكريا عند الملك عز الدين- وكان في الحسن بغير قرين، لم يبدع مصوّر وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ (¬2) مثله في/ معمل الوجود: [شعر]. - كان الزمان قد صنع في إثره شيئا فشيئا ما كان موافقا له من ناحية الحسن واختطف قبلة هي زاد الحياة الأبدية، فأسرع الأمير من فرط الغيظ والحنق ¬

(¬1) وشرعوا في اللهو واللعب وبدأوا في إنشاء طاحون أ. ع 78. (¬2) سورة غافر: 64

لحضرة السلطان، وحين جاء قال مفروزم ينبغى أن تنزلوا به العقوبة، وخوفا من امتهان الشرف، عمد زكريا الحاجب إلى نهر المعرفة ليفتحه، فأزاح طرف القلنسوة عن جبهته، وعند ذلك عرفه السلطان، غير أنه ضرب صفحا عن استقصاء الأمر في ذلك الحين، وأبدى لمفروزم عذرا مناسبا للحال، وأمر أحد خواصّه باللغة الفارسية أن يحتجزه. فلما خلا القصر من الأغيار طلب السلطان زكريا، فدخل من الباب مسرعا متبخترا كأنّما هو السعادة والإقبال، وقال: كانت نتيجة هذه الجرأة هذه القربى، قال السلطان: كيف حال أخي؟ أجاب: هو في أوج العظمة، استولى على مملكة الأبخاز وأذعنت له ولاية الكرج. ثم تبسّم في وسط الكلام. قال السلطان: ولم الضحك؟ فاقترب منه، وأفضى إليه بما حدث برمّته، ووضع أمامه الخطوط والعهود، فلما طالع المكاتبات والعهود، انهمر الدمع من عينيه بالرغم من امتلاء قلبه بالنار بسبب جور أخيه وما رآه من ظلم لا حدّ له، وأظهر الأسف على وفاته. ومن ثم استدعى الملك مفروزم، وقصّ عليه ما حدث، فأعلن الحداد ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع قال السلطان إنه قد أزمع التوجّه إلى/ الممالك الموروثة. قال مفروزم: كل ما عندي فداء لك، فلتأخذوا الأهبة للرحيل، ويسير هذا العبد أيضا في ملازمة ركاب المليك. وكان من قبل قد جعل ابنته التى زوّجها للسلطان، وابنه ملازمين للحضرة السلطانية، فبذل السلطان للجميع جميل الوعود، وارتحل.

وحين وصل إلى أزنيق حال فاسليوس بين السلطان وبين المسير، وقال إنني قد عاهدت ابن السلطان ركن الدين باليمين المغلّظة فلا يمكن أن أدع السلطان يتجه نحو ملكه، ولبثوا بضعة أيام في هذا القيل والقال، وفي النهاية استقر الأمر على أن يسلّم لنوّاب فاسليوس ما كان السلاجقة قد فتحوه من ولاية الروم حتى حدود قونية مثل: خوناس ولاديق وغيرهما من البقاع وأن يترك السلطان أبناءه مع زكريا كرهينة هناك، ويمّر السلطان بنفسه، فإن جلس على العرش وسلّم المواضع المذكورة لمندوبي فاسليوس انصرف الأبناء من هنا. وعلى هذا الأساس تحرك السلطان ومفروزم وسائر الخواصّ إلى نواحي الأوج. ولما انقضت بضعة أيام ذهب زكريا إلى فاسليوس وقال: إن أبناء الملوك ذوو حّس مرهف، ينتابهم الملل من الجلوس في البيت. فأذن فاسليوس بأن يركبوا للنزهة مرتين في اليوم، فيتنزهون في مروج أزنيق الأنيقة، [وأمر عددا من خواصه بملازمتهم، فغمرهم زكريا الحاجب بالإنعام والإحسان] (¬1)، وأخذ يستدرجهم بالإيهام والكناية إلى حيّز الدعوة، فأقسموا (¬2) بالإنجيل والصليب. وذات ليلة عند صلاة العشاء ركب الأمراء، وولّوا وجوههم شطر إحدى مناطق الصيد، وفجأة بدا أمامهم خنزير بريّ واتجه نحو ممالك الإسلام خوفا من السيف والسهم، فتفاءلوا بذلك، وقالوا [شعر/]: ¬

(¬1) أ. ع. 81، والنص مضطرب في الأصل غاية الاضطراب في هذا الموضع. (¬2) في الأصل: فأقسم بالإنجيل والصليب، قارن أ. ع 82.

ذكر محاصرة غياث الدين كيخسرو بن قلج ارسلان في قونية

غدت الدنيا اليوم وفق مرادنا ... وصار مسيّر الفلك عبدا لنا صار التفويض بملك البلاد من الله باسمنا ... دون أن يمتنّ أحد بذلك علينا ثم مضوا في طريقهم يسابقون الريح الصرصر العاتية مجتازين السهول والبيداء، وحين تبدّلت ظلمة الدّيجور بكسوة النّور كانوا قد وصلوا إلى حدود بلاد الإسلام. كان السلطان لا يزال منشغلا بتدبير مهمات الأوج وتأليف أهواء الأمراء في تلك الناحية، فأرسل زكريا إلى السلطان رسولا يبلغه بألا يسلّم القلاع والبلاد، فقد تعدّى الأمر ذلك ووصل الأمراء مشمولين بالسلامة إلى التخوم كالنجوم، ولحقوا بحدود ملك الجدود، فقذف السلطان لدى سماعه هذا الخبر قلنسوة الاغتباط والسرور عاليا في هواء التوفيق. ثم فرغ من مهامّ الأوج، وسار متعجّلا نحو قونية. ذكر محاصرة غياث الدين كيخسرو بن قلج ارسلان في قونية حين علم أهل قونية بقدوم السلطان أعّدوا عدة الحرب في سترة الوفاء لابن السلطان ركن الدين سليمان شاه، وتنكّبوا عن قانون الصّلح، فحمل شيطان الغرور السلطان على أن يأمر بقطع المزارع والحدائق ببلطة الضرر وفأس البأس، وتخريب القصور والدور المحيطة بالمدينة والقريبة منها، ويشعلوا فيها النيران. فقال

لهم (¬1) السلطان قلج أرسلان إنّني أعلم أن عمّي قد وقف على قدم الانتقام وهو لن يبقي أو يحابي، وستكون نعمة كبرى لو أبقى عليّ حيّا، فلا تبددوا مصلحتكم/ بغير جدوى. فأرسلوا رسولا إلى السلطان وقرعوا باب الصلح بشرط أن يفعل مع السلطان [قلج أرسلان] ما فعله السلطان ركن الدين مع الأميرين، وأن ينصّبه ملكا على أحد الأقاليم. فإن هو أمر بصلة الرّحم، وعني بهذا الأمر أحضروا قلج أرسلان إليه، كي يشرف بالتقبيل فيحظى بالتبجيل، ومن ثمّ يدخل المليك المدينة بفأل حسن. فراق هذا الرأى للسلطان وأمر بتنصيبه ملكا على توقات حيث كان يتولاها [أبوه] السلطان ركن الدين عندما كان ملكا، وكتب منشور بذلك. وحين رأى أعيان قونية العهود والمناشير حملوا الأمير هانئ البال مسرورا إلى حضرة عمّه؛ فأرسل السلطان كلا من عز الدين وعلاء الدين للترحيب بالقدوم. وحين رأى ابن السلطان ركن الدين وجه عمه قبّل الأرض، وطلب أن يقف على قدميه معقود اليدين، فما تركه السلطان يفعل وإنما أجلسه عنده وقبّله على جبينه وأجلسه على ركبته وبالغ في استمالته، ومنحه هدية ملوكية، وأمر بأن يقيم بقلعة كاوله بضعة أيام، ينصرف بعدها سعيدا هانئا إلى توقات المحروسة. ¬

(¬1) يعني لأهل قونية، راجع أ. ع، ص 85.

ذكر دخول السلطان غياث الدين كيخسرو ابن قلج أرسلان قونية وجلوسه على عرش السلطنة

ذكر دخول السلطان غياث الدين كيخسرو ابن قلج أرسلان قونية وجلوسه على عرش السلطنة وفي اليوم التالي حين طلع ملك الكواكب، دخل السلطان كأنه الشمس تحت مظلة سوداء طالما كانت ملجأ وظهيرا للعالمين- دخل مدينة قونية- التي تعدّ ساعة واحدة من الحياة فيها خيرا من ألف شهر في غيرها من البلاد- بصحبة جيوش كأنها البحر الأخضر الموّاج، وحشم كرخات المطر المتواتر، فنقل القدم من ركاب حصانه- بعد أن توقف- إلى عرش آبائه الكرام، فبلغت أنواع الأفراح أرواح الخاص والعام، واتفقت أهواء الجند والعامّة على/ محبته والولاء له: [شعر]. - حين وضع تاجا كبيرا على رأسه ... ، سعد التاج به وهو أيضا سعد. - عمّر ما كان خربا في كل مكان ... ، وحرّر (¬1) قلوب المحزونين من الحزن. وأبلغ مفروزم المنزلة العليا والمرتبة القصوى، وفوّض عز الدين كيكاوس في ملك ملطية المحروسة كما فوّض علاء الدين كيقباد في حكم مملكة دانشمند (¬2) ¬

(¬1) في الأصل: شاد كرد: أسعد، والأوفق ما ورد في الأوامر العلائية ص. 9: آزاد كرد: حرّر (¬2) دانشمند: نسبة إلى الملك دانشمند أحمد غازي شمس الدين، وتشمل تلك المملكة: سيواس، وآماسية، وتوقات، ونكيسار، وعثمانجق، والبستان وملطية، وغيرها. وكان دانشمند قد تولى حكم تلك البلاد من- قبل السلاجقة سنة 455، واستمرّ أولاده ثم أحفاده في حكمها حتى سنة 607. انظر: الدكتور محمد جواد مشكور: مقدّمه بر اخبار سلاجقه روم، ص صد وشصت ويك

بأسرها. وأرسل إلى ملوك الأطراف وسلاطينها الرسائل والمبعوثين معلنا عن مواتاة السعادة ومساعدة الإقبال. وكان الشيخ مجد الدين اسحاق قد انتقل- وقت جلاء السلطان- من بلاد الروم إلى ديار الشام. فدعاه السلطان بهذه الأبيات الرائقة: [شعر]. - صحة الذّات الطاهرة السماوية ... ، هي تاج أصحاب المجلس الأخوي. - عزّ الأقران وحيد الآفاق ... ، صدر الإسلام مجد الدين اسحاق. - العزيز الرفيق الأنيس ... ، إن هو إلا كروح الملاك. - فليبق خالدا ليوم الحشر ... ، ولتتزايد حرمته ولتعل رتبته. - لتنقطع عن كيانه أيدي الآفات ... ، ولتعم عن ذاته عيون الفتن. - يا من له سيرة الولّي ... ، يا من له سنّة النّبي ، لو أقول ما جرى في هذه المدة، ... - وما نلته من جور الفلك الحرون ، يصبح المداد دما على سنّ القلم. ... -/ أرأيت مجمع الصدور الكرام ، كيف جعله الزمان حراما، ... - اختطف الملك منا ظلما ، وأسنده لا مرئ عجول لا رويّة عنده. ... - لقد امتلأ قلبى- كجمشيد (¬1) - بغصّة ، وأصبحت في الدنيا مشرّدا، ¬

(¬1) جمشيد: أحد ملوك الفرس القدماء.

- تارة في الشام وتارة في الأرمن ... ، تارة أتخذ الأطلال موضعا وتارة أتخذ الدّمن، ... - تارة كالحوت في البحر ، وتارة كالنّمر بالصحراء، ... - تارة أتخذ ستنبول مقاما وتارة أتّخذ عسكرا (¬1) ... ، تارة أتخذ المغرب مقاما وتارة بلاد البربر، ... - ما كان لي- زمنا- بفعل الدهر إلا: السيف، وظهر الحصان، وحرب الفرنج. ... - شاهدت المعارك ، أثرت الحروب ... ، سدّدت الطعان ، تلقيت الضربات. ... - ما كان غذائي- أحيانا- سوى الندامة والغم ، إذ استبدّ بي الحزن في أثر الصحاب. ... - انقطع الصحاب عني وأبعدوا كالصقور ، وتشتتوا في الدنيا مثلي. ... - ثم حين أهلّ لطف الحق بجماله ، وفت دورة الفلك أيضا. ... - كنت أرى رؤى حق،/ وأخذت أرى أثر ذلك في المنام. ... - وحين عزمت على الرحيل إلى بلاد الألمان (¬2) جاءني مبشّر في أمان، ¬

(¬1) عسكر: إحدى مدن خوزستان. (¬2) في الأصل: الأمان، والتصحيح «آلمان» من أ. ع، ص 92.

- وأخبرني بموت الخصم وفترة الملك ... ، وقال: هيّا اسعد، فالملك بإزائك. -[هذه] كتب أكابر الأطراف ... ، مشفوعة برسالة من خلاصة الأشراف، - قال: ما نحن جميعا إلا دعاة لك ... ، انهض أيها المهدى، إنما نحن ساعون إليك. - وأخذ هاتف يدعوني كل لحظة ... - على سبيل الإلهام- قائلا: عجّل وحرّك الأقدام. - فعدت إلى ساحل البحر، وما أشد ما ... يثيره البحر من خوف هناك والشّتا. - مجمل القول أني قطعت البحر ... ، لا أراك الله ما رأيت. - قدمت صوب برغلو ... وفق المراد، وجدت ملكا. - قصد أحد المفسدين الانتقام ... ، أسرج حصان الظّلم والجفاء. - ولأن الله كان معينا وحافظا وحاميا ... ، فقد تضاءل موضع الجرح الكبير واضمحلّ. - وانتصر حظّنا في النهاية ... ، ودانت البلاد بأسرها، -/ لزمت البلاد الطاعة لنا، ولكم ... ، إنما هو اسمنا في الدنيا وهو مرادكم. - المحبوّن للخير ينصفوننا بفضلهم ... ، وصدرنا مجمع أصحابنا. - هيا، فقد حان الوقت كي تنشد مكانا ... هاهنا، إن كانت رأسك قد أثقلها

السّكر فتعال إلينا. وحين بلغت هذه اللّطائف قدوة الطّوائف سارع في القدوم وواصل السّير بالسّرى وقد زاد من أوراد الدعاء والثناء، فتحركت في السلطان أعطاف ألطافه حتى نهض استقبالا لقدومه الميمون، وبالغ في إعزاز جانبه. فأرسل الملك عز الدين لمرافقة الشيخ إلى ملطية المحروسة. وسيّر علاء الدين كيقباد مع جماعة من القضاة إلى توقات (¬1). وكانت قد صدرت عن السلطان بادرة عند دخول المدينة لم تلق قبولا عند أحد قطّ، وهي قتل القاضى الترمذي، وكانوا قد نصبوه بدلا للإمام أبي الليث السمرقندي. وكان السبب في مقتله ما نسب إليه من أن ممانعة أهل المدينة في وقت الحصار إنما كانت بسبب فتوى أصدرها، وقالوا إنه يقول إنه لا يجوز أن تؤول السلطنة إلى غياث الدين لما كان قد بدا منه- في السابق- من ولاء للكفّار، وأنه ارتكب ما نهي عنه الشرع في ديارهم. [لذلك استبد الغضب بالسلطان، وأمر بإنزال العقاب به] (¬2)، ولشؤم إراقة دمه بغير حق لم يأكل سكان ضواحي ¬

(¬1) أهمل الأصل هنا الإشارة إلى ما جاء في الأوامر العلائية من ذكر للتقاليد التي أرساها السلطان غياث الدين كيخسرو في حكم دولة سلاجقة الروم، وعلاقة السلطان والملوك بالقضاة، وحضورهم مجلس القضاء يومين محددين من كل أسبوع، والمسارعة بتنفيذ أحكام القضاء، الأوامر العلائية 94 - 95. (¬2) زيادة من أ. ع، ص 94، 95.

ذكر توجه السلطان غياث الدين كيخسرو لفتح أنطاليه

قونية ونواحيها ثمرة واحدة من المزارع والبساتين طيلة ثلاث سنوات. وفي النهاية ندم (السلطان) على ما فعل، واسترضى أهل القاضي، وطلب منهم العفو والصفح. ذكر توجه السلطان غياث الدين كيخسرو لفتح أنطاليه كان السلطان يجلس ذات يوم على العرش كعادته المعهودة وينفذ أحكام العدل، فدخل جماعة من التجّار إلى المحكمة وقد مزّقت ثيابهم، وأهالوا التراب على رؤوسهم فقالوا: أيها الملك، يا من علا نجمك، نحن جماعة من التجار عرّضنا أنفسنا للخطر طلبا لعيش العيال من وجه حلال، وقد تحمّلنا مشاقّ الأسفار، وبسبب ذلك الكسب يظل أطفالنا أصابعهم على شفاههم، وآذانهم تسترق السمع إلى قرع الباب، وعيونهم معلّقة بالطريق فلعل أبا يرى وجه ابن له أو لعل رسالة تصل من أخ لأخيه. لقد انطلقنا من ديار مصر صوب الإسكندرية، وقدمنا من هناك بإحدى السفن إلى ثغر أنطالية. فأذاقنا حكام الفرنجة العذاب وأخذوا ما كان معنا من ناطق وصامت، ما قلّ منه أو كثر بالظلم والعدوان، وسخروا منّا فقالوا: ها هوذا السلطان العادل الغازي قد جلس في قونية وبسط بساط العدل فاحملوا إليه مظلمتكم لكي يحشد الجند، فيفعل ما يشفى صدروكم (¬1). فأخذت السلطان رقّة لذلّتهم وافتقارهم وتأجّجت نار الحميّة فيه، فأقسم ¬

(¬1) كذا في أ. ع ص 96 (صدور شما)، وفي الأصل (صدور ما)، والمعنى به لا يستقيم.

بمالك الملك قائلا: لن أجلس من وقوف حتى أحصل لكم على أموالكم. فلقد ذقت مرارة الغربة، ورأيت نكاية الظالمين [شعر]: - أنا أعلم بما بكم أيها المساكين، ... فما كانت قلنسوتي إلا من هذا النسيج. ثم أصدر الأوامر لأطراف الممالك لدعوة الجند، فتجمّع جند كثيرون في أقل مدة، فولّى وجهه نحو ديار الكفار بجيش جرّار مؤيدا بفضل الخالق. وبعد أن طوى بضعة مراحل معدودة، وصل/ إلى تلك الحدود، فأحاط بدائرة أنطالية من كل صوب جنود لديهم من القدرة والشجاعة ما يمكّنهم من الدخول إلى فم الأسد عند اقتحام المهالك وكأنّهم دائرة السّوء، ونصبوا المجانيق، وظلّوا شهرين متتاليين يقارعون ويحاصرون من الفجر حتى العشاء. ولأن رجال السور لم يتسرب إليهم أي نوع من الفتور، أمر السلطان بالبدء في الرمي بالسهم والقوس عوضا عن الرّمح والسّيف، وأن لا يجعلوا فرنجيا يأمن أن يتمكن من أن يلقي نظرة على مغاوير القتال من شرفات القلعة، وأن يباشر الأبطال المجرّبون الحرب، وأن ينصبوا السّلالم على القلعة، ويتبين منهم عيار الرجولة على محكّ الامتحان. وحين بلغ هذا الأمر مسامع كتائب الجند ثاروا دفعة واحدة كأنهم الجراد والنّمل، وفي أقل من ساعة واحدة نصب على كل بدن من السلالم ما كان قرينا لأوج الفلك من فرط الطّول. وكان أول من وضع قدم الصدق وحقّق الظفر رجلا يدعى حسام الدين يولق ارسلان من جند قونية القدماء، فقد قفز بسفيه ومغفره ورداء القتال الذي يرتديه على قلعة من الحجارة كأنه النّمر،

وألقى بنفسه بين الفرنج، فبعث عدة أفراد منهم إلى سقر، وترك الباقون القرار وأخذوا طريق الفرار. ولم يلبث مغاوير الجند أن صعدوا إلى القلعة من كل ناحية مع سيوف من الحديد كأنها الريح التي تقطع صدر الجبل، ونصبوا علم السلطان على شرفات القلعة، ثم نزلوا من بعد ذلك إلى المدينة، وباندفاع كاسح كسروا الأقفال بضرب الرمح والعمود وفتحوا الباب. ودخل باقي العساكر المدينة كالعقبان الكواسر. ولأن الفرنجة كانوا وقت الحصار قد أطالوا ألسنتهم بما لا يليق، أمر السلطان بالقتل العام ثلاثة أيام، وأن يبقى بساط أحمر مفروشا مدة طويلة (¬1) على بحر أخضر بدماء الكفّار، وأن تتهيأ للطّيور والأسماك/ وليمة لائقة من أشلاء أولئك الجفاة وجيفهم، ثم أمر بعد ذلك أن يجعلوا السيوف من الرقاب في القراب، وأن يخاطبوا أولئك المذعورين- وهم بقايا السيوف- بالسّبي والنّهب، فظلت أمواج النّهب وبحار الغارات في تلاطم وتصادم خمسة أيام أخرى، وفي اليوم السادس منح السلطان إمارة أنطالية لمبارز الدين أرتقش- وكان من خاصّة غلمان السلطان، وكان ملازما للركاب السلطاني في أيام الغربة، وقد حدثت هذه الحكاية والفتح في شعبان سنة ثلاث وستمائة. ثم أمر بأن يدخل مع حشمه المدينة ويعطى الأمان. وأقام السلطان هناك مدّة حتى تم ترميم الثّغرات التي كانت قد حدثت في القلعة وقت المحاصرة، ثم نصب قاضيا وخطيبا وإماما ومؤذنا ومنبرا ومحرابا، وبعد الاحتياط التام لوى العنان ¬

(¬1) قارن أ. ع، ص 98.

ذكر عزيمة السلطان لغزو بلاد الروم والترقي من ثم إلي درجة الشهادة

صوب العاصمة قونية. وحين ابتعد مرحلة في الطريق عن السّواحل أمر نوّاب إيوان السلطنة بالإقامة في منطقة دودان وتحصيل أخماس الخاصّ (السلطاني)، ودعا إليه التجار الذين كانوا قد تظلموا وظلّوا ملازمين في المعركة وكان مركبهم من الإصطبل الخاصّ ومأكلهم من المطبخ الخاصّ، وطلب قائمة بالأموال (والمتاع والقماش) (¬1) لكي يأخذوا منها ما هو موجود في غنائم الجند (¬2)، وكتب أمرا إلى الأمير مبارز الدين أن يطلب الباقي هناك ويتم تحصيل ما يبقى مفقودا من مال (السلطان) الخاص. إذ كان رفع مظلمتهم هو سبب ذلك الفتح، وما صارت الكسرة على العدو إلا لجبر حالهم. والتحق السلطان- وقد تحقق له ما أراد- بقونية. هكذا ينبغي على العظماء أن يفعلوا ما فعل. ذكر عزيمة السلطان لغزو بلاد الروم والترقي من ثمّ إلي درجة الشهادة حين رجع السلطان من غزو ثغر أنطالية، وانضمت تلك المملكة الجديدة لسيطرة مماليك السلطنة القدماء، وضع جبابرة الدهر وكبار أهل العصر رؤوسهم على خط أوامره [التزاما بها] وأقدامهم على جادة عهده وميثاقه؛ فلم يكن يجول بخاطر أى إنسان أن تنحلّ عقدة تلك الدولة وتزول شمس تلك السعادة. غير أن لاعب القدر أظهر ألعابا غريبة من وراء الستار وبيّن نقوشا عجيبة حتى ¬

(¬1) زيادة من أ. ع، ص 99. (¬2) قارن أ. ع ص 99.

تحركت نواهض الهمّة وبواعث العزيمة عند السلطان لغزو بلاد الروم المسماة ب لشكري (¬1). وسبب ذلك- كما سبق أن ذكرنا- أنه كان يمنع السلطان من دخول بلاده أو الخروج منها لديار الإسلام. ولما تمكن [السلطان] (¬2) على عرش السعادة والإقبال في هذا الوقت أخذ يتلكأ ويتمهل ويتباطأ في إرسال الإتاوات وارتسام الأوامر والخدمات. وذات يوم اختلى السلطان بأركان الدولة واستطرد في الحديث عن تدارك أمر لشكري، وقال إن لم نبادر بالهجوم لدرء فضوله وغروره فقد يؤول الأمر إلى خلل عظيم (¬3). قال أكابر الدولة إن نقض العهود مذموم، وعاقبته شوم واليمين الغموس يدع البلاد بلاقع، ولا يمكن أن يكون لهذا الفكر من نتيجة سوى خراب الدّيار واضطراب أحوال الدولة، إلا أن طريق الوعد والوعيد لم يغلق في هذا الصدد، وينبغي إرسال الرسل والإعراب عن العتاب البليغ والإلحاح في المطالبة، فإن جاء من طريق الاستغفار مبديا الاعتذار وجب أن تتلى حينذاك الآية الكريمة: «لا تثريب عليكم اليوم» (¬4)، أما إن أصر على النّفاق والشّقاق فينبغي أن نجعل من قول القائل/ آخر الدواء الكيّ حجة وبرهانا. وهنا قال السلطان: ¬

(¬1) أطلق المؤرخون المسلمون لقب لشكري على الدولة البيزنطية أو امبراطور الروم البيزنطيين. انظر مثلا: نهاية الأرب للنّويري، 27: 109، طبع مصر 1985. (¬2) زيادة من أ. ع ص 3، 1. (¬3) كذا في أ. ع، ص 103 وفي الأصل جاى يعني مكان، وهو تصحيف. (¬4) سورة يوسف: 92.

ووضع النّدى في موضع السّيف بالعلى ... مضرّ كوضع السّيف في موضع النّدى (¬1) فلا يفيد عسل العنّاب السكّرى حيث تلزم جراحة مبضع المثقّفات الهندى سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (¬2). فأرسل الأوامر إلى أطراف البلاد وحرّض أمراء الجند كبيرهم وصغيرهم على نيّة (¬3) الغزاة والجهاد، واستجابة للأمر الأعلى حضر إلى المعسكر العام للجيش كافة المقاتلين والضبّاط والقادة مع عدد كبير من الأتباع والأنصار وهم على أهبة الاستعداد، وساروا- على هيئه يطيح لهيبتها الأسد القابض على الأرض بمخالبه والنّسر المستولي على الآفاق بجناحيه- في ركاب السلطنة المعظّم. وحين وصلوا إلى حدود آلاشهر وهى من معظمات بلاد الرّوم- كان الجواسيس قد أبلغوا لشكري بتحرّك الرايات السلطانية فأرسل برسائل الاستغاثة إلى القبائل والعشائر وحكّام البلاد والجزائر وجمع جيشا بعدد الرمل والنّمل والمطر والحصى مما لا يعدّ ولا يحصى، وتوجه لقتال جيش الاسلام بتعبئة كاملة. فهاج جند السلطان من هذه الناحية كالبحر المائج، وكان السلطان قد وقف في القلب كالشمس المنيرة قد لبس لأمة الحرب كأنها الياقوت ¬

(¬1) البيت للمتنبي من قصيدة يمدح بها سيف الدولة، راجع: شرح ديوان المتنبي، لعبد الرحمن البرقوقي ط بيروت، 3: 11. (¬2) سورة البقرة: 6. (¬3) الأوامر العلائية، ص 105: (برنيت) يعني بنيّة، وفي الأصل: ترتيب، وهو تصحيف.

البدخشى (¬1)، وعلق بساعده قوسا ذا بأس شديد كقلب الشباب وشدّ على وسطه سيفا مرصّعا بالجواهر قاطعا كأنّه دموع العاشقين، قد امتطى حصانا في قوة فيل بوسعه عبور النيّل بوثبة، يحدث ثغرة في السّبع الشداد بقفزة واحدة، ويقيم وقت الركض أرضا أخرى في السماء بتراب حوافره. / وحين شاهد (السلطان) تطاول الرّمح وتعدّى السهم ووقاحة الدّرع وسلاطة السّيف وخشونة السّنان وملامة العمود الثّقيل سلّ حسام الإباء لقطع الدعاوي وفصل الخصومات، ووصل وسط المعركة إلى قلب العدو فرأى لشكري واقفا، فامتنع عن مهاجمته بالسيف، وأمسك بسنان مستقيم فأراه منذ الضربة الأولى وجه الطامة الكبرى، وأطاح به من فوق ظهر الحصان إلى الأرض، وقال مخاطبا له على سبيل الخطاب: أي كندوس (¬2)، (يعني أيها الوغد). وطلب عبيد الخاصّة السلطانية أن يفصلوا رأسه عن جسده، فحال السلطان دون ذلك، وأمر أن يضعوه فوق ظهر الحصان مرة أخرى ويطلقوه. وحين علم جيش لشكري ما حل بالملك من مصيبة انهزموا، وبحكم القدر انفصل كلّ الحرّاس والمفاردة عن السلطان، وشغلوا بسلب الأسلاب. وفجأة قابل فرنجي مغمور السلطان، فلم يلتف إليه باعتباره منصورا بالحشم. [ولم ¬

(¬1) الياقوت البدخشى: هو المنسوب إلى «بدخشان» بتاجيكستان الحالية، وهو أجود أنواع اليواقيت وأشّدها حمرة. (¬2) كندوس: كذا، والكلمة يونانية.

يستخدم السلاح لزجره ودفعه] (¬1). فلما مرّ بالسلطان عطف عليه فجأة وبعث بروحه اللطيفة إلى الفردوس بضربة من حربته، وجمع عدّته وسلاحه وملبوسه وقدم على لشكري مع كوكبة من جيش [الروم الذى كانوا قد رجعوا منهزمين] (¬2). فلما رأى لشكري ذلك اللباس عرفه في الحال، فسأله: من أين جئت بهذا الملبوس؟ أجاب: سلّمت صاحبه لرضوان. قال لشكري: أيمكنك الآن أن تتجه إلى ذلك المقتول وتأتيني بجثّته قال: أستطيع. فأرسل بضعة أشخاص من شجعان الجند معه ليحملوا القالب المطهّر للسلطان، ويذهبوا به إلى لشكري. فلم رآه شرع في البكاء والعويل، وأمر بسبب هذه الحالة بأن يسلخوا جلد الفرنجي وهو حي. وحين نما إلى علم الأمراء وقادة العسكر أن السلطان نال درجة الشهادة/ ظلوا حيارى قد طار صوابهم، وعدّوا الهزيمة غنيمة، وبدا في جيش لشكري انتعاش وارتياش (¬3)، فوقعوا في إثر المنهزمين من أهل الإسلام، فهلك خلق كثير في تلك الملاحم بعضهم بالقتل وبعضهم الآخر بالغرق وجماعة بالخسف في الأوحال والمخاضات، [وأسروا جماعة من كبار الأمراء مثل آينه چاشنى كير وغيره] (¬4)، وحملوه أسيرا إلى لشكري، وحين وقع نظر آينه على جثة ¬

(¬1) زيادة من الأوامر العلائية، ص. 11. (¬2) الأوامر العلائية، ص 110. (¬3) كذا في الأصل، كلمتان عربيتا الأصل، وارتاش فلان يعني أصاب خيرا فرئي عليه أثر ذلك (المعجم الوسيط). (¬4) زيادة من الأوامر العلائية ص. 11 - 111.

السلطان المباركة صرخ وصاح، وأخذ يتمسح بتراب قدم السلطان. فأمر لشكرى بفكّ قيوده، وقدّم له الغزاء. ومع أن السلطان كان قد نال درجة الشهادة فقد طيبّوه بالمسك وماء الورد، ودفنوه في مقابر المسلمين برسم العارية، ثم حملوه إلى «قونية» بعد انقشاع غمام الواقعة وسلّموه إلى رضوان في مقبرة آبائه وأجداده. ***

ذكر سلطنة السلطان عز الدين كيكاوس ابن كيخسرو والفتوح التي تحققت في أيامه

ذكر سلطنة السلطان عز الدين كيكاوس ابن كيخسرو والفتوح التي تحققت في أيامه في سنة 608 حين اختتم كتاب أجل السلطان بالشّهادة، وانطلق من سبيل الجهاد إلى عرصات المعاد، وانخرط في سلك «أولئك هم الصدّيقون والشّهداء عند ربهم» (¬1) اجتمع أركان إيوان التّدبير وحفظة شرف التّاج والسّرير فقدحوا قداح الاستخارة وزناد الاستشارة؛ واستصوبوا أن يتم الاقتراع على اختيار أى من الملوك الثلاثة: «عزّ الدين كيكاوس» و «علاء الدين/ كيقباد» و «جلال الدين كيفريدون» فيسلّموا واحدا من هؤلاء الأمراء الملكيّين الثلاثة تاج الملك وسدّة الحكم. فأشار الأمير نصرة الدين [الحسن بن ابراهيم] ملك «مرعش» - وكان طومار ذكر «حاتم الطائي» قد طوي في عهد سخائه، قد زيّن بعظمة «أفريدون» (¬2) وجلال «كسرى» - أشار إلى «عز الدين كيكاوس» - باعتباره أكبر الأولاد وأكرم ملوك ذوى الأوتاد. فاتفقوا جميعا على استحسان هذا الاختيار (¬3) وانصرفوا مسرعين من قونية إلى قيصريّة، وجاءوا بالملك من ملطيّة إلى قيصريّة في خمسة أيّام، بل أقلّ. فخرج قادة البلاد وهم بملابس العزاء حتى «كدوك» لاستقباله، وأدخلوه المدينة في أكمل أبّهة، وأجلسوه على العرش. وبعد ثلاثة أيام خلع الخلع على الجميع وشرّفهم بتقبيل يده، وجدّد العهود ¬

(¬1) الحديد: الآية 19. (¬2) في الأصل: بفر فرزندى، يعني بعظمة البنوّة، والتصحيح من أ. ع ص 112. وأفريدون: من كبار ملوك الفرس القدماء. (¬3) قارن أ. ع، ص 113.

وقرّر المناصب. وما إن عزموا على التوجّه إلى العاصمة «قونية» حتى سمعوا فجأة بأن الملك علاء الدين قد ولّى وجهه شطر هذه الديار، فبهتوا جميعا، وتملّكهم الإحباط واستبدّ بهم العجز. ***

ذكر محاصرة علاء الدين كيقباد «عز الدين كيكاوس» في قيصرية

ذكر محاصرة علاء الدين كيقباد «عز الدين كيكاوس» في قيصرية حين سمع الملك علاء الدين كيقباد بخبر وفاة أبيه، دعا إليه مغيث الدين طغرلشاه ملك «أرزن الروم» - وكان عمّه وبينهما صلة نسب- كما أرسل الرّسل إلى «ليفون تكفور» واختار له «قيصريّة»، وسلك «ظهير الدين إيلي» بالوعود الجميلة في سلك مؤيّديه، واجتمع له من كل صوب جيش حاشد، واتّجه صوب قيصريّة، وثبت لمحاصرة أخيه، وانقضت مدّة طويلة في تلك المحاصرة، وهلك أمراء مشهورون من الجانبين/ وتسّرب العجز والاضطرار لأهل القلعة، واستولى الملل على المزاج اللطيف للسلطان. وبمقتضى ما كان قد جرى في السابق من عهود بين السلطان وظهير الدين [پروانه]، وما أبداه من عناية بالغة في حقه، وما كان يشهده من حال يخالف الآمال، ويرى جفاء محل الوفاء، كتب هذا «الدوبيت» - من إملاء قريحته الشعرية الموزونة- على ورقة الشكوى، وأرسل بها في الخارج عند پروانه، (شعر): أنا شمع، ذهب جسدي بسرّ القلب ... ما افترّ ثغري، ليلة، إلّا عن بكاء پروانه الذى قال: ما أنا لك إلّا رفيق الغار ... حتى هو، رضي بضرب عنقي واستدعى [السلطان] «مبارز الدين جاولى چاشنگير» (¬1) - و «زين ¬

(¬1) «الچاشنكيرية: وموضوعها التحدث في أمر السّماط مع الأستادار [يعني المشرف على شؤون بيوت السلطان]. ويقف على السّماط ... إلخ» (صبح الأعشى 4: 21).

الدين بشارة» أمير آخور (¬1) «ومبارز الدين بهرامشاه» أمير المجلس، وكانوا يلازمونه في «ملطية» - وقال: يتراءى لي أن نفتح باب المدينة في منتصف اللّيل، وندفع بكل قوّتنا إلى الخارج مهاجمين ونلقي بأنفسنا إلى «قونية»، فندخل الصّيد المنشود إلى الشّباك بدعم من أمراء وعساكر «الأوج». وحين نما هذا الأمر إلى علم جلال الدين قيصر، وكان حاكم قيصرية وشحنتها وكان موضع ثقة السلطان الشّهيد وإعزازه لما كان يتمتّع به من دهاء وذكاء شديدين، أبدى تعلّة، وذهب إلى حضرة السلطان حين أقبل الليل، وطلب الخلوة، ثم قال: سمع الخادم أن مثل تلك الفكرة غير الصّائبة قد عرضت بخاطر ملك العالم، ويتعيّن ألا تعودوا لذكر مثل هذه الفكرة المفضية إلى انعدام الصّلاح وفقدان الفلاح. وقد راودت خادمكم هذا فكرة لو تم تنفيذها لانحلت العقدة على النحو المطلوب. فسأل السلطان: وما هي الفكرة؟ قال: لو أتعب السلطان نفسه واتجه إلى الحريم السلطاني/ وأتى لي خفية بحلية ثمينة من حلي النساء لكي أضعها الليلة حيث يتيسّر بها المطلوب. فدخل السلطان الحريم، وأخذ من أخته شقّة مما تضعه النسوة على رؤوسهن يقدر ثمنها بإثني عشر ألف دينار ذهبي. وأعطاها لجلال الدين قيصر. فخرج من المدينة في جنح الليل ومعه أحد الغلمان، وقال لحارس الباب: ترقّب عودتي، فإن سمعت صوتي افتح الباب. وانطلق إلى المعسكر الذي تعسكر فيه قوات ليفون، بحكم ما كان بينهما من صداقة. وحين بلغ طليعة جيش ليفون قال: أبلغوا تكور أن جلال الدين قيصر ¬

(¬1) «إمرة أخورية: موضوعها التحدث على اصطبل السلطان وخيوله ..» (صبح الأعشى، أيضا: 18).

شحنة «قيصرية» يطلب الإذن باللّقاء. فأبلغوه في الحال، فقابله «تكور» وبالغ في تعظيمه. قال جلال الدين إن عندي لك أمرا دقيقا جللا، أعرضه عليك إن خلا المكان. فأمر تكور بإخراج جملة الخدم من الخيام. قال جلال الدين: معلوم لتكور أن لا شركة له بأي وجه من الوجوه في ملك السلاجقة، فلا يلزمه أن يتعب نفسه، ويصبح شباكا لصيد يصيده غيره. فإذا كان الملك هو مغيث الدين (¬1) ويطلب ملك أخيه، ويريد الملك علاء الدين أن يحل محلّ أبيه، فلست أدري ما شأن تكور؟. إن الخادم من فرط محبّته للمصلحة يرى أن ينأى بنفسه عن هذه الورطة غير المفيدة، ويعمد إلى الحفاظ على ملكه وحكمه. ثم قدم له تلك الشّقّة المرصعة بالجواهر، وقال: هذه ثمنها اثنا عشر ألف دينار مصري أقدمها لك فداء لكي تجعلنا آمنين من بأسك. فإذا ما ارتحل جيشك، فإنني أتعهد إن استقر الملك/ للسلطان عزّ الدين كيكاوس بأن يرسل اثني عشر ألف مدّ من الغلال بصفة مخزون احتياطي لقلاع الأرمن، ويتعّهد السلطان أن لا يلحق بملك تكور أذى بأي وجه من الوجوه طيلة مدّة سلطنته طالما ظلّ تكور وفّيا لعهوده، وأن تتدعّم الصداقة بتجدّد الأيام. وحين سمع «تكور» هذا الكلام ورأى تلك التّحفة المرصّعة بالجواهر قبل النصائح المعقولة، وقال: إنما يطمئنّ بالي حين يذهب أحد الأمناء عندي إلى السلطان فيحلف على ما قلت برمّته، ويكتب ميثاقا. [قال جلال الدين يتعين ¬

(¬1) يريد به مغيث الدين طغر شاه بن قلج ارسلان، عم السلطان عز الدين كيكاوس، وكان ملكا لمنطقة «آبلستان» حتى سنة 597، ثم تولى ملك «أرزن الروم» وعزل عنها لتواطئه مع عداء ادين كيقباد ضد السلطان عز الدين. وتوفى سنة 622، انظر ما سلف، ص 5، 25، 50 وانظر أيضا: زامباور: معجم الأنساب والأسرات الحاكمة فى التاريخ الإسلامى، الترجمة العربية، طبع مصر، 1951 م، ج 2

أولا على تكور أن يعهد عهدا ويكتب ميثاقا] (¬1) ويرسله على يد رسوله في صحبتي. ففعل تكور مثل ما قال. وولّى جلال الدين وجهه صوب المدينة يرافقه رسول تكور. فلما وصل إلى حضرة السلطان، بشّر السلطان بحصول المقصود، وأذن السلطان لرسول تكور بتقبيل يده، فقصّ عليه ما جرى. فأخذ السلطان القلم بيده وخط بالخط الأشرف ميثاقا، وصرف الرسول في جنح الليل. ولما رأى تكور الوثيقة وأبلغه الرسول بمشافهات السلطان، أمر قادة خدمه وحشمه بإعداد العدة للرحيل خفية دون ضجيج، حتى إذا ما تجاوزوا حدود «دولو» عند الغسق وضعوا الأحمال على الإبل وانطلقو بأجمعهم منصرفين، وعند انبلاج الصبح كانوا قد لحقوا بتخوم الأرمن. وفي صباح اليوم نفسه أبلغ مغيث الدين طغرلشاه وعلاء الدين كيقباد أن معسكر تكور قد خلا من الخيام «كدار ما بها أدم»، فذهب التفكير بكل واحد منهم مذهبا من هذا الحدث العجيب، وخاف بعضهم بعضا- كالذئاب- فتفرقوا أيدي سبا بحيلة جلال الدين قيصر الثعلبية الماكرة. وظنّ الملك علاء الدين أن تلك الطوائف قد اتفقت مع أخيه قلبا وقالبا وأنهم يريدون أن يزجّوا به في قيد عقال أخيه أسيرا. وقال مغيث الدين: سوف يفتك بي إخوة [السلطان] بسبب ملك أرزن الروم (¬2)./ وفي اللّيلة التّالية سلك بدوره طريق الانهزام على مناكب الظّلام. وارتفعت أصوات الطّبول من المدينة برحيل خيل المحاصرين، ولما لم تكن بالملك علاء الدين قدرة على المقاومة سلك طريق «أنكورية» واستولى عليها، واستظهر بما تتمتّع به من مناعة وحصانة. ¬

(¬1) ناقص من الأصل، والإكمال من أ. ع، ص 117. (¬2) قارن أ. ع، ص 118.

وأعطى السلطان عزّ الدين «الحجوبية» (¬1) لجلال الدين قيصر، ووهب المدن الواحدة تلو الأخرى لخادم من خواصّه: «نكيدة» لزين الدين بشارة، و «ملطية» لحسام الدين يوسف، و «آبلستان» لمبارز الدين جاولي. وفارق «ظهير الدين إيلي پروانه» الملك علاء الدين، ولحق بنكيدة، فلم يستطع البقاء فيها بسبب مضايقة الأوباش والسّفلة، ومن ثمّ لجأ إلى قلعة «لولو»، فلم يطق البقاء هناك أيضا، فتوجه إلى الشام عن طريق «سيس»، فلما وصل إلى «تلباشر» اعتلّت صحته، ولم يلبث بعد بضعة أيام أن لفظ أنفاسه، فدفنوه هناك. ثم إن زين الدين بشارة- آمير آخور- عزم على التوجه إلى نكيده، واستمال الأهالي والأعيان بفنون الإحسان، وأرسل إلى ليفون رسلا، وأبلغه باستقرار أمر السلطنة للسلطان عزّ الدين. فأرسل ليفون الردّ مشفوعا بالهدايا. وولى السلطان وجهه شطر «آقسرا»، ومن هناك توجه إلى «قونية»، وخرج أعيان المدينة لاستقباله حتى منزل «أبروق»، وأدخلوا السلطان المدينة بكل إجلال وتكريم، وأجلسوه على العرش، وقدّموا مائة ألف درهم وخمسة آلاف دينار أحمر رسما لحقّ القدوم. وحلفوا جميعا على الولاء للسلطان، فجدّد السلطان لهم ما بيدهم من وثائق الأملاك، والإقطاعات، وأطلق سراح المسجونين، وارتقى القلّة الفارعة للمعالي بعد الفراغ من الأفكار. ¬

(¬1) في الأصل: پروانكى: ويرى الدكتور محمد جواد مشكور أن مفردها: پروانه، يعادل منصب الصّدر الأعظم. انظر: مقدمه بر أخبار سلاجقه روم، صد وشصت ويك. على أنّ الأصل الذي بين أيدينا، و «الأوامر العلائية» لابن البيبي ينسبان الكلمة إلى «الحجوبية» انظر ما وصفا به «معين الدين سليمان پروانه» ب «ملك الحجاب»، ص 346 من هذا الكتاب؛ وانظر في مهامّ منصب الحجوبيّة: صبح الأعشى: 4: 19.

ذكر مكارم أخلاق السلطان الغالب عز الدين كيكاوس

ذكر مكارم أخلاق السلطان الغالب عز الدين كيكاوس كان السلطان عز الدين امبراطورا سخاؤه كقطر السحاب بلا حساب، ودهاؤه- كطلعة المشتري- يتألق في قلب اللّيل البهيم، قامته تحسدها أشجار السرو النامية على حافة الغدير، وخدّه تغار منه محاسن طراز الربيع (¬1)، قوسه كاستدارة حواجب الأحبّة مهلكة للروح، وسهمه كدعاء المظلومين يعلو على الأفلاك ويتولدّ عنه الضرر، عقله كدين الإسلام كامل، وعدله كظل الغمام على الخاصّ والعامّ هاطل، كان يعتقد أن إجزال العطاء على القريض من الفرائض، وكان يبلغ في صلاته للشّعراء أقصى الغايات، بعثت إليه ابنة حسام الدين سالار من «الموصل» بقصيدة تشتمل على اثنتين وسبعين بيتا فأنعم عليها بمائة دينار أحمر في مقابل كل بيت، ورفع الصدر نظام الدين أحمد أرزنجاني من مرتبة الإنشاء إلى مرتبة عارض بلاد الرّوم بالقصيدة التي كان قد قالها في جواب «شمس طبسي» وأنشدها في المحفل. لبس لباس الفتوّة من حضرة الخليفة الناصر لدين الله، وشرب كأس المروءة من حانة قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ (¬2). حين بلغ خبر جلوسه على العرش سمع «لشكرى» فكّر مع مستشاريه على أي وجه يبادر بمراسلة السلطان عزّ الدين، وكيف يمكن العذر عن ذلك الغدر- وإن لم يكن رضاه مقرونا به. قال بعضهم (¬3) إن مقتضى الحزم أن تطلق «آينه ¬

(¬1) كذا في الأصل: طراز بهار، وطراز كلمة فارسية معرّبة، ومعناها الشكل، الهيئة. (¬2) آل عمران- آية 31. (¬3) قارن أ. ع، ص 129.

چاشنى كير» من وثاق الأسر، وتصرفه بتحف مدهشة وهدايا منتقاة في صحبة رسلك- إلى عبودية بلاط السلطنة كي/ يتوسّط في رفع غبار الوحشة ورتق خرق العداء، فما هو إلا من بطانة الدّار وخواصّ العشّ، فكلمات اعتذاره- ولو كانت بدون عرض (¬1) توشك أن تكون سهما يصيب الغرض. ثم يجب بعد ذلك الاشتغال بجمع الرجال وتهيئة أسباب القتال. فإن انفتح طريق الصّلح بهذه الوسائل فهو المراد، أما إن دخلوا من طريق المشاحنة والمخاشنة ووضعوا أساس المحاربة نكون قد فرغنا من تناول الأسباب وأخذنا الأهبة والاستعداد. استصوب «فاسليوس» هذا الرّأى وبعث هدايا لا نهاية لها من كلّ نوع في صحبة سفير كان موسوما في بلاد الرّوم بفصل الخطاب والكلمات العذاب، وعدّ استمالة جانب سيف الدين آينه- بكل ما يدخل في حدّ الإمكان- أمرا ضروريا لازما، حتى صقل مرآة ضميره تماما من صدأ الدّخل (¬2) والتزم بإتمام مهامّ المصالحة، وتوجّه مع الرّسل لحضرة السلطان. وحين بلغوا حدود البلاد بادر الأمير سيف الدين في التوجّه إلى البلاط قبل الآخرين، ونال شرف تقبيل اليد، وأعلن عن وصول الرسل وخلاصة الرسالة، ومحا الغبار الذى كان قد علق بأطراف خاطر السلطان بكمّ رداء الاستعطاف، وابتغى مراضي السلطنة في العفو عن جرائم الماضي، فأقلع السلطان عن الضّغن والانتقام، وعزا مصيبة أبيه إلى القضاء والقدر، وأمر بأن يؤذن للرسل في المثول بين يديه في مجلس عام. فأبلغوا الرّسائل والمشافهات، وعرضوا التّحف والطّرف، فاقترنت الرسائل بالمحمدة والرضا، وأمر بالحفل والطرب، [ودعا ¬

(¬1) عرض، كذا في الأصل، كلمة عربية، والعرض المتاع. (¬2) في الأصل: دخلت، والدّخل: المكر والخديعة.

الرسل فجيء بهم إلى مجلس الأنس] (¬1). وفي اليوم التالي سمح لهم بالمثول بين يدى السلطان في خلوة (¬2)، فأقسموا له على رضاء ملك الروم فأمر بأن يجهزوا من الخزانة أضعاف ما كان قد أرسله [فاسليوس] وكلفّ الأمير سيف الدين ثانية بتلك الرسالة كي يعود ويسلّم المهمّات ويحضر طلل/ السلطان الشّهيد إلى العاصمة. فانصرف الأمير سيف الدين وبصحبته الرّسل والتّحف، فلما اقتربوا خرج ملك الروم لاستقبالهم، وبالغ في توقير الأمير، وأقسم- بموجب المسوّدة التي كانت قد ابيضّت بحضرة السلطان. وأعد في الكرّة الأخرى أضعاف ما كان قد أرسله في المرّة الأولى، وأرسل عشرين ألف دينار صدقة يتم توزيعها عند دفن السلطان [الشّهيد]، كما بعث بجثّة السلطان مع جند كثيرين إلى حدود بلاده. فعاد الأمير «سيف الدين آينه» والرسل والتحقوا بخدمة البلاط وعرضوا ما حدث، فعمر الجانبان بوفور السرور والحبور. وحين أتوا بجثّة السلطان إلى قونية ودفنوه بجنب جده وأبيه وأخيه، ذهب السلطان لزيارة السلاطين، وضمّ ثلاثين ألفا إلى ما كان ملك الروم قد أرسله، ففرّق بعضه هناك على المساكين، وأرسل البعض الآخر إلى الزّوايا والصّوامع، وأجرى الباقي في أطراف البلاد. ... ¬

(¬1) زيادة من أ. ع، ص 131. (¬2) في الأصل: تألقوا ثانية (بازتافتند)، ولا يستقيم بها المعنى، ولعلها: باريافتند، أى أذن لهم بالمثول في حضرة السلطان.

ذكر توجه السلطان إلى أنكورية ومحاصرة أخيه الملك علاء الدين

ذكر توجه السلطان إلى أنكورية ومحاصرة أخيه الملك علاء الدين حين ظلت فرش الكرامة مبسوطة زمنا على هذا النّمط في إيوان سلطنة عزّ الدين كيكاوس، وغدت المهمّات والمصالح مضبوطة، جال بذهن السلطان: ما دام أخي في أنكورية متحصّنا بذلك المكان المنيع للغاية، فلن ننعم بالأمن الشّامل والفراغ الأصلي، ومن ثم ينبغى أن نعدّ اقتلاع جذور هذه الفتنة من أوجب/ الواجبات. ثم أصدر الأوامر إلى الأمراء وقادة الأطراف كي يشخصوا بجمع حاشد إلى العبوديّة، وفي أيّام قلائل حضر العساكر كافة إلى ضواحى قونية المحروسة. وما إن حصل للسلطان الفراغ من ترتيب أسباب المحاصرة ومعدّات القتال حتى توجّهوا إلى حدود أنكورية بالطّالع المسعود. وحين بلغ ذلك الملك علاء الدين شغل بتقوية القلعة كما عني بأمر الجيش وتجديد عهد الولاء والوفاء مع أهالي المدينة. فلما بلغ السلطان أنكورية اصطفّ الجيش صفّا صفّا، بهيبة تزيغ لها عيون أولي الأبصار، فأحكموا الحصار على المدينة. وخرج الأمير «مبارز الدين عيسى الجاندار» (¬1) وإخوته من المدينة فوقفوا في الميدان، وبسبب خصومة حدثت في المكتب لمبارز الدين في «سيواس» مع «نجم الدين بهرامشاه الجاندار» ظل كلاهما يسلك مع الآخر طريق المعاكسة والعداء؛ فصاح مبارز الدين بأعلى صوته داعيا نجم الدين للمبارزة، فطلب نجم الدين ¬

(¬1) «إمرة جاندار: وموضوعها أن صاحبها يستأذن على دخول الأمراء للخدمة ويدخل أمامهم إلى الديوان ... إلخ» (صبح الأعشى 4: 20).

بهرامشاه الإذن من حضرة السلطان عزّ الدين ودخل الميدان. فانخرط كلاهما على الفور في القتال بالحراب كأنّهما أسد وفهد، فزاد ما تكسّر من رماحهما عن تفاريق العصّي وشتيت الحصيّ، ولم يصب أي من الغريمين بخدش- ولو خطأ- من هذا الطّعان. فما كان منهما إلا أن مدّا أيديهما إلى علوة السرج، وانتزع كل منهما دبّوسا، فعجزا عن ذلك أيضا، فلما لم يظهر القاهر من المقهور والغالب من المغلوب أرادا امتشاق السيوف من أغمادها ليفصلا في الدعوى بحدّ الحسام، فهو البرهان القاطع. فأمر الملك علاء الدين من داخل المدينة بأن ينادى على مبارز الدين، فلما بلغ نداء النقّباء سمعه رجع، كما ذهب بهرامشاه إلى حضرة السلطان، فأعرب السلطان عن إعجابه/ بثبات قدمه، وخلع عليه. وظلّت الاشتباكات قائمة على هذا النّمط بين الطّرفين كل يوم من أوائل الربيع حتى أوائل ربيع السنة التالية، ووضع السلطان مقابل المدينة أساس مدرسة على أمل أن يوقف عليها أوقافا ويغدق على فقهائها إن تيسر له الظّفر، وإن ظل الأمر على ما هو عليه أمر بإقامة مبنى المدرسة. فلما استخلص أنكورية وفى بالعهد والنذر وأوقف عليها. ولمّا وصلت النوبة لعلاء الدين أصدر أمرا بهدم القبّة وإبطال الأوقاف، لكن أطلال تلك المدرسة لاتزال باقية. لنرجع إلى ما كنّا فيه. أقام كل أمير بيتا، وقضوا ذلك الشتاء. وحين وصلت راية ملك الكواكب السيّارة إلى نقطة الاعتدال الربيعي، وامتلأت ستائر الأبواب بريح الصّبا، وتجلّت عرائس الرّياض، تجاوز ضيق المحاصرين وقلّة المؤن والمحاصيل الحدّ، فأخذ سكان المدينة والمحاصرون بالقهر يتجرّعون السمّ من ساقي الدّهر، فشرعوا في قرع باب الصّلح برضا الملك علاء الدين.

وأرسلوا رسولا إلى الأمير سيف الدين آينه طالبين الأمان، فجاء الأمير سيف الدين بالرّسول لتقبيل يد السلطان، ولما عرض الرّسول المشافهات والمراسلات واستغاثة أهل المدينة وما كانوا قد قدّموه من شفاعة بشأن الملك علاء الدين، بدت أسارير السّرور في الجبين المبارك للسلطان، واستدعى الأمراء الكبار مثل ملك الأمراء حسام أمير چوبان وملك الأمراء سيف الدين أمير قزل- وكانا من كبار أعوان المملكة- فأقسم السلطان في حضورهم بأغلظ الأيمان بألا يلحق بالملك/ علاء الدين أي ضرر- بأى وجه كان- من قبله، أو من قبل رعايا دولته، وأن يصرف- خالي البال- لبعض القلاع التي للسلطان ثقة بها، وألا يبخلوا عليه بالعدّة الضرورية من ملبوس ومفروش ومطعوم وزوجة، وألا يأخذ السلطان أهل المدينة بالمقاومة التي أبدوها. وتمّ توقيع العهود بعد ذكر الحلف باليمين المبارك للسلطان، وسلّمت للرّسول. وحين وصل الرّسول إلى المدينة، وأذاع الأمر، طلب أهل المدينة أعلام السلطان، ودعوا إليهم بالأمير سيف الدين آينه، فدخل الأمير سيف الدين المدينة- بأمر حضرة السلطان- بصحبة جند لابسين ملابس القتال ومعهم أعلام سلطان الدّهر وراياته، ورفع العلم بكل إجلال على قلّة القلعة، واستمال أهالي المدينة صغيرا كان أو كبيرا. ونقلوا الملك علاء الدين من قصر السلطنة إلى بيت بعض المجنّسين، واختاروا الموكّلين. وبعد ذلك صحب الأمير سيف الدين الأعيان والكبار إلى البلاط، فنالوا شرف تقبيل اليد، واعتذروا بلسان الاستغفار، ثم دخلوا المدينة مع الأمير سيف الدين، وأعدّوا الأموال والأمتعة التى سيجعلونها نثارا على موكب السلطان [عند دخوله المدينة].

ثم دخل السلطان المدينة بالفأل السعيد، وجلس على العرش، وأسعد (¬1) طبقات الناس بأنواع الاصطناع. ثم عهدوا بالملك علاء الدين إلى سيف الدين آينه، فأخذه إلى ملطيّة المحروسة، وحبسه بقلعة «منشار» (¬2)، ورتّب الرّواتب ووظائف بيت الثيّاب والمطبخ والشرابخانه، وأخذ من الأمراء والقادة حجّة بأنه قد سلّم الملك إليهم بسلام، ثم عاد. ورجع السلطان إلى العاصمة. ... ¬

(¬1) قارن أ. ع ص 139. (¬2) يشير «ابن واصل» فى كتابه «مفرج الكروب» - فى أحداث سنة 610 - (3: 219) إلى ظفر السلطان عزّ الدين كيكاوس بأخيه علاء الدين كيقباد، ويضيف أن عز الدين همّ بقتل أخيه لولا شفاعة بعض الناس فيه، فعفا عنه وتركه محبوسا. ويعقب «ابن واصل» على هذه الواقعة بقوله: «وهذه رذيلة كانت فى البيت السلجوقى .. فإن البيت السلجوقي كان إذا ظفر واحد منهم بأخيه أو ابن عمه أعدمه، وأحسن أحواله أن يعتقله حتى يموت».

ذكر عصيان سكان أنطالية وفتح ذلك الثغر مرة ثانية على يد مماليك السلطنة

ذكر عصيان سكّان أنطالية وفتح ذلك الثّغر مرة ثانية على يد مماليك السلطنة بعد مدة حمل خبال وبطر الرّاحة وأشر النّعمة كفّار أنطالية على أن يضربوا كأس العهد والميثاق بحجر التمرّد والعصيان، فأخرجوا رؤوسهم- كيهود خيبر- من ربقة الطاعة وأقدامهم من دائرة الاستقامة، ونفروا من رعاية حقوق دولة السلطنة فلبسوا السلاح، وفي جوف الليل- وبسبب ما وقع من لبس- كبس كل جماعة منهم حاكما من الحكّام، وجعلوا الشّريف والوضيع والكبير والرّضيع جرحى وقتلى لسيف الانتقام. وشغلوا حتى استولى الفلق على الغسق بإجراء الدّماء أنهارا من أبدان الحكّام صوب البحر، فما حلّ الصّباح إلا وكانت أرواح الشّهداء قد وجدت الأنس برياض القدس. وبعد ثلاثة أيام بلغ الخبر مسامع السلطان، فظهر تغيّر عظيم في باطنه المبارك، ووقّع في الحال الأوامر باستدعاء واستحضار العساكر والأمراء، وأرسلها بيد الرّسل المسرعين إلى كافة الممالك، فلا غرو أن حلّت بصحارى قونية أعداد رجال كحبّات الرّمان، ونصب الدّهليز المبارك بصحراء «روزبه» بنيّة فتح أنطالية بفأل اليمن وطالع السّعد، وساروا في اليوم التالي. أما الرّوم من أهل أنطالية فقد تحقق فيهم عند ذاك قول الحق تعالى: وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ (¬1)، فتوسّلوا- بسبب الاضطرار والمحنة- بملوك الفرنج، فسارعوا بشحن بضعة سفن بالمحاربين وأرسلوها لمددهم، فلما شاهد الفجرة من فوق السور ما أتاهم من مدد فوق سطح البحر/ دقّوا طبول البشائر وتغنّوا بلحن السعادة بالوتر السفلي لورود أولئك الذين هم حطب جهنّم، ¬

(¬1) يونس، آية 54.

وأدخلوهم القلعة بالحفاوة البالغة والإعزاز التام، فشغل أولئك المناحيس بتدبير عدّة القتال، فركّبوا المجانيق من داخل المدينة. وحين وقعت ظلال المظلّة السلطانية على تلك الأطلال أمر في التوّ بأن يحيط الجند بتلك الخطّة كما يحيط قطر الدائرة بالنقطة، فزحفوا مع حملة السهام زحفا ارتعدت منه عظام دي وبهمن (¬1)، ولم يستطع أحد منهم أن يظهر وجهه لأحد من السّور خوفا من ذلك الزحف. وفي اليوم التالي حين وصلت أسلحة الحصار ومعدّاته ووصل المشاة، أمر فأمسكوا المغازل بالليل وصنعوا السلالم وهيّأوا المنجنيق للعمل. فلم يكن لأولئك الملاعين من حيلة إلا إلقاء الحجارة، إذ لم يكن بوسعهم أن يتحركوا فوق السّور خشية أن يصابوا بالجراح من سنان السهام. ولما طالت مدّة [المقارعة] (¬2) أمر السلطان بإعداد سلالم عريضة يمكن لعشرة من المشاة أن يرتقوها دفعة واحدة، وأن يصعد شجعان الجند فوق السّور فيفصلون في أصل هذا النزاع بحكم الحسام القاطع. فعدّوا امتثال الأمر لازما، وأعدوا السّلالم على نفس المنوال، وعيّنوا الجماعة التي تحمل السلالم تحت السّور، والطّائفة التي تصعده، والفوج الذي يرمي بالسّهام. وفي اليوم التالي سار الجيش بأسلحته، أما عقاب مظلّة المتمكّن في الأرض فقد بسط أجنحته، وتحرّكت الرّاية المنصورة، وطلب السلطان أبطال الحشم، ¬

(¬1) دي وبهمن: الشهران العاشر والحادي عشر من السنة الهجرية الشمسية الفارسية ودي أول شهور الشتاء ويعادل شهري ديسمبر/ يناير من السنة. (¬2) إضافة من أ. ع، ص 144.

وبذل لهم الوعود الجميلة حتى حملوا بأسرهم حملة كعزرائيل، فأجروا من العيون النضّاخة في عروق الكفّار أنهارا صوب البحر./ وجرى قول الحق جلّ وعلا تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (¬1) مجرى التداول. ونصبوا السّلالم، وصعد الشّجعان بالدّبوس الثقيل والسّلاح الخفيف عشرة عشرة من كل برج كالشّمس التى امتشقت الحسام، فقتلوا الفرنجة الذين كانوا على السّور، ونزلوا وفتحوا البّوابة، فدخلت العساكر، وتجاوز تدفّق الدّماء الحدّ، وعدّوا الإبقاء والعطف على الصّغير والكبير من المحظورات، وغنموا أموال أولئك الكفرة وعيالهم حيث أخذوهم رقيقا. وفي اليوم التالي دخل السلطان المدينة، وجلس على عرش المملكة، فقيّد الصقر المسيطر على الفضاء بقيد الصّيد ثانية، وأمر بإقامة الاحتفالات العامة، وخصّ الأمراء والقادة ورؤساء العشائر والبواسل من العساكر المنصورة، فجعلهم ينالون الحظوة بمكارم وعواطف غير محصورة. واستمر الاحتفال بعد انتهاء القتال سبعة أيام، ثم ألقى نظرة على سائر البيوتات، فما كان فيها معدوما جعله موجودا، وما كان قليلا أحاله كثيرا، وبلغ بحدّ النّقصان غاية الكمال، وبادر بترميم السّور وزاد من ارتفاعه وسدّ كل ثلمة فيه. وعهد من جديد بقيادة الجيش للأمير مبارز الدين أرتقش كي يستميل القلوب بحكم اطّلاعه على أحوال السّواحل، ويعيد المتمرّدين والمشرّدين إلى الماء والأرض. فضمّ أموال الخونة وأملاكهم إلى ديوان الخاص، وسجّلها في دفاتر الديّوان الأعلى، وأضاف بعضها إلى الإقطاعات. وولّى السلطان وجهه صوب قونية، وكتب رسائل الفتح والظّفر لأطراف العالم، وأرسل من تلك الغنائم تحفا لا حصر لها إلى ملوك الأطراف. ¬

(¬1) الطور: الآيتان 9، 10.

ذكر تحرك السلطان نحو سينوب وفتحها فى عهده المبارك

ذكر تحرّك السلطان نحو سينوب وفتحها فى عهده المبارك حين أطلّ وجه الربيع من وراء نقاب السحاب المضمّخ بالكافور وبسط فراشو (¬1) الطبيعة بساطا متعدّد الألوان على وجه الجبال والصحاري حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ (¬2)، خطر للسلطان أن يتوجه إلى «سيواس»، فوجّه عنان من يزدان به العالم إلى تلك الناحية. وبينما كان السلطان جالسا ذات يوم في محفل ملكي وصل فجأة رسل من محافظي ثغور «سينوب» وسلّموا رسالة مختومة لحضرة السلطان بأن «كيرالكس» تكور «جانيت» قد بالغ في الجناية، وتوّغل في ممالك السلطان، وأحدث الكثير من التّخريب والدّمار. ورغم أن السلطان قد استبد به الانفعال بسماع ذلك الخبر، فقد تجنّب إظهار انفعاله كي لا يفسد متعة الرّفاق. وفي اليوم التّالي دعا بالأمراء وفاتحهم في الأمر، فأبعدوا النجعة بأسرهم في بيداء الغضب وغيضة الغيظ، وقالوا: لو أذن لنا سلطان العالم فإن خنجر مماليك السلطنة المتعطّش لدماء الخبثاء يروى من مقسم المفرق في رأس ذلك الحقير، ويصبح ما زرع ببلاده حصيدا لمنجل القهر الذى تمسك به الجنود المنصورة. فسأل السلطان بعض من كانوا قد رأوا «سينوب»، فأجابوا بأنه لا يمكن أخذها بالحرب، اللهم إلا إذا حوصرت زمنا طويلا حتى يلحق بأهلها الملل لقلة المؤن ونفاد الزّاد، وألا يصل إليهم مدد من البر أو البحر، فعند ذاك وبهذه الوسيلة ¬

(¬1) في الأصل: فرّاشان: أى الفّراشون، و «الفرّاش: من يتولى أمر الفراش وخدمته .. إلخ» اختاره مجمع اللغة العربية بالقاهرة، انظر المعجم الوسيط. (¬2) يونس: الآية 24.

يمكن أن يتاح فتح المدينة. فالرأى أن يبادر الجيش بالهجوم عليها، فيأخذون عيالهم رقيقا، ويخرّبون ضواحيها وأطرافها كلّية، ويتعاملون معهم على هذا النّحو سنوات. فاستقرت/ آراء الأمراء في حضرة السلطان على هذا كله. وفي اليوم التالي توجهوا إلى «سينوب» بعدد كبير وعدة وافرة. فأخبر الجواسيس أن «كيرالكس» يجول بتلك الديار- في غير حيطة ولا حذر- في رحلة للصيد وبصحبته خمسمائة فارس. وحين سمع القادة هذا الخبر أسرعوا كالوهم في المسير، وفجأة التقوا به في مكان الصّيد، وأمسكوا بتلابيب روحه- كموت الفجاءة- في موضع أنسه ومجلس سلوته (¬1). ورغم أنه حمل على القادة بضع حملات، فإنهم جاءوا به في النّهاية مقيّدا وأسيرا إلى مضارب خيام العساكر المنصورة، أما جنوده فقد قتل بعضهم وجاء الباقون «مقرّنين في الأصفاد» إلى بيت السّلاح الخاصّ، واختير لهم موكلون يتمتّعون باليقظة والانتباه. ثم أرسلوا في التوّ واللحظة رسولا وأبلغوا المسامع السلطانية بالنّصر الرّباني والفتح الفجائي. وما إن علم السلطان بالرسالة حتى رفع أعلام الفرح رفعا تجاوزت به ذروة العيّوق ومنزل الشّعرى (¬2)، وأمر ببذل أقصى الاهتمام للمحافظة على ذلك المخذول المجدول (¬3)، لأن موكب السلطان سوف يتجشّم التوجّه إلى تلك النّاحية ¬

(¬1) قارن أ. ع، ص 148. (¬2) العيّوق نجم أحمر مضيء في طرف المجرة الأيمن، والشّعرى كوكب يطلع في الجوزاء في شدة الحر. (¬3) كذا في الأصل، ولعل المراد بالمجدول، من أحكم وثاقه.

على الأثر، ويمكن عرض ما يقتضيه الرّأي وتستدعيه المصلحة على الأمراء (¬1). وفي اليوم التالي توجّه السلطان نحو «سينوب»، فلما لحق بتلك الحدود استقبل جميع العساكر الرايات السلطانية وقد لبسوا السلاح، وقبّلوا أرض العبودية من بعيد. وحين نزل السلطان بخيمته المباركة أمر بإحضار «كيرالكس» مقيّد الأقدام. فلما اقترب من العرش قبّل الأرض بذلّة وضراعة، فعني السلطان- لفرط مروءته- بالتودّد إليه، وقال: لا ينبغي أن تتعب خاطرك، فما دامت سلامة الذّات حاصلة غدت شاملة للمرادات. وجلس لحظة ثم أذن بأن يذهب بالأوثاق إلى الوثاق. وفي اليوم التالي أمر السلطان بأن يركب جميع الجند وهو يلبسون لأمة الحرب/ فيلتفّوا حول القلعة التي تقوم منها على اليابسة. وأرسل إلى «كيرالكس» قائلا: مادام موكبنا السلطاني قد لحق بهذه الحدود فإن العودة دون حصول المقصود أمر محال، فيجب أن يرسل شخصا من أهله إلى المدينة لكي يقدم النّصح للمحصورين. فاختار تكور شخصا من الأمراء الكبار كان مقيّدا في سلك باقي الأمراء، ففكّوا قيوده بأمر السلطان، وحملوه إلى تكور، فأرسل تكور برسالة على لسانه بأن يسلّموا المدينة. فأطال أولئك المدابير اللسان بالهذيان، وقالوا إن كان «كيرالكس» قد أسر فإن له أبناء لائقين، سنقيم واحدا منهم ملكا، ولن نسلم هذه البلاد ¬

(¬1) قارن أ. ع، ص 149.

للمسلمين. فأمر السلطان بإرسال الرّسول مرة ثانية من باب إلزامهم الحجّة، فلم يكن لذلك بدوره جدوى. وفي اليوم التالي أمر بأن يطوفوا بتكور وهو مقيّد بقيود ثقيلة حول حدود المدينة ويأخذوا في تعذيبه فإما أن يسلّموا المدينة أو يقضى على «كيرالكس». فأخذ الجلّادون في تعذيبه، وارتفعت صرخاته وأخذ ينوح قائلا: أيها الكفرة، لأجل من تبقون على المدينة وهم سيقتلونني وسيأخذونكم أسرى مقيّدين بالقهر والقسر، فما جدوى المقاومة؟ «فكان تأثيره فيهم كتأثير الرّخاء في الصّخرة الصّماء». وظلّ الأمر على هذا النحو طيلة النهار إلى أن حلّ الليل. وفي اليوم التالي أمر السلطان بتعليق «كيرالكس» مقلوبا وشرعوا في عصره حتى فقد الوعي كالصّريع. فلما رأى أهل المدينة أن أمر الملك قد تجاوز الحدّ صاحوا مطالبين بعودة رسول تكور إلى المدينة، «فعندنا كلام نقوله». وحين دخل الرسول المدينة قالوا: لو أقسم السلطان ألا يقتل «تكور» وسمح له بالذهاب سالما إلى ولايته، وأعطانا الأمان لأرواحنا/ وأهلنا وأموالنا وأطفالنا وسمح بأن نذهب حيث نريد، فإننا نسلّم المدينة. فأقسم السلطان على ذلك كلّه في حضور «تكور» والرسول، ولما حمل الرسول المواثيق إلى المدينة سكن أهلها واطمأنّوا، وطلبوا علم السلطان، وحمل جماعة من أهل تكور وفوج من الحشم المنصور سنجق (¬1) السلطان- بكل إجلال- إلى المدينة يوم السّبت السادّس والعشرين من جمادى الآخرة سنة 611، ونصبوه على السور. ¬

(¬1) مفرد سناجق، والسنجق «رايات صفر صغار» (صبح الأعشى، ص 4: 8).

وفي اليوم التالي صدر الأمر الأعلى فركب الجند ووقفوا في مقابل المدينة صفّا صفّا، وخرج أعيان المدينة وكبراؤها بصحبة الأمراء- الذين كانوا قد ذهبوا في الليل- وقبّلوا الأرض، ورأوا تكور في خدمة ركاب السلطنة واقفا على الأقدام، فسلّموا مفاتيح المدينة إلى مماليك السلطان بحضور تكور. واستمال السلطان بعضهم فألبسهم الخلع (¬1)، ثم عادوا وأعدوا النّثار، ودخل السلطان المدينة وفق الاختيار (¬2)، وجلس على العرش، وأقيمت الاحتفالات. وترك السلطان تكور واقفا مدة على سبيل التعظيم، ثم أمره فجلس في مكان أعلى من سائر أمراء الدولة، وبالغ في تكريمه والتمكين له، وأمضى طيلة النهار وشطرا من الليل في السرور والسعادة. وفي اليوم التالي استدعى «تكور» قبل المسير، وطلب منه العهد والميثاق فنطق تكور بالقسم وفقا للمسوّدة التي كان قد خطها حرس (¬3) الديوان، وهى: بما أن السلطان يؤمّن حياتي أنا «كيرالكس» ويقّرر لي ولأولادي ملك جانيت (خارج سينوب) ومضافاتها فعليّ أن أسدّد كل سنة عشرة آلاف دينار، وخمسمائة حصان، وألفي بقرة، وعشرة آلاف حصان وخمسة/ أحمال من أنواع التحف، وأنني لن أضنّ بتزويده بالجند- بقدر ما يتسع له الإمكان- وقت طلب المدد. وقد شهد على ذلك كلّه أماثل الطرفين من قائم وقاعد. وحين أودعوا وثيقة القسم بالخزانة قدّم السلطان تشريفة نفيسة لتكور، وأمره بأن يمتطي صهوة جواده، وكان تكور رجلا طوالا نحيف البدن، فبمجرد أن ¬

(¬1) قارن أ. ع، ص 152. (¬2) يعني وفق اختيار المنجّمين المصاحبين للسلطان، قارن أ. ع، ص، 152. (¬3) في الأصل، وأ. ع 152: نوطاران، ومعناها حرّاس، ونظّار، وخفراء المزارع. وواضح أن الكلمة مأخوذة من العربية: ناطور. راجع: لغت نامه دهخدا.

وضع السلطان قدمه في الركاب أخذ الغاشية (¬1) من الركابي ووضعها على كتفه ومشى، فلما سار مدّة أمره السلطان بأن يعطي الغاشية للركابي، ويركب هو الحصان. وظلا يسيران في الطّريق جنبا إلى جنب يتجاذبان أطراف الحديث. سار السلطان ساعة على أطراف السّواحل، ثم عطف العنان صوب المدينة وطلب الخوان وزين المحفل. وبذل الكثير من الإعزار لتكور حين أثرّ فيه الخمر، وأذن له بأن يحمل معه كل من يريد من أهله ومن يتّصلون به، وأن يسلك الطريق نحو إقليمه [دون مانع أو منازع] (¬2). وبعد الوداع ركب سفينة وأبحر صوب «جانيت». ثم إن السلطان أصدر أمرا بأن يتم اختيار سيّد من كفاة الأغنياء ويبعث به إلى «سينوب»، ويشترى ملكه وعقاره- برضاه- من ديوان الخاص السلطاني، ويعطى قيمة ذلك كله. وبموجب هذا الحكم بعث إلى سينوب بسادة أعيان من نواحي البلاد. ثم إن النواب دعوا جميع الفارّين وأعادوهم إلى الماء واليابسة، وحوّلوا الكنيسة إلى مسجد جامع، ونصبوا الخطيب والمنبر والمؤذّن، وعيّنوا حارس القلعة والمحافظين، وبادروا بترميم ثغرات السّور، وسمي أحد الأمراء قائدا للجيش، وجعل بصحبته جيش مهيب للدفاع عن ذلك الثغر. ¬

(¬1) الغاشية: «وهي غاشية سرج من أديم مخروزة بالذهب .. تحمل بين يديه [يعني السلطان] عند الركوب في المواكب الحفلة كالميادين والأعياد ونحوها، يحملها أحد الركابدارية، رافعا لها على يديه يلفتها يمينا وشمالا» (صبح الأعشى 4: 7). (¬2) إضافة من أ. ع، ص 154.

ذكر إرسال السلطان للشيخ مجد الدين اسحاق إلى دار السلام لإعلان فتح سينوب

/ وما لبث أن توجه من هناك إلى «سيواس»، فيتيسّر للأمراء عند ذاك الإذن بالعودة إلى الأوطان. ذكر إرسال السلطان للشيخ مجد الدين اسحاق إلى دار السلام لإعلان فتح سينوب وفي أثناء ذلك كان قد نما إلى السمع الأشرف أن الملك الأشرف (¬1) قد اقتنص باسم حضرة الخليفة بجعة بحرّية من الأجواء العليا إلى حضيض الفضاء ببنادق القوس، [وكما هى العادة المعهودة لأرباب هذه الحرفة سطّروا مكتوبا مشحونا بشهادة شهود عدول] (¬2) وأرسل [مع الطائر] إلى حضرة الخليفة مع تحف وفيرة في صحبة رسول. فما كان من الخلافة إلا أن زوّدت الملك الأشرف بودّ متواصل وعناية متواترة. وحين تيسّر للسلطان فتح «سينوب» بعث الشيخ العالم قدوة الآفاق مجد الدين إسحاق وقد زوّده بالأحمال والتحف من الجواهر والبسط المنسوجة بخيوط الذّهب، والحرير الأطلسيّ المعدني والصّلبان الذهبية المرصّعة، وأواني الفضّة، لإبلاغ الخبر المبارك بذلك الفتح الجسيم الذي قرّت به أعين السلطنة وتقررت به أمور الإسلام، وطلب سروال الفتوّة. فلما وصل الشيخ مجد الدين إلى مقرّ الخلافة وعاصمة الإمامة بالغ الخليفة في إكرام مقدمه، وأرسل معه حين أذن له بالانصراف سروال العصمة والطهارة، ¬

(¬1) يعني به الملك الأشرف موسى بن الملك العادل أبو بكر بن أيّوب، وكان في ذلك الوقت «صاحب ديار الجزيرة كلّها، إلّا القليل، وصاحب خلاط وبلادها» (ابن الأثير، الكامل في التاريخ، طبع بيروت 1966 م، 12: 337، 352). (¬2) إضافة من أ. ع، ص 155.

ومئزر المروءة من البدن المطهّر المكرم لأمير المؤمنين، وكتاب الفتوّة (¬1) مع العمامة الميلاء كالعمامة (¬2) السّوداء والدّراعة مشفوعا بالمقرعة ومنشور السلطنة بالتوصية بإقامة حدود الشّريعة بالمملكة، وخمسة بغال سريعة السير منعّلة بنعال النّضار مع الطّوق واللّجام، وخمسة من الخيول العربيّة المبرقعة ببراقع من أطلس أسود مخيط بالذهب، وعشر من الإبل الحجازية، وغير ذلك من أصناف الألطاف وأنواع الأنعام. فزادت مسرّة السلطان بتلك التّشريفات وما كان من حسن الالتفات، وتفاخر بها وتباهى على الفلك. ... ¬

(¬1) نقل ابن البيبي نسخة الكتاب في الأوامر العلائية، ص 156 - 158. (¬2) أشار الأستاذ «هوتسما» محقق الكتاب إلى أن النص هنا مضطرب غاية الاضطراب.

ذكر توجه السلطان نحو طرسوس

ذكر توجه السلطان نحو طرسوس حين قفل السلطان راجعا بالسّعادة والحبور من فتح «سينوب»، وصلت جيوش الشتاء، فتّمرغت الشمس في تراب المذلّة كأنها رزق أرباب الفضيلة، ولبست الجوشن- كعادة القمر- من خوف سنان الزّمهرير تحت درع ثبت الغدر (¬1). فجلس السلطان كأنه كسرى الإقليم الرابع على فراش وثير محاط بالوسائد من جهات أربع، ووضع مثلّث البخور على مدخنة السّرور، وأمضى الشّتاء كله على هذا النّمط برطل يستوعب عشرة أمنان (¬2)، وبحسناء من أرض الختن (¬3). فلما حملت شمس المشرق عدّة العمل وارتحلت من قصر المشتري صوب شرفة برج الحمل، عزم السلطان على التوجّه إلى قيصرية المحروسة. وأخذ يأمر خواصّ الأمراء والمقرّبين للبلاط الأعلى بتمهيد قواعد العدل طيلة أيام الحياة. ومضى أمر القضاء صادرا بأن يسير أمراء الأطراف بجميع العساكر إلى منطقة الرّعي في «بنلو» ولحق الأمراء الكبار بالبلاط، ووفقا للأمر تجمّع كافّة القادة وعامّة الأبطال بعدّتهم الكاملة في مراعي بنلو، وسارع أمراء الخلوة بأصناف الهدايا إلى حضرة السلطنة. وفي تلك الأثناء عاد محصّلو خراج «سيس» وقد جأروا بالشكوى من ليفون تكور. فنبضت عروق الحميّة والنّخوة في السلطان عند سماعه لهذه النّبوة، واستدعى الأمراء الغائبين، وعرض القضية، فقالوا جميعا بلسان واحد إنّ عرك ¬

(¬1) درع ثبت الغدر: أي يثبت في القتال (انظر المعجم الوسيط)، وفي الأصل: زره غدير: درع الغدير. (¬2) المن: معيار قديم كان يكال به أو يوزن ... إلخ (المعجم الوسيط). (¬3) الختن: الاسم القديم لتركستان الشرقية.

أذن عديم الأدب هذا من أوجب المهام، ولكن يتعذّر التدخّل في هذا الموسم في ولايته لفرط الحرارة/ فإن أذن السلطان اتّخذ الجيش المنصور من ريف «بنلو» ورياضها مغنى إلى أن يحين الخريف، وتسمن الدواب، حتى إذا همدت سورة الهاجرة في كل مكان تمّ التحرّك بيمن التأييد الربّاني وجلال الدّولة السلطانية بأكبر ما يمكن من حشود، فيتم تأديبه الذي يعدّ من الضرورات. فقرن السلطان ذلك الرأي بالرّضا. وحين حلّ أول الخريف: (شعر): - نثرت الرياح المسك والقرنفل بدل التراب، ... ظهر اللؤلؤ والزبرجد بدل فاكهة الغصون. تحرّكت العساكر المنصورة، وسارعت- كمسارعة الوثني صوب الصّنم- إلى البلاط الأعلى، وجاءت المظلّة الملكية من طريق وادي «كوشي» إلى «كوكري»، فكان المعسكر هناك. وحين وصل الخبر إلى تكور بأنّ السلطان قد عزم على التوجّه إلى ولاية «سيس»، اضطرب اضطراب الزئبق، وشرب الغصص على تقصيره في الخدمة، ورأى نفسه بسبب تلك الحادثة متورّطا في مهلكة الضلال ومتخبّطا في مسبعة الآجال، ولم يجد مجالا للمشورة في مضيق تلك الدّاهية، فاضطرّ إلى جمع جيش من كل ناحية، واتّجه للحرب «كالباحث عن حتفه بظلفه». ***

ذكر محاصرة قلعة جنجن وفتحها على يد مماليك السلطان

ذكر محاصرة قلعة جنجن وفتحها على يد مماليك السلطان حين لحق موكب السلطان بجيش ضاقت به الجبال والصحاري/ بقلعة- جنجين- ولم يكن لليفون معقل أكثر منعة منها- بدا للسلطان أن يجعل من هاتين القلعتين فاتحة [ومقدّمة النصر]. فأمر بنصب المجانيق فزلزلوا حال المقيمين في القلعة من صوت القصف المزمجر، وظلت ثلاثة أيام متواصلة تمطر أرواحهم العاجزة بحصيات الموت. فاستغاثوا طالبين الأمان من فرط العجز، وطلبوا ثلاثة أيّام مهلة، فإن لم يصل مدد من جهة تكور بانقضاء الأيّام المعدودة سلّموا القلعة. فلما وصل الرّسول إلى تكور أجاب قائلا: إنّما أنا عاجز في أمر نفسي ولا طاقة لي على تدارككم. وحين سمع أهل القلعة ذلك الجواب طلبوا الأمان في الرّوح والأهل والمال والعيال. ووفقا لملتمسهم صدر الأمر كتابة بأن يرفعوا العلم على القلعة، ويصعد نوّاب الديوان، فأحضروا احتياط البيوت [من أسلحة وذخائر وسائر المعدّات] (¬1)، ونصبوا قائدا للقلعة وحرّاسا. ثم إن السلطان توجّه صوب قلعة «كانجين» فتلقّاه أهلها بالمدافعة والممانعة، فأمر السلطان بتشغيل المجانيق، فأوقعوا في القلعة الخلل وفي أمر الكفار الزّلل، وأعدّوا السّلالم، وباشروا الحرب السلطانية، ووفقا لحكم أعتاب السلطنة قاموا بزحف عظيم وصعدوا نحو القلعة محدقين بها من كل صوب، ولم يكن رماة السّهام من الخارج يتيحون الفرصة لأهل القلعة لإلقاء نظرة على الجيش، وألقى البواسل أنفسهم في موجة واحدة من الهجوم بداخل القلعة، (وما أكثر ما جرى ¬

(¬1) إضافة من أ. ع، ص 164.

من قتل وسفك للدماء، حتى جرت جماجم القتلى كالزّوارق في شطّ دماء الأوداج) (¬1). ثم فتحوا باب القلعة فدخل بقيّة العساكر، وحلّ/ بالمتحصّنين في القلعة الكثير من النّكال بالغارة والنّهب والسّبي والقتل. ولما فرغوا من تلك المهمّة صعد نواب الدّيوان إلى القلعة، وأخذوا في تسجيل الذّخائر والأسلحة، ونصبوا قائد القلعة والرجال لحفظها، ثم التفتوا لمعركة «ليفون» الملعون. وكان هو نفسه قد جاء للقتال وقد اعتراه التردّد وساوره الخوف. وقبل طلوع الصّبح الصّادق ذهب أمير المجلس مع رجل أو اثنين من خواصّه متنكّرين قرب عساكر الكافر، كي يطّلع الأمير على كيفية حال طلائع ليفون. وكان أمير المجلس عندئذ هو أمير طلائع [السلطان] وتحت قيادته ثلاثة آلاف من الفرسان المشهورين. وفجأة حاصرهم الكفار وقضوا على خيولهم برمي السّهام، فمشوا إلى تلّ للاحتماء به وأخذوا يدفعون أذى الكفّار بالسّهام والسّيوف والحراب. ولما طلعت الشّمس، توجه أمراء الطّلائع لخدمة أمير المجلس، فما رأوه في مقامه المعلوم، وبعد أن اتضح الأمر اتّجهوا نحو معسكر تكور، ومن بين العسكر الخاصّ بأمير المجلس ركب مائة فارس وكانوا جميعا من الأبطال المغاوير، وكان يدخل بهم في معركة ضدّ ألف رجل، وكان يغدق عليهم الإقطاعات والإطلاقات، فصعد هؤلاء بخيولهم على جبل كان مشرفا على جيش الكافر، ¬

(¬1) كذا في الأصل، ولا وجود لما بين قوسين في الأوامر العلائية ص 165 ويبدو أن صاحب التلخيص قد أضاف هذه الفقرة من عنده.

وفجأة رأوا شخصا قد ارتقي تلا وقد أحاط به الكفّار من كل جانب فألقوا جميعا بأعنّة خيولهم دفعة واحدة، وعمدوا إلى تشتيت الكفّار الذين كانوا قد أحاطوا به وتبديدهم، وسحبوا حصانا وأركبوا أمير المجلس، فلما لحق بجنده رآهم قد اصطفّوا للقتال. ولما كان قد اطّلع على مزاج حال الكفار/ خاطب السلطان قائلا: لقد وقف المملوك وقوفا كاملا على قوّة الجيش الأرمنيّ وشوكته، فليأمر سلطان العالم بأن تتّجه القوات- التي قد ركبت بالفعل- للقتال على هذه الهيئة. فصدر أمر حضرة السلطنة. فانقلبوا جميعا في الحال صائحين كالرّعد، وعمّ الهياج البحر. واصطفّت كلّ فرقة في صحراء النّزال كجبل حديدي وبحر نارىّ، ووجّهوا وجوههم- وكلّ منهم يرغي ويزبد- إلى الخصوم كأنهم الحظّ المشئوم. وجاء ليفون بدوره- وبما كان قد أجراه من حشد وتعبئة- بالفرسان والمشاة بمحاذاة الكماة من جنود السلطان. ودعا «ليفون» البارون «فاسيل» والبارون «أوشين» و «كندصطبل» إلى التقدّم بعد أن كانوا خلف الفرسان وأمام المشاة. وفي الهجوم الأول، أطاح أمير المجلس بكند صطبل- وكان مشهورا بالشجاعة والصّرامة- على الأرض بطعنة من رمح، وأمر الأمير بوضع قيد في رقبته وسلّمه لأحد الفرسان قائلا له: اذهب عند السلطان وقل إنني أوقعت به. وفعل مع البارون أوشين، ونوشين الفعل نفسه واللعبة المتقدّمة ذاتها، وسلّم هذين الشخصين بدورهما إلى اثنين من الفرسان فحملوهما إلى حضرة السلطان في قلب الجيش، فأمر بخلعة ثمينة للفرسان الثلاثة.

وفي النهاية أمسك النحس المصاحب لإخفار العهد بتلابيب آمالهم، فسلكوا طريق الهزيمة: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (¬1) حسم أمير المجلس الأمر بثلاثة آلاف فارس، ولم تعد هناك حاجة إلى [تحرّك] (¬2) بقية الجيش. فقرأ أمير المجلس قول الحق تعالى وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ (¬3) وعاد إلى حضرة السلطان، فرفع السلطان منزلته عن كافة الأمراء، وخلع ما كان يلبسه وألبسه له. / حظي الجيش تلك الليلة بالرّاحة من تعب الحرب، وعناء الطّعن والضّرب، وعند الفجر تحرّك الجيش كلّه- كأنّه ريب المنون- في الجبل والصّحراء لطلب ليفون، وأخذوا يركضون يمينا ويسارا، وما عثروا على أحد إلا جعلوه قتيلا أو أسيرا للقيد والتّنكيل. واستمرّت الغارة في ولاية الأرمن على هذا النّحو أسبوعا. وفي اليوم الثّامن قفلت العساكر راجعة من أطراف ولاية الأرمن بالكثير من الغنائم ومن بينها الخيول والبغال والأسرى، وعلم أن ليفون قد لحق ببعض الحصون. وبعد أن صار الجيش منصورا والعدوّ مقهورا والمخالف محصورا اتجه السلطان بالجيش إلى الممالك المحروسة بغنائم ليس بوسع ظهر الأرض حملها، حتى بلغ ثمن رأس الماشية في «قيصريّة» درهمين، وثمن خمسة أو ستّة من الأغنام درهما واحدا، على حين بلغ ثمن الغلام والجارية الأرمنيّة البهيّة الطّلعة خمسين. وبحصول المراد أذن السلطان للأمراء والأجناد بالانصراف، وأقام بنفسه في قيصريّة. ¬

(¬1) الأنعام، الآية 45. (¬2) قارن أ. ع، 167. (¬3) الأحزاب، الآية 25.

ذكر وصول رسل ليفون بالتضرع والاستعطاف وتضعيف الخراج والتنصل من التمادي الذي أجيز في الخدمة

ذكر وصول رسل ليفون بالتضرع والاستعطاف وتضعيف الخراج والتنصّل من التمادي الذي أجيز في الخدمة حين قفل السلطان راجعا إلى الممالك المحروسة خرج ليفون من مهربه، وتشاور مع بقايا الخواصّ في تدارك تلك الرزيّة، فلم يجدوا جميعا من وسيلة سوى طريق إظهار التذلّل. فجهزّ هدايا من كل نوع وسيّرها في صحبة الكفاة، وكان مضمون رسالته: «إذا كان المغرضون قد نقلوا عنّي سوءا إلى مسامع ملك العالم فها أنذا قد نلت جزائي، فالأمراء صرعى والملك قد أدبر والجيش بأسره قد تبدّد بالقتل. والمتوقّع- لما عرف به السلطان من مرحمة سابغة- أن يتجاوز عن ذنبي ويصفح عنه/. (والحقيقة أن السلطان كان سينزع عني «ولاية سيس» ويعطيها لآخر، فما أنا إلا مملوك وابن مملوك، وأنا بعد هذا أضع حلقة العبوديّة في أذني (¬1)، وأضاعف الخراج، وأبعث كل عام- بخلاف المعهود- بخمسمائة فارس بكامل عدّتهم لكي يوجّههم السلطان حيث شاء). وتشفّع [تكور] بعدد من الأمراء الكبار لقضاء هذه المهمة، حتى توسّطوا جميعا- بالاتفاق- لدى عتبة العرش الأعلى، وأزالوا ما علق بالخاطر الأشرف للسلطان العادل من غبار الوحشة. وتقرر أن يرسل إلى الخزانة العامرة كلّ سنة عشرون ألف دينار برسم الخراج، مع التّحف والأحمال التي تكون لائقة بذلك، وأن يؤدي ما بقي عليه من خراج العام الماضي. وألا يهمل بعد اليوم في أي أمر من أمور الولاء مهما دقّ وصغر. ووفقا لهذه الشّروط أقرّه السلطان على ملك «سيس»، وحلف الأيمان، ¬

(¬1) قارن أ. ع 167.

واختار الصّاحب ضياء الدين قرا أرسلان- وكان في ذلك الوقت أمير الدّواة- للإجابة على ليفون وتحصيل بقايا الخراج، وبعث معه بمنشور مجدّد لملك تلك المملكة. وحين علم «ليفون» بقدومه استقبله بنفسه وأنزله بقصره، وبلغ الغاية القصوى في إكرام جانبه. وفي اليوم التالي قرئ أمر السلطان مع منشور تقرير المملكة على رؤوس الأشهاد، ووضع ليفون جبينه على الأرض وأخذ في الدّعاء، ونثر الكثير من الأموال. وفي اليوم التالي كتب الصاحب ضياء الدين المسوّدة لكي يقسم تكور على ذلك كلّه ويوقّع على الوثيقة. وأرسل إلى الخزانة العشرة آلاف دينار الباقية وعشرة آلاف لستة أشهر تالية كتقدمة من خراج المستقبل، مع تحف أخرى. وحين/ وصل ضياء الدين إلى «قيصرية» وعرض بقيّة الخراج والهدايا والتّحف والمواثيق التي بعث بها تكور، بالغ السلطان في الإحسان إلى الرّسول، وأطلق سراح الأمراء المحبوسين، وبعث بالفرامين إلى أطراف الممالك بأن أسباب النزاع قد زالت منذ اليوم، فافتحوا الطرق أمام التجار والمتردّدين ولا تلحقوا أذى بأيّ مخلوق. ثم سرّح الرسل وهم يشعرون بمسرّة بالغة. ***

ذكر تزوج السلطان بكريمة من ذريات الملك فخر الدين بهرامشاه بن داود ملك أرزنجان

ذكر تزوّج السلطان بكريمة من ذرّيات الملك فخر الدين بهرامشاه بن داود ملك أرزنجان لما كان السلطان قد التزم بانتهاج الأوامر الإلهية والامتثال للأحكام النبوية في كل آرائه وعزائمه، فإنه كان يريد- بحكم النصّ: «تخيروا لنطفكم فإنّ العرق دسّاس» أن يزدان حريمه الكريم بوجود جوهرة تتألّق في الليل البهيم قد ربّيت في صدف العصمة، حسيبة الأبوين، كريمة الطرفين، وأن يجلسها إلى جانبه على سدّة السلطنة بهذه الصّفة الموزونة المتناسبة، فأجال بريد الفكر حول أطراف الدنيا، ولم يجد أسرة أشدّ احتراما وجلالا من أسرة الملك فخر الدين بهرامشاه، لأن تلك الصّدفة المشتملة على درّة الغوّاص ويتيمة الدهر كانت قد استخرجت من «عمان» الفضل والإحسان (¬1) والأصلاب الطّاهرة والأنساب الزّاهرة للسلطان قلج أرسلان، وانبعثت من جرثومة سلجوق (¬2) ولما لم يجد بعد طول الاستخارة ويمن الاستشارة فوق هذا الاختيار مزيدا، رتب الأفانين من الهدايا الثّمينة والتّحف النّفيسة الضّنينة من الخزانة العامرة، وندب واحدا من أولي الألباب للمفاتحة في هذه الخطبة (¬3)، وأرسل تلك الأحمال والهدايا في صحبته. فلما وصل الخبر للملك [فخر الدين] ابتهج واستقبل الرسول بنفسه، وأنزله بالإعزاز والتّكريم في بيت الضيافة، وعدّ المبالغة في احترام جانبه من ¬

(¬1) استخدم المؤلف «عمان» بمعنى البحر الذى تستخرج منه اللآلىء والدرر. (¬2) سلجوق: الجد الأعلى للسلاجقة. (¬3) قارن أ. ع، ص 173.

أوجب الواجبات/. وفي اليوم التالي دعا الحاشية لاجتماع عام، وأحضر الرسول. فأعطاه الرسول رسالة السلطان بعد أن قبّلها، وأبلغ المشافهات، وأوضح الملتمسات، وسلّم الهدايا مشفوعة ببيان تفصيلي لها إلى الخزّان. فصاح الملك على ملأ من الناس قائلا: بأي لسان يمكن شكر مثل هذه الموهبة. فلئن كنت قد تلقيت أمرا بأن تنتظم ابنتي في زمرة السراري والجواري لكان ذلك مدعاة لفخر أعقابي وخلفي من بعدي فكيف وقد منّ عليّ بمثل هذا الفضل، قبلت على الرأس والعين، ولكن لو أذنتم لي في مهلة قدرها ثلاثة أشهر لتهيئة ما تتمّ به الواجبات، وتجهيز ما يليق بالبنات لكان ذلك مقرونا بالصّواب. وحمّل الملك الرسول بأنواع الجوائز، وكتب بخطّه رسالة جوابية مشتملة على الانقياد والامتثال وتقلّد المنّة، وبعث بها في صحبة الرسول. ثم عمد إلى تجهيز الواجبات وإعدادها، وأحضر كلّ صانع حاذق وصائغ فائق، واستمرّ العمل ليلا ونهارا مدة ثلاثة أشهر. وهذّب ورتّب الأكاليل المجوهرة والخلاخل المعنبرة والخواتيم والمعاصم الثّمينة والملبوسات الفاخرة المرصّعة بفنون الجواهر، والبغال ذات النّعال الذهبية، وخيولا مسيرها كمسير ريح الصبا، وبخاتيّ (¬1) في ضخامة الجبال، في قافلة مملوءة (¬2) بما لا يشمله الحصر من الأحمال والنقود والمتاع. وسيّر [الملك فخر الدين] الصّدر القاضي شرف الدين- وكان من أكابر ¬

(¬1) جمع بختى، وهو الجمل الخراساني، ذو السنامين. (¬2) في الأصل: بر: على، والتصحيح من أ. ع، ص 175.

العلماء- بتحف وفيرة للإبلاغ بأن أسباب الصّلاح (¬1) وإبرام عقد النّكاح قد تهيّأت. فلما وصل إلى «سيواس» بذل مبارز الدين بهرامشاه أمير المجلس أنواع المكارم تكريما لقدومه الكريم، وتوجّه في صحبته إلى حضرة السلطان، وتقدم إلى «كدوك»، وعرض الأمر، فأرسل السلطان أركان الدولة لاستقبال القاضي شرف الدين، ودخلوا المدينة في أبهّة كاملة وجلال بالغ. وفي اليوم التالي حين مثل القاضي بين يدي السلطان، رأي من الإكرام/ ما ليس له حدّ، وسأله السلطان وبالغ في السؤال عن حال الملك فخر الدين، فتحدّث القاضي شرف الدين- بعبارة كانت عين البراعة- فحمد الله- تعالى- ومدح السلطان ثم أبلغ بحال الملك، ودعا له، وأشبع الأسماع بتفاصيل الحكايات، وعرض الودائع والتّحف، التي قرنت بالقبول والشّكر. ومن هناك نزل القاضي بكل إعزاز في «الوثاق» (¬2)، ثم تتابعت عليه أفضال السلطان وكراماته. وفي اليوم التالي جاء قضاة الأمصار والأئمة الكبار- وكانوا قد تجمعّوا لهذه المهمّة- إلى قصر السلطان. وكان السلطان قد أمر بقطع نقدية من الذّهب فئة الألف، والخمسمائة، والمائتين، والمائة، والخمسين مثقالا فعبّئت في سكارج السّكر، ووضعت في أطباق من ذهب وفضّة، كما أمر بأن تملأ البركة [الزرقاء] (¬3) المعنبرة بالزّهر والمعرّقة بالمرجان [والتي تتوسط الإيوان] (3) بماء الورد ¬

(¬1) في الأصل: نجاح، والأوفق ما ورد في أ. ع، الموضع السابق ذكره. (¬2) لعله يريد بالوثاق مكانا بداخل القصر، لا يدخله إلا من كان مؤتمنا موثوقا به. أو هو البيت أو الدار على وجه العموم، انظر مثلا فيما سبق، ص 20. (¬3) زيادة من أ. ع، ص 176.

بدلا من الماء، فبدت البركة كأنها سماء اتخذت لنفسها في جوف الأرض منزلا. فوضع أمام كل إنسان طبق يناسب منزلته ويلائم رتبته، وحضر الوكلاء والشّهود من الطّرفين. وكان القاضي صدر الدين لهاوري- الذي تولّى عقد النكاح- قد بدأ بالخطبة التي كان أمير المؤمنين المأمون قد قرأها في زواج بعض أقاربه، على سبيل الإيجاز والتبرّك، فالتفت صوب خدم الحرم، وقال: (¬1) «المحمود هو الله، والمصطفى رسول الله، وخير ما عمل به كتاب الله، قال الله تعالى: وأنكحوا الأيامى ... الآية. ولو لم تكن من الصّلة آية منزّلة ولا سنّة متبعة إلا ما جعله الله في ذلك من إلف البعيد وبّر القريب لسارع إليه الموفّق المصيب وبادر نحوه العاقل اللّبيب، والسلطان الغالب عزّ الدين أبو الفتح كيكاوس ابن كيخسرو بن قلج أرسلان من قد/ عرفتموه في نسب لم تجهلوه، خطب إليكم فتاتكم «سلجوقي خاتون بنت الملك فخر الدين بهرامشاه بن داود»، وبذل من الصداق مائة ألف دينار حمرا، خمسين معجّلا وخمسين مؤجّلا، فشفّعوا شافعنا (¬2)، وأنكحوا خاطبنا، وقولوا خيرا تحمدوا وتؤجروا بحمد الله رب العالمين، وصلواته على محمد وآله أجمعين». فقالوا: «قبلنا الخاطب، وبذلنا المخطوبة، لا زالت سحايب الأفضال عليهما مصوبة» (¬3). فلما تمّ إبرام عقدة القعد، واستحكم حبل المواصلة بلغت صيحة بالرّفاء ¬

(¬1) الخطبة كلها واردة في الأصل بالعربية. (¬2) في الأصل شافعيا. (¬3) قارن أ. ع ص 177.

والبنين أعلى علّيين. وأخذ الذّهب والجوهر يتساقط كالمطر بغير حدّ ولا حصر في الصّفّة وفي ساحة القصر كما تنتثر زهور الرّبيع هنا وهناك بتحريك نسيم السّحر لأوراق الورد النديّة. ووضعت مائدة الخاصة السلطانية ودعي إليها العامة [فمد كل إنسان يده للتّناول والتّجاذب والتّخاطف، ونال بذلك نصيبه مما حفلت به الضّيافة السلطانية من مكنوز وملبوس ومأكول ومشروب] (¬1)، ثم انفرط عقد الشهود كحبّات العقد فتفرّقوا، بحكم الآية الكريمة: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا (¬2)، وذهب القاضي شرف الدين إلى مكان إقامته، فأرسل السلطان في إثره ذهبا وخلعة وبغلا مطهّما. وفي اليوم التالي أمر أمناء الخزانة بإعداد الأمتعة التي سيحملها معهم من يذهبون لاستدعاء الهودج، الذي عهد السلطان بأمر إحضاره إلى الأمير مبارز الدين بهرامشاه، وأمر زوجات الأمراء بالانطلاق إلى «أرزنجان» المحروسة لخدمة الملكة [وبأن يعدن في صحبتها] (¬3). فلما تمّ الإعداد للأمر ارتحل أمير المجلس والقاضي شرف الدين وسائر الخواتين، وما إن لحقوا بحدود «أرزنجان» حتى تقدّم القاضي، وأخبر بوجود جيش حاشد في صحبة أمير المجلس والخواتين الشّهيرات، فرتّب الملك لكل إنسان نزلا على قدر مكانته، وخرج في صحبة وصيفات القصر ورجاله، ومعه أعيان أمرائه/ وخواصّه. فلمّا اقترب أمير المجلس من المدينة سار الملك لاستقباله ¬

(¬1) زيادة من أ. ع، ص 177 - 178. (¬2) الأحزاب. الآية 53. (¬3) زيادة من أ. ع ص 178.

بالأعلام والبيرق والطبول. ولما تلاقى الجمعان ووقع نظر أمير المجلس على بيرق الملك ترجّل. وحين رأى الملك طلعة أمير المجلس نزل بنفسه وتعانقا ثم ركبا بعد الملاثمة والمعانقة. وأبلغ أمير المجلس سلام سلطان الإسلام، وهنا وضع الملك رأسه على الأرض وقال: ما أنا إلا مملوك لملك العالم. واستمرّ الحديث بينهما على هذا النّحو حتى لحقا بالمدينة، وأنزل الملك أمير المجلس وأمراء السلطان بقصره، وبسط المائدة الملكيّة، ثم أقاموا حفلا، وأداروا الكؤوس الثقيلة. وفي اليوم التالي، أرسل أمير المجلس الأمتعة والأموال والخزائن التي كان السلطان قد بعث بها مع قائمة مفصّلة إلى حضرة الملك، والذي أثنى ثناء جزيلا على علوّ همّة السلطان، وغمر الحمّالين بالإنعام. وظلّ الطّرفان طيلة عشرة أيام مستغرقين في المتعة والسرور حتى تمّ الإعداد للرّحيل. وحين فرغوا من إعداد العدّة أرسل الملك ثلاثمائة خلعة مختلفة المستوى من الأعلى والأوسط والأدنى وثلاثمائة ألف درهم مع خيول مطهّمة إلى أمير المجلس لكي يتولّى توزيعها على الأمراء والخدم والحشم. ثم إنّهم نقلوا الأموال وخزائن الجهاز مع الهودج المعظّم من المدينة ليلا. وفي الفجر دقوا طبول الرّحيل وانصرفوا. فلما وصلوا إلى منطقة «أرمكسو» تقدّم أمير المجلس ومثل بين يدي السلطان، وعرض الأحوال فأمر السلطان بأن تزيّن المدينة، فزيّنوا بيوتات قصر السلطنة بأنواع الزّينة، وأعدّوا عدّة الاحتفالات والمسّرات، وخرج من حضر من زوجات الأمراء لاستقبال الهودج. ولما/ مضى جزء من الليل دخل سائر النّسوة من الطرّفين المدينة في خدمة الهودج العالي، ودخلوا مخدع السلطان وأجلسوا الملكة على منصّة الكرامة

والسّعادة. وتوجه السلطان بتؤدة إلى مخدع العروس، فدخلت الخواتين- وقد توّردت منهن الوجوه واحتجبن بالحجرات، ووضع شمس السلاطين مع قمر الخواتين القدم على العرش، وركعت وصيفات الملكة ركعة الأدب فخلعن الحذاء من قدم السلطان، ووقعن فجأة على كنز ثمين في ذلك الحذاء. وخلع السلطان قلنسوته، وفكّ الحزام الملكي، وبحكم رخصة الشريعة فضّ الختم اللطيف عن تلك الصّحيفة الشّريفة. وفي اليوم التالي، سار متبخترا صوب الدّيوان بعد الاستحمام وشغل طيلة أسبوع بشرب المدام وإكرام الأمراء الكرام. ثم أرسل خمسمائة خلعة وسبعمائة ألف سكة ومائة من الخيول ومائة من البغال المطهّمة، ومائتين من الخيول والبغال المزيّنة مع أطقم الملابس المنوعة في صحبة أمير المجلس إلى القاضي شرف الدين، فقام بدوره بتوزيعها على الأمراء كلّ بقدر مرتبته. ثم مثلوا جميعا أمام السلطان وقد لبسوا الخلع، وقبّلوا اليد؛ وحينذاك حصلوا على الإذن بالانصراف. ***

ذكر تحرك السلطان قاصدا الشام

ذكر تحرك السلطان قاصدا الشام (¬1) حين انتقل الملك الظّاهر- ملك حلب- إلى جوار الحقّ تعالى، كان ابنه- الملك العزيز- قريب العهد من مفارقة المهد، فاضطر أمراء تلك الدولة لمبايعته، وأجلسوه مكان أبيه، فصارت أمّه، وكانت أخت الملك الأشرف حاكمة البلاد، فنبض في السلطان/ عرق المطالبة بملك حلب- حيث كان في حوزة أعمامه من قبل- وقال لأعاظم مملكته: يبدو لنا أن الوهن قد ظهر الآن في ملك الملك الظّاهر فصار من يتصدّى لملك تلك الدّيار طفل وامرأة، فلو أننا قصدنا ولاية الشام بحشد كبير قبل أن يكوّنوا جيشا ويدبّروا أمرا فإن بيرقنا سوف يرفرف- بعون الحقّ- على شرفات تلك الديار، وتظهر الفسحة في رقعة البلاد. قال الأمراء: جبلت طبيعة الملوك على دفع الأعداء وفتح البلاد، ولكن طالما أن السلطان أنعم علينا- نحن المماليك- برتبة الاستشارة، فلن يبخل علينا بالاستماع لمقالتنا؛ فلئن كان ذلك الولد- برغم صغر سنّه- قد أصبح عزيزا في ديار أبيه فإن آباءه وأجداده طالما أعربوا عن محبّتهم لهذه الأسرة [السلجوقية]، ولطالما أرسلوا الأحمال والتّحف مثلما أرسلوا العساكر وقت طلب المدد. والآن وقد بقي يتيما فلو أن أحدا قصده بسوء لاستعان بهذه الدّولة وطلب العون من هنا. فكيف إذا أرسل ملوك الأطراف يعزّون ويهّنئون وأكّدوا المثل القائل- «صداقة الآباء قرابة الأبناء» (¬2)، ثم جرى من جانبكم شحذ منجل القهر والبأس ليحصد بلاد ذلك الحلف؛ لن يقع ذلك موقع القبول عند كبار الملوك والسلاطين وعظماء الزمان. ¬

(¬1) انظر ما كتبه ابن الأثير عن هذا الموضوع في: الكامل في التاريخ، 12: 347 - 350. (¬2) في مجمع الأمثال للميداني «صديق الوالد عمّ الولد». ج 1 ص 418 ط مطبعة السنّة المحمّدية بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة 1954.

قال السلطان بعد طول تفكّر: لا شك أن رعاية جانب الملوك من أوجب الواجبات، ولكن إن ارتدي أحد السلاطين سلاح الاقتدار وأسرج حصان الغلبة والسيطرة فإن عليه أن يتنكّب طريق التّصافي: / إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه ... ونكّب عن ذكر العواقب جانبا (¬1) ولا يخفى على الرأي الرزّين لكل إنسان ما تعنيه مقولة: «لا أرحام بين الملوك». فإن كان ملوك الدّيار قد أرسلوا معزّين ومهنّئين، فما أظهروا الشّهامة والطّيبة إلا بسبب عجزهم، ومن ثمّ لا ينبغي أن نجعل تلك المروءة المفتعلة عنوانا لسجلّ يتمّ فيه تدوين ما لا يفيد ولا يجدي. وأصدر السلطان أمرا للأمير نصرة الدين صاحب «مرعش» بأن موكب السلطان سيصل إلى تلك الحدود مصحوبا بالجنود والجيوش، فيتعين عليه إذن إعداد جيشه القديم ومن يلوذ به من أهله وذويه، وأن يكوّن جيشا- بقدر ما يستطيع- من المشاة والفرسان، ويجهّز آلة الحصار. كما أصدر أمرا آخر بنفس المعنى لأمراء ملطية وسيواس، وأمرا إلى أمراء «الأوج» بدعوة العساكر المعهودة وأن يتحركوا على الفور دون تلكّؤ أو تباطؤ، وأمرا إلى الأمراء والقادة الذين كانوا في مصيف «بنلو» لكي يتوجهوا بكامل هيئتهم إلى صحراء «آبلستان». وفي ظرف عشرين يوما تجمّع من أطراف الممالك من الجنود والحشود ما تجاوز حدّ الحصر. فانطلق السلطان مع كوكبة من الخواصّ صوب آبلستان، فلما وصلها أمر بإقامة احتفال عام واستمال أمراء العساكر، فرشّح لكل مدينة من بلاد الشّام أميرا. ¬

(¬1) بيت لسعد بن نعشب، انظر الحماسة (طبعة فرايتاج) ص 32.

وفي اليوم التالي قال السلطان بعد أن أحضرهم جميعا واستشارهم: في أي طريق ينبغي أن نسير؟ قالوا ليس هناك أسهل من طريق «مرزبان» و «رعبان» و «تلباشر»، فالمسافة من هناك إلى «حلب» أغلبها صحراء [ونادرا ما يعترض الطّريق جبل] (¬1). فانطلقت القوّات نحو ذلك الطّريق، ووصلوا أوّلا إلى قلعة «مرزبان»، فاستخلصوها في ثلاثة أيّام، وفي تلك/ الأيام لحق الأمير نصرة الدين صاحب «مرعش» بجيش كثيف بالسلطان، فأمره بالاتجاه من هناك صوب قلعة «رعبان»، فتيسّر أمر السّيطرة عليها بدورها، وفوّض أمر حراستها لصهر الأمير نصرة الدين، واتّجه من ثمّ إلى قلعة تلباشر، فحاصرها عشرة أيام، فلم يكن لذلك أي أثر، فأمر السلطان بقطع الأشجار وبساتين الكروم المحيطة بالقلعة ببلطة القهر، واستئصالها. فلما شهد أهل القلعة ذلك المنظر تجمّعوا عند ملكها وقالوا: ما معاشنا إلّا من ثمار تلك الأشجار، فإن قطع جيش الروّم ما لنا من كروم ببلطة القهر فمن أين ندبّر رزقنا؟ ومن ثمّ يجب على الملك أن يلتمس لنا العذر إن نحن سلّمنا القلعة الآن. فطلب الملك مهلة وأرسل رسولا إلى السلطان قائلا: إن أساس انتعاشي أنا وأتباعي إنّما هو من هذه القلعة، فإذا ما انتزعها عبيد السلطان منّي فلست أدري من أين تتيسر البلغة ويتحصّل القوت؛ فلو أن السلطان أقطعني من الممالك المحروسة إقطاعا واستولى على هذه القلعة بدلا عن تلك القسوة (¬2)، [وجعل أهل القلعة بمأمن من ضرر العساكر المنصورة] (¬3) سلّمنا القلعة لمماليك دولة السلطنة. ¬

(¬1) زيادة من أ. ع، ص 186. (¬2) قارن أ. ع ص 188، والنص هنا مضطرب غاية الاضطراب. (¬3) زيادة من أ. ع، أيضا.

فأمر السلطان بأن يكتب منشور بمنحه ولاية «هوني» إقطاعا. ووقّع بقلمه عهدا، فعاد الرسول، ورفعوا البيرق، وقرئت الخطبة باسم السلطان، ومنح السلطان قيادة حامية القلعة لأخي الأمير نصرة الدين. ولما تمّ الفراغ من أمر القلعة تناهى إلى المسامع الشريفة أن «ظهير الدين إيلي پوانه» حين أشاح بوجهه عن ولائه للسلطان سارع إلى هذه الديار فقضى بها نحبه، وهو مدفون هنا. فأمر السلطان بالبحث عن مدفنه، وأخرجت عظام رفاته فأحرقت، وأذري ترابها في الهواء، وبذلك تحقّق له التشفيّ. ***

وقوف والدة الملك العزيز على مقدم السلطان لتملّك ديار الشام حين بلغت رايات السلطنة «آبلستان»، أفشى الجواسيس الذين كانوا بالمعسكر ما جرى من أحوال للملكة وجمال الدين لولو- الحاكم ونائب الملكة- فذهلوا بما سمعوا، وبعثوا الرسل بالهدايا الوفيرة إلى الملك الأشرف أخي الملكة، وبيّنوا أن سلطان الرّوم بادر بالهجوم بجيش في عدد النّجوم على تخوم بلادنا، وإنه لو حدث وبسط سيطرته على هذه البلاد فلن تأمن منه على حياتك. ولئن كان قد علق بالخاطر الأشرف غبار من جانب الملك الظّاهر قبل هذا فالواجب إزالته بماء الرّحمة والشّفقة عملا بقول القائل «عند الشّدائد تذهب الأحقاد». فلما بلغت القضيّة الملك الأشرف صادفت هذه الكلمات المعقولة قبولا عنده، فجمع جيشا كبيرا ولحق بحلب، فلما رأى شقيقته قال: ما للملوك من مال ينبغي أن يوجّه لمثل هذا اليوم، ولئن كان يصرف القليل مما ادّخر على مدى مائة سنة في سبيل الدّفاع، فليبذل ذلك كله رخيصا وبسخاء. فأخرجت الملكة ما كان قد ادّخر لأعوام سابقة دون أن تبقي على شيء أو تذر، وجهّزت جيشا. وفي أثناء ذلك فكّرت في حيلة من شأنها أن تجعل ثقة السلطان تنعدم تماما في جنده، ونفّذت تلك الحيلة. فقد وقعت على رجل من سكّان بلاد الروم كان يعرف أسماء أمراء الدولة جميعا وما يحملون من ألقاب/ وكانت له صلة بمعظمهم، وبذلت له مالا وفيرا، وحلفت له الأيمان بأن هذا الأمر لو تحقّق ورجع جيش الروم لسلّمته

أضعاف ذلك. فكتبوا إلى كلّ أمراء الرّوم رسائل جوابيّة مزوّرة، تتضمّن التعبير عن الاغتباط بما أبدوه من وفاء وحسن عهد، وبما وعدوا به من أن يحتالوا لدفع السلطان نحو حدود الشام. فها نحن أولاء أيضا قد عقدنا النيّة على عدم المدافعة. وينبغي بذل ما في الوسع للحيطة من السلطان خشية أن يعلم بشيء من هذا الأمر، وإلا فإن كل المساعي تذهب عند ذاك هباء، وأنه قد أرسل برسم النّفقة لكلّ واحد من الأمراء أنواع من الذّهب المصري والخيول العربية في صحبة فلان، وأنهم سيروا تلك الأحمال المذكورة فعلا (¬1). وقالت لذلك الرجل: تقدّم إلى حيث يعسكر جيش السلطان، وألق بنفسك في خيمة بعض المقرّبين إليه، وأفش هذا الأمر إليه على سبيل الإنذار، وقل إنني كنت في وسط جيش الشام حين وصلت رسائل سائر الأمراء إليهم، وأنهم قد أتوا بالكثير من الأموال والأمتعة من الشام لكل واحد منهم، وجهّزوها في الموضع الفلاني، وجلسوا ينتظرون الفرصة لكي يسلّموا كل واحد نصيبه منها، وإن لم تصدّقوني اذهبوا إلى الموضع المذكور لمشاهدتها. وبهذه الفرية دخل ذلك الشخص سلّة الحيلة، ورمى بنفسه على أحد غلمان السلطان، وأسّر إليه بالأمر، فأبلغ الغلام حضرة السلطنة في الحال، فأرسل السلطان الأمناء مع ذلك الشخص- الذي كان الغلام قد دلهم عليه- إلى المكان المعلوم فأخذوا الأحمال والخزائن وذهبوا بها إلى السلطان، ووجدوا رسائل مختومة في كيس. فلما قرأ السلطان الرسائل/ نهض وانتفض وساء ظنّه بالأمراء البرآء وأمر بالقبض على ذلك الشخص كي لا يطّلع أحد على الأمر. ¬

(¬1) قارن أ. ع ص 191؛ وفي الأصل نزد آن كرد. وهو تصحيف بلا شك ل: روان كردند.

وفي اليوم التالي أمر السلطان أمير المجلس بالتقدّم- كطليعة- مع أربعة آلاف رجل، وبأن يتقدّم في أعقابه أربعة آلاف رجل آخر بقيادة سيف الدين آينه [چاشني گير]، وسار السلطان بالقلب في إثرهما مع أربعة عشر ألفا. فلما اقترب أمير المجلس من جيش الشام، كان محمود آلپ- وهو من رؤساء العشائر في «سيواس»، وقد بلغ من العمر ثمانين عاما وشاهد أنواع الحروب وضروبها، وتلقى صنوفا من الطّعن والضرب- كان يسير على تلّ عال، وينظر إلى جيش الشام نظرة التفحّص والاختبار، فلما سبر غور قوات المقدّمة بمسبار الاستقصاء جاء إلى أمير المجلس وقال: الدّخول في صدام مع عساكر الشام بأربعة آلاف رجل أمر يبدو بعيدا عن الكفاية، فحبّذا لو أبلغ «چاشني كير» لكي يصل بالمدد بصورة أسرع، كما يتم إبلاغ قلب الجيش للمسارعة بتحريك الرّكاب السلطاني فيلحق بنا متعجّلا. ولكي ينفذ الحكم الأزلي، ويخرج ريح الغرور من أنف المغلوب فيبدو متغلّبا، لم يلتفت أمير المجلس إليه، وصاح صيحة الحرب، فأخذ محمود يصرخ ويئن قائلا: إن التعجيل ليس مستحبا عند الله تعالى، فلم يسمع الأمير، وأجاب إجابات باردة، ورغم أنه هزم جيش العدو في الهجوم الأول، وبعث بمن يبشّر «چاشني گير»؛ فإن أحد فرسان الروم أسر- بطريق الصدفة- بيد أحد أمراء الملك الأشرف، فحملوه إلى حضرة الملك، وسألوه: هل السلطان موجود مع هذا الجيش؟ فأجاب بأن السلطان بعيد، وما هذه الآلاف الأربعة إلّا طليعة يقودها أمير المجلس، وسوف يصل الأمير «چاشني گير» / بأربعة آلاف في عقبه. فصاح الملك الأشرف في الحال: المستغاث يا مسلمين، لا تفروا، فمدد

هذه القوات بعيد، فكرّوا وهم ممتلئون حميّة وحماسا، وهجم غلمان العادلي والظاهري، وقتل من الجانبين خلق كثير. فسيّر أمير المجلس فارسا إلى الأمير «چاشني گير» ليبلغه بأن العدوّ غلب فليصل مسرعا كي لا تحدث كارثة. قال چاشني گير: «أيظل يكذب حتى الآن (¬1)، أنذهب نحن الآن ونهزم الجيش وتعلو شهرته هو»، ولم يتقدّم خطوة واحدة، ولم يبلغ السلطان لكي ينفذ القضاء السماوي. وأسر أمير المجلس مع فوج من الأمراء، فلما حملوا أمير المجلس إلى الملك الأشرف، خفّ لاستقباله، واستدعى الجرّاحين فجففوا جراحاته، وألبسه خلعة خاصّة، وأرسله مع سائر الأسرى إلى حلب، وعيّن الموكّلين به، وبعث بوصيّة إلى الملكة أن بالغي في تعظيم أمير المجلس، وأظهري غاية الإعزاز له. ولما وصل الخبر لحضرة السلطنة انتابته الحمى، واستعر جحيم غضبه، وأصدر چاشني گير الأمر بأن يلبس كل العساكر لأمة الحرب، ولا ينامون (¬2) الليل. وفي اليوم التالي أرسل الملك الأشرف ألفين من الأعراب وطلب منهم أن يتقدّموا لتفقد أمر السلطان ومعرفة أحواله وما يكون من تحرّكه وانهزامه. فلما ¬

(¬1) ينقل صاحب الأوامر العلائية، ص 193 عن الأمير چاشني گير أقوالا أكثر تفصيلا وأبلغ دلالة؛ فبعد أن يأتي من أقواله بالعبارة المذكورة في المتن يضيف: «لقد سير رسولا أبلغ بأن العدو قد لاذ بالفرار، ثم ها هو ذا يريد مددا، وحين يتحقق المراد ويغدو منتصرا دون أن يبذل جهدا، وإنما نكون نحن الذين قمنا بالعمل، تسري في العالم الصيحة بأن أمير المجلس هزم جيش الشام» ثم يشير صاحب الأوامر العلائية إلى أنه «من فرط الحسد والحقد الذي كان يشعر به أمراء الروم تجاه بعضهم .. لم يتقدم چاشني گير خطوة واحدة، بل تراجع إلى الوراء» (¬2) في الأصل: بخسبند: وينامون، والتصحيح من أ. ع ص 194.

وصلوا رأوا الخيمة الملكية قد ضربت والجيش كلّه قد لبس لأمة الحرب. فلما ظهر الأعراب من إحدى النواحي هرب الجند فقال السلطان: يا كافري النعمة، لئن كان أحد الأمراء قد نكب فلا زال الجيش والسلطان والمظلّة والقائد باقين. فلما سمعوا هذا العتاب السّام المرير هجموا هجمة رجل واحد، وبقفزة واحدة أحالوا فضاء الصحراء- بدماء الأعراب- مكانا للشّقائق الحمراء، وجعلوا سيل الشّقائق يتدفّق على الزمرّد [الأخضر] السّاكن. / فهيّأ الملك الأشرف الصّفوف، وحضّ الجيش على القتال، ثم وقف حيث هو، وقال: إن جاءوا بذلنا ما في وسعنا، وإن رجعوا فهو المراد. وأمر السلطان بأن يتقدّموا بالدّهليز، ثم ظهرت طليعة لجيش العرب، فلقيت ما لقيه السابقون من جراحات وغارات، فتراجعت، وقالوا للملك الأشرف إن دهاليز السلطان أقيم اليوم مرّتين، ثم نصب ثانية. قال: لعل السلطان يريد القتال والأمراء يرفضون. فلما حلّ الليل تقاعس السلطان قليلا. وظل الأمراء والجند هناك، وبمجرد أن انبلج الفجر تحرّك من ثمّ متوجّها إلى آبلستان. وحين علم الملك الأشرف برجوع السلطان انصرف بدوره إلى حلب. فلما تأكّد أن السلطان لحق بآبلستان أنهض الجيش وانطلق إلى «مرزبان» و «رعبان»، وبعد حصارهما أنزل محافظي القلعتين، وكان السلطان قد أقامهما هناك، فلما فرغ من المهمّة أطلق سراح أمراء السلطان ومحافظي القلعتين بكل احترام وتبجيل، وولى وجهه شطر حلب، فخلع على أمير المجلس (¬1) وبقية الأمراء خلعا وقدّم لكل منهم صلة وبعث بهم إلى حضرة السلطان، وانصرف هو إلى دمشق. ¬

(¬1) «الذي سبق أن قبض عليه وبعث به إلى حلب» (أ. ع، 195).

وتوقّف السلطان بضعة أيام في «آبلستان»، فلحق بخدمته هناك أخو نصرة الدين وصهره من قلعتي «رعبان» و «تلباشر» اللّتين سلماهما للملك الأشرف. وكان السلطان قد أثقلت على نفسه تلك الرّسائل الجوابيّة المزوّرة، وحلّ به الاضطراب من هزيمة الطّلائع، فأمر بإعدامهما. وفي اليوم التالي أمر بأن يحضر الأمراء جميعا إلى الديوان وأسرّ إلى خواصّه بأن يتسلّح أمراء المفاردة [وغلمان الخاصّ السلطاني] (¬1) خفية وينتظروا صدور الأمر. فدخل الأمراء بأسرهم وجلسوا، فطلب السلطان الرّسائل الجوابيّة من «الدواتدار» (¬2) وألقى بكل منها لمن كتبت له من الأمراء/. وما إن قرأها أولئك المساكين الأبرياء حتى بهتوا وذهلوا، ونطقوا قائلين: «سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ» (¬3)، وأنكروا الأمر وقالوا لا يجوز للمليك أن يلتفت لحيلة الكائدين وينسبنا إلى العقوق والخذلان دون دليل وبرهان، وينزل بنا العقاب، فلن تكون عاقبة ذلك إلا النّدامة، وزاد نواحهم وعويلهم غير أنه ما ترك من أثر، فأمر بوضع الشيلان في أعناقهم جميعا وإدخالهم بيتا بعد وضع القيد في أيديهم ويضرموا حول البيت نارا كنار النّمرود، فأخذوا في إحراق أولئك الأبرياء، وكان الدّخان يتصاعد متجاوزا الفلك الأزرق فيصل زفيرهم وأنينهم إلى عنان السّماء. وكان أحدهم إن استطاع أن يجد ثغرة يقفز منها نحو الباب تلقفه «الفرّانون» الغلاظ الشّداد وألقوا به إلى الموكّلين بالتّنفيذ فيعيدوه إلى النّار ثانية مرغما. ¬

(¬1) زيادة من أ. ع، ص 195. (¬2) يعني به رئيس ديوان الإنشاء. (¬3) النور: 16.

وفي الليل- عند بطلان الحواس- أخذ يتلقى أثناء النوم الكثير من اللوم من عالم الغيب [على ارتكاب ذلك الفعل القبيح والعمل الشنيع] (¬1)، فكان ينهض مذعورا من نومه كمن يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ (¬2)، واستولى عليه الاضطراب وتملّكه النّدم لما فعل، (شعر): - إن ضاع الكأس من اليد وانكسر الدنّ، ... فما جدوى العضّ على الشّفة وتقليب اليد. ووجّه السلطان اللّوم إلى بقيّة الأمراء قائلا: لماذا امتنعتم عن نصحي حينذاك، فاعتذروا، وعزوا الأمر إلى القضاء السماوي. وبسبب ذلك الوهم، تمكّن مرض السلّ من السلطان، وقيل إن ماء «سيواس» لا يناسب مزاجه، فحملوه إلى «ويران شهر»، وكانوا يأتون بماء من «الفرات» يومّيا من «ملطيّة» وينقل طازجا يدا بيد إلى الشرابخانه (¬3) / غير أنه لم يبلّ من مرضه. فنظم هذا الدّوبيت من إملاء قريحته الشعرية، (شعر): - تركنا الدنيا، ومضينا، غرسنا تعب القلب، ومضينا ... - فالنوبة بعد ذلك نوبتكم، لأننا، أخذنا نوبتنا، ومضينا ¬

(¬1) زيادة من أ. ع، ص 195. (¬2) البقرة: الآية 275. (¬3) قارن أ. ع، ص 198 والشرابخانه: «بيت يشتمل على أنواع المشروب من المياه على اختلافها، والسكّر والأشربة والدّرياقات والسّفوفات والمعاجين والأقراص .. وما يجري هذا المجرى ... إلخ» (شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري، نهاية الأرب في فنون الأدب، طبع دار الكتب المصرية 1931 م، 8: 224).

وأمر بنقش هذا الدّوبيت على قبره الذي كان قد بناه- بأمر نافذ- في دار الشفّاء بسيواس. وهنالك انتقل من دنيا الفرار إلى دار القرار، واختار- وهو بعد في شرخ الشباب- مفارقة الحياة شاء أم أبى. والمأمول أن يمحو ما قدّم من حسنات كلّ ما أخّر من سيئات (¬1)، والله غفّار الذنوب. ثم إنهم عهدوا به- بعد جلوس السلطان علاء الدين على عرش البلاد- إلى «رضوان»، في تلك الرّوضة المقامة هناك بدار الشّفاء بسيواس. ... ¬

(¬1) نقلا عن أ. ع، ص 199، والمعنى في الأصل غير واضح.

ذكر مشاورة الأمراء في اختيار واحد من أبناء الملوك سلطانا

ذكر مشاورة الأمراء في اختيار واحد من أبناء الملوك سلطانا حين انتقل السلطان عزّ الدين في الرّابع من شوّال سنة 617 إلى الخلد الأعلى أخفى أمراء الدولة- كالأمير «سيف الدين آينه» و «شرف الدين محمد پروانه» و «مبارز الدين جاولي» و «ومبارز الدين بهرامشاه» موت السلطان، واستشارو الصاحب (¬1) مجد الدين بكر- الذي لم يكن له نظير في هذا العالم- ومن أشهر ما قاله من شعر في ضرب «الدوبيت» قوله (شعر): - قانون الوفاء أساس الظلم ... إذ كيف تتيسر الحريّة لمن يعبدك كيف تستقيم السعادة مع الوقوع في الحزن بسببك ... فبك بطلت إقامة الأوثان «وشمس الدين حمزة بن المؤيد الطغرائى» وكان بكر عطارد ونادرة الأيّام، قد وصل في أساليب الترسّل وقرض الشّعر إلى ميدان شاسع بل تجاوز الفلك التّاسع، ومن محامد ما يحكى عن طبعه اللّطيف هذا الدّوبيت، (شعر): - ورد الدّرج الزمرّدي قد فتح اليوم ... والطبق الذّهبي للشقائق الحمراء قد وضع اليوم ¬

(¬1) سرى لقب الصّاحب على الوزراء المدنيّيين في عصر الأيوبيين والمماليك، راجع كتاب الألقاب الإسلامية في التّاريخ والوثائق والآثار، للدكتور حسن الباشا، طبع مصر 1989، ص 367 - 368.

- أمن أجل أن الورد لم يتولّ إمارة الرياحين ... قد عرض اليوم- على نحو ما- مائة ورقة؟! وملك السادة «نظام الدين أحمد» أمير العارض المعروف بابن محمود الوزير، وكان تلوا للفردوسي (¬1) في نظم المثنويات، ومن نتاج طبعه، (شعر): قلت: لم يعد بالوسع الخزن على طرّتك ... وليس بالإمكان تجرّع المزيد من مسك الكبد (حزنا)، قالت: لا تحزن كذلك بسبب عيني وشفتي ... فليس بالوسع في النهاية تناول النّقل والسّكر والصّاحب «شمس الدين الإصفهاني» الذي كان في ذلك الوقت الكاتب الخاصّ، وقال هذا الدّوبيت على البديهة باقتراح السلطان (شعر): - نقل الليل معك يا راحة القلب ... لا يمكن وصفه من فرط اللطف / الشفة على الشفة والخد على الخدّ، ... وهنالك تطبعت «لورا» بطبع «سوراخان». فلما وصل السلطان إلى هذين الموضعين وهو في طريقه إلى «آقسرا» قرّبه ¬

(¬1) يعني به الشاعر الفارسي أبا القاسم الفردوسي الطوسي (329 - 411 هـ)، صاحب «الشاهنامه»، وقد نظمها على نظام «المزدوج» الذي يعرف عند الفرس باسم «المثنوي»، وتكون القافية فيه بين جزئي البيت الواحد ثم تتغيّر بعد ذلك بتغيّر الأبيات.

إليه، وشرّفه بأن أضاف إليه المطبخ والإنشاء الخاصّ. تشاور هؤلاء سويّا في من يجلسونه على العرش، فأشارت جماعة إلى «مغيث الدين طغرلشاه بن قلج أرسلان» صاحب أرزن الروم، وكان ملكا متمكّنا محبّا للرعيّة، بينما أصرّ البعض على تولية «كي فريدون» الأخ الأصغر للسلطان، وكان مقبوضا عليه بقلعة «قويلو». قال الأمير مبارز الدين بهرامشاه- أمير المجلس، وسيف الدين آينه- ملك الأمراء- لا يجوز ذكر شخص آخر مع وجود الملك علاء الدين، فهو المناسب للتّاج والخاتم. قال الصاحب مجد الدين وشرف الدين محمد پروانه: كنا في «توقات» ملازمين له، وهو حقود متكبّر وجسور متنمّر. وسوف ينزل- من الآن فصاعدا- بكل شخص من الضربات ما لا يندمل بمرهم. فلم يلتفت إليهما الأمراء، وقالوا ليس بالإمكان طلب المزيد فوق الملك علاء الدين كيقباد. فوافق الأمراء الآخرون طوعا وكرها، وتعاهدوا سويّا على تنصيب الملك علاء الدين سلطانا. وهنا قال سيف الدين آينه: أما وأني أنا الذي حملت الملك من «أنكورية» إلى «ملطية»، فلا بد وأن يكون قد علق بخاطره غبار من ناحيتي، [فلتأذنوا لي] (¬1) بأن أذهب بنفسي إليه وأنال منه الأمان على حياتي. وحمل مما تركه السلطان المرحوم خاتما وعمامة كبرهان ودليل، واختار جماعة من الجند توسّم فيهم خفّة الحركة والسّرعة، وانصرف مع عدد/ من خواصّ البيت وبطانة الأعتاب السلطانية متّجها صوب ملطيّة قاصدا قلعة «كندپيرت» - السجن الثاني ¬

(¬1) زيادة من أ. ع، ص 206.

للسلطان. وخرجوا من المدينة بعد صلاة العشاء، وظلوا يركضون بخيولهم طول الليل، فوصلوا مع الصباح إلى القلعة. كان السلطان قد جلس بعد أن أقام الصّلاة، وقد رأى تلك اللّيلة في المنام أنه جاءه رجل نوراني ذو منظر رحماني، ففك القيد من قدمه، وأمر بإحضار بغلة ذات هيكل ضخم، ثم وضع يده تحت إبط السلطان وأجلسه فوق البغلة وقال: إن همّة محبّة «عمر بن محمد السّهروردي» مع السلطان «علاء الدين كيقباد» على الدوام. ورغم أن السلطان كان قد رأى هذا المنام وأخذ يفسّره بينه وبين نفسه، غير أنه ما إن رأى ذلك الفوج حتى استبد به الخوف والفزع، وقال لحافظ القلعة: حاول أن تؤخّر هؤلاء حتى أجدّد غسلي وأتوضّأ، وأخلو لحظة إلى نفسي، وأصلي ركعتين استعدادا لوداع الحياة. ولم يكد الحافظ يصل إلى البوّابة حتى كان «چاشني گير» قد بلغ الباب، فسأله الحافظ ما سبب قدوم ملك الأمراء؟ قال (بيت): - تمّ الوفاء بما كان القدر به يعد، ... وتمّ ما كانت الأيّام تبغي من عمل فأراه عمامة وخاتما للسلطان المرحوم كانا قد صبغا باللون الأسود (¬1)، ففتح الحافظ الباب ودخل «چاشني گير» مع أحد الغلمان، وأخذ السّيف من الغلام وسلّمه بغمده للحافظ، ثم انطلق كلاهما إلى المجلس الذي كان السلطان محبوسا فيه، فدخل الحافظ في البداية، وقدّم العزاء، وطلب الإذن بدخول ¬

(¬1) قارن أ. ع، ص 206.

سيف الدين، وما إن وقع نظر سيف الدين على/ محيّا السلطان المبارك حتى وضع رأسه على الأرض وأجرى الدمع من العين، ثم أخرج الكفن من تحت إبطه وعقده على رقبته، وأخذ السّيف من الحافظ ووضعه أمام السلطان، وقال: أنا راض بكل ما يحكم به المليك عليّ اليوم. كان قلب الملك موزّعا، فلما سمع هذه الكلمات اطمأن قليلا، وشرع في إبداء الاعتذار، ووعد بخير. قال الأمير سيف الدين: إن كان المليك صادقا فيما يقول فلينطق بالقسم وليصبح الخطّ الأشرف مسطورا بنفس المعنى. فأقسم السلطان تحت إلحاحه، وخطّ كتاب الأمان بالخطّ المبارك للسلطان، غير أن الأمير سيف الدين لم يقتصر على ذلك وإنما أخرج مصحفا كان في الحمائل من غلافه ووضعه أمام السلطان وقال: إن خط اليد الأشرف هو بالقطع سبب أمن العالمين وأمانهم، غير أنكم لن تضنّوا علي بتأكيده بكلام الله المجيد، فأقسم الملك ثانية. فلما وثق «چاشني گير» بتلك العهود أطلق لسانه قائلا «أطال الله عمر الملك، انتقلت روح أخيك من عالم التّراب إلى ذروة الأفلاك، وبذلك تؤول المملكة والسلطنة إليك، وينطق العرش والخاتم بقول الحق تعالى: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (¬1) والمأمول في مكارم رفعة العاهل المعظّم أن يدخل القدم في ركاب دابّة تنهب الأرض نهبا فيزيّن عرش السلطنة». وحين بلغ تخمين السلطان مبلغ اليقين، صلّى ركعتين شكرا لله، تلا فيهما بصوت عال قول الله عز وجل: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ (¬2)، وانفصل ¬

(¬1) سورة يوسف: 54. (¬2) تضمين من سورة يوسف: 101.

عن السجن مولّيا وجهه شطر الإيوان والعشّ كما ينفصل القمر عن الغمام والسّيف عن الغمد. وقدّم أمير «الآخور» (¬1) - وكان يسمى «أغلبك» - بغلة سريعة السير على شاكلة تلك التي كان السلطان قد رآها في المنام وقال: «اركبوا» (¬2) فركبها ومضى يسابق ريح الصّبا، ويطوي المنازل منزلا بعد منزل، وظلوا ساهرين إلى أن بلغوا بوّابة المدينة عند السّحر. ظلّ أمير المجلس يجول راكبا طوال الليل في القلعة، ويوهم الناس بأن السلطان سليم معافى. وكان قد ندب خمسين غلاما للوقوف على باب المدينة وأمرهم بأن يخبروه بوصول «أغلبك». فلما صاح «أغلبك» مناديا، سارع أمير المجلس وفتح باب المدينة وما إن وقع بصره على السلطان حتى قبّل الأرض والرّكاب. وتوجه أمير المجلس و «چاشني گير» في خدمته نحو تابوت أخيه، وفتحوا التّابوت فرأى وجه أخيه. ثم أجلسوه على العرش، ودعوا القاضي والأئمّة والوجهاء للحضور إلى الدّيوان، ولم يكن لأحد علم بما يجري. وحين استوى السلطان على العرش، ومثل القادة والبواسل كلّ في مكانه، خرج سيف الدين من عند السلطان إلى الدّهليز، وقال: «ليكن معلوما للأئمة والأكابر أن السلطان «عز الدين كيكاوس» قد أصبح مستغرقا في قاموس رحمة الحق (تعالى) ونزل في تابوت «فيه سكينة من ربكم» (¬3)، وقد زين أخوه السلطان المعظم «علاء الدين كيقباد» العالم بجلاله الباعث على السعادة، ¬

(¬1) انظر فيما سبق ص. (¬2) تضمين من سورة هود: 41. (¬3) تضمين من سورة البقرة: 248. (1) قارن أ. ع، ص 209.

وأضفى على كرسي المملكة هيبة مستمدّة من العرش المجيد». ثم إنّهم رفعوا الحجب، ودخل كلّ الأئمة والأعيان، وقبّلوا الأرض بالولاء. وكان الأمير «چاشني گير» يأخذ كل واحد من اليد/ ثم دخلوا المسجد، وتلوا القسم- والقاضي يلقّنهم- باسم السلطان علاء الدين. ولبس السلطان الأطلس الأبيض برسم العزاء. ثم أعلنوا الحداد- أسفا ولهفا- ثلاثة أيام. وفي اليوم الرابع أمر السلطان فاستبدلوا الكأس باللباس، وخلع على الأمراء خلعا وافرة، ومنح مناشير الإمارات والمناصب والاقطاعات، ثم عزم على الرّحيل إلى العاصمة «قونية». ***

ذكر توجه السلطان علاء الدين إلى قونية

ذكر توجه السلطان علاء الدين إلى قونية حين تم إحكام قواعد الأمور، عزم السلطان بالطالع المسعود على التوجّه إلى العاصمة «قونية» مقر عرش البلاد، فلازم أمير المجلس ركاب السلطان حتى «كدوك»، وأقام هناك ضيافة ملكيّة رائعة وقد زيّن السلطان المجلس، وأخذوا في الطّرب وهم في غاية البطر من الطعام. وفي اليوم التالي ألبسه السلطان خلعة ثمينة، وأرسله إلى «سيواس»، وجاء هو إلى «قيصرية». وكان سيف الدين أبو بكر ابن «حقّه باز» «سوباشي» (¬1) قيصرية قد أخبر أعيان المدينة ووجهاءها لكي يقيموا القصور المتحرّكة والسّاكنة ويتوجهوا للاستقبال عند «جبق» فلمّا رأوا راية السلطان، نزلوا وقبّلوا الأرض، ونالوا شرف تقبيل اليد الشريفة، ودخلوا المدينة في الرّكاب السلطاني «كالفراش المبثوث» (¬2)، ودخل الملك «كيقباد» المدينة بين «كيخسرو» و «قباد» (¬3)، ونال التمكّن في مهاد كرامات الأجداد وانتثر الدّرهم والدّينار بل اللؤلؤ الثمين على المليك كقطرات أمطار الربيع، وجعل «ابن حقه باز» كلّ درّ كريم كان يمتلكه في صندوق الثروة ووصلت إليه يد الإمكان فداء ونثارا لمقدم المليك. وأقام السلطان هناك بضعة أيام ثم انصرف على صهوات الإقبال ومناكب الجلال إلى «آقسرا» فلما بلغ رباط «پروانه» اندفع المقيمون في «آقسرا» وهم في ¬

(¬1) «سوباشي»: كلمة تركية، وواضح أنها كانت وظيفة من وظائف الأمن في دولة سلاجقة الروم، وانتقلت إلى الدولة العثمانية، والسوباشي هو: من يقوم بحفظ الأمن والنظام في المدينة أو القصبة» (الدكتور حسين مجيب المصري: معجم الدولة العثمانية، مصر 1989، ص 119). (¬2) تضمين من سورة القارعة: الآية 4. (¬3) يعني محاطا بأعاظم الرّجال. و «كيخسرو» و «قباد» من ملوك الفرس القدماء.

شوق لرؤية وجه السلطان الذي ازدان به العالم، اندفعوا للاستقبال اندفاع العاشق المهجور للوصال أو من كاد يهلك من الظّمأ طلبا للماء الزّلال. وقبّلوا الأرض ثم أدركوا شرف السعادة فقبّلوا باسطة من ازدان به العالم، وانطلقوا صوب المدينة في خدمة موكب السلطان. وما إن استراح السلطان هناك يومين أو ثلاثة حتى ارتحل إلى العاصمة. وحين حمل بريد الصّبا نسيم الطرّة المسكية للرّايات التي خفقت بيد الطلائع الميمونة لملك العالم- إلى مشام سكّان «قونية» انبعثت لدى الجميع بواعث العزم للتّعرض لنفحات السّعادة الناجّمة عن لقاء سلطان المشارق والمغارب. فوضعوا ما اكتسبوه في أعمارهم وادّخروه طوال حياتهم نثارا لقدوم المليك، وصنعوا خمسمائة جوسق (¬1)، مائتين جارية وثلاثمائة ساكنة، وزيّنوها جميعا بغرائب السّلاح والخرائد الملاح، وساروا حتى منطقة «أبروق» للاستقبال. فلما اكتحلت العيون بنور مستمدّ من الغبار المتصاعد من حوافر حصان ملك العالم، صار وصفهم «خرّوا سجّدا» (¬2) دون إعمال تكلّف، وزلزلت صيحة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ (¬3) قواعد القصر المشيّد. ونال «حسام الدين أمير أريف سوباشي» وغيره من الوجهاء شرف الاختصاص، فجلسوا على المائدة وحضروا الحفل السلطاني. ثم إنهم توجهوا ذلك اليوم إلى صحراء «روزبه»، ¬

(¬1) في الأصل: «كوشك» وهي كلمة فارسية عربت «جوسق»، وهو مقر صغير في بقعة بعيدة على العمران. ويبدو أن بعضها كان ينقل من مكان إلى آخر كما هو واضح من النصّ. (¬2) تضمين من قول الله- عز وجل-: إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (سورة مريم: 58). (¬3) من سورة فاطر، الآية 34.

وقضوا الليل في المرح والسّرور. وفي اليوم التالي طلعت شمس المظلّة السلطانية من أفق الخيمة/ المستولية على العالم، فتملّكت الرّجفة قلب الأرض والزمان وروحهما من أصوات المزامير والأجراس، ونشر عقاب المظلة السلطانيّة جناحي الإقبال على شمس السلاطين فامتدّت ظلال السّعادة، وجرى في ركاب مالك الرّقاب خمسمائة من مقدمي العساكر من القزاونة والدّيالمة والفرنج، ما منهم أحد إلا وهو أشدّ جسارة من النّوازل السّماوية أو أكثر تبجّحا من موت الفجاءة. وحمل مائة وعشرون حارسا- هم في الهيبة كالغضنفر، وفي الخصومة مثل كركين (¬1)، وفي الحفاظ مثل كيو (1) - حملوا السيوف الذهبية- كقلادة الجوزاء- وأمسكوا بمؤخّرة سرج حصان السلطان من اليمين واليسار. وحين اقتربوا من المدينة ترجّل الأمراء جميعا، ثم عقد الأمير «چاشني گير» أطراف عباءته في وسطه، وأخذ يتقدّم وهو ممسك بعنان السلطان الفاتح للعالم، ودخل المدينة وهو يقرأ: «ادخلوها بسلام» (¬2). وأخرجت النسوة الأطهار رؤوسهنّ من المناظر الزجاجيّة وكنّ يقلن: «رب اجعله رضيا» (¬3)، وأجرى السلطان على لسانه المبارك قول الحق تعالي: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا ¬

(¬1) كركين وكيو، من أبطال الفرس الأسطوريين القدماء. (¬2) تضمين من قول الله- عز وجل-: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ سورة الحجر: 46. (¬3) إشارة إلى قوله تعالى على لسان زكريا: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (سورة مريم: 6).

مُبارَكاً» (¬1)، ووضع قدمه على مسند التّوفيق [وعرش الملك]، وأخذ يتلو مكرّرا قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ (¬2)، ورَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ (¬3) وعدّ فرضا عليه أن يدعو بعبارة: «رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ» (¬4) وتمكّن في قلب العرش وروحه تمكّن النور في البصر والقيمة في الجوهر، (شعر): - باسمه امتلأت شفة السّكة، بالابتسام، وبذكره صار قلب المنبر حيّا، ... - فبهما ازداد التدين رونقا، وتعالت الأرض على الأفلاك ثم بسطوا المائدة، ورفعوها، وأقاموا المحفل، وسرى صوت النّاي وجلجلة/ الدّف في صفّ من الصوّفية المتحلّقين في دائرة. كان السلطان كلّ لحظة يهب روحا جديدة لأحد الحرفاء والنّدماء بالتبسّط والتودّد، وينثر درر الألفاظ الكرام على مفارق الخاصّ والعام. وحين ألقت ريح سورة الخمر نقاب الحيرة عن وجوه من حضروا الحفل نهض أمراء قونية وقادتها واقفين، وقدّم كل واحد منهم هديّة على قدر مكانته ومكنته، فشفعت جميعا بنظرة القبول. وحين ظهرت القناديل الفضّية أسفل القبة العليا تحوّل السلطان عن مقام الأنس والطرب. ¬

(¬1) تضمين من قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (سورة المؤمنون: 29). (¬2) تضمين من الآية 74 في سورة الزمر. (¬3) تضمين من الآية 101 في سورة يوسف. (¬4) تضمين من الآية 19 في سورة النمل.

وفي اليوم التالي أذن السلطان لرشيد الدين الوزير، وملك الأمراء آينه چاشني گير وسيف الدين أبي بكر «حقه باز» النّائب، وجلال الدين قيصر پروانه بالحضور في الخلوة، وقال: يتعيّن الآن إصدار الأوامر المطاعة للأمراء في مناطق «الأوج» لإعلان قدوم أعلامنا السلطانيّة إلى «قونية» واستقرارنا على سرير الملك، واستمالتهم وحثّهم على المبادرة بالقدوم إلى أعتاب السلطنة، فأمر الكتبة والمنشئون، وتمّ التدوين في الحال، وطارت الرّسائل إلى الأطراف على يد الرّسل. ***

ذكر بعض السير الحسنة وما كان يتمتع به هذا السلطان القاهر من خلق زاهر

ذكر بعض السيّر الحسنة وما كان يتمتع به هذا السلطان القاهر من خلق زاهر قال الله تعالى «ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا» (¬1): قد تبيّن للعالمين أنّ الله- عزّ وجلّ- منذ أن رقم على ناصية الكائنات رقم الإيجاد، ووضع بيد الملوك من أولي الأمر- وهم من اختصّهم بقوله تعالى: «وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» (¬2) - زمام تسخير العباد وخطام تذليلهم، لم تلق أعلام الإسلام لظلالها- منذ ابتداء الطلوع حتى انتهاء الوقوع- على عاهل كالسلطان علاء الدين كيقباد بن كيخسرو بن قلج أرسلان بن مسعود بن/ قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن إسرائيل بن سلجوق، «إن راية الإسلام لم تظلّ على سلطان أحسن دينا وأصدق يقينا وأوسع علما وأغنى غنى وأعظم قدرا وأفخم ذكرا وأمدّ باعا وأشدّ امتناعا وأجلّ جلالة وأكمل عدّة وآلة وأرفع ملكا وسلطانا وأروع سيفا وسنانا وأحمى للإسلام وذويه وأنفى للشّرك ومنتحليه اكتسابا ووراثة، منه» (¬3) لقد بلغ في العظمة حدّا جعل ملوك الأمصار- مؤمنين كانوا أو كفارا- من أقصى الأبخاز (¬4) إلى أنحاء الحجاز، ومن أوائل «باشقرد» (¬5) إلى منتهى تخوم «ولا شكرد» (¬6)، ومن صحاري القبجاق حتى براري العراق، لا سيّما ¬

(¬1) سورة الكهف: 83. (¬2) تضمين من الآية 59 في سورة النساء. (¬3) كتب ما بين الحاصرتين في الأصل باللغة العربية، وقد استعمل الفعل «تظلّ» لازما وعدّاه بحرف الجرّ وهو متعدّ بنفسه. (¬4) الأبخاز: اسم منطقة في تركستان. (¬5) باشقرد: المنطقة الواقعة على سفوح جبال الأورال. (¬6) ولاشكرد (لاشكرد): مدينة مشهورة بكرمان وسط الهضبة الإيرانية وجنوبها.

ملوك الشام- يزعمون أنهم غلمان له، ويخطبون الخطبة ويسكّون السّكة باسمه: رأوا طوعه حتما وفرضا ولازما ... وإخلاصه في الدّين والملك واجبا كان يملك نفسا نضرة بوابل الطّهر، ويتّصف بعدل أنار العالم جملة كعين الشمس، وكان يطيل النّظر والتّدقيق في أموال الخزانة، ولا يحيد في إنفاق الخزائن إلى أي من طرفي: الإفراط والتّفريط، لكنّه كان في مراعاة شأن الأضياف ورسل الأطراف بحرا مواجا وسحابا ثجّاجا، وكان يبالغ في توجيه العتاب بل وإنزال العذاب لأتفه بادرة تحصل من أكبر القادة في الجيش، وكان يستأصل شجر وجودهم كأعجاز نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (¬1) من جذوره بفأس البأس والزّجر والتّوبيخ، ويجري عليهم حكم وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ (¬2)، فلا جرم أن أصبح التطبّع طباعا مركوزة في الذات عند نوّاب الجهات/ وغدا أصحاب الدواوين يستشعرون الخوف ويصطنعون الأمانة. روى الأمير الكبير «جلال الدين قراطاي» وكان قطب الأوتاد وقدوة الزهّاد: «كنت ملازما للحضرة العليا ثمانية عشر عاما في السّفر والحضر ليلا ونهارا، فلم يتناه إلى علمي أن السلطان استراح على فراش النوم- سواء في حالة الصّحو أو السّكر- إلا قليلا، بل كان قد وضع نصب عينه أمر: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (¬3) وكان يعتبر ذلك سببا لرفع درجاته، ومع أنه كان يعدّ اتبّاع مذهب الإمام أبي ¬

(¬1) إشارة إلى قول الله عز وجل: تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (سورة القمر: 20). (¬2) تضمين من الآية 21 في سورة السجدة. (¬3) سورة المزمّل، الآية 2.

حنيفة- رضي الله عنه- في الأصول والفروع فرضا واجبا إلّا أنه كان يحافظ على صلاة الصّبح وفقا لمذهب الإمام الأعظم «الشافعي» - رضي الله عنه-. وكان يقسّم أوقات اللّيل والنّهار على مصالح الملك والمملكة، وكان محالا أن يترك مجالا للهزل في مجلس أنسه، بل كان يشغل المجلس بتواريخ الملوك وذكر محاسن سير الملوك القدماء. وكان أحيانا ينظم بطبعه اللطيف شعرا ظريفا في ضرب «الدوبيت»، ومن بين ما قاله في هذا الضرب: حين كنت أتمتع بالصحو فإنني كنت أتملك عقلي ... فلمّا ثملت توارى العقل مني اشرب الخمر فبين السكر والصحو ... وقت هو أصل الحياة فإذا ما صدرت من أحد الحرفاء والنّدماء كلمة أو حركة خارج مرتبته ووظيفته فإنه لم يكن يفتح له باب المجلس بعد ذلك أبدا. «وكان ذكر السلاطين القدماء يجري على لسانه بكل إجلال وتعظيم، وكان ممّن يثق فيهم [ويثني عليهم] (¬1) من سلاطين الإسلام: محمود/ بن سبكتكين (¬2) وقابوس بن وشمگير (¬3)، وكان يتشبّه بأخلاقهما. ولم يكن يوقّع ¬

(¬1) إضافة من أ. ع، ص 228. (¬2) هو السلطان محمود الغزنوي، أكبر سلاطين الدولة الغزنوية، (387 - 421) غزا الهند بضعا وعشرين غزوة، ونشر فيها الإسلام. (¬3) قابوس بن وشمگير، الملقب شمس المعالي، أمير جرجان وبلاد الجبل وطبرستان. فارسي الأصل، نابغة في الأدب والإنشاء، وله شعر جيّد بالعربيّة والفارسيّة. توفي سنة 403. انظر ما سلف، ص 12، هامش 2.

باسمه أبدا دون وضوء، وكان دائم الإطلاع على «كيمياء السّعادة» (¬1) و «سير الملوك» لنظام الملك (¬2)، وكان يجيد لعب الشّطرنج، والكرة، والرّمح، وقد اكتسب مهارة وحذقا في الصناعات كافّة من عمارة وصناعة وسكّ النّقود، والنّحت والنّجارة، والرّسم، وصناعة السّروج وكان يحسن معرفة قيمة الجواهر. (بيت): إن كانت النبوّة قد ختمت بخاتم الشّرع ... فقد ختمت به السلطنة دون السلاطين» ... ¬

(¬1) «كيمياي سعادت»، للإمام أبي حامد محمّد الغزّالي (450 - 505)، ألفه بالفارسية، وجعله بمثابة مختصر لكتابه الكبير «إحياء علوم الدين» وموضوعه الدّين والأخلاق والمعاملات. (¬2) يعني به كتاب «سياست نامه» للوزير السّلجوقيّ المعروف «نظام الملك الطوسي» (ت 485) وموضوعه نصح الملوك وسياسة الرّعيّة.

ذكر وصول شيخ الشيوخ شهاب الدين السهروردي من جانب الخليفة برسالة إلى السلطان

ذكر وصول شيخ الشّيوخ شهاب الدين السّهروردي من جانب الخليفة برسالة إلى السلطان حين أبلغ خبر طلوع طلائع الإقبال وظهور البدائع الخاصة بسعادة السلطان علاء الدين كيقباد لحضرة الخليفة وبلاط الإمام «النّاصر لدين الله» تفضّل فأرسل منشور السلطنة ونيابة حكومة ممالك الروم، والخلعة السلطانية وحسام الملك وخاتم الإقبال في صحبة (¬1) الإمام الربّاني أبي يزيد (¬2) الوقت والجنيد (¬3) الثّاني، من تصدر الصفّة في قبّة الأولياء، والأتقياء، وارث علوم الأنبياء «خلاصة القدرة خالصة السّدرة عارف الحقائق قارع الشواهق شهاب الملّة والدّين شيخ الإسلام والمسلمين هادي الملوك والسلاطين الداعي إلى جناب مالك يوم الدين أبي عبد الله بن محمد السهروردي رضي الله عنه» (¬4). وحين أبلغ السلطان بالقدوم المبارك للشيخ إلى «آقسرا» أرسل الأمراء مع إقامات كثيرة (¬5)، فلما لحق بمنطقة «زنجيرلو» خفّ القضاة والأئمّة والمشايخ/ ¬

(¬1) في الأصل: سلطنت: والتصحيح من أ. ع ص 230. (¬2) أبو يزيد البسطامي: متصوف فارسي توفي 261 له شطحات جاوزت الحدود أحيانا حتى اعتبره الجنيد غير مكتمل في طريق الصوفية. تنسب إليه الطريقة «الطّيفورية». (¬3) الجنيد: أبو القاسم بن محمد، صوفي بغدادي، توفي 294، تنسب إليه الطريقة «الجنيدية» وهو من الذين أسسوا التصوف على الكتاب والسّنة. (¬4) ما بين الحاصرتين ورد في الأصل باللغة العربية. والسهروردي هو السهروردي البغدادي شهاب الدين وهو متصوّف وفقيه شافعي عرف بتقواه وتنسكه، توفي ببغداد 632، وهو غير السهروردي المقتول. (¬5) كذا في الأصل؛ والأوامر العلائية ص 230: «با اقامات بسيار»، ولعله يريد بالإقامات المؤن، وفيها إشارة- فيما يبدو- إلى قول النبي- صلى الله عليه وسلم- «حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه» رواه الترمذي، ولم أعثر في معانيها في المعجم على هذا المعنى.

والمتصوّفة والأعيان والإخوان بأعداد كبيرة للغاية للتّرحيب به، ثم توجّه السلطان بنفسه بجيش منظّم تنظيما باهرا (¬1) لاستقباله. فلما وقع نظره على جمال الشيخ المبارك قال: «ما أشبه هذه الطلعة بوجه من أخذ يفكّ القيد عن قدمي في المنام عشية خلاصي من السجن ويأخذ بيدي كي أركب ويقول: سوف تلازمك همّة عمر بن محمد السّهروردي دائما أبدا». فلما اقترب أخذ في معانقته ومصافحته، قال الشيخ: ظلّ بال عمر بن محمد السهروردي قلقا من ناحية سلطان الإسلام منذ ليلة السجن؛ والمنّة لله أن دخل حصول ما لا عوض عنه دائرة التيسير قبل حلول ما لابد منه، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ (¬2)، فبادر السلطان- وهو في غاية الارتياح والانشراح- بعد السّلام وأمسك باليد اليمنى المباركة للشّيخ، وتضاعفت أسباب الاعتقاد، وبلغ في تعظيمه أقصى نهايات الغايات، وأراد أن يفعل ما فعله إبراهيم ابن أدهم (¬3) حين سلك طريق عيسى بن مريم، وكان الشّيخ يشاهد بنظرته النّورانية أوهام السلطان وخواطره، فيجيب على كل خاطر ويعمل على تسكين البواعث والدّوافع التي استقرت في الطبع منذ يوم «ألست» (¬4)، ويفسّر قول الحقّ تعالى وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (¬5) ويقول: «ولكلّ عمل رجال» ويشجّع على ¬

(¬1) قارن أ. ع، ص 230 - 231. (¬2) سورة فاطر: 34. (¬3) إبراهيم بن أدهم: زاهد مشهور بالزهد والوعظ، وكان ابنا لأحد ملوك بلخ والإشارة هنا إلى تحول إبراهيم ابن أدهم عن الإمارة إلى الزهد والإعراض عن مباهج الدنيا، عاش في القرن الثاني الهجري. (¬4) إشارة إلى قول الله- عز وجل-: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى (سورة الأعراف: 172). (¬5) سورة الصافات، آية 164.

بسط العدل والتمسك بأهداب الدين، حتى انسلخ السلطان كلّية- بمجرد وصولهم المدينة- من لباس التعصّب والغرور والعجب والغفلة، وصار كروح الملك كلّه خير. وفي اليوم التالي/ دعي الشيخ إلى قصر السلطنة حتى يلبس السلطان خلعة الخلافة ويضع على رأسه العمامة التي كانت قد كورت في بغداد، وعلى ملأ من الناس أتوا بمقرعة الحدود- وهي تقليد من تقاليد دار الخلافة- وأجروها على ظهر السلطان أربعين ضربة، وقادوا جنيبة (¬1) دار الخلافة ذات النّعل الذّهبي، فاستلم السلطان- بحضور الأنام كافّة- حافر جنيبة الإمام ثم ركب هو والشيخ المعظّم- كلّ منهما- جنيبته، وشاهد الناس جميعا السلطان على تلك الهيئة. فلما عادا ووضعت المائدة ثم رفعت، بدأ منشدو الخاصّ السلطاني «السماع» (¬2)، فتواجد (¬3) كبار المريدين الذين كانوا قد قطعوا الأغوار والنّجود في صحبة الشّيخ، وتجلّى في كلّ الحاضرين شوق عظيم من ذوق ذلك السّماع، وفعل ذلك فعله في السلطان وجمع من الأمراء- سيما جلال الدين قراطاي- ولما تحوّل الشيخ إلى المنزل المبارك- وكان مهبطا للواردات الرّوحية- تكلّف السلطان [من النّقود والمتاع] (¬4) تكلّفا يزيد عن الحدّ والقياس، وبعث به إلى الشيخ. ¬

(¬1) كذا في الأصل: جنيبت، والكلمة عربية، ومعناها دابة. (¬2) السماع: مصطلح صوفي، ويعني ما يرتّل من أشعار وأذكار على وقع النّاي والدّف، لإثارة الطّرب والوجد في قلوب السامعين. (¬3) الوجد: مصطلح صوفي أيضا، وهو ما يرد على القلب دون تصنّع ولا تكلّف. (¬4) إضافة من أ. ع ص 233.

وطيلة مدّة إقامة الشيخ بقونية استسعد السلطان برؤيته المباركة بضع مرّات. فلما حان وقت انصراف الشيخ ورجوعه أرسل إليه في صحبة «قراطاي» و «نجم الدين الطوسي» من أموال خراج النّصارى والأرامنة مائة ألف وخمسة آلاف دينار من الذّهب السلطاني المسكوك بالسكّة العلائيّة من فئة الخمسمائة والمائة والخمسين مثقالا مضروبا، وكمّية من الأمتعة برسم النّفقة. وخرج لوداعه حتي «زنجيرلو»، وهي تقع على بعد فرسخ بأكمله من قونية. ونال المدد من الشيخ، وحين المفارقة جرى على لسان الشيخ هذان البيتان: / ولم أر كالتّوديع أقبح منظرا ... وإن كان يدعو أهله للتّعانق وللصّارم الهندىّ ألين جانبا ... ملامسة من كفّ إلف (¬1) مفارق ولزم بعض الأمراء وضيوف الشّرف السلطاني شروط خدمة الشّيخ حتى جاوز ملطيّة- آخر حدود المملكة. ... ¬

(¬1) في الأصل: ألف، وهو تصحيف.

ذكر شروع السلطان علاء الدين كيقباد بالفتح وكان أول فتحه قلعة العلائية

ذكر شروع السلطان علاء الدين كيقباد بالفتح وكان أول فتحه قلعة العلائية لما كانت أعلام دولة السلطان تعلو مع الزّمان على شواهق الإقبال وقلال الجلال بيمن الملك المتعال وعناية أعتاب ذي الجلال، وكانت بركات السماء تحلّ في الزّروع والضّروع بفضل حسن إشفاقة ومكارم أخلاقه، حتى وإن كان ما بين الزّجاجة والكأس من مدام وخمر- دما ظهر بينها من التصافي ما لا مزيد عليه، وبلغ المطربون في مجلسه الملكي الذي تتزايد فيه البهجة غاية البراعة من تواتر مداعبة الأنغام على الآلات الموسيقيّة، قال السلطان يوما لندمائه- وكانوا بمنزلة الوزراء والمستشارين- يتعيّن علينا أن ندع الحفلات وما بها من بهجة وطرب ونبادر إلى إعداد العدّة للحرب، فينبغي أن يجعل لقوانين السلطنة مثل هذا الحق. فركع الأمراء الكبار أمام العرش تأدّبا وقالوا إن ملك اليونان خاضع لمليك العالم؛ وإن ثغر أنطالية وإن كان قد تيسّر فتحه، لكنّ [همّا عظيما وخوفا لاحدّ له ينشأ] (¬1) من جهة قلعة «كلونوروس» - التي تبدو السماء أمامها كالأرض الفسيحة المترامية، هي جبل بغير أمان، لها من البحر خندق ومن صخور الجرانيت حصار، قد تحكّمت من جانب البرّ على ملك «سيس»، بينما فرضت من جانب البحر خراجا ثقيلا على رقبة مصر/، وليس لمثل هذا الصّرح الهائل إلا المليك الذي هو ملجأ العالم. فلو صدر الأمر إلى الجيش المنصور، فالأمل أكيد في أن تصبح كلّ نملة تنّينا وكلّ صعوة عنقاء، وأن تدرج تلك القلعة- التي تبدو مساوية للسّماك مناطحة ¬

(¬1) زيادة من أ. ع، ص 237، وبدونها لا تكتمل الجملة ولا يستقيم المعنى.

للأفلاك- في أنشوطة مماليك الدولة، مما يؤدي إلى انتظام ذلك الدرّ الثمين في سلك لآلىء المملكة الأخر. فوافق السلطان على هذا الرّأي وأمر بكتابة الأوامر إلى جهات «الأوج» لجلب العساكر، وفي التوّ نثر كتبة الدّيوان الأنقاس (¬1) الشّبيهة بالعبير على القرطاس المضمّخ بالكافور، وزيّنوا وجه الورق الأبيض بسطور مسلسلة كطرر الحسان الشّبيهة بالشمس، وكغرر الأحبّة المماثلة لهيكل المشتري، وشفعت بتوقيع السلطان، ثم بعثوا بها على يد غلمان الحرس في شكل رسائل مرسلة على الخيل السريعة. وفي أقل من عشرة أيام تجمّعت حشود تنقّب الغبار المتصاعد من حوافر دوابّها وجه الشّمس والقمر. أمر السلطان أن يقسّم ذلك الجيش- صائد العالم- ثلاثة أقسام: قسم يثب ويهجم كالنمور من الناحية الصخريّة والحجريّة، وقسم يشتبك في القتال كالتّماسيح من جهة البحر، وجماعة تنطلق كالأمواج العاتية تجاه القلعة في السّفن بينما ينصب على ذلك التل المرتفع- الذي بقي الفلك من حدّته ذاهلا متلفّعا على الدّوام بالغمام الأسود- منجنيق كالجبل تصاب جبال «ألبرز» (¬2) بالوهن من حجارته، وأن يصعد البواسل- الذين تكون الصخور الصلدة وقت الحرب عندهم/ كالحرير- ذلك التل. فلما وضع المنجنيق وفق حكم السلطنة سمع «كيرفارد» صاحب القلعة أن ¬

(¬1) كذا في الأصل: أنقاس، كلمة عربية، جمع نقس: «المداد يكتب به» (المعجم الوسيط). (¬2) اسم سلسلة من الجبال العالية في شمال إيران.

السلطان عبر بجيش كبير تلك المياه المهلكة، ولم يلحق به ولا بجيشه أي أذى من وعورة تلك الطّرق المخيفة. فقال: بهذا الحديث سيكون انفصالي عن ملكي القديم، ولن يكون بوسعي أن أفك عني هذا القيد مهما أحكمت التدبير؛ ما كان بوسع الشمس- وهي راكب وحيد- أن تجتاز من قبل هذا الجبل الوعر إلا بألف قائد ودليل، والآن يجتازه الملك كيقباد اجتياز الريح، فما أيسر عليه- بمدد الله وعونه- أن يحارب السّماء ويقارع الفلك، فما لنا سوى أن نتذرع بالصبر ونجلس على باب الانتظار لنرى ما يستخرجه الفلك من وراء الحجاب، فليس ثمّت علاج آخر. وفي اليوم التالي رفعت الرّايات الصّفراء للملك- الذي طوى الأرض- على القبة اللازورديّة، فاسودّ العالم من غبار الجيش. ورغم أن الزّمان لم يكن بمقدوره أن يلقي نظرة غضب على ذلك المكان الموحش ولم يكن بوسع آذان الفلك أن تسمع أنّ بالإمكان فتحها ببذل المجهود، فأيّ أثر لسهام الفلك على قلعة يتحدث حرّاسها مباشرة مع كوكب عطارد؟! (شعر): - ولكن حين يكشّر الحظّ المشئوم عن أنيابه، يجعل الحجر الصلد على شاكله الشمع. أمر السلطان بأن يصعدوا الجبل فوجا فوجا، فاعتلوا تلك الصخور الصّلدة دفعة واحدة كأنهم عقبان طائرة أو نمور كاسرة، وعلى ذلك الجبل، الذي لم يكن للفكر أن يجد إلى ارتقائه سبيلا- بادرت فرقة بالقتال فأحاطت القلعة كالفرجار بمائة منجنيق ثقيل، واستمرّت الحرب شهرين «حتى عبر شهران/ كيوم واحد» (¬1). وذات ليلة رأى السلطان في المنام شخصا حسن السّمت أخذ ¬

(¬1) ما بين الحاصرتين مكتوب في الأصل باللغة العربية.

يحدثه بهذه العبارات (شعر): - ليس لهذه القلعة الشّاهقة من نظير، ولا يمكن لأحد استخلاصها بالحرب. ... - لكنّ خالق الكون عون لك، واستخلاص مثل هذه القلعة شأن من شؤونك. - فجيشك إن قصد الفلك، انتزع المخّ من رأس الشمس. ... - فإن كان طريق الحرب متّجها صوب البحر، فرّت التماسيح من البحر إلى اليابسة. - ولكنّ مثل هذا الصرح العجيب، يمكن استخلاصه بقوّة الله. فصحا السلطان من النوم فرحا بهذه البشارة، وأثبت الأبيات على قصاصة، وحين انبلج الصبح، وسلك جيش الظلام طريق الانهزام (¬1)، أذن للأمراء الكبار- الذين كانوا حاضرين في الدهليز الملكي- بالاجتماع به في الديوان، وحكى لهم حكاية المنام، وقرأ عليهم الأبيات، وفرق الكثير من الصدقات من بقر وغنم ودراهم على الفقراء ومطوّعة الغزاة. وفي نفس الليلة بدا لصاحب القلعة بداء في أمر الامتناع والدفاع، فدعا إليه الأعيان والوجهاء، وقال: لن نتمكن من الثّبات أمام قوّة السلطان، ولئن كانت قلعتنا تجالس الفلك وتجاور العقاب، فإنه يبدو من المحال اجتياز حكم القضاء والقدر، والواجب إذن هو استبدال التّقارب بالتّباعد مع ملك يتمتّع بالعزّة ¬

(¬1) يعني حين أشرقت الشمس وبدّد النّور الظلام.

اللّدنية. وفي الحال اختار رسولا صادق اللهجة وأرسله إلى الأمير «مبارز الدين أرتقش» - وكانت بينهما صداقة وطيدة بحكم الجوار وتداني المزار- كي يصبح وسيطا، «كي يلتقط شوك هذا الحزن- الذي بلغت آلامه القلب والروح- بملقاط الألطاف من قدم زماننا المضطرب، ويلتمس العفو من حضرة الملك لذنب لم نرتكبه». فعرض الأمير مبارز الدين القضيّة على السلطان، فبدت أسارير السرور على جبينه المبارك، وقال: إنّ ما يرضيه لابد وأن يكون موافقا لنا. فأبلغ الأمير مبارز الدين الرّسول بحصول المقصود، فأرسل إلى «كيرفارد» قائلا: «إن الرأي أن يفرغ الروح من الفكر، ويجعل دأبه الإذعان لأحكام ملك الزمان، وينزع من قلبه التعلّق بالقلعة، وينشد من الآن الملجأ والملاذ في الظلّ المبارك للملك». فلما عاد الرسول تبسّم «كيرفارد» تبسّم الربيع، وأرسل رسولا ذرب اللّسان إلى حضرة السلطان كي يسلّم مكتوبا مشتملا على ما سمعه ملك العالم وهو: كانت هذه الصخرة الصلدة منذ زمن «دارا» و «هوشنج» (¬1) وعهد الإسكندر وقيصر موطنا لآباء هذا المملوك الذليل وأجداده، وحسرة على أعدائه وأضداده، ولم يزمع أي ملك موفّق حربها، ذلك لأن خالق الكون لم ينشئ على الأرض سماء مثلها، وقد زودت من الذّخائر والمتاع بما يكفي إلى يوم الحساب. غير أنّي حين ألقيت بنظرة من بعيد على المظلة المنصورة اعتورني فتور في الأعضاء وتملكتني غشاوة في نور البصر، واستبدّ الضعف بالقوى/ وبدا هذا الموقع المخيف في عين العقل بئرا لاقرار له، فقلت لنفسي: إنّ مناطحة الصّخر والتّشبث بالرّايات الخفّاقة في العلا مهلكة وضياع، والواجب البحث عن مقر ومفر في ¬

(¬1) من ملوك الفرس القدماء.

ظل شمس الملوك، فإن شملتني العاطفة الملوكية، وكان لي مع نوال الأمن على حياتي/- كسرة خبز من ممالك السلطان، فسوف يكون ذلك غاية التلطّف مع المملوك ونهاية الحدب على الخادم. فاستحسن المليك قوله، وقال: لو كان بالإمكان تدعيم أركان نيّة الصّداقة عنده بأوتاد القرابة لوجب أن يتمّ ذلك بأسرع ما يمكن (¬1) حتى تزداد ثقته. فلما سمع «كيرفارد» هذا أتى بخريدة من خرائد النساء لتدخل في زمرة من يلزمن الحرم الملكي [وتنتظم في سلك مطهّرات الحريم السلطاني الميمون وفق أمر الشّريعة المحمّدية] (¬2). وبذلك التأمت الأمور، وكتب منشور بإمارة «آقشهر قونية» وملكيّة عدد من القري وأرسل إلى «كيرفارد». وفي اليوم التالي نزل من أوج القلعة إلى حضيض خيمة السلطان- وكانت تسامت زحل- وأخذ في إبداء الأعذار، فلحظه السلطان بعين الرأفة، وجعل يبالغ في تكريمه واحترامه، والتمس «كيرفارد» حضور السلطان إلى القلعة فاتجه بالمظلّة والرّاية صوبها، وبادر أهلها باستقباله بالنّثار والدّراهم والدنّانير. فلما صعد إلى أعلى القلعة شاهد الوفير من المزارع والعديد من المصانع وما لا حصر له من الذّخائر، فأدى شكر النعمة لله تعالى على يسر الفتح بتلاوة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ (¬3) ونصر عبده، وأمر بأن يبنى هناك على تلك الصّخور الصلدة سور، ثم منح ذلك الموضع شرف التّسمي باسمه والتلقّب بلقبه. ¬

(¬1) قارن أ. ع، ص 247. (¬2) زيادة من أ. ع، أيضا. (¬3) سورة الزّمر: 74.

ذكر فتح قلعة «آلاره» على يد مماليك السلطان

ذكر فتح قلعة «آلاره» على يد مماليك السلطان حين فرغ السلطان من عمارة «العلائية» ثنى عنان الفتح صوب «أنطاليه»، وفي الطريق وقع بصره على قلعة «آلاره»، وكانت قد بنيت وسط سهل فوق حجر صخري ضخم، وبجانبها يجري نهر ذو لون سماويّ وعزم فتّي كنهر النّيل، ومن أعلاها كان على حراسها أن يحنوا ظهورهم لقربها من السماء (¬1)، ومن أسفلها كان «جبل قاف» يبدو أشد انخفاضا من القيعان. وكان أخو «كيرفارد» قد أعرض كشحا عن اللذّات الدنيويّة، وتجنّبها واختار سلوك التبتّل (¬2) وفضّل لبس الصّوف الخشن على الحرير الأطلس. فأمر السلطان أميرا من أمراء الدولة بأن يسير مع فرقة من العساكر المنصورة إلى قلعة «آلاره» ويقول لحاكم تلك البقعة: إن أخاك- وهو المعروف بالكفاءة والشجاعة- لم يستطع إبقاء قلعة «كلونوروس» بعيدة عن أيدينا، منذ شهر مضى، وأغلب الظن أن الضّعف والعجز الناشئين عن الحصار سيعجّل بأجلك، وأنت رجل عاقل قد ركبك الهمّ من جفاء الأيام؛ ومن ثمّ فإنّ انتهاج جادّة السّلامة يناسب حالك، فإن سلكت طريق الصّواب مثلما فعل أخوك وسلّمت القلعة لمماليكنا تيسّرت لك المآرب والمقاصد، أما إن هممت بمخالفة أحكامنا، فلن تجد شوك هذا الخلاف إلا في عين جهلك. وما إن أبلغ برسالة السلطان حتّى هاجمه في الحال مرض «القولنج» لما اعتراه من هيبة السّلطنة وما غلب عليه من فزع وجزع، وأسلم حساب العمر والرّوح ¬

(¬1) قارن أ. ع، ص 249. (¬2) في الأصل: تنبل: يعني كسول، والتصحيح من أ. ع، أيضا.

إلى فذلك (¬1) «ومالك» (¬2)، فصعق وجهاء القلعة من هول الحادث، وسلّموها رغبا أو رهبا. وهكذا دخل ذلك الموضع بمجرد/ رسالة ودون إعمال سيف أو حسام في عداد غيره من بلاد المملكة وقلاعها. ولما بلغ خبر الفتح الثّاني سمع المليك أقام الاحتفالات العامة، وأفرغ ذهنه من فكرة الحرب، وشرب الخمر على أوتار الرّبابة والصّنج، فلمّا شارف «أنطالية» خصّ الأمراء كافّة بالخلع والتّكريم، وأذن لهم بالانصراف إلى المشتى والمصيف، وانطلق هو مع خواصّه لقضاء الصّيف في «أنطالية». ... ¬

(¬1) لعلها تضمين من قول الله تعالى في سورة المعارج: 44: «خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلّة، ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون». (¬2) مالك: خازن جهنم.

ذكر عمارة سور قونية وسيواس وتوزيعها على أمراء الدولة في سنة ثماني عشرة وستماية

ذكر عمارة سور قونية وسيواس وتوزيعها (¬1) على أمراء الدولة في سنة ثماني عشرة وستماية ذات يوم، جلى ملك المشرق (¬2) بوجهه السّعيد على الفلك اللازورديّ فأخذ السلطان يتجوّل م؟؟؟ صحاري «قونية» ورياضها مع أمراء الديوان والقادة، وفجأة ألقى بنظره صوب المدينة فرآها مدينة قد ازدانت بما فيها من بشر ومتاع، بلغت مساحتها مسيرة يوم، قد غرست في طولها وعرضها المزروعات والأشجار المثمرة (شعر): - ينبع ماؤها من نهر الفرات، يمر ريحها على ماء الحياة. ... - سارع النّاس من كل بلد وإقليم، واستوطنوا تلك المدينة الوادعة الهنية. - هي ليست بمدينة، بل عالم بأسره، هي بحر عميق، غير أنها سمّيت: مدينة. لكنها «كالنّصل عرّي متناه من الخلل» قد عطلت من حلل السّور، قال السلطان لأمراء الدولة: من الخطأ البالغ ترك مثل هذه المدينة الشّهيرة معطّلة من حلل السّور كالعرائس الفاتنة المجلوّة. ولئن كانت/ الدنيا- بسبب ما لنا من همّة مظفرة وسنان فتّاك- تعدّ سورا حولنا، فالحزم يقتضي ممّن يتّصف بالدّهاء أن يكون على حذر دائم من الجشع والطّمع، فدورة الأيام لا تدوم على وتيرة، والزمان مولّد للحادثات، والشّمس جالبة للواقعات، (بيت): - يأتي الزمان بآلاف الصور، ولم يكن، أي منها موجودا في مرآة تصوّرنا. ¬

(¬1) في الأصل: ربع آن: يعني ربعها، والتصحيح من أ. ع، 252. (¬2) يريد به الشمس.

ورأينا منصرف إلى أن يقام سور حول هذه المدينة و «سيواس»، كي لا تؤثر فيها فأس دواهي الدّهر المتقلّب، وينجاب عنها نقاب أحقاد الأحقاب. ثم إنه أمر بإحضار المعماريين والرسّامين الحاذقين، وركب مع الأمراء وطاف حول المدينة، لكل يحدد بالرّسم مواضع البروج والأبدان (¬1) والبوّابات. ثم أمر نوّاب الخاصّ السلطاني بأن تقام من الحساب الخاصّ أربع بوابات مع بعض الأبراج والأبدان، وقسّم الباقي على أمراء البلاد- كلّ على حدة- وأمر بالإسراع في الأمر واغتنام الفرصة، وأرسل أمرا بنفس المعنى إلى أمير المجلس «بسيواس»، لكي يبني بدوره- بعد الحصول على موافقة الملوك والأمراء في تلك النواحي- سورا كالجبل حول «سيواس». وبدئ في وضع أساس السور بكل من «قونية» و «سيواس»، وتواصل العمل ليلا ونهارا- على قدر الاستطاعة والإمكان- بهدف الإنجاز والإتمام. ولم يتركوا شيئا إلّا فعلوه في سبيل تقوية القواعد وإعلاء الأبدان وتشييد البروج، لما كان بينهم من عصبيّة وحسد. وبعد الإتمام أبلغ السلطان، فركب وطاف على أطراف الخندق، ونظر إليه بعين الاعتبار/ وشعر بالرّضا والاغتباط، ثم أمر بأن ينقش كل واحد منهم اسمه بالذّهب على الحجر، لكي يبقى لمساعيهم اسم ورسم في الدنيا لأجيال عديدة، ثم أقام احتفالا، وباشر البهجة والأنس. ... ¬

(¬1) كذا في الأصل: ابدان، ولعله يريد بها الأسوار.

ذكر ورود محيي الدين ابن الجوزي من حضرة الخلافة برسالة، واستنجاد العساكر وندب بهاء الدين قتلوجه لذلك

ذكر ورود محيي الدين ابن الجوزي من حضرة الخلافة برسالة، واستنجاد العساكر وندب بهاء الدين قتلوجه لذلك لما انتهت عمارة قونية وجّه السلطان عنان عزمه صوب «قيصرية» لتفقّد مصالح البلاد، فلما شارف «قيصرية» أخبر أمراء ملطية أن «محيى الدين ابن الجوزي» قد أوشك على بلوغها حاملا رسالة من حضرة الخلافة، فأمر السلطان بأن يتقدّم ضيوف الشّرف السلطاني حتى «سيواس» المحروسة لاستقباله وأن يبذلوا جهدهم في توقير جانبه. وما إن بلغ نزل القوافل «لالا» حتّى خفّ السلطان لاستقباله بالمظلّة والطّبول، وهو في زينة تحسده عليها أرواح الملوك السابقين. وبعد المعانقة أبلغه ابن الجوزي بسلام أمير المؤمنين وتلاطف السلطان وتحادث معه كثيرا. فلما بلغوا البوّابة ودع قادة الآفاق ودلف إلى داخل القصر. وفي اليوم التالي [حين دفع راضة القدر الإلهي بمقتضى قوله تعالى وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ (¬1) برج الأسد تحت تمكين ملك النّجوم السّيارة، وركب السلطان ذو العرش اللازوردي (¬2) على الحصان الأخضر الذي يسابق الرّيح] (¬3)، كان ديوان مالك الرقاب قد زيّن بزينة جعلتها أشبه ما تكون بروضة أهل الفردوس، وقد اصطفّ الأمراء الكبار عن يمين ويسار، وتجشّم الإمام محيي الدين التوجّه لديوان السلطنة مصطحبا الخلع والجنائب والأدوات المهذّبة والآلات المذهّبة. وأخذ «جلال الدين قيصر پروانه» بيد الرسول اليمنى «وظهير الدين منصور» / بيده اليسرى على سبيل الإعزاز والتكريم، ¬

(¬1) سورة الأعراف: 54. (¬2) يعني الشمس. (¬3) قارن أ. ع ص 257، والأصل مضطرب للغاية في هذا الموضع.

وأجلساه على كرسي سبق وضعه على درجة العرش، ووضع حمّالو دار الخلافة الأحمال على حافة الصّفّة، وسحبوا الجنيبة- وقد ألبست رداءها المرصع- على الصّفّة. وأنزل السلطان من فوق العرش، وتسلّم في ذلك الحجاب ركاب جنيبة حضرة الخليفة تعظيما وتوقيرا، وارتدى خلعة الخلافة. وأخذ محيي الدين بيد السلطان وأجلسه على العرش ثانية. ثم ما لبث الفرّاشون أن رفعوا الحجاب، فنثر الأمراء والقادة تحفا من الذهب، ومدّوا بساط السّماط. وبعد تناول الطّعام وتبديل الرّفع بالوضع طلب محيي الدين الخلوة، ثم بدأ الكلام فحمد الباري وصلى على روضة المصطفى ودعا لحضرة الإمامة وأثنى على حضرة السلطان ثم قال: إن أمير المؤمنين يبعث بالسّلام لملك الإسلام، ويقول إن جيش التّتار ما إن فرغ من محاربة محمّد خوارزمشاه حتى استمكنت قوّته واستحكمت شوكته، وقد نما إلينا أنهم يقصدون هذه الحدود، فلو أن السلطان سيّر ألفي فارس من بلاد الرّوم إلى هذه التّخوم برسم النّجدة، احتياطا واسما، لكان في هذا مصلحة للملك والملّة. قال السلطان: سمعا وطاعة، يتم اللّازم ويرسل على أسرع حال. فعاد الرسول إلى محل إقامته فرحا مسرورا. وتوجه السلطان- بهيبة ووقار- إلى قصر الخلوة، فاستدعى الأمراء الكبار، وقال: كان اعتقادنا في بعد غور أمير المؤمنين ودرايته أكبر من هذا، إذا لا تجوز مقابلة جيش كسيل العرم لدولة جديدة وحظّ فتيّ- وهو جيش قد هاج وماج كبحر من النار- إلّا بالمداراة. ولعل الأصوب أن يشير أمير المؤمنين/ بأن يتجمّع من كل إقليم رسول بالتّحف والهدايا في موضع معيّن فيلتقون جميعا كالنّجوم في برج السّعادة، وينطلقون في صحبة رسول أمير المؤمنين إلى حضرة الخان، ويعتذرون إليه بأن سلاطين البلاد لو قدموا إلى حضرته بأنفسهم لحل ببلادهم

الاضطراب، ويظهرون الطّاعة، ومن ثم تختمر الآراء والتّدابير وفق ما تقتضيه المصلحة (¬1)، ويوضع للمصالحة بناء محكم وقاعدة راسخة. غير أننا لو أبلغنا هذه المقدّمات للمسامع الشّريفة لأمير المؤمنين قبل إرسال النّجدة فسوف يحملها على العجز والضعف، ويظن أننا ضننّا بالإنجاد بالأجناد. فإن كانوا قد طلبوا ألفي فارس فلنرسل خمسة آلاف، فيستصحبون بذلك مواليد سنة واحدة. وفي الحال صدرت الأوامر بهذه المهمّة وتحريض العساكر للتوجّه إلى ملطية، بحيث يكون مسيرهم صوب دار السلام بقيادة ملك الأمراء «بهاء الدين قتلغجه». وفي اليوم التالي استدعى السلطان الرّسول للنّزهة، وأعاد على مسامعه الحكاية كما جرت، وسمح له بالانصراف، فلما لحق محيي الدين بمقرّ إقامته أرسل الخزّان في إثره بخمسين ألف سلطاني، ومائة ثوب ثمين، وخمسة بغال سريعة السير، وعشرة خيول، وخمس غلمان من الرّوم، وعشرين ألف سلطاني برسم من يرافقه من كبار الشخصيات. فلما انصرف لم يمض شهر واحد- بل أقلّ- حتى لحق الجيش بأسره بملطيّة المحروسة، وبقوا ينتظرون قدوم الرّاية السلطانية: فسرّح السلطان الرّاية بصحبة «ظهير الدين الترجمان ابن كافي ملطية» مع المبارزين والجنائب/ والحرّاس وخزان السّلاح وكميات هائلة من الميرة والزاد. وكان الأمير بهاء الدين قد تجهّز وأعدّ أسباب السفر، فلما وصل ظهير الدين مع الرّاية وأبلغ الأمر، عيّن الميمنة والميسرة والمقدّمة والسّاقة والقادة ورؤساء ¬

(¬1) قارن أ. ع، ص 260.

العشائر وبيّنهم، وانطلقوا بنظام لم يشهد أحد له نظيرا. وحين رأى ملوك الديار من «خرتبرت» و «آمد» و «ماردين» و «الموصل» تلك العظمة، عظم قدر السلطان في قلوبهم، فأخذوا في تقديم أنواع الهدايا والضّيافات. وكان الأمير بهاء الدين يبالغ بدوره في احترام الملوك وإكرامهم، كما يوصل إليهم من تشاريف السلطان وإنعاماته ورسائله النّصيب الأوفى. فلمّا وصل إلى الموصل احتجزه بدر الدين لولو ثلاثة أيام، وقدّم له خلال إقامته من الخدمات ما لا يتسع المقام لوصفه، وفي اليوم الرابع أخذه الأمير بهاء الدين إلى حضرته، فأقام احتفالا شده لفخامته وروعته بدر الدين لولو- برغم ما عرف عنه من علوّ الهمة- فأثنى على السلطان ثناء عاطرا [وقال: قد يستدل على ما للسلطان من كمال الخلال وارتفاع ذروة الشّمائل والخصال بمثل هؤلاء المماليك النّجباء] (¬1). ثم إنه كتب رسالة إلى الملك مظفّر الدين (¬2) أن جيشا هائلا يتقدم من قبل السلطان لنجدة عتبة الإمامة، فإن حدث وتوقّف هذا الجيش هناك فسيتكبد الدّيوان العزيز الكثير من النفقات، لذا بات من الأولى صرفهم لكي يعودوا مسرعين من حيث أتوا. وقد أعد الملك مظفّر الدين الأنزال (¬3) والتّقدمات وتهيّأ بنفسه للاستقبال، فلمّا رأى الجيش وقائده على هذا النّحو استصوب رأي بدر الدين، وطيّر رسالة على جناح الحمام إلى الدّيوان العزيز، فوصل الجواب من ¬

(¬1) زيادة من أ. ع، ص 262، وتبدو هذه الفقرة- التي أهملت في الأصل- ضروريّة لكي يتم معنى الجملة السّابقة عليها مباشرة. (¬2) يريد به الملك مظفر الدين كوكبوري صاحب إربل. (¬3) نزلها، وهي جمع نزل أي المكان الذي ينزل فيه الضّيف.

الدّيوان ببقاء الجيش هناك إلى أن يصل ضيوف الشرف، فليحتجز/ الملك مظفّر الدين عساكر الروم هناك بطريقة تتضمّن الليّاقة والتّكريم. كانت السماحة عند الملك مظفّر الدين طبيعة والسخاء غريزة، فلم يترك شاردة ولا واردة. وبعد بضعة أيّام جاء أحد كبار الأمراء من الدّيوان العزيز لإعذار الأمير بهاء الدين، فذهب عند الأمير مظفّر الدين، وأتى بصحبته إلى الأمير بهاء الدين، وسلّمه رسالة الدّيوان العزيز مع سلام العتبة المقدّسة، فوضع الأمير بهاء الدين رأسه في الحال على الأرض، ثم وضع الرسالة على مفرق رأسه، وكان قد كتب في الرسالة: كانت الأنباء قد تواردت من قبل بأنّ جيش المغول حين فرغ من أمر خوارزمشاه انطلق إلى هذه النّاحية، وكنّا قد استنجدنا بالسلطان احتياطا أما الآن فنحن نسمع أن رأيهم قد تحول عن تلك الفكرة، فسمح بالانصراف لملوك الأطراف الذين كانوا قد قدموا من مختلف الأرجاء، فيتعين على الأمير بهاء الدين العودة بجيشه بسلام. وجيء بخمسين ألف دينار خليفي ومائة جمل ومائة حصان وخمسين بغلا وعشرة آلاف رأس من الغنم، وثلاثمائة خلعة ومائتي بغل محمّلة بأنواع المأكولات والحلوى برسم النّزل. فدعا الأمير بهاء الدين للخليفة وأثنى على ما قدّم من صدقة وإنعام، ووضع جبينه على الأرض، وأعطى ضيوف الشرف خلعا سلطانية، وسجّل ذلك كله ودوّنه، ثم قام بتوزيعه على الجيش. وأمر بأن يركب الجيش بأسره بكامل سلاحه وعتاده من الغداة، وأن يعرضوا أنواع الشّجاعة والشّهامة واللّعب بالرّمح ورمي السّهام واستخدام الأنشوطة والوهق. وفي اليوم التالي انتظم الجند ثم ركبوا، ولبس الأمراء الخلع، فلما ظهرت/

مواكب بغداد وإربل (¬1) ولّى الأمراء وجوههم- وقد ارتدوا الخلع- صوب دار السّلام، ونزلوا من فوق خيولهم، ووضعوا رؤوسهم على الأرض، ورفع قادة الفرق أصواتهم بالدّعاء لأمير المؤمنين والثّناء على ملك العالم. فلما شاهد رسل أمير المؤمنين والملك مظفّر الدين ذلك التواضع ورأوا حشود العسكر ومهارة الفرسان واستغراقهم التامّ في الذّهب والسلاح قالوا: إن سلطانا نجدته (¬2) هذا الوقار وهذه العظمة إن قصد بنفسة ملكا فمن ذا الذي ينجو من بأسه وسطوته، وأثنوا ثناء جزيلا على الأمير بهاء الدين وحشوده، وودع كلّ منهم الآخر، ثم انطلقوا آيبين صوب الرّوم. وحين وصلوا ملطيّة ودخل الأمير بهاء الدين بيته أقام وليمة كبرى، ثم أمر بالانتشار، وأرسل أحد كبار الأمراء في صحبة راية السلطنة، كما أرسل نائبه إلى الحضرة السلطانية واعتذر عن نفسه، ثم ما لبث أن أسرع بعد شهر إلى الدّيوان، ونال شرف تقبيل اليد. ... ¬

(¬1) لعله يعني بذلك قدوم رسول الخليفة والملك مظفّر الدين ومن يرافقهما من كبار الأمراء لتحية جيش الروم قبل مغادرته. (¬2) قارن أ. ع ص 264.

ذكر أخذ السلطان الأمراء الكبار في قيصرية وإنزال العقوبة بهم

ذكر أخذ السلطان الأمراء الكبار في قيصرية وإنزال العقوبة بهم لما انقضت مدة على دولة السلطان علاء الدين كيقباد وسلطنته، واستقرّ على عرش الدّعة ونال الإعزاز، سلك الأمراء الكبار كالأمير «سيف الدين آينه چاشني گير» و «زين الدين بشارة أمير آخور» و «مبارز الدين بهرامشاه» أمير المجلس و «بهاء الدين قتلوجه» طريق البطر والأشر بحكم ما لهم من سبق الخدمة وكمال الثروة وكثرة الأتباع والأشياع، وأخذوا يمارسون على السلطان صنوفا من التحكّم، وبلغ بهم الحدّ/ أن اتّخذت التّرتيبات في مطبخ السلطان أن يعدّ في كل يوم ثلاثون رأسا من الغنم كرواتب للخاصّة والعامّة كما كان للأمير «سيف الدين آينه» راتب مطبخ يومي قدره ثمانين رأسا من الغنم، وأمسك في يده بزمام النّقض والإبرام كليّة، وحين كان يترك حضرة السلطان متّجها إلى منزله لم يكن يدور حول قصر السلطنة [وكان بقية الأمراء وأركان الدولة يعدّونه مقصدا وزعيما مطاعا لهم] (¬1) كما لم يكن بالإمكان مخالفة إشارته في حجابة السلطان. كانت الأحقاد والضّغائن قد ظلت تتراكم من قبل ذلك في القلب المبارك للسلطان، وظل على مداراتهم لأن انتهاز الفرصة لم يتيسّر، لكنه كان ينطق في بعض الأوقات في الخلوات بكلمات مسمومة. وكان كافرو النّعمة من المقرّبين لحضرة السلطان- يبلغون أسراره بأسرها للأمراء (1)، فكانوا بدورهم يسلكون طريق التذلّل والتملّق لكنهم كانوا يتشاورون فيما بينهم خفية بقصد حصد فرع ¬

(¬1) قارن أ. ع، ص 265.

السلطنة، وكانوا يراعون الحيطة والحذر. غير أنهم اتّفقوا سويّا ذات ليلة في نهاية جلسة شربوا فيها الخمر أن يوجّهوا الدّعوة إلى السلطان من الغد لضيافة ببيت الأمير سيف الدين آينه ثم يضعون في قدمه قيدا ثقيلا، ويأتون ب «كي فريدون» الموجود في «قيلوحصار» ويجلسوه على العرش. فخرج أحد الغلمان- وكان موضع سرّهم- وقد بلغ السّكر منه غايته من ذلك المجلس، وذهب وهو ثمل لا يعقل إلى بيت «سيف الدين ابن حقّه باز» والأمير «كمنينوس» وكان كلاهما محرما للسرّ بمنزلة «ثاني اثنين في الغار» (¬1). فأجابا بقولهما: إنّ تدبير/ أمرهم سهل ميسور، لكن من الصعب تنفيذه في «أنطالية» باعتبار أن الأمير مبارز الدين ظلّ حاكما لها نافذ الأمر فيها طيلة عشرين عاما مضت، فلو أنّ السلطان يأمر بإرجاء هذا التدّبير لحين النّزول بقيصرية لكان ذلك أكثر صوابا. فاستحسن السلطان هذا الرّأي. فلمّا حلّ موسم الارتحال عن أنطالية عزم على التوجه إلى قيصرية. وهناك أمر- كمقدّمة أولية لهدم بنيان وجود الأمراء- بأن يضرب «شمس الدين القزويني» أمير الحجّاب خمسين ضربة بالمقارع على باب الدّيوان إذ كيف يسمح لأتباع الأمراء وحواشيهم بدخول الدّيوان بسلاحهم وعتادهم. والتعليمات هي أنه لا يسمح بعد اليوم بذلك لكلّ أمير إلّا إن كان أميرا ممّن يلبسون «الجرموق» (¬2)، واستمرّت هذه القاعدة، فبدا المجال فسيحا أمام مكر ¬

(¬1) إشارة إلى قوله تعالى: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ (سورة التوبة: 40). (¬2) «سرموزه» ومعرّبها «جرموق»، وهو ما يلبس فوق الخفّ، وقد أثبتها «القلقشندى» في كتابه صبح الأعشى: «سرموزه» هكذا دون تعريب، انظر 4: 10.

السلطان ومكيدته. ودبّر السلطان أمرا مع «كمنينوس» و «سيف الدين ابن حقّه باز» و «مبارز الدين عيسى» أمير الجاندار (¬1) وهو أن الأمراء حين يدخلون دار الحكم في اليوم الفلاني على عادتهم، يأخذ «كمنينوس» في الطّواف خفية وهو مسلّح وبرفقته أعوانه فوق سور حديقة السلطان، ويلبس غلمان الخاصّ السّلاح فيقفون ملازمين [على الرسم المألوف بصفّة القصر] (¬2) وفقا للنّظام المتّبع في الحراسة، ويغلق الحجّاب باب القصر بإحكام بعد دخول الأمراء، ولا يسمحون لأيّ مخلوق بالدّخول أو الخروج، وأن يقف الأمير «مبارز الدين» أمير الجاندارية (2) بشهامته المعهودة هو وإخوته على باب قاعة الاحتفالات بالعدّة والعتاد، فيلقون القبض على كلّ أمير يقصد التوجّه إلى بيته في أعقاب السّكر، ويضعونه في بعض البيوت، وينتظرون إلى أن يصدر أمر بشأنهم. فلما حلّ اليوم الموعود، تمّ تنفيذ ما اتّفقوا عليه؛ وسبق الأمير «سيف الدين چاشني گير» غيره راغبا في الانصراف،/ فتقدم «مبارز الدين عيسى» وإخوته وقالوا: الحكم هو أن يدخل الأمير هذا البيت. فأجاب: لابدّ أن هناك خطأ ما. قالوا: بل هو الصواب. فألقى قلنسوته في الحال على الأرض وقال: من يوم أن قال السلطان في الحديقة بأن الأشجار العجوز ينبغي أن تقلع وتغرس مكانها أشجار غضّه فتيّة قد علمنا أنه سيدبّر مثل هذا الغدر، ولو أنّني كنت قد تداركت الأمر في ذلك الحين لما اعتورني العجز اليوم، قد رضيت ¬

(¬1) إمرة الجاندارية: أمير جاندار: «وموضوعها أن صاحبها يستأذن على دخول الأمراء للخدمة ويدخل أمامهم إلى الديوان» (صبح الأعشى 4: 20). (¬2) زيادة من أ. ع ص 267.

بالقضاء، (بيت): - انتزعت القلب من الجسد والروح والمال والولد، ... ورضيت بما هو أسوأ من الموت. ثم خرج زين الدين بشارة «أمير آخور» (¬1)، فاحتجزوه بدوره في بيت آخر، وفعلوا نفس الشّئ مع بهاء الدين قتلوجه، ثم نهض أمير المجلس متأخّرا عنهم جميعا، فأجبر على سلوك ذلك الطّريق، فلمّا أخذوا جميعا، جاء «ابن حقّه باز» إلى حضرة السلطان وقال: ليسعد السلطان، لقد زجّ غلمان السلطان والأمير بالأمراء- الذين كانوا قد جلسوا [بالصفّة]- في السجن ثم فتحوا باب قصر السلطنة، وذهب النوّاب إلى بيوت الأمراء، وسجّلوا ما يملكون من متاع وزينة، وختموا كل البيوتات بالخاتم، واختاروا من الموكّلين من أغاروا على بيوت أقاربهم والمتّصلين بهم جملة. فلم يقرّ للسلطان قرار من فرط ما تملّكه من ضغن تجاه «جاشني كير»، فأرسل إليه «مجد الدين إسماعيل» والي قيصرية ليسأله: ما الباعث على ما كنت تبديه من تبجّح وتحكّم؟ أجاب بقوله: أنا ربّيتك أنت وأخاك/ على كتفي وفي أحضاني أيّام الغربة، وقصصت شعري الطويل وبعته لنسوة الرّوم من أجلكما برغيف من الخبز لسدّ الرمق (¬2)، وقدّمته لكي تأكله أنت وأخوك، وأتيت بجسد أبيك الطّاهر من الرّوم إلى دار الإسلام، وانتشلتك من الحبس على خلاف رأي الأمراء والوزير، ولم يكن لأحد من مماليك أبيك منزلتي في القدمة، ¬

(¬1) راجع فيما سبق، ص 51 هامش 1. (¬2) از پي پيوسته كري، وهي في الأصل: از بي ... ، بالباء المخففة، ولا معنى لها، والتصحيح من أ. ع ص 269.

فإن كان ثمّت تجاوز، فهو مبنيّ على هذا، وكانت ثقتي كاملة في العهد والميثاق الذي كنت قد نطقت به يوم السجن، أنا من لا سبيل للسلطان إلى العثور على مملوك مشفق مثله، فإن عجز عنه فلن ينفعه الندم، (بيت): لتقرعنّ على السنّ من ندم ... إذا تذكّرت يوما بعض أخلاقي فلما أبلغوا هذه الكلمات الرقيقة لمسامع السلطان تضاعف ما في قلبه من قسوة وغلظة (¬1)، وأمر بأن يحملوه إلى أحد الأبراج ويفصلوا رأسه عن جسده. أما «زين الدين بشارة» فجعلوه في بيت وأغلقوا عليه الباب حتى أخذ يتغذّي بأعضائه من فرط الجوع. وأرسل أمير المجلس مع «روزبة» الخادم إلى قلعة «زمندو»، وأجلس بهاء الدين قتلوجه فوق بغل بغير سرج فدفع به إلى «توقات» وهو يبكي وينتحب. وحين أنجزت الأمور استدعى السلطان الأمراء الذين كانوا قد قاموا على إتمامها، فدخل عليه «كمنينوس» وأمير «جاندار» وإخوته، ومثلوا بين يديه، فأجلسهم جميعا في مجلس الأنس، وأمر في تلك الليلة بأن يعهد بمنصب إمارة الأمراء (¬2) إلى كمنينوس عوضا من «سيف الدين آينه». وفي اليوم التّالي اتّجه السلطان- على خلاف المعهود- إلى الميدان تصحبه الطّبول والعلم والبوق والمظلّة/، وتنزّه مدة- بكلّ جلال ووقار- في صحراء المشهد، وظلّ يركض بحصانه حتى صلاة المغرب، ويلعب بالكرة. وفي تلك الأثناء رأى السلطان أن الأمير «كمال الدين كاميار» و «ظهير ¬

(¬1) قارن أ. ع، أيضا. (¬2) في الأصل بكلربكي: هي كلمة تركية، وتعني أمير الأمراء.

الدين منصور ابن الكافي» التّرجمان و «شمس الدين ولد قمر خراسان» - وكانوا من أواسط الأمراء- يتخافتون فيما بينهم، فقال: ألم يأن لهذا النفر من الاخسّاء أن يخرجوا ريح الفضول من رؤوسهم؟ وأمر أمير العدل بطرد الثلاثة جميعا من الميدان بالصّولجان، وبأن يتعرّض ما في بيوتهم من متاع وزينة للغارة، وأن ينفوا من بلاد الرّوم. فنزلوا «خرتبرت»، فرحّب بهم ملكها، فتلقّى من جانب السلطان عتابا لصنيعه هذا. فانطلقوا من هناك إلى «أخلاط» فاستضافهم «الملك الأشرف» سنتين، ثم إنهم جاءوا إلى بلاد الرّوم بشفاعته، لكنّهم ظلّوا على حالهم من الذلّة والخذلان فقد تبدّد كل ما كان لدى «كمال الدين كاميار» وذهب هباء منثورا ولم يعد له إلا حصان واحد. وذات يوم خرج السلطان وهو في «علائية» إلى الصيد، فركب كمال الدين في خدمته، وعند الرّجوع وأثناء الصعود إلى القلعة سقط حصانه على الأرض فلم يسع كمال الدين كاميار إلا أن حمل السّرج على ظهره ومضى إلى منزله. فلما وصل السلطان سأل: حصان من هذا؟ فتبسم «نور الدين ابن طلاقي الأخلاطي» وكان من ندماء الخاص، قال السلطان: علام تبتسم؟ أجاب: قد بلغت مني الحيرة كل مبلغ للقول المأثور: «إنه لا يعزّ من عاديت ولا يذل من واليت، ولا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت» (¬1)، ما كان لكمال الدين كاميار من الدنيا بأسرها إلّا هذا الحصان، فجرى عليه- لكبر سنّه- ما جرى. فلم يجب السلطان حينذاك، ولمّا نزل استدعى «كمال الدين كاميار»، ومنحه تشريفا خاصا، وألف دينار أحمر وخمسة من البغال غير المسرجة/ ¬

(¬1) قارن أ. ع، ص 272.

وعشرة من الخيول المسرجة الملجّمة وخمسة غلمان، وأمر الأمراء بأن يعطوه من أموالهم، وأنعم عليه فأقطعه ولاية «زره»، وكان بها في ذلك الوقت مائة ألف من [الخاصّة وستوّن من مماليك الحواشي] (¬1). لنرجع إلى ما كنّا بصدده؛ حين قدم السلطان من الميدان إلى الإيوان أمر بإنزال العقوبة بكل حواشي الأمراء المقتولين وغلمانهم ومن كانوا على صلة بهم، [وأعطى خاتما «لابن حقّه باز» لتوقيع ذلك الحكم، بحيث إذا حلّ الليل يقضي عليهم جميعا ولا يبقي على أحد منهم] (1). فركب «كمنينوس» في الحال مع غلام وركابّي وجاء إلى الدّيوان، وطلب المثول بين يدي السلطان، ثمّ إنّه دخل ووضع رأسه على الأرض وقال: اليوم، حين ذهب هذا المملوك من قصر السلطنة إلى منزله كان يحيط بي حشد هائل من أتباعي وخدمي وذوي الصّلة بي، أما الآن فقد بقي من أولئك جميعا غلام واحد وركابي [وتفرق الباقون منزعجين] (¬2)، قال السلطان: وما السّبب؟ أجاب: ألم يؤذن لسيف الدين النّائب بالقضاء على ذوي الصلة بالأمراء وغلمانهم؟، إنّ الناس حين سمعوا ذلك استبدّ بهم القنوط، وقالوا: لو صدر منك ذنب يستوجب العقوبة غدا فسوف نعامل نحن نفس المعاملة، فيحسن أن نقوم بتدارك الأمر قبل حلول الواقعة. قال السلطان: الحقّ ما قالوه. وأعطى منديل الأمان بحيث يبطل ذلك الحكم. ولمّا كان السلطان قد فرغ من جهة قتل الأمراء (¬3)، وامتلأ وعاء الخزائن بالنّقود والجواهر، شرع في فتح البلاد والقلاع المتاخمة لحدود ممالكه. ¬

(¬1) قارن أ. ع، ص 273، والنص في الأصل في هذا الموضع غير واضح. (¬2) زيادة من أ. ع، أيضا. (¬3) قارن أ. ع، ص 274.

ذكر فتح قلعة «كاخته» في أيام السلطان «علاء الدين كيقباد»

ذكر فتح قلعة «كاخته» في أيام السلطان «علاء الدين كيقباد» عرض أصحاب الأخبار على حضرة العاهل أن الملك «مسعود» صاحب «آمد» قد انحرف برأسه عن ربقة الولاء للسلطان، واستنصر بالملك «الكامل» وجعل الخطبة والسّكة باسمه، فاستبدّ الغضب لهذا بالسلطان وأمر بأن يتوجّه قادة حدود الروم بأسرها بكلّ معدّات القتال وبأسرع ما يمكن إلى «ملطيّة» المحروسة، ويترقّبون ما سوف يؤمرون. فلحق الجند جميعا بدار الرّفعة «ملطية» ووصل الأمر لتنفيذ ما يلي من مهامّ: ينطلق الأمير «مبارز الدين جاولي» بفوج من الأجناد صوب «كاخته» - وهي من بين ممالك «آمد» - ويهيئ الأسباب المفضية إلى فتحها. ويتّجه الأمير «أسد الدين كندصطبل» بكوكبة من الجنود المشهورين إلى «جمشكزاك» و «كرفراك». وكلاهما تابع بدوره لحكم «آمد» (¬1). فانطلق الأمير مبارز الدين بالعساكر وآلات الحصار إلى «كاخته» ونصب أحد المجانيق المغربية بمحاذاة البوّابة. كما نصب اثنين من المجانيق أحدهما على يمين القلعة والآخر على يسارها. فلما علم الآمدي بذلك بعث برسالة استغاثة عاجلة إلى الملك الأشرف، الذي دفع بعز الدين بن البدر مع عشرة آلاف فارس من قبائل الأكراد والأعراب نحو «كاخته». فلما أخبر الأمير مبارز الدين بأن الشاميّين قادمون (¬2) وقد عقدوا العزم على ¬

(¬1) في الأصل: او: يعني هو، والصحيح ما جاء ب أ. ع. ص 275: آمد. (¬2) في الأصل: اند: يعني هم، والصحيح ما جاء ب أ. ع. أيضا: آيند: قادمون.

القتال، نصب جماعة على أعمال المجانيق، واستعدّ بنفسه للقتال مع الأمراء والأجناد، وقدم إلى الصّحراء في مواجهة الأعداء. وفي اليوم التّالي انطلق الجيشان للمواجهة، وجاء عند ذاك مدد قوامه ستّة آلاف فارس من «آمد» فاختلطوا بعضهم ببعض، فأرسل الأمير مبارز الدين جانبا من/ الجيش [للحراسة] في طريق القلعة، وانطلق بنفسه مع خمسة من الإخوة- وهم من عرفوا بأولاد «فردخلا» وكانوا قد وصلوا لتوّهم من ولاية «لشكرى» - لمواجهة الشاميين. فبادرهم الشاميّون بالهجوم عدّة مرات لكنهم ثبتوا كالجبال الرّواسي. ثم إنهم حملوا حملة واحدة وقتلوا مقتلة عظيمة من جند العدوّ، وأسروا «عز الدين بن البدر» قائد الجيش، ووجّه الباقون مذعورين حيارى وجوههم كلّ واحد إلى ناحية وولوا الأدبار. فلمّا جيء بابن البدر إلى خيمة الأمير مبارز الدين، قابله بكلّ احترام. ثمّ إنه سارع في تلك الحميّا (¬1) صوب القلعة فلمّا شاهد أهل القلعة ما حدث بلغ نواحهم الأمان عنان السّماء، فنزل جماعة منهم أسفل القلعة، وطلبوا خطّا بالأمان لكي يسلّموا القلعة، فاستمالهم الأمير مبارز الدين وأزال بمصقل اللّطف ما ران على خواطرهم من صدأ المحنة، وأقسم على مشهد من صاحب القلعة قائلا: أنا جاولي وهذا الجيش [وبقيّة أمراء السلطان وعساكره]؛ طالما أنّ أهالي القلعة قد ساروا في طريق الانقياد والإذعان وأنهم سيسلّمون القلعة لمماليك السلطان، فلن يحلق بهم ضرر صغر أم كبر، وسوف أحقّق لهم كلّ رغبة يريدونها من حضرة السلطان، وإن أرادوا الرّحيل بأموالهم وأمتعتهم فلن أمنعهم. فإنّ غرض سلطان العالم هو القلعة فحسب. ¬

(¬1) كرمي: الحرارة. والحميا: شدة الشئ وحدّته (المعجم الوسيط).

وحين سمع الأعيان هذه المعاني من الأمير مبارز الدين، نادوا للصّلاة فصلّوا جماعة (¬1)، ثم صعدوا، وأنزلوا نساءهم وعيالهم من القلعة، وأعدّوا «كاخته» وهيّأوها ثم سلّموها في اليوم التّالي لمماليك السلطان لكي يرفعوا عليها علم ملك العالم. وصعد الأمير مبارز الدين، فأقام حفلا تلك الليلة بجوف القلعة ووصل/ اللّيل بالنّهار في الطّرب والسّرور. وفي اليوم التّالي صرف «عز الدين بن البدر» مع سائر الأسرى في صحبة مائة فارس إلى حضرة المليك، ورفع تقريرا للديوان عن صورة ما حدث ومحاربة الشاميين وانهزامهم هم والأمير عز الدين، وتمنية أهالي القلعة. فاقترنت تلك المساعي عند السلطان بالرّضا والقبول، وأرسل إليه خلعة ملكية مع ما لا حصر له من الألطاف والإنعام. وفوّض أمر حفاظة القلعة وحراستها إلى واحد من خواصّ الغلمان، ودفع إليه برسالة جوابيّة لكي يحملها إلى البطل. ... ¬

(¬1) قارن أ. ع، ص 281.

ذكر فتح قلعة «جمشكزاك» على يد مماليك السلطان

ذكر فتح قلعة «جمشكزاك» على يد مماليك السلطان انطلق الأمير «أسد الدين كندصطبل» - قائد جند ملطيّة- وفق الأمر المطاع بخمسة آلاف فارس وآلات الحصار صوب قلعة «جمشكزاك»، فرأى صخرة قد شمخت برأسها إلى السّماء، وبها غار هو من صنع الله، وأسفلها نهر جار لا يقم للنّيل وزنا ويحسب الفيل بعوضة، ومن هذه الناحية من النّهر مدينة أكثر منعة من القلاع الحصينة بل هي أكثر إحكاما وضخامة من القلاع [فنظر الأمير «كندصطبل» في تلك القلعة ثم قال لبقية القادة والمقدّمين] (¬1): ياله من موقع يهاب العقاب أن يحلّق فوقه، ويبدو من المحال أن يعثر فيه النّقّاب على موضع لثغرة، إنه موقع لا ينال بالحرب والجلاد، فإن دخل في أنشوطة المراد بالوعد والوعيد فهو المراد وإلا فلنجهد قدر الإمكان لعلّه يتيسّر بالتأييد الربّاني والإقبال السلطاني. ثمّ إنه أرسل إليهم رسولا، لكي يفاتحهم في أمر «كاخته» وبأنه لا محيد عن استنزالهم بالقسر، وإهلاك نجدة جند الشام بالقهر، ويتلو عليهم التّعليمات الواجبة النّفاذ. فلما اقترب الرسول من القلعة ألقي عليه وابل من حجارة النّبل والسّهام فأخذ يناديهم قائلا: أنا رسول، قادم لمصلحتكم. فلم يعيروه التفاتا، واضطرّ للرّجوع. فقال الأمير: يجب علينا أن نفتح طريق الحرب طالما أنهم أغلقوا باب الكلام./ ثم أمر فنصبوا العرّادات ولبس الجند لأمة الحرب، وشرعوا في الزّحف بأعداد هائلة على البّوابة، وظلّوا من الفلق إلى الغسق منشغلين بضرب المنجنيق والسّهام والكرّ والفرّ، وانتهى الأمر بعودتهم إلى الخيام عاجزين مضطرّين. وطيلة أسبوع واصلوا اللّيل بالنّهار في قتال مستمرّ (¬2). ¬

(¬1) إضافة لابد منها لكي يستقيم السياق، انظر أ. ع 283. (¬2) راجع أ. ع، ص 285، وعبارة الأصل مضطربة ركيكة.

وفي اليوم الثامن بدا لهم أن يلقوا فوق الغار بعشرة صناديق حديديّة بها عشرة من المقاتلين، لا يترك ضيقها لأحد منهم سبيلا حتى إلى التّفكير (¬1)، فجعلوا بها ثقوبا تطلق منها السّهام، فأخذوا يرمونهم من سحاب القوس بوابل من السّهام كالمطر، وأخذ «كندصطبل» يدور حول نفسه لفرط العجز وانعدام الحيلة، ولم يكن يرى علاجا لهذا العناء. وفجأة جاء شابّ حسن الطلعة وقال: بالأمس بينما كنت أصعد فوق هذا الجبل وجدت ثغرة في جنب غار القلعة، فلو مارس النقّابون عملهم هناك لتيسّر فتح القلعة في أقلّ مدة. فأمر الأمير بأن يتوجّه الجيش- كما جرت العادة- إلى المحاصرة، وانطلق هو بحصانه فارتقى المنطقة الصخرية، لكي يرى ما يحسن فعله لتدبير الأمر. وحين رأى تلك الثغرة، أمر بأن يشرع خمسون نقّابا ممن عرفوا بالحميّة في إعمال الفأس، وأن يحدثوا ثلمة في السّور بضرب السواعد، فأصبح كل واحد من العمّال المهرة وكأنه «فرهاد» (¬2) لعذوبة كلام ذلك الأمير المخلص للسلطان، وما لبثوا في أقلّ مدّة أن أوقعوا الخلل في الحصن الحصين والقلعة الضخمة بضرباتهم القوّية المحكمة، وأحدثوا فتحة عريضة. ¬

(¬1) قارن أ. ع، 283. (¬2) حين وعد «فرهاد» بزواج محبوبته «شيرين» إن هو أتمّ حفر أخدود في الصّخر الصلد لكي يمر منه الماء إلى أعلى الجبل، شمّر عن ساعد الجدّ لإنجاز هذه المعجزة المعمارية الخارقة، لكنه حين أوشك على إتمام العمل تناهى إلى سمعه نبأ كاذب مفاده أن «شيرين» قد قضت نحبها، فألقى بنفسه من فوق الجبل منتحرا. وقد عرض لهذه القصة عدد من كبار شعراء الفرس كالفردوسي في «الشاهنامه»، ونظامي الكنجوي في «خسرو وشيرين».

ثم أمر بأن يمطر الجيش القلعة بوابل من السّهام، وأن تدلف فرقة من الشّجعان ضخام الأجسام- كبيزن- (¬1) إلى تلك الفتحة، فينتزعون الفوز والظّفر من فم التنّين. فأجرى الشجعان المضحّون بأرواحهم/ نهرا من دماء سكّان القلعة في الغار، بينما أحال الجيش من الخارج النّهار ليلا أسود مفزعا على من بداخل القلعة بضرب السّهام. وبعد جهد جهيد تحوّلوا لعجزهم إلى المسكنة والتذلّل وطلب الأمان، فأرسلوا شخصا والتمسوا الأمان، فحقّق «كندصطبل» مأمولهم واستبدل الحفل بالحرب وفراغ البال بالجدال. وفي اليوم التالي نزل سكّان القلعة بمتاعهم، ثم هبط مستحفظها كسيف البال قد انكسر جناحاه وأصبح ذليلا عاجزا وطلب العذر عن تماديه في التطاول. وحملت الرّاية على شرفات القلعة، وبعد حمد الخالق وإهداء الصلوات لروضة السّيد المختار جهروا بالدعاء للمليك مع الغلمان من فوق سماء من الحجر مكينة في الأرض (¬2). وكتب الأمير «كندصطبل» رسالة مشتملة على تفاصيل ما وقع من حكايات والتّهنئة بالفتح الثّاني الذي سنح بالفضل الربّاني وأرسلها إلى حضرة السلطنة. فأدّى السلطان الشكر على النّعمة الإلهيّة، وعيّن مستحفظا للقلعة، وضاعف ما بها من عدّة. ... ¬

(¬1) بيزن: واحد من أبطال الفرس الأسطوريين القدماء. (¬2) يعني القلعة.

ذكر تذلل الملك مسعود إلى الحضرة السلطانية

ذكر تذلّل الملك مسعود إلى الحضرة السلطانية حين تبيّن للملك مسعود أن القلاع التي كانت سندا لإقباله وجناحا لطائر حاله قد أخذت زخرفها وازّينت براية نصرة السلطان وأعلام سلطنته، شرع في البكاء على عرشه، وندم على ما كان قد فرط منه من تقصير. ورأى المصلحة في أن يبادر- قبل أن يذهب نصف الملك، الذي قد بقي، من اليد دفعة واحدة ويفلت مركب السّعادة من القدم- فيمسك بتلابيب حماية السلطان/ وكرمه ويسلك طريق الإخلاص والتّفاني متبعا في ذلك قدماء الرّجال العظام من أسرته. فاختار رسولا فصيح اللسان بعث معه برسالة ملؤها التمني وطلب الأمان، مع خدمة تليق بالسلطان من اللآلئ والجواهر البرّاقة والخيول والغلمان والملابس الملوّنة وأسفاط العنبر والكافور إلى حضرة السلطان، واستغفر لذنوبه، والتزم بأن يرسل كلّ سنة أموالا وأحمالا مجهّزة إلى الخزانة، ويشدّ حزام الانقياد على وسط الروح إن كلّفه السلطان بمهمة. فلحق الرّسول بالدّيوان، ونال ودّا. قال السلطان: ما ظهر كدر في مشارع عواطفنا إلا بسبب طيش الملك مسعود وحماقته، أما وقد دخل من باب الاعتذار فقد سلكنا نحن بدورنا طريق العفو، فتجاوزنا عن سيّئاته، فإن رفع رأسه بالعصيان ثانية وبذر بذرة الكفران في أرض الإيمان فجزاؤه مثل ما رأى، بل ربما شهد ما هو أسوأ: «وللآخرة أشد عذابا وأسوأ تنكيلا» (¬1) ثم سمح للرسول بالعودة، وولىّ السلطان وجهه للمصيف في مروج السّواحل التي هي بالجنّة أشبه منظرا. ¬

(¬1) كذا في الأصل بالعربية، ولعله يشير بهذه الجملة إلى قول الله- عز وجل: وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا النساء: 84، وقوله جل وعلا في سورة النساء الآية 21 وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا.

ذكر مصاهرة السلطان أولاد الملك العادل

ذكر مصاهرة السلطان أولاد الملك العادل حين حلّ موسم الربيع، واتّجه السلطان من مصيف أنطالية إلى قيصرية أمر بإطلاق سراح «عزّ الدين بن البدر» ومن معه، وكان قد أوقع به في حرب حصن «كاخته» وجرى أسره، وظلّ محبوسا بقلعة قيصريّة. وقد خلع السلطان عليه خلعة ملكيّة، وأذن له بالتوجّه نحو الشّام بكل إكرام واحترام. وذات يوم في أثناء/ [النظر في المهام] والتدابير، قال السلطان لسيف الدين النّائب ابن حقّه باز: يبدو لي أن مصاهرة أبناء العادل من شأنها أن تعمل على استحكام دعائم التّوفيق، فبذلك يزداد رونق السلطنة. فتكفّل سيف الدين- بعد أن استصوب رأي العاهل- بإنجاز تلك المهمة، وتوجّه إلى ديار الشام بخزانة كاملة، فلمّا بلغ «ملطيّة» توفي لمرض عرض لجوهر بدنه. فانتدب السلطان «شمس الدين ألتونبه جاشني گير» بدلا منه، فلمّا لحق شمس الدين بملطيّة نقل الأمتعة والخزانة إلى بيته، ثم انطلق بعد أخذ الأهبة والاستعداد. وكان «عزّ الدين بن البدر» قد أخبر ملوك الشام بمقدم رسول [من قبل السلطان، شاكرا ما حظي به هو من أيادي السلطان وإنعامه، فأزال كل شائبة علقت بنفس أولاد العادل] (¬1). فعدّوا الحفاوة بمقدم الرسول على أفضل نحو أمرا واجبا، وبلغوا المرتبة القصوى والدرجة العليا في توقيره وإجلال شأنه. وفي اليوم التّالي بادر أبناء العادل- وكانوا ملوك الشام وأطراف الأرمن وديار بكر، كالملك المعظّم والملك الأشرف والملك الغازي (¬2) والملك فخر ¬

(¬1) قارن أ. ع، ص 295. (¬2) انظر ما سلف، ص 11، هامش 1.

الدين (¬1) - فاستدعوا القاضي بدار السعادة «دمشق»، وأتوا بالأمير «شمس الدين» فرتّب الأمير شمس الدين التّحف والأمتعة التي كان قد جلبها معه ووضع الجواهر والمرصّعات على أطباق فضية وذهبية. ثم إنّهم أبقوا على شمس الدين ألتونبه هناك حتى يفرغوا من ترتيب الأسباب لسفر هودج العروّس، فكتب رسالة في هذا الصدد/ إلى السلطان مشتملة على أن إنجاز الأمور ومدار الأفلاك قد وافقا مراد العاهل، وعرض أنّ ركاب السلطان لو نهض إلى ملطيّة لكان ذلك نوعا من تكريم الملوك وإعزازهم. وبمطالعة الرّسالة ظهرت على السلطان آثار السّرور في أسارير مملوءة بالنّور، وصدر الأمر للأمراء بأسرهم: إن لموكب السلطان عزما على التوجّه إلى ملطيّة فيتعيّن على الجميع التوجّه إليها دون توقف. ونهض هو نفسه بطالع السّعد. وفي الطريق طلعت الخراريج والدمامل على رقبة السلطان فأخذ يعاني ويتألّم ألما عظيما. فلمّا لحق بملطيّة كان هودج العروس قد وصل قبل يومين أو ثلاثة، وجاء أمراء الشام الكبار في خدمته. فاستقبلهم الأمير «كندصطبل» و «شمس الدين ألتونبه» وقصّا عليهم ما حدث من أحوال وحكايات. وقد أثنى السلطان على ما يتّصفان به من كمال الحصافة وتمام النّباهة. وفي تلك الأثناء أثّرت الآلام العظيمة في بدن السلطان، فقال الأطباء ¬

(¬1) كذا في الأصل، وأيضا في أ. ع، ص 295: فخر الدين. ولعلّ المؤلف يريد به الملك فخر الملة محمدا ابن الملك العادل. وفخر الملة هو نفسه الملك الكامل محمد الذى تولى ملك الديار المصرية. (راجع فهارس تحقيق الجزء الثاني من كتاب، مفرج الكروب في أخبار بني أيوب لابن واصل، ص 411، تحقيق الدكتور جمال الدين الشيال، طبع مصر 1960).

(1) ذكرت أسماؤهم في أ. ع، ص 296 على هذا النحو: «الصدر فريد الدين محمد الجاجرمي، وبدر الدين ابن الحريري الذي نظم كليات القانون، وعز الدين ابن هبل الموصلي، وتقي الدين الرسعني الطبيب، وصفي الدولة النصراني».

الحاذقون (¬1) الّذين كانوا موجودين عندئذ: لو وصل إليه حدّ المبضع لكان من المتوقّع حدوث خطر عظيم، والمأمول أن تظهر رأسه بالضّماد والمرهم. ولفرط العجز يئس السلطان من الحياة، ثم أمر باستدعاء «فاسيل» الجراح. فلمّا حضر رأى أن مادّة [الجرح] قد نضجت تماما، فوضع رأسه في معرض الخطر، وأعمل المبضع، فاندفع القيح والصديد في الحال، وأحضر «قراطاي» الطّست، وكان الرّيم كلما اندفع تسللت الراحة إلى نفس السلطان، فلما تطّهر الجرح كليّة غلب عليه النوم، وظلّ ساكنا يوما بليلة، فخاف الناس من تلك الحالة، وظنّوا أن محذورا ربما يكون قد وقع. فلما استيقظ السلطان طلب الجّراح/ لكل يملأ [تجويف] الجرح بالقطن، وكان قد أحسّ قبل ذلك براحة كبيرة، فقال: من يشعر بالارتياح لسلامتي عليه أن يبادر بالإغداق على «فاسيل»، فإذا بهذا الرجل الذي كان يشعر كل صباح بالغصّة لتدبير قوت يومه (¬2)، يباهي «قارون»، ويحاكي البحار والمناجم عندما حلّ الليل لكثرة ما تكبّد أمراء الشام والروم والنّسوة من الخواتين من إغداق عليه. وبعد ذلك بأسبوع واحد أو أقلّ اندمل الجرح فعزم السلطان على الخروج للنّزهة. وأمر بالبدء في تهيئة الأسباب لإقامة الحفل فزيّنت المدينة، وكان الأمراء والقادة الشاميّون قد صاغوا سبعة قصور من الذّهب والفضّة وزّينوها بأنواع الجواهر ¬

(¬1) ذكرت أسماؤهم في أ. ع، ص 296 على هذا النحو: «الصدر فريد الدين محمد الجاجرمي، وبدر الدين ابن الحريري الذي نظم كليات القانون، وعز الدين ابن هبل الموصلي، وتقي الدين الرسعني الطبيب، وصفي الدولة النصراني». (¬2) قارن أ. ع، ص 297 ونص الأصل لا يخلو من اضطراب.

ووضعوها فوق ظهور البغال، قبل وصول مهد العروس، وأخذ اللّاعبون بحركاتهم الجميلة والمشعوذون (¬1) بطفراتهم السّريعة المتقنة يستعرضون مهاراتهم وفنونهم. والتمس ملك «خرتبرت» أن يكون عديلا للسلطان، [فبذل له السلطان ذلك]، فتعهّد تلك الضّيافة بصنوف الكرم من بذل الدّينار والّدرهم، وقضوا أسبوعا بأكمله في المتعة واللهو. وفي اليوم الثامن بدأ السلطان الاحتفالات العامة، فدعا إليه أمراء الشام، واعتذر عن ما كان قد وقع لهم من تأخير في الغربة بسبب ما ألمّ به من تعب، فوضعوا رؤوسهم جميعا على الأرض، وحمدوا الله تعالى على سلامة المهجة وحصول البهجة. ولما تلفّعت أمّ الدينا (السّماء) بالرّداء الأزرق القاتم، وتجلّت البنات الشبيهات بالياسمين ذوات القدود الفضّية من سقف القصر الأزرق، وبسط فرّاشو قدر «ولقد زينا السّماء الدّنيا بمصابيح» (¬2) سماء لازورديّة مملوءة بعرائس النّجوم السّيارة، وتظاهر الحرفاء بالتّساكر (¬3)، تبختر السلطان في حجال الجلال، ولحق بحرم الوصال، ورأى من الواجب فضّ الختام وقضّ الرّخام في الحال/ وبذل بسبب تلك السعادة كنزا لائقا لأولئك الذين قدموا من جانب الشام على ¬

(¬1) كذا في الأصل: مشعبذان، عربيّة الأصل، وشعبذ، مهر في الاحتيال وأرى الشيء على غير حقيقته. (¬2) سورة الملك الآية 5. (¬3) في الأصل: تشاكر (لفظ عربي الأصل)، لعله تساكر: إظهار السّكر وليس بسكران.

أمل تنسّم نسائم إنعام الملك الموفّق، وجعل الملكة مالكة لكنوز قارون وحاكمة لملك فريدون (¬1). وفي اليوم التّالي خصّ أمراء الشام بتشاريف ثمينة، وأجلسهم في محفله. كذلك قضى أسبوعا آخر في اللهو مع الأقران. وفي اليوم الثّامن أذن لأمراء الشام بالعودة والانصراف مزوّدين بسائر الألطاف، وتوجّه هو إلى قيصريّة، ومن هناك إلى أنطالية. وكان كلما بلغ مدينة من المدن زينت وأديرت بها آلة اللهو والسّرور. وقضى السلطان الشّتاء وأيام الثلوج في تلك الرّياض والمروج، وحين بدأت رياح الرّبيع في الهبوب، وأخذ البرد في الذوبان كقلوب العاشقين، وشرعت عروق الأرض في الضّرب والخفقان كقلوب المشتاقين صدرت الأوامر لأطراف البلاد إلى الأمراء والأجناد كي يحضروا إلى «قيصرية» المحروسة. ... ¬

(¬1) في الأصل: تشاكر (لفظ عربي الأصل)، لعله تساكر: إظهار السّكر وليس بسكران.

ذكر السبب في قصد السلطان فتح صحراء «القفجاق»، وأخذ «السغداق» علي يد «حسام الدين چوبان»

ذكر السبب في قصد السلطان فتح صحراء «القفجاق»، وأخذ «السغداق» علي يد «حسام الدين چوبان» (¬1) حين قدمت المظلّة المستولية على العالم من العاصمة إلى قيصريّة، دخل فجأة من باب المحكمة تاجر كان برأسه دوار من جّراء سعيه حول العالم كالكرة وراء النّفع والضرّ، فقد كان يداوم على عبور البحر، ويلقي بنفسه مستسلما فوق الماء كزهرة «النّيلوفر» (¬2) رغبة في تحصيل الذّهب؛ فأطلق لسانه بالثّناء كالسوسن، ورفع يده بالدّعاء كالرّمان، وقال: قد اخترت- أنا العبد الفقير- التّعب في طلب الرّزق، ولم أر للسّعادة والطّرب وجها في ليل أو نهار، وصرت أجرى وأركض خلف القوت (الذي ما تحصّل أبدا) فوق رطب الدنيا ويابسها، وأضعت العمر العزيز بددا في الجرى وراء الكثير والقليل لإشباع ما بالبطن من جوع. واتّفق لي أن ادّخرت في قصر الفناء (الدنيا) بضعة دراهم بمئات من ضروب الغصص وصنوف المتاعب والآلام/، وأخذت أتسمّع وأنا في ديار القفجاق والرّوس إلى ما اشتهر به هذا البلاط من عدل وشرف، ومن اغتباطي بذلك ولّيت وجهي صوب هذه الأعتاب، وأردت أن أعبر البحر، فلمّا بلغت معبر «الخزر»، أخذوا مني كل مالي الذي أنقصت عمري في تحصيله. ولم يكن قد أتمّ كلامه بعد حتى بدأ شخص آخر في الجهر بشكواه قائلا: كنت قد عقدت العزم على القدوم إلى هذه النواحي من جهة «حلب»، فلمّا ¬

(¬1) في الأصل: أمير چوبان: أي أمير الرعاة، ولم يرد هذا اللقب ضمن ألقاب الدولة المملوكية التي أوردها القلقشندي في صبح الأعشي، وهي ألقاب تماثل ما كان لدى دولة سلاجقة الروم. وربما كان هذا اللقب من ألقاب تلك الدولة بخاصة. (¬2) نبات مائي ينبت في الأنهار.

وصلت إلى ولاية «ليفون» أخذوا المال مني، فإن لم يكن لدى النصارى خوف من هذا البلاط فمن أين لنا بعدل سلطان يعالج لواعج هذا الظلم. وما إن أتمّ كلامه حتى صرخ آخر قائلا: أنا من سكان أنطالية، وضعت كل ما ادّخرته طيلة عمري في سفينة، وبادرت بالسّفر بحرا، فهجم الفرنّجي علينا وأخذ كلّ ما كان معنا وأسر الكثيرين. حين وصلت هذه التظلمات إلى مسامع السلطان، تملّكه الضيق والاضطراب كأسد العرين، وأمر بأن تجبر أحوال التجّار في الحال، والتفت إلى الأمراء ومشاهير الديوان، وقال: «الروّم إن لم تغز غزت»، إنّه مثّل مشهور، لقد تركنا تلك الطوائف آمنة ساكنة لفرط ما بنا من رحمة، فإن لم يقدّروا هذه النّعمة (¬1) لفرط غبائهم وأخذوا في الإضرار بتجّار الدّيار الّذين قد بذلوا أرواحهم ثمنا لرغيف خبز (1) فصاروا مشرّدين في الأقاليم خوفا ورعبا، فإننا لا شك نعذر بل نمدح ونشكر إن نحن أرسلنا الأبطال وفرسان الرّجال (1) لمعك أذن أولئك الضّلّال. ثم أمر ملك الأمراء حسام الدين- چوبان- وكان من قدماء الأمراء وكبار قادة السلطنة، بأن يسلك طريق «سغداق» /، وسير الأمير مبارز الدين جاولي چاشني گير والأمير كمنينوس بجيش كثيف إلى أرمينيا، وأمر بأن تسوّى كلّ قلعة قائمة على ممر جبلي بالتّراب كخطّ من يظنّ ظنّ السوء، وأن ينكبوا أعداء دين الله نكبة يظلّ أثرها في قلوب الكفار وأرواحهم حتى القيامة، وأرسل ¬

(¬1) قارن أ. ع، ص 304.

مبارز الدين أرتقش بجيش جرّار نحو الساحل، وسوف نبين فما يلي بالترتيب ما كان لكل واحد منهم من آثار الشجاعة والصرامة (¬1) ... ¬

(¬1) ترك المؤلف هنا فصلا بأكمله في الأوامر العلائية، بعنوان: ذكر إقامة السلطان بموضع «كيقبادية» في أثناء غيبة الأمراء. انظر الأوامر العلائية ص 307 - 310. وقد أشار المؤلف إشارة عابرة إلى مضمون هذا الفصل في مقدمة الموضوع التالي.

ذكر عبور جيش السلطان بحر الخزر بقيادة حسام الدين چوبان

ذكر عبور جيش السلطان بحر الخزر بقيادة حسام الدين چوبان أقام السلطان زمنا في «كيقبادية» بقيصرية، وظلّ يتطلّع لسنوح الفتوح. وحين عبر جيش الملك البحر قاصدا الخزر، رأى أهل السّغد- وكانت بومة الخذلان وطائر الإدبار قد قبعا على شرفات قصر زمانهم- أنّ غابة من السّفن والقلاع قد جرت فوق سطح البحر، فأرسلوا رسولا لاستقبال ملك الأمراء قائلا: إنما نحن مماليك ملك العالم نطيع أمره، فما الباعث على إرسال جيش كثيف إلى شاطئ البحر، فإن كان قد ظهر فتور في أداء الجزية [ورسم] (¬1) العبور فيمكن سداد ما عليها من غرامة. وإن كنتم تقصدون الرّوس ندبنا لكم وجعلنا بصحبتكم وخدمتكم شبابا كأشجار السّرو الطليقة لكي يحاربوا الأعداء بالسّيف ولا يضنّون بأرواحهم. وبعثوا برسول عن طريق الصحراء إلى ملك القفجاق أن أعلام عساكر السلطان قد توجّهت في «الجواري المنشآت في البحر كالأعلام» (¬2) إلى هذه/ النّاحية، والبحر لا يظهر للعيان من تواثب الجيش وحركته الدائمة. فأرسل ملك القفجاق في الحال إلى ملك الرّوس، وجمعوا من قبائل الرّوس والقفجاق وعساكرها عشرة آلاف فارس، وانتظروا ما يعود به رسول أهل السّغد من جواب من لدن الأمير حسام الدين. ولما وصل الرسول إلى ملك الأمراء بدأ يتكلم كلاما واهنا كبيت العنكبوت، ¬

(¬1) إضافة من أ. ع ص 311. (¬2) إشارة إلى قوله تعالى في سورة الرحمن: آية 24 وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ.

وقال: المتوقع من ألطاف ملك الأمراء أن يعود لكي نزيل- بقدر الإمكان- مخالفة التّقصير التي ارتكبناها، ونحن نقدّم الآن خمسين ألف دينار في مقابل الأمان الذي يعطيه لنا هذا الجيش. فاستبدّ الضّيق بملك الأمراء وسط البحر، وقال: أنا ما جرّدت الجيش لكي أقايض سوق القتال بذهب كاسد، أو يرجح عندي خبط أصحاب الفشل بالقول الفاسد لكلّ رسول وقاصد لإحباط العمل، فحين تلقّيت أمر ملك العالم خضت لجّة البحر بسفينة القلب، فكل من يلوي عنقه عن أمر السلطان لن أجعل طوق عنقه إلا رباق الخذلان. أما من يدخل رأسه في دائرة الطاعة فلن يذوق مني إلا لذّة المن والسلوى. وأعاد الرّسول يائسا. وعبرت العساكر كلّها البحر بالتّوفيق والسّلامة، وحطّت رحالها من الرّطب على اليابسة. ثم إن الأمير حسام الدين أقام حفلا، وظل إلى منتصف الليل يعطي الطّرب حقّه مع أمراء العساكر. وعند الفجر جاء فارس من الطّليعة وقال: ظهر الجيش الغدّار للتّرك. فلما سمع القائد ذلك أمر بأن ينهض الجيش وأن يرتفع نداء الطّبول ليصل إلى سمع «جبريل» (عليه السلام) ثم قال للقادة: يجب علينا قبل أن تصل إليهم قوّات في ميدان المعركة لمددهم من الرّوس والسّقسين أن نضع على أبداننا الدّرع مكان الكفن، وأن نبذل في مواجهتهم أقصى ما يمكننا من جهة، لكن/ بشرط أن نصطبر حين ينتظم الجيش وتتشكّل الصّفوف وتئنّ الأرواح خشية مفارقة الأشباح (الأبدان)، إلى أن يشن الترك هجومهم الثّاني، فتسكن ريح صولتهم. فإذا ما علمنا طريقة قتالهم حملنا عليهم دفعة واحدة كي نظفر بحسن الذّكر. ومن الجانب الآخر كان التّرك يقولون: لقد عبر جيش كالنّار بمعونة الهواء

فوق سطح الماء إلى هذا التّراب (¬1)، وقصد هذه الولاية فينبغي أن نستثير أبداننا ونركّز بأفئدتنا على الحرب والقتال. وحين خرج الطّاووس المشرقيّ من الحجاب الفستقيّ، بدأ القتال بالنزّال بين الجانبين، فأخذوا يفصلون الأرواح عن الأشباح من الصّباح حتى الرّواح، ويملأون بالسّيوف والرّماح أرض الرّوس الواسعة بدماء الأوداج، وكما جبلت الورود الصفراء (¬2) في هذا الفضاء اللازورديّ مضت عساكر الطّرفين إلى مضارب الخيام. فأقام الأمير حسام الدين حفلا، ونادى على الأمراء والقادة الشّامخين برؤوسهم، وقال في أثناء العقار: كل واحد منكم أكثر إعزازا مني في خدمة عرش السلطنة، ولكن لابد من التّوافق والتّآزر إذا حمي الوطيس. واليوم، ظهر بعض الفتور عن تصعيد القتال مع الأعداء، فإن لم نضحّ بأرواحنا غدا وفعلنا ما فعلناه اليوم لن يبقى لنا اسم ولا ذكر في الدنيا، فنكون بذلك كخصومنا سواء بسواء. فأثنى عليه العظماء والقادة، وقالوا: أجل، نحن مماليك سلطان العالم، لكنّك لو أمرتنا لاجتزنا بحصان الامتثال لأمرك ذروة قصر الإثني عشر بابا (¬3) والقبة الزّرقاء كومضة البرق. فنحن إنّما نذعن لكلّ ما تأمر به. ¬

(¬1) جمعت هذه الجملة عناصر الكون الأربعة- حسب مقولة الفلاسفة القدماء- وهي: النار والهواء والماء والتراب. (¬2) يعني النجوم. (¬3) يبدو أنه يشير إلى بروج السماء، وتبلغ عدّتها في علم الفلك عند القدماء اثني عشر برجا.

وفي الجانب الآخر، كان التّرك قد شهدوا من جيش الرّوم ما ثخن من جراح (¬1)، واستغرق سائرهم بالبدن والرّوح/ في نهر من الدّم، فقالوا: أهل السّغد والخزر يقترفون الذنب وتحلّ علينا نحن غرامته (¬2) ونقمته، ولكن أما وقد وقع ما وقع فلا يجوز التّسليم مهانة وذلّة. وفي الصّباح الباكر حين ألقت الشمس درعا ذهبية في هذا البحر اللازورديّ على الماء سارع حامل أعلام الجيش المنصور برفع الرّاية، فتحرّكت الجنود، وأخذت السّحابة التي كان وبلها المناصل والمعابل في الإمطار، فهجم الأمير حسام الدين هجمة الأسد، ودفع الجيش في إثره الخيول دفعة واحدة، فلما نصبوا طرّة الرّاية (¬3) في مقابلة ريح النّصر في جيش التّرك، ومزجوا بضرب الحسام دماء عروق أولئك الكفّار العاقّين بالتّراب، وسلك التّرك طريق الهزيمة، وعدّوا الفرار العاجل نصرا مؤزّرا. ودفع الجيش بتلك الحملة الشّجاعة لملك الأمراء حسام الدين جوبان عن عشّ القلب ما كان يتردّد عليه من أحزان، ورفع راية السّرور فوق السّماوات العلى، وتوجّه الجيش بحسن الطّالع صوب المخيّم الذي كان وكرا لعقاب الظّفر وقد نال المقاصد والأماني. ... ¬

(¬1) في الأصل: زخم العجم: يعني جرح العجم، ولعله يعني به الجرح القاتل المهلك. (¬2) في الأصل: فراسة، والتصحيح من أ. ع. ص 317. (¬3) كانت بعض الرّايات تتميّز بأن: «في رأسها خصلة من الشعر تسمي الجاليش» (صبح الأعشى 4: 8).

ذكر تذلل ملك الروس وطلبه الصلح من ملك الأمراء حسام الدين چوبان رحمه الله

ذكر تذلّل ملك الرّوس وطلبه الصلح من ملك الأمراء حسام الدين چوبان رحمه الله حين علم ملك الرّوس بفساد حال رجال القبجاق، قال: إنّ جلب البلاء على النّفس وسلوك طريق الحرب مع هؤلاء القوم ذوي المخالب الحادة أمر بعيد عن العقل والكفاءة، وحيثما انتظم الأمر بالشّعر والنّثر كان الّلجوء لسفك الدّماء بالحسام والسّنان فجاجة ونقصا. فاختار رسولا ذا هيبة وفهم، صحيح العقل، وكتب رسالة تشتمل على ما يلي: أطال الله في عمر السلطان علاء الدين كيقباد ألف عام. ليكن معلوما لملك الأمراء أنني مذ سمعت أنّ رايات ملك العالم الغالبة وجيشه قد توجّهت إلى هذه/ النواحي، اضطربت الروح في جسدي، وأنا لا أدري ما الأمر؟ ومن الخصم والمنازع؟ فإن كان جيش القبجاق قد وقع بحماقته في الضّلالة، وأهرقوا الكثير من الدّماء الزكيّة على الأرض هدرا، فما أنا إلا مملوك للسلطان، بكلّ إخلاص ويقيني أنكم إن استخلصتم هذه الدّيار بالسيف البتّار فلن يسلم لكم ضبطها وإصلاحها دون قائد، فاعتبروني أنا نفسي المملوك الذي استعملتموه لها. وإنني أتوقّع من حضرة ملك الأمراء أن يبذل شفاعته في هذا الباب، وأن يرسل للسلطان مبيّنا له خشوع هذا المملوك المسكين وخضوعه. ثم إنه أرسل الرّسول بتحف كثيرة من الجلود والكتّان الرّوسي وعشرين ألف دينار لملك الأمراء. فلما اقترب السّفير من الجيش، ودقّق النّظر في الجند

والضّبط والرّبط وخيمة العظمة وديوان الرّفعة (¬1) سكت وقد طار لبّه وهمس مناجيا الله قائلا: يا ربّ الأرباب. وحين أبلغ ملك الأمراء بوصول رسول ملك الرّوس أمر بأن يتقدم المضيفون لإنزاله في خيام الإكرام بمنتهى الحفاوة. وفي اليوم التالي أرسل في طلب الرّسول. وكان قد أمر قبل ذلك بتزيين الباب وخيمة القيادة بكل أبّهة ممكنة بأن يصطفّ هناك عدد من الشّباب المختارين وقد لبسوا السّلاح، وأن تنتظم خيول الدّورية بالطّوق واللّجام بمحاذاة الخيمة، وأن تغرق باقي الجيوش فوجا فوجا في الحديد المذهّب من مفرق الرّأس إلى حافر الحصان فتقف في كل ناحية وقد وضعت الرّماح على الأكتاف. استراح المبعوث الرّوسي زمنا عند باب خيمة القيادة ثم دخل حضرة ملك الأمراء، فوضع رأسه بكل مذلّة على الأرض، وسلّم الرّسالة والتّحف فقبلها ملك الأمراء جميعا وفرّقها في الحال على الجيش، وأبقى عليه عنده ثلاثة أيام ثم دعا الأمراء في اليوم الرّابع/ وقال: طالما أنّ الروسي سلك طريق المداهنة فعلينا نحن إذن الإبقاء على أحكام السلطنة وشرعتها، ثم نعرض أمره على حضرة السلطان. فما الذي ترونه صوابا في هذا الشأن؟ قالوا جميعا: ما من فكر ولا رأي أفضل من هذا. فعندئذ استدعى الرّسول وقال له: إن السلطان لا يلقي أحد أبدا في هاوية الهوان دون ذنب اقترفه، بيد أنه لا يسمح بإهمال ولا إمهال في البطش بالمتمرّدين، (بيت): - لو جعلت من نفسك مملوكا له لأصبحت ملكا، ¬

(¬1) قارن أ. ع، ص 321.

ولو أذعنت لأمره لأصبحت موفّقا مسدّدا. والمأمول أن يغدو كل ما يبتغيه ملك الرّوس ميسّرا، وأن يعود ما يرسيه من أسس المحبّة بالنّفع عليه. ثم صرف الرّسول مزوّدا بالخلع والهدايا، وبخلعة من الخاصّ السّلطاني وقلنسوة سلطانية مغرقة، إضافة إلى رسالة مشحونة بفنون التّعاطف. ثم إنه أرسل بعد ذلك إلى «سينوب» و «قسطمونية» من الغنائم مالا يدركه الحصر. ***

ذكر فتح «السغداق» على يد حسام الدين چوبان في أيام السلطان «علاء الدين كيقباد» رحمه الله

ذكر فتح «السّغداق» على يد حسام الدين چوبان في أيام السلطان «علاء الدين كيقباد» رحمه الله حين سمع أهل «السّغد» خبر كسر جيش «القفجاق» صارت قلوبهم واهنة وظهور آمالهم مكسورة، وشرعوا في إعداد العدّة وإرهاف الأسياف وتثقيف الأسنّة، وتأهبّوا للحرب. وبعد أسبوع نزل القائد بجيش جرّار على باب المدينة، وفي اليوم التالي حين أخذ وجه الملك السّيّار في التألق من تحت المظلّة السوداء للّيل، تحرّك الجيش فوجا فوجا كجبل من الحديد، واندفع الشباب المحاربون بالسلاح/ والعدّة من داخل المدينة نحو الجيش، وظلوا في حراب وطعان وضراب حتى نسخت آيات النّور بالظلام وطلعت كواكب الفلك الأزرق. ورغم أنّ عددا لا يدركه الحصر من العساكر المنصورة صار مجروحا وأصبحت دماؤهم في ميدان المعركة مسفوحة فإنّ نقش وجود السّغديين قد أمّحى من لوح الوجود بحدّ السيف البتّار. وفي اليوم التالي حين أضاءت مظلة الشّمس الذّهبية فوق المهد المظفّر للفلك، وتبددت ظلمة الدّيجور بأشعّة النّور، تحّرك الجيش من جديد، وخرج المشاة من المدينة للقتال وقد انطوى الدّرع على الدّرع، بينما أثار الفرسان الأبطال الغبار (¬1)، وتقاطر بعضهم وراء بعض، وحاربوا بالنّفط والأقواس والسّهام والحجارة. فولّى جند الإسلام الأدبار- بحكم ما كانوا قد تواضعوا عليه فيما بينهم- وأعطوا ظهورهم [للعدوّ] دفعة واحدة، فصار السغديّون من الفرح ¬

(¬1) قارن أ. ع، ص 326.

كأنّهم الأسود في الشجاعة، وانطلقوا في إثرهم. فلما ابتعدوا عن المدينة عطفت عليهم العساكر المنصورة، وأعملت فيهم السّيوف الجسورة، وانهمر سيل من دماء الكهول والشّباب في الأودية والشّعاب. ولما حلّ اللّيل، أوى السلطان ذو السّلب الذّهبى (¬1) إلى فراش حريريّ أسود، بينما ولّى ملك الأمراء وجهه- بتأييد الإله وعظمة دولة السّلطان وقوّة الجيش- إلى حيث يستريح. وبعد تناول الطّعام جعل الرأي للمدام، وقال: أما وقد طفحت الأرض بدماء الثّمالى الأشرار، فلا بأس من أن نعدّ دم الدّنّ- لإصلاح شأن البدن- حلالا وإن كان حراما، فلم يبق من دم العدوّ صاف ولا عكر. وحين رأى كبار السّن في المدينة أن لم يعد من الشّباب إلا أسماؤهم، إذ فجرّ حدّ السيف من سحاب وجودهم سيولا، قالوا: إن بضعة آلاف من الشّباب البارع في القتال المتقن لدقائقه قد ولّوا وجوههم شطر إقليم العدم، فكانوا كالهشيم تذروه رياح هيبة هذا الجيش، ولم يكن بوسعهم الصّمود لغارة واحدة، فلا حيلة لنا بعد هذا إلّا التضرع/ والتذلّل. فهذا الذي حدث لنا ما نجم إلا عن ضعف الرّأي وفساد التصوّر، ولن يفيد «جزع وقلق بعد ما جرى الكتاب وسبق» (¬2). ثم إنهم أرسلوا بضعة أشخاص ممن عرفوا بالخبرة وطول التجربة إلى ملك الأمراء، فقبّلوا الأرض حين سمح لهم بالسّير، وقالوا: أجل، قد بلغت ¬

(¬1) زرين سلب: والسلب، ما يسلب، يقال: أخذ سلب القتيل، ما معه من ثياب وسلاح وغيره ... (المعجم الوسيط) ويعني به الشمس. (¬2) وردت هذه الجملة في الأصل باللغة العربية، قارن أ. ع، ص 327.

جرائمنا وزلاتنا أقصى الغايات، لكن الأمر يسهل علينا إن جعلنا لطف ملك الأمراء لنا شفيعا، فالواجب عليه في هذا الاقتدار الاقتداء بمالك ذي الفقار (¬1) حيث يقول: «إذا قدرت على عدوّك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه»، سوف نقدّم كل ما يأمر به من خراج، ونؤدي كل ما يفرضه علينا من جزية (¬2)، ونتحمل غرم أموال التّجار التي ضاعت في هذا السّاحل، ونبادر بطاعة كل من يسمّيه لإمارتنا وخدمته عن صدق نيّة وإخلاص طويّة. حين رأى ملك الأمراء ذلك التضرّع قال: ما تسبب في حدوث هذه الواقعة إلا شؤم رأيكم وسفاهة الشباب الذين سقطوا بصحراء الملحمة «كلحم على وضم» (¬3) فعليكم بالانتظار الآن حتى أبعث واحدا من الأعيان لحضرة السلطان، وأتشفّع لديه كي يمنّ عليكم، فإن فعل أمنتم من جور دورة الفلك الجافي، وما وقعتم بعد ذلك أسرى لمثل هذه المحنة، بل لن تروا بعد من أذى أبدا. فلمّا تبدّت للرّسل ألطاف ملك الأمراء من خلال تلك الألفاظ آبوا إلى المدينة سعداء، وقصّوا على أهلها ما كانوا قد رأوه وسمعوه، وظلّوا الليل بطوله: كل من كان لديه شىء أتى به؛ فجمعوا خزانة هائلة من كل نوع من النّاطق والصّامت والصّاهل والنّاطق (¬4). وعند الفجر حين أطفئ قنديل القمر، وأشعل شمع الخميلة الزّرقاء، أمر ¬

(¬1) يريد به أمير المؤمنين عليّا بن أبي طالب كرّم الله وجهه. (¬2) قارن أ. ع، ص 331. (¬3) كذا في الأصل، بالعربية. (¬4) كذا في الأصل: ناطق: ولعلها: ساكت.

ملك الأمراء بأن يلبس الجند بأسرهم السلاح، وجلس هو مع القادة أمام خيمة القيادة، فاندفع النّاس صغيرهم وكبيرهم/ من باب المدينة، واختلطوا [بالجند] كما يختلط الذّئب بالحمل لعدل ملك الأمراء. وقدّمت الهدايا، وصاح قادة السّرايا: ليرفع سائر الجند يد التّنغيص والشّحناء عنهم من الآن فصاعدا. ثم أمر ملك الأمراء بتجهيز سفينة سريعة للغاية- كانت تسبق القمر في السير- لكي تقلّ أخماس الخاصّ السلطاني مع الهدايا الأخرى في صحبة رسول قد تحلى بآداب خدمة الملوك برسالة مشتملة على ذكر كل ما جرى من أحوال. فلما وصل الرّسول إلى الدّيوان وأبلغ البشارة بفتح «السّغداق» وكسر جيش «القفجاق» ومهادنة ملك الروس، أمر السلطان وهو يشعر بارتياح بالغ بأن يطلق سراح المسجونين، كما أمر بتسليم ذلك التّاجر [الذي كان قد سبق له أن استغاث واستعدى، والتمس العون من عدل السلطان ومرحمته] (¬1) إلى الرّسول. أمّا الرّسالة التي كتبت لملك الأمراء فقد اشتملت على شكر المساعي الجميلة التي تجلّت من جانبه هو والعساكر في تلك المعركة. ثم إنه سيّر الرّسول بالخلع السلطانية التي تم إعدادها لملك الأمراء وسائر القادة من خزانة ثياب السلطنة. وقال السلطان: قد تجاوزنا بشفاعة ملك الأمراء عن سفاهة السّغديين، ومنحناه ما اقترفوه من ذنب، لكن بشرط أن يحلّ المحراب والمنبر وشريعة النبي عليه الصلاة والسلام شعارا وقانونا عوض الوثن والنّاقوس، وأن يرّدوا ما قد أخذوه من تجّار الديار. فإن هم أدّوا هذه المهمات على الوجه الأكمل، يعود ملك الأمراء بالجيش في حفظ الله العادل. ¬

(¬1) زيادة من أ. ع، ص 331.

وما إن وصل الرّسول حتى تلي الأمر على رؤوس الأشهاد، وتحصّل للرّجل التّاجر عوض كلّ درهم دينار. وخرج الجيش بأسره في أبهّته وزينته، وأقيم منبر كأوائل الربيع مزيّن بالثياب الفاخرة [الملوّنة] (¬1)، ووضع المصحف المجيد/ فوق طبق ذهّبي، فأخذه ملك الأمراء ووضعه على رأسه وأمسك راية السلطان بكفّه، ودخلوا المدينة بكلّ أبّهة وجلال، وأذّن المؤذّن على مكان عال، وحطّم النّاقوس المعمول به عند النّصارى تحطيما كاملا. وفي أقلّ من أسبوعين [شمّروا عن ساعد الجد وأخذوا في تشييد مسجد جامع كبير فأتمّوا بناءه] (¬2)، ثم نصبوا مؤذّنا وخطيبا وقاضيا، وأخذوا من أبناء كبار الأعيان عددا من الصّبية رهينة، وتركوا أحد القادة مع فوج من الجيش حامية هناك، وحين تّم إعداد السّفن وتجهيزها رجعوا بضمان السّلامة في صحبة ملك الأمراء إلى حضرة السلطان (¬3). ... ¬

(¬1) إضافة من أ. ع، ص 333. (¬2) ما بين الحاصرتين ترجمة لنص الأوامر العلائية (ص 333)، وقد فضّلناه على الأصل لركاكة عبارته واضطرابها. (¬3) قارن أ. ع، أيضا.

ذكر توغل مبارز الدين جاولى مع كمنينوس في ولاية الأرمن وفتح القلاع

ذكر توغّل مبارز الدين جاولى مع كمنينوس في ولاية الأرمن وفتح القلاع حين قصد الأمير مبارز الدين جاولي چاشني گير وكمنينوس بلاد أرمينيا وفقا للأمر الأعلى، رأوا طريقا صخريّا وعرا ضيّقا، وبعد المنطقة الصخريّة غابة، وفي كلّ مكان قلاع وبقاع وأماكن ومساكن، فتشاوروا، ثم أجمعوا على ألا يجتازوا قلعة إلّا إذا فرغوا منها. فوصلوا أولا إلى «جنجين»، وكانت قلعة حصينة ومعقلا مكينا ضخما. فأمر «چاشني گير» بأن يصعد الجند الجبل فوجا فوجا، وأن يثبّتوا الأعلام ويدقّوا أوتاد خيام كأنّها الجبال الرّواسي على قلالها، ويضربوا طوقا (¬1) حول القلعة ذائعة الصيت. وفي اليوم التالي حبسوا الأنفاس عن أهل القلعة، الذين كتبوا رسالة- لما لحقهم من عجز ومذلّة- إلى ليفون [تكور] (¬2) أفصحوا فيها عن ما هم فيه من عجز وانعدام حيلة، فاستعان ليفون بالفرنجة وكتب رسائل استغاثة، فتجمّعت منهم جماعة، حميّة وعصبيّة/، ولحقوا بليفون. استقرّ جيش المليك على الجبل بينما نزلت جنود الخصوم في الصّحراء. فلمّا حلّ اللّيل، وأقاموا الحفل، قال الأمير مبارز الدين في أثناء المعاقرة: إن هذا الجيش الذي قد جمعه ليفون من كلّ مكان ليس له في نظرنا وزن بوجه من الوجوه، وفي الغد عند انتصاف النّهار حين تتوسط الشمس ميدان السماء نحيط مع جملة الشّجعان بالكفّار، ونبذل ما في الوسع، والمأمول أن يتحقق وعد الحقّ [تعالى] بنصرة أعوان الدين. ¬

(¬1) كرداكرد: حول (أ. ع ص 337) وفي الأصل: كرداركرد، وهو تصحيف. (¬2) زيادة من أ. ع، أيضا.

[وعند السّحر، ومع طلوع طاووس الخميلة الموشّاة بالزّخارف، أقبل الصبح بضحكة طير الحجل البري، فمضى الجيش يرغي ويزبد كالأسد الهصور وارتفعت في الجوّ من ألوان الأعلام روضة ورد أخرى. وشرعت الرّدينيات (¬1) في العمل، وحين شمّروا الأردان (¬2) عن الأبدان، أخذت السّمهريات (¬3) بالأبصار كأنها اليقظة والسّهر، وحل السّهم من صميم القلوب محل الفكر والتذمّر، وأصبح السّيف البتّار محمول الأعناق بدل الرؤوس، وسلب جيش الإله بعظمة المليك لباس الوجود من قلب العدو بحملة واحدة] (¬4)، فانطلق الصّراخ من أعماق الكفّار وقامت القيامة. ثم إنهم شنّوا حملة واحدة على عساكر السلطان، فأمر القائد بأن يحكم الفرسان كافّة الإمساك بالعنان، فأحكم الجند الصّفوف إحكام جبل «ثهلان» وفقا لأمر البطل، حتى أخمدت ريح الفشل جيش ليفون. وعندئذ انطلقوا جميعا كالشّهب الرّاصدة للعفاريت وراء ذلك القبيل من عبدة الطّواغيت، فضاقت بهم الصّحراء على اتّساعها بسبب ضربات السّهام، وأخذ الفرسان يتعقّبونهم بخيولهم، فما من أحد وجدوه منهم إلّا أطاحوا به. وفرّ ليفون إلى الجبل مع عدد من أولئك/ الظّلمة مطأطئا رأسه كالمتظلّمة. أما جيش السلطان فقد عاد بفضل الباري من المعركة بالكثير من الغنائم والعديد ¬

(¬1) ردينيات، كذا في الأصل، كلمة عربية، جمع رديني وهو الرمح المنسوب إلى ردينة وهي امرأة اشتهرت بتقويم الرماح. (¬2) جمع ردن، وهو أصل الكم. (¬3) جمع سمهري وهو الرمح الصّلب العود، ويقال إنه منسوب إلى سمهر وهو رجل كان يقوّم الرماح. (¬4) إضافة من صاحب المختصر لا وجود لها في الأوامر العلائية، انظر أ. ع، ص 338

من أسرى الفرنج وكفّار تلك الدّيار، ووقف بحذاء القلعة. فلما شاهد أهلها تلك المحنة من عل استبدت بهم الحيرة وركبهم الاضطراب. وأمر الأمير مبارز الدين بإقامة الحفل، فتغنّى المطربون بمقدّمة رائعة في زوال نوبة دولة الكفار، وشنّفوا الأسماع بشجاعة أبطال الحرب بأحلى نغم وأصدق قول. وفي الصّباح نزل أحد القساوسة من القلعة وقد تخضّبت عيناه بالدماء، وقبّل الأرض أمام قائد جيش السلطان وقال: قد بقينا جميعا عاجزين عن العمل، ونثرنا نقد العمر في ريح الخيبة من تعب الحصار، لقد سعيت ورأسي بين كفّيّ إلى القائد، لأنظر ما هو صانع. فقال الأمير مبارز الدين: لا ذنب لكم في الأمر، وإن كنتم تبغون صلاح أمركم فيتعيّن عليكم أن تتركوا السلاح وذخائر القلعة حيث هي، وتحملوا كل أمتعتكم الشّخصية وترتحلوا إلى حيث تريدون، ولتكونوا آمنين من ناحية الجيش. فطلب القسّيس الحجّة على ذلك، فكتب في الحال كتاب الأمان. فأخلوا الحصن، ونصبت راية السلطنة على شرفات القلعة بالظّفر والبهاء. وكتبت في الحال رسالة مشتملة على كسر الأعداء وخفض عيش سائر الجند، ورفع لواء السعادة، وضمّ تلك القلعة إلى سائر الممالك. وذكر الأمير فيها أنّ المعاقل والحصون في هذه المناطق كثيرة، والأمل أن يتيسر فتحها جملة،/ لكن لا بدّ من إرسال المعدّات والأسلحة. وما إن انطلق الرسول، حتى وصل مبعوثو ليفون فجأة، وعبّروا عن الذلّ بألف ضراعة قائلين: إن كان السلطان يعاقب على قدر الجرم، فحسب هذا

المملوك المقترف للذّنب ما ناله من تنغيص وتوبيخ في هذا التاريخ. إنني ألتزم بأن أرسل كلّ سنة قصيرة عن طويلة ألف فارس وخمسمائة قوّاس، وأشرّف السّكة بألقاب السلطان الموفّق، وأضاعف الخراج. فبعث ملك الأمراء رسولا بالرسالة إلى حضرة السلطنة. وقد بلغ ما فتحه من القلاع الأخرى بتلك الولاية حتى عودة الرسولين ثلاثين قلعة نصب على كلّ منها محافظا. ثم إنه أرسل رسالة أخرى إلى السلطان بأن الولايات قد اتّصل بعضها ببعض، ولم يبق فيها من حصن غريب. وضرب السلطان صفحا عن جرائم ليفون، وأرسل عهدا، كما أنفذ أمرا مشتملا على إزجاء الشكر لمحامد ملك الأمراء وكمنينوس ومساعيهما. وأمر بأن يتمّ استيفاء أموال التجار بأسرها من الوجوه التي تيسّرت بفتح القلاع، وأن يتمّ تسليم القلاع والولاية للأمير قمر الدين، ويسمح للجند بالعودة إلى الأوطان، ويشخص ملك الأمراء وكمنينوس بمفردهما إلى الحضرة السلطانية لإبلاغ ما حدث مشافهة، وينالا أتمّ حظوة باللقاء الميمون للسّلطان. ***

ذكر فتح قلاع السواحل على يد مبارز الدين أرتقش

ذكر فتح قلاع السّواحل على يد مبارز الدين أرتقش يوم أن انطلق ملك الأمراء حسام الدين أمير چوبان ومبارز الدين جاولي إلى السّغداق وأرمينيا، إنصرف مبارز الدين أرتقش الأتابك (¬1) - وكان مملوكا للسلطان- نحو السّواحل/، فاستحوذ على أربعين قلعة مشهورة مثل «مافغا» و «اندوشنج» (¬2) و «أنامور». ورغم أن الفرنجة قد شحذوا في أوّل الأمر أسنان الخصام كالتّماسيح وأزمعوا الحرب، لكنّ تواتر الضّرب من قبل أهل الحرب على يوافيخهم حملهم على إرخاء عنان الانهزام مضطرّين، وسلّموا الحصون والقلاع، وركبوا السّفن في جنح الظّلام، وسلكوا طريق الأمصار. فلما رأى سكّان القلاع أن بقاعهم قد خلت من الحامي والحارس والرّامح والتّارس اضطرّوا لطلب الأمان وسلّموا القلاع للمماليك. وقد عرض الأمير مبارز الدين أخبار الفتوح وقال إن أمور السّواحل قد ضبطت وفق رأى المماليك ورغبتهم، فإن أذن لنا السلطان انطلقنا صوب جزر الفرنج. فأمر السلطان بأن تؤدى أموال التجّار بالتّمام والكمال، وأن يسمح للجيش بالعودة إلى قاعدته- وأن يشخص مبارز الدين إلى الدّيوان حاملا معه كلّ جليل وحقير من المهمّات. ووفقا للأمر الأعلى [اتخذ ما كان ضروريا لتدبير الأمر، .. ثم عزم ¬

(¬1) الأتابك: لقب شرفيّ، ومعناه الأمير الوالد، و «ليس له وظيفة ترجع إلى أمر أو نهي، وغايته رفعة المحل وعلو المقام» (صبح الأعشى 4: 19). (¬2) في الأصل: اندوسح، كذا بدون نقط، والتصحيح من أ. ع، ص 343.

على الارتحال للمثول في الحضرة السلطانية] (¬1) حيث قبّل اليد، ونال تلك السّعادة في قيصريّة المحروسة. وكان فصل الخريف قد حلّ حين فرغ الأمراء جميعا من مهامّ الفتوحات وهرعوا إلى البلاط في قيصريّة، وكانت الأشجار قد تعوّدت على نثر الذهب بدلا من نثر الفضّة، واتجه السلطان إلى «أنطالية» فقضى الشتاء هناك في مرح وحبور. ... ¬

(¬1) إضافة من أ. ع، 343 - 344 يقتضيها السياق.

ذكر وفود الملك علاء الدين داود شاه صاحب أرزنجان على حضرة السلطان ووصف أرزنجان ونواحيها

ذكر وفود الملك علاء الدين داود شاه صاحب أرزنجان على حضرة السلطان ووصف أرزنجان ونواحيها لما جلس الملك علاء الدين داود شاه بعد أبيه الملك فخر/ الدين بهرامشاه على سدّة الملك والقيادة، انقاد له ملك مدينة أرزنجان وولايتها التي تعد أفضل البقاع وأنزه الأماكن والرّباع، حيث يجري نهر الفرات دبرها، وهبّات نسيم صباها ملؤها البنفسج والورد البرّيّ. ومع أنه كان ذا نصيب وافر من كل أنواع العلوم، فإنه انشغل بارتكاب المناهي ومتابعة الملاهي والاستبداد بالرأي والاستماع لهذيانات قرناء السوء. ولم يكن يعير أذنا صاغية لنصائح كبار السّن والمشفقين أولي الرأي والتدبير. وعقد العزم على التّنكيل بأمراء مملكته وتصفيتهم، فقتل بعضهم وكبّل البعض الآخر، وآثرت طائفة الارتحال عن ديارها وأموالها حذر الموت، فأزمعت الجلاء مولّية وجهها شطر السلطان، فعرضوا عليه سوء أعمال الملك وقبح فعاله فأكرم السلطان وفادتهم. وكتب رسالة خطّية للملك علاء الدين بوجوب إطلاق سراح الأمراء السّجناء وردّ ما قد أخذه منهم، فإن استرضاهم وعمل على تهدئة خواطرهم أرسل إلينا بذلك (¬1). فاعتذر الملك بأنّ هؤلاء الجماعة سلكوا معي طريق الجفاء واللّامبالاة، ووافقوا خصومي، وحين تحققت من أمرهم عاملتهم بما يستحقّون، فبدأ رسول السلطان بتوجيه العتاب، حتى حمله بالوعد والوعيد على إطلاق سراحهم، وكفّ يده عن أموالهم وممتلكاتهم. وأعاد الرسول مقضيّ الوطر. ¬

(¬1) قارن أ. ع، ص 346.

وحين وصل الأمراء الأسرى إلى أعتاب السلطنة حظوا بالمودّة الكاملة والعطف البالغ، وعيّن كل واحد منهم إقطاعات مشبعة مغنية باقتراح «كمال الدين كاميار». ولمّا سمع الملك علاء الدين أن كبار رجال مملكته قد انتظموا في سلك مماليك دولة السلطنة، وأن التكبّر والغرور قد أخذ من أتباع أولئك الأمراء لذلك كل مأخذ فشرعوا في التحكّم في نّواب أرزنجان والإزراء بهم؛ بلغ به الضيق مبلغا من الحسد والغيرة لذلك فأعدّ- وهو في حالة من الحزن والألم والخوف- من أسباب السفر ما يليق بأبواب السلاطين وما تتم به استمالة خواطر الأكابر من التّحف والهدايا. وانطلق صوب بلاط السلطان، فلما لحق بحدود قيصريّة سارع ضيوف الشّرف الخاصّ لاستقباله، وحملوا إليه الكثير من الأنزال والأحمال. وفي اليوم التالي خرج السلطان لاستقباله، وحين وقع نظر الملك على مظلّة السلطان، نزل من فوق الحصان، فتقدّم الأمراء بأمر من السلطان وأركبوه ثانية، فلمّا اقترب أراد أن ينزل مرّة أخرى فمنعه السلطان، وتشّرف الملك بتقبيل اليد، وهو على ظهر الحصان، فاحتضنه السلطان، وأخذ يسأله عن المشاقّ التي تكبّدها في الطّريق، فالتمس الأعذار بعبارة عذبة حلوة، وكان السلطان قد تجشّم الركوب متبادلا معه الحديث سائلا إّياه عما طرأ من أحوال. ولما اقترب من المدينة لوى السلطان العنان صوب «كيقبادية» بينما ذهب هو مع الأمراء وضيوف الشّرف إلى النّزل الذي كانو قد حدّدوه سلفا. فنصبوا خيمة الملك التي كان قد أحضرها معه من «أرزنجان»، وهي ذات حبال حريريّة، وظلّت الموائد ممدودة بأنواع الأطعمة ثلاثة أيام. وفي اليوم الرّابع حمل الأمير «نجم الدين ولد الطّوسى» إلى الملك- بأمر السلطان- عشرة آلاف دينار وحزاما

مرصّعا وقلنسوة مغرقة بالجوهر وجبّة ملكيّة نسجت بخيوط الذّهب وحصانا عربيّا من جنائب الخاصّ، ورحب به. وبعد ذلك أحضر ضيوف الشّرف السّندات/ لوكلاء نفقة الملك، فكانت: سندا بألفي رأس من الغنم، وسندا بألفي حمل من القمح، وسندا بمائتي حمل من الحمر، وعشرين ألف درهم نقدا قيمة الحوائج من الشّمع والسّكر وغيره (¬1). فأزجى الملك الشّكر على النّعم الجزيلة لعاهل العرش والسيف وقضى ذلك اليوم مع أهله في سرور ورغد. وفي اليوم التّالي لبس الخلعة السلطانية وركب حصانه، فلما وصل عند السلطان أعاد تقبيل اليد، قال السلطان: لعلّ الملك قد استراح من عناء الطريق، وهجع على فراش الراحة، فأثنى الملك علاء الدين على عاهل الزمان والمكان ثناء كثيرا، ثم تنزّها سويا في صحراء المشهد. وحين عطف السلطان العنان نحو الإيوان، أدى الملك الخدمة ثم ذهب إلى خيمته. فلما انقضى نصف النهار قدم «نجم الدين ولد الطّوسي» من قبل السلطان بخلعة أعلى قيمة من الأولى، كما أحضر أمير الإسطبل خيولا عربيّة مزيّنة بطوق ولجام من الذهب، وأبلغا سلام السلطان، إذ أن الملك قد تكبد المشقة زمنا، (بيت): - ما دمنا نشرب الخمر اليوم معا، فلنضرب عن الدنيا صفحا بإرادة من قلوبنا. لبس الملك الخلعة وركب على مركب من مراكب الخاصّ، فلما بلغ ¬

(¬1) قارن أ. ع، ص 349.

الإيوان وجاء نظره على السلطان وضع رأسه على الأرض فنهض السلطان وبالغ في إعزازه وتكريمه، وحين دارت الكؤوس بضع دورات أخذ الملك يثب من مكانه بسبب غرور الشباب والشعور بالسّعادة، وترك عنان الكلام في يد اللّسان الذي تنتج منه معظم آفات الروح، وأخذت تصدر عنه كلمات لا ينبغي أن تقال، وحركات لا يصحّ أن تفعل، وكان السلطان يكرمه بجر ذيل العفو على هفواته. وظلّ عشرة أيام يحضر كل يوم في الحفل الملكي الذي تستنير به الدّنيا. وفي اليوم الحادي عشر أتى الأمير/ «نجم الدين» من قبل السلطان بخزانة يكفي ما بها نفقة ألف ملك، والتمس العذر. وفي اليوم التالي كتبت على يد «سعد الدين كوبك» الترجمان معاهدة محكمة بخطّ السلطان الذي هو الجوهر المنثور (¬1)، جاء فيها: طالما أنّ داود شاه يحفظ عهدنا من صميم القلب، ولا يصادق خصومنا، ولا يرسل إلى كل دار من الديار من المكاتبات ما يدلّ على الشّحناء والبغضاء، فلابد أن يشهد من جانبنا المدد والتوفيق والجاه، أما إن باشر خلاف ما تم الاتفّاق عليه وما هو متوقّع منه فسوف يلقى من الجزاء ما يستحقّه. وأرسل المعاهدة إلى الملك وأمره بالانصراف قرير العين إلى عشّه وداره، فقدم في اليوم التالي لوداع السلطان، وتوجّه صوب مستقرّه، وظلّ السلطان مدّة في قيصريّة، ثم انطلق إلى السّاحل. ... ¬

(¬1) كهربار، وفي الأصل: كهرباء، وهو تصحيف. (انظر أ. ع. 351).

ذكر «قباد آباد» وأمر السلطان بإعمارها

ذكر «قباد آباد» وأمر السلطان بإعمارها حين طوى السلطان تلك المراحل على الصّافنات الجياد، واجتاز العاصمة، وصل إلى متنزّهات «أكريناس» فرأى موضعا لو أن «رضوان» بلغه لاختار مفارقة الجنان وعضّ بنان الحيرة (شعر) - أرضها من الخضرة فيروزيّة الّلون، امتلأت- بما عليها من زهور الشّقائق- ببقع الدّم. ... - في كلّ ركن عين لماء الورد، كأنها قطرات من النّور لاقطرات من الماء - الجو معبّأ برائحة المسك والأرض مملوءة بالمناظر، يرتع الصّيد من كل نوع فيها بلا وجل. ... - وهناك بحر أخضر ماؤه عذب كاللّبن، مملوء بموج كأنّه حرير الصين. - وهناك عين جارية على طرف البحر يغدو كبير السن برؤيتها شابا. فأصدر السلطان أمرا إلى سعد الدين كوبك- الذي كان أميرا للصّيد والتّعمير- بأن يبدأ ببناء عمارة تزري بجمالها ببيدر الفردوس، وتحطّم بإبداعها رونق السّدير والخورنق (¬1)، على أن يعلي بناءها. وخطّ السلطان وفق تصوّره واختياره رسما لتلك العمارة، وعيّن لكل موضع قصرا. فأتم سعد الدين كوبك إنشاء ما يبعث على البهجة من مناظر جميلة، ويبثّ النشّاط في الرّوح من جواسق مريحة، عقدها المقوّس يسامت قبّة الفلك الأعلى، ¬

(¬1) السدير والخورنق قصران بناهما ملوك المناذرة في العراق، الأول قرب الحيرة والثاني قرب النجف، وكان يضرب بهما المثل في الفخامة والبهاء.

قد غار وجه الفلك من ترابها الفيروزي واللّازوردي، فصار ذا لون أزرق مزعفر. هي أكثر زينة من أرواح ذوي العفّة، وأعظم اتساعا وأعظم وأوفى متاعا من صحراء القناعة؛ وذلك في أقلّ مدّة وأقصر زمان وفقا للأمر النافذ. ثم إنّ السلطان لوى عنانه بعد تزويقها وتنميقها صوب «أنطالية» و «علائية». ***

ذكر أسباب أطماع السلطان في انتزاع أرزنجان من قبضة تملك علاء الدين داود شاه

ذكر أسباب أطماع السلطان في انتزاع أرزنجان من قبضة تملّك علاء الدين داود شاه حين انطلق ملك أرزنجان منصرفا من خدمة السلطان ولحق ببلاده حمله بطر/ الشباب على أن يرسل رسالة إلى الملك ركن الدين جهانشاه ابن مغيث الدين ابن قلج أرسلان صاحب «أرزن الروم» قال فيها: رغم أنّي نلت في هذه المرّة من حضرة السلطان الكثير من الذّهب وطلاوة القول (¬1)، فإني لا آمن من قبل أمرائي المقيمين هناك، والمتيقّن أنهم لابد أن يحرّضوه على طردي من هذه المملكة، فإذا ما تيّسر له ذلك فلن يبقي عليك أو يحابيك، رغم كونه ابن عمّك أيهّا الملك، وسوف أفرّق حقائب الخيل والخزائن خفية بين جموع الجند، وأصرف همّتي هذا الشّتاء كلّه على ذلك. فإن كنت حريصا على الإبقاء على رأسك وملكك، فأظهر الوفاق معي في هذه القضية، وابذل ما في وسعك من عمل. وكانت عنده مطربة تضرب على العود، هي فريدة دهرها ووحيدة عصرها في الجمال، وخفّة اليد، والدّعابة، والغناء وحسن الألحان، وروعة الصّوت، ودقّة الأداء. فبعث بها مع الكثير من الهدايا إلى الملك الأشرف. وكان فحوى رسالته إليه: أنني أجعل قلعة «كماخ» فداء لأتباعك ومما ليكك كي تسلمني بدلا منها في بلادك موضعا خصيبا (¬2) أقضي به ما بقي لي من عمر- قلّ أو كثر ممّا لا علم لآدمي به- وأنا فارغ البال آمن. كما بعث برسالة بنفس المعنى مع الكثير من الهدايا إلى السلطان الغازي ¬

(¬1) في الأصل: زور زبان خوش، وهو تصحيف، راجع أ. ع، 354. (¬2) في الأصل: حصنت، وهو تصحيف، راجع أ. ع، 356.

جلال الدين خوارزمشاه (¬1). وأرسل مكتوبا إلى علاء الدين «نو مسلمان» (¬2) يقول فيه: إنهم لو اغتالوا السلطان وبعثوا روحه الطاهرة إلى عليين، فإنه سيسلّمهم قلعة «كماخ» بما تشتمل عليه من ذخائر، وسيجعل من «أرزنجان» - وهي مستقرّ دولة آبائهم من قديم- مركزا لدعوتهم [الإسماعيليّة]. فلما بلغت هذه/ المعاني سمع السلطان أغرق في الضحك وقال: لقد اختلط عقل هذا المسكين وانقلب به عرشه، (بيت): - لأن أمره لم يتيسّر بالذّهب، ... فإنّني أمتشق له سيفي البّراق وحين وضع ماشطو الغيب لعروس الرّبيع المسك في الأكمام والورد في الجيوب، اعتزم السلطان على الرّحيل من السّاحل متوجّها إلى منطقة «قباد آباد» وظلّ هناك شهرا، وعزم من ثمّ على التوجّه إلى «قيصريّة» دون إبطاء. وقد نهض «الملك الأشرف» بفعل تحايل المطربة وخداعها، وأرسل ¬

(¬1) السلطان جلال الدين خوارزمشاه، تولى حكم الدّولة الخوارزمية بعد وفاة أبيه علاء الدين محمد سنة 617، فحشد الفلول المبعثرة من القوات الخوارزمية ونازل بها المغول فأوقع بهم هزائم متكررة، مما اضطر «چنكيز خان» إلى التحرّك بنفسه لمحاربته، فهزم جلال الدين الذي فر إلى بلاد الهند، ثم عاد مغرّبا مرة أخرى بعد أن أعاد تنظيم صفوفه، وتشتمل الصفحات التالية من هذا الكتاب على وصف فريد لجانب من الفترة الأخيرة من حياته، وقد توفي مقتولا سنة 628 هـ. (¬2) نو مسلمان: هو جلال الدين الحسن المعروف ب «نو مسلمان» أي المسلم الجديد. جلس على عرش الدولة الإسماعيلية في «ألموت» سنة 607، فأظهر الحيدة عن المذهب الإسماعيلي، وحمل أتباعه على عدم الغلو واتباع رسوم الشرع، وأقام علاقات وطيدة مع الخليفة العباسي وسائر ملوك الإسلام الذين اغتبطوا بهذا التغيير، وقد توفي سنة 618. (انظر: محمد السعيد جمال الدين: دولة الإسماعيلية في إيران، طبع مصر 1975 م، ص 225، وما بعدها).

«الحاجب» لمدد الملك [علاء الدين]، فجاء وأقام بأرزنجان مدّة، ثم عاد خائبا. ولقد حال آمراؤه الكبار بينه وبين إظهار الآراء الفاسدة إعلان البضاعة الكاسدة، وقالوا إن الصواب أن نحمل أبناء الملك إلى السلطان رهينة ونلتمس الأعذار عن تلك الأفعال، ونرفض بعضها بالإنكار والجحود، فاستحسن الملك ذلك، وأرسل الأبناء في صحبتهم إلى حضرة السلطان. وكان السلطان قد سمع من قبل بتلك الأمور، فأمر أمراء السلطنة بالتوجه كلّ واحد على حدة بالجيش الذي يتولّى كل منهم قيادته إلى حدود «أرزنجان» و «كماخ»، حتّى تجمع فجأة في تلك المناطق من العساكر المنصورة حشد هائل، وأغلقوا طريق القلاع كي لا يلجأ علاء الدين فجأة إلى قلعة منها فيطول الأمر. ووفقا للأمر الأعلى تجمّع على باب كل حصن جيش هائل. وحين ارتدّ الملك خائبا من كل النواحي أخذ يبحث عن وسيلة يذهب بها/ إلى حضرة السلطان. وفجأة أبلغ بأن موكب السلطان قد اجتاز تخوم «سيواس» بجنود لا حصر لها، ولحق بحدود أرزنجان، فجاء للاستقبال مضطرا دون إعداد هديّة أو تقدمة مع عدد من خواصّه، والتقى في الطّريق بالأمراء الكبار، فسارع الأمراء إليه وتعانقوا، وأبدوا أبلغ التّعاطف، وأرسلوه إلى حضرة السلطان في صحبة الصّاحب ضياء الدين. لم يذكر السلطان شيئا قطّ مما كان قد نقل إليه عنه، بل توددّ إليه، وأنعم عليه فأقطعه «آقشهر قونية» مع «آبكرم»، وبعث به في صحبة غلمانه وقادة جيشه القدماء إلى «آقشهر». كان الملك «علاء الدين داود شاه» قد ازدان بأنواع العلوم سيّما النّجوم، وكان يتقن أجزاء المنطق والطّبيعي والإلهي إتقانا كاملا، كما كان يتمتع بنصيب وافر من الرياضي. وكان ينظم شعرا كالماء الزّلال بل كالسّحر الحلال. وفي

تلك الأيّام أرسل هذا الرباعي لحضرة السلطان: أيها المليك، إنّ قلب أعدائك قد أوجعه الألم، ووجه الخصم قد اصفرّ خوفا منك والحقّ أنه برغم ما أعانيه من غصص وآلام فحسبي أن يكون لي في ملكك «آب كرم» (أي ماء حار) وخبز بارد غير أنّه بدد ذلك الملك القديم بشؤم القرناء الأشرار، والنّدماء المفسدين والجلساء الجاهلين. لنعد إلى ما كنّا فيه. وفي اليوم التّالي دخل السلطان المدينة بعون الله، فلمّا استخلص ممالك «أرزنجان» أعطاها للملك «غياث الدين كيخسرو» جدّ سلاطين الوقت، وصرف مبارز الدين أرتقش لكي يكون أتابكا له، وخصّص لهم الكثير من الخزائن وما لا حصر له من الجند ولما كان قد علق بالخاطر الشّريف للسلطان غبار من جهة «الملك الكامل» وأولاد/ «العادل» [كانت همّتة منصرفة دائما نحو غزو الشام للمبادرة باجتثاث جذور أبناء «صلاح الدين» و «العادل» و «شيركوه». فلما منح أرزنجان للملك غياث الدين] (¬1) فوّض ولاية العهد للملك «عزّ الدين» (¬2) حفيد الملك العادل، وحمل الأمير على الحلف بذلك. كما فوّض ولاية الشام إلى الملك «ركن الدين»، وكان أيضا من [أبناء] الملكة «العادلية» (¬3). وقد ارتجل «نظام الدين أحمد ¬

(¬1) إضافة من أ. ع، 359. (¬2) يريد به الملك عز الدين قلج ارسلان بن السلطان علاء الدين كيقباد نفسه. (¬3) فى الأصل: العادلة. وسيرد لقبها فى سائر المواضع بعد ذلك العادلية. وهى بنت الملك العادل الأيوبى، وكان السلطان علاء الدين كيقباد قد تزوجها لتوطيد أركان ملكة بدعم علاقاته بإخوتها ملوك الشام والجزيرة (انظر ما سلف، ص 150). وانظر ما حل بالملكة العادلية وابنيها «ركن الدين» وأخيه «عز الدين قلج أرسلان» الذى ولاه أبوه ولاية عهده، فى ص 253 - 254 من هذا الكتاب.

الأرزنجانى» (¬1) في ذلك الوقت هذا الرّباعي: قد أضأت صبحا من أجل «الشام» (¬2) ... حين جدّدت رسوم الإسكندر وجعلت الشّمس راية للملك ... وقننت (¬3) قوانين السلطنة وحين فرغ السلطان من مهمات أرزنجان واتخذ الاحتياطات اللازمة للقلاع، أمر الجيش بأن يهاجم «أرزروم» و «وكوغونية»، «حتى يرى أي طريق يسلكه معنا الملك ركن الدين جهانشاه والملك مظفّر الدين محمد». ولما علم الملك «ركن الدين» بورود العساكر تقدّم بقدم التّواضع والتّذلل وسيّر الكثير من التحف لخدمة الجيش، وأرسل أميرا من أمرائه مع كنز رائع إلى حضرة السلطان، وأعطاه رسالة مضمونها: ما أنا إلا مملوك مسكين، فإن كان الأرزنجاني الجاني قد تمرّد، فقد نال جزاءه. أنا مملوك طالما كنت حيّا، أقود حصان الإخلاص مسرعا في طريق الولاء للسلطان، والمأمول أن تتلى في شأني الآية الشريفة وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (¬4) وألّا يوجّه السلطان عتابا لي- أنا المملوك البريء- على ذنب «داود شاه». ¬

(¬1) من مريدي الصوفي المعروف جلال الدين الرومي، النظر: ذبيح الله صفا، تاريخ أدبيات در إيران، 3: 1283 طبع طهران 1352 هـ. ش. (¬2) كلمة «شام» فيها تورية لمعناها الفارسي، وهو الليل، وبهذا يكون معنى الشّطر: قد أضأت صبحا بالليل. (¬3) في الأصل «مفتن» وهو تصحيف. انظر أ. ع، ص 359. (¬4) الأنعام- الآية 164.

ذكر فتح «كوغونية» واستنزال الملك مظفر الدين

فلما وصل الرّسول لحضرة السلطان، وعرض المشافهات والتّحف/ شمله السلطان بعنايته لفرط كرمه، وقرّر له أرزن الروم وفقا لملتمسه، وأصدر أمرا بأن يكف الجيش عن النهب والغارة في ولايته. ذكر فتح «كوغونية» واستنزال الملك مظفّر الدين أصدر السلطان أمرا بأن ينطلق «الأتابك أرتقش» بجيش حاشد لمحاصرة «كوغونية» ويستحوذ عليها بالصّلح أو بالحرب. ومن إن وصل «الأتابك أرتقش» في أول يوم حتى انخرطوا في حرب هائلة، وقتل عدد كبير من الناس من الدّاخل والخارج، ورغم ما كان لدى الملك من ذخائر ومصانع تزوّده ببحار جارية من الماء، فإنّه خشي من انقسام أهل القلعة، وفكّر في وخامة العاقبة، وأرسل رسولا إلى الأتابك لكي يشفع له عند السلطان، كي يمنحه إقطاعا في الممالك المحروسة بدلا من القلعة، فبعث الأتابك الرسل إلى الحضرة السلطانية في هذا الشّأن فاستبشر السلطان بهذه البشرى، واستدلّ بها على بعد غور الملك وكفاءته، وأنعم عليه- على سبيل التملّك- ب «رمّان» و «نهر كالي» - في حدود الشام- و «أربسوي» التي كانت منشأ أصحاب الكهف ومقام «دقيانوس» (¬1). كما فوّض إليه «قيرشهر» المحروسة كإقطاع معاف ومسلّم، وكتب بذلك كلّه ميثاقا ومعاهدة وأرسلها إليه هو وأولاده الثّلاثة: فخر الدين سليمان، وعز الدين سياوش، وناصر الدين بهرامشاه، مع خلع نفيسة في صحبة الرّسول. ولمّا رأى مظفر الدين المواثيق والمعاهدة استبشر وشعر بالتّمكين، وأخلى القلعة، وانطلق هانئ البال إلى «قيرشهر» المحروسة وأمضى/ الأيام حتى آخر العمر في دعة وراحة، لدرجة أن السلطان «غياث الدين كيخسرو» (¬2) رغب في خطبة كريمة من بناته، فرفض، وقال: إن السلطان [غياث الدين] قد شغل ¬

(¬1) الملك الجبار الذى فر منه ومن قومه أصحاب الكهف، انظر تفسير ابن كثير. (¬2) هو ابن السلطان علاء الدين كيقباد، وقد أصبح غياث الدين سلطانا بالفعل، ولكن

ذكر إرسال السلطان غياث الدين ليتولى ملك أرزنجان

بالتهتّك والخرف، ولا يصلح أن يكون صهرا لأسرتنا. وبسبب هيبته وحرمة مكانه لم يتلقّ عقابا من جانب السلطان بل إنّهم اعتذروا له. وانتقلت كريمته المعصومة إلى الحرم الجليل للسلطنة بحكم الشّرع. وكان أبناؤه من بعده ينظر إليهم بعين التعظيم والإجلال من قبل سلاطين الرّوم. ذكر إرسال السلطان غياث الدين ليتولّى ملك أرزنجان حين فرغ من فتوح القلاع لوى عنان الفتح نحو «سيواس» المحروسة، وأمر «مبارز الدين أرتقش» أن ينهض بإعداد عدّة الملك لغياث الدين كيخسرو، فدخل الخزانة بتصويب «نجم الدين الطوسي» وأعدّ وهيّأ من العدّة ما لو بعث «بهمن» و «شابور» (¬1) لرؤيتها لعضّ كلاهما أصابع الدّهشة والخجل. فلمّا أعدّت الأدوات وتم تنظيمها، توجّه [أرتقش] إلى تلك الحدود بالطّالع والسّعيد، يصحبه من الجند ما لا يدخل حدّ الحصر، وحين بلغوها تجشّم الملك مشقّة الخروج للاستقبال، ثم جلس على عرش التّوفيق، ومدّ بساط العدل والمرحمة، وخصّ الكافّة بالعطف. ولما بلغ السلطان خبر حدبه على الرعيّة تضاعفت العوامل الباعثة على مساندته عنده. وبعد أن لحق غياث الدين بأرزنجان، أقام السلطان مدة قليلة لاستقبال الرّسل القادمين من أطراف العالم، ثم عزم على التوجّه إلى «قباد آباد» و «أنطالية» و «علائية» وظلّ هناك من أوائل الرّبيع حتى شهر «نيسان». ¬

بعد وفاة أبيه فى شوال سنة 634 (كما سيأتى). وعلى هذا فإن غياث الدين لم يكن قد أصبح سلطانا عند تقدمه لخطبة تلك الأميرة، غير أن المؤلف درج على أن يعطى لقب «السلطان» لكل من تولى الحكم، حتى أثناء ذكر أحداث سبقت توليه السلطنة. (انظر مثلا: ما يلى ص 304، هامش 2) (¬1) بهمن وشابور من ملوك الفرس القدماء.

ذكر وصول قاضي القضاة محيي الدين طاهر ابن عمر الخوارزمي برسالة من قبل السلطان جلال الدين خوارزمشاه

ذكر وصول قاضي القضاة محيي الدين طاهر ابن عمر الخوارزمي برسالة من قبل السلطان جلال الدين خوارزمشاه حين انهزم السلطان الشّهيد جلال الدين بن علاء الدين محمد تكش في حدود الهند من جيش المغول، ووقع في نهر السّند المتلاطم موجه، ثم نجا من تلك الورطة، قام «وفاملك» - وكان في أوّل أمره من أوباش الفتيان في تلك النواحي- بالعناية بأمر السلطان بما قدّمه من خدمات حازت الرّضا والقبول، فلقّب لذلك بملك الوفاء، وفوّض إليه حكم تلك الدّيار. ووصل السلطان إلى مدينة مراغة بشراذم متفرّقة من الجند كانت قد لحقت به بعد أن تمزّق جيشه في تلك المعركة. وقد أرسل قاضي القضاة محيي الدين- وكان من فحول أئمّة خوارزم يشار إليه بالبنان في علم الكلام، ومتفّق عليه في سائر العلوم- لافتتاح سبل المودة مع السلطان «علاء الدين كيقباد»، وكان هذا الأمر من أهمّ المهمّات عنده، فأرسله إلى حضرة السّلطان بهذا المكتوب، وهو من منشآت «شهاب الدين كوسوي»: إمداد السّلام، وإيراد التحيّة، ووظائف الثّناء، ورواتب المدح التي تدفع إلى مشامّ القلب بنسيم العقيدة الصّافية والطويّة النّقية، وترسّخ قاعدة الوداد ومباني الاتّحاد؛ كلّما توجّهت نحو المجلس السامى للسّلطان المعظّم الذي عهده كعهد جمشيد (¬1) وهو ذو القرنين هذا الزّمان، علاء الدين وقطب الإسلام ¬

(¬1) جمشيد: أحد ملوك الفرس القدماء، عرف بالعدل وبسطة الملك.

والمسلمين، فلك المعالي شمس الأعالي، ظل الله في العالمين، افتخار آل سلجوق ملك الملوك والسلاطين، برهان أمير المؤمنين، دام ساميا وبحمى الملوك حاميا، استبدّت بي الرّغبة في إحراز سعادة الاجتماع، ونازعتني نفسي إلى إدراك كرامة اللّقاء، وهو رهن بمواتاة الحظّ ومساعدة الزّمان على النّحو الذي لا يمكن تقريره بالكتابة مهما كان القلم حادّا وسيّالا/: «الخطّ ما يغني بما لا ينفذ». ولئن كان تعبير الزّمان وتقلّب الأدوار قد سدّ من قبل هذا باب المكاتبة والمراسلة الذي يسلو به الأصدقاء وقت الهجر والفراق، فمن الآن فصاعدا يجب بذل ما في الوسع لرفع حجاب المغايرة والغربة، وفتح باب المودّة، والاتّحاد، فيتّخذ الجانبان شعارا من قول القائل: «تمسّك إن ظفرت بودّ حرّ ... فإن الحرّ في الدنيا قليل» إذ المشاركة في مشايعة سنّة الجهاد والمحاربة أمر ثابت بحمد الله ومنّه، والمساهمة في توفيق الدّين والملّة أمر حاصل: «وأولى الناس بودّك وخلّتك من وافقك في دينك وملّتك». فمن جهة سلاطين المغرب فإن ذلك المجلس السامي، دام ساميا، واسطة سدّ الثغور، وقمع أهل الكفر والفجور. ومن جهة ديار المشرق، فنحن نعمل بدورنا لإطفاء نار فتن الكفّار بالسّيف البتّار، إذن- ومع وجود العديد من القرائن من نفس الجنس- لو لم نفتح طريق المباسطة ونصبح متشاركين متشابكين في جذب المنافع ودفع المضار: «فأي النّاس نجعله صديقا ... وأي الأرض نسلكه ارتيادا»

هذه الرسالة يتم تحريرها من مدينة «مراغة» - عمّرها الله. وهي في هذه الساعة مركز لراياتنا (¬1)، حفّت بالميامن والنّصر والظّفر، وذلك في أواخر جمادى الآخرة، جعله الله غرّة للتوفيق وصبحا للسعادة على المجلس العالي. وبحمد الله ومنّه، وبيمن همة دولّة المجلس السّامي- دام ساميا- وتأييده فإنّ أحوال دولتنا وأعمال مملكتنا تستوجب مائة ألف حمد. فلقد اجتمعت كل أسباب التّوفيق وعدّة العمران من اجتماع الكلمة وإجماع الأمّة ووحدة الصفّ ومطاوعة أكابر الملوك ومشايعة الأسر الكبيرة/ وضبط الملك الموروث والمكتسب دفعة واحدة باسم الله تعالى. ولقد دخلت- في مدة غيبة راياتنا السلطانية عن هذه الممالك- مملكة طويلة عريضة من ديار الهند في حوزة عمّالنا، واستقرّت همتّنا كلّها وانعقد عزمنا برّمته على الانتقام من أعداء الدين، وشفاء قلوب أهل الإسلام. وما من شك في أنّ المجلس السّامي- دام ساميا- قد بلغ به الابتهاج والسعادة كلّ مبلغ لما اتصف به حال ملكنا ودولتنا من رونق وازدهار؛ حيث تستمر استنامة الرعيّة واستقامة العمّال. وإن كلّ سعادة تحصل لمجلسكم نحسب أنفسنا ذوي سهم ونصيب فيها. والآن، وقد وجّهنا إلى حضرتكم الصّدر المعظّم العالم المجتهد قوام الملك مجير الملّة والحقّ والدّين، شرف الإسلام والمسلمين، علّامة الزمان باقعة العصر، افتخار خوارزم وخراسان، ملك النّواب، قاضي القضاة في الممالك، أبا الملوك والسلاطين طاهر- أدام الله تمهيده وحرس تأييده، فهو واسطة عقد الأكابر، ¬

(¬1) قارن أ. ع 369.

وخلاصة زمرة المفاخر، ومن قدماء أعيان الحضرة وبقايا أركان الدولة- قرنت بالخلود بمزيد التّقريب ومزيّة التّرحيب المخصوص، وهو في معظّمات الأمور مشار إليه ومتّفق عليه، وسوف يفصح شفاهة برسائل تفتح الطّريق وتزيل عن مرآة القلب غبار الغربة والمغايرة، ويذكر عيار معاركنا التي يعرفها حقّ المعرفة، مما يوجب رفع حجاب المباينة والغربة وفتح باب الموافقة والوحدة حتى يكون تردّد الرّسل واختلاف المبعوثين والسفراء من الآن فصاعدا أمرا متواترا. وينبغي أن يصغي المجلس السّامي لكلامه- الذي كثيرا ما مرّ على مسامع الملوك والسلاطين- بسمع الرضا، وليعتبر كلّ قوله ورسائله مرسلا منّا، وأن يعتبر ما يعرضه من ملتمسات ويرفعه من مقترحات الكمّ والكيف لمصافّنا صادرا عن خلوص/ النيّة وصفاء الطويّة، [والحمد لله رب العالمين] (¬1). فبالغ السلطان في إكرامه، فكانا يركبان سويا وقت النّزهة، ورفع السلطان التكلّف وحجاب الأجنبية بينهما. واستقر رأيه على خطبة إحدى الأميرات من بنات السلطان جلال الدين- وقد ولدت له من أخت الأتابك «أبي بكر ابن سعد»، صاحب شيراز- للملك «غياث الدين كيخسرو»، فيجعلان بينهما قرابة ومصاهرة. وأرسل في الجواب هذه الرسالة من إنشاء «مجد الدين الطّغرائي الأسد آبادي»: حيث إن الله تبارك وتعالى قد جعل انتظام مفاخر الجواهر واجتماع غرائب ¬

(¬1) إضافة من أ. ع، 370.

المناقب في الذّات الشّريفة وطينة المجلس العالي للسّلطان المعظّم الإمبراطور الأعظم عاهل بني آدم الإسكندر الثّاني، صاحب قران العالم، جلال الدنّيا والدّين، علاء الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، مظهر الحقّ بالبراهين، ملك الملوك والسلاطين أدام تضاعف جلاله ولقّاه في الدّارين نهاية آماله، وصرف عين الكمال عن كماله بمحمد وآله، فقد تجلّت- بحمد الله- براهين اللّطف العميم والكرم الجسيم كأصدق ما يكون و «ليس من الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد» وهكذا أراد أن تكون المبادرة باستمالة الآراء (¬1)، والافتتاح باستعطاف الأهواء- وهو رأس مال الملك وأساس التّوفيق- من جانب حضرتكم لكي يصبح التيسير قرينا لأقسام التعطف والتوّدد وأنواع التلطّف والتعطّف لذلك الجناب الكريم، بل جنّات النعيم: «أبى الفضل إلا أن يكون لأهله». ومن ثمّ أمر بافتتاح المكاتبة مع هذا المخلص، وأحرز قصب السّبق في رعاية قواعد الوداد، «غير مدفوع عن السبق العراب». فلما وصل خطاب العظيم، الذي يبعث على المباهاة والافتخار، اضطرم الشّوق/ الذي كان كامنّا في الجوانح ومتمكّنا في الصّدر فبلغت ألسنة نار الالتياع الثريّا: وأبرح ما يكون ألوف يوما ... إذا دنت الخيام من الخيام» علم الله أنه منذ أن تواترت الأخبار بحركة الرّايات المنصورة للانتقام من ¬

(¬1) زاد في الأصل كلمة: ازو: يعني منه، وهو تصحيف، انظر: أ. ع، 372.

الكفّار الملاعين، وشفاء صدور أهل الدين، سيّما الآن وقد لقيت بشائر علوّ الهمة، وفيض إمداد التوفيق سندا من مضاء عزيمة المجلس العالي للسلطان المعظم، فأخذت تزداد أمنية المباسطة في حضرته لحظة بلحظة، وتنشط الرغبة في المجازفة بمكاتبته. لكن لا يخفى عن الحضرة أنّ لهذا المخلص جهادا في الأركان الأربعة (للمعمورة) باستمرار رحلة الشّتاء والصّيف تحت ظلال السّيف. وهو نفس المعنى الذي تفضل به المجلس العالي في الخطاب الشريف حيث أشار إلى اقتران الجنس، وفيه كفاية للتمهيد للاعتذار. والأمر الثاني أنّ الله- عزّ وجلّ- أكرم تلك الحضرة بكرامة الافتتاح ومزية الابتداء فأراد لهذه اللّطائف أن تكون من نصيبه، ولم يكن من الجائز العمل بعكس ما قضت به الأقدار. أما وقد سمح بالمباسطة فسوف يزداد ملل الحضرة من تواتر المكاتبات. لقد وصل الجانب المحروس الصّدر الكبير للعالم مجير الدّولة والدّين، ظهير الإسلام والمسلمين، وبحر الملوك والسّلاطين، سنا الدّولة القاهرة، ضياء الأمّة الباهر، مجتبى الخلافة المعظّمة، ملك ملوك النّواب، قدوة الأكابر والصّدور، نعمان الزّمان، صدر صدور «خوارزم» و «خراسان»، وافتخار الدّنيا الطّاهر، أدام الله تمكينه، وجعل اليقين قرينه؛ فأبلغ بالمشافهات الشريفة، فهبّت بمطالعة ألطافه العميقة تلك تباشير خلوص العقيدة، وفي الأيّام/ القليلة التي قضاها هنا سلب القلوب بذكر المعالي السلطانيّة، وزاد من تمكّن الأرواح بتلك المكارم الملكيّة، وردّا عليه نال القائد «صلاح الدين» سعادة المثول في خدمتكم. والثّقة أكيدة في أنّه حين يتشرّف بالمثول في خدمة تلك الحضرة العظيمة سيلقى ما يقوله ويبديه بالجملة تعويلها، ولتحسبوه

ذكر وصول رسل السلطان جلال الدين للمرة الثانية

قول هذا المخلص، فتدعموا بذلك قاعدة المودّة التي أرسيتموها بتواتر المخاطبات وتعاقب المكاتبات: شعر لو كان فيما يراه من كرم ... فيه مزيد فزادك الله وذلك طالما استمرّ هذا المخلص على جادّة الخدمة، يسلك طريق التّقارب. والسلام. ولمّا وصل القاضي مجير الدّين إلى سيواس، عرض له مرض مهلك، فودّع الدّنيا وهو يعاني من الألم، فرافق صلاح الدّين التّحف والهدايا، ووصل إلى منطقة «أخلاط» في الوقت الذي كان السلطان مشغولا فيه بمحاصرتها. ذكر وصول رسل السلطان جلال الدين للمرّة الثانية اختار السلطان جلال الدين للردّ على [زيارة] صلاح الدين كلّا من الملك جمال الدين فرّخ الطشتدار (¬1) - وكان من المقرّبين لأبيه- وجمال الدين السّاوجي، ونجم الدين أبي بكر الجامي، وبعثهم بهدايا توفّرت له في ذلك الوقت وكانت موجودة في الخزانة، والاصطبل، وجعل برفقتهم اثنين من كبار الأمراء الخوارزميين، وزوّدهم بالوصايا البليغة في تعظيم منزلة السلطان وتوقير مكانته. ¬

(¬1) يعني المسؤول عن «الطشت خانه»: «وفيها يكون الطشت الذي تغسل فيه الأيدي، والطشت الذي يغسل فيه القماش ... وفي الطشت خاناه يكون ما يلبسه السلطان .. إلخ» (صبح الأعشى 4: 10).

وعندما بلغوا حدود الرّوم كان السلطان في «علائيّة». ووفقا للأمر عبر بهم المرشدون من تلك الممّرات الوعرة في الجبال والمضايق، مما لا يجول بخاطر العقاب في الأحلام عبوره لما به من أهوال ومخاوف. وأبلغ السلطان بنبأ قدومهم. فأمر بأن ينهض/ الأمراء الكبار لاستقبالهم بجنائب الخاصّ، وأن ينزلوهم بموضع نزه ذي بهجة، فظلّوا خمسة أيام بين الأنهار والكؤوس والمراعي لنفض غبار السّفر وإزالة وعثاء الخطر وعناء التّرحال. وفي اليوم السّادس حين خرج السلطان- الذي علا اسمه فسامت الشمس بالقبّة الزرقاء- أمر بأن يتوجّه «كمال الدين كاميار» و «ظهير الدين التّرجمان» للوفاء باحتياجاتهم، وتقديم الاحترام لهم، [وأن يسألوهم عن المتاعب التي قد شاهدوها في الطّريق والتّقصير الذي أبداه المضيفون] (¬1) ويدعونهم للمثول بين يدي السلطان. وحين بلغوا الأعتاب الملكيّة استولت عليهم الدّهشة وتملّكتهم الحيرة- برغم ما كان فيهم من غرور وعجب- فقبّلوا الأرض دونما اختيار منهم. فتفضّل وقام نصف قيام إكراما لهم، فسلّموا الكتاب وأبلغوا الرّسالة، ثم انصرفوا إلى مقرّ إقامتهم بعد الفراغ، وتلقّوا الإعزار والإكرام طيلة أسبوع كامل. وفي اليوم الثّامن أمر السلطان فأعد المجلس وتمّ استدعاؤهم للحضور، وجلس السلطان جلسة «جمشيد» (¬2) على عرش ذهبيّ مرصّع بالجواهر كان قد صنع له ليلقى به رسل الكبار، ووضع التاج الكيقبادي على رأسه. وبعد حمد ربّ العالمين، والصّلوات على روضة سيّد المرسلين قال للرّسل: ¬

(¬1) إضافة من أ. ع، ص 375. (¬2) الملك الفارسيّ القديم.

أبلغوا السلطان الغازي الخدمات الوافرة من جانب هذا المحبّ المخلص، واعرضوا غليان مراجل الشّوق المتزايد تزايد هممه العالية تطلّعا لتقريب مراحل الاجتماع، ولتقرّروا أن غاية ما كنّا نتمنّاه وزبدة ما كنّا نرنو إليه أن حسام انتقام السلطان طالما قد انتهى من قهر خصومه في «الأبخاز» ودخل الغمد، وطالما قد فرغ ذهنه العالي من فتح منطقة «تفليس»، فقد كان لابدّ له أن يهجع بضعة أيّام برسم التنزّه والتفرّج في مروج الرّوم كي تستجمّ مراكب/ الفرق ومواشي الجند، ويتبدل التلاقي بالفراق. ورغم أن وعاء مقدرة أمثال هذا المخلص يقصر عن الوفاء برعاية جنابه فحسبه أن يذعن ويطيع. أمّا الآن وقد تحقّق أنه صرف همّته لمحاصرة قبّة الإسلام «أخلاط» بتسويل أصحاب الأغراض، وما هم إلا شياطين الإنس (¬1)، فإنّ هذا الأمر يبدو بعيدا عن الرّأي السّديد؛ ونحن وفقا لحكم الحق تعالى: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ (¬2)، نجهر بالقول بأنه أولى به [أن يثني عنانه عن تلك المدينة ويقصد ملكا من ممالك المشركين. وهناك مصلحة أخرى من باب النّصيحة التي هي الرّكن الأهمّ والباب الأعظم للدّين والملك] (¬3) وهي أن يسلك مع جيش التّتار طريق المداراة والمهادنة، وأن يقرع- كلمّا تمكّن من ذلك- باب المصالحة من جانبه وبكلّ ما في وسعه (¬4)، وإنّه ليجول بخاطري وضميري أن ¬

(¬1) هذ نص عبارة الأوامر العلائية، ص 377، وعبارة الأصل مضطربة. (¬2) لقمان: الآية 17. (¬3) زيادة من أ. ع، 379. (¬4) «لأن عقلاء القرون الأولى وحكماء الأزمان السابقة قد قالوا إن الدخول في طريق المعاداة والخصومة مع قوم أقاموا دولة جديدة، سيّما وهم يتوكلون ويعتصمون بحول الله تعالى وحبله وقوّته في كل الموارد والمصادر ولا يبقون على جاف أو زان أو-

أرسل رسلا إلى «الإيلچيين» (¬1)، وأعتذر لهم عمّا بدر من السلطان» «علاء الدين محمد» (¬2) - أنار الله برهانه- من تعجيل، وذلك لصالح المسلمين أجمعين، كي تنطفئ جمرة الفتنة- التي استولت على أطراف الخافقين- بلين المقال وبذل المال. ولا شكّ أننا سوف ننقل هذه الفكرة من حيّز القول إلى الفعل، كي يكون ذلك معلوما لديكم. وقد بدا من الواجب إبلاغ هذا الأمر إلى المسامع الشّريفة للسلطان الأعظم لأنه يكون مشاركا ذا نصيب في هذا الصّدد. فإن جعل السلطان إنجاز الأعمال الرائعة رأس مال عمره، بأن يقلع عن سفك دماء أهالي الأرمن، ومحاصرة تلك الديار والدّمن وصرف العساكر عنها ودفعها صوب «أرّان»، وأرسل إلى جيش المغول وطلب الهدنة والصّلح، وتعهّد ألا يتوغّل في دار الإسلام بوجه الغدر وسفك الدماء- وهو أمر مذموم عاقبته شوم- لكي يستريح من/ التشرّد وأكل السّحت؛ فإنني لن أبخل بكلّ ما يجول بالخاطر من الجواهر والذّهب والفضّة، وما إلى ذلك من الخدمات. ¬

- فاسق أو سارق- أمر بعيد عن مسلك أولي الألباب وذوي الحصافة وأصحاب الدّراية» (الأوامر العلائية ص 379). (¬1) إيلچيان: كذا في الأصل، جمع: إيلچي: رسول، مبعوث، مندوب، ويبدو أن هذا اللفظ قد استخدم اصطلاحا في دولة سلاجقة الروم- للدلالة على المغول، كما سنلاحظ فيما بعد. (¬2) يعني به السلطان محمد خوارزمشاه (ت: 617 هـ) والد السلطان جلال الدين، وكان هو الذي استثار التتار فقضوا على دولته ودمّروا بلاد المشرق الإسلامي في أقصر مدّة.

أما إن أعرض عن هذه النّصائح، فالنّصيحة واجبة بحّق الإسلام وطريق الصّيانة للعالم، وعلينا بدورنا أن نعمل بما تقتضيه الآية: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما، فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ، فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (¬1). ونرى واجبنا جلب المنفعة ودفع الأذيّة، فإذا ما أصابتنا عين لامّة في خضمّ الموقف، نكون قد خرجنا من عهدة أمانة الباري تعالى وتقدّس، وبذلنا المجهود (¬2) في ذلك. أما إن أطلّ النّصر بطالعه من حجب الغيب فهو المراد، والبادي أظلم. فلما ودّع الرّسل الخدمة، أمرّ السلطان «ألتونبه چاشني كير» أن يستعد للرّحيل للردّ على [خوارزمشاه] وألّا يبخل ببذل كلّ دقيقة من دقائق الطّنافس والنّفائس. وأمر بأن ينطلق بصحبته ألف من الفرسان المشاهير الأبطال ممن عرفوا بطول القامة وضخامة الجثّة والوسامة وفرط الشجاعة. فلمّا تمّ تدبير الأمور انطلقوا، وتوجّهوا من الحضرة السلطانية مباشرة إلى الطريق. فلمّا تدانت الخيام، وتمّ إبلاغ السلطان جلال الدين أن رسلا من جانب الروم بقوات شرفيّة، أمر أن يخرج أمراء خوارزم الكبار وأبطال الجيش على جنائب الخاصّ لاستقبالهم. وامتثالا للحكم التقوا بالأمير «شمس الدين ألتونبه»، ولم يخلّوا بشرائط التعظيم ¬

(¬1) سورة الحجرات: آية 9. (¬2) في الأصل: محمود.

والإجلال بوجه من الوجوه./ وإن هي إلا لحظات حتى بدأوا بجرّ الأحمال والأثقال، والجمال والبغال، والأمتعة والفرش وقطعان الغنم والماشية ومائتي جمل بختيّ (¬1) تحمل لوازم الخزانة والمطبخ ومعدّات الخمر والخيمة، كما لحق بها مائة بغل تحمل الدّنانير الذهبية والخلع الخاصّة والمعدّات الذّهبية. فدهش الخوارزميون جميعا وأثنوا كثيرا على السلطان علاء الدين: (بيت): - إن الملك لجدير بهذا الملك، لأنه إنما يربّي مثل هؤلاء المماليك وقبل أن يبلغ الأمير «شمس الدين» حدود «أخلاط» أصيب بمرض «النقّرس»، فأخذ يضع الدّهانات المخدّرة (¬2)، ويتحرّك على محفّة، فلمّا وصل إلى حضرة السلطان أعفي من وضع الجبين على الأرض. وفي اليوم التّالي استدعى السلطان جلال الدين قادة جيش خوارزم وزين الأعتاب والدّيوان بشكل جذّاب، ووقف «فخر الدين علي شرف الملك الخوارزمي» فتولّى أمر سؤال الرّسل وجوابهم، ومع أنّه كان بمثابة الوزير، لكنّه كان يتصدّى للحجابة ويتحمّل عبء رفع «الصّولجان» يوم الاستقبال. فجيء بالأمير شمس الدين جالسا في محفّة، فلما دخل الدّيوان أبدى الأعذار عن عدم تقبيل البساط، فقرنت بالقبول، وقبّل اليد، وأدى رسالة السلطان. فلمّا فرغ من أداء الرّسالة، واتّجه إلى الخيمة، استدعى أمراء خوارزم وأعد خوانا ملكيا وحفلا سلطانيا، فاندهش الأمراء من كثرة النّعمة والتّمكين، وظل مدة ¬

(¬1) البخت: الإبل الخراسانية. (¬2) قارن أ. ع، 372.

شهر على هذا المنوال لا همّ له بعد التنّزه إلّا سماع الأوتار وشرب الخمر العذبة. وذات يوم التفت السلطان جلال الدين إلى كبار رجاله وقال/ «إننا ما أظهرنا يوما تلطّفا مع رسول الروم، وما أدرنا معه [أنخاب] الصّداقة، والرّأي أن نقيم حفلا نسعى فيه إلى تكريمه. فقالوا جميعا بلسان واحد: إنّ عندهم من معدّات الاحتفال ما لا يتيسّر منه المعشار طيلة أعمار لأي سلطان، ولديهم أطعمة لذيذة وخمر ورديّة تزيل الهمّ والحزن، فيجب أن نبقي على هيبتنا ولا يجدر بنا أن نزرع بذرة هذا العبث. ولمّا طالت مدة إقامة «چاشني گير» تأذّى السلطان علاء الدين لذلك، فأرسل كمال الدين كاميار في مهمّة لكي يتحسّس الأخبار. فلمّا وصل كمال الدين إلى حضرة السلطان جلال الدين، وتجاذب الحديث معه في كل باب، لم يشتمّ رائحة الصّلح من أيّ وجه، فراغ والتمس الإذن بالعودة، فأجابه السلطان لذلك، وردّ ردودا مموّهة حول «أخلاط». وهي أخلاط أباطيل: تخرّصا وأحاديثا ملفّقة ... ليست بنبع إذا عدّت ولا غرب (¬1) [وقال إنّ مدينة أخلاط قد ضاق عليها الحصار، ولا يضيع ما تكبّدناه لمدّة طويلة من تعب ومشقّة] (¬2). فإن كان قد علق بحاشية الخاطر الكريم للسلطان غبار بسبب ردّ هذه الشّفاعة، فلابد أن يزال بماء تمهيد الأعذار. فعودوا بالسّلامة، وأبلغوا الخدمات المخلصة، وسيقدم رسلنا في أعقابكم، ويأتون ¬

(¬1) النّبع والغرب نوعان من الشجر تصنع منهما القسيّ والسهام، والبيت يضرب مثلا لهوان الشأن. (¬2) إضافة من أ. ع، 383.

بالمواثيق وإجابات الرّسائل بالتّفصيل. فودّع الأمير «شمس الدين»، و «كمال الدين» السلطان، وخرجا مسرعين. ولما فصلت العير عن معسكر الخوارزميين في الصّحراء، وساروا في الطريق يومين، تركوا متاعهم هناك ولحقوا مجرّدين بالإيوان السلطاني/ في «العلائية». وفي الطريق رأوا «ركن الدين جهانشاه» في «أرزن الروم» وأوصوه بأن يتجنّب الأعداء الذين يتخفوّن في صورة الأصدقاء، وألا ينحرف عن الميل والولاء للسلطان. فتعهّد بذلك، لكنهم ما بلغوا «أرزنجان» إلا ولحق «ركن الدين» بالسلطان جلال الدين وحرّضه على غزو ممالك الرّوم. وحين بلغ السلطان الأمر استعدّ للنزال والقتال، وأرسل «كمال الدين كاميار» لدعوة الملك «الكامل» وباقي أولاد «العادل»، وأمر بمسير عشرة آلاف فارس في صحبة «چاشني گير»، و «كندصطبل»، و «مبارز الدين عيسى»، و «نور الدين كماخي» إلى «أرزنجان» لمزيد من الاحتياط وليحرسوا الممّرات. ولمّا وصل كمال الدين عند الملك الكامل والأشرف، راوغاه في أوّل الأمر، ولم يجيباه بصراحة، فأطلق كمال الدين لسانه بالتّقريع والتّوبيخ، وقال إن لم تبادرا بتقديم هذا الإمداد وتوفير هذا الإسعاد، فلو حدث ما يخشى منه في الغد- والعياذ بالله- ورأيتما حرم السلطان بيد أجنبيّ: لن تفيد ندامة ولا تحرّق إرم. فأصيبا بغصّة من هذا الكلام، ووافقا في الحال، وأعدّا العساكر، وانطلق الملك الكامل بالعسكر إلى «حرّان» فلما بلغها جاء أصحاب الأخبار في إثره من قبل «مصر» وأخبروه أن الفرنجيّ وصل إلى شاطئ البحر بجمّ غفير يربو على المائة ألف فارس، وعزم على غزو المسلمين، فعاد الملك الكامل متعجّلا، وأرسل

ذكر استقبال السلطان للملك الأشرف ولقائهما رحمهما الله تعالى

رسالة اعتذار إلى السلطان، فلما وصل إلى هناك نصره الله تعالى، وألحق الدّمار بالكفّار، فأرسل الملك الأشرف، والملك الجواد (¬1)، والملك الغازي، والملك المغيث، والملك العزيز لحضرة السلطان. ذكر استقبال السلطان للملك الأشرف ولقائهما رحمهما الله تعالى أمر السلطان بأن يحمل إلى منزل الملك الأشرف خيمة ملكية كأنّها الجبل يشكو الفلك من ارتفاعها، وأن تضرب على حافّة نهر جار في منطقة المروج، وأن تهيّأ الخزانة وعدّة الفراش والطّست والشراب والمطبخ بمعدات ذهبيّة كأنها مفردات كنز بالغ الروعة، وما يلحق بذلك من أدوات ولوازم تليق بالسلاطين. ونهض السلطان للاستقبال، فلما بدت المظلّة السلطانية نزل الملك الأشرف من فوق الحصان وتطلّع نحو السلطان، فلما اقتربا ورأى السلطان الملك الأشرف واقفا على قدميه نزل، فوضع الملك الأشرف رأسه على الأرض في عدّة مواضع. ثم إنهما ركبا بعد المعانقة والملاثمة، وأخذ السلطان في التلطّف معه، وقال: إن الملك قد تجشّم مشقّة السير، وناله الكثير من التّعب، والمأمول أن تكون ميامن حركات أقدامه وبركات أعلامه سببا في زيادة عظمة إيوانه، فنزل الملك من جديد وقبّل الأرض ثانية، فأشار السلطان بأن يقدّم بغل سريع السّير بطوق ولجام، فركبه الملك وأخذ في تجاذب أطراف الحديث مع السلطان، وكان الأمير كمال ¬

(¬1) وهو الملك الجواد مظفّر الدين يونس بن مودود ابن الملك العادل الأيوبى، يقول عنه ابن واصل فى كتابه: «مفرج الكروب فى أخبار بنى أيوب» (3: 274): «وكان فى خدمة عمه الكامل .. وكان جوادا إلى الغاية، شجاعا».

الدين يتولى أمر الترجمة بينهما. وحين اقتربا من المروج أمر السلطان أكابر الدولة بالذّهاب إلى الخيمة مع الملك والنّزول لخدمته. فدخل الملك الخيمة، وقدّم له من النعمة ما يشبع عين الطّمع. فلما قام عن المائدة وتوجّه إلى مخدعه شهد متاع السلاطين من سرير ملكي وطست وأوعية ذهبيّة ومجمرة مرصّعة وحّمام سفري وغلمان كأن وجوههم الشّمس ذوو شعر مسكيّ، فأصبح الملك مائة لسان تثني على سلطان العالم، وأبدى رغبة في الاستحمام من مشقّة الطريق. ثم تبختر متوجّها إلى الإيوان العام، وطلب الملوك والإخوان، وفجأة/ وصل السّقاة، وجيء بآلات الحفل والطّرب، ولما أثّرت الخمر الصافية في عقول أهل المجلس تأثيرا ظاهرا، وثقلت رؤوس خفاف الرّوح من النّوم، ظهر التفرّق في الحرفاء والنّدماء. وفي اليوم التّالي حين تفنّن نقّاشو القدرة فرسموا القرص الذهبي للشّمس على صفحة السّماء الزّرقاء سلك الملك الأشرف وسائر الملوك جادّة الخدمة وجاءوا إلى الأعتاب السلطانية. فخرج السلطان من الإيوان راكبا فانحنوا وهم على ظهور خيولهم، وأخذ السلطان في التعطّف والسؤال عن الأحوال، واعتذر عمّا يكون قد وقع من تقصير في الحفاوة بالقدوم. فنزل الأشرف من فوق الحصان ثانية. وأمر السلطان بأن يقدّم حصان من الخاصّ، فركبه الأشرف. مجمل القول أن السلطان بلغ الغاية القصوى في تكريمه، وبذل الخلع والصّلات والإقامات. ثم إنه دعاه إليه مع إخوته، وأجلس الملك الأشرف معه في مكان واحد، ودارت دورة الخمر الحلوة، فلما أثّرت سورة المدام في طينة السلطان، أمر

ذكر توجه السلطان والملك الأشرف مع العساكر المنصورة نحو «ياسي چمن» لمحاربة السلطان «جلال الدين»

بالإمساك، وأمر الوزير بأنه إذا توجّه الملك الأشرف صوب مقر إقامته أرسل في إثره إلى الخيمة بكل آلات الحفل وخلعة ملكيّة قيّمة وحصانا يسابق الريح بطوق ولجام، وبأن يحسن إلى كل إخوانه بما يبقي ذكره أبد الدهر، فأنفذ الصّاحب الأوامر المطاعة. وفي اليوم التّالي حين أخذت براعم الأرجوان تتفتّح في الروضة زرقاء اللون، توّجه السلطان إلي المدينة، فلما اقتربوا من البّوابة نزل الملك من فوق الحصان ووضع «غاشية» السلطان على كتفه (¬1) كما نزل كلّ ملوك الشام وأخذوا يسيرون في ركاب السلطان إلى أن بلغوا وسط الميدان. فلما رغب السلطان في اللعب بالصّولجان، كان الملك الأشرف كلما تصادف وسقط الصّولجان من يد السلطان، نزل من فوق حصانه/ ونفض عن الصّولجان الغبار بأطراف لحيته الشّريفة، وقبّله ثم سلّمه للسلطان، وعندما كانوا يسحبون حصان السلطان كان الملك يقبّل الأرض، ثم يعاود الرّكوب. ذكر توجّه السلطان والملك الأشرف مع العساكر المنصورة نحو «ياسي چمن» لمحاربة السلطان «جلال الدين» في اليوم التّالي حين طلع الصّبح الصّادق من أفق المشرق، وجرّد ملك الكواكب السيّارة حسامه المصقول من غمده عازما على الغزو، تعالى هدير الطّبول، من تلقاء أعتاب السلطان، وبفأل حسن ويوم ظفر سارت المظلّة المنيرة ¬

(¬1) «وهي غاشية سرج من أديم مخروزة بالذّهب، ... تحمل بين يديه عند الركوب في المواكب الحفلة كالميادين والأعياد ونحوها، يحملها أحد الركابدارية، رافعا لها على يديه يلفتها يمينا وشمالا» (صبح الأعشى 4: 7).

للعالم، [وماج الجيش بكلّ الطّوائف من ترك وإفرنج وكرج وأوج وروم وروس وعرب- فوجا فوجا- كبحر من الحديد] (¬1)، فجاوزوا «سيواس» إلى «آقشهر» في أسبوع بسبب ضخامة الحشد. وحين أبلغ السلطان «جلال الدين» بأنّ السلطان والملك الأشرف وباقي الملوك وأبطال الدّيار نزلوا بالعساكر المشهورة بصحراء «آقشهر» طلب «أرزن الرومي»، وذكر له ما جرى. فأجاب قائلا إن الرّأي هو أن نلحق ب «ياسّي چمن» قبل أن يبلغها ذلك الحشد، فإذا ما تيسّرت لنا السّيطرة على ذلك الموضع أقبلت الغلبة والنّصر يخطران صوب عتبة الإيوان الأعلى. فانطلق السلطان منخدعا بأوهام «أرزن الرومي» وأخذ يسابق الرّيح طول اللّيل، حتى بلغوا جبل «ياسّي چمن» عند الفجر، وحازوا الماء والعشب. ولما علمت الجنود التي كانت قد ذهبت من قبل للمحافظة على ثغور «أرزنجان» وحراسة المضايق بقدوم رايات السلطنة مع ملوك الشام، توجهت بأسرها لخدمة السلطان. ودفع الأمير مبارز الدين جاولي- بالاتّفاق مع سائر الأمراء- بألف من الفرسان إلى قمّة الجبل كطليعة. فلما أقبل اللّيل، وأبعدت الطّليعة عن الجيش، ظلوا يسيرون على الجبل طوال اللّيل حتى اقترب الصّبح. وفي الفجر وجدوا أنفسهم وسط جيوش العدوّ،/ وكان في ملازمة ركاب خوارزمشاه مائة ألف فارس، فحاصروهم، «فكشفت الحرب عن ساقها وأبدت شراسة أخلاقها، وهمّت بسفك الدمّاء وإهراقها» (¬2)، وبرغم ما لحق بالخوارزمي من مدد تلو المدد، بينما كان جند السلطان قليلي العدد فاقدي المدد، فقد ثبتوا ¬

(¬1) زيادة من أ. ع، 391. (¬2) وردت هذه الجمل الثلاث في الأصل باللغة العربية.

ذكر حركة الرايات المنصورة للسلطنة وانكسار الطليعة الخوارزمية

وأذاقوا شربة الموت لأضعاف عددهم. وفي النهاية حين فرغت الكنائن من السّهام، ولم يبق في الجعاب نصال تشبه الشّهب، اضطروا إلى الترجّل عن خيولهم، واتّقوا الصّفاح بالكفاح، فصار بعضهم قتيلا وكسيرا وبعضهم الآخر مأخوذا أسيرا. وحين جيء بالأمراء الذين دخلوا في زمرة الأسرى إلى الخوارزمشاه، أمر بوضع الوهق في أقدامهم ورقابهم، وتوقيفهم إلى أن تعرف عاقبة الحرب ولمن النّصر والظّفر. ثم إنه استدعى «أرزن الرومي»، وفاتحه في عنف مقاومة تلك الشّرذمة القليلة، فأجابه بقوله: كان هؤلاء الفرسان يمثّلون ظهر الجيش الرّومي، أما وقد هزم وانكسر بفضل الله، فإن مملكة الرّوم ملك للسلطان. وخرج بضعة أفراد من الاشتباك، وكانوا يعرفون الطريق، فلحقوا بجيش السلطان، وقصّوا عليه القصّة برمّتها، فطلب السلطان الملك الأشرف، ورسم صورة الواقعة على لوح مخيلّته، فلم ينفعل الملك بذلك المقال، وأظهر الثّبات كالجبال، وقال: أجل، إن الجيش الذي ينكسر أولا يكون النّصر حليفه في النّهاية، ويتعين على السلطان أن يطمئن قلبه من هذه النّاحية تماما، فسوف يتمّ الردّ على تلك الطائفة الحاقدة بفضل الحقّ- تعالى- ومواتاة الحظّ. ذكر حركة الرّايات المنصورة للسلطنة وانكسار الطليعة الخوارزمية وفي اليوم التّالي أرسل جيش العرب مع فوج كبير من مشاهير الأبطال كتقدمة، بينما اختار «الخوارزمي» جيشا هائلا ذا عظمة وجلال لتسقّط

الأخبار والتقدّم كطليعة. فتوغّل في المروج، وأرادوا أن ينزلوا على شاطئ النهر ويسيطروا عليه. وفجأة وصلت إليهم طليعة السلطان وأخذ بحر من السيوف ينهمر عليهم، وأدّى التطام الفريقين واصطدام الطّائفتين إلى دقّ الرّؤوس في الخوذات والأبدان في الدّروع كما يدقّ لباب الفستق في الهاون، وحين تحوّل النّهار الأبيض إلى ليل بهيم بسبب ظلمة القتام والغبار أخذت كواكب الأسنّة وشهب النّصال تبرق. وفي النهاية أسفر النّصر عن وجهه، وولّى الجيش الخوارزميّ الفرار، واندفع أبطال الوغى بجلبة وضجيج كالعفاريت خلف أولاد الأفّاقين أولئك، وصعقوا كل من وجدوه بسيل السّيوف فانقلبوا صاغرين. وحين انكشفت صحراء المعركة- وكانت بحرا مواجا من دماء الأوداج- عن أشلاء الأعداء، وفرض [جند السّلطان] سيطرتهم على الماء والعشب، أرسلوا فارسا إلى أعتاب السلطان، وأخبروه بانكسار الخصم، وانهزام الجيش، واحتياز الماء والعشب، والتمسوا تحرك الرّكاب السلطاني إلى ذلك الموضع. وفي الحال ضربوا الخيمة الملكيّة، ورفعوا الأعلام، وتحرّك الجيش كالجبال الحديديّة، وأخذوا خيمة السلطان إلى تلك المروج. فوصل الخبر إلى خوارزمشاه، فزايل الاطمئنان قلبه، وشرع في عتاب الأرزرومي.

ذكر انكسار طليعة الخوارزمي كرة ثانية

ذكر انكسار طليعة الخوارزمي كرّة ثانية وفي اليوم التّالي دخل جند كثيرون من الجانبين كطلائع، وأخذوا يجولون طيلة الليلة في الجبل والوادي، فلما تفرّق جيش الهند (¬1) من جديد، ونزل ملك النجوم في ميدان الإقليم الخامس، رأى كلّ جيش غريمه فجأة، فاصطفّوا وهجم الخوارزميون أوّل الأمر، فجعلوا من نصال السهام ما يشبه الفكر حين دفعوها إلى ضمائر الصّغار والكبار، وأخذ الرّسل يطلقون هنا وهناك صواعق السّهام والمعابل مزوّدة بريش العقبان حتى أبلغ خبر شدّة القوس وقوّة سواعد الأبطال الرّنين بلسان مبين لمسامع الخصوم خفاف الحركة وفرسان تلك الميادين. فثبت جيش الملك «كثهلان» (¬2) و «حراء» للأمر، وحين مالت ريح صولتهم للرّكود، جرّد الجند مرهفات السّيوف وحرّروا مثقبات الرماح، وهجموا عليهم دفعة واحدة كنوازل الأقدار، فأطاحوا بكل من لحقوا به، ولعبوا الكرة في ميدان المعركة بجماجم تلك الطائفة، كما قذفوا بقلانس السّعادة إلى أجواء الفلك. وتبدّل إقبال الخوارزميين إدبارا والكر انكسارا والهجوم فرارا، وأخذ جندهم من راكب وراجل يتعثّرون ويتساقطون، وقد عزموا على الفرار وتولية الأدبار (¬3). وأهرق دمع العين على فراق الرّوح، واتّصف ملك الأرواح بصفة ¬

(¬1) يعني بجيش الهند: الليل. (¬2) اسم جبل. (¬3) في الأصل: دل بمراد نهاده، ولا محلّ لها، وقد اخترنا أن نبدل «فرار» بكلمة «مراد» المثبتة في الأصل ليستقيم المعنى.

العجز والدّهشة لازدحام النّفوس الشّهيدة، وضاق الجوّ بأفواج الأرواح المفارقة- التي سقطت من المغاربة والمشارقة في تلك الملحمة- كضيق القلوب الولهانة للعشّاق، وضيق صدر البخيل. وقام جند السلطان/ حامدين ذاكرين الله في ذلك المقام، وأرسلوا رجلا لإعلام الحضرة السلطانية بالأحوال، وكان الرّكاب السّلطاني نفسه قد تحرّك، وسارت الجيوش المنصورة وهي تحمد الخالق، فأقبلت على أيمن طائر إلى بلاط الملك المستولي على العالم، وعلم أن الخوارزميين كانوا قد أثخنوا بالجراح في معترك المنايا. وألقت الحيرة والاضطراب خوارزمشاه في الضّيق والحرج فأخذ يحترق كالشمع من الحرقة، ويعزو تلك النّكبات إلى نفثات «الأرزرومي» وسوء تدبيره وشؤمه. فوسوس إليه «الأرزرومي» حينذاك قائلا: اقبض على أولئك الذين وصلوا هاربين مع قادة آخرين، وانزع أرواحهم بالسّيف البتّار لكي يثبت من تبقّوا في الحرب ثبات الصخور، ولا يسع الخصم التحرّك، وتصدق عليه صفة «وقذف في قلوبهم الرّعب». فبادر بالقبض على سبعمائة رجل حرّ بريء من جيشه، ووضع الأغلال في أعناقهم، وأمر بضرب رقابهم جميعا. وسوف يبقى هذا إلى يوم الحساب بمثابة خزي وشنار، وإثم وعار، فقد لزم ما قاله ذلك الغدّار أسود القلب، وكان أعدى أعداء نفسه في ذلك الأمر. ***

ذكر فرار طليعة خورازمشاه للمرة الثالثة من طلائع السلطان

ذكر فرار طليعة خورازمشاه للمرة الثالثة من طلائع السلطان وفي اليوم التّالي حين قبّل فلك النّجوم- كعادة العبيد- أعتاب ملك العالم، ظهرت الأعلام الحمراء والصفراء في آفاق الميدان برفقة أولئك الجند من تماسيح القتال، فتحرّك الحشد كله، بينما ركب السلطان/ الفاتح حصانا يشبه مسيره مسير ريح الصّبا في تلك السّهول الرّائعة، وقد أثّر حرّ الهاجرة في أنصار العساكر المهاجرة، وأخذت نفوس الشّجعان تجفّ في الحلوق، فانطلقوا جميعا إلى المناهل والعيون، والأنهار الجارية في تلك المروج. أما السلطان فإنه لم يلتفت إلى المياه والجيش- لنيّة قد عقدها في نفسه ولأنه قد روي إلى الأبد بشربة «أبيت» (¬1)، وإنّما صعد فوق جبل هو أعلى من همّة الأسخياء وقامة الحسناء، وجال بنظره هنا وهناك، فرأى الصحراء والوديان مشحونة كلها بجند العدوّ وكانوا قد نصبوا خياما في خيام، وتزاحموا تزاحم النّمل والجراد. فهجم عليه جماعة من شجعان الحرب، فخرج إليهم نحو ألف فارس منهم، وبدأت حركة هائلة من الكرّ والفرّ، ولو لم تحجب أستار الظّلام بينهم لما بقي أحد من الجانبين حيّا. وعادت كل فرقة إلى موقعها. وظلّوا طوال الليل في التدبير والترتيب للمقارعة والنزاع وتثقيف اليراع، والرّهف لتحقيق إرهاق شعاع [الحسام] (¬2)، وقضى السلطان عظيم الشّان في تلك الليلة وطرا، وبعد تجديد الغسل، دخل في صلاة يناجي ذا الجلال، وأخذ يدعو ب «يا» بلغة بغير لسان في خلوة القرب اللامكاني ويطلب المدد. ¬

(¬1) إشارة إلى الحديث النبوي: «إنّي أبيت يطعمني ربي ويسقيني» عن أبي هريرة. انظر البخاري مثلا، باب الاعتصام، طبعة دار الشعب، مصر، 9: 119. (¬2) ورهف: رقّق وحدّد، والرّهق: من معانيها التعجيل.

ذكر مقابلة الجيشين وانهزام السلطان جلال الدين وأسر أرزن الرومي وأخيه

ذكر مقابلة الجيشين وانهزام السلطان جلال الدين وأسر أرزن الرومي وأخيه يوم السبت الثامن والعشرين من رمضان سنة 627 أصبح الجيش مبتسما كشفة الصّبح، متألقّا كوجه الشّمس، وأمر السلطان أن يدخل الجند/ في السّلاح، ويصطفّوا صفوفا، ويحدّدوا الميمنة والميسرة، والقلب والسّاقة. وأن يبدي أسود القتال علائم الفداء والتّضحية. ولأنّه لم تبق مسافة فاصلة بينهم وبين العدوّ، بل إنّهم- لتداني الخيام- بدوا كأنّهم «قاب قوسين أو أدنى»، وتلاقوا دفعة وأظهروا كل ما هو ميسور (¬1) ومقدور. وفي الحال أوصلت أصوات الطّبول الهدير إلى أذن «جبريل»، وأتيح للأعلام أن تحادث «منجوق ذي الجبهة» (¬2)، و «عيوّق» (¬3)، ووقعت الرّجفة في أسود الأعلام (¬4) كما يرتجف قلب البخيل على صورة الدرهم. وامتطى المليك حصانا ضخما يستطيع أن يعبر البحر بوثبة واحدة. وفي النّاحية الأخرى جرت تعبئة الجيش تعبئة ملكيّة، واصطف جيش ضخم يزيد عن مائة ألف للقتال، وتقدّم الملك الأشرف إلى حضرة السلطان وقال: لو أنّ السلطان ركب اليوم بغلا بدلا من الحصان، بل لو وضع للبغل ¬

(¬1) في الأصل منشور، وهو تصحيف بلا شك. (¬2) كذا في الأصل، ولعله اسم نجم من النّجوم، غير أني لم أعثر لهذا الاسم على أثر في المعاجم والمصادر المتخصصة التي رجعت إليها، (انظر مثلا: كتاب التّفهيم لأوايل صناعة التنجيم، لأبي الريحان البيروني، تحقيق جلال همائي، طبع طهران 1393 هـ)، و «منجوق» بالفارسية تعني الراية، أو الموضع الأعلى من سارية العلم. (¬3) العيوق: نجم. (¬4) يعني الأسود المرسومة على الأعلام.

شكال (¬1) أيضا، فلا شكّ أن كل ثعلب في هذا الجيش المغوار سيغدو عشرة أسود كواسر، فيتمكّنوا بذلك من الإيقاع بالعدوّ. فقدّموا بغلا ركبه السلطان في الحال. فلما تمت التعبئة، واقترب وقت تداني الجمعين، صعد خوارزمشاه على تلّ مرتفع وألقى نظرة على سواد الجيش المنصور، ثم أخرج آهة باردة تألّما وحسرة، إذ لو كان هذا الجيش في حوزتي، وكنت أمضي إلى الحرب أمام جيش التّتار بهذه الفئة، لكان نصيبهم منّي الدّمار والهلاك، وكنت قد تعهّدت نباتات الأرض بالدماء التي تسيل من تلك الكلاب الضارية. ثم إنه عاد إلى قلب جيشه بدموع منهمرة وصبر نافد. وحمل «الملك الأشرف»، و «كمال الدين كاميار» حملة الأسود، فألقوا بالميمنة على الميسرة/ وأجبروا الجميع على اللّجوء إلى واد ضيق لا هو بموضع للفرار ولا بمكان للحرب، ولم يشتغل السلطان خوارزمشاه بالحرب والطّعن والضّرب، وإنما أسرع في الحال نحو الأعلام وفصل منها «العصابة» (¬2) والبيرق والعلم، وربطها بمؤخرة السّرج، وانطلق هاربا حيث واصل السّير بالسرى، والوخدان بالذميل (¬3). ¬

(¬1) الشّكال، القيد: وهو أن تكون إحدى اليدين وإحدى الرجلين من خلاف محجّلتين (¬2) في الأصل منجوق، وهي- فيما يبدو- الراية المطرزة بالذّهب، والتي تحمل ألقاب السلطان واسمه، وكان المماليك في مصر والشام يطلقون عليها اسم «العصابة»، انظر صبح الأعشى، 4: 8. (¬3) كذا في الأصل، كلمتان عربيتان، والوخدان: الإسراع وتوسيع الخطو، والذّميل: السّير السّريع اللّين.

وشغل جيش العرب بغارة السّلب، وأخذ أهل الرّوم يتحرّكون في إثر الخصوم في نواحي تلك الدّيار فرقة فرقة كالجبل الهادئ الساكن، وفجأة أدركوا صاحب أرزن الروم، ورأوا معه أخاه العزيز- الذي لم يكن يفارقه- فأخذوهما، وأتوا بهما إلى ملك العالم، فارتمى تحت أقدام المليك خجلا؛، فأمّنه السلطان من ضرب السّيف، وعهد به إلى بعض أمرائه ليبذلوا كلّ جهدهم في حراسته، على ألا ينالوا أبدا من حرمته وتعظيمه، بل يزيدوه حرمة وتعظيما. كان أوّل النّهار ملكا موّفقا، وآخره أسير حرب (¬1). ثمّ إنّ السلطان اتّجه إلى البلاط، فحمل الملك الأشرف الغاشية على كتفه، وأخذ يسير على قدميه في ركاب السلطان، الذي تعجّب هو وجميع من حضر للطفه البالغ، وكان السلطان يبدي كل لحظة اعتذارا، ويبدع لطيفة من اللّطائف. فلما دخل السلطان البلاط، قبّل الملك الأشرف الأرض، ثم اتّجه صوب خيمته. وانطلق السلطان من الصّفّة- من جديد- إلى الخلوة حيث المصلّى كي «يناجي ربّه». وسجد لله شكرا، وحمد ملك العدل والدين وأثنى عليه. ... ¬

(¬1) راجع ابن الأثير، (الكامل 12: 491 فى حوادث سنة 627)، وقد شبه صاحب أرزن الروم فيما انتهى إليه أمره بالنعامة: «فكان كما قيل: خرجت النعامة تطلب قرنين، فعادت بلا أذنين. وهكذا هذا المسكين جاء إلى جلال الدين يطلب الزيادة، فوعده بشىء من بلاد علاء الدين، فأخذ ماله وما بيده من البلاد وبقى أسيرا ...».

ذكر تحرك رايات السلطان صوب أرزن الروم وفتحها على يد السلطان علاء الدين كيقباد

ذكر تحرّك رايات السلطان صوب أرزن الروم وفتحها على يد السلطان علاء الدين كيقباد في اليوم التّالي، حين أزمع ملك الكواكب وملك الثّواقب التحرّك في منازل النّهار الصادق، توجّه السلطان مع الملك الأشرف وإخوته إلى «أرزن الروم»، وفي الطريق تناهى إلى سمع السلطان أن فرقة من جيش خوارزم- كانت قد ولّت الأدبار- لكنّها سقطت بالأمس في هوّة سحيقة، وأن أفرادها قد تساقطوا جميعا في تلك الهوّة بخيولهم وأسلحتهم بسبب ريح الهجوم العاصف وخوف الموت. فأصدر السلطان أمرا لجماعة من الجيش المذكور بالذهاب إلى هناك وتقديم تقرير عن الموقف، فلمّا بلغوا المكان، وجدوا أرواحهم قد فارقت الأبدان وانتقلت إلى الدار الآخرة، فأتوا بما كان معهم من عدّة وعتاد إلى دار سلاح السّلطنة. وفي اليوم التالي أزاح العيد السعيد بشفة باسمة النّقاب عن الوجه الذي يزّين العالم، وظهر الهلال من أحد جوانب السماء فبدا كقوس طغراء (¬1) السلطنة. وفي الصّبح الأول توجّه كبار رجال الشّام نحو بلاط ملك الأنام، فنزل السلطان من على العرش وأمسك بيد الملك الأشرف، وأجلسه بالقرب منه على الطرّاحة التي كانوا قد أعدّوها تحت العرش، ولمّا شربوا المشروبات، وكان الموكب السلطاني قد ازدان ابتهاجا بالعيد، ركبوا خيولهم، وأخذ أبطال الميدان في إظهار أنواع المهارة والفنّ والفروسة، ثم إنهم توجّهوا إلى المصلّى، وتعبّدوا للمعبود المطلق. وسالت الصّدقات كقطرات الأمطار على السّائلين، ثم حضروا خوان الخاصّ. فلما ترك كلّ منهم الخوان إلى خيمته، أرسل السلطان عشر ¬

(¬1) انظر فيما سبق ص 1 هامش 1.

خلع سلطانية مع عشرة خيول إلى الملك الأشرف وسائر الملوك، ودعاهم إلى الحفل المضيء للعالم. وبسبب بعد عهدهم بمعاقرة الخمر، أخذوا من الأنخاب ما كان ثقيلا. وفي اليوم التّالي لحقوا بمنطقة «أرزن الروم»، فأغلق الأمراء الذين كانوا في المدينة الباب، وفتحوا طريق المقاومة. فأمر السلطان بأن يدخل المدينة رجل أمين يوثق بقوله/ فيدعوهم إلى جادّة الانقياد بلسان الملك، ويهدّدهم نيابة عن بلاطه بوعيد: «إن عذابي لشديد». ووفقا للحكم، دخل أحد المقرّبين من خاصّته في صحبة أحد أمرائه بالمدينة لكي يدفع بأهلها إلى طريق الصّلاح، وبالغ في ذلك كل المبالغة، فقرنوا الأمر المطاع بالإجابة بشرط أن لا يلحق بالأمير وأخيه وبقية الأمراء أذى، ويتمّ التّجاوز عمّا مضى. فأقسم السلطان على ذلك في مكتوب وفقا لطلبهم، وأرسل كتاب عهد وميثاق إليهم، فلما طالعوه قدم «همام الدين الجاندار» وسائر الأكابر من المدينة إلى خدمة السلطان، وحملوا الرّاية داخل المدينة. وفي اليوم التّالي ركب السلطان على حصان فاتح للعالم كالبدر المنير، وسار الملك الأشرف مع أخوته على أقدامهم في الركاب العالي، فلما دخل السلطان الإيوان، وقف الملك الأشرف مع الإخوة مصطفّين، فوضع السلطان قدمه على حافة الصفّة مدّة يسيرة ثم جلس، ثم ما لبث أن قام وأمسك بيد الملك الأشرف ودخل قاعة الخلوة، وقضوا ذلك اليوم في الّلهو. وفي أثناء النّشوة تشفّع الملك الأشرف للملك ركن الدين (¬1) فوقعت شفاعته موقع القبول، ونال خلعة ثمينة ¬

(¬1) يريد به ركن الدين جهانشاه ابن مغيث الدين ابن قلج أرسلان، صاحب «أرزن الروم»، انظر ما سلف، ص 182.

وحظي بشرف تقبيل اليد، وتفضّل السلطان عليه فأقطعه «آقسرا» وتوابعها كما أقطع أخاه «أيوب حصار». ثم إنّه وجّه فرقة من الجيش صوب «أخلاط» وكان نوّاب السلطان جلال الدين حين سمعوا بالواقعة قد أخلوا المدينة وعبروا إلى «أرّان». وبعد شهر قال للملك الأشرف، يتعيّن على الملك أن يتجشم مشقّة التوجّه نحو «الأرمن» / لكي يدخل «أولتي» مع بضعة قلاع أخرى من بلاد «الكرج» في نطاق سيطرة ديوان الملك الأشرف. فقبّل الملك الأشرف اليد، وطلب منشورا على ذلك وعلى ملك الأرمن، فتعجّب السلطان لفرط تواضعه، وسطّر المنشور، وأطلق الأمير «چاشني كير» مع خمسة آلاف فارس في خدمة الملك نحو «أخلاط»، على سبيل الاحتياط، وأمر له بنفقة تزيد عن الحدّ مما لا طاقة لأيّ سلطان عليه ولا على عشره، والتمس الأعذار وقطع مسافة طويلة بالمظلة والرّاية لوداعهم. توقّف السلطان بعد عودته- أسبوعا- لتفقّد أحوال القلاع والبقاع، وأمر بأن ترسل رسائل الفتح (¬1) إلى نواحي البلاد. ثم عاد إلى «قيصريّة» بعد نيل المرادات. ¬

(¬1) أورد الأستاذ «هوتسما» محقّق الأصل الفارسي في الهامش نصّ إحدى رسائل الفتح التي بعثها السلطان علاء الدين كيقباد إلى ملوك الأطراف. وهي مرسلة إلى «مظفر الدين كوكبوري» صاحب «إربل». وكان «هوتسما» قد عثر على تلك الرسالة في مخطوطة تركية موجودة بالمكتبة الوطنية بباريس. وموضوع الرسالة ما جرى من أحداث عقب انهزام السلطان جلال الدين خوارزمشاه، ومحاصرة «أرزن الرّوم» ثمّ السّيطرة عليها، وحسم مادة المفسدين والمنافقين الذين كانوا يحرّضون السلطان جلال الدين على المسلمين ويغرونه بهم.

ذكر جناية محافظ «علائية» وتأديبه فى ذلك الباب

ذكر جناية محافظ «علائية» وتأديبه فى ذلك الباب وفي هذه الأثناء وصل من «علائية» مكتوب بأنّ سلطان العالم إن لم يحرّك ركائبه بسرعة فسوف يفلت عنان حكم «العلائية» من يد مماليك/ السلطنة، إذ أنّ محافظ القلعة- ولو علق جسده في حبل المشنقة لكان أولى- قد كفر بالنّعمة ويزمع أن يسلّم القلعة للقبارصة، فاندهش السلطان لهذا الكلام ولازمه التّفكير وقال: أيقع اختياري على من لا أصل له وأجعله رئيسا وحاكما على صدور الناس/ ومن تزكى منهم، ثم يضمر مثل هذا الغدر الذي ليس له من عذر، إن هذا لشيء عجيب. وركب في الحال على بغل يشبه في سيره ريح قمم الجبال، وبرفقته بعض/ الخواصّ، ولحق بالعلائيّة بعد ثلاثة أيام، وأظهر كأنّه لم يسمع بشيء، لكنه شغل في السّر بالتفحص واستكشاف الأمر، فلما تحقّق أنه خائن غادر، وشهد الأئمّة والحفّاظ في مواجهته، وأفشوا مسارب تدبيره وكشفوا عن فكره، وعلم أنه الحقّ الصّراح، أمر السلطان في الحال بأن يحملوه إلى البرج ويمزّقوه إربا إربا، وأن تعلّق جثته بما نالها من خزي جزاء ما فعل. وصار كلّ من كان شريكا له في تلك المقالة قرينا له في نفس الأمر. ولمّا سمع ملوك السّواحل بتلك العقوبة، بعثوا على الفور من كلّ صوب بالخراج والجزية لخدمة مالك العرش والتّاج. وظلّ السلطان طيلة شهرين هناك يقيم الحفلات الملكية تارة، ويبرم أمرا مقرونا بالتّوفيق تارة أخرى. ثم جاء من هناك إلى أنطاكية وظلّ هناك أربعين يوما أخرى، ثم أمر أن تمكث العساكر المنصورة في أوطانها ومساكنها مستريحة مرفّهة مدّة سنة.

ذكر توغل فرقة حراسة مغولية حتى «سيواس» المحروسة- حماها الله تعالى

ذكر توغّل فرقة حراسة مغولية حتى «سيواس» المحروسة- حماها الله تعالى في سنة 629 توغلت فرقة من جيش المغول- يقودها «جرماغون نوين» - في نواحي «سيواس» حتى بلغت رباط «ابن راحت» (¬1)، فقتلت وأسرت واسترقّت الكثير من الخلائق والمواشي. وحين بلغ هذا الخبر الفاجع مسامع السلطان، أمر «كمال الدين كاميار» - وهو في غاية القلق- أن ينطلق بمن حضر من الجيش من مفاردة حلقة الخاصّ وغلمان الأعتاب السلطانية وملازمي الخرس بعتادهم وعدّتهم. ويعمل- بكل ما أوتي من كفاءة ودراية- على تسكين هذه النّائرة/، فانطلق الأمير «كمال الدين» بتلك الطّائفة من الجيش فلما بلغ «سيواس» كانت فرقة الحراسة المغولية قد عادت أدراجها. فتبعهم الجيش حتى «أرزروم». كان الأمير «مبارز الدين جاشني كير» متولّيا حراسة تلك الثغور، فاستشاره، فأجاب بأن جيش المغول إن كان قد عاد أدراجه فلا ينبغي السير في إثره. فأقام [كمال الدين] في تلك النواحي يوما، ثم أبلغه الجواسيس أنهم اتجهوا إلى ديارهم، وأنهم عبروا «ممريونس» ولحقوا ب «مغان». وفي أثناء توقّف الجيش تجمّع الكثير من الجند، فقالوا لا يجمل بنا الرّجوع دون أن نفعل شيئا، وكان [السبب في] (¬2) دخول المغول ممالك السلطان هو إغراء ملكة «الكرج»، فوجدوا في هذا تعلّة لغزوها. ¬

(¬1) «كان معروفا بالرّباط الإصفهاني، أما الآن فقد اشتهر باسم رباط كمال الدين أحمد بن راحت» (أ. ع، ص 419). (¬2) إضافة من أ. ع، 420.

ذكر دخول عساكر السلطان ديار الكرج وفتح القلاع على يد ملك الأمراء «كمال الدين كاميار»

ذكر دخول عساكر السلطان ديار الكرج وفتح القلاع على يد ملك الأمراء «كمال الدين كاميار» أعدّ الأمير «كمال الدين» و «چاشني كير» آلات الحصار، ولم يقتصرا على المشاة الذين كانوا قد جاءوا من مختلف نواحي البلاد، وإنما أخذا خمسة آلاف آخرين من المشاة، وانطلقا بحشد كبير صوب ولاية الكرج. وتمكنا في أسبوع واحد من الاستيلاء بالسيف البتّار على ثلاثين قلعة شهيرة كانت شرفاتها تسامت السّماك وقواعد أبنيتها تعاكس السّمك وتعرقل مسيره، وانتزعوا بالرماح الثّقيلة والسّيوف المهنّدة كلّ حركة في أرواح أهل الكرج. وأنجز الله في تلك السّنة وعده الصّادق لعساكر السلطان من منطقة «الأبخاز» بقوله: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها (¬1)، ثم إنّهم انطلقوا من هناك إلى قلعة «خاخ» واستولوا عليها بإعمال المنجنيق والسّيف الصّقيل البرّاق./ وأذاقوا أهل «خاخ» نفس الشّربة، وجعلوا الدّنيا الواسعة تضيق بهم كعين النّمل بما رموهم به من الحجارة والسهام الرائشة. ... ¬

(¬1) الفتح: الآية 20.

ذكر تذلل «رسودان» ملكة الأبخاز وطلبها مصاهرة أعتاب السلطنة بتوسط ملك الأمراء

ذكر تذلل «رسودان» ملكة الأبخاز وطلبها مصاهرة أعتاب السلطنة بتوسّط ملك الأمراء لمّا سمعت «رسودان» ملكة الأبخاز بتوغّل عساكر السلطان وبالنّكسة التي حلّت بالقلاع الواقعة بتخوم بلادها ونجمت في بقاعها بفعل حوافر الخيل الجوّابة التي يمتطيها المقاتلون من بلاد الرّوم، خاصمتها الراحة وجافاها الهدوء والسكينة. وبعد إدارة أقداح الاستشارة رأت المصلحة في أن تدخل من باب الملاطفة والمسالمة مع أرباب الدولة. ومن أجل ذلك فتحت باب المكاتبة مع الأمير كمال الدين، والتمست الأعذار عن ما كانت قد عاينته من خبث أمرائها [بسماحهم لجيش المغول بالتوغّل في بلاد الرّوم] (¬1)، وأرسلت الأحمال. وقالت: إني خادمة السلطان، أطيع كلّ من يأمر به وأذعن له، وأغلب الظن أن الرّضا بالعفو لا يكون مقرونا بتخريب بلادي، وأن لا يجيز ملك الأمراء- بما يتمّيز به من كمال الكرم ومحاسن الشّيم- أعمال الظّلم. والمتوقّع من ألطافه الإبقاء على بقايا البلاد، وأن يطلع الأعتاب السلطانية على رغبتنا في الصّلح، وحين تلوح آثار العناية والتعطّف سيتم تأكيدها بطريق المصاهرة والقرابة، إذ يجول بخاطري أن تصبح ابنتي المطهّرة- وهي من صلب سلجوق ومن أصل داود (¬2) - قرينة لملك الإسلام غيّاث الدّين كيخسرو بحكم ما حصل من جوار بين ديارنا. فقرن ملك الأمراء كمال الدين- بما عرف عنه من دهاء وحسن إدراك- ملتمس الملكة بالإجابة/، ودعا إليه الجند. ثم أبلغ السلطان بنبأ فتح ثلاثين أو ¬

(¬1) زيادة من أ. ع، ص 422. (¬2) تريد به داود بن سليمان بن قتلمش بن أرسلان بن سلجوق، وهو ثانى سلاطين سلاجقة الروم، تولى الحكم بعد وفاة أبيه سليمان مؤسسة الدولة. انظر شجرة نسب سلاجقة الروم فى آخر هذا الكتاب.

ذكر توجه عساكر السلطان نحو الأرمن واستخلاص إقليم أخلاط وباقي بلاد الأرمن وإضافتها إلى سائر الممالك المحروسة

أربعين قلعة مشهورة معمورة، وسبي الذّراري ونهب الأموال والمواشي وتشبّع الجيش بالمال. وكان السلطان- منذ أن بعث بالجيش في إثر المغول- قد كفّ عن إحياء الحفلات وأمسك عن الطّرب، ولبث يترصّد الأخبار السارّة. فأمر في الحال بإحياء الحفل، وتمّ استدعاء حرفاء الطّرب. وتمّت إجابة الأمير كمال الدين بردّ موشح بالتوّقيع الأشرف للسلطان، مشفوع بالإعراب عن الرّضا بما بذل من مساع مشكورة وخدمات مبرورة، وصدر الأمر بأن يسمح للعساكر بالعودة إلى الأوطان، وأن تعدّ مصاهرة الملكة مقرونة بالقبول، وألا يسمح للجيش منذ الآن بإلحاق ضرر بولاية الأبخاز. فاستدعى الأمير كمال الدين الأمراء، وأبلغهم بالأمر، ثم ارتحل. وحين لحق بحدود «أرزنجان» أمر الجند بالانصراف، وسارع هو إلى الحضرة السلطانية، فنال من الإكرامات والكرامات ما لم ينله أحد. ذكر توجه عساكر السلطان نحو الأرمن واستخلاص إقليم أخلاط وباقي بلاد الأرمن وإضافتها إلى سائر الممالك المحروسة حين سمع السلطان أنّ ممالك الأرمن قد صارت مهالك، وأن الملك الأشرف- بحكم ما كان يغلب على طبيعته من محبّة للهو- قد استقر بدمشق بعد «سنجار»، وسلك سبيل الطّرب في جوسق «هرت» (¬1)، وأنه لا يعير اهتماما لما يحدث بديار الأرمن في الوقت الذي يتابع فيه جيش المغول غاراته دون ¬

(¬1) في أ. ع 427، بيرب.

انقطاع، ويقبض على بقايا الرعيّة فيأخذهم أسرى. كما كان جانب من الجيش الخوارزمي قد تفرّق مشردا في تلك الأطراف، فأخذ أفراده في قطع الطّريق/، حين سمع السلطان ذلك كلّه أمر- لفرط شفقته ورحمته- «كمال الدين كاميار» بأن يوجّه الحشم المنصور بأسره إلى تلك الحدود، وأن يعمل على إلحاق ديار الأرمن من «أخلاط» و «بدليس» حتى نواحي «تفليس» بسائر الممالك المحروسة. فانطلق الأمير كمال الدين بموجب الحكم مع العساكر كافّة، فلما بلغ أخلاط وجد تلك المناطق «كدار ما بها أدم» واستقبله جماعة ممن بقي من سراة الناس هناك دون قيل وقال وجواب وسؤال، وحملوا الرّاية في الحال إلى المدينة، وأقسموا على الولاء للسلطان، وجعلوا الخطبة باسمه. وغادر الجيش المدينة، وأمر بالنزول على شاطئ البحر، وسيّرت أفواج العساكر بصحبة الأمراء إلى كلّ ناحية، وفرضوا سيطرتهم على ممالك الأرمن بأسرها، بيمن دولة السلطان. وأرسل الأمير كمال الدين بخبر فتح ديار الأرمن، وما وقع لتلك الديار والدّمن من خراب، إلى الحضرة السلطانية، فسرّ السلطان بالفتوح، وأنفذ أمرا- بيمن نقيبة الأمير كمال الدين واستمالته وسائر الأمراء الذين كانوا يتولّون قيادة الجند- بأن يسلّم «الصّاحب ضياء الدين قرا أرسلان»، و «سعد الدين المستوفي الأردبيلي» و «تاج الدين پروانه ابن القاضي شرف» من المال ما يذهبون به نحو أخلاط والأرمن، ويدبّرون أمر تلك البلاد؛ فيعيّنوا أبواب الإنفاق، ويقّيدوا أملاك الغائبين والقتلى، وأن ينصرف الأمير كمال الدين صوب «أرزروم» ويبقى هناك في انتظار الأوامر. فلما وصل الصاحب و پروانه

والمستوفي (¬1) هناك كان لابد للأمير كمال الدين من مادة الجير لإعادة بناء ما تخرّب من أبنية القلاع/، فأخذ يسلّم حجر الجير والتّبن في نواحي «عادل جواز». وأمر كل واحد من الأمراء بأن يبني بضعة أفران كبيرة، ويباشروا العمل، فأقاموا في يومين أو ثلاثة آلاف قمينة من قمائن الجير، وأخذوا يحملونه بالجمال إلى أرزن الروم، وصل أمر باستدعائه وبالسماح للعساكر بالعودة إلى أوطانها، فسمح للجند في الحال، وانطلق بنفسه عازما على المثول في الأعتاب السلطانية. حين لحق الصّاحب ضياء الدين وتاج الدين پروانه وسعد الدين المستوفي- وفي صحبتهم ألف فارس من المفاردة- بإقليم أخلاط، نصبوا الدّيوان، فسجّلوا كل الأملاك والعقارات، ودعوا المزارعين وأرباب الأراضي للعودة إلى أراضيهم ومياههم، وسلّموهم البذور والماشية، وأسقطوا عنهم التّكاليف المعهودة. كما استدعوا محافظي القلاع، وضبطوا الإيرادات والمصاريف العامّة. ولما وصل الخبر لولاية «الكرج» و «أرّان»، توجّه إلى الأوطان كل من فرّ وتفرّق، وما لبثت الولاية أن عمرت في أقلّ مدة. ثم إنّهم فوّضوا قيادة جيش تلك الممالك «لسنان الدين قيماز»، وكان أميرا شجاعا وقائدا عسكريا ذا دراية وتجربة. فبلغه أن «قير خان» قد نزل «بتطوان» مع جماعة من جند الخوارزمية، وأن الولاية ليست بآمنة من جهته. وكان السلطان قد سمح بدعوته للولاء لأعتابه. ¬

(¬1) قارن أ. ع، 427.

وذات يوم تغيّب «سنان الدين قيماز» مع غلام وركابيّ فقط عن أنظار الأمراء، وتوجّه صوب «طاطوان»، فلما اقترب أدرك رجلا من جيش الخوارزمية وقال: أخبر الخان أنّه حين غلبت قايماز/ الحاجة للّقاء جاء أعزل من السلاح. فعسى أن يسمح له بالتشرّف بالخدمة. فلما سمع «قير خان» ذلك تملّكه العجب، وأرسل واحدا من ملازميه- كان ذا دراية- لاستقباله لكي يتبين صحّة الخبر. فلمّا تحقق أنه هو، ذهب «قير خان» بنفسه لاستقباله مع شخص واحد هو حاجبه، فلما حصل اللقاء وتلاطفا طويلا استأذن الأمير «سنان الدين» وذهب عند زوجة قير خان وأبلغها السّلام وسألها عن نكبات الأيام وواساها ثم عاد إلى قير خان، وطلب طعاما على سبيل التبسّط، فأتوا بما كان حاضرا من الطّعام. وبعد تناول الطّعام انتزع «سنان الدين» مصحف الحمايل من غلافه ثم وضع يده عليه وأقسم أن أمراء السلطان لا يحملون في قلوبهم أيّ ضغن لقير خان وسائر أمراء الخوارزميّة، ولن يسيئوا لهم، وكلّ ما يعّولون عليه أن ينتقلوا من هذا التشرّد إلى حالة من الأمن والاستقرار، وليس أدلّ على ذلك من أنّ السلطان قد قال للصّاحب بأن يدخلكم في دائرة الطّاعة. فإن وافقكم هذا الأمر فيتعين على قير خان وسائر الأمراء أن يقسموا بأنّهم مع السلطان جميعا في السرّ والعلن. فاجتمع «قير خان»، و «بركت»، و «يلان نوغو» (¬1) و «سارو خان» و «كسلو سنكم» والأمراء الآخرون بأسرهم، وأقسموا على ذلك كلّه، وأتوا بالخمر، فلمّا تداولوا عدة أقداح اعتذر «سنان الدين» وطلب السّماح بالعودة ¬

(¬1) ورد هذا الاسم في أ. ع، 430: ويلان نوغور خان بيردي.

لإبلاغ الصّاحب وباقي الأمراء، وتم الاتّفاق/ على أن يركبوا عند الصّبح ويدخلوا بساتين المدينة لكي يقوم أمراء الدّولة وأكابرها باستقبالهم ويتمّ هناك إقرار ما يلزم من مهمّات والتّأكيد عليه. وحين دخل سنان الدين قيماز المدينة كانت صلاة العشاء قد قضيت، وقد نهض أركان الدّيوان فسأله الصاحب عن سبب غيبته فأخبره بالأمر، فأثنوا جميعا على فرط كفاءته وشجاعته. وأمر الصّاحب بإعداد مائدة كبرى. وفي اليوم التّالي حين طلع كوكب الشّمس وأطلّ من قلل جبال المشرق، كان قير خان وسائر أمراء الخوارزميّة قد وصلوا إلى أطراف المدينة، فخفّ تاج الدين پروانه وسنان الدين قيماز وسائر الأمراء للاستقبال، وأنزلوهم بأحد البساتين، ووضعوا من الأطعمة ما كانوا قد أعدّوه، وبعد الفراغ طلب تاج الدين پروانه تجديد القسم رغبة في تأكيده. فأعاد قيرخان والأمراء الآخرون القسم على نحو ما فعلوا بالأمس. فلما حصل لپروانه وسائر الأمراء اطمئنان البال، دخل بروانه المدينة ليلا وأعاد على سمع الصّاحب ما كان قد تم تدبيره وجمعه من مهمات، فأمر الصّاحب بأن يعدّوا أضعاف مأكولات الأمس. وفي اليوم التالي خرج بنفسه من المدينة بموكب حاشد تحفّه الزينة والجلال، فلما أبلغ قير خان بوصول موكب الصاحب جاء لاستقباله، فتعانقا. وواسى الصّاحب قير خان، ونزلا ببستان، وكرر الصّاحب لقير خان العهد والميثاق بالأيمان المؤكدة، وقسّم كل ولايات أرزن الروم عليه هو وباقي القادة، والتمس الأعذار لأنه إنما يتم الاقتصار حاليّا على هذا القرار، فإذا ما وصلنا لخدمة السلطان فسوف يجري تعزيز كامل. ثم ذهب إلى المدينة، وكتب على التّوقيعات السلطانية التي كان قد

ذكر غارة المغول على الخوارزمية وتفرقهم

اصطحبها معه مواثيق باسم كلّ واحد من/ أمراء الخوارزمية. وفي الصّباح الباكر أرسل المواثيق مع ثلاثمائة، من الأعلى والأوسط والأدنى إلى قير خان. وفي اليوم التّالي ارتحل قير خان مع جميع أتباع الخوارزميّة إلى أرزروم. ذكر غارة المغول على الخوارزمية وتفرّقهم حين ارتحل الخوارزميون من إقليم «أخلاط»، وانطلقوا صوب أرزن الروم، ولحقوا «بطو غطاب»، صادفهم في الطريق مرج كأنه من روضات الجنان، فراقهم لخصب منبته ولطف مرعاه، وفتنوا به، ونزلوا جميعا دفعة واحدة، وأنزلوا السّروج عن ظهور الخيول ووضعوها على الأرض، وتخلّوا عن أسلحتهم، ووضعوا رؤوسهم على وسادة الرّاحة، ثم راحوا في نوم عميق. وفجأة أغارت عليهم من أحد الوديان كتيبة مغولية، فجعلت عددا لا حصر له منهم علفا للسيوف، بينما نجا بروحه كلّ من أعطي مهلة في الأجل، وشردوا في الوديان فرادى وجماعات. وحين حسم جيش المغول أمر الخوارزميين، كانت السّماء قد اصفرّت [ومالت نحو الغروب] فجاءوا إلى أبواب «أخلاط» بسيوف رزقاء ملوّثة بالدّم، فلزم الفرسان والكتّاب الذين كانوا في المدينة الحيطة والحذر طول اللّيل، وتأهّبوا للقتال والنّزال. وعندما انبلج الفجر كان جيش المغول قد ارتحل، وترك النّيران في مكانها مشتعلة. فدفع الصّاحب عددا من الفرسان للتحقّق من الأمر، فدقّقوا النّظر في المكامن والمهارب والمسارب والكهوف، فلم يعثروا على أيّ أثر. وفجأة خرجت عجوز وهي تزحف من فتحة أحد الجدران، وأسرعت نحو الفرسان،

فحملوها إلى الصّاحب. كانت تلك المرأة أمّ (¬1) قير خان، قالت:/ ما إن استغرقنا في النّوم بصحراء «طوغطاب»، حتى هجم علينا فجأة سبعمائة رجل من لابسي الدروع من جيش المغول، كانوا قد ظلّوا يقودون خيولهم من «مغان» إلى تلك المنطقة طوال ستة أيام بلا توقّف، فنجا كلّ من كان متيقّظا وأتيح له الإمساك بدابّة من الدوابّ، فصعد جبلا أو هرب في واد. ثم إنهم أخذونا وساقونا إلى أن رأوا الفرسان. فاتّخذت من ظلمة الليل وقاء عصمني، وتخفّيت في فتحة بأحد الجدران. ومن ذلك الحين وأنا لا أعلم شيئا عن أحوال الخوارزميّة. قال الصّاحب: أليس من العار أن يعجز أربعة آلاف رجل من الخوارزميّة عن التصدّي لسبعمائة رجل من التّتار؟ أجابت العجوز: لو ألقيت قلنسوة مغولي وسط آلاف مؤلّفة من الفرسان الخوارزمية لولوا الأدبار جميعا، هكذا تمكن رعب المغول في قلوب الخوارزميّة. فانفعل الصّاحب لقول أنثى الضبع تلك، وقال يجدر بنا قبل أن ينقلب المغول ويحاصروا المدينة أن ننطلق إلى أرزروم [فاستصوب كلّ أصحابه هذا الرّأي] (¬2)، وأخذوا في تدبير الأمور الهامة للمالك، وحملوا من العلف ما يكفي لأربعة أيّام ثم سلكوا طريق أرزن الروم. وهناك جاء الرّسل من كلّ ناحية بأن كل فرد من جنود الخوارزمية قد انتهى به المطاف إلى إحدى النواحي. فأرسل الصاحب مبعوثين لدعوتهم إليه، فجاءوا ¬

(¬1) «أم امرأة قير خان» أ. ع، 433. (¬2) إضافة من أ. ع، ص 434.

ذكر الحشد الذي جمعه الملك الكامل لغزو بلاد الروم، وانهزامه وعودته منكوبا مقهورا إلى القاهرة

جميعا في خدمته، وقصّوا عليه ما حدث. فبالغ الصّاحب في استمالتهم وقال: المأمول إلا تتعرّضوا بعد ذلك لأي نكبة بجلال دولة السلطان، وأن تكون هذه آخر النّكبات وخاتمة المصائب. وأعطى لهم جميعا الثّياب والذّهب، فانطلقوا راضين صوب قيصريّة. وحين وصلوا إلى أعتاب السلطنة في قيصريّة، أثنى السلطان على الخدمات الرّائعة والآراء السّديدة للوزير وطيّب خاطر الخوارزميّة، ومنح «أرزنجان» لقير خان، و «أماسية» لبركت، و «لارندة» «لكسلوسنكم» / و «نكيدة» «ليلان نوغو» بصفة إقطاع. ذكر الحشد الذي جمعه الملك الكامل لغزو بلاد الرّوم، وانهزامه وعودته منكوبا مقهورا إلى القاهرة في سنة 630 لم يقتصر الملك الكامل- لعقله النّاقص وشقائه الخالص- على ملك مصر وحكم بلاد اليمن، بل كان يريد الاستيلاء على مملكة الرّوم لتضاف إلى بلاده. وبدّل التوجّس والتّفرقة بالتّقارب والوحدة، فدعا كفرعون بالآية: فَحَشَرَ فَنادى (¬1) وأمر بأن يشنّ الأخوة هجوما مباغتا على بلاد الرّوم كسيل العرم، فلا يقع للسلطان علم بالأمر إلا بعد أن يغزو «الكامل» بلاد الروم ويجلس على العرش. وقد أنهي هذا الأمر في الحال إلى ديوان السلطان، فلما أحيط علما بهذا ¬

(¬1) النّازعات: الآية 23.

التخبّط من جانب الكامل قال: إذا كان غرور الملك، [بمقتضى قول الله عز وجلّ عن فرعون]: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ (¬1) قد حمله على التّفرعن (¬2) والإعراض عن قبلة المودّة، فقصد محاربة هذه الأسرة السلطانية، فإنّ المأمول أن يولّي وجهه صوب القاهرة مقهورا بأسرع ما يمكن وأن يلوذ بالفرار إلى مصر جزاء لما هو مصرّ عليه من الشرّ ويمزّق ثيابه ويلقي بها في النّيل حسرة على ما كان من ملكه للشام. وفي الحال أمر «كمال الدين كاميار» بأن يتوجّه دون إبطاء بمن حضر من الجند حول الأعتاب السلطانية إلي ممّر «آقچهـ» ويتّخذ اللازم لصيانتها، وألّا يبخل بشيء مما هو معروف عنه من حزم ودراية، لأن المواكب السلطانية ستنطلق في الأثر. فواصل الأمير كمال الدين مع الأمراء والقادة السّير بالسّري حتّى وصل إلى أوّل «الممر» / فسدّ المنافذ بالشجر والحجارة وشحنها بالمقاتلين. وبعد يومين أو ثلاثة وصل السلطان بعساكر وفيرة وبصحبته أمراء الرّوم وخوارزم، وما لا حصر له من العتاد والعدّة. وعندما كان يولي جيش الحبش الأدبار منهزما خوفا من جيش الصّين والختن (¬3) كان الخوارزميّة والرّوم يخرجون من تلك الممّرات ويشتبكون في القتال والنّزال مع رجال الشام، فيقتلون ويجرحون الكثيرين من النّاس دون أن يلحق بهم- بقدر الله- أذى من قبل جيش الشام. وكان السلطان حينذاك ¬

(¬1) الزخرف: الآية 51. (¬2) في الأصل: فريب (خداع) والتصحيح من أ. ع 437. (¬3) يعني إدبار الليل وإقبال النّهار.

رطب اللّسان بقول الله تعالى: وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (¬1). وذات يوم قال السلطان: ينبغي الوقوف بكل جدّية أمام جيش الشّام عند الصّبح، ولنفصل في هذا الخصام بحكم الحسام. فأخذوا في التأهّب والاستعداد طول الليل. وفي السّحر حين ركب قائد السيّارات حصان الفلك الأسود، وجرّد في معرض ميدان الأفق الشرقي خنجرا من شعاع جال مسرعا هنا وهناك، لبس السلطان بنفسه لأمة الحرب، وراح الأمراء الكبار بأسرهم في الحديد، وولّوا وجوههم صوب الخصم فرووا السيوف زمنا بأوداج الأعداء. ولم تكن الحرب العوان قد كشفت عمّن كان النصر معوانا له ومن لحق به الخذلان، ولم يكن الكاسر قد سلب المنكسر كرة الظّفر حتي شوهد فارس أقبل ثم وضع رأسه على الأرض، وقال: أيها المليك، تولت عداك (¬2) فعند الصبح سلك الملك الكامل مع إخوته طريق الشّام، ففرح السلطان بتلك البشارة. وأراد الملك الكامل وإخوته الدخول من طريق «دوزخ دره» «وباغنبك»، وكانت العساكر المنصورة تحرس هذين الممرين، فلما بلغوهما وبدا من المتعذّر فتح ثغرة في الحصار المضروب اضطرّوا إلى التّنادي بالمثل القائل «الفرار بقراب أكيس» (¬3)، واتجهوا إلي طريق حصن «منصور»، فلما بلغوه أضرموا النار في القلعة وخرّبوها، وولّوا وجوههم شطر مصر والقاهرة خوفا من بأس الدولة القاهرة: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ (¬4). ¬

(¬1) سورة الصافات: الآية 173. (¬2) إضافة من أ. ع. ص 438. (¬3) المثل العربي: «أن ترد الماء بماء أكيس». (¬4) الأحزاب: الآية 25.

ذكر محاربة ملوك الشام وشمس الدين صواب لعساكر السلطان وانهزامهم وتحصنهم بقلعة خرتبرت

ذكر محاربة ملوك الشام وشمس الدين صواب لعساكر السلطان وانهزامهم وتحصّنهم بقلعة خرتبرت لما رجع الملك الكامل خاوي الوفاض من بلاد الرّوم سار إليه ملك خرتبرت لفرط عجزه، وكان قد تولّى بالولاء له وانخرط في زمرة المحبّين لدولته وقال: لقد اكتسبت عداء السلطان بسبب مودّتي لكم، فيلزم من باب المروءة أن تكون صيانة ملكي في ذمتكم. فندب الملك الكامل كلا من ملك حماة وملك حمص والأمير شمس الدين صواب- وكان زعيم الدار [وخادم حرم الملك الكامل] (¬1) والاعتماد كلّه على شجاعته- مع خمسة آلاف فارس للمحافظة على «خرتبرت». وحين رجع الملك الكامل جاء السلطان إلى ملطيّة، واستدعى العساكر التي كانت قد توجّهت لحراسة الممرّات، وأمر بمدّ الجسور على نهر الفرات، وأن تعبر العساكر بأسرها. فلما بلغوا صحراء خرتبرت، كان ملوك الشام قد نزلوا تحت «العقبة» (¬2)، وأخذوا الأهبة للقتال، فشرع مبارز الدين جاولي وبهرامشاه الجاندار وياقوت ميرداد وسائر الشّخصيات الكبيرة في تعبئة الميمنة والميسرة، وتقابل الجانبان، واصطفا صفوفا حتى انتصف النهار ولم تصدر عن الطّرفين حركة- لأنهم كانوا/ ينتظرون الأمير كمال الدين. وكان قد نما إلى سمع الأمير كمال الدين أن ملوك الشام يزمعون التحرك ¬

(¬1) إضافة من أ. ع، 440. (¬2) العقبة: المرقى الصعب في الجبل.

للقتال عن طريق «البيرة»، فوجّه الجيش صوب ذلك الطّريق على سبيل الاحتياط. فلما وصل إلى هناك ولم ير أحدا انصرف إلى خرتبرت [وظل الأمير «مبارز الدين جاولي چاشني كير» و «شمس الدين ألتونبه چاشني كير» يتريثان ويتابطآن حتى تلحق بهما بقيّة العساكر] (¬1)، وأرسلا إلى [كمال الدين] رسولا فتباطأ ولم يتعجّل، فلما رأى الرّسول أنه سوف يحدث تهاون في الإمداد، صاح في الجند بأن عساكر الشام قد ولّت الفرار، وأن عساكر الروم التي كانت في مواجهتها قد نالت ما لا حصر له من الغنائم. وبهذا الإطماع انضمّ خمسة آلاف فارس بكل من «چاولي چاشني گير» و «ألتونبه چاشني گير». ولما رأت العساكر المصطّفة أن جندا قد وصلوا لمددهم هجموا، فردّ الشاميون هجومهم. فهجم عليهم «تاج الدين پروانه ابن القاضي شرف» مع عساكر «نكيدة»، وجاء «سعد الدين كوبك» من الميسرة إلى الميمنة، فألحقا بجند الشام هزيمة كاملة، وقتلت من الشاميين مقتلة عظيمة، ولم يقتل أحد في الحرب من هذا الجانب إلا أحد الفرنج، وأسروا سبعمائة من جند الشام وأرسلوهم إلى دهليز الفاتح. ثم إن الشاميين نزلوا وسط عقبة خرتبرت، وعاد الروم إلى مضارب الخيام. وفي اليوم التّالي وصل «كمال الدين كاميار» بجيش جرّار، فلما شاهد جند الشام من فوق العقبة عقاب مظلّة الفاتح، تدافعوا في هلع وذهول حتى دخلوا قلعة «خرتبرت» فدخل جند الرّوم المدينة بتؤدة، وبالغوا في النّهب وحرق الديار، وخرق الأستار/. وكان السلطان قد بقي في ملطيّة في انتظار من يبشره بالفتح. ¬

(¬1) إضافة من أ. ع، أيضا.

ذكر والد ووالدة مؤلف أصل هذا المختصر الأمير ناصر الدين أمير ديوان الطغرا وهو مما ينبغي إيراده وفق مقتضى الحال

ذكر والد ووالدة مؤلّف أصل هذا المختصر الأمير ناصر الدين أمير ديوان الطّغرا وهو مما ينبغي إيراده وفق مقتضى الحال كانت والدته «بيبي» المنجّمة، وهي بنت «كمال الدين السّمناني» رئيس أصحاب الشّافعي في نيسابور، وهي من قبل والدتها حفيدة «محمد بن يحيي» (¬1) برعت في علم النّجوم، ولما كان طالعها مشتملا على سهم الغيب فقد جاءت أحكامها في الغالب موافقة للقضاء والقدر. وعندما جاء «كمال الدين كاميار» في سفارة إلى السلطان جلال الدين عند باب «أخلاط»، رآها مقرّبة لخدمة السلطان، ووجدها مرجوعا إليها في أحكام النّجوم، وبعد عودته عرض هذه الحكاية على سبيل التندّر في أثناء المحاورة، ولما حدث للسلطان جلال الدين ما حدث، حيث حلّت به النّكبة من جيش المغول انتهى الأمر بهذه المرأة وزوجها إلى دمشق، فلمّا بلغ خبر ذلك للسلطان «علاء الدين» أرسل إلى الملك الأشرف رسولا لاستدعائهما، فأتى بهما إلى بلاد الرّوم معزّزين مكرّمين. ولما ذهب الجيش إلى خرتبرت حكمت بيبي المنجّمة بأنه في اليوم الفلاني، وفي الساعة الفلانية يصل من يبشّر بالنّصر والظّفر، فأخذ السلطان يترصّد ذلك اليوم ويتطلّع إلى وصول الرّسول في تلك السّاعة. وفجأة وصل الرسل بنبأ مفاده أن عساكر الشام قد خذلت ولجأت إلى «خرتبرت»، ولو تحرّكت الرّايات نحوها في أيّ لحظة سيتم فتح القلعة دون أدنى منازعة. فتزايدت ثقة السلطان بمهارتها في ذلك العلم من موافقة ذلك الحكم. وأطلق غلمان الخاصّ في الحال ¬

(¬1) محمد بن يحيي بن منصور النيسابوري، محيي الدين (476 - 548)، رئيس الشافعية بنيسابور في عصره، تفقّه على الإمام الغزالي، ودرّس بنظامية نيسابور. انظر: وفيات الأعيان، لابن خلكان، طبع مصر 1: 465.

لإحضارها، فلمّا دخلت قال: وافق حكم بيبي خاتون القدر الربّاني/. وألبسوها خلعة، وأمرها السلطان بأن تعرض كل ما تتمنّاه من أمنيات، فالتمست إسناد ديوان الإنشاء الخاصّ بالسلطان لزوجها «مجد الدين محمد الترجمان». وكان من سادات «كورسرخ»، ومن الشخصيات الهامة بجرجان، فتحقق لها ذلك دون أدنى تردّد، وظلّ دائما ملازما في الحضر والسّفر، وكان يحظى بالعطف الملكيّ، وبلغ أمره في تلك الدولة مبلغا بحيث لم يكن السلطان يرى من هو أصلح منه لحمل الرّسائل إلى البلاطات الكبرى كبغداد والشّام والخوارزمّيين «وجلال الدين مسلمان» (¬1) و «إيلچي» (¬2) وقد انتقل إلى جوار ربّه في شعبان سنة 670 هـ. نرجع إلى ما كنا بصدده، أمر السلطان فدقّوا في الحال طبول البشائر، وفي اليوم التّالي تحرّك موكب السلطان صوب خرتبرت، وما إن بلغوها حتى نصبوا ثمانية عشر منجنيقا، فأجالوا مجال الأمل وضيّقوا مدّة الأجل بتواتر الحجارة على المحصورين بالقلعة. ومن غرائب الاتّفاقات أنهم كانوا قد علّقوا حملا في تنّور بمطبخ ملك خرتبرت لكي يقدّم للملك وملوك الشام، فدخل المسؤول عن المطبخ وذكر أن حجر المنجنيق سقط على التنّور وأخذ الحمل وغيّبه في الأرض [ولم يعد له من أثر] (¬3). وكان ملك حماة رجلا عاقلا، فقال: يا أصحاب الدولة، إنّ الدخول من ¬

(¬1) فى الأصل: علاء الدين، وهو خطأ واضح، انظر ما سلف ص 183، هامش 2. (¬2) كذا في الأصل، وواضح أنه يشير بهذه الكلمة إلى المغول، وإيلچي بمعنى مبعوث، أو رسول. انظر فيما سبق ص 198، هامش 2. (¬3) إضافة من أ. ع، 444.

باب المقاومة أمر بعيد عن الحكمة والسداد. والرأي أن يذهب واحد منا إلى حضرة السلطان ويمسك بتلابيب كرمه فلعله يؤمّننا على أرواحنا. فاتفقوا جميعا على أن يأتي ملك حماة- الذى كان قد أشار بهذا الرأي- إلى خدمة السلطان، فحظي بالعاطفة الملكية وقرنت شفاعته بالإجابة بشرط ألا يخرج ملوك الشام وأمراؤه من القلعة شيئا قلّ أو كثر، وأن يقنعوا بخروجهم سالمين. وتمّ تسطير كتاب الأمان على هذا النحو، لكنّ/ حجارة المنجنيق واصلت العمل. وفي اليوم التالي خفقت عذبات (¬1) أعلام سلطان ممالك الشّرق على شرفات السّماء الزّرقاء (¬2). فعلت الأصوات من القلعة طالبة الأمان، وطلبوا أن ترفع إليهم الراية السلطانية، فحمل «خاصّ طغرل» الرّاية إلى أعلى، ونصبها على جدار البوّابة، وكانت أصوات البشارات من الدّاخل والخارج تصل إلى أسماع الكواكب السيّارة. وخرج أمراء الشام وملوكهم من القلعة ونزلوا بموضع كان ضيوف الشّرف قد حدّدوه من قبل، فأرسل السلطان لكلّ خلعة على قدر مرتبته، وأمر بأن يحضروا إلى الحفل المضيء للعالم بعد صلاة العشاء، فدخل ملوك الشام وأمراؤه جملة وقد لبسوا الخلع، ونالوا من الطّعام والشّراب نصيبا ليس هناك ما هو أهنأ منه، بخلاف شمس الدين صواب الذي لم يلتفت إلى الخلعة، ولم يتناول كسرة خبز في الخوان. فضاق السلطان بتنّمره وتجبرّه، وقال للأمير «كمال الدين» إنه لم يلبس ثوبنا الأسود ولم يأكل خبزنا. فأجاب كمال الدين: قد أكل بكلتا يديه وبلغ به الشبع مبلغه. فتبسّم السلطان لسماع تلك اللطيفة. ¬

(¬1) كذا في الأصل، كلمة عربية. والعذبة طرف الشئ. (¬2) هذه عبارة أ. ع 445، وعبارة الأصل مضطربة.

ذكر فتح حران والرها والرقة وتوابعها ولواحقها

وفي اليوم التّالي نودي في الجند: كلّ من يبيع دوابّ للشاميين لن يكون جزاؤه إلا القتل والصّلب. وما كان هذا الاستخفاف [بالملوك وهو أمر لم يكونوا يستحقونه] (¬1) إلا بسبب فساد رأي «صواب». وفي اليوم التّالي حصل الملوك على الإذن بالانصراف فيمّموا وجوهم شطر أوطانهم. وكانت الرّطوبة قد غلبت علي مزاج «صواب» فعجز عن المشي، فأخذ غلمانه يحملونه بالتّناوب على درع كرجي، حتى بلغوا به حدود الشّام. وفي اليوم الذي نال فيه الملوك الإذن [بالانصراف] أصعد السلطان النوّاب والأمناء إلى القلعة لتدبير أمورها (¬2). ثم اتجه صوب قيصريّة، وأصدر أمرا «لكمال الدين كاميار» و «إياز الشرابسالار» لكي يطهّرا الملكين اللذين أنجبهما من الملكة العادلية/ ويقوما بختانهما وفق رسوم الختان السلطانية. وانطلق بنفسه عازما على بلوغ مشتى أنطاكية وعلائية. ذكر فتح حرّان والرّها والرّقة وتوابعها ولواحقها حين عزم موكب ملك النّجوم على الانصراف- بالأمر الإلهي- من برج القمر إلى برج الحمل، وكسا بصنعته أطراف قلل الجبال بالحليّ والحلل. انطلق السلطان من أنطاكية وعلائية إلى قيصرية التى كانت مجمعا للعساكر. وأمر الأمير كمال الدين وسائر أركان الدّولة أن يعقدوا العزم على فتح حرّان، والرّها، والرقّة ومضافاتها، ويجعلوا من ديار العادل والكامل وقصورهما مجاثم للسّكون، ومرابض للظّباء والأنعام. ¬

(¬1) إضافة من أ. ع 446. (¬2) قارن أ. ع، 446.

فانطلق ملك الأمراء كمال الدين بخمسة آلاف فارس كالبرق اللّامع. وما إن بلغ تلك النّواحي حتى نصب المجانيق، ورغم أنّ شرفة «حرّان» كانت تسامت برج النّجوم، وتستنكف عن أن يذكر بين يديها جبل «قاف» كما كانت أمواج خندقها توقع الرّعدة في روح البحر الأخضر، فإن الرّجفة أخذتها من كل جانب بسبب تواتر الهجمات ووقع أحجار المجانيق في بيوت ساكنيها والحجرات. لكنهم- إنصافا لهم- صابروا مدة شهرين. فلما عجزوا عن تجرّع ما للصبر من كاسات مريرات، وشرع عسكر الكرج والفرنج في إيذاء كرائم حريم المسلمين في المدينة، صرخوا طالبين الأمان لتسكين هذه الفتنة وخوفا على أرواحهم. وأرسلوا الأكابر لخدمة ملك الأمراء. فاشترطوا عليهم إلا يحملوا خارج القلعة شيئا سوى الأطفال والعيال، وأن ينزلوا منها عارين كالحليب/ ويخرجوا خروج الشّعرة من العجين. فرفعوا الرّاية السلطانية وصعد الأمراء إلى القلعة وهي خالية، فأثبتوا في الدفاتر ما لا حصر له من الأموال والخزائن، وشحنوها في الصناديق ثم ختموا عليها (¬1)، وأبلغوا السلطان. فأمر- بعد أن أثنى على ما بذلوه من مساع- بأن يرسلوا الخزائن بكل حيطة إلى الخزانة العامرة، ويتركوا بالقلعة ما لابد من وجوده بها، ويرسلوا ما تبقى مما انتقوه لكي ينقل إلى ملطيّة المحروسة. ثم إنّ عليهم المبادرة بترميم ثغرات القلعة، والتّوجه بعد إنجاز المهامّ إلى الأعتاب السلطانية. وبعد عودة ملك الأمراء والعسكر من فوق قلعة حرّان وصل رسل ملطيّة فجأة بخبر مفاده أن الملك الكامل عاد إلى حرّان واستولى على القلعة ثانية بحصارها، ووضع المحافظين والجند والنواب في أجولة وحمّلها على الجمال ¬

(¬1) قارن أ. ع 448.

ذكر تصدي تاج الدين لمحاصرة آمد وعودته خائبا

وأرسلها إلى مصر، وزجّ بهم في السّجن المؤبّد. ومع أن السلطان انفعل بهذا الخبر لكنه استشهد بالمثل القائل «فيوم لنا ويوم علينا»، وقال إنّ استرجاع حرّان ليس بالأمر المهمّ، والرأي أن تنطلقوا لمحاصرة «آمد». أجاب «كمال الدين كاميار» إن أمر السلطان سليم، وإن العساكر المنصورة لو قصدت قلاع الأفلاك لمرّغت أبراجها في التراب بغير عناء، ولكن لما كانت «آمد» مدينة لها قلعة هي جبل صلد، ولم يقيّض لأيّ سلطان سبق أن يفتحها، فهيهات هيهات أن تتمّ السّيطرة عليها، لكنّ أغلب الظنّ أنّها تفتح في ثلاث سنوات متتابعة بحيث يتمّ في السنة الأولى إحراق مزروعاتها، ونهب مواشيها وأسر رعاياها ومزارعيها ونكبهم. ولا يسمح لمدّة سنة أخرى أن يصل إليهم مدد يشكل مخزونا احتياطيّا لديهم. وفي السّنة الثّالثة يمكن أن يمسكوا بتلابيب الأمان ويسلّموا المدينة./ ونظرا لأنه أحجم بهذه العبارة عن محاصرة «آمد»، [فقد توقّف السلطان في الأمر] (¬1). ذكر تصدّي تاج الدين لمحاصرة آمد وعودته خائبا ذات يوم، وفي أثناء معاقرة الخمر وتداول الأقداح قال «تاج الدين پروانه» ابن القاضي شرف الدين الأرزنجاني، ترويجا لسوقه ونيلا من مكانة كمال الدين كاميار- وكان أهل العالم بأسرهم يحسدونه- قال وقد وجد السلطان في حالة من الانشراح والارتياح: لو أذن السلطان للملوك بأن يتوجّه بالجند القدامى بمن فيهم الخوارزميين إلى «آمد» فسوف يستولي عليها خلال ستّة أشهر بل أقل. ¬

(¬1) إضافة من أ. ع، ص 450.

فأكرمه السلطان حين ألزمه بذلك، وفوّض إليه زعامة الجيوش، وسيّر في صحبته الجند ومعهم الآلات الحربّية والعتاد والعدّة المزّينة. فلمّا وصل إلى هناك، قضى مدّة في حصارها، فما ظهر لذلك من أثر، وعمد «قيرخان» وسائر أمراء خوارزم- انطلاقا من الحقد الذي ملأ قلوبهم من جهة الملك الغازي وبدر الدين لولو والملك المنصور صاحب ماردين، لكونهم لم يلتفتوا إلى السلطان جلال الدين عندما لجأ إليهم- عمدوا إلى الإغارة على تلك البلاد، وأشاعوا بها الخراب حتى أبواب «سنجار» حيث أعملوا فيها القتل والسّبي والحرق والنّهب. وتم إبلاغ الأمر لحضرة السلطان، لكنه كان مصّرا على فتح «آمد»، وأرسل الصاحب شمس الدين الإصبهاني بجيش آخر مع ما لا يدخل في الحصر من مال وعتاد حتى إنه حمل على الجمال برسم المنجنيق حصى مستديرا من الحديد فئة المنّين (¬1) والثلاثة أمنان والخمسة أمنان، فامتنع ذلك الفتح عليه أيضا، وظلّ خائفا من غضب السلطان [وحلّ فصل الشتاء] (¬2) فاتّخذوا من ذلك وسيلة لكي يزعموا للحضرة أنّ أمر «آمد» كان لابدّ أن يحسم، لكنّ حلول الشّتاء المفاجئ أضعف من حماس العساكر وحدّ من حركتهم. فنالوا بهذه الوسيلة رخصة التفرّق والعودة، لكنّ السلطان قال: لابدّ لي من مزاولة الأمر ومباشرته بذات نفسي في العام القابل، وأتمّ تلك المهمّة على أكمل وجه. ولما وصل الأمراء إلى الخدمة لم ينطق بعتاب وتجاوز عمّا فات. ¬

(¬1) المن: معيار قديم كان يكال به أو يوزن، وقدره إذ ذاك رطلان بغداديان. (¬2) إضافة من أ. ع، 451.

ذكر ورود رسل بلاط [أو كتاي قاآن] إلى السلطان علاء الدين كيقباد

ذكر ورود رسل بلاط [أو كتاي قاآن] (¬1) إلى السلطان علاء الدين كيقباد حكى الأمير شمس الدين عمر القزويني المعروف بسروران (¬2) [وهو من أكابر منطقة قزوين] (¬3) فقال: عرضت لي حادثة من أحداث الأيّام ووقائع الدّهر، ففارقت وطني القديم الذي كان مقطع السّرّة ومجمع الأسرّة، وسلكت طريق التّجارة. فلما بلغت مدينة «أرزروم» ورأيتها مشحونة بالنّعمة والرّاحة، أقمت هناك مدة، وحصلت مالا ومتاعا وفيرا ونعمة متزايدة. وفجأة عزمت على السّفر إلى «تركستان» (¬4) فصنّعت ألوانا من الجواهر والمرصّعات، وقضيت مدة في استكمالها ثم قلت لنفسي هذا متاع لا يليق إلا بخزانة إمبراطور. فأسرجت مطيّة السفر، وفتحت على نفسي الطّريق إلى تلك الحضرة، فلما بلغتها أبرمت صفقة ناجحة وزاولت تجارة رابحة. وكان الإمبراطور حاضرا وقت عرض الأمتعة فقال لي: من أين جئت؟ قلت: من بلاد الرّوم. قال: تلك البلاد التي بيد السلطان علاء الدين كيقباد؟ قلت: نعم. قال: ما طريقته في السّياسة والملك؟ قلت: على النّحو الذي يروق للإمبراطور. وليس في الإسلام سلطان مثله: عدل شامل، وعقل كامل، ¬

(¬1) إضافة من أ. ع، 452. (¬2) سروران: أكابر، ساردة، رؤساء. (¬3) إضافة من أ. ع، 452. (¬4) في الأصل: بركستان (كذا)، قارن أ. ع، 453.

نص الأمر الملكي الذى جاء إلى السلطان علاء الدين كيقباد

وملك معمور، ومال موفور، ورعيّة مسرورة (¬1). فقال: من الظلّم أن نحرم هذا السلطان من عنايتنا، ولندعوه لكي يصبح على ذمّتنا، ويبقى ملكه ورعيته عامرين، فإن أرسلتك رسولا إليه فاذهب. فقلت: ما أنا إلا امرؤ تاجر، لا علم لي بدقائق الرّسالة والسّفارة، فلعلي أهمل دقيقة لا علم لي بها، فألام عليها. قال: طالما وقع نظرنا عليك، واخترناك لمثل هذا العمل، فإن الله سيجري على لسانك ما يرتضيه النّاس كافة. ثم أرسلني إلى خدمة السلطان مع اثنين من خدم المغول هما «بدون» و «أرمتاي»، وعملة تذكارية ذهبية، وأخرى فضية، مع أمر ملكي مضمونه ما يلي: نص الأمر الملكي الذّى جاء إلى السلطان علاء الدين كيقباد يعلم العاهل العادل السلطان علاء الدين أنّنا قد انتهجنا منهجا حسنا في الحكم وسياسة الرعيّة، والقادمون والذّاهبون عنك راضون. فلقد سمعنا، ورضينا كلّ الرضا، وأرسلنا إليك ما يعبّر عن رضانا ومودّتنا، وأردنا أن تبقى على الدوام سعيد القلب في ملكك. ولمّا كان الله تعالى قد جعلنا عظماء وأعزّنا ووهب سطح الأرض لقبيلنا، ولما كنت أنت تسلك الطريق المرضيّ، فقد أصبح واجبا علينا إظهار حالنا لك، وإطلاعك عن طريق الرّسل والمؤتمرين بالأمر. ونحن إن أظهرنا أحوالنا ولم يسمع لنا كان جزاء من لا يسمعون أو يلوون رؤوسهم أن يقتحم جيشنا ولايتهم، فيقتلهم ويأسر النّساء والأطفال، ويغير على الأموال ويخرّب المتاع، وينزل به السّوء والضّرر، ولا نكون نحن السّبب في ذلك. ¬

(¬1) اختصر مؤلف الأصل قسما كبيرا من هذه الأوصاف، قارن أ. ع، 453.

كتب في سنة «بيچين» 633 من مقام بلاط «سبزه». فواصلت السّير إلى أن لحقت ببلاد الرّوم بعد أن طويت سجلّ مسالك الديار، فلما بلغت قيصرية كان السلطان بالعلائية، وكان مبارز الدين چاولي قد أرسل رسولا/ وعرض على السلطان حالنا. فأبقونا هناك حتى الربيع. وكان الأمراء يأتون لرؤيتنا كل يوم بعد التنزّه وقبل [إقامة الدّيوان] (¬1) وكانوا يرعون جانبنا أبلغ الرّعاية. ولما تبسّم وجه الرّبيع، وقدم السلطان من علائية إلى قيصرية استدعانا وعاملنا بكلّ احترام وتكريم، فلما سلّمت المرسوم (يرليغ) نهض واقفا وطالعه بنفسه. ولمّا نزل من فوق العرش وأحضرني إلى قاعة الخلوة وحدي دون الغلامين كان أول لفظ سمعته منه قوله: لله الحمد والشكر أن يكون الرّسول الذي وصل إلينا ممن اصطفاهم الله، فهو مسلم، فأصبح من أعزّ الله عزيزا علينا، ومذكّرا لنا. ثم إنه قال: إن التديّن يقتضيك أن تصدقني القول فيما أسألك عنه؟ قلت: سأفضي بكلّ ما أعرفه لحضرة السلطان في جميع الأحوال. قال: هل يطمعون في ملكنا لو صرنا نوابا عنهم؟ قلت: معاذ الله لا تكلف موالاتهم إلا أن يذهب المندوب للخدمة كلّ عام، ويحمل إليهم شيئا قليلا مما يرثّ من الملابس في الخزائن ومن المتاع ما يكبر سنّه بمرور الوقت في الرّوث والاسطبلات، والذّهب الذي يتعرض للتلف تحت الأرض، وأن يكون ¬

(¬1) قارن أ. ع 455.

في صّفهم ظاهرا وباطنا. فقبل السلطان النّيابة وأمر فأعدت التّحف والهدايا والطّرف الروّمية. وفجأة في الثالث من شوال سنة 634 انتقل السلطان إلى جوار الحق- تعالى-. وجلس ابنه «غياث الدين كيخسرو» على العرش. فأرسل إليّ أنا والغلامين وقال: خاطبك أبي قائلا لك: يا أخي، وأنا أدعوك بقولي: يا أبي. وسأسلك بدوري طريق النّيابة. وبعث بالهدايا التّي كان السلطان علاء الدين قد أعدها بصحبة فخر الدين [المعروف بابن الحمّار المصري] (¬1) إلى ملطية. فلمّا/ وصل إلى ولاية خراسان كبسنا الملاحدة بجيش حاشد، وحملونا إلى «كردكوه» (¬2)، فظللنا محبوسين مدة ثلاثة أشهر ويومين. ولما وصل خبرنا إلى الخدمة، صدر أمر إلي «جرماغون نوين» (¬3) فخلّصنا من أيديهم. فلما وصلنا إلى الخدمة، وعرضنا أحوال الإعزاز والإجلال وقبول الطاعة، وترتيب التّحف، ووفاة السلطان علاء الدين، قال: «قيران»، «قيران»، «قيران» ثلاث مرات. ثم صدر الأمر بأن أذهب إلى الرّوم وأكون نائبا، فلمّا بلغت العراق كان «بايجو نوين» (3) قد اصطدم في «كوسه طاغ» بجيش غياث الدين، وسارت الأمور في وجهة غير التي قدّمناها. ¬

(¬1) كذا في أ. ع: 456، وفي الأصل: پسر جبر: ابن جبر. و پسر خر: ابن الحمار. (¬2) إحدى قلاع الإسماعيلية. (¬3) قائد مغولي.

ذكر وفاة السلطان علاء الدين كيقباد

ذكر وفاة السلطان علاء الدين كيقباد (¬1) كانت شمس معالي السلطان علاء الدين كيقباد وجلاله في الحكم والسّداد قد بلغت درجة الكمال، لا بل حائط الزوال، وأذعن لحكمه عظماء الآفاق، وبدأ في مشاركة أمير المؤمنين المستنصر في المملكة بمقتضى ملك الأعمام، وخوطب بالسلطان الأعظم والقسيم المعظّم. وكان بحكم غبار الوحشة الذي علق بخاطره المبارك، قد أمر بجمع الجند في قيصرية لغزو ولاية الشام، وفوّض أمر العناية «بسيواس» إلى «قيرخان» بعد أن كان أمرها موكّلا إلى فخر الدين إياز «الشرابسالار». وكان أخصّ الخواص، وانتقل إلى جوار الحق. كما أقرّ ملك أرزنجان ثانية للملك غياث الدين. ورشّح «ألتونبة چاشني گير» لتولّي مهمة الأتابك (¬2) وملك الأمراء لدولته. كما قرّر ولاية عهد/ سلطنة الرّوم للملك عزّ الدين قلج أرسلان، وألزم سائر الأمراء بمتابعة ذلك حتى اطمأنّ الجميع رغبا ورهبا فبايعوا، وأقسموا الأيمان المغلّظة الوثيقة على الولاء له والانقياد. فلما بزغ هلال شّوال سنة 634، كان قد حشد في صحراء المشهد من الجند ما لم يكن بالإمكان حصره، وقد حضروا في ساحة العيد، واستعرض كلّ شخص ما يتقنه من فنون، ثم إنهم أخلوا الميدان، وانطلق السلطان خلف الأمير جلال الدين قراطاي قابضا على رمحه [زاعما أنه سيلقي به من فوق ظهر الحصان على الأرض] (¬3) فلم يمكّنه الأمير جلال الدين من ذلك بروغانه، ¬

(¬1) قارن أ. ع، 456. (¬2) ومعنى الأتابك: الأمير الوالد، «والمراد أبو الأمراء .. وليس له وظيفة ترجع إلى حكم وأمر ونهي، وغايته رفعة المحلّ وعلوّ المقام» (صبح الأعشى 4: 18). (¬3) إضافة من أ. ع، 459.

وقد لعبا هذه اللعبة عدة مرات، ثم توّجه إلى خيمة ذات ثلاث قباب، وأدّوا صلاة العيد، ثم وضعوا الخوان، ورفعوه. وفي اليوم الثّالث من شوال أمر باستدعاء كلّ الرسل الموجودين بقيصرية لحضور الحفل السلطاني، وتجمّع الأمراء والأكابر والأماجد التّابعين للسلطنة، وجيء بآلات الطرب، وتصاعدت أصوات المطربين ذوي الألحان البديعة، وبدأ السّقاة ذوو النّطق الذهبية والسّيقان الفضّية في الدّوران على رؤوس الحرفاء كأنهم أشجار سرو سائرة، وصاح النّاي سريع الوقع بنداء (بيت): خذوا بنصيب من نعيم ولذّة ... فكلّ وإن طال المدى يتصرّم وغراب البين ينعب بالنحيب مبلّغا أسماع الجلّاس ورضّاع الكاس بصوت مهول. نشيد: (شعر): كم جموع قد رأت أبصارنا ... يمزجون الخمر بالماء الزّلال ثم صاروا في غد أيدي سبا ... وكذاك الدّهر حال بعد حال وفجأة جاء «ناصر الدين على چاشني كير» بطائر قد شوي لحمه جيّدا ولا زال ساخنا إلى الحفل، فقطّعه وقدّمه للسلطان. وما إن تناول السلطان بضع لقيمات حتى ظهر تغيّر/ كامل في مزاجه الكريم، فأخذ أهل المجلس في التفرّق ذاهلين. وتجشّم السلطان- لفرط ما به من اضطراب والتهاب- الركوب إلى قصر «كيقبادية»، وقد أصابه فئ شديد. وقال لقراطاي: قد انتهى أجلي فبادر

باستدعاء «كمال الدين كاميار» لتزويده ببعض الوصايا، فأسرع غلمان الخاصّ في طلبه، فوصل الحضرة عند صلاة العشاء. وكان قد ظهر الكلال على القوّة الناطقة للسلطان حتى إنه كان يستخدم الإيماءات والإشارات، فما أدرك الأمير كمال الدين شيئا منها، ومن ثمّ سارع بالعودة إلى البيت. وكانت اللّيلة التي انتقل فيها السلطان من قصر «كيقبادية» إلى جنّة الرّضوان هي ليلة الاثنين الرابع من شّوال سنة 634، وبعد يومين حمل جسده المطهّر إلى «قونية»، ودفن جنبا إلى جنب آبائه وأجداده. لقد أصبح قلب البرق بسبب ذلك مشوّيا، وامتلأ عين السّحاب بالدمع، وأخذت أمور الملك والملة منذ ذلك اليوم في التّراجع، وأصابها الفساد، ولحق الوهن بما يمسك السلطنة من نظام. وكان من عجائب الاتّفاقات أن الملك الكامل والملك الأشرف- وكلاهما كان يمنّي نفسه بالسّيطرة على بلاد الروم- قد لقيا حتفهما في هذه الأيّام نفسها. ووقع الهرج والمرج في أحوال ممالك الرّوم، فلم يذق حلق إنسان شربة هنيئة بهذه الممالك النّزهة العامرة، التي كانت موئل الغرباء وملجأ الضعفاء. ولم تنبثق من الأرواح والقلوب مئات الآلاف من أنهار الحماسة والفتوّة. ***

ذكر تمكن السلطان «غياث الدين كيخسرو» «ابن كيقباد» على سرير السلطنة

ذكر تمكّن السلطان «غياث الدين كيخسرو» «ابن كيقباد» على سرير السلطنة حين نصب السلطان علاء الدين كيقباد خيمة الرّوح في ظلّ الرّحمة/ الإلهيّة، وولّى وجهه صوب رياض جنّات النّعيم، نما إلى علم الملك «غياث الدين» ما اعترى حال السلطان من فساد. فسيّر في الحال الدّعاة إلى كل أمير من أكابر الدولة ودعاهم لموالاته ومناصرته. فوجد كّلا من «شمس الدين ألتونبه چاشني گير»، و «تاج الدين پروانه» ابن القاضي شرف، و «جمال الدين فرّخ» أستاذ الدار، و «سعد الدين كوبك»، و «ظهير الدّولة ابن الكرخي» سمح العنان سريع الإجابة في ذلك. وفي اليوم التّالي، كان الأمير «كمال الدين»، و «حسام الدين قيمري»، و «قيرخان» وأمراء آخرون يتنزّهون في الميدان دون أن يكون لديهم علم بما آل إليه حال السلطان، فرأوا غياث الدين مع الأمراء الذين كانوا قد أجابوا دعوته، وقد أسقط اللّجام وانطلق ليدخل المدينة، فذهبوا في الحال إلى قصر السلطنة، فلما رأوا المؤيّدين كثيرين، أقسموا على الوفاء لغياث الدين والولاء له. وحمل «ألتونبه چاشني كير»، و «جمال الدين فرخ لالا» السلطان وأجلسوه على العرش، وقبّلوا يده، ونثروا النّثار. فأمر بإطلاق سراح المسجونين في الحال، وإحكام بوّابات المدينة. ولما سمع «حسام الدين قيمري» أنّ الأمراء قد أجلسوا غياث الدين على العرش خلافا لقرارهم مع السلطان وعهدهم له (¬1)، أخذ منه الغضب كلّ ¬

(¬1) انظر ما سلف، ص 185.

مأخذ، وقال للأمير كمال الدين وقيرخان إن الملك عزّ الدين موجود في «كيقباديّة» ولابد لنا من الحفاظ على عهدنا مع السلطان السّابق، وذلك بأن نجلس عزّ الدين على العرش. فمن عارضنا أحللنا دمه بطعن السيف، وألحقنا بوجوده الدّمار؛ الجيش معنا، وولاية العهد بأيدينا/ ولن نسمح أبدا بأن يحيق بنا هذا العار. وإذا عارضنا مؤيدّو غياث الدين حاصرنا مرادهم وحطمناه في حلوقهم. فوافق «قيرخان» «قيمري» في الأمر، بينما توقّف كمال الدين كاميار، والتمس لنفسه حججا وتعلّات. وفجأة جاء من المدينة خبر إلى كمال الدين بأن الأمر قد تعدّاكم، ولن يؤبه بكم. وكل من يسارع في المجيء يجد لنفسه مخرجا آمنا، وكل من أسلم نفسه لريح لا تنبعث من مهبّ موافقة السلطان غياث الدين لن يسلم من جرحه بمرهم النّدم. على أنّ الأمير كمال الدين لم يلتفت إلى ذلك أيضا، وظلّوا يطوفون بأطراف المشهد حتى صلاة العشاء. فلما رأوا أن لا جدوى من المماطلة والمضايقة، وليس بالإمكان تصوّر مزيد على حكم وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ (¬1)، دخل الأمراء الثلاثة المدينة، وهنّأوا السلطان بالسلطنة. وقد تقدم «تاج الدين پروانه» مسرعا لكي يلقّن الأمير كمال الدين القسم، فوضع يد الرفض على صدر مرامه، وأمسك المصحف المجيد بيده، وذهب عند العرش وأقسم بعبارة فيها من البلاغة والفصاحة ما تحيّر معه كل العقلاء وأصحاب الفضل الذين كانوا هناك. ثم حلف «قيرخان» و «قيمري» وغيرهما من الملوك والرّؤساء جميعا. وتقرّر الملك للسلطان غياث الدين كيخسرو، وأرسلت الأوامر إلى الأطراف متوّجة بتوقيع: الملك لله، وحرّر السجناء. ¬

(¬1) البقرة: الآية 247.

ذكر القبض على قيرخان وفرار الجيش الخوارزمي نحو الشام

ذكر القبض على قيرخان وفرار الجيش الخوارزمي نحو الشام بدأ «سعد الدين كوبك» لخبث طينته وفساد دخله في مكره السيء، فألصق بقيرخان- وكان من كبار أمراء العساكر الخوارزمية-/ تهمة عند غياث الدين، فعرض عليه أنه سيضرب صفحا عن الولاء له، وسيغري به الأعداء إذا ذهب عن هذه المملكة إلى مكان آخر، حيث إنّه قد وقف على ما للملك والجيش من كمّ وكيف. والرأي أن يقيّد لكي يلزم الآخرون جادّة الإخلاص رغبا ورهبا، ولا يفكّرون في مفارقة هذه الحضرة. ولفرط السّذاجة، وبسبب الغرّة التي هي من لوازم الصّبا والشباب، أمر السلطان بإحضاره فحبسوه في مسجد قصر السلطنة، وحملوه باللّيل مقيدا إلى قلعة «زمندو»، فابتلي هناك بمرض وتوفّي. فلما سمع الأمراء الآخرون بذلك، لاذوا جميعا بالفرار، فعمّ التّزلزل وفشى الاضطراب في البلاد، وتعرّضت الولاية بأسرها للنهب والغارة. فندب السلطان «كمال الدين كاميار» لاستعادتهم، فانطلق بالجند [الموجودين بالحضرة] (¬1) متوجها إلى «ملطيّة»، وأرسل «أرتقش» قائد جند ملطيّة في إثرهم حتى «خرتبرت». وكان الخوارزميّون قد عبروا الفرات عن طريق «عرب كير»، فاعترض أرتقش مع سيف الدين بيرم «سوباشي» خرتبرت- طريق الخوارزميين، فأرسلوا ¬

(¬1) زيادة من أ. ع، 468.

رسولا برسالة مضمونها: قد انتقلنا من التشرد إلى الهناء والدّعة في ظلّ السلطان السّابق، فلما انتقل إلى جوار ربّه ألقيتم بقائدنا «قيرخان» في السجن دون جرم جناه. فتركنا خدمة هذه الأسرة الملكيّة خوفا على أرواحنا وانطلقنا نجوس خلال الدّيار طلبا للرّزق، والمصلحة أن تعودوا أدراجكم، وألّا تلجئونا إلى الإعراض عن رعاية حقوق النّعمة وأكل الخبز والملح. غير أنّهم لم يعبأوا بهذه النّصائح لفرط/ ما بهم من غرور وعجب، واصطفوّا في مواجهتهم للقتال. فأصبح «شمس الدين بيرم» (¬1) في تلك المعركة مضغة لأنياب الذئاب [وصاروا طعمة للنّسور والعقبان] (¬2)، وتمّ أسر «سيف الدولة أرتقش»، واستولى الخوارزميّون على الكثير من الخيول والأمتعة من تلك المعركة، وانطلقوا مسرعين لا يلوون على شيء صوب ديار الشّام، فاستولوا على «حرّان» و «الرّها»، و «الرّقة»، و «سروج»، وغيرها من المواضع. ولمّا علم «كمال الدين كاميار» بهزيمة الجيش اتخذت بومة الحزن لنفسها عشا في قلبه وروحه حال قيامه وقعوده، فأعوزه ما يستعين به على التقدّم للأمام، وما وجد مجالا للعودة. بيد أنه اضطرّ إلى العودة وأنهى الحال كما جرت للسلطان. وأتيحت «لكوبك» اللّعين في تلك القضيّة من الثّغرات الكبار ما أعانه على هدم ما أعلاه الأمير كمال الدين من مبان، وبلغ بالأمر في السرّ الحد الذي سيأتي ذكره حيث أذاق كمال الدين وعددا آخر من الأمراء شربة الهلاك. ¬

(¬1) لعله هو «سيف ادين بيرم» المذكور بالصفحة السابقة. (¬2) إضافة من أ. ع، 469.

ذكر شروع «كوبك» في قتل أكابر بلاد الروم

ذكر شروع «كوبك» في قتل أكابر بلاد الرّوم سنحت «لكوبك» الفرص في أثناء غيبة الأمراء، فملأ وعاء غضب السلطان بما بدر من الأتابك «شمس الدين ألتونبه» من مساوئ، وكسب كوبك إلى صفّه في هذا المسعى «تاج الدين پروانه». وما ذلك إلّا لأنّ شمس الدين كان يطلق لسانه في بعض الأوقات قائلا: لابد من إبعاد هذا الكلب عن الحضرة وإلّا أصاب كلّ إنسان بجراحات. وكان الأمير «كمال الدين» يحول دون تنفيذ هذا الأمر. وذات يوم كان ديوان السلطنة مزدانا بأركان الدّولة، وأخذ «شمس الدين ألتونبه» يختال على أكابر رجال الديوان. فخرج «تاج الدين پروانه» و «كوبك» من عند السلطان، فوثب «كوبك» وقد أدخل خاتم السلطان في إصبعه/ فأمسك بشيبة «شمس الدين ألتونبه» البيضاء، وأخرجه من صفّ الأكابر وسلّمه لأحد الحرّاس لكي يذهب به إلى الخارج ويقتله شهيدا. ولم يجرؤ أحد على أن ينبس ببنت شفة. قال الصّاحب شمس الدين [الإصفهاني] لكمال الدين كاميار: إن لم نتدارك هذا الأمر سيتجرّأ كوبك ويصل شرّه إلى الآخرين، وينبغي الحيلولة دون هذه السّياسة. لكنّ كمال الدين لم يعبأ بالأمر، ولم يجد من المصلحة أن ينطق الصّاحب عن كوبك بكلمة واحدة. وراجت منذ ذلك اليوم سوق وقاحته، ثمّ إنه قلب «لتاج الدين پروانه» ظهر المجن، وأخذ يسعى سّرا وجهرا للقضاء عليه. ولذلك أبعد الأمير تاج الدين نفسه عن السّاحة، وطلب الإذن بالانصراف، وانطلق إلى «أنكورية» - وكانت إقطاعا له- وظل هناك يمضي وقته ويشغل نفسه باحتساء المدام وبذل الإنعام على الخاصّ والعامّ.

ذكر قتل الملكة العادلية وحبس ابنيها عز الدين قلج أرسلان وركن الدين

ذكر قتل الملكة العادليّة وحبس ابنيها عزّ الدين قلج أرسلان وركن الدين حين نشر سلطان الرّبيع أعلام التّمكين، وضربت عساكر الرّياحين خياما بلون الدّم في صحراء تفوح برائحة المسك، وانتقل السلطان من «أنطاكية» إلى «قيصريّة»، أمر «كوبك» بأن يفرّق بين الملكين ووالدتهم الملكة العادليّة، ووفقا للحكم أرسل الملكة إلى قلعة «أنكورية»، حيث خنقوها بعد مدة بوتر القوس (¬1)، بينما حمل الملكان إلى قلعة «برغلو» حيث تمّ حبسهما. كان السلطان «غياث الدين» قد أخلف [أبناءه] «عزّ الدين كيكاوس» من سيّدة «بردولية» (¬2)، و «ركن الدين قلج أرسلان» من جارية روميّة، و «علاء الدين كيقباد» من ملكة الكرج، فقد فوّض «مبارز الدين أرمغانشاه» لكي يكون أتابك «عز الدين كيكاوس»، وأمره بالقضاء على أخويه (¬3). ¬

(¬1) «وكانت المرحومة ... لفرط ما هو مركوز في جبلتها من عفّة وصيانة قد طلبت الأمان قبل أن يدخل الجلّادون عليها، حيث جدّدت وضوءها وركعت ركعتين لفراق الحياة، ثم توجّهت إلى السّماء- قبلة الدّعاء- وقالت في دعائها: اللهمّ إني أمتك وابنة عبدك البائسة المظلومة الذّليلة، فارقوا [صح: فارق] الظّلمة بيني وبين بنيّ، وهمّوا بإزهاق نفسي، وإرهاق روحي وإهراق دمي. اللهمّ إني أستودعك أولادي فكن لهم حافظا ومجيرا، وافعل بالظالمين ما هم أهله، واغفر لي وارحمني وتب عليّ إنك أنت التّواب الرّحيم ...» (أ. ع، 472). (¬2) كذا في الأصل، وقد لاحظ الأستاذ «هوتسما» محقّق الأصل الفارسي أن اسم امرأة يونانية قد كتب بخطّ غير مقروء بهامش تلك الصفحة مقابل الكلمة المذكورة في المخطوط الأصلي ويشير «هوتسما» إلى أنّ أمّ عزّ الدين كانت ابنة راهب يوناني. (¬3) أي أن السلطان «غياث الدين كيخسرو» أمر «مبارز الدين» بقتل أخوي السلطان نفسه.

ذكر قتل «كوبك» لتاج الدين پروانه رحمه الله تعالى

وكان «مبارز الدين أرمغانشاه» رجلا خيّرا حسن السيرة فتوقّف في قتلهما، ويقول بعضهم إنّه قتل غلامين بدلا منهما، وحمل علامة إلى السلطان. بينما تقول طائفة بأنّه قضى عليهما، مجمل القول أنّه لم يتم التأكد من قتلهما على يد مبارز الدين أرمغانشاه. (¬1) ذكر قتل «كوبك» لتاج الدين پروانه رحمه الله تعالى أسرّ الوشاة الأراذل والنمّامون الأشرار إلى «كوبك» أن «تاج الدين پروانه» لما وصل «آقشهر» ارتكب الفاحشة مع مطربة من مغنّيات ملك «خرتبرت» دون وجه من وجوه البيعة. وما إن سمع هذا الأمر حتى استفتى الأئمّة والقضاة: ما تقولون في حدّ الزاني المحصن في الشرع سيمّا في بيت وليّ النعمة. فأفتوا بأنّ جزاء الزّاني المحصن هو الرّجم. وفي وقت الخلوة بالسلطان أظهر «كوبك» تلك الفتاوى وقال له: لو تسامحتم فى هذا الأمر فسوف يتجرّأ الخدم ويطلقون أيديهم في أسر مخدوميهم. وبتأثير سورة الخمر تعجّل السلطان في إنزال العقوبة بپروانه، وسلّم الخاتم لكي يقوم «كوبك» بتلقينه جزاءه وفقا للشرع، وتم توقيع الأمر بذلك. فانتقل كوبك كأنه البرق المحرق والسيل المغرق إلى «أنكورية» في يومين، ونزل بها ومازال عليه غبار السفر بقصر السلطان، فاستدعى «تاج الدين پروانه» وأمراء المدينة وأئمتها، وأسمعهم صيغة/ الأمر. وأوثق قيده في الحال، واشتغل بضعة أيام في تتبع ما لپروانه من أموال وأسباب، فلمّا فرغ من ذلك أتى إلى ¬

(¬1) قارن أ. ع، 472.

ميدان «أنكوريه» بذلك الأمير الوسيم الذي كانت الشّمس المنيرة تتوارى خلف حجاب السّحب غيرة من وجهه الأزهر، وكان عطارد يعضّ على أصابع النّدم لبراعته في الخطّ والبلاغة [فقد كانت له مشاركة كاملة في كل العلوم، وإن غلبت عليه العناية بعلوم الفقه والعربية] (¬1)، ولم يكن لذي روح أن يتجاسر على أن يلقي بورقة ورد على صدره الشّبيه بالياسمين- فدفنه حتى صرّته، وأمر العوام قسرا برجمه بالحجارة وإرسال روحه الطيّبة العذبة إلى الفردوس الأعلى، ثم إنّه أتى بمجمل أمواله من نقود وعقود إلى الخزانة. ولما أهدر «كوبك» دم هؤلاء الثلاثة (¬2)، ولم يعترض أحد أو ينكره عليه، بلغ أمره حّدا جعل قلوب أغلب الأمراء تدين بالولاء والانقياد له رغبا ورهبا. ولم تكتحل عيون العظماء بنوم هادئ خشية منه وخوفا. كانت أمّه «شهناز خاتون» من بنات الأغنياء بمدينة «قونية»، وكان «غياث الدين كيخسرو» - والد علاء الدين كيقباد- مفتونا (¬3) بذؤابتيها المفتولتين، إذ كان قد وقع في حبّها لجمالها النّادر الذي تملّك الحزن «ليلى» بسبب روعته، فأضحت في حزنها كالمجنون. فجيء بها إلى السلطان خفية، ثمّ أعادوها معزّزة مكرّمة. ولم يكن لأحد علم بشيء من هذا، اللهم إلّا جدته. فلما زفّت أمّه ونقلت إلى بيت أبيه كانت حاملا فيه لشهرين، وتحايلت فجعلت نفسها عذراء، ولفرط دهاء جدّته أظهرت أنّها حملت في ليلة الزفاف، «فلما انقضت سبعة أشهر ولدت». وهو يريد بهذا التّقرير المزوّر أن يدخل في روع الناس أنّه/ من أصل سلجوقيّ. ¬

(¬1) أ. ع، 476. (¬2) يعني شمس الدين ألتونبه، والملكة العادلية، وتاج الدين پروانه. (¬3) في الأصل: مغبون، ولعلها تصحيف: مفتون، الكلمة العربية. وقد أثبتناها.

ذكر فتح قلعة سميساط على يد «كوبك»

كذلك حمل السلطان بالتدليس والدّجل على أن يغيّر لون المظلّة الأسود إلى اللون الأزرق لكي يتناهى إلى علم حضرة الخلافة أن سلطان الرّوم قد شعر بالعار من شعار آل العباس، فأبعد شوب لونهم عن مظلّته، حتى إذا أصاب سهم مكيدته الهدف المطلوب بعد ذلك جعل هذا السبب عكّازا للاعتذار. ذكر فتح قلعة سميساط على يد «كوبك» كان «سعد الدين كوبك» يريد أن يلقى في قلوب الشاميين الرعب والهلع بطريق الاقتدار وفتح الدّيار والأمصار، فدفع بجند بلاد الرّوم صوب ديار الشام، وحاصر سميساط، ولما لم يكن للملوك الموجودين بها قبل بالمقاومة طلبوا الأمان، وبعثوا برسالة إلى كوبك: «معلوم لدينا أنه لا قبل لأحد بالحرب والنّزاع مع دولة السلطان، وما كانت هذه المقاومة التي أبديناها خلال هذه الأيّام القليلة إلا من كدر أصاب حظّنا المشئوم. فلو أنّ ملك الأمراء أعطانا الأمان، وعهد إلينا بصليب الصّلبوت الذي كان- من قديم- بعهدة أجدادنا في هذه القلعة، وكان المسيحيون من الفرنجة والرّوس والنّصارى والكرج يأتون لزيارته (¬1) [فيحصل لنا من ذلك من الفتوح ما نتبلّغ به برغم كثرة ما لنا من الأتباع والأشياع والأولاد والحفدة] (¬2)، ولم يتعرض أحد لأطفالنا وعيالنا؛ فإننا نسلّم القلعة. فعدّ كوبك إجابة ملتمسهم أمرا لازما، ومنع الجيش من القتال، وكتب عهدا وأرسله. وفي الحال أخلى الملوك القلعة، وأنزلوا متاعهم، ورفعوا الرّاية ¬

(¬1) قارن أ. ع 476. (¬2) هذا نص عبارة أ. ع 476، وعبارة الأصل مضطربة.

عالية في يوم الجمعة سلخ ذي القعدة سنة 635، وتمّ فتح سميساط وبضع قلاع/ أخرى في أقل مدّة، فتضاعف بذلك ما كان لكوبك من عظمة وهيبة. وبرغم كل ما اشتمل عليه من خبث الطويّة وسوء العشرة مع الأكابر كان فريدا في الإحسان إلى الرعية وبسط العدل، وكان في السّخاء أكثر تدفقا من البحر، وأبلغ إدرارا من السّحاب، وبرغم كل ما انطوى عليه طبعه من تنمّر كان في خلوته بالنّدماء والحرفاء كالوردة الضحوك. ومن بين عقوباته الغريبة أنه بينما كان في غزوة من الغزوات اقتحم جمل من حمولات الجند زراعة أحد الزرّاع، فجاء المزارع ينوح ويبكي على باب خيمة «كوبك»، فأمر في الحال بأن يأتوا بصاحب الجمل، وذلك بأن يمرّوا بالجمل على المعسكر بأكمله، فلم يجرؤ أحد على الإقرار بملكيّته للجمل. ولما لم يظهر له صاحب أمر بتعليق الجمل على شجرة صفصاف كانت قد نمت على رأس ذلك الحقل. ومن ثمّ لم يكن أحد يجرؤ على أن يلتقط شيئا رآه ساقطا في الشارع، وكان يتمّ إبلاغ من عرف من الناس بجمع اللّقي والمفقودات بأن يحملوها إلى دهليز السلطنة، فإن كانت ثوبا أو ما في حكمه علّقت في حبال الخيمة وأطنابها، وإن كانت حيوانا تعهّدوه، وسار مناد ينادي في الجيش: ممن ضاع الشيء الفلاني؟ فكان الخصم يسمع، ويأتي ببّينة، ويأخذ الشيء في الحال.

ذكر أخذ كوبك ل «قيمري» و «كمال الدين كاميار» (رحمهما الله تعالى)

ذكر أخذ كوبك ل «قيمري» و «كمال الدين كاميار» (رحمهما الله تعالى) وحين قفل «كوبك» راجعا من فتح قلعة «سميساط» اتهم «حسام الدين قيمري» بإحدى الجرائم، وحبسه مقيّدا في قصر السلطنة بملطية المحروسة واستولى على ما لا حصر له من الأموال لحساب السلطان/ وقرّر له كلّ يوم نصف منّ من اللحم، ومنّين من الخبز، وثلاثة أرادبّ من الحوائج. فلما انتقل إلى قونية أودى هذا السفّاك المغتال- بما أشاع من أراجيف- بكمال الدين كاميار في حضيض قلعة «كاوله» برغم كل ما كان له من مكارم الأخلاق ومحاسن الأوصاف فرفعه بذلك إلى أوج الشهادة. وقد كان كمال الدين من أكابر الدهر وفضلاء العصر، وكان في الفقه ممن اقتبسوا عن نظام الدين الحصيري (¬1)، وفي أجزاء الحكمة من المستفيدين بشهاب الدين [السّهروردي المقتول] (¬2) ومن بين الأبيات التي عارض بها كاميار الحكيم شهاب الدين قول السهروردي (شعر): يا صاح أما رأيت شهبا ظهرت ... قد أحرقت القلوب ثم استترت طرنا طربا لضوئها حين طرت ... أورت وتوارت وتولّت وسرت فعارضها الأمير كمال الدين كاميار بقوله: يا صاح أما ترى بروقا ومضت ... قد حيّرت العقول حين اعترضت حلّت ولحت ولوّحت وانقرضت ... لاحت وتجلّت وتخلت ومضت ¬

(¬1) هو محمود بن أحمد بن عبد السيد (جمال الدين البخاري الحصيري) 562 هـ- 636 فقيه انتهت إليه رئاسة الحنفيّة في زمانه. ونسبته إلى محلّة كان يعمل فيها الحصير. (راجع: الأعلام للزركلي). (¬2) السّهروردي المقتول: شهاب الدين يحيى بن حسين (549 - 587) فيلسوف إشراقي ولد بسهرود ودرس في آذربيجان واتّهم بالزّندقة وقتل في قلعة حلب.

ذكر قتل السلطان لكوبك وتشفي صدور الناس

ذكر قتل السلطان لكوبك وتشفّي صدور الناس كان فوران إعصار كوبك يتزايد كلّ يوم، وكانت صواعق عذابه الشّديد وبطشه المبيد تحرق كل ساعة بيدر عمر أحد العلماء. من أجل ذلك استبدّ الألم بالسلطان لفراق أكابر دولته، فضلا عن أن الوّساوس ساورته لأن «كوبك» كان يدخل عليه بسيف الحمائل. فأرسل غلاما من غلمان الخاص إلى «سيواس» عند «قراجة» أمير الحرس، أن «كوبك بك» أهلك أركان السلطان، وهو يدخل خلوتي الآن مجترئا بالحزام والسّيف، ويتملّكنا الذهّول لتهوره وتجبره، فعلى «قراجة» أن يأتي بأسرع ما يمكن للمبادرة بتدارك أمره. / فقدم «قراجة» في صحبة الغلام متّجها إلى حضرة السلطان حتي «قباد آباد»، ثم أطلق الغلام قبله إلى السلطان للإعلان عن قدومه، وأبدى بعض التريّث والتباطؤ. ثم نزل فجأة- في المساء- بمنزل «سعد الدين كوبك». ولم يكن «كوبك» يخشى أحدا سواه، فلما رآه سأله: هل وصلت إلى خدمة سلطان العالم؟ أجاب: كيف يتسنّى لي أن أذهب إلى خدمة السلطان وأحسب نفسي من المقرّبين إليه دون إذن من ملك الأمراء، إنّني أعد جانب ملك الأمراء المعظّم هو المعاذ والملاذ. ومن أمثال هذه الأكاذيب والأباطيل نفخ في ذلك الملعون، فلما اطمأنّ كوبك من جهته أمر فأقيم مجلس الأنس، وطربوا، وأنعم عليه تلك الليلة بأنعام وفيرة، وأخذه معه على الصباح إلى حضرة السلطنة، فدخل هو أوّلا (¬1)، وأعلن عن مقدمه، ثم إنه أدخله وأوصله إلى أن قبّل يد السلطان. ¬

(¬1) نخست: أولا، وفي الأصل: بحسب، وهو تصحيف بلا شك، انظر أ. ع، 481.

وبعد ذلك اتفق أمير المجلس مع السلطان على أنّه إذا ما حضر «كوبك» مجلس الأنس، يدفع السلطان الأنخاب لأمير الحرس فيحتسيها، ويستأذن في الخروج بحجّة الرّغبة في التبوّل، ويكون مع رفاقه مترصّدين خروج «كوبك»، فإذا خرج أعملوا فيه السيف، وخلّصوا العالم من بلائه. فشرب أمير الحرس الأنخاب وجلس في الدّهليز يترصّد خروجه، فلما خرج «كوبك» نهض واقفا احتراما له، فلما مرّ من أمامه أراد أن يضربه على قفاه بالعصا، فسقط العصا علي كتفه، فأمسك برقبة أمير الحرس، فسحب «طغان» أمير العلم سيفه وجرى خلف كوبك [فجرحه] فألقى بنفسه- خوفا على حياته- في «شرابخانة» السلطان، فلما رآه السّقاة مضرجا بدمه تجمّعوا عليه وبيد كل منهم سكّين أو سيف أو خنجر/ وانتزعوا روحه النّجسة ونفسه الخبيثة من جسده وألقوا بها في دركات الجحيم. ولما أرسلوا روحه إلى سجّين، أمر السلطان بتعليق جثته النّجسة في مكان مرتفع كي تصبح عبرة لأولى الأبصار: فجعلوا أجزاء أعضائه في قفص حديديّ، وعلّقت في حبل متدل، وكان السلطان علاء الدين قد علقّ على نفس الحبل من كان لقبه «كمال» مشرف «قباد آباد» بسبب خبث «كوبك» وسعايته، فظلت جثّة «كمال» معلّقة هناك، وكان السلطان [علاء الدين] قد غضب على «كمال» وتعجّل في عقوبته، فتملّكه الندم فور تنفيذ العقوبة، وأخذ أقرباء كمال وعشيرته يتضرّعون لإنزاله من هناك ودفنه، لكنّ السلطان كان يقول: والله لا ينزل حتى يعلّق حاسده وقاصده مكانه (¬1). ¬

(¬1) قارن أ. ع، 482.

ذكر وصول هودج ملكة الكرج إلى قيصرية وانتظام العقد والزفاف

ولمّا علّقت جثّة «كوبك» على المشنقة بادر أقارب كمال، فأنزلوا جثّته المقدّدة ودفنوها. وهذه من بين الكرامات التي يحكونها عن السلطان علاء الدين. فلما تدلّى القفص من الحبل، كان عدد من النّاس قد تجمعوا لمشاهدة جثّته الممزقة إربا، وفجأة سقط القفص فأهلك رجلا. فقال السلطان: لا زالت نفسه الشّريرة تعمل عملها في هذا العالم. ولمّا فرغ السلطان من تلك المهمّة، استدعى «جلال الدين قراطاي» (وكان «كوبك» قد أبقى عليه معزولا في إحدى النواحي) واستماله وسلّم إليه «الطست خانه» وخزانة الخاصّ. وجرى إسناد نيابة السلطان إلى شمس الدين (وكان خط العزل قد رسم على صحيفة عمله حين أسندت الوزارة إلى الصاحب مهذّب الدين). ذكر وصول هودج ملكة الكرج إلى قيصرية وانتظام العقد والزفاف سبق أن ذكرنا أن «كمال الدين كاميار» حين دفع بالجيوش إلى ديار/ الكرج، كانت «رسودان» - ملكة الكرج- قد أرسلت إليه رسلا، وجرى في تلك الأثناء حديث المصاهرة حيث التمست مصاهرة الملك غياث الدين، فراقت تلك الصّلة للسلطان علاء الدين وقرنها بالقبول. فلما وصلت نوبة السلطنة إلى غياث الدين، ندب شهاب الدين المستوفي الكرماني- ولم يكن له في خبرته ودرايته ثان في العالم الفاني- لإنجاز هذه المهمّة، فلما وصل إلى هناك، كانوا قد أعدّوا كل شيء، فتوقّف عدة أيام

ذكر اعتناء السلطان بدعوة الخوارزمية للعودة

لترتيب ما تبقّى من أمور، ومن ثمّ توجه بالفأل السعيد بصحبة هودج من يشبه عهدها عهد «بلقيس» لخدمة سلطان هو أشبه ما يكون بسليمان. وحين بلغ «أرزنجان»، بعث برسول سريع على براق لكي يبشّر بوصول هودج سيّدة العالم، فأمر السلطان بأن ينهض قادة الجند ممن هم على الطّريق الذي تمر عليه الملكة للحفاوة والتّرحيب، وألّا يدعوا شرطا من شروط البشر والبشاشة إلا ويفوه حقه. وقدم السلطان بالمظّلة الجليلة إلى «قيصرية» المحروسة وأقام حفلا. فلما ظهرت دراري الثّواقب وسواري الكواكب كالمشاعل، تبختر السلطان متوجّها إلى حجلة (¬1) الوصال وحجرة الخلوة. فرأى قمرا يتصدّر موضعا وسرورا يحتلّ سريرا، فطوّق بساعده وحيدة الدّهر تلك، وحقّق أمنية القلب. ذكر اعتناء السلطان بدعوة الخوارزمية للعودة ذكرنا من قبل أن «قيرخان» حين أصبح مقيّدا بسبب خبث «كوبك»، وزج به في قلعة «زمندو» انطلق باقي أمراء خوارزم صوب ديار الشام، وظل «ملوك الشام» و «ديار بكر» و «ربيعة» و «مضر» و «الجزيرة» خائفين محترزين خشية ما يصدر عنهم من ركضات وسطوات وفجآت وبغتات/، وأخذوا يبعثون بالأحمال الوفيرة من كلّ صوب إلى بيت كلّ قائد منهم، ويدفعون عدوانهم عن بلادهم بالأيمان والمواثيق. غير أنهم كانوا يتوغّلون في بعض الأوقات داخل الحدود، ويحولون دون تردّد القوافل جيئة وذهابا. ¬

(¬1) كذا في الأصل، كلمة عربية الأصل، والحجلة: ستر يضرب للعروس في جوف البيت.

فلما عرض الأمر على حضرة السلطان، أرسل إليهم «مجد الدين التّرجمان»، الذي كان قد نال عندهم حظوة في عهد السلطان جلال الدين، ودعاهم [في رسالته] (¬1) إلى العودة لبلاد الرّوم على سبيل استمالتهم وإنالتهم المقصود. فلمّا لحق بهم، وأبلغهم رسالة (¬2) السلطان لزموا حسن الاستماع، ولبسوا خلع السلطان، ووضعوا الجبين على الأرض وقبّلوا حوافر الجنائب. واجتمعوا في اليوم التالي، واستدعوا الرسول، وقالوا: قد تفرّقنا بسبب واقعة «قيرخان»، وفي الطريق أرغمنا على الاشتباك مع الأمراء الذين كانوا قد جاءوا لاستردادنا، فأنزلنا بهم هزيمة نكراء، ولا زلنا إلى الآن نخوض في تيه تلك العثرة، فكيف يتسنّى لنا أن نضع أقدامنا على بساط تلك الحضرة برغم كلّ ما صدر عنّا من تجاوزات. لكنّنا نعد هذه البلاد التي ابتلعناها بالغلبة من جملة ممالك السلطان، فنتولّى تصريف أمورها إذا ما أنعمت علينا بها بمنشور سلطاني باعتبارها إقطاعا. ويكون لكم علينا أن نجعل أرواحنا فداء في مواجهة كل عدوّ تعهدون به إلينا، كما نجعل الخطبة والسّكة باسم السلطان، ولن نسمح بالقطع- أن تتعرض ممالك السلطان لأي اعتداء من جانب عساكرنا. فقرّ القرار على هذا كله، وبادروا بتغيير الخطبة والسّكة، وقد راق ذلك الرأي للسلطان. ... ¬

(¬1) إضافة من أ. ع، 486. (¬2) بنام: باسم، وهو تصحيف: پيام: رسالة- انظر أ. ع، أيضا.

ذكر استنجاد ملوك الشام بحضرة السلطان، وانهزام الجيش الخوارزمي وفرارهم إلى حضرة «دار السلام»

ذكر استنجاد ملوك الشام بحضرة السلطان، وانهزام الجيش الخوارزمي وفرارهم إلى حضرة «دار السلام» / واظب الخوارزميّون بعض الوقت على الالتزام بالحلف والحفاظ على العهد، ثم ما لبثوا أن انحرفوا بوسوسة الشيطان وتلبيس إبليس عن جادّة الطّاعة، وجعلوا نسيان (¬1) الحقوق مقّدمة لسجلّ العقوق، وعدّوا نهب البرايا وبث الفزع في نفوسهم والغارة عليهم أمرا واجبا. فاتفق ملوك الشام على تشتيت (¬2) قطيعهم وتفريق كلمتهم، واستنجدوا بحضرة السلطنة خوفا من أن يلحق بهم العار. فتمّ اختيار ثلاثة آلاف فارس شهير- بأمر (¬3) السلطان- من «خرتبرت» و «ملطية» و «آبلستان» و «مرعش» المتاخمة لحدود الشام لمؤازرة الشاميين ومعاضدتهم بقيادة ظهير الدين منصور الترجمان. فلحقوا بحلب في مدّة لا تجاوز ستة أيام، ومن ثمّ توجهوا إلى «البيرة» مع صاحب حلب- وكان قد أقام جسرا وأعدّ وسائل العبور- وانضمّوا إلى الملك المنصور صاحب حمص، وكانت قيادة جند الشام منعقدة له. وانطلقوا بجناح النّجاح وأخفاف التخويف وقوادم الإقدام مصممين على قتال الخوارزمية كأنهم الأفاعي المهتاجة والبلاء النّازل. وكان الخوارزميون قد دفعوا أمامهم بأرباب الحتوف وعمال السّيوف من أجل إعداد الصّفوف، فلما جاوزت الجنود «رأس العين» بمرحلتين، ظهرت فجأة كوكبة من الخوارزمية فوق أحد التلال، فتعقّبهم الرّجال الشّجعان الأشاوس ¬

(¬1) في الأصل: نشان: علامة، وهو تصحيف بلا شك. (¬2) تسبيت؟! كذا في الأصل، والتصحيح من أ. ع، 487. (¬3) «بامير»؟! كذا في الأصل، وهو تصحيف بلا شك.

بخيولهم مجرّدة من السّروج، وألهب الخوارزميّة واضطربوا اضطراب الزئبق، ولم تلبث الأمواج المتلاطمة لبحر الحرب أن أطفأت شعلة «السّراج الوهّاج» (¬1) وبدّل الغبار المنبعث من تحت الأقدام اللّيل بالنّهار. وكان يخشى أن يفر الشّاميّون من الميدان تحت وطأة الضّغطة الخوارزمية، فباغتهم ظهير الدين منصور وعطف عليهم فجأة، فتحقّق له الظفر، وألجأهم إلى الفرار والجلاء. / وبعد أن تتابع الفرار وجد بعضهم نفسه بنواحي «بغداد». ولقد عاملهم أمير المؤمنين المستنصر بالإعزاز، وأكرم وفادتهم. وفي تلك المعركة تحقّق لكلا الجيشين: الشّامي والرّومي مالا حصر له من الأمتعة والأسلاب. وكان «شهاب الدين زندري» منشئ الحضرة الجلاليّة قد تقلد في ذلك الوقت وزارة «بركت خان» (¬2)، وأصبح نائبا لقلعة «حرّان». فلما سمع بنبأ انكسار ولي نعمته فكّر في أن يغتنم فرصة ليتوجّه نحو الرّوم وينتظم في سلك مماليك تلك الدولة، «وإن أنا سلّمت القلعة لسلطان الروم فلا شك أنه يتعين عليّ الانصراف إلى دياره لأني لن أستطيع النظر في وجه «بركت» خجلا». وكان الملك المنصور قد بذل بدوره الوعود- سرّا- لشهاب الدين زندري و «جمال الدين حبش» - مجتمعين- بإمارات مقنعة ومغنية. وفجأة حملت راية «الملك الناصر» - صاحب حلب- وعلّقت فوق القلعة، فتعالت الأصوات بالدّعاء له، فلم يقل «ظهير الدين» وغيره من أمراء الروم شيئا تعظيما للقدر، وظلّوا بضعة أيام سويّا، ثم انصرف كل واحد منهم إلى ناحية. ¬

(¬1) يريد به الشمس. (¬2) قارن أ. ع، 492، وعبارة الأصل مضطربة.

ذكر فتح «آمد» على يد مماليك السلطنة

ذكر فتح «آمد» على يد مماليك السلطنة وحين عاد أمراء الرّوم إلى خيامهم بعد وداع عساكر الشّام، قالوا: لئن كان أمراء الشّام قد استولوا على «حرّان» بالحيلة فسوف يلحقنا أكبر الشين وأعظم العار إن رجعنا- بجمعنا الكبير هذا- دون أن ننجز عملا. ويحسن بنا أن أن نتّجه إلى «آمد» فلعلّ الله ييسر لنا فتحها. وكتبوا بهذا المعنى مكتوبا إلى حضرة السلطنة، وطلبوا مددا من الجند ومعدات القتال، فندب السلطان في الحال «چاولي چاشني كير» مع «يوتار چاشني كير» سوباشي (¬1) نكيسار، مع سائر عساكر ولاية «دانشمند» (¬2)، وأمرهم بالإسراع في المسير، فلحقوا بباقي الجند في أيام قلائل، وباشروا الحصار. وذات يوم عند غلبة الهاجرة، كان «فخر الدين ابن الدّيناري» - حاكم قبائل الأكراد- جالسا على طرف السّور، فسار «ناصر الدين أرسلان بن قيماز»، نائب ظهير الدين بمحاذاته، وألقى عليه السلام وسأله عن الأحوال، ثم قال: إلى متى يتحمل سيدي مكابدة الحصار وعناء القتال والنّزال، إن لدى الأمير ظهير الدين كلمات يريد أن يفضي بها إليك. فأجاب: سأرسل لكم بعد صلاة العشاء رجلا ثقة شكله كذا وهيئته كذا من باب «الماء»، لكي يسمع ما يقوله ظهير الدين ويبلغه إليّ. وفي الوقت الموعود برز من البوّابة شخص في زيّ فقراء [الصّوفية]، فأخذه ¬

(¬1) انظر فيما سبق، ص 107، هامش 1. (¬2) انظر فيما سبق، ص 34، هامش 2.

ناصر الدين وأتى به إلى ظهير الدين وفي الحال أخلى ظهير الدين المكان ثم قال: يعلم ذوو الألباب أن تمكّن السلطان بالمال والرّجال والشّوكة والقوّة هو- دون ريب- أكبر وأعظم من سائر ملوك الدّيار، وأنه لا حاجة به إلى هذه القلعة؛ لكن الذي ينبغي أن تعلموه بيقين هو أنّ الجيش طالما جاء إلى هذا الموضع فلن ينصرف حتى ينال مبتغاه، ولو أنّ الأمير فخر الدين سلّم القلعة قبل أن يبادر إلى ذلك شخص آخر، فإن ذلك من شأنه أن يبلغ براية حكمته ذروة المعالي وشرف الشّرف. ويعهد بالمدينة إلى مماليك دولة السلطنة. وأنا ألتزم بالوفاء بكلّ مقصود لديه، وأقسم بالأيمان الغلاظ أن أحقّقه له من حضرة السلطنة (¬1). ثم إنه سلّم ذلك الشخص خمسين/ دينارا. فلما أبلغ الرّسول فخر الدين بما حدث، أظهر السّرور البالغ، وأخذ يتأهّب كلّ لحظة. وفي اليوم التّالي جاء الرّسول بالجواب: إنّني لا أجد في تسليم المدينة طريقا سوى أن تحرقوا الباب الحديديّ للسور الموجود على حافّة الخندق، فإذا ما تم ذلك وعملت النار عملها، قمت أنا- في ظلمة من الليل- بإنزال حبال المجانيق، لكي أرفع الجنود إلى أعلى السور، وهكذا يتمّ الفتح. شرط أن يقسم الأمير ظهير الدين على الاتّفاق الذي يقترحه والوعد الذي يلتزم به (¬2) فأقسم الأمير ظهير الدين في الحال- وهو واضع يده على المصحف- أنّه لابد أن يفي بما يقول، وألا يلفّ أو يدور حول التأويل والتبديل، وألا ينقض حبل الميثاق وينكثه بأيّ وجه من الوجوه، وأن يفي بمرادات الديناري بكلّ عناية ¬

(¬1) قارن أ. ع، 493. (¬2) أيضا.

واهتمام. وأن يرسل إلى الملك الصّالح (¬1) في «حصن كيف» أربعمائة ألف درهم نقدا برسم الفدية (¬2). فلما قفل الرسول راجعا إلى المدينة وحكي ما كان قد سمعه، أعاد «ابن دينار» الرّسول من جديد قائلا له: لابد أن يسلّموك أربعمائة ألف درهم حتى تضعها في الصّندوق، وتختم عليها بالختم ثم تعود. وحين رجع الرسول إليهم وعرض الأمر عليهم انطلق الأمير ظهير الدين إلى «چاولي» وطرح عليه القضية، فأرسلا في استدعاء الأمراء بأسرهم. وجاء كل منهم بما عنده من فضّة وذهب فقدّمه، وتمّ تسليم ذلك كله إلى الرّسول فوضعها في الصناديق وختمها ثم قفل راجعا. وفي اليوم التّالي أخذ العساكر يحملون أشجار العنب الجافة حزمة حزمة إلى باب الفصيل، وجرت محاولات من أعلى السّور لردّهم على أعقابهم، إذ تمّ قصفهم براجمات الحجارة والسّهام، لكنها لم تجد نفعا. فلما غطي الباب بأكمله أضرم النفّاطون المهرة النّار فيه، فتصاعد دخان الهشيم إلى عنان السماء، واحترق الباب وتساقط ما به من حديد. فلما أسدل الظلام أستاره أدلى ابن الدّيناري بالحبال لكي يبدي الأبطال شجاعتهم ويرتقوا البرج. فوقع نزاع بين العساكر بسبب التّسابق [على الصعود] / ولفرط ما صدر عنهم من قيل وقال تنبّهت فرقة أخرى من حرس الأبراج، ¬

(¬1) هو الملك الصالح صلاح الدين أحمد بن الملك الظاهر غازي ابن السلطان النّاصر صلاح الدين الأيوبي (600 - 651)، راجع ترجمته في المنهل الصافي، 2: 55، وعقد الجمان في تاريخ أهل الزّمان، ص 84. (¬2) قارن أ. ع، 495.

فأمسكوا بمشعل لاستيضاح سبب هذا الهرج والمشغلة (¬1)، فرأوا أنّ حبال المنجنيق قد تدلّت من ذلك البرج والبدن اللّذين فوضت حراستهما إلى ابن الدّيناري، وأنّ الخيانة حلت محل الأمانة. وفي تلك اللّيلة عاد العساكر خائبين. وفي اليوم التّالي عقد أكابر المدينة اجتماعا، وقالوا إن ابن الدّيناري- وهو الركن الأوثق في الحراسة- اختار المخالفة وليس لنا من سبيل لأخذه وتوبيخه. والرأي هو أن نسلّم القلعة برضائنا كي لا تصبح الآية الشريفة: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (¬2) وصفا لحالنا. ثم أصعدوا شخصين أو ثلاثة إلى أعلى السور. فنادوا قائلين: ابعثوا بناصر الدين نائب ملك الأمراء إلينا عند «باب الماء». فذهب ناصر الدين إليهم، وكان قاضي المدينة و «نجم الدين ابن جبير الجار» و «المقدّم جعفر المنجنيقي» وغيرهم من كبار الشّخصيات قد حضروا، فقالوا له: لو تحمّلت بعض التعب وأبلغت الأمراء السّلام لكي يتجشموا المشقّة ويأتون إلى هنا لحظة. فلمّا حضر الأمراء نزلوا من أعلى إلى أسفل، وجعلوا الباب مواربا حتى نصفه، ثم أقبلوا على الأمراء فصافحوهم وعانقوهم. وبعد القيل والقال التزم الأمير «ظهير الدين» بإنجاز مطالبهم وأكدها بأقسام القسم وأنواع الأيمان. وظهر الإصلاح الكامل بين الجانبين. وفي اليوم التّالي دخلّ كل أمير بجنده ورايته المدينة، ونصب أعلامه على سور «آمد» /، وضربوا طبول البشارات ثم إنهم ذهبوا إلى قصر السلطنة، وجعلوا النّاس يقسمون- الواحد تلو الآخر- على الولاء للسلطان غياث الدين وطاعته ¬

(¬1) قارن أ. ع، 495. (¬2) سورة السجدة: 29.

وسارع محافظو القلاع الأخرى إلى خدمة الأكابر، وقدّموا مفاتيح القلاع وأوضحوا تفاصيلها وما بها من متاع. ثم بعث برسول مسرع إلى حضرة السلطان بهذه البشارة، فأمر السلطان بكتابة رسائل الفتح وبأن تسطّر للأمراء الأوامر مشتملة على شكر ما بذلوه من مساع. وقال السلطان: «كل ما يراه الأمراء من مصلحة تتعلّق بتلك المناطق، فإن عليهم تنفيذه على الفور دون انتظار أمر أو استطلاع رأي. لأنهم مكلّفون من قبل الحضرة بتقديم المصالح وتأخير المفاسد بتلك الديار» (¬1). ولقد عهد بقيادة الجيش إلى «مبارز الدين عيسى» الجاندار. ... ¬

(¬1) العبارة ل أ. ع، 497، وعبارة الأصل مضطربة.

ذكر خروج خوارج الباباي وانطفاء ما أشعلوه من فتنة

ذكر خروج خوارج الباباي وانطفاء ما أشعلوه من فتنة قد نقل [إلينا] من أفواه الثّقاة أن «بابا اسحاق» الخارجي كان من منطقة «كفر سود»، من مضافات قلعة «سميساط»، وكان يدور برأسه منذ مبادئ الشباب ولوع بالرّواية واصطياد المريدين. وكان ماهرا في صنعة الشّعبذة والسّحر، وكان مشغولا دائما بدعوة الأتراك الجهلة الذين إن سمعوا- باليسير من التمويه- عن فقيه سفيه ومفتي مفتن، احتشدوا وأعلنوا الموافقة والقبول. وكان دائم البكاء، ظاهر الورع، هزيل الجسد. فلما انقضت مدّة وأقبل عليه خلق كثيرون، وصاروا من مريديه والمعتقدين فيه، جال بفكره أنّه لو خرج بذلك العدد من الأتباع لن يكون لمصباح كذبه ضياء. فتوارى فجأة عن الأنظار. وبعد مدّة ذاع صيته في بعض قرى «أماسية»، وكان أول ما وصل إلى تلك القرية يرعى الغنم لأهلها، ويظهر الأمانة والورع، ولا يقبل من أحد شيئا، وكان يقنع من القوت بالقليل كلّ يوم. وبلغ في تورعه منزلا جعل كل امرأة ورجل مقيّدين بقيد أنشوطة الاعتقاد فيه. وكان إذا أصاب أحدا ألم أو حزن، أو وقع نزاع بين امرأة وزوجها يكتب تعويذة إذا رجعوا إليه، ويعطيهم إيّاها، فيتحوّل ذلك كله في الحال إلى راحة واستقرار. ولما كثر أتباعه وأشياعه خرج من القرية، وبنى صومعة على تلّ قريب منها، وشغل هناك بالإرادة (¬1) والتنسّك، ولم يسمح لأحد بالدخول عليه اللهم إلّا لعدد قليل من المريدين. وكان يظهر أنه قد عزف كليّة عن الطّعام والشراب، واختار الصبر على الجوع والعطش، وأخذ يبعث بالمريدين إلى كلّ ناحية حيث ¬

(¬1) قارن أ. ع، 499.

يتجمّع الأتراك وغيرهم حتى إنه بعث إلى الخوارزميين الذين كانوا في بلاد الشّام. وكان يقبّح حياة السلطان غياث الدين لشغله بالشّرب والمناهي، وبهذا الخداع (¬1) أخذ يدعو الناس إليه. فلما استقرّت القلوب على محبّته ومودّته أطلق أحد مريديه إلى «كفر سود» كما أرسل مريدا آخر إلى «مرعش». وقال: مروا المخلصين لنا بأن يركبوا خيولهم في الشّهر الفلاني واليوم الفلاني ويتوجّهوا لفتح البلاد. وكلّ من سمع اسمنا وصار معينا لهم في قمع المفسدين اجعلوه شريكا في الغنائم والأموال، أمّا من أبدى معارضة فلا تهملوا- بغير محاباة- في قتله. فذهب هذان المريدان بناء على إشارة ذلك المسنّ الضالّ إلى هاتين الولايتين، ونادوا في قبائل الأتراك وطوائفهم/، وكانوا قبل ذلك ببضع سنوات قد هيّأوا أسباب القتال، وجلسوا ينتظرون الأمر. فلما بلغهم هذا النداء اندفعوا كالنّمل والجراد، وخرجوا في يوم معيّن. كانت أول قرية أضرموا النار فيها هي مسقط رأسهم، وقد انتشروا كالدّخان الأسود في نواحي العالم، وكانوا- وفقا لحكم ذلك اللعين- يعطون الأمان لكل من سلك طريق دعواهم، أما من كان يقابلهم بالاستنكار فكانوا يبادرون بالقضاء عليه دون تفكّر ولا تردّد. وقد جمع «مظفّر الدين ابن عليشير» جماعة، وأغار عليهم، ونشب قتال عظيم بين الفريقين، فوقعت الهزيمة على مظفر الدين واستولوا على علمه ¬

(¬1) فريب: خداع، وفي الأصل: قربت، وهو تصحيف.

وطبلته، فتوجّه مظفر الدين إلى ملطية وأعدّ جيشا مرة أخرى، وجمع عددا كبيرا من الأكراد والكرميانية (¬1). ودفع بهم لمحاربتهم، فوقعت الهزيمة عليه ثانية. فلما تحقّق لهم النصر مرتين، تبجّحوا واجترأوا وأرسلوا من يغير على نواحي «سيواس»، فجمع أهل سيواس جمعا وانطلقوا لصدّهم، فهزموا جند سيواس أيضا، وقضوا على «أكديشباشي» سيواس وغيره من الأكابر، وحصلوا من تلك المعركة على الكثير من الأمتعة فظهر عليهم الرّونق وتمّت لهم النّعمة ثم إنهم انطلقوا صوب «توقات» و «أماسية»، فمن كان يسعى لاعتراضهم عاد مخذولا، ففسد دماغ جهالتهم دفعة وشايعهم «التّركمان» من أهل الولايات كلّها، وما وصلوا إلى أماسية إلّا وكانت شعلة استعلائهم قد أخذت في الارتفاع. وحين أبلغ السلطان، لجأ- على سبيل الاحتياط- إلى جزيرة «قباد آباد»، وأرسل «حاجي أرمغانشاه» - قائد جند أماسية- إلى تلك الحدود، فلمّا بلغ أماسية أخذ «بابا» في الحال مع/ من كان معه من المعتقدين من الصّومعة وشنقه ودلاه من البرج، وعزم بمن معه من الجند على قتال [من تجمع منهم حول «أماسية» حيث أخذوا ينتظرون قدوم البابا] (¬2)، فجرى بينهم الكثير من ¬

(¬1) كرميان: كذا في الأصل، وهو نسبة إلى كريم الدين عليشير (ت 663)، أبي مظفر الدين المذكور، وكان يطلق عليه «كرميان خان» وكان سلاجقة الروم قد عهدوا إليهم بحكم منطقة كوتاهية ونواحيها. وظلوا يتناوبون حكمها حتى عصر السلطان مراد الثاني العثماني سنة 832 انظر: محمد جواد مشكور، مقدمه بر اخبار سلاجقه روم)، صد وشصت و پنج- شش. (¬2) إضافة من أ. ع، 502.

النّزاع والقتال، وفي النّهاية قتلوا «أرمغانشاه» فنال بذلك الشّهادة. وكثيرا ما قالوا لأولئك المدبرين إن من تقتدونه قد صلب، لكنّ ذلك لم يجد شيئا وإنّما كانوا يقولون «بابا» رسول الله، ويتهافتون في مقابل السّيف والسّنان «كالفراش في النّار والأوزّ في التيّار» (¬1). وأخذ السلطان يرسل من «قباد آباد» - بتتابع الرسل المسرعين- طالبا العساكر التي كانت قد ذهبت نحو «أرزن الرّوم» لحراسة الثغور، فجاء العساكر مسرعين، ووزّعت معّدات القتال على الجيش، وبلغوا «قيصرية» في يوم وليلة. وكان أولئك المخاذيل قد اجتمعوا في صحراء «ماليه» من ولاية «قيرشهر»، وتقدّم «بهرامشاه» الجاندار، «وابن الكرجى» و «فردخلا» زعيم الفرنجة في المقدّمة، بينما تبعهم الأمراء الكبار بجيش كثيف. وفجأة جاء الخبر بأنّ الخوارج يستعدون للقاء القتال من الغداة. فأرسل لأمراء الطّلائع بأن لا يتعقّبوا الخوارج إن لم يظهروا، وألا يتحركوا بل عليهم بالتوقف. وفي اليوم التّالي لبس الجند لأمة الحرب، وأخذوا ينتظرون بقيّة الجيش الجرّار. وفجأة برز الخوارج من أحد التّلال واتّجهوا صوب الجند وقد شرعوا سيوفهم وتركوا عنان خيولهم (¬2)، وكان الفرنجة في الصفّ الأول، فثبتوا ولم تؤثّر فيهم سيوف الخوارج أو سهامهم، فارتدّوا على أدبارهم ثم تمهلوا لحظة وعاودوا الهجوم، وهنا بادرت أفواج جند السلطان بعلاج أدمغتهم الفاسدة بالرّمح الثقيل ¬

(¬1) كذا، والعبارة مدونة في الأصل بالعربية. (¬2) قارن أ. ع، 503.

والخنجر القاطع، وبهجمة تصيد الأرواح أطاحوا بأربعة آلاف رجل من الخوارج، فلجأ بعض أولئك المدبرين إلى الأحمال والأطفال والعيال/، [فأقاموا ساترا من الأمتعة، كي يطلقوا من ورائه بالسهام] (¬1)، وأخذوا بما معهم من أقواس شديدة يلصقون الرجل في الشّجرة بالسّهم، فأحاط بهم الجند من كل ناحية، ورفعوا الحجب والسّواتر من أمام أولئك الكفرة (¬2)، فشتّتوا شملهم وبدّدوا جمعهم ثم أعملوا فيهم السيوف إعمالا، وأجروا الدّماء أنهارا في الصّحراء من أتباع الشيطان أولئك ولم يبقوا على كبير أو يحابوا شابّا. وحين وصل الجيش الكبير، كان أمراء الطّلائع قد فرغوا من الأمر برّمته، ولم يبقوا على أحد حيّا إلّا الأطفال ذوي السنتين أو الثلاث. وسيّروا في الحال الرّسل إلى حضرة السلطنة، وقسّموا نساء الخوارج وأطفالهم وأمتعتهم فيما بينهم بعد إفراز خمس الخاصّ، وعادت العساكر- وفقا للحكم- إلى الأوطان، بينما لحق الأمراء بحضرة السلطنة. ... ¬

(¬1) العبارة ل أ. ع، 503، وعبارة الأصل مضطربة للغاية. (¬2) قارن أ. ع، أيضا 503.

ذكر اهتمام السلطان بانتزاع ملك «ميافارقين» من قبضة تملك «الملك الغازي» بسبب نشر مظلة الفتح

ذكر اهتمام السلطان بانتزاع ملك «ميّافارقين» من قبضة تملّك «الملك الغازي» بسبب نشر مظلّة الفتح لما دانت البلاد والممالك- التي كان يقصدها ويتمنّاها السلطان علاء الدين- لغياث الدين، وامتثل أصعب الملوك قيادا لحكمه حملته نخوة الاستعلاء على أن ينشر الرّاية المنصورة، تشبّها بأعمامه الكرام [الذين كانوا سلاطين العصر وقادة الدّهر] (¬1). ولأن سلاطين الرّوم قد اصطلحوا على أنهم طالما لم يصبحوا مالكين لملك ميّافارقين ولم يغدوا قاهرين للطّغاة المردة في تلك الدّيار، فلا بد لمظلّتهم أن تبقى مغلقة أبدا. ومن ثّم دعا العساكر إلى قيصرية المحروسة، واستنجد بصاحب «حلب» وملوك «الموصل» و «ماردين» و «الجزيرة». وكان الملك الغازي قد علم بالأمر قبل ذلك فنهض لتداركه بما له من بصيرة ثاقبة، فدعا إليه الخوارزميّين الذين خلصوا إلى «بغداد» بعد معركة «رأس العين» ولاذوا بحمى «المستنصر بالله» /، وكان زعيمهم ابن أخت السلطان جلال الدين وكان قد انضمّ إليهم قادما من «شيراز» بقوات شرفيّة، كما استدرج الغازي أتراك الكرميانية (¬2) بالمال والآمال إلى قيد طاعته. وأتم الاحتياط للخندق والسّور والمجانيق والعرّادات، واستعدّ للقتال. وحين وصلت عساكر الرّوم إلى تخوم «آمد» وحدودها وانضمّ إليهم جند الشّام بقيادة «الملك المعظّم»، توجّهوا صوب «ميّافارقين» تنفيذا للحكم. فلمّا ¬

(¬1) إضافة من أ. ع 505. (¬2) انظر فيما سبق، ص 273 هامش 1.

بلغوها نزلوا حول المدينة وكانت المناوشات تقع بين الطّرفين كلّ يوم. وهطلت أمطار غزيرة، فأغرق السّيل خيام جند الرّوم والشّام، وأخذوا يتساقطون في الأوحال. وذات يوم أعدّ الملك الغازي الصفوف، وعزم على الحرب، وركب عساكر الروم، وأبلغ عساكر الشام، [فلبسوا سلاح الحرب جميعا، وجاءوا إلى المعركة، وانضمّوا إلى عساكر السلطان] (¬1)، كان الخوارزميون في الجهة اليمنى فأزاحوا الجبهة اليسرى من عساكر الرّوم- وكانت من ولاية دانشمند- وألجأوهم إلى الخيام. وبسبب الصّدمة التي ألحقها جند الموصل وملطية- وكانوا يمثلون ميمنة جيش السلطان- تراجعت ميمنتهم من الأتراك والكرميانيّة حتى حافّة الخندق، فجرت الدّماء سيولا بدل الماء. وفي تلك الأثناء انطلق من قلب جيش الغازي صوب الروميين شخص بفرسه ومعه سلاح ثقيل ويمسك بيده رمحا مستقيما (¬2)، فبرز له رجل يقال له «دمرتاش» وهو غلام «ظهير الدين التّرجمان»، وأطاح به من فوق الحصان بضربة واحدة. وفي التوّ أسرع فارس من جيش الغازي وأعان ذلك الشّخص على ركوب الحصان، وبقي هو واقفا، فأجلسه «دمرتاش» على كفل الحصان، وأتى به إلى «الملك المعظم» و «چاولى» في قلب الجيش، فأراد الملك المعظّم أن يتسلّمه (¬3) /، قال «مبارز الدين» إنه فداء للملك. وفي الحال أعطاه الملك المعظّم تشريفة ¬

(¬1) إضافة من أ. ع، 506. (¬2) نيزه خطي: رمح خطّي، سمّي بذلك لشباهته بالخطّ الممتدّ في استقامته (برهان قاطع). (¬3) قارن أ. ع، 507.

وسمح له بالرّكوب، ثم أجلسه إلى جانبه، وسأله عن أحواله بحرارة ومودة (¬1)، وسمح له بالانصراف نحو معسكر الملك الغازي. وما إن بلغ معسكر الغازي راكبا حتى عادت جند الخوارزمية إلى الخيام، وهدأت نار الحرب. وبعد فترة من الوقت جاء القاضي وعدد من الأكابر من قبل الملك الغازي. وفي تلك الأثناء حين استفسر من الملك المعظّم عن أمر الفارس الذي سقط على الأرض، والأسير الذي وقع بيد «دمرداش»، تبين أنّ من سقط على الأرض كان هو الملك الغازي، ومن أسر كان «أستاذ الدّار» (¬2) عنده (¬3). وكان فحوى الرّسالة أن الملك يبعث السّلام للجميع، ويقول: قد كانت حلقة الإخلاص لحضرة السلطنة في أذن روحي على الدوام. وقد حمل أخي [المرحوم] (¬4) «مظفّر الدين الأشرف» غاشية السلطان «علاء الدين» على كتفه صورة ومعنى، وأنا أحسب نفسي في هذه البقعة مملوكا لتلك العتبة [فإن كان غرض السلطان منصرفا إلى أن ينتزع منّي هذه المدينة فلا بدّ أنه سيعطيها يوما لشخص آخر، وأنا على أتم استعداد للقيام بالخدمة التي يتوقع السلطان أن يؤدّيها ذلك الشّخص الآخر] (¬5)، حقّا ما أشدّ ما تألّمت القلوب وتحسّرت الأفئدة ¬

(¬1) في الأصل وكرم تاز رسيد:؟! وهي تصحيف: وكرم باز پرسيد: سأل عن الأحوال بحرارة. قارن أ. ع، 507. (¬2) كانت المهام الموكولة إلى «أستاذ الدار» هي: «التحدث في أمر بيوت السلطان كلها من المطابخ والشراب خاناه والحاشية والغلمان» (صبح الأعشى 4: 20). (¬3) قارن أ. ع، 508. (¬4) إضافة من أ. ع، أيضا. (¬5) إضافة من أ. ع، أيضا.

على الغرض الذي من أجله نشرت المظّلة المنصورة، [فلن يرضى مخلوق عن ذلك]، وإنما هي سبّة أمد الدّهر. إنني استحلفكم بالله أن تعدلوا عن هذه الفكرة، وألا تدهموا بيت فقير بوهم مموّه واصطلاح خاطئ، وإلا فإنني سوف أفدي البيت القديم بروحي. وفي تلك الأثناء جيء إلى السلطان الأعظم والملك المعظّم وسائر قادة الأمم الذين كانوا قد قدموا لمحاصرة «ميّا فارقين» بالأوامر المطاعة من قبل دار الخلافة، بأن ينتهوا عن المحاربة والمحاصرة، ولهذا السبب مال «الملك المعظّم» إلى إصلاح حال الملك الغازي، وحمل الأمراء على وقف القتال في هذا العام. ولما كان الأمراء قد أصابهم الملل بسبب التّساقط المستمرّ للأمطار، رضوا بمصالحة القاضي، فجعلهم القاضي يقسمون على ما يوافق رأيهم ونيّتهم، ودخل رسل الملك المعظّم وأمراء السلطان المدينة/، فجعلوا الملك الغازي يقسم بدوره. وفي اليوم التّالي ارتحلت الجيوش، وجاءت إلى «آمد». وهناك أقيمت حفلة ملكية على شرف «الملك المعظّم». ثم إنّهم افترقوا من الغداة، حيث اتّجه هو إلى «الشّام»، بينما قدموا هم إلى «ملطية». ***

ذكر حدوث الفتور فى بلاد الروم

ذكر حدوث الفتور فى بلاد الروم كانت فاتحة الوهن ومقدّمة الفتور أنّ الشّلل تسرّب إلى مزاج «جرماغون نوين» (¬1)، فوصل من حضرة [الخان الأعظم]- بعد فترة من الوقت- أمر بإسناد قيادة الجيش وزعامته إلى «بايجو قرتشي». وكان يريد أن يحدث تجديدا. في الدّولة القاهرة، لكي يروج سوقه ويعلو أمره ويزدهر. فاختار ثلاثين ألف فارس تتريّ من القادة المشهورين، وانطلق بهم صوب «أرزن الروم». وبمجرّد وصولهم شرعت المجانيق والعرادات في العمل على جوانب السّور، وتتابعت حرب الحجارة ليل نهار كأنها القضاء المبرم. فأخذ «سنان الدين ياقوت» قائد الجيش و «أستنكوس» قائد قوّة الفرنجة في الخروج للقتال بأعداد كبيرة من الجند، وكانوا يبدون الكثير من الجسارة والبأس. ولو لم يكن «شرف الدّويني» (¬2) - وكان شحنة المدينة- قد فعل ما فعل من غدر ودونيّة لكان من الممكن أن ينصرف جيش المغول عن المدينة بسبب هجوم الشّتاء، ولحظي بضعة آلاف من الآدميين بالنّجاة من ضرب سيوفهم، لكنّ «الدّويني» الدون- بسبب ما كان يكنّه من حقد وضغينة لقائد الجيش- أرسل خفية رسالة إلى «بايجو»: إذا أعطيت الأمان على حياتي وحياة أتباعي فإنني أرفع المحاربين في البرج الذي وكلت إليّ حراسته، لكي يهبطوا ويكسروا أقفال البوّابة بالعمود الحديديّ. ¬

(¬1) جرماغون نوين: أحد كبار قادة المغول. وكان «أوكتاي قاآن» - إمبراطور المغول- قد كلّفه بتعقّب السّلطان جلال الدّين خوارزمشاه فلمّا قتل السلطان لبث بالمنطقة وشنّ بضعة غارات على البلاد المجاورة، وتمّ عزله عن قيادة المغول سنة 639، بعد أن أصيب بالشلل. (انظر: عباس إقبال: تاريخ مغول، ص 141 وما بعدها). (¬2) في الأصل دوني. انظر أ. ع، 514.

فكتب «بايجو» مكتوبا/ وفقا لملتمس الدّويني، وفي الليلة التي وجد فيها الفرصة رفع مائتي محارب تامّ السلاح إلى البرج، فانطلقوا نحو البوّابة وكسروا الباب، ودخل الجيش المدينة وتمّ إخبار الأمير سنان الدين وأستنكوس، فتقاطروا مع الجند على ذلك الباب لسدّه، وأخذوا يعملون سيوفهم التي ظلت تقطر دما حتى الصّباح. وعند الفجر كانت المدينة قد امتلأت بالمغول، وحل البلاء العامّ، وبقيت النسوة الطّاهرات من حرم الأمم أسرى في يد كلّ غريب، وتمرّغ الأطفال الأعزّة في تراب المهانة، ولم يبق لأحد أبدا مجال للهرب أو وسيلة يمسك بها، وكسفت الشمس من الحرارة المنبعثة من نار السّيف، وخسفت مرآة القمر من الآهات الطالبة للنّجدة. فلمّا فرغ الجيش من النّهب والغارة، شرعوا في أخذ الأسرى، فأخرجوا النّساء والرّجال والكبار والصغار من المدينة، وقسّموهم فيما بينهم، وأبقوا على من كان يصلح للعمل حيّا، ثم انهالوا على الباقين فجعلوهم طعمة للسيوف ومضغة للحتوف. وأخرجوا الأمير «سنان الدين ياقوت» وابنه مقيّدين عاريي الرّأس، وكوّموا ما يملكه من جواهر وأحجار كريمة ومقتنيات ذهبيّة في الميدان. وقال له «بايجو»: ما بالك لم تتخذ جندا وعندك كلّ هذا المال، فما الفضّة البيضاء إلّا لليوم الأسود. فأجاب: إذا كان رزقك يسعى إليك، فكيف يتسنى لي التصرّف فيه. فأمر بأن يقتلوا ابنه أمام عينيه، فقتلوه، ثم استداروا إليه. وسلكوا طريق «مغان» بكنز هائل [من الغنائم].

وفي ذلك الحين لحقت جند السلطان «بأرزنجان» فلما سمعوا أنّ عساكر المغول فتحوا «أرزروم»، ولم يدعوا في تلك الديار ديّارا، بادروا بإنهاء هذا الخبر الفاجع لمسامع الحضرة السلطانية، فاستولى الاضطراب على خاطر/ العاهل. وأمر بأن تعود العساكر إلى أوطانها، وأن يحضر الأمراء بأسرهم إلى الحضرة، لكي ينشغلوا بتدارك الأمر متفّقين. ***

ذكر محاربة «السلطان غياث الدين» لجيش المغول في «كوسه داغ»

ذكر محاربة «السلطان غياث الدين» لجيش المغول في «كوسه داغ» كانت خلاصة فكر أركان الدّولة في حضرة السلطنة أن يوجّهوا الدعوة لملوك الدّيار، حيث يبعثون إلى «الملك الغازي» برسول، ويبدون الاعتذار عن مهاجمتهم ل «ميّافارقين»، وأن يمنحوه دون إبطاء- وبتوقيع السلطان «أخلاط» - وكانت ملكا لأخيه [الأشرف]. وأن يرسلوا الصّاحب «شمس الدين الإصفهاني» مع خزانة إلى «الشّام» لطلب نجدة من العساكر. وأن يبعثوا بخزانة أخرى إلى «السّيسي» (¬1)، لكي يجيّش جيشا من الفرنج بخلاف الجيش المعهود. ووفقا لهذه الفكرة بعثوا إلى «الملك الغازي» بعشرة آلاف دينار من السّكة العلائيّة، ومائة ألف درهم، ومنشور بملكية «أخلاط»، كما أرسلوا الصّاحب «شمس الدين» بمائة ألف دينار وآلاف الدراهم، وبخزانة أخرى أضعاف هذه إلى «السيسي». وكانت الرّسالة المرسلة مع الرّسل جميعا تقول: إنّه لو حدث في هذه القضية إهمال وخرج الأمر من اليد، والعياذ بالله، لن يفيد العضّ على الشّفة وتقليب اليد. ومن المتيقن أن النّكبة إن حلّت بدولتنا فسوف يزج بكم في حلقة الهوان والصّغار. وحين طالع «الملك الغازي» منشور ملكية «أخلاط» وأودعوا الأموال بخزانته شغل بتوزيع المال وجمع الرجال وهو يقول: سمعا وطاعة. وما إن وصل ¬

(¬1) نسبة إلى سيس، ولعل المؤلف يريد به «ليفون تكور» وكان السلطان عز الدين كيكاوس قد أقره على ملك «سيس»، انظر ما سلف ص 79.

الصّاحب شمس الدين إلى «الشّام» حتى جعل فقراء الأبطال في تلك البلاد يتنسّمون رائحة الاستغناء، ورعى صاحب «سيس» تأسيس قواعد الولاء/. ووصلت الرّسل إلى حضرة السلطنة. وما حلّ أول الرّبيع إلا وتجمع للسلطان سبعون ألفا فارس من القدماء والمرتزقة ترافقهم- وفقا لأمر السلطان- النّساء والأطفال والأمم، وبلغوا سيواس، وتوقّف السلطان زمنا انتظارا لانضمام عساكر الأطراف ووصول «الملك الغازي» و «الصّاحب شمس الدين» وجيش «سيس» [وكان يقضي وقته في لعب الكرة والصّيد وشرب الخمر] (¬1). ووصل «ناصح الدين الفارسي» من قبل الشام مع ألفي فارس تنفيذا لما كان قد استقرّ عليه الرّأي من أن يلازموا الخدمة السلطانية في كلّ عام وقت الحرب. فلمّا طال الانتظار عن الحدّ، وتواتر وصول الأخبار بأنّ «بايجو» قد عقد العزم على الحرب يصاحبه جيش كالنّمل والجراد من قوّات غير نظامية من «خراسان» و «العراق» و «فارس» و «كرمان». واتفق من كان من أركان السلطنة بصيرا بتجارب الخطوب وخبيرا بعواقب الأمور على أنّه ينبغي التوقّف في «سيواس» بغية انتظار المدد، لأن الارتكاز عليها لمقابلة خمسين ألف فارس هو أقرب إلى الصّواب. أما الشباب الغمر (¬2) الذين لم يقيض لهم طيلة عمرهم أن يشهدوا القتال ومصارع الرّجال، فقد أخذوا يمانعون في ذلك، وصاح «نظام الدين سهراب ¬

(¬1) إضافة من أ. ع، 520. (¬2) كذا في الأصل: غمر، كلمة عربية: «ورجل غمر: لم يجرب الأمور» ا (المعجم الوسيط).

ابن مظفر الدين»، و «شبلاش»، و «غريب وثاقباشى» (¬1) - «عليهم بما يستحقون»: إلى متى التماس العلّة حبّا في الحياة بينما أهل «أرزنجان» و «أرزروم» يتعرّضون للتّلف ويصبحون علفا لسيوف المغول؟ كان من الواجب علينا أن نتقدّم حتى نبلغ «تبريز» و «نخجوان»، وكان من الضّروري أن يجري القتال هناك، أمّا الآن فلا يسمح بالتقدم لمرحلة واحدة بعد «سيواس»، بسبب استيلاء الخوف والرّعب. فاغترّ السلطان بذلك الخلط، وأمر بالمسير في اليوم التّالي/ فتدفّق سيل من ثمانين ألفا من المحاربين، وسلكوا طريق «كوسه داغ»، التي أصابت الأفئدة بألف لهب من النّار (¬2). فلمّا بلغوها وجدوا الكثير من المروج والعديد من الأنهار والمواضع الحصينة، بحيث لا يكون لأي جيش غريب طريقا من أيّة ناحية إلّا من خلال الممرّ. فحطّوا رحالهم هناك. وظلّوا كلّ يوم ينتظرون وصول المدد. وفجأة جاءهم الخبر بأنّ «بايجو» قد وصل بأربعين ألف فارس إلى صحراء «آقشهر أرزنجان». فلما سمع أولئك الشّباب الجهلة- الذين كانوا أخصّ خواصّ السلطان- هذا الخبر (¬3)، استبدّ بهم الفرح والسّرور لفرط جهلهم وحماقتهم، وقالوا ما أحسنه من مغنم سنحصّله من المغل. قال «الصّاحب مهذب الدين» «وظهير الدّولة ولد كرجي» لا ينبغي التشويش بالأراجيف، ولا يصحّ إثارة الاضطراب في الجيش بغير فائدة. إنما نحن في هذا ¬

(¬1) في الأصل: وباقباشي، والتصحيح من أ. ع، 521. (¬2) الجملة توضيح من المؤلّف لكلمة «داغ» الفارسية ومعناها ملتهب. (¬3) قارن أ. ع، 522.

الموقع بمنجاة من غارات العدو، وهذا في حد ذاته أصل عظيم معتبر. كما وصل الخبر بأن «تكور» يتقدم للانضمام إلينا بثلاثة آلاف مقاتل من الفرنج، وهذا بدوره مدد كبير. فشرع «ابن مظفر الدين» في الهذيان قائلا إن الخائف مخيف. ولو أنني أعطيت ألف عنان من الفرنج، وكان الله عز وجل معهم- فبوسعي حينذاك أن أنقض على المغل وأنال الظّفر. فأجاب «ظهير الدولة»: قد بقي أمر الملك، في مثل هذه الحالة، معلقا بشعرة. ولا ينبغي لمثل هذا اللفظ- الذي تؤذي رائحة تهافته [وقذره] (¬1) مشام الناس جميعا- أن يقال في حضرة السلطنة بخاصة، فما هو إلا قول يفضي إلى خراب «الشام» و «الروم» وتلزم الكفارة عنه بالصدقة. والباري- تعالي- يقول: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ (¬2) والمشاورة مقدمة علي المساورة (¬3). وليس من شك أنني خائف، باعتبار أنني أخاف الله- تعالى وتقدس. وهنا أطلق ولد مظفر الدين- لفرط سورة الخمر- لسانه بالسب والفحش/ فعاتب الصاحب في ذلك الباب، فأجابه قائلا: إنك لا تستطيع أن تعيش من عمل آخر سوى الحساب والكتاب. [فلما سمع كبار رجال الدولة هذا النوع من الجسارة في حضرة السلطان من «ابن مظفر الدين»، ولم ينهه السلطان عنها] (¬4) خرجوا من عنده مشتتي الفكر حيارى، وشرعوا في البكاء والنواح ¬

(¬1) إضافة من أ. ع، 523. (¬2) سورة آل عمران الآية 159. (¬3) كذا في الأصل، كلمة عربية: ساوره (مساورة): واثبه، وأخذ برأسه في العراك ونحوه. (¬4) إضافة من أ. ع 239.

علي زوال الملك ورواحه. كان اليوم التالي هو الجمعة السادس من المحرم سنة 641، فأمر «ولد مظفر الدين» الجيش بالركوب، وارتفعت أصوات الطبول والدفوف. ورغم أن الأمراء كانوا غاضبين لما حدث بالأمس، لكنهم ذهبوا إلى الدهليز، وأخذوا في الممانعة، فعاد «ولد مظفر الدين» ثانية إلى السفه والعته، وأطلق لسانه بالشّتم والذّم. وسعى «ولد الكرجي» و «وليّ الدين پروانه» و «ناصح الدين الفارسي» - بسبب ما استولى عليهم من تطّر وتحيّر- إلى حتوفهم مع ثلاثة آلاف فارس من الفرنج والروم، فزحفوا نازلين في تلك الممرات التي لا قبل للأيائل الجبلية بالسير على وهادها وبقاعها. فلما نظر «بايجو» ورأى أنهم يهبطون- دون تبصّر- من فوق ذلك الموضع الحصين، التفت إلى أمراء جيشه وقال: هؤلاء يتأتى منهم إلا الفرار، إنني أرى رأسا تحت السّيف. وينبغي اليوم أن نصبر حتى يدخلوا في ممرّ صعب فلما هبطت المقدمة بأكملها، وسدت المداخل والمخارج بسبب ازدحام العساكر، أسرع «بايجو» صوبهم من المكان الذي كان رابضا فيه، وفي الهجمة الأولى قاتل جيش الروم قتالا مريرا، حتى تعبت الجنود، وارتد جيش المغل. فظنو أنهم ربما ولّوا الأدبار. فأرسلوا إلى السلطان بخبر مفاده أن العدوّ هزم، وضربوا طبول البشارة. وفي هذه الأثناء رجع «بايجو» وأمر بأن يمطر الجيش بالسهام، فأبادوا هذا الجانب من الجيش. أما ولد «شلوه» (¬1) فقد نكّس أعلامه/ بسبب ما استبد به ¬

(¬1) كذا في أ. ع 525: شلوه، في الأصل: «سلوه».

من الروع، ولاذ بالفرار. بينما استنقذ «ناصح الدين الفارسي» نفسه مع عدّة أشخاص من المعركة، وجاء عاري الرأس إلى حضرة السلطان، فرفع حجاب الهيبة والوقار، وقال بمواجهة السلطان كلاما غليظا، حيث قال: هل يمارس أحد سلطة الحكم بمثل هذا الرأي والتدبير، وبمثل أولئك القرناء الدون المدابير، ويذهب لمقاتلة العدو، ويعرّض الملك والملة للتبدد والضياع، ويهيل التراب على رأس الإسلاميين وسائر طوائف الآدميين؟! ثم انطلق من ساعته مع أهله سالكا طريق «حلب». وحين رأى السلطان أن قضية الهزيمة قد انعكست، ونال الأمراء والجند درجة الشهادة، وضع عباءته على وجهه وشرع في البكاء، وظل راكبا حصانه لا يتحرك حتى صلاة العشاء حتى تم تسريح حرمه ومعظم الخزائن الشريفة إلى «توقات». وجاء «جاولي چاشني گير» إلى الحضرة فارّا من المعركة [وأخذ يسرد على مسامع السلطان تقريرا عن حالة الفوضى وفقدان الانضباط، وشؤم تعجل ابن مظفر الدين وارتياع ابن شلوه] (¬1)، وقال السلطان: ما الصواب في رأيك يا أخي (¬2)؟ أجاب: قد جاوز الأمر الشفة الجافّة والعين الدامعة، إنك لم تكن تلقي بالا إلى كلام المماليك وقت التّدبير فما الذي بقي في هذه الساعة من تدبير؟. قال السلطان: قد عهدت إليك بزمام الملك، فأفعل ما تعرفه وتقدر عليه دون إبطاء أو توان. ¬

(¬1) إضافة من أ. ع 526. (¬2) في الأصل: ايجي؟، ولا معني لها ولعلها تصحيف إينى، وهي كلمة تركية معناها الأخ الأصغر.

ودخل السلطان الخيمة، ثم لم يلبث أن انصرف إلى [توقات] (¬1) عن طريق «لابد خانه»، وفي الطريق قام «فخر الدين ارسلان دغمش» و «شمس الدين خاص اغز» و «تركري چاشني گير» بتبديل ملابس السلطان على سبيل الاحتياط، وأطلقوا العنان لخيولهم فلم يتوقفوا حتى بلغوا «توقات چاي». ولما انصرف السلطان، ظلت فرقة من الجيش واقفة وهي تمسك أعنة خيولها حتى مضى من الليل ثلثاه. فلما ارتقى المغل الجبل ورأوا العساكر تقف بكل مكان، صاحوا ثم اشعلوا النيران. ولم يكن بوسعهم اقتحام معسكر/ السلطان كما لم يكن أمامهم مجال للعودة إلى ثكناتهم. فلما طال التوقف بالطّليعة، ولم تر مددا يأتيها من أي مكان، اتجهت صوب المعسكر، فوجدت الأمتعة في مكان، والرفاق والأصحاب قد ذهبوا، فما لبث أفرادها أن ولوا الأدبار بدورهم. عند الفجر حين أنعم المغل النظر في معسكر السلطان، ورأوا الأحمال والأمتعة لا تزال مكانها. ظنّوا أن الجيش ربما يكون قد كمن لهم، فأخذوا يطوفون حول الخيام مدة يومين، فلما تحقق لديهم أن الجيش قد ولى الأدبار دخلوا المعسكر، وحازوا من الأموال ما لا يدركه الحصر، ثم توجهوا صوب «سيواس». كان الإمام الرباني «نجم قير شهري» هو قاضي «سيواس»، بيد أنه كان في «خوارزم» عند استيلاء المغل عليها ونكبة «السلطان محمد» (¬2). وكان قد مثل ¬

(¬1) كلمة ساقطة من الأصل، انظر أ. ع، أيضا. (¬2) يريد به السلطان علاء الدين محمد خوارزمشاه، وانهزامه أمام المغول، وضياع ملكه.

بين يدي [الخان الأعظم] حينذاك، فمنحه مرسوما ملكيا وعملة تذكارية. فخف القاضي لاستقبال المغل مع المرسوم والهدايا والتقدمات، فتعرف عليه «بايجو» وحين عرض الأمر الملكي والعملة قبلهما «بايجو» ووضعهما على رأسه، ثم وهبه المدينة. وقد تركوا بوابة «أرزنجان» وحدها مفتوحة، وأغلقوا باقي البوابات، حتى دخل بعض الجند المدينة فأغاروا مدة ثلاثة أيام. وفي اليوم الرابع أغلقوا ذلك الباب بدوره، ولم يعودوا يسببون قلقا أو إزعاجا. ثم إنهم انطلقوا إلى «قيصرية». ***

ذكر خراب «قيصرية» وهلاك المحصورين بها

ذكر خراب «قيصرّية» وهلاك المحصورين بها وعندما سمعت والدة السلطان غياث الدين ذلك غادرت في التوّ واللّحظة «قيصرية» والتجأت إلى «سيس» (¬1). ولما هرب ملك الزهاد «صمصام الدين قيماز» الجامه دار (¬2)، و «فخر الدين اياز الأعرج» من المعركة انتهي بهما المطاف إلى هناك (¬3)، وبذلا جهدا بليغا في ترتيب معدات الحصار والدفاع وإحكام الأبراج والأبدان./ فلما وصل جيش المغل شمل كل ما وجده خارج السّور بالنّهب والحرق والإغراق. وفي اليوم التالي طاف «بايجو» راكبا مع أمراء جيشه حول المدينة، ونصب ثلاثة مجانيق على برج بوابة «سيواس» - وهو الذي كان اعتماد أهل المدينة كله علي حصانته- وألزموا الأسرى وأولئك الذين يلبسون الصوف (¬4) بسحب المنجنيق، فتواصل القصف خمسة عشر يوما على التوالي، وظهرت في البرج ثغرات فاحشة. وعزم جيش المغول على الرجوع لوفرة ما غنموه، على أن يرجئوا تنفيذ المهمة إلى العام القابل، لكن ولد «خازوك» - وكان «أكدشباسي» المدينة- أرسل في الليل رسولا إلى «بايجو» طالبا الأمان، فلما تم له ذلك خرج- في ¬

(¬1) قارن أ. ع 528. (¬2) الجامةدار: من يتولى أمر ثياب السلطان. (¬3) يعني إلى قيصرية. (¬4) في الأصل: جولقيان: وهم الفقراء والصوفية الجوالون، ويبدو أنهم كانوا مميزين بملابسهم المصنوعة من الصوف والجوت، ويطلق على هذا النوع من الملابس اسم «جولخ» أو «جولق». راجع «برهان قاطع».

الليل أيضا- من فتحة المجري، وذهب إلى معسكر المغل، ووصف أحوال ضعف المدينة وقوّتها بالتّفصيل. فلما علم الأمراء بالأمر ورأوا أن الشخص الذي يسبغ عليه «بايجو» ولايته يحظى بالعناية البالغة، انضم إليه «أياز الأعرج» سوباشي المدينة- ومن ثم لم يبق بها إلا «صمصام الدين». وهنا رجع «بايجو» عن قرار الرجوع. وذات يوم أمر بأن يلبس الجيش كله لأمة الحرب، وأن توضع السلالم على ذلك البرج الذي كانت قد فتحت فيه ثغرات بقصف المنجنيق (¬1). فصعدو على السلالم، وأذاقوا كل من رأوه شربة السيف، ثم نزلوا وكسروا قفل البوابة. فدخل الجيش بأسره المدينة، وأمسكوا بأمير العارض وكل أفراد الجيش، وحملوهم إلى صحراء المشهد. وبعد النهب والقتل أضرموا النار في سائر البيوت. فلما فرغوا من المدينة وأهلها، غادروها إلى خارجها، وفي صحراء المشهد أجهزوا علي الأسري الذين كانوا قد أمسكوا بهم من قبل، وقسموا الأطفال والعيال فيما بينهم/ ثم سلكوا طريق العودة، وكانوا يقتلون في الطريق كل من كان ينتابه التّعب وتعييه الحيلة على مواصلة السير. ... ¬

(¬1) قارن أ. ع، 529.

ذكر توجه الصاحب «مهذب الدين» إلى «بايجو» وإقرار الصلح

ذكر توجّه الصاحب «مهذّب الدين» إلى «بايجو» وإقرار الصلح لما مني الجيش بالهزيمة، انتهى المطاف بالصاحب «مهذّب الدين» إلى «أماسية» فسمع أن جيش المغل قد أخضع قيصرية عن طريق الحصار، ثم رجع (¬1) فطلب «فخر الدين» قاضي «أماسية»، وقال له: طالما أن أمر السلطنة قد وصل إلى هذه المنزلة السافلة بسبب حداثة عهد السلطان وجهله، وأن بحر الفتنة- الذي كان يموج ويتلاطم- قد هدأ؛ فإنه لو حدث إهمال في تدارك الأمر، لكان ذلك ضربا من الكفر. والرأي عندي أن الطريق مملوء بالسهام والسّيوف. إلا أنه يتعين علينا أن نتجنب التفكير في العواقب، بل ننطلق في إثر المغل، ونأخذ في طرق باب الصّلح والهدنة. فاستحسن القاضي ذلك الرأي، وأثنى علي الصاحب ثناء جميلا. وبادر الإثنان- على السّوية- بإعداد الهدايا والتقدمات المتنوّعة ثم وضعا القدم- بفضل الله في طريق الخوف والرّجاء- وانطلقا. وبعثا قبلهما برسل إلى القائد «بايجو»، فأعرب هو غيره من أمراء الجيش عن دهشتهم لتلك البسالة (¬2) والجرأة. ثم إنّ الصاحب والقاضي لحقا ببايجو في حدود «أرزن الروم»، وقدّما الحدمات، وأخرجا اليد البيضاء في استعطافه واستمالته، فشملهما «بايجو» بالعطف واللطف وأخذا يتحركان مع جيش المغول كلّما تحرك مرحلة في أثر مرحلة، فلما بلغوا «مغان»، وهي معسكر «جرماغون»، انطلق «بايجو» للمثول ¬

(¬1) قارن أ. ع، 531. (¬2) في الأصل: مسألت، راجع أ. ع 532.

بين يديه، واستدعي الصاحب مهذب الدين والقاضي فخر الدين، وسألهما: ما الذي دعاكما إلى الحضور؟ أجاب الصاحب قائلا، ليجعل الله- تعالى- الإيلخان الأعظم خالدا أبد الزمان، وليعلم القائد أن الله إن كان قد أعان في هذه الكرة دولتكم، فظفرت على/ سلطان الإسلام، فلا ينبغي أن يكون ذلك مدعاة للغرور، فما قتل في الحرب- كما هو معلوم لديكم- أكثر من ثلاثة آلاف فارس. ومع هذا كله هلك من جند المغل عدد كبير. وفي أطراف بلاد الروم مائة ألف مثل أولئك الفرسان بكامل سلاحهم وعدتهم. على أن ملك الروم لا ينعقد له نظام إلا بسلاطين سلجوق، ولا يطمئن للرّعايا بال إلا بالانقياد لهم. فلو أن القائد راعى مصلحة الإيلخان فلا سبيل إلا أن يشفع مصالحة السلطان بالقبول. لأن العظماء الذين مضوا وتركوا لكم الملك قد قالوا: ينبغي طلب الرّضا ممن يقرع باب الصّلح ويدخل من باب العجز والاضطرار. لقد تمّ عرض ما من شأنه أن يؤدي إلى فراغ بال القائد، وراحة الملك والرعية أما إن كان يقع للقائد رأي غير هذا، فليأمر به. فلمّا سمع «بايجو» المفاوضات إشار إلى امرأة من نساء «جرماغون» كانت تتولى أمر إفهامه الكلام لكي تصيح بما تضمّنه في أذن جرماغون، فلمّا أصغي إليها، وبحكم أنه كان كثيرا ما سمع عن العادات الكريمة للسلطان المرحوم علاء الدين [وكان يثني عليه، ولا يفتأ يقول: ليت أن علاقة تبعية تنشأ بين السلطان والخان الأعظم لكي تبقى ولايته سالمة من معرّة الجيش ومضرّته، فمن الخسارة أن تخرب مثل تلك المملكة والسلطنة التي قد زينت بالعدل والإنصاف بصدمة صولة المغل، وأن تصاب قواعد السلطنة بالوهن] (¬1). ومن ثمّ أومأ وأشار ¬

(¬1) إضافة من أ. ع 534.

- انطلاقا من هذه الرغبة الصادقة- إلى أنه يقبل الصّلح. فبدأ «بايجو» - بمشورة «جرماغون» - في وضع أساس التبعية وقال: ما المقدار الذي يتقرر وصوله كل عام من ملك الروم إلى الإيلخان وقادة الجيش؟ فخرج الصاحب من الاجتماع وتشاور مع القاضي، ثم سجل بقلمه مقادير مفصّلة من الذهب والخيول والبغال والأفراس والأبقار والأغنام، وأرسل بيانا بها إلى خدمة القائد، وبيّن أن كلّ سنة يأتي المبعوثون إلى ملك الرّوم لطلب هذا المقدار، وبعد أن نسلمه إليهم يأتون به إلى هنا. فرضي «بايجو» ببعضه/ وعدّ البعض الآخر قليلا، فزاد [الصّاحب] (¬1) شيئا على كل ما كان موجودا، الأمر الذي رضي به «بايجو». ثم إنه استدعي الصّاحب، وبشره بإتمام مرامه. فأخذ الصّاحب بتلابيب «بايجو» تأكيدا للعهد والميثاق، وتم إرساء بنيان الصّلح بموافقة أمراء الجيش بأسرهم. ثم إن الصّاحب عاد إلى حضرة السلطنة بصحبة الصّدر الكبير «فخر الدين البخاري»، حيث شغل بسدّ الثّلمة وترميم الثّغرة. ... ¬

(¬1) إضافة من أ. ع، 536.

ذكر عودة الصاحب شمس الدين من [ناحية] الشام إلى حضرة السلطان

ذكر عودة الصّاحب شمس الدين من [ناحية] الشّام إلى حضرة السلطان حين ذهب الصّاحب «شمس الدين» إلى «حلب» لطلب الجند، جمع طوائف من الأجناد لم يكن عددهم ليدخل في حيز التعداد والحصر ودفع لهم جميعا أرزاق ستة أشهر مقدما. وأخذ يتحين الفرصة للرحيل اليوم وغدا. وفجأة سمعوا خبر انكسار الجيش وانهزام السلطان وتفرق الجموع، ففترت النيات رغما عنها، وانكسرت القلوب بسبب ردّ صحاح الدراهم والدنانير، وقد استرد بعضها بطريق التساهل، وحين سمع جماعة بالأمر تفرقوا في أرجاء العالم يركضون متعجّلين والذّهب في أكياسهم (¬1). وجاء أكابر بلاد الروم وأعيانهم من قيصرية وملطية وسائر الأصقاع عن طريق «سيس» إلى «حلب» فمدّ أرامنة «سيس» - أباد الله حالهم وأفنى رجالهم- يد الغدر والغارة إلى اللاجئين المسلمين، وقبضوا على والدة السلطان ثم سلموها بعد ذلك إلى المغل، وأخذ يسبون النبي عليه السلام. [ولحق المسلمون- بكلّ وسيلة كانت- بحلب وما جاورها] (¬2) فنشأ للروميين هناك تجمع كبير. ووصل الخبر بأن السلطان قد لحق بقونية سالما من معركة «كوسه داغ»، وأن جيش المغل توجه إلى «مغان»،/ وأن الصاحب «مهذّب الدين» انطلق في إثره بهدف افتتاح أبواب المصالحة. وأن الخلائق خرجوا من المسارب والمهارب. ومن هنا صمم الصاحب «شمس الدين» وسائر أكابر الروم على الرجوع، [لكنه ¬

(¬1) هذه عبارة الأوامر العلائية، ص 536، وهى أكثر وضوحا من عبارة الأصل. (¬2) إضافة من أ. ع، ص 536.

كان خائفا] (¬1) بسبب ما جرى منه من تباطؤ في اصطحاب الجند، وسعاية الحسّاد الذين كانوا قد وجدوا مجالا في ذلك الوقت للطعن فيه (¬2)، فضلا عن الأكراد والأتراك الذين كانوا موجودين على الطريق. ومن ثم كان يفكر في دعوة الملك «مسعود» صاحب «آمد»؛ فجاء في صحبته إلى «ملطية». فاستبشر «جاولي چاشني كير» بقدوم الصّاحب، وحال بينه وبين صحبة الملك «مسعود» - لما كان يلازمه من نحس وإدبار. فأرسل إليه الصّاحب- شاء أم أبى- (¬3) حسام [الدين] چوبان الملطي فقال له: في وقتنا هذا ظهر الفتور في المملكة، وليس من المؤكد ما الذي سيطل بوجهه من وراء ستار الغيب، والمصلحة هي أن يعود الملك. ومتى وصل الصاحب لخدمة السلطان، وخاطبه في الأمر فإن الأمر يصدر من حضرة السلطنة باستدعاء الملك، ويتحدّد الإقطاع. فلما سمع الملك «مسعود» هذه الرسالة، أطال لسانه بالعتاب، وعاد إلى الشام- وهو نادم سادم (¬4) - عن طريق «آبلستان». وتوجه الصّاحب لخدمة الأعتاب السلطانية، وكان قد أرسل «چاشني كير» قبله، فأخبر بقدوم الصّاحب، وبادر بذكر خوفه وهيبته، وأنه يلتمس التعطّف. فلما بلغ الصّاحب «منزل أبروق» دفعوا إليه بمنشور الوزارة وأمر باستمالته على أكمل وجه. فقال بعد المطالعة: رغم أن هذا يدل على غاية التلطف والتكريم من جانب السلطان، فإن صدور أمر بعزل الصاحب «مهذّب الدّين» في ¬

(¬1) إضافة من أ. ع، ص 537. (¬2) قارن أ. ع، أيضا. (¬3) في الأصل: شام أبي، وفى أ. ع، 537: شا أم أبي. (¬4) سادم، كلمة عربية: سدم فلان: أصابه هم أو غيظ مع حزن (المعجم الوسيط).

ذكر عودة الصاحب مهذب الدين من خدمة «بايجو نوين»

الوقت الذي ألقى بنفسه في خضم البلاء والعناء من أجل مصالح المسلمين أمر ليس صائبا. فلمّا لحق بالحضرة تمّ تفويض الحلّ والعقد له في الأمور كلها/، غير أنه لم يشرع- بأي وجه من الوجوه- في مباشرة الأمور المتعلّقة بوظائف الوزارة. ذكر عودة الصّاحب مهذّب الدين من خدمة «بايجو نوين» في هذه الأثناء قدم أصحاب البشارات بما ينبئ عن وصول الصّاحب وحصول المآرب. فلحق في أعقابهم بخدمة العتبة السلطانية، وحكى ما حدث من أحداث وإيجاب. وكان السلطان يأمر كل لحظة بتشريفة جديدة ويثني ثناء لا مزيد عليه. وبعد ذلك جاوز شأن الصاحب قلّة شواهق الكمال وذروة الجلال. وأرسل إليه هو والصّاحب شمس الدين في يوم واحد من حضرة السلطنة دواة الوزارة وسيف النيابة الذهبي، وأمر له بإقطاعات وفيرة. فلم يقبل الصّاحب مهذب الدين إلا أربعين ألف درهم، ولم يأخذ لنفسه أكثر من ذلك. ***

ذكر توجه الصاحب الإصبهانى لخدمة صاين خان من بحر الخزر

ذكر توجّه الصّاحب الإصبهانى لخدمة صاين خان من بحر الخزر حين استرد السلطان غياث الدين زمام التدبير بهذين الشيخين الفريدين العبقريّين، تراءى لهما أن ترسل الرسل إلى خدمة [الخان] (¬1) الذي استولى على صحراء القفجاق بالسيف البتّار، لكي تتم إشادة وإعلاء بنيان السلطنة- الذي أصابه الخلل بسبب سوء تدبير المدابير- بتعاون بناء من جانب أولئك الملوك الفاتحين. فعرضوا هذه الفكرة الثّاقبة على الآراء العالية لحضرة السلطنة (¬2)، وبعد الثّناء والاستحسان وقعت قرعة الاختيار على واحد من هذين الرجلين الكبيرين الشهيرين. لكن السلطان قال: لما كان الصّاحب «مهذّب الدين» لم ينفض إلى الآن عن كاهله غبار السفر، فإن على النائب «شمس الدين» أن يتصدّى لأداء المهمة/، فوضع النّائب رأسه على الأرض في الحال، وامتثل أمر السلطان. فأصدر السلطان أمرا لأمناء الخزانة، لكي يتركوا يد النائب «شمس الدين» مطلقة في كل ما يريد. واختار هو بدوره من التحف والطّرف والجواهر والنفائس كل ما رآه لائقا، واتجه نحو الطريق بملازمة «فخر الدين» قاضي «أماسيه»، و «مجد الدين محمد الترجمان». فلما وصل إلى الحضرة، وعرض الهدايا ¬

(¬1) بياض في الأصل: ولعله يعني به «باتوبن جوجي بن جنكيز خان»، وكان قد أنشأ دولة كبيرة باسم «ألتون اردو» أي القبيلة الذهبية سيطرت على منطقة واسعة من شمال آسيا امتدت حتى وادي الفولجا وشملت «كييف». ومن ثم أصبحت حدود تلك الدولة تجاور حدود سلاجقة الروم. (¬2) قارن أ. ع، 541.

والتقّدمات حظيت على الفور بالقبول، وتم تقسيمها في الحال على الخواتين والأمراء الملكيين. وقد تفضل فبالغ في إكرامهم، فصاروا موضع حسد الناس وغبطتهم، ومنح السلطان جعبة سهام، وقربانا وسيفا، وقباء، وقلنسوة مرصعة، وأمرا ملكيا، وجعله نائبا من قبله في البلاد، وحرر بذلك كله أمرا ملكيا، ووهب الملازمين تشريفة خاصة، وندب «سانقسون قرجي» لرد الزّيارة. ثم إنّهم ودّعوا الخدمة، وانطلقوا إلى بلاد الروم من طريق «شماخي» و «شروان». فزادت سعادة السلطان بوصولهم. ولما كان الصّاحب «مهذّب الدين» قد انتقل إلى جوار الحق- تعالى- أرسل للنائب «شمس الدين» قبل وصوله إلى الحضرة بمنشور الوزارة مضافا إلى إمارة «قيرشهر»، وهو أمر لم يتحقق لأي وزير من وزراء الروم، وتعجل النّائب في إدراك شرف المثول. وتوجه الصّاحب في صحبة الرسل [إلى خدمة السلطان] (¬1)، وكان كلما وصل إلى مدينة ومر بها أقام أهلها الأفراح، ونصبوا الزينات. وقد مثل بين يدي السلطان في قرية «قرايوك» من أعمال «آقشهر» قونية، فعرض القضايا التي كانت قد جرت في الذهاب والإياب الواحدة تلو الأخري، ولدى استماع السلطان لأداء الرسالة/، وحسن القيام، وتيسير المرام [تضاعف ما كان لديه من ثقة في كمال حصافة الصّاحب «شمس الدين» وفرط فصاحته ووفرة دهائه] (¬2). وأعطاه سيفا ذا غمد ذهبي، وقال: كل من يتجاوز حكمة يشقه بذلك السيف نصفين، ولا شئ عليه [ثم إن الصّاحب وسائر الزعماء ورجال الدولة والأكابر] (¬3) جاءوا في حشد ضخم مع الرّسل إلى قونية، فردّوا من هناك بتكريم وصلات لا حصر لها. ¬

(¬1) إضافة من أ. ع، 543. (¬2) هذه عبارة الأوامر العلائية ص 543 - 544، أما عبارة الأصل، فقد ضربت عنها صفحا لركاكتها. (¬3) إضافة من أ. ع 544.

ذكر توجه الصاحب شمس الدين والأمراء وإغراء العساكر لغزو «سيس»

ذكر توجّه الصّاحب شمس الدين والأمراء وإغراء العساكر لغزو «سيس» حين انتشر في كل البلاد خبر اجتماع العساكر للتوجّه إلى ولاية الكافر، أخذ الخاص والعام يتسابقون في ذلك الأمر واجتمعوا بنية الغزاة في «قونية» المحروسة، ولحقوا «بأراكلية» بقلب قويّ وعزم صادق. وهناك تخففوا من الأثقال. وأحاطوا فجأة كالبحر الأخضر بسور طرسوس، ونصبوا المجانيق. وأخذ الأمراء الكبار يشنون الهجمات بجنود جرّارة في أطلال الأرمن ودمنها، وكل ما كانوا يعثرون عليه إمّا يحتفظون به لأنفسهم أو يرسلوه إلى البلاد. وأحرقوا الأشجار والمزارع، ولم يجيزوا الإبقاء على شئ بأي وجه من الوجوه، وأحدثوا بضرب المنجنيق ثغرات واسعة في الإيوان والقصر وأسوار الدور والقصور في «طرسوس»، ولو أنهم ظلوا على جهادهم يوما واحدا آخر، لكان قد تحقق لهم الظّفر. لكن الحسد المتأصل لديهم حملهم على الخذلان، فكانوا يقولون: نستولي نحن على الولاية، ويكون الاسم للصاحب «شمس الدين» [فأخذوا في إبداء المماطلة والتراخي] (¬1)، وفجأة فتحت السماء بالأعزل (¬2) والطّاب من السحاب، وأخذت تمطر ليل نهار حتى تعذّر على الجيش بأسره التردّد إلى الخيام. ¬

(¬1) إضافة من أ. ع، ص 546. (¬2) في الأصل: عزالي، ولعله يريد به الأعزل (كلمة عربية): وهو ما لا مطر فيه من السّحاب.

كما وصل الأمر من الأعتاب السلطانية إلى الصّاحب: أن تعال إلينا، فما حدث إنما كان بسبب المياه التي تجمعت بفعل المطر. قال الصاحب [للأمراء] لا يجوز ترك الأمر مبتورا/، وأرى أن تتصالحوا مع هذا الكلب العقور، وتلزموه بأداء الخراج، وأرسل ليلا إلى «تكور» في السر بزعم أن الأمراء لا علم لهم بشئ، وقال له: كنت دائما أرعى جانبك، وحلت بين السلطان وبين دخول بلادك بضع مرات، وكنت أدافع عنك هذه المرة أيضا. ولكن لأن البحر كان مائجا ورياح السخط عاصفة بسبب أنكم ارتكبتم كل رذيلة وسوء خلق وقت انكسار الجيش في «كوسه داغ»، وما تركتم مجالا لعذر، فقد اضطررت لتجريد الحملة، والأمر هيّن عندي لأنني لو أردت لاستخلصت [المدينة] في ساعة واحدة. أليس من الأفضل لتكور أن يتقدم بقدم الاستغفار، ويقرع باب الصلح، ويرسل الأحمال إلى الخزانة، لكي أتوسط وأزيل غبار الوحشة من البين؟. فلما سمع «تكور» هذه الرسالة دبّت فيه الرّوح، وأجاب، ثمّ أرسل رسولا إلى الأمراء بطلب الأمان، وسلّم قلعة «براكنارا» مع بضعة قلاع أخرى لمماليك السلطان، وسيّر خراج الماضى والمستقبل مع الهدايا. وارتحل الأمراء والعساكر، فبلغوا «أراكلية» بألف حيلة [وبعد عناء شديد] وبقيت الأمتعة والأحمال في الأوحال. فلما لحقوا بخدمة الأعتاب السلطانية، كانت قد مضت سبعة أيام على انتقال السلطان إلى رياض الآخرة، فانهمكوا في العزاء والبكاء. وبعد ثلاثة أيام جرت المشاورة بينهم. ***

ذكر جلوس السلطان عز الدين كيكاوس على سرير السلطنة

ذكر جلوس السلطان عز الدين كيكاوس على سرير السلطنة فكّر الصّاحب «شمس الدين محمد» مع رفاقه الأربعة: «جلال الدين قراطاي»، و «خاصّ أغز»، و «أسد الدين روزبه» أمير الجامدارية، و «فخر الدين بكر بروانه»: أي الأمراء الثلاثة يجلسونه على عرش السلطنة: عزّ الدين كيكاوس، أم ركن الدين قلج أرسلان، أم علاء الدين كيقباد؟ فوجدوا عز الدين كيكاوس قد امتاز على أخويه الآخرين بحسن الطلّعة وجمال الأبّهة وعلوّ مرتبة السنّ، فقصروا الكلام، ومدوا الأيمان للمبايعة، وحلفوا بالأيمان الغلاظ على متابعة حكمه، وحملوهم من قلعة «برغلو» إلى «التونتاش» من أعمال «آقشهر قونية»، ووضعوا كرسيين ملكيين على يمين العرش ويساره، فجعلوا مكان ركن الدين قلج أرسلان على اليد اليمنى، وعلاء الدين كيقباد على اليد اليسرى. واتخذ الصاحب شمس الدين، وخاص أغز مكانين عن يمين السلطان ويساره، وأجلسوه على عرش القيادة، ونثروا الدينار. ثم إنّهم اتجهوا إلى «قونية»، وهناك أجلسوا السلطان مكان آبائه الكرام، واستقر الرأي على أن تكون الوزارة للصّاحب «شمس الدين»، والنيّابة «لقراطاي» وملك الأمراء «لخاص أغز»، والأتابكية «لأسد الدين روزبه»، والحجابة (¬1) «لأبي بكر العطار». وسطّر «شمس الدين محمود الطغرائي» المعروف ببابا منشورا باسم كلّ منهم، فحصلت له بتلك الكتابة نعمة وفيرة، فنقده «شمس الدين خاص أغز» مبلغا قدره خمسين ألف درهم. ¬

(¬1) پروانكي: تعادل منصب الحجابة، ومفردها «پروانه»، انظر فيما سبق ص 54 هامش 1.

وبعد إحكام قواعد الملك والدّولة نهضوا جميعا بتسيير أحكام الملك، وكانوا يتداركون أمور الجمهور بالّاتفاق فيما بينهم، ولكن بسبب المصاهرة التي حدثت حين زوج «خاص أغز» كريمته «لمبارز الدين بيرم»، ابن أخت «أسد الدين روزبه» / وما كان بين الخاص وروزبه من اتفاق كلي، فقد كثر رجوع معظم الناس إليهما في جلائل الأمور، ولم يكن هناك من أمر يبرمه الصّاحب و پروانه ما لم يكونا راضيين عنه. فاندلعت نار الحسد في باطن «نصرت» أمير العدل، وأبي بكر پروانه. ومع أن الصاحب لم يكن يلقي إلى ذلك بالا ويشغل أوقاته [بعد الفراغ] من الديوان بمطالعة الكتب ومجالسة العلماء والزهاد، وكان يريد أن يدفع استبدادهما واستقلالهما بالأمر على أحسن وجه، وألا يجعل عرضهم مضغة لكل شامت وحاسد من أجل تحصيل ما فسد من أغراض، لكن «نصرت» أمير العدل بما اشتمل عليه من خبث النفس وفساد الاعتقاد، كان يختلق للصاحب كل لحظة حديثا مزعجا وخبثا مهيجا من قبل «خاص اغز» و «روزبه»، ويشفع ذلك كله [بالأيمان الكاذبة] (¬1) ويبلغه في نفس اليوم إلى مسامع الصاحب. إلى أن وصل الأمر بالصّاحب وما له من طبع ألوف- بمرور الأيام- فأظهر نفورا من (¬2) خائفا متوهما، وهو ما رضي أن يعيش في تلك البلاد إلّا سالما آمنا، ومن ثمّ عزم على المسير للعمل في خدمة السلطان «ركن الدين قلج أرسلان» ¬

(¬1) سقط من الأصل، انظر أ. ع، ص 551. (¬2) كذا في الأصل وفي أ. ع، أيضا، ولم يكن ركن الدين قلج أرسلان قد أصبح فى تلك الفترة سلطانا، وإنما صدر أمر الخان المغولي بعد ذلك بأن يتولى السلطنة مع أخيه عز الدين كيكاوس مشاركة، انظر فيما يلي ص 320.

- الذي كان قد فوّض في عهد أبيه في التوجه إلى حضرة [الخان الأعظم القبجاق] (¬1) فأعدّ عدة السفر. وذات يوم تسلل «نصرت» امير العدل- مع پروانه إلى بيت الصّاحب، وقالا: قد اتضح للقاطنين في ربوع البلاد- كالنهّار السّاطع المبين- أن السلطان «غياث الدين» قد فوض- في أوقات حياته وسكرات مماته وصاية الأولاد وكفاية الرعايا والبلاد لرأي الصاحب الثاقب، ولما كان الصاحب قد أزمع على الرحيل الآن/ فإنّه إنّما يعطّل بذلك مسند الوزارة- الذي هو بمحياة الرائع كالسماء الرابعة التى تتيح للشمس أن تتجلى وتظهر- فتبقى بذلك مصالح الخلق مهملة، وتحل النكبة بالملك والدولة، فيظهر بذلك اختلاف الكلمة وافتراق الجماعة ويكون ذلك بسبب إهمال الصاحب. فإن كان الذي يحمله على ذلك تفرد «الخاص أغز» و «روزبه» فإن من اليسير علينا دفع ذلك إن تلقينا إذنا من حضرة الوزارة. فرضي الصاحب بعزل الخاصّ وروزبه واعتقالهما، ووكل ذلك التنكيل لپروانه وأمير العدل. فقالا: ينبغي ألا يعدل عن ما نراه صوابا، إذ لابد لنا أن ندعوهما إلى قصر الصّاحب للعيادة، ونقيّدهما في الخلوة، ونبعث بهما إلى حيث يأمر الصاحب. فرضي الصّاحب بذلك كله. ... ¬

(¬1) بياض في الأصل، وهذه زيادة يقتضيها السياق، راجع فيما سبق، ص 61، هامش 1.

ذكر احتيال پروانه وأمير العدل واغتيال الخاص أغز وروزبه في قصر الصاحب

ذكر احتيال پروانه وأمير العدل واغتيال الخاصّ أغز وروزبه في قصر الصّاحب حين انصرف «أبو بكر پروانه» وأمير العدل من عند الصّاحب، شرعا في دعوة قادة السّفلة في «آقشهر» و «آبكرم» - وكانوا على الدّوام يزحفون هاربين في شقوق ما للحدائق من أسوار، خشية قادة الشّرطة بالمدينتين، فأمنّاهم بالقسم المغلّظ، بل وعداهم بالإقطاعات والتّشريفات، وأخذاهم فأخفياهم بالّليل في غرف الخدم التي كانت تحيط بساحة قصر الصّاحب، بطريقة لم يطّلع عليها مخلوق، وجرى الاتفاق على أنه متى جاء الأميران لخدمة الصاحب، وتحقّقت الخلوة، نطق «نصرت» بكلمة «قوزى» (¬1)، فيثب السّفلة الأنجاس خارجين من المكامن، ويقضون على الأميرين. فلمّا اكتمل ذلك التّدليس والتّلبيس، كان الصّاحب قد تمارض قبل ذلك ببضعة أيام، واستلقى على الفراش، وذات يوم في الصّباح الباكر ذهب «نصرت» إلى خدمة «الخاصّ أغز» /، وقال له: منذ بضعة أيام والوزير ملازم للفراش، ويشتدّ به المرض كلّ يوم، وقد اهتمّ الأكابر بالسّؤال عنه وعيادته، فلو أنّك تفضّلت بتكبّد شئ من المشقّة في الذّهاب إليه اليوم، فلعلّه إن كان عنده أمر أو وصيّة فيعرضها (¬2) عليك، وهو مالا يخلو من فائدة. قال «الخاصّ أغز»: رأيت الليلة أحلاما ساءتني، فأنا بسببها متوتّر مضطرب، كما أن حساب الرّزق على أساس التّنجيم والأحلام أمر مذموم. ولكن لنرجئ ¬

(¬1) كذا في الأصل، وفي أ. ع 554: قورى نام ابريق او بود: يعني «قورى» اسم إبريقه. (¬2) كذا في أ. ع 554، وفي الأصل: عرض داريد: تعرضها أنت.

العيادة إلى الغد، ولنرفع اليوم كؤوس الشّراب [برغم دورة الفلك الجائر] (¬1) فدفع «نصرت» كلّ تعلّة، وحمله على أن يرسل إلى «أسد الدين روزبه» فيستدعيه إليه، وانطلق كلاهما بالحواشي والحشم. فلما اقتربا استبق «نصرت» زاعما أنه سيعلن عن [مقدمهما] (¬2) ودخل الحجرات، وزاد السفّاكين ترغيبا، وشجّعهم، ثم عاد ووقف على الباب مرحّبا. وبخداعه لم يسمح لكلّ واحد منهما إلّا أن يحمل معه جرموقا (¬3) عند دخولهما على الصّاحب. فلمّا دخل الأميران كلاهما، أحكم نصرت إغلاق الباب، وانطلق أمامهما إلى خدمة الصّاحب في الحمّام، فلمّا دخلا شرعا بعد السّلام والتحيّة في السّؤال وإبداء التّعاطف، وهنا نطق «نصرت» - وفقا للاتفاق المسبق- بكلمة «قوزي»، فوثبوا جميعا من المكامن والمخابئ إلى الباب، ووقفوا أمام. الصّاحب بالحربة والسّيف البتّار، وأخذوا في ضرب «الخاصّ أغز» وأمير الجامدار. وكان أغز يصيح: يا مولاي الصّاحب، هذا الصّنيع ليس من باب الوفاء والمروءة، ولا ينتظر صدوره منكم، وكان كلما صاح تلقّى المزيد من الضّربات. فلما أراقوا دم هذين الكبيرين اللبيبين/ فصلوا الرّأس عن الجسد، وعلّقوهما من فوق الجوسق الخشبيّ الذي كان قد تمّ تركيبه للزّينة على بوّابة «السلطان»، فلما رأى المتعلّقون بهما والحشم ذلك، فّروا، وتسللوا إلى الأركان الخربة، وانطفأ كل ما كان لأغز وروزبه من صولة وصلابة وسهم ¬

(¬1) كذا في أ. ع، 554، وفي الأصل: بخادم، (أي إلى الخادم)، ولا معنى له. (¬2) إضافة من أ. ع 555. (¬3) انظر فيما سبق ص 137 هامش 2.

حسم (¬1) في أقلّ من ساعة واحدة، وامّحت كلمة وجودهم من صحائف الزّمان، (بيت) فكانت لوعة ثمّ استقرّت ... كذاك لكلّ سائلة قرار كان «شمس الدين الخاصّ أغز» غلاما روميّ الأصل، غير أنّه كان ذا فضل وافر وعبارة باهرة وخطّ كسمط الجواهر، إن فاض عطاؤه ما كان يقيم للسحاب وزنا، بل كان يعدّ حاتم [الطائيّ] بخيلا. قد أنشأ رسالة في مناظرة الصبح والخمر، ويمكن الاستدلال على فضله بتلك [الرسالة] والفصل. أمّا روزبه، فمع أنه لم يكن متأدّبا، إلّا أنه كان فريدا في كفاءته وخبرته وعفّته وديانته. أجل؛ ثم إنّ «نصرت» أطلق السّفلة والأوباش على دورهم، وأسلمها لريح الغارة؛ وركب الصّاحب، وأجلس السلطان، وطاف حول الخندق بالمظلّة والرّاية، ونزل الدّيوان، وأرسل النّاس في طلب أقارب القتيلين ومن يتعلّقون بهما، فحبس بعضهم ثم قتل، بينما أمر الصّاحب بإطلاق بعضهم. وعند صلاة العشاء لم يبق فى دورهم وديارهم ديّار. ... ¬

(¬1) قارن أ. ع، 555.

ذكر استدعاء الصاحب «لشرف الدين محمود الأرزنجاني»، وسبب تبدل العداء بالصداقة

ذكر استدعاء الصّاحب «لشرف الدين محمود الأرزنجاني»، وسبب تبدّل العداء بالصّداقة حين وقف «الصّاحب شمس الدين» من تلك المكيدة- بمقتضى النّصيحة القائلة: «اللبيب من/ وعظ بغيره» - على خبث عقيدة «أبي بكر پروانه» و «نصرت المجنون»، ولأن الصّاحب لم تكن له صلة قرابة بأحد لا بزوجة أو ابن أو قريب، فقد جعله ذلك كلّه يشعر بخوف دائم من غدرهما ومكرهما في «قونية». وذات يوم أسرّ بالأمر «لشمس الدين بابا الطّغرائي»، وأخذ يبحث معه عن وسيلة ينير بها- بمصقل تجربته- مرآة فكره التي أصابها الصّدأ. أجاب «الطّغرائي»: فليأمر الصّاحب الأعظم- إن شاء- بإرسال أمر من جناب الوزارة لاستدعاء «شرف الدين محمود» - قائدة قوة أرزنجان- كما يستصدر باسمه منشورا بتولي منصب ملك أمراء الروم، ويبعث بذلك كلّه إليه. وحين يتم حضوره إلى الأعتاب، وتتوالى أنواع الاصطناع من حضرة الوزير، يتعيّن عند ذاك الشّكوى من «پروانه» وأمير العدل، أحيانا بالتّعريض وأحيانا أخرى بالكناية، ويترقّب الصّاحب ماذا يكون جوابه في هذا الصدد، فإن وقع الجواب مطابقا لمصلحة مماليك الصّاحب وإرادتهم، فيجوز عندئذ مصارحته بالأمر، وبهذه الوسيلة يمكن العثور على مخرج ومخلص عن طريقه. فبدا هذا الرّأي موافقا للصّاحب، وفي الحال كتب أمرا متضمّنا الألطاف متجاوزا الأوصاف، وأرسله إليه خفية على يد «سابق أولاقجي». وما إن طالع [شرف الدين] رسالة الصّاحب حتى التمعت أسارير مسرّته، وولّى وجهه بجمع

كبير وجند كثيرين صوب خدمة العاهل. وحين سمع الصّاحب وسائر الأركان خبر قدومه، رأوا من الواجب المبادرة باستقباله، وجعله الصّاحب بأصناف الألطاف سغبا (¬1) لإحسانه ومملوكا مذعانا له. فلمّا مضت مدّة على هذا الحال، جرى على لسان الصّاحب ذات يوم في أثناء التنزّة قوله: إن من رأينا/ أن يتحرّك موكب السلطنة إلى «سيواس»، و پروانه وأمير العدل لا يرضيان بذلك، ولا يريدان مفارقة مدينتهما ومواطنيهما [ومعظمهم أقاربهم وأتباعهم] (¬2). وذلك أمر يستوجب انفعال الخاطر انفعالا تامّا بمؤامرتهما التي أهلكا بها الأميرين. فلم تعد لي ثقة بأفعال هذه الجماعة وأقوالها وباطنها، وعالم السّر والعلانية شاهد على أن رضائي لم يكن مقرونا بإراقة دم (¬3) هذين الشّهيدين، لأنني كنت قد وقعت بينهم «كالشّعرة البيضاء في الّلمّة السوداء» (¬4)، وظللت محروما من إسعاد المجير وإنجاد المشير، ولقد غلت مراجل فتنهم وإحنهم، وما تابعت مرادهم، إلالفرط الاضطرار، واستسلمت لسوء الذّكر في الدّارين، وحرمت من مصاحبة الأمراء الذين كانوا قد نشأوا ونموا منذ عهد الطّفولة في حجر تربيتنا، وكانوا يرون الدّنيا بعيوننا نحن، وما ذلك إلا بسبب خبث هذين المشؤومين ووشايتهما. وفي أثناء الكلام جرت قطرات العبرات على وجنتيه الكريمتين، فأخذت ¬

(¬1) في الأصل: سغبة، كلمة عربية، والسّغب: الجوع. (¬2) إضافة من أ. ع 559. (¬3) ريختن خون، وفي الأصل: يختن خوان، ولا معنى له. قارن أ. ع، 560. (¬4) كذا في الأصل بالعربية.

الأمير «شرف الدين» رقّة لسلامة نفس الصّاحب وصدق نفسه، وأجاب قائلا: إذا كان الصّاحب الأعظم قد حزم أمره على أن ينطلق موكب السلطنة إلى «قيصرية» و «سيواس» فمن ذا الذي يجرؤ على أن يضع يد الردّ على صدر مراد مماليك حضرته. ولئن كان مولاي قد ظل متوقّفا في المسير إلى الآن، فما ذلك إلّا بسبب غيبتي. أمّا بعد أن أمسكت يد الاعتصام مني بالعروة الوثقى لسرج الصّاحب الأعظم المبارك، وتشبّثت بها، فإنّ كلّ ما يأمر به ويراه يشمّر هذا المملوك عن ساعد الجدّ لتنفيذه وتحقيقه بالقلب والرّوح. وحين سمع الصّاحب هذه الكلمات من «شرف الدين» سكن قلبه الجامح وهدأ/ ثم أعلن أمرا بالطغراء (¬1) بتلك القضية، وزاد تمكّنه. وقال: لا شك أنّ الشّمس (¬2) حين تصل إلى الشّرف يظهر وبال الخصم منقلبا. وذات يوم حين تصادف أن خلا الثلاثة ببعض تشاوروا في كيفية البدء في إبادة هذين الشرّيرين الخبيثين. قال «شرف الدين»: لن يتحقق ذلك ما دام كلاهما موجودا في هذه المدينة. قال الصّاحب: إن كلّ همّتنا منصرفة- وفقا لقرار السلطان «غياث الدين» - إلى تسيير الملك «ركن الدين» إلى خدمة [الخان الأعظم] (¬3)، ولقد كنّا قبل هذا قد تصدّينا لتلك المهمّة فلنجعل «نصرت» أمير العدل ملازما له في خدمة ركابه، ومتى وقعت الفرقة بينهما على هذه الصورة، فربما يلوح وجه ما نسعى إليه. فقال الإثنان: نعم الرأي. وفي اليوم التّالي حضروا إلى الديوان، فساق الصّاحب الكلام إلى أن قال: ¬

(¬1) انظر فيما سبق ص 1 هامش 1. (¬2) في الأصل: تنمس وهو تصحيف. (¬3) زيادة يقتضيها السياق، لا وجود لها بالأصل، ومكانها بياض أيضا في أ. ع، 561.

يتعيّن إيفاد الملك «ركن الدين» بأسرع ما يمكن، حتى لا تتلف المهمّات التي جرى إعدادها منذ مدّة طويلة. وكل من يقع اختياركم عليه من بين الحاضرين يسير في خدمته. قال: كل من يشير إليه الصّاحب ينهض بهذه المهمة. قال الطّغرائي: [لا أحد يليق بملابسة هذه المهمّة الدقيقة أفضل من أمير العدل] (¬1). قال پروانه: ليس هناك من يفضله، ومن ثمّ ألزم أمير العدل والتزم. وبعد بضعة أيام انطلق في خدمة الملك ركن الدين- نافذ الأمر- نحو «سيواس». فلمّا أصبح وصولهم إلى «سيواس» أمرا معلوما، سلك الصّاحب «وشرف الدين» و «الطغرائي» - أثناء التنزّه في خدمة السلطان في أحد الأيام- طريق «آقسرا». وأرسلوا رسولا إلى «قراطاي» لكي يؤمّن البيوتات والخزائن، ثم يحملها ويلحق بحضرة السلطنة بسرعة. فلما رأى «پروانه» هذا الأمر أصابه الذّهول وصرخ قائلا:/ لماذا تغادرون فجأة على هذا النحو دون سبب واضح، ودون مشورة؟ وغلبته الأوهام بحكم المثل القائل «الخائن خائف» [وتصور أن يكيدوا له كيدا في الطريق ويتآمرون عليه] (¬2)، فطلب الإذن بالعودة، وأعدّ عدّة السّفر لكي يعود أدراجه. فلمّا جاء إلى المدينة دعى إليه «الأخيان» (¬3) والشّباب، واستغاث بهم، ¬

(¬1) هذه عبارة أ. ع، 562، وعبارة الأصل فيها من التصرف ما يخرجها عن تتابع السّياق. (¬2) إضافة من أ. ع، 562. (¬3) كذا في الأصل: اخيان، مفردها أخي. وهو الشخص الذى يندرج في سلك «الفتيان» وقد جمعها ابن بطّوطة في رحلته: أخيّة، وقال: «واحد الأخيّة أخي على لفظ الأخ إذا أضافة المتكلم إلى نفسه. وهم بجميع بلاد التركمانية الرّومية في كل بلد ومدينة وقرية .. إلخ» (رحلة ابن بطّوطة، طبع مصر، ص 181).

فأجابوا قائلين: إن الصّاحب حاكم الملك وكافل مصالح السلطان «عز الدين» بوصيّة السلطان «غياث الدين». والسلطان- وهو مالك الملك- في يده. ولن نستطيع أن نعلن العصيان للسلطان ونظهر كفران النّعمة (¬1) بسبب ما أثير بينكما من غبار. وفي تلك الأثناء أرسل «شمس الدين يوتاش» لقيادة قوّة «قونية»، فخف «الأخيان» والأعيان جميعا لاستقباله. فلما عاين «پروانه» كساد سوقه، حاول أن يحمل ابنه على التوجّه إلى «سيس»، فلم يسمع كلامه، وأعرض عنه كلّ ذويه. فأخذ هو وابنه يبحثان- نادمين سادمين- عن ملجأ في المزارع، لأن «يوتاش» كان قد سدّ كلّ الطرّق، وأقام عليها الحرّاس. وحين وصل الصّاحب إلى «سيواس» أمر بأن ينال أمير العدل جزاء خبثه ومكائده فهو الذي فكّر في إهلاك الأميرين الشّهيدين، وأرسله مخذولا مكبّلا إلى قلعة «هاويك»، ثم أوفد من قبله أحد كفاة الديوان- وكان موصوفا بالصّرامة- لتدارك أمر «پروانه» وابنه في قونية. فلما بلغها من ناحية «برزك» أمسك- لكفاءته- بپروانه وابنه، وأرسله إلى قلعة «دارنده». بينما حمل ابنه إلى «كاخته». فانطفأت بهذه الوسيلة جمرات الفتن من عراض البلاد، وقضيت المهمّات وفق مقتضى خواطر [أنصار الصّاحب] /، واتفق الصّاحب و «شرف الدين» سويا كالماء والراح، وصرف الملك «ركن الدين» إلى خدمة [الخان الأعظم] (¬2) وفق العادة والسنة الملكية. وجعل في خدمته القاضي «كمال الدين الختني» و «عزّ الدين محمد شاه» - وكان في ذلك الوقت مشرف الممالك- و «بهاء الدين يوسف بن نوح الأرزنجاني». غير أن المحبّة والمصافاة بين الصّاحب «وشرف الدين» قد انتهت إلى عداء ومجافاة، وتبدّل الأنس بالوحشة. ¬

(¬1) قارن أ. ع، 563. (¬2) سقط من الأصل، وبياض في أ. ع 564.

ذكر التوتر الذى وقع بين الصاحب الإصفهاني وشرف الدين الأرزنجاني

ذكر التّوتر الذى وقع بين الصّاحب الإصفهاني وشرف الدين الأرزنجاني كان السّبب في ذلك أن المتعاقلين (¬1) من أهل الفضول تكلّموا- رغبة في ترويج سوقهم- عن تزويج الصّاحب بوالدة السلطان. وسارعوا- في التوّ والّلحظة- بنقل الأمر من مجرّد الفكر إلى حيّز العمل، فتمّت مراسم النّكاح ونثر السّكر دون أن يكون «لشرف الدين» أدنى علم بذلك. فأنف «شرف الدين» وبقيّة أمراء الرّوم من هذا الأمر، ولمعت آثار تلك الأنفة على جباه الحميّة عندهم. وفتل «شرف الدين» أسباب العتاب مع الصّاحب في ذلك الباب وعدّ المؤاخذة عن ذلك أمرا لازما. ولم يشأ أن يقبل أيّا من الأعذار التي كان يبديها الصّاحب. إلى أن تناهى إلى سمع الصّاحب ذات يوم أن «شرف الدين» قد غضب على حفيد ملك «أخلاط» - وكان والحالة هذه منخرطا في زمرة أمرائه- وأنّه أجرى عليه حكم الإعدام. فبدا الانفعال على الصّاحب بذلك المقال، ووجّه لشرف الدين توبيخا كاملا على أنه بادر بهدم وجود إنسان، وما هو إلا بنيان الله، سيما وأنّه ابن ملك من الملوك «وأنه إنّما أصبح خادما لك بسبب ما جرى عليه من جور دورة الفلك. وإن الرضا بذلك إنما يبعد عن الدّيانة والمروءة». فتوجّس «شرف الدين» خيفة من ذلك. وذات يوم بينما هو في أثناء التنزّة سلك بدوره طريق «أرزنجان»، وحرصا من الصّاحب على ألا يتفاقم العداء أوفد «تاج الدين سيمجوري» مع «نظام الدين أستاد الدار» إلى «شرف الدين». فلما لحقا به أجاب «شرف الدين» - لفرط تنمّره- بإجابات يعدّها ذوو العقول من ¬

(¬1) كذا في الأصل، متعاقلان، كلمة عربية، وتعاقل: أرى من نفسه ذلك وليس به.

باب خرافات أرباب السّفاهة والحماقة (¬1). مجمل القول أنّه تمّ الاتّفاق معه في حضور «نجم الدين» قاضي «سيواس» وغيرهم من الأكابر على أن يتلقى ثلاثمائة ألف درهم من أموال الخاصّ إضافة إلى قيادته لجند «أرزنجان» و «نكيسار» (¬2). وذلك لكي يقيم على حدود البلاد ويراقب الصّادرات والواردات. وتعاهدوا جميعا على ذلك كلّه، وحطّموا قارورة الخلاف. ثم ولّوا وجوههم شطر أعتاب السلطان. لكنّهم ما إن رجعوا حتى كان «شرف الدين» قد سلك طريق العصيان والتمرّد، وحشد الجند، وجاء إلى «نكيسار». فلما علم الصّاحب بنقضه [للعهد] أرسل «شمس الدين يوتاش» بجيش كبير لمحاربته، فألحق به الهزيمة في «خروقي» من أعمال نكيسار، ففرّ إلى قلعة «كماخ»، وتحصّن بها فأرسل الصّاحب كلّ قادة الجند لمحاصرته. وتمكّنوا بالمكر والخداع من أن يجعلوا أهل القلعة يتوجّسون خيفة منه. فلما أصبح معلوما «لشرف الدين» ما كان من اتفّاق كلمة الأمّة، أرسل رسالة إلى الأمراء الذين جاءوا في طلبه، وطلب الأمان، ووسّطهم لكي يلتمسوا الأمان لحياته من الصّاحب، الذي كتبوا إليه كتابا بهذا المعنى. فأصدر الصّاحب صحيفة المتلمّس جوابا لذلك الملتمس، فغرّه ذلك، ونزل من القلعة وسار مع الأمراء. فلما/ وصلوا إلى «چپنوق» لحق بهم رسول مسرع من قبل الصّاحب، وطلب منهم أن «يفصلوا رأس شرف الدين عن جسده، ثم يرسلوا بها إلينا». فسلّمه الأمراء إلى الرّسول فقتله وأبلغه درجة الشّهادة، وفصل رأسه عن جسده، ووضعه في كيس، وعلّقه في مسمار بمنزل كان قد نزل به بقرية «چپنوق». ¬

(¬1) قارن أ. ع، 566. (¬2) أيضا، 566 - 567.

وبعد مدة تصادف أن قتل الصّاحب فبلغ درجة الشّهادة في «قونية»، فأرسلت رأسه إلى «سيواس»، فعلّق بنفس المسمار بذلك البيت. أجل؛ ولمّا فرغ بال الصّاحب من تشويش «شرف الدين» أرسل أمرا بأن يتمّ خنق «پروانه» في قلعة «دارنده» وابنه في «كاخته» بوتر القوس. فأصبح الصّاحب منذ ذلك الحين مرفّه البال كليّة من الخصوم. ***

ذكر استقلال الصاحب شمس الدين في مسند الجلال

ذكر استقلال الصّاحب شمس الدين في مسند الجلال حين التقت مواكب هيبة الصّاحب في مدارج التّوفيق بالسّعادات السماوية، وأمسك بالبلاد بكفّ ضبطه وتدبيره، عمد إلى تقسيم أوقاته وتوزيعها، وترتيب لذّاته الجسمانية والروحانية. كان إذا حلّ الثّلث الأخير من اللّيل جلس على مسند الوزارة (¬1)، ثم يبدأ الحفّاظ في القراءة بالتّناوب فيتمّون جزءا من الأجزاء الثلاثين بألحان تنعش الأرواح وأصوات تزيل الغمّ والحزن. فإذا ما أذّن المؤذّن: قد قامت الصلاة، أدّاها الأصاغر والأكابر في القصر جماعة. فإذا ما أداها حق أدائها على سبيل الوجوب كان قابض الدّيوان يأتي إليه بالمنشورات والأوامر التي كانت قد كتبت بالأمس، فيطالعها ويصلحها ثم يوقّعها. ثم يأذن للأمراء بالدّخول للسّلام. ويضع من ثمّ القلنسوة على رأسه، ويلبس أحيانا عباءة صوفيّة مخيطة الذّهب قد بثّت على أرجائها حبّات من نفائس الأثواب العتابيّة والقطنيّة والنّسيج، فيتلفّع بها (¬2) ثمّ يركب/ ويشرع في التنزّه، ومتى عاد مدّ الخوان السلطاني، ثم أقيم ديوان على أفضل ما يكون من الأبّهة والجلال. فيجلس المترجمون والمنشئون عن اليسار واليمين، كلّ على قدر مرتبته، ويتكئ الصّاحب وحده في ركن من أركان العرش، ويجلس «قراطاي» و «شمس الدين بابا» على ركبتيهما من بعيد في خدمته، ويقف أمير السّيف الذّهبي على الصفّة وقد علّق ¬

(¬1) قارن أ. ع 570. (¬2) هذه عبارة أ. ع، 572، وعبارة الأصل: وأحيانا يضع على رأسه فضّية مخيطة بالذّهب.

سيفه في حمائله، فيفصلون في دعاوى [المظلومين] (¬1). وحين يهمّ الصّاحب بمغادرة الدّيوان إلى مقر إقامته يمدّ الخوان السلطاني، ثم ينتشرون بعد رفعه. وينال الصّاحب قسطا من الراحة ثم يعود متبخترا إلى الصّفة، فيطلب مولانا «تاج الدين التّبريزي»، ويبحثان سويا في أنواع العلوم، ويؤدون صلاة الظّهر في جماعة، ثم يدخل «ولي الدين الخطّاط التّبريزي»، فيأخذون في تجويد الخطّ حتى صلاة العصر. وبعد صلاة العصر كان يمضي إلى الميدان، حيث يتنزّه حتى تصفرّ الشّمس، ثم يعود إلى بيته. وبعد أن يصلي العشاء ينعقد المحفل، وينشغلون حتى منتصف اللّيل بسماع قصائد الفضلاء- الذين أتوا للانتجاع من مختلف البقاع- بالفارسية، والعربية، والخطب، والرّسائل. ويجري البحث في أنواع العلوم سيّما التّواريخ. عاش على هذه الوتيرة سنتين وفجأة فرّقت عين الأيّام اللامّة سلك تلك الرّاحة وبدّدتها. وجاء الخبر بأنّ رجلا يدعي «تركي أحمد» قد خرج في ناحية «الأوج»، وأنّه ينتسب إلى السلطان «علاء الدين» ويزعم أنه ابنه، فدفع الصّاحب بالمجنّدة وقادة الجند لدفع ذلك الخارجي، فلما التحم الجيشان، وتحقّق لدى الأمراء ما يتمتّع به الخارجي من قوة وشوكة، عمدوا إلى إيقاف القتال تعللا ومماطلة، وأرسلوا رسولا مسرعا إلى الصّاحب طالبين المدد، فأرسل الصّاحب المفاردة والمرتزقة في صحبة «خطير الدين» أمير العدل. وكان قد سبق للصّاحب أن رفع ¬

(¬1) إضافة من أ. ع، 572.

الخزائن والأموال للبلاط الخاني في صحبة «أبي بكر الجويني» أمير العارض (¬1)، فخلا بذلك قصره- وفقا للحكم السّماوي- من الحماة والحرّاس. وفي هذا الوقت نفسه وصل الخبر بأنّ الملك «ركن الدين» قد عاد من خدمة [الخان الأعظم]، وأنه منحه السلطنة. وأن الأمراء الملازمين لموكبه قد خامرتهم فكرة التّآمر على الصّاحب، وأنّ أحكاما صدرت بالنفاذ في هذا الصّدد. وأن «صارم الدين الپسارو» [الخازن] و «فخر الدين سيواستوس» [غلام والدة السلطان غياث الدين] (¬2) سيلحقان بهم ومعهما مرسوم بالقبض على الصّاحب. وأرسل جلال الدين قراطاي وابن الطوسي إلى الصّاحب: حتى ولو وصل مثل هذا الحكم فإننا نعدّ سيدنا الصّاحب حاكما وقدوة لنا. إلا أنّه ينبغي عليه أن يتفضّل من الآن فصاعدا بترك التبوّش (¬3)، ويأتي إلى الدّيوان بغلام أو غلامين أحدهما «دواتدار» (¬4) والآخر «سرموزه دار» (¬5). ففرّ الاطمئنان من قلب الصّاحب وزايله الهدوء بسبب تلك الرّسالة، وأيقن في قرارة نفسه أن الحسّاد والأضداد يسعون للقبض عليه وإهلاكه. فلبس تشريفة «صاين خان»، ونصب بضعة غلمان كان يمتلكهم على الباب والسّور. وأرسل ¬

(¬1) قارن أ. ع، 584. (¬2) إضافة من أ. ع، أيضا. (¬3) في الأصل: حواشى، وفي أ. ع 584: بواشى، كلمة عربية، والتبوّش يعني الإكثار من الاختلاط بالناس. (¬4) كذا في الأصل دواتدار، ومعناه حامل الدواة، منشئ، كاتب. (¬5) كذا في الأصل: سرموزه دار: وهو من يلبس الجرموق ويسمح له بأن يحمل خنجرا فوق رقبة حذائه. (برهان قاطع)، وانظر أيضا فيما سبق ص 137 هامش 2.

«قراطاي» «تاج الدين سيمجوري» - وكان من ثقاة النّواب عنده- خفية إلى الصّاحب بأن يلقي بنفسه- بكل طريقة ممكنة- إلى إحدى المزارع، ومن هناك يلحق بجيشه الذي كان قد أرسل به إلى «الأوج». / فتصوّر الصّاحب تلك النصيحة مشوبة بالغرض والحيلة، ولم يبرح البيت. وفي اليوم التّالي أمر و «ولد الطوسي» إخوان (¬1) «قونية» بأن يقتحموا بيت الصّاحب ومعهم السّلاح وكتيبة من المفاردة وغلمان الحرس السلطاني، وأن يلازموا الصّاحب ويحضروه برسم التّوكيل. فلمّا وصل الرّسل من قبل الخان الأعظم، وأتوا بالأوامر الخاصّة بقيد الصّاحب وقتله، استدعي الصّاحب للذّهاب إلى قصر السلطنة [ليسمع حكم الخان] (¬2) فأبى، وانتهى به الأمر إلى الرّكوب مضطرا. فلمّا وصل إلى باب القصر أمر بفتح سلسلة كانت مغلقة لتعترض الدّاخلين بخيولهم، فرفضوا فحنى ظهره ومرّ. فلما وصل إلى الدّهليز ألزمه «سيف الدين قيبه» [أمير العدل في تلك الأيّام] بدخول البيت الذي كان على الناحية اليسرى، ولمّا دخل أرسل «ولد الطّوسي» الكتاب والحساب إلى قصره، لنقل كلّ ما كان له إلى قصر السلطنة. وفي تلك الليلة نفسها أعدموا الصّاحب في القلعة بدار المخازن. وكان قد سأل أمير دار العدل في الطريق: إلى أين نحن ذاهبون؟ أجاب: إلى حيث أرسل الصّاحب الآخرين، وحيث سيرسلنا نحن مستقبلا. فوضع الصّاحب قلبه على ¬

(¬1) كذا في الأصل: إخوان، وهو جمع اختاره المؤلف هذه المرة لكلمة «أخي» على خلاف عادته انظر فيما سبق ص 312 هامش 3. (¬2) إضافة من أ. ع 585.

الموت وقدمه في الطريق، وخلا في تلك الدّار للتّبتل والانقطاع، وأخذ يستدرك ما فات من العبادات والدّعوات، وهيهات (¬1)، وأنشأ الأبيات التالية في تلك الأيام: (شعر) - حين عبرت الشّمس من أحد نصفي برج السرطان، ... نظرت بكلّيتها نحو المرّيخ فوجدته في التّربيع - أرسل الثّور متاعه إلى الأسد (¬2) ... ثم ارتحل نحو زحل رغبة في الانتقام -/ صار المرّيخ مطوّقا بحلقة في العقرب. ... فتسامر القمر بما حدث مع الأفلاك - وألقى المشتري بنظرة قاسية على الزهرة، ... فمرّت على النار المحرقة كالسهم. - زايل التفاؤل عقلي من تلك الرؤية المضطربة، ... وأثّر الإدبار في رأسي بتلك الحركة المنعكسة - لم يجل أبدا بخاطري أن يكون ... بوسع سيارات الفلك أن تخاطر على هذا النحو - لكن حين حمّ القضاء انتكست السعادة، ... وهو أمر لا يمكن دفعه بسيف أو بدرع ¬

(¬1) قارن أ. ع 586. (¬2) في الأصل تازوبنه نور، وهو تحريف: باروبنه ثور، انظر أ. ع، 586.

- كلّ سهم انطلق من قبضة القدر، ... كيف يتسنّى- بالتدّبير- منه الحذر - انظر عدل الفلك وإنصافه، أي فتن أثار ظلما ... وأيّ شر- في أقلّ مدّة- صنع. - أسلم متاعي للغارة، وأحال قلبي ... على كبدي ليسدّ رمقه من القوت. - أسال عروق الياقوت- تفنّنا- من عينيّ، ... وجعل وجنتيّ كأسين من الذّهب - هذان خلخالان بقدميّ هما نتاج لسعيه ... وما تبقّى من البدن أحكمه بأثقل قيد - تنبّه أيّها القلب الحائر، ما بكاؤك من الفلك؟ ... وإلى متى تطعن على هذه الشّمس وهذا القمر؟ - ما كانت إلّا غفلتك أنت، والسّيئات الكثيرة ... / التي حين جاوزت الحد أثّر فيك الذنب، - وما يصنع الفلك؟ ومن النّجم؟ وما الشّمس؟ ... إنما كان أمر الله، أحاله للقدر. - حين أخرج الفلك من أذى البلاء صنفا آخر، ... صوّب على أهل الفضل مائة سهم من العناء.

ثم إنهم سمحوا لأقارب المقتولين (¬1) بأن يعذّبوه ثلاثة أيام، وفي اليوم الرّابع فصلوا رأسه- الذي كان مستودع اللّطائف السّبحانية (¬2) - فاتصلت روحه الطّاهرة بسكان القدس. فلمّا حمل الرسل رأسه إلى السلطان «ركن الدين» في «سيواس» حلّ الخراب والخسران بأمراء الرّوم القدماء «كطرنطاي» و «سراج الدين ابن بجه»، و «تركري» و «شجاع الدين ابن القزويني» و «بيجار»، الذين كانوا قد أجابوا دعوة الصّاحب. وبعث القاضي جمال الدين الختني (¬3) برسالة إلى «قونية» عند السلطان «عزّ الدين» مضمونها أن الخان قد تفضّل علينا بسلطنة البلاد، وأنه أرسل في ذلك الباب أمرا امبراطوريا ناطقا، كما سيّر معنا ألفي فارس مغوليّ لتأديب المعارضين، فإن انقدتم للحكم وعددتم «ركن الدين» سلطانا، فعليكم بمقابلة [رسولنا]. فلمّا بلغ القاضي «جمال الدين» «قونية»، وكان رجلا أهلا للمهمّة سهّل الأمر، فسمعوا الأمر الخاني الذي أتى به معه، وقرّروا له قضاء قونية، وعيّنوا نائبا له، وأصبح ملكه نافذا في الممالك كلّها. ¬

(¬1) يعني من أمر الصاحب بقتلهم، كشمس الدين خاصّ أغز، وأسد الدين روزبه، وغيرهما. (¬2) كذا في أ. ع 587، وفي الأصل: مسيحيانى. (¬3) «من فحول أئمة تركستان، كان يحظى بالتكريم والاحترام في دولة السلطنة، وقد تحمّل أسفارا شاقة في خدمة السلطان ركن الدين، وكان له سند من جانب عماد الدين الختني وزير الخان، لما كان بينهما من قرابة ... إلخ» (أ. ع 588).

وأجمعوا على أن يكون الإخوة الثّلاثة سلاطين، وألا يقدّم «ركن الدين» / الأصغر على «عزّ الدين»، وأن تكون السكّة وكذلك الخطبة باسم الثلاثة جمعيا. وحين رجع القاضي جمال الدين [من خدمة السلطان عزّ الدين] (¬1) وقال إن «قراطاي» وسائر الأمراء لا يعترفون بركن الدين سلطانا، وأن رأيهم قد اجتمع على أن يكون الإخوة الثّلاثة سلاطين ويجلسون على عرش واحد، وأن يردّوا المغول الذين أتوا بهم، وافق أمراء «ركن الدين» على تسريح المغول، وردّوا قوّاتهم ردّا جميلا، ثم عزموا على التوجّه إلى «قيصرية». ولأنّهم كانوا قد سئموا تحكّمات «بهاء الدين الأرزنجاني» فقد بادروا إلى عزله، ووضعوا [دواة] (¬2) الوزارة لدى «نظام الدين خورشيد»، وأعطوا «إمارة الأمراء» (¬3) «لولد بجّه»، و «ملطية» «لطرمطاي» و «سيواس» «لتركري». ثم إنّهم جاءوا بحشد كبير إلى «قيصرية»، وأرسلوا أمرا بعزل «القاضي عزّ الدين الرّازي» - الذي أصبح فيما بعد «الإصبهاني الوزير»، فامتثل الأمير «جلال الدين» ذلك الأمر، وبعث به إلى بيته. فلمّا لحق السلطان «ركن الدين» بآقسرا، رجع الأمراء عما كانوا قد اتّفقوا عليه مع «القاضي الختّني»، ولم يرضخوا لأن تكون السلطنة شركة، وتحرّكوا من «قونية» في خدمة ركاب السلطنة. فلما وصلوا إلى «كاروانسراي سلطان» كان قد تحصّل لهم عشرة آلاف رجل، ونما ذلك إلى علم أمراء ركن الدين، ¬

(¬1) إضافة من أ. ع 589. (¬2) أيضا، 590. (¬3) في الأصل: بكلربكى؛ كلمة تركية تعني أمير الأمراء.

فانطلقوا بسبب النّخوة والغرور، حتى بلغوا «خان السلطان قلج ارسلان» (¬1). [وكانوا يستحقرون السلطان عز الدين وجنده وأمراءه] (¬2). وفي صباح ذات يوم ركب جند السلطانين، وغرقوا حتى آذانهم في السّلاح، كان أمير المقدمّة من هذا الجانب «أرسلان دغمش» بينما كان أمير الجاندارية «نور الدين يعقوب»، ومن جانب ركن/ الدين «طرنطاي» و «تركري». فلما اقترب الجيشان، اصطفّوا صفوفا [متقابلة] (¬3)، وشرعوا ينتظرون أن يتردّد الرسل بين الأخوين، ويقرّران الصلح. وفجأة شنّ بضعة جنود من عساكر «طرمطاي» هجوما، فدفعتهم العساكر العزّ دينية، فلما رآهم بقية جند «طرمطاى» ولّوا الأدبار، وبقي «طرمطاي» وحيدا، فلا جرم أن ألقي القبض عليه. وحمل «تركري» - وكان في المسيرة- فقبض عليه هو الآخر. فصعد السلطان «ركن الدين» بالمظلّة والراية على مرتفع. وما إن وقع نظر «أرسلان دغمش» عليه حتى انطلق بحصانه صوب ذلك المرتفع، فالتقى بالقاضي الختّني، فأمر بقتله وإبلاغه درجة الشهادة، ثم مضى. وحين وصل إلى خدمة السلطان، نزل وقبّل الأرض، وبحكم أنه كان أمير الاصطبل أمسك بعنان السلطان وسار به بين الجند إلى السلطان «عزّ الدين». فقام السلطان و «قراطاي» وسائر الأمراء باستقباله، فلما التقيا احتضنه السلطان وبكى بكاء حارّا لفرط رقّته، وأمسك بيده وانطلق بأخيه وهما يتحدّثان إلى الخيمة الملكية، وأحضر الخوان، وضربوا عن الماضي صفحا، ولم يقتلوا ¬

(¬1) بياض في الأصل، والتصحيح من أ. ع 591. (¬2) إضافة من أ. ع، أيضا. (¬3) أيضا، 592.

أحدا من الجند، وإنّما كانوا يجرّدونهم من السّلاح والعتاد. وقبضوا على الأمراء المجرمين في «كاروانسراي سلطان»، وفي اليوم التّالي توجّهوا إلى «قونية». ***

ذكر الأمير جلال الدين قراطاي وأيام نفاذ حكمه

ذكر الأمير جلال الدين قراطاي وأيّام نفاذ حكمه رغم أن الأمير «جلال الدين قراطاي» كان غلاما من أصل رومّي، لكنّه كان متّصفا بكرائم الأوصاف: سيّدا وحصورا (¬1)، وكان مع قيام الليل/ وصيام الدّهر يمتنع عن أكل اللحوم والتلذّذ بالمنكوح والمطعوم. كان ذا حلم تام كدين الإسلام، وشفقة عامّة تشمل الخاصّ والعامّ. حين رجع من حرب «آقسرا»، وكان مسند الوزارة عاطلا من جلال وزير عالم عامل، كلّف وألزم بالوزارة الإمام المعظّم «نجم الدين النخجواني» فالتزم بالوفاء بما طلب منه، لكن بشرط ألّا يزيد راتب «الجامكيّة» (¬2) المخصّص له من بيت المال عن درهمين في اليوم الواحد، وأن يقاس عليه في سداد رواتب «الجامكية» للأمراء وسائر الأركان. ولأن [رجال الرّوم] (¬3) لم يعد بوسعهم مقاومة الخصوم، [فلا يصحّ أن تتعرّض أموال بيت مال المسلمين للتّلف والسّرف بغير استحقاق، ولتوضع الأموال لتهيئة أسباب استرضاء جيش المغول الذى أنيط به استبقاء الملك والدّولة] (¬4). فشعر الأمراء بغصّة لهذا القول الذي كان له تأثير كضرب السّهام. فشمّر الأمير «جلال الدين» عن ساعد الجدّ (¬5) وأرضاه بأربعين ألف درهم- وكان ¬

(¬1) كذا في أ. ع 593، وفي الأصل: سندا وحضورا. (¬2) جامكي: «ما يعطى للملازم والخادم والغلام من مال كثمن عن ثوبه» (برهان قاطع). (¬3) إضافة من أ. ع 595. (¬4) هذه ترجمة عبارة أ. ع، أيضا، وترجمة عبارة الأصل: «حتى يكافأوا بالمال»، وهى عبارة لا تفي بالمعنى كلّه كما هو واضح. (¬5) يعني للتوسط بين الوزير والأمراء الثائرين. انظر تفصيل ذلك في أ. ع، 595

يمثّل «جامكيّة» أعفّ الوزراء وهو «مهذّب الدين»، وأن يكتفي سائر الأمراء- كلّ على حدة- بنصف ذلك المبلغ. فحضر الإمام «نجم الدين» إلى الدّيوان، وشرع في تمشية أمور الوزارة. وابتعث- بموافقة الأمير جلال الدين- «يوتاش بكلربكى» (¬1) و «أرسلان دغمش» لدفع المعارض الذى كان قد خرج بطرف «الأوج». فلما وصلوا إلى الأوج، وأوقعوا ب «أيوز ملك الخارجي» ما يستحقّه من عقاب، ثم عادوا وصل جماعة من الرّسل قادمين من خدمة «صاين خان» لتقصّي الحقائق حول الصّاحب شمس الدين [الإصفهانى] والاعتراض على قتله. ونظرا لما كان يتمتّع به «شمس الدين الطّغرائي» من بلاغة في البيان وعذوبة في القول، تمّ اختياره للتوجّه لخدمة «صاين خان» مع أموال وافرة لدفع الاعتراضات وجواب التساؤلات. وحين باشر القاضي «نجم الدين» / الوزارة فترة من الوقت ورأى أنّ الأمور لا تسير على النّحو الواجب، ترك الوزارة، وانطلق صوب «حلب»، وصمّم «الصّاحب الطّغرائي» على الارتحال، وعمد الأمير «رشيد الدين الجويني» و «شجاع الدين رئيس البحر» و «نجيب الدين المستوفي» و «خطير الدين السّجاسي» - وكانوا أتباع الصّاحب الإصفهاني- فدفعوا «ببهاء الدين الأرزنجاني» و «صارم الدّين الپسارو» - وكانا قد باشرا قتل الصاحب- إلى بلاط المغول ¬

(¬1) وبكلربك يعني أمير الأمراء، راجع فيما سبق ص 324، هامش 3.

مقيّدين بالدوشاخه (¬1) بمقتضى الأمر المغولي، وهناك انكشف أمرهما. ثم إنّه تمّ إسناد الوزارة «لشمس الدين الطّغرائي»، والنّيابة «لشجاع الدين رئيس البحر»، والاستيفاء «لنجيب الدين دليخاني» وإمارة العارض «لرشيد الدين الجويني»، وقيادة حرس «حرملو» «لخطير الدين زكرّيا»، وجرى الحصول على أوامر مغولية بذلك ورجعوا من ثمّ وقد تحقّقت مراداتهم. وفي نفس اليوم الذي مثلوا فيه أمام السلطان جاءوا معهم بالخلعة التي كان الخان الأعظم قد حمّلها لهم إلى كلّ من السلطان و «جلال الدين قراطاي» فألبسوهما الخلعتين، وأسمعوهما الأوامر المغولية المتعلّقة بهما، فقرنت بالقبول والإذعان. وبادر «نظام الدين خورشيد» - وكان نائبا- إلى تقبيل الأرض على منصب «الحجوبية» (¬2)، وباشر كل شخص منهم عمله. ونظرا لأن ملك الأمراء «شمس الدين يوتاش بكلربكى» وسائر أمراء الرّوم القدماء لم يشهدوا إلا ما يمارسه الآخرون من تحكّم، فإنّهم أبدوا نفورهم من جلب الأوامر المغولية بتنصيبهم، وبدأ ملك الأمراء حربا في قاعة العرش مع رئيس البحر في حضور السلطان، وباشر طعن سنان اللّسان؛ كما أبدى اعتراضات بالغة على الصّاحب الطغرائي؛ ولما كانت هذه المشاجرة متّفقة مع ¬

(¬1) «دو شاخه» كلمة فارسية معناها: ذات الفرعين، وهي آلة من آلات التعذيب ونقلت نفس الاسم. انظر: ابن الفوطي، كمال الدين عبد الرازق البغدادي، الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المائة السابعة، طبع بغداد 1932 م، ص 349، هامش 1، محمد السعيد جمال الدين: علاء الدين عطا ملك الجويني- حاكم العراق بعد انقضاء الخلافة العباسية، طبع مصر 1982، ص 40. (¬2) انظر فيما سبق، ص 54 هامش 1.

ميول «قراطاي» و «أرسلان دغمش» و «نظام الدين خورشيد» فقد لزموا الصّمت والسّكوت. ووجم أصحاب/ «الصّاحب الطّغرائي» وأصابهم التبلّد، وانصرف كلّ منهم منفردا إلى بيته، فانطلق شجاع إلى «سينوب»، ورشيد الدين إلى «ملطية»، وخطير الدين إلى «حرملو» بينما بقي الصّاحب والمستوفي (¬1) وحدهما. وكان بينهما من قديم انبساط ومودّة، وكانا يفرطان في المزاح، وذات ليلة في أثناء المعاقرة (¬2) صدر عن الصّاحب لفظ تضايق منه «نجيب الدّين» أشدّ المضايقة، ودارت بينهما مخاصمة وعربدة فاحشة، انتهت إلى الخصام وبلغت حدّا جعل «نجيب الدين» يذهب عند «قراطاي» ودبجّ فصولا في القدح فيه، وأفشى أوجه الغدر التي كان قد مارسها لهدم قواعد السلطنة. فعقد اجتماع بدار الحكم في اليوم التالي، وادّعى عليه على ملأ من الناس كلّ ذلك حرفا بحرف، وأثبته بالحجج والبراهين، فلم يحر جوابا، وألزم. حتى إنّ الأمير «جلال الدين» أوصل خطاب السّباب له إلى قاف وطا (¬3) ورفع دواة الوزارة ليضربه بها، فمنعه الأمراء الآخرون من ذلك. وانتهى ذلك الاجتماع بهذا الخصام. وأخذ أمر الصّاحب «الطّغرائي» في التراجع. وتصادف في تلك الأيّام أن وقع نزاع بين «معين الدّين سليمان ابن الصاحب مهذّب الدين» و «طرمطاي» حول قيادة جند «أرزنجان»، وقد حمل ¬

(¬1) يعني به نجيب الدين دليخاني. (¬2) في الأصل: المنافرة. (¬3) كذا في الأصل، وفي القاموس المحيط: «قطّ السعر .. غلا»، ولعله يريد به الغلوّ في السباب.

الاثنان القضية إلى «بايجو نوين»، وكان «بايجو» يميل كلّية إلى جانب «معين الدّين» بسبب ما كان بينه وبين الصّاحب مهذّب الدين من صداقة. فانتهز الصّاحب «الطّغرائي» صلة قرابته له، وبأنه كان ربيبا لأبيه «مهذّب الدين» وقد كبر في حجره، ولاذ به من كيد «نجيب الدين المستوفي». وكتب بخطّه رسائل مترجمة مطوّلة في قضايا مختلفة والمعلومات التى ترد مع خصوم حضرة السلطنة إلى «بايجو»، وما يقول فيها وكيف يجيب عنها (¬1)، وأعطاها للرّسل. فأبلغ أحد الغلمان ذلك الأمر «لصمصام الدين قيماز» أمير العارض/، فنصب «صمصام الدين» أناسا على المراصد لكى يأتوا بالرّسائل، وحملها إلى الأمير جمال الدين. ولمّا لم يكن في الديوان أحد يترجم الرّموز ويحلّها، فقد تمّ استدعاء الإمام «زين الدين» ولد تاج الدين الوزير- وهو من زهّاد العلماء- بسبب ما كان بينه وبين «صمصام الدين» من تحالف، وسلّموه الرّسائل، فحلّها، ونقلها بعبارة واضحة. فلمّا وقف الأمير «جلال الدين» على فحواها، توجّه إلى حضرة السلطنة، واستدعى الأمراء، وجيء بالصّاحب «الطّغرائي»، وتمّ إبراز الرسائل المترجمة والمحلولة- وكان بعضهما بخطّ «زين الدين» وبعضها بخطّه هو. فلما رأى الخطّ وقع في الخطّ، وشرع الأمير «جمال الدين» في توجيه السّباب من جديد. وأشار إلى أمير العدل لكي يتحفّظ عليه بأحد البيوت بقصر السلطنة، وأرسلوه من هناك بعد ثلاثة أيّام أو أربعة إلى «أنطاكية» حيث سجنوه. وفجأة اختفي من ساحة الدّيوان والحضرة «أثير الدين» الملقّب بالمنجّم، والذي كان من بين أتباع الصّاحب «الطّغرائي» ولم يكن له نظير في الدّهاء ¬

(¬1) قارن أ. ع 599.

والمكر. ولمّا كان لأركان الديوان اطلاع تام على ما في جبلّته من تحايل وكانوا يخشون أن تصدر عنه فتنة كبيرة، فقد طيّروا الأوامر إلى كلّ ناحية بالقبض عليه، وبحثوا كثيرا. لكنهم ما وجدوا شيئا. ثم إنّه شوهد بعد مدّة عند «بايجو نوين»، وكان قد أعطى مالا للجّمالين العاملين في خدمة بعض رسل المغول حتّى أوصلوه في صناديق الأحمال إلى حدود «أرّان»، فلما لحق «ببايجو» أبلغه بالأحوال على نحو ما أراد هو ووفق ما تقتضيه مصلحته، وقبل أن يتحمل أموالا كثيرة، وبالغ في البذل (¬1) حتى أرسل «بايجو» «علاء الدين علي بك» و «جمال الدين درزي الساوجي» لحضرة السلطنة لاستخلاصه (¬2)، ووفقا لحكم «بايجو» أطلقوا سراحه من حبس «أنطاكية»، وأتوا به إلى «قونية» /، وبعد مدّة بعث في صحبة الرسولين إلى «بايجو»، ولم يلبث أن لحق به في الطّريق «رشيد الدين» أمير العارض. وسوف نذكر ما آل إليه حاله فيما بعد. ... ¬

(¬1) قارن أ. ع، 601. (¬2) يعني لإطلاق سراح الصاحب الطغرائي من السجن.

ذكر وزارة القاضي عز الدين محمد الشهيد الرازي رحمه الله

ذكر وزارة القاضي عزّ الدين محمد الشهيد الرازي رحمه الله كان الصّاحب القاضي «عزّ الدين محمد الرازي» لما عرف به من علوّ الهمّة وفرط الفصاحة وكمال الديانة، يلحظ في نظر السلاطين وخلفاء العهد بعين الرّأفة ويحظى بكل احترام. كان كفؤا للأمور العظام وتدارك المهامّ الجسام وإنارة حدود الإسلام. ولم يكن هناك من أحد سواه تسند إليه الوساطة والسّفارة إلى دار السّلام. كانت القشّة في محكمة قضائه ومجلس حكمه في أمان من تعرّض جاذبة القش (¬1)، وذوائب الحسان من أرض الخطا ساكنة بمنأى عن تشويش ريح الصبا بسبب يمن رأيه الصّائب. كان في السّخاء والكرم بحر خضمّ، وفي القلب والفكر كله لام ونعم: إن الألي طلبوا مداه تأخّروا ... عن غاية فيها النّياق رهان فلمّا صدرت عن الصّاحب «الطّغرائي» تلك البوادر (¬2)، وتغير عليه خاطر جلال الدّين «قراطاي» وسائر الأمراء، لم يكن يستحقّ مسند الوزارة أحد في البلاد كلّها سوى القاضي «عزّ الدين»، وبدا للأمير «جلال الدين» وكبار رجال السلطنة بعامة أن إجلاسه على مكانة الحكم والمنزلة أمر لازم، إذ فلم تك تصلح إلّا له ... ولم يك يصلح إلّا لها وبالاتفاق والاختيار، بعد التشاور والاختبار وضعوا زمام مرام الخاصّ والعامّ في كفّ كفايته، وكان هو يسير في تمشية تلك المهمّة على سبيل/ الوجوب ووفق مقتضى الرأي المرضيّ الحسن. ¬

(¬1) قارن أ. ع 602. (¬2) كذا في أ. ع، 603 وفي الأصل: نوادر.

وفي أثناء نفاذ أحكام وزارته كان الرّسل يصلون تباعا من قبل [صاين خان] لاستدعاء السلطان [عزّ الدين كيكاوس] (¬1) للحضور، وكان الصاحب «عزّ الدين» يقدّم الأعذار المقبولة، لكن تلك الأعذار لم تكن تنال القبول عند [صاين خان]. فاضطر الصاحب القاضي «عزّ الدين» والأمير «جلال الدين قراطاي» الأتابك، و «شمس الدين يوتاش» أمير الأمراء، و «فخر الدين أرسلان دغمش» أمير الإسطبل و «نظام الدين خورشيد» الصّدر الأعظم إلى أن يركبوا في خدمة السلاطين الثّلاثة [السلطان عزّ الدين كيكاوس وركن الدين قلج أرسلان وعلاء الدين كيقباد] (¬2) متّجهين جميعا صوب «قيصرية». وطلبوا أمراء أطراف البلاد لتلافي هذا الأمر. فلمّا بلغوا «آقسرا» وجد «سيف الدين تركري» - وكان من أكابر الأمراء ومن أبناء مماليك السلطنة، ويغلب على مزاجه الظّلم والجور وكثرة المزاح- وجد لنفسه مجالا للمباسطة في خدمة السلطنة في منطقة صيد «اكنچوك»، فأغرى السّلطان وجرّأه- بعد أن كان ملتزما بسلوك جادّة الدين والرّشاد خوفا من «قراطاي» - على شرب العقار ولعب القمار وهتك الحرم والأستار. وكان يقول- عملا على رواج سوقه- كلمات تتّفق مع هوى السلطان. ولكي يكسر ما لحرمة الأمراء من صلابة حمل السلطان على أن يدعو إليه أراذل الغلمان، فأعطى كلّا منهم المناصب والإمارات. وفي هذه الأثناء وصل «شمس الدين ألتونبه» (¬3) إلى حضرة السلطنة، فرأى ¬

(¬1) بياض في الأصل، والإضافة من أ. ع، 604. (¬2) إضافة من أ. ع. أيضا. (¬3) قائد جيش آمد، وكان من غلمان الخاصّ عند السلطان علاء الدين كيقباد الأوّل. انظر أ. ع 605. وانظر ما سلف، ص 150، 151، 199 - 202.

الأمور مشعثة كذوائب الأحبّة، وشاهد- مستدركا- عيبا فاحشا في بذل أموال الخزانة في الأرزاق والجامكيات للمترجمين والمنشئين. حتى إنه وجّه عتابا عنيفا «لقراطاي» والأمراء/ الآخرين، وقال: لم يكن لدى السلطان «علاء الدين» - مع ما كان يتمتّع به من عظمة وعزّة- إلّا إثنان من المترجمين وأربعة من المنشئين، فلا يليق بكم استخدام كلّ هذا العدد ممن يتقاضون الرّواتب وأنتم بهذه الذّلة والقلّة والعوز وسداد الخراج (¬1)، وسوف يتوفّر من تقليل أعدادهم ما يستطاع به تهيئة أسباب سفر السلطان في هذه الوجهة. ومتى قلّل السلطان من السّرف في العيش، وتجنّب الحرفاء الجهلاء حظي في نظر [الخان الكبير] (¬2) - الذي يتوجّه إلى خدمته بالمزيد من الأبهّة والعظمة. ومتى هبطتم بأعداد المنشئين والمترجمين من مرتبة العشرات إلى الآحاد وخلص لكم التصرّف الكامل في رواتب وجامكيّات الخاصّ والعامّ، امتلأت بيوت الخزائن. لكنّ السلطان لم يتراجع عن امتطاء صهوات النزو والشباب وملازمة آلات الطّرب والشّراب، وظلّ على طريقته في إعلاء مراتب الأراذل والأوغاد- الرائح منهم والغاد. ولشدّ ما أوغرت نصائح «شمس الدّين ألتونبه» صدر «تركري»، فثارت في جسده بحار الحسد لما كان بينهما من تضادّ في سفاهة هذا ونباهة ذاك. وحمل رجلا على أن يذيقه السّم الذّعاف في الفقّاع، فأورده بذلك حتفه وأوصله إلى منازل الرّضوان بعد ثلاثة أيام. ¬

(¬1) خراج كزارى: كذا في أ. ع، 606، وفي الأصل حراج، وهي تصحيف. (¬2) في الأصل: السلطان، ويريد المؤلف به: الخان الكبير.

نرجع إلى ما كنّا فيه؛ وعقد السلطان النيّة على التوجّه إلى الخدمة، فترك أخويه [ركن الدين قلج أرسلان وعلاء الدين كيقباد] مع الأمراء في «قيصرية»، وعزم على الانطلاق إلى «سيواس». وكان «تركري» لفرط جهله وغبائه قد جعل العالم كلّه عدوّا له، حتى أرغم الأمراء السلطان على أن بعثه بعد التّنكيل والتّذليل إلى قلعة «منداس»، وهناك قضوا عليه. وفي/ غمار تلك الأحداث وصل الخبر بأنّ «قراطاي» قد انتقل إلى جوار الحق- تعالى- في «قيصرية». فاضطرب السلطان أشدّ الاضطراب، ورأى أحوال الملك والبلاد بلا ضابط أو رابط، فقدّم الأعذار لرسل المغول، وسرّحهم، ورجع بنفسه إلى «قيصرية». [فخرج السلطانان ركن الدين قلج ارسلان وعلاء الدين كيقباد من «قيصرية» إلى منطقة «كدوك» لاستقباله ومعهم الأمراء الكبار] (¬1)، وتشاور أمراء الطرفين في كيفية الاعتذار عن رجوع السلطان عن التوجّه إلى حضرة [الخان] واستقرّت الآراء على أن يوجّه السلطان علاء الدين لكي يقدّم العذر من قبل أخيه. وصرف معه كل من الأمير «سيف الدين طرمطاي» و «شجاع الدين عبد الرحمن» النائب و «خواجه مصلح لالا»، و «نور الدين عبد الله القابض» ومعهم مالا حصر له من الأمتعة والتّحف لحضرة [الخان]. فانضمّ إليهم في الطّريق والدة السلطان غياث الدين، والصاحب «الطّغرائي» و «رشيد الدين» أمير العارض [وأولئك الذين كانوا قد فضّلوا الفقر والتشرّد حبّا في الطّغرائي] (1) وانخرطوا في سلك أتباع السلطان «علاء الدين». وكانوا إذا وصلوا مكانا يقرّون بأنه سلطان البلاد، وظهر في الطّريق- لهذا السبب- انشقاق وافتراق بين الصاحب «الطغرائي» و «شجاع الدين النائب». وسترد تتمّة الكلام فيه فيما بعد. ¬

(¬1) إضافة من أ. ع، 607.

ذكر سبب الخلاف بين السلطان عز الدين وركن الدين والحرب التي وقعت بينهما فى المرة الثانية وانهزام ركن الدين

ذكر سبب الخلاف بين السلطان عزّ الدين وركن الدّين والحرب التي وقعت بينهما فى المرّة الثانية وانهزام ركن الدّين حين أرسل السلطان «عزّ الدين» أخاه إلى خدمة [الخان] عزم على التوجّه بنفسه مع «ركن الدين قلج أرسلان» إلى قونية، وشغل باللهو والمرح وبعثرة أموال الخزانة، وظهر للّئام في خدمته قربة واختصاص تامّ. فلم يسغ أمراء الدولة هذه الطريقة الخارقة لعادات السلاطين، وظهر في موارد صفائهم كدر فاحش. وتدخّل أخوال السلطان ممنّ هم على المذهب الرّومي [وكان أركان الدولة يأنفون منهم دائما بسبب مخالفة الدّين] (¬1) في أحوال السلطنة، وسلكوا طريق المضايقة مع السلطان- الذي كان يجلس دائما على العرش مع أخيه وفقا لما قرّره الأمير «جلال الدين» والأمراء بأسرهم- وشرعوا في المخالفة، وقالوا كلمات لا تليق. كان السلطان «ركن الدين» جالسا ذات يوم في الخلوة، مطأطأ الرأس، قد جرت على صحن خدّه ذي اللون الياقوتّي لآلئ طرّية جزعا مما يشهده في الدّنيا، وذلك وفقا للقانون القائل: «ولكن تفيض الكأس عند امتلائها»، وفجأة دخل عليه «كمال الدين» الملقّب بقائد المهمّات، وكان قد مارس أسفار «تركستان» في خدمته، وأثبت [لنفسه عنده] حقوقا وفيرة. فرأى السلطان مضطربا باكيا ومن الدّهر شاكيا، فسأل: ما سبب البكاء وتغيرّ البشرة الجليلة، لو تفضّلتم بإبلاغ المملوك بطرف من الأمر لعمل على تدارك ذلك بقدر الإمكان. فأجاب السلطان عن سؤال كمال الدين بهذا الدّو بيت: ¬

(¬1) إضافة من أ. ع 609.

قد عرّانا العالم من لباس السعادة ... وجعلنا حيرى من دورة الزّمان ما من ليلة قد مرّت إلا ورأتني مخزونا ... ما من صباح ضحك إلا ورآني باكيا قال كمال: مرّت بخاطر المملوك حكاية يريد أن يعرضها بشرط أن لا يطّلع عليها ثالث، وأن يميل ملك العالم إلى تنفيذها. قال السلطان: يجب أن تنهيها إلينا. قال كمال: لو تفضّل السلطان وأرسل على يد المملوك رسالة رقيقة في هذا الصّدد إلى «نصرة الدين ولد سنان الدين/ قيماز» حاكم «دولو» وكان دائما وفّيا للملك محبّا لسعادته، ويبادر فيبعث معي برسالة إلى «صمصام الدين» أمير العارض- وهو في هذه الآونة حاكم «قيصرية»، وهبط من أوج العزّة إلى حضيض الذلّة مذ انتزعت منه «نكيدة» وأعطيت لغلام نكرة؛ وقد أصبح حائر الفكر متقوقعا على نفسه بسبب السلطان «عزّ الدين» وأخواله- وذلك حتى يردّ بأسرع ما يمكن على الحضرة؛ ففي ذلك تكون المصلحة. وتنفيذا لفكرة «كمال» كتب السلطان بضعة أسطر مشتملة على شطر من قصّة ما به من غصّة إلى صمصام الدين، وسلّمها إلى كمال. الذي ما لبث أن عاد بعد ستّة أيام، وكان الجواب هو أن يلقي السلطان- بكل وسيلة ممكنة- بنفسه إلى «قيصرية»، وبعد ذلك يبذل المماليك ما في وسعهم بقدر الإمكان. قال السلطان «لكمال»: على أي وجه يتيسّر لنا الخروج من «قونية»، وهي ورطة البلاء وغمرة العناء. أجاب «كمال» بأنه يتعين إبلاغ عدد من الغلمان- الذين يوثق بهم- بهذا الأمر، لكي يعدّوا خيولا خاصّة خارج المدينة

بموضع محدّد، ويرتدي السلطان ثوبا خلقا مما يلبسه غلمان «الحوائج خانه» (¬1)، وآتي أنا بمشنّة كبيرة ذات قاعدة [واسعة] تعادل إناء عادليا، وذلك باعتبار [أني أذهب كل يوم إلى السّوق لجلب الحوائج] (¬2)، وأضعها على رأس السلطان، بحيث يبقى وجه السلطان المبارك محتجبا عن أعين النّاس في قاعدة المشنّة، ثم أتقدّم أنا، ويلزم السلطان أن يقتفي خطواتي، ولا يتلفّت في الطريق يمنة أو يسرة، فإذا وصلنا هناك، ركبنا وتوكّلنا على حول الله- تعالى- ونظلّ طول الليل نسيّر المراكب ونسامر الكواكب، فإذا ما تجاوزنا عند الفجر مفاوز/ «آقسرا»، ووصلنا بالطّالع المسعود إلى «خان خواجه مسعود»، تلتقط الدوابّ أنفاسها لحظة، ومن ثمّ نجتاز «بروكوب»، فنبلغ «دولو». فوافق السلطان على هذا الرّأي، وتم تنفيذ ذلك كله. وحين وصلوا إلى دولو، أبلغ الرّسل المسرعون «نصرة الدين»، فتقدّم للاستقبال، وترجّل، وقبّل الأرض، وتشرّف بتقبيل اليد. وسيرّ في الحال رسالة إلى «صمصام الدين قيماز». فأمر الأمير «صمصام الدين» الجند بالرّكوب، وتوجّه إلى طريق دولو. والتحق في الطريق بكوكبة السلطان والأمير «نصرة الدين»، وترجّل، ووضع وجهه على الأرض أمام الملك، وأدخل السلطان بكل جلال وأبّهة المدينة، وأجلسه على العرش، وأرسل الرّسل إلى أطراف الممالك، فدعا واستمال، واجتمع له في أقلّ زمن حشد كبير «بقيصرية». ¬

(¬1) ومعناها بيت الحوائج، «منها يصرف اللحم الراتب للمطبخ السلطاني والدور السلطانية، ورواتب الأمراء والمماليك السلطانية وسائر الجند والمتعممين، وغيرهم من أرباب الرواتب، ... وكذا توابل الطعام .. والزيت والوقود والحبوب ... إلخ» (صبح الأعشى 4: 12). (¬2) إضافة من أ. ع، 611.

فلمّا علم السلطان «عزّ الدين» بالأمر، سيّر «يوتاش بكلربكي» في إثره لردّه، فأدرك السلطان بقيصرية، وبعد تقبيل اليد شرع في النّصيحة، فتطيرّ السلطان بذلك، وتحرّك من مكانه للفتك به، فمنعه الأمير «صمصام الدين». ثم إنهم قيّدوا يوتاش، وحملوه إلى مغارة «اكسود» من مضافات «دولو» ثمّ أعادوه إلى قيصريّة بعد بضعة أيام، وأحلفوه على الولاء للسلطان ركن الدين. ثم إنهم أرسلوا الرّسل لطلب «فلك الدين خليل» سوباشي «آبلستان»، وحسام الدين بيجار، فقالا سمعا وطاعة وبادروا للتوجّه إلى الخدمة وانخرط الأمراء المشهورون في عداد أجناد السلطان، وتأهبّوا للهجوم المفاجئ بأجمعهم على «قونية». ولو/ أنّهم فعلوا ذلك لتحقّق لهم ما يريدون. ولما استمع السلطان عزّ الدّين خبر اعتقال «بكلربكي» وإيلائه بولاء السلطان ركن الدين أخذ منه الضّيق والحزن لذلك كلّ مأخذ. وفي تلك الأثناء تقدّم «فلك الدين خليل» و «بيجار» مع فوج من جندهما إلى «خان علائي» - وتقع على بعد مرحلة واحدة من آقسرا- فأبدى من كان هناك من قوافل الدّيار مقاومة، وأضرموا النّار في الباب وأحرقوه، وقتلوا طائفة من النّاس، وأخذوا أموال بعضهم ثم أطلقوا سراحهم. وفجأة جاء الأمير «معين الدين سليمان» و «خطير الدين» - وكانا بطرف «قيصرية» - إلى «قونية» بطريق السفارة. فتفتّحت بمجيئهما ورود المسرّة في قلب السلطان وقلوب الأكابر، وأمر الصّاحب عزّ الدين بأن يسكب ذهب الخزائن، لكي يتّخذوا به جندا، فلحقوا بولاية «طوز آغاج» عن طريق «قيرشهر» لمحاربة ركن الدين. وأرسلوا كلا من الشيخ الكبير «صدر الدين ابن اسحاق» مع «همّام الدّين شادبهر» ناظر الملك عند أخي السلطان لإلزامه

بالحجّة، إذ عليه أن يقتصر في الوقت الحاضر على «سيواس» و «ملطية» و «خرتبرت»، وأن يبدّد غبار الخصام ويرجع. فاستقل «صمصام الدين» و «نصرة الدين» و «فلك الدين» و «بيجار» ذلك القدر، وأرسلوا «جلال الدين حبيب» قاضي «قيصرية» للردّ، وطلبوا إضافة قيصريّة وقيرشهر. وكان هذا يجري في دهليز السلطان بصحراء «أحمد حصار». فصرخ «علي بهادر»، و «جمال الدين الخراساني» والأمراء الآخرون متبّرمين: لماذا تتوسّلون وتتذلّلون إليهم على هذا النحو فيحملوا ذلك على أنه عجز واضطرار منكم؟ / فإن رضي السلطان عز الدين بذلك وقبله، فهو المراد، وإلّا لن يكون هناك خطاب إلّا بلسان السّنان. فلم يلتفت أعوان السلطنة لذلك المقال، بل [حملوا السلطان] (¬1) على أن يتنازل عن «قيصرية» و «قيرشهر»، وأرسلوا القاضي حبيب بخبر حصول الرّضا، وظلّوا ينتظرون ماذا سيكون الردّ. وفجأة ظهر جيش السلطان ركن الدين، ورغم أن بعض جنود السلطان عزّ الدين كانوا قد ذهبوا إلى الخيام [وخلعوا سلاحهم انتظارا لهمّام الدين ناظر الملك، وأنزلوا السّروج من فوق ظهور خيولهم، فقد انتفضوا ولبسوا السّلاح] (¬2)، واقتتل الجيشان كأنهما أسد ونمر. وحمل «نصرة الدين ولد قيماز» و «فلك الدين خليل» مرة أو اثنتين، فثبت جند السلطان. وفي المرة الثّالثة حمل هؤلاء الجند وانشغلوا بالقتال، وشنّ «علي بهادر» - وكان في الميسرة- حملة عليهم فقوّض صفوفهم، وأوقع بهم هزيمة منكرة. وفي تلك الأثناء انزلق حصان «نصرة الدين»، فقبضوا عليه، ¬

(¬1) إضافة من أ. ع 614. (¬2) إضافة من أ. ع، 614.

بينما ولىّ «فلك الدين خليل» الأدبار منهزما، أما «صمصام الدين» فقد عثر عليه «ولد قريش»، فأصابه بجرح، وأتى به إلى خدمة السلطان، فقضى أخوال السلطان عليه هو و «نصرة الدين» في الحال. واتّجه السلطان ركن الدين إلى «دولو» معتزما اللّحاق «بسيس»، فأمسك به التّركمان في أول مرحلة من مراحل الطّريق، وأبلغوا السلطنة بذلك. فذهب «أرسلان دغمش» إلى هناك، وهدّأ خواطره بالمواثيق والأيمان، وأتى به إلى قيصرية. فخفّ السلطان عز الدين لاستقباله، فلما اقتربا تعانقا، وبكى ركن الدين وقال: ما كانت هذه الواقعة إلا بسبب سواد رأى «نصرت» و «صمصام»، وقد وجدا جزاء الكفران، ويجب على أخي العزيز ألا يشوّش خاطره/ الشريف. وعلى هذا النحو سارا وهما يتحدّثان متوجّهين إلى جوسق «كيخسروية». ومنح السلطان ركن الدين خلعة ثمينة وحصانا أحكم قيده وذهبا كثيرا، وخيّره بين الإقامة في «برغلو» و «أماسية»، فاختار السلطان «أماسية»، فحملوه إليها مزوّدا بحشد وزاد، فلبث هناك مدّة، وصار يتأذّى من سوء الجوّ هناك، فأرسل إلى السلطان حتى نقلوه من «أماسية» إلى «برغلو»، وهيّأوا له أسباب الرّاحة والرّفاهية. ***

ذكر سبب توغل «بايجو» في بلاد الروم للمرة الثانية والحوادث التي حدثت فى تلك الأيام

ذكر سبب توغّل «بايجو» في بلاد الرّوم للمرّة الثّانية والحوادث التي حدثت فى تلك الأيام حين جلس الصّاحب القاضي عزّ الدّين على دست الوزارة وأمسك بمقاليد أحكام المملكة بقبضة الاستقلال، ورأى رسل القائد المغولي «بايجو» وغيره من القادة يتردّدون على الدّوام إلى بلاد الرّوم، وأنّ خزائن لا حصر لها يجرى صرفها للإنفاق عليهم، رأى الصّاحب هو و «قراطاي» وسائر الأمراء أن يتمّ عرض هذا المعنى على حضرة [منكو خان] (¬1)، لكي يصدر من قبله مرسوم ملكي لمنع تسلّطات «بايجو» وتهوّره (¬2). وتمّ لهم اختيار الصّاحب فخر الدين علي- وكان في ذلك الوقت مسموع الكلمة والحكم في البلاد، وهو حينذاك أمير العدل- لإبلاغ هذه الرّسالة، ودفعوا له من الخزانة مائة ألف درهم- بخلاف التّحف- كنفقة للطّريق. فلما وصل إلى تلك الأعتاب، وعرض المطالب، وبيّن أن السلطان معهم على قلب رجل واحد، أبدى الخان تعاطفه، وأصدر مرسوما وسكّة بمنع رسل «بايجو نوين» وسائر الأمراء من التردّد على سلطنة الرّوم، وحال دون إتمام التّعداد السكّاني/ الذى كان قد عهد بإنجازه إلى «شمس الدين القزويني» وأعاد الرّسول في صحبة وفد من المبعوثين وكبار رجال البلاط الخاني. فلما وصلوا إلى «بايجو»، وأسمعوه الحكم، التفت إلى فخر الدين علي وقال: أكان ينبغي بعد ذلك كلّه أن توضع ثغرة تحول بيني وبين الإشراف على ¬

(¬1) زيادة من أ. ع 616، وفي الأصل بياض. (¬2) قارن أ. ع، أيضا.

بلاد الرّوم، لكنّ حرماني سيعود بالشؤم عليكم. وأخذ مبعوثو «بايجو» بعد ذلك في التناقص (¬1) وإن جاء بعضهم أحيانا فقلّما يجد عناية واهتماما. وكان السلطان مشغولا بالتنعّم وإجراء أحكام الشّباب، وتمكّن الصاحب القاضي «عز الدين» في مسند الحكم، ونعمت البلاد بالاستقرار. وكان تردّد رسل دار الخلافة والموصل وماردين والروم والفرنج على حضرة السلطنة مزوّدين بالأحمال والتحف مستمرّا. غير أن قلقا هائلا وهمّا مقيما كان يثقل على خاطر أمراء الدّولة من جهة هيمنة «الأغاجريين» الذين ظهروا في صحراء «مرعش» وأدغالها، وكانوا يقطعون الطرّق ويقتلون القوافل، ويغيرون على بلاد الرّوم والشّام والأرمن. فعزم الصاحب القاضي «عز الدين» و «شمس الدين يوتاش» أمير الأمراء (¬2) على التوجّه مع العساكر والأمراء لدفع «الأغاجريين»، وجاءوا إلى «قيصريّة» وكان «جلال الدين قراطاي» قد توفي في ذلك الحين. وكان «فخر الدين أرسلان دغمش» قد بقي مع السلطان في «أنطالية» و «قلعنده»، أما الصّاحب الأعظم «فخر الدين» أمير العدل فقد تمّ اختياره لاستقبال الموكب المعظّم [لمنكو خان] (¬3). وفجأة وصل الخبر بأنّ القائد المغولي «بايجو» يزمع الهجوم بجيوش جرّارة وبالكثير من الحواشي والمواشي والنّسوة والأطفال، وأن مقدّمته بلغت «أرزنجان»، فلمّا سمع بعض العساكر/ الذين كانوا قد ذهبوا إلى نواحي «آبلستان» لدفع ¬

(¬1) إضافة من أ. ع، 618. (¬2) في الأصل: بكلربكى (¬3) بياض في الأصل، وأ. ع، 618، والسياق يقتضيها.

«الأغاجريين» بهذا الخبر، جاءوا مسرعين إلى «قيصرية»، وتوجّهت المظلّة والجيش بغير إبطاء إلى العاصمة. وارتحل السلطان من «قلعنده» إلى «قونية»، وذهب الضّيق والاضطراب بالسلطان كلّ مذهب بسبب قصد القائد «بايجو». وتشاور كبار رجال الدّولة، واتّفقوا على أن يبعثوا «نظام الدين خورشيد» الحاجب لاستقبال [بايجو]، فيقوم بتدارك الأمور، ويطّلع على نواياه وأغراضه ثم يرجع. فلمّا صرفوا «نظام الدين» عكف السلطان على حشد الأجناد وإعدادهم، فاجتمع في أيام قلائل جند كثيرون من قبائل الأتراك والفرسان الحاذقين في صحاري قونية وبراريها. فلما شاهد السلطان احتشاد أنصاره قال: قد أصبح عندنا بفضل الملك المتعال المال والرّجال، فلا بدّ لنا من العزم على القتال. فأخذ الأغمار- الذين لم يسبق لهم من قبل أن تورّطوا في غمار الحرب- يثيرون الفتن غفلة منهم وجهالة، وشرعوا في إغراء السلطان على الحرب. وفي تلك الأثناء رجع «نظام الدين پروانه»، وأعلن أن ما في جبلّة «بايجو» من محبّة للسلطان لم يطرأ عليه نقصان. فإن كان الأمراء المحدثون يعتزمون الضّرب والهرب، فهم يعلمون [أنّ فرسان القائد بايجو لهم أسنّة حادة من نهر الثأر] (¬1). فينبغي أن نصرف نيّة السلطان وعزمه عن تعبئة الصّفوف ونوجّهها إلى تسلية الضّيوف واسترضاء خواطر القائد «بايجو» وحمل الخواصّ غير المجرّبين على التزام جادّة الصّواب. ثم إن نظام الدين عاد مرّة أخرى بالتّحف والأموال والإعلان عن عزم ¬

(¬1) إضافة من أ. ع 620.

السلطان لاستقبال بايجو، وتعيين المواضع الحارّة والباردة للجيش الجّرار في البلاد/، وطلب أن يصحبه ويلازمه الأمير «معين الدين سليمان» - ملك الحجّاب- وانطلقا سويا. غير أن غلمان الخاصّ أغروا السلطان بالمقاتلة والعصيان، حتى أمر بتجهيز الجيش والاستعداد للقتال وفق رغبتهم، ودعا «فخر الدين» و «أرسلان دغمش» إلى خلوة، وتلطّف معهما، وسيّر العساكر تحت قيادتهما- مع أنّ الصّاحب القاضي «عز الدين» كان هو الحاكم والمطاع ذا الأمر النافذ. بينما بقي السلطان بنفسه مع عدد محدود من الخواصّ في «قونية». وكانت ترسل عن طريق الخواصّ رسائل تشتمل على خبث الأمراء الكبار وفساد طوّيتهم، فلما تتابتعت [تلك الرّسائل] وأثّرت في قلب السلطان، قال: عندما يحين موعد عودة الجند من المعركة سينال هؤلاء الكهول الضّالون الفعلة جزاءهم. فلمّا سمع الأمراء الكبار هذا القول دبّ الفتور في عزائمهم. ولما لحقوا «بخان علائي» كان جيش «المغل» قد عرف بتجمّع عساكر الرّوم ووصل إلى «آقسرا» فقدّم (¬1) أركان الدولة «تركمان» الشحنة- وكان هو الآخر من جملة اللئّام والعوامّ- للاستطلاع. فاصطدم هو ومن معه بكتيبة من جند المغل، كانت من الجنود الألف التّابعين ل «خواجه نوين»، فقضوا على «تركمان» وسائر الأتراك. وفي اليوم التالي تقابل الجيشان كما يتقابل القضاء والقدر، وطارت رسل السّهام نحو أعماق الخاصّ والعامّ لإبلاغ رسالة الموت، وأخذت الأنظار تستقرّ في ¬

(¬1) راجع أ. ع 621.

الأبصار والأرواح تكمن في الأكباد بين أحداق كماة العسكر وآماقهم. واتّصفت ذكور الصّوارم بصفة النسّاء الحيّض من كثرة إسالة الدّماء وإراقة الأمشاج. وصار معلوما لدى الأرواح أوان الانفصال وزمان الانقطاع عن الأشباح. وانشغلت نفوس الشّهداء بتنفّس الصّعداء لإدراك مقام السّعداء. ورغم أنّ الصّاحب «عزّ الدين» كان يشكو من آلام في رجله وضعف في جسده/ ثبت في تلك المعركة المهلكة كجبلي «ثهلان» و «حراء»، وكان يصابر وهو يودّع الحياة وراحات هذه الدنيا. وكان ممسكا بحربة قصيرة حادّة وقلبه قد انصهر بنار الحرب، فلمّا وصل إليه «المغل» تصدّى لهم، وأخذ يبصق عليهم في أثناء القتال، وفي النهاية نال درجة الشّهادة ومرتبة السّعادة. ولما كان الأمراء الآخرون مكسوري الخاطر من جهة حضرة السلطنة فإنّهم لم يبلوا بلاء حسنا في الحرب، ولم يظهروا أمارات التّضحية والفداء، وإنما عدّوا الانهزام غنيمة، وسمحوا بمثل ذلك الغدر والخذلان حتى انتصر العدوّ، وأصبح جند السلطان نهبا للمصائب والبلايا. ***

ذكر جلاء السلطان عز الدين للمرة الأولى وخروج أخيه ركن الدين من قلعة «برغلو» وجلوسه على العرش

ذكر جلاء السلطان عزّ الدين للمرّة الأولى وخروج أخيه ركن الدّين من قلعة «برغلو» وجلوسه على العرش حين حلّت تلك النكبة بجيش السلطان في الثالث والعشرين من رمضان سنة 654، وأبلغ السلطان بذلك البوار والخسران، ظلّ طول الليل مضطربا مشوّشا. وفي اليوم التالي ارتحل مع نساء الحرم وبعض الخواص «كحسام الدين آقتاش الشرابسالار» (¬1) و «كندصطبل» وأخيه خارجا من بوّابة «پول أحمد» متوجّها صوب «أنطالية»، وترك «قونية» مهملة معطّلة، كما ترك كلّ ما كان يملك هناك. وقد ألقى «نظام الدين علي بن إيلتمش» - أستاذ الدّار- بنفسه في قونية بعد أن نجا من المعركة، وشغل بتأمين المدينة وتسكين غوغاء الأوباش وترتيب الطّرق وتمهيدها. أمّا «أرسلان دغمش» فقد خلص مع بعض خواصّ السلطان من تلك الملحمة إلى «برغلو»، ولحق بهم من كل ناحية كبار رجال الدّيوان/ والبلاط السلطاني بحكم مناعة القلعة وحصانتها. ولأنّ السلطان «عزّ الدين» كان قد أسلم نفسه كليّة للّئام، وكان يعتريه الملل ويستبدّ به الضّيق من مباشرة أمور السلطنة: كوضع التوقيع، والجلوس في المحفل، والنّظر في أحوال الرعية فقد شعر الخاصّ والعامّ بالسّخط الشديد لذلك (¬2). وأطلقوا «ركن الدّين» من الحبس وأتوا به إلى «قونية» وأجلسوه على العرش. ¬

(¬1) يعني رئيس الشرابخانه. (¬2) قارن أ. ع، 623.

وفي ذلك المحفل أعطى «شمس الدّين قاضي چق» أمرا إلى السلطان لكي يطالعه، فوضع توقيعه: «المنّة لله» في حضور الجميع، وأنصف بنفسه عددا من المظلومين. وبعد يومين قبّل «القاضي چق» يد السلطان لتوليته الوزارة، وظلّ يباشر أعمال الوزارة شهرا، ثم أصيب بمرض لحق فيه بجوار الحقّ- تعالى. فدعي الأمير «نظام الدين پروانه» لتقلّد الوزارة بعده، فلم يستجب، وإنما قبل النّيابة، وأعطيت الحجابة «للأمير معين الدين سليمان» وقبّل كلاهما يد السلطان في يوم واحد. وشغلوا بترتيب أسباب لقاء القائد «بايجو»، وانطلقوا في طريقهم. وحين لحق السلطان «عزّ الدين» بأنطالية، غلبه العوز وسيطر عليه الفقر، وذات يوم رأى في قصر «أنطالية» كوّة مربّعة، فأمرهم بفتحها، فعثر على خزائن وصناديق مختومة بالرّصاص معبّأة بآلاف مؤلفّة من الدّراهم الفضّية بالضّرب العلائي، وعشرة آلاف دينار من الذّهب الأحمر، وأمتعة أخرى من الورق والعود والأبنوس والصّندل وما إلى ذلك. فوزّع السلطان الخزانة على الحواشي والخدم، ومن ثمّ تلقّت روح السلطان علاء الدّين مددا بدعوات المضطرّين. ثم إنّ [السلطان عزّ الدين] اتّجه من هناك إلى «لاديق». ولما لحق السلطان «ركن الدين» بالقائد «بايجو» / أرسل بايجو «بيسوتاي» حفيده مع ألف فارس لإحضار السلطان عزّ الدين إلى «أنطالية»، فلما لم يجد السلطان هناك، وأشاروا إلى «لاديق» تزوّد بميرة (¬1) ثم انطلق إلى لاديق فلما بلغها أرسل الرسل بأن السلطان مدعوّ من قبل أبيه، والمصلحة هي أن يتفادى التباطؤ في القدوم. قال السلطان: ربما كان أخي قد سمع في حضرة أبيه أنّه ¬

(¬1) في الأصل: ترغو: إمدادات من اللحم والشراب.

كان للأمراء سيطرة كاملة على ملكي ودولتي، وأنّ هذا العقوق ونكران ما للأبوة من حقوق ما كان إلا بسببهم هم. وحين أمثل بين يدى القائد سأقدّم هذا العذر لعلّه يحظى بالقبول. ولقد كنت أتدبّر أمر السّفر [والاتجاه للقاء الأب] (¬1)، فلو أن أخي تقدّمني في الطريق مرحلة أو اثنتين فإنّني سأتحرك خلفه بما تم تجهيزه من عدّة ومتاع. فرجع «بيسوتاي»، واتجه السلطان مع الحاشية والأطفال نحو بلاد «لشكري». وقد ندم «بيسوتاي» على رجوعه، وتلقى عتابا عنيفا من «بايجو». ولما تحقق لبايجو إعراض السلطان «عزّ الدين» ومخالفته، رفع من شأن السلطان «ركن الدين» [على خلاف المعهود] (1). وذات يوم كان السلطان «بايجو نوين» قد أعدّ ضيافة كبرى، فقام «نظام الدين خورشيد» النائب ونزع في تلك الضيافة عن حبة من الكّمثرى قشّرها بحّد السكّين، وأعطاها ل «خواجه نوين» - الذى كانت هزيمة الجيش على يديه- فشرع في تناولها، واتفق أن داهمت آلام القولنج «خواجه نوين» وأسلم الرّوح، فوسموا «نظام الدين» بتهمة القتل لأن حبّة الكمثّرى كانت مسمومة، وعلّقوه في «الدوشاخ»، حتى لحق برحمة الحق- تعالى- بسبب ما لحقه من عناء، وقبل وفاته خطّ هذا الدّوبيت بطبعة المولّد (¬2) للّطائف على صحيفة الأيام: (شعر) منذ أن أحزننى الطالع المنقلب، ¬

(¬1) إضافة من أ. ع، 625. (¬2) في الأصل، وأ. ع 626: لطايف راى، وينبغي أن تقرأ: لطايف زاى.

أجرى الدّمع من عينيّ دما ... وحين لحق المرّيخ بزحل، أمسك في الحال بتلابيبي، ونصبني على الأعواد فلما طالت مدة إقامة السلطان في «قزل ويران»، واقترب الشتاء، وأوشك «بايجو» على العودة، ألزم السلطان بهدم شرفات سور قونية من خارجه وداخله، وأعفي من الهدم سور القلعة لأنه يحيط بقبور السلاطين السّابقين، وتم تخريب الباقي. ثم سمح للسلطان عندئذ بالعودة إلى قونية، وتوجّه هو بنفسه صوب «مغان». فلما تحقّق لدى السلطان عزّ الدين أن «بايجو نوين» قد رجع، غادر بلاد «لشكري» متوجها إلى ملكه الموروث، وتحرّك السلطان «ركن الدين» من قونية بعزم المثول في حضرة الخان الأعظم، فلما لحق بقيصرية، أرسلوا «تاج الدين الأرزنجانى» المعروف بالفقير و «ظهير الدين رسول» عقب السلطان ركن الدين لإعادته وإقناعه بالمشاركة في الملك، كما سيّروا في إثرهما «علي بهادر». فأدرك كلاهما السلطان «ركن الدين» بقيصرية، ولأنه كان قد حزم أمره فقد رفض العودة، وأخذ يبدي الأعذار (¬1) [ثم مضى في طريقه] (¬2). أمّا «علي بهادر» فحين وصل إلى «قيصرية» وجد أن السلطان كان قد غادرها قبل يوم واحد، فقفل راجعا إلى «قونية» وقد حمل معه قطيعا من الغنم وبعض بقايا خدم السلطان ركن الدين. ¬

(¬1) كذا في أ. ع 627: تقرير مى كرد. وفي الأصل: تقرير نكرد: لم يقرّر، وهو تصحيف بلا شك. (¬2) إضافة من أ. ع، أيضا.

ذكر عودة السلطان عز الدين من ملك لشكري إلى الديار المحروسة

ذكر عودة السلطان عز الدين من ملك لشكري إلى الدّيار المحروسة حين وجد السلطان «عزّ الدين» الدّيار العريضة خالية من الأعادي، اتجه إلى/ «قونية»، فاستقبله أهل المدينة الذين كانوا يتحرّون ظهوره تحرّى ليلة القدر، وأدخلوه المدينة بكلّ أبهّة وجلال، ثم أجلسوه على العرش ثانية. ورغم أنه كان متّصفا بقلّة الأذى ورقّة المشاعر، فإنه- بإيحاء من «أغرلو الجامه دار» - أمر بأن توضع الأغلال في أعناق أعيان «نكيدة» ممن كانوا قد لبّوا دعوة السلطان [ركن الدين] وكذلك ولد «سلجوقشاه» الذي كان قد تولى قيادة عسكر «نكيده»، وأن يمثّل بهم، فيربطون (¬1) ويوضعون على الإبل ويطاف بهم حول المدينة، ثم لم يلبثوا أن قضوا عليهم جميعا. ولمّا نال السلطان «ركن الدّين» شرف المثول في خدمة [الخان الأعظم] (¬2)، وبذلوا في شأنه عطفا ملكيا، منح قرارا امبراطوريا بنفاذ حكمه في عامّة البلاد (¬3)، وسمح له بالانصراف. فلما لحق بأرزنجان، كان الشّتاء قاسيا، وقد سمع أن السلطان «عزّ الدّين» أظهر العصيان، وأنه سوف ينازعه في سلطنة البلاد، فاضطر إلى الإقامة بأرزنجان، ونال الجهد من خدمه وحشمه في ذلك الوقت بسبب المجاعة والغلاء العام. فلما حلّ موسم الرّبيع جمع «معين الدّين پروانه» - وكان عماد دولته ¬

(¬1) كذا في أ. ع، 628، بسته، وفي الأصل: نشسته: يجلسون. (¬2) بياض في الأصل: وفي أ. ع 626. (¬3) قارن أ. ع، أيضا.

وبيده أمر البيوتات- نحو ألف فارس، وتوجّه في صحبة «بايان» - وكان أمير ألف من المغل- صوب «توقات» لاستنقاذ الحاشية والأبناء وتخليصهم. فحدث صدام بينه وبين «شاه ملك» في «كوه يلدوز»، وبعد حرب طويلة هزم جيش «پروانه»، وكاد ينكب في تلك المعركة، لكنّ «نجم الدين فرّخ» - وكان من خواصّ السلطان ركن الدين- أركبه وأبلغه «أرزنجان» مع بعض الجند الذين/ كانوا قد ولّوا الفرار متّجهين إليها. ولم يهدأ «پروانه» من فرط الحقد والغضب، بل يمّم وجهه صوب البلاط الخاني، وطلب نجدة من الجند، فأطلقوا بصحبته «أليجاق» و «قدغان» مع عشرة آلاف فارس لقمع المعارضين والطّغاة. فلما بلغ جيش المغول «أرزنجان»، اتجه بعد بضعة أيّام لفتح البلاد، وجاء إلى «نكيسار»، فسلّمت في اليوم نفسه، وخرج أعيان المدينة بالهدايا، وحملوا السلطان فأدخلوه المدينة في اللّيل بالشّموع، وأجلسوه على العرش. فأمر بأن تكون إمارة «نكيسار» لپروانه. وقدموا من هناك إلى «توقات»، ونظرا لأنّ القلعة كانت قد سلّمت «ليوتاش بكلربك»، الذي واصل المقاومة، فقد نصبوا المجانيق، ولما لم يجد ذلك شيئا ورأوا أن الوقت ينقضي دون إنجاز المهام، تركوا الأمر على حاله، وأخذوا يتردّدون حوالي «كاب» و «زيله» و «باريمون» و «قازأوا»، حتى وصل الصّاحب «شمس الدين الطّغرائي» من خدمة [البلاط المعظم] (¬1). وانتهى ذلك النزاع بيمن كفاءته وتدبيره. ¬

(¬1) كذا في أ. ع، 629، وفي الأصل بياض.

ذكر وفاة السلطان علاء الدين [كيقباد] فى الطريق، ورجوع الصاحب الطغرائي بالأمر بتولي الوزارة بممالك الروم وتقرير القضايا

ذكر وفاة السلطان علاء الدين [كيقباد] فى الطريق، ورجوع الصّاحب الطغرائي بالأمر بتولي الوزارة بممالك الرّوم وتقرير القضايا نظرا لأن السلطان علاء الدين كيقباد كان من سلاطين السلاجقة الذين قلّما اجتمع لهم هذا الحسب والنسب (¬1)، إذ أنه من جهة أمّه «داودي» (¬2)، ومن ناحية أبيه «سلجوقي»، فقد توجّه بأمر أخيه الأكبر السلطان عزّ الدين للمثول في حضرة [الخان] (3). وبعد قطع المفاوز وطيّ المراحل، شغل ذات ليلة في بعض منازل الطّريق بالتسلية والمتعة مع أمرائه وحرفائه حتى انقضى من الليل ثلثاه، فلمّا تفرّقوا اتجه إلى مخدعه. وفي الصباح حضر الأمراء على عادتهم إلى الأعتاب السلطانية، فرأوا من السلطان/ تأخّرا على خلاف المعهود. فدخل «مصلح لالا» لكي يبلغ السلطان بحضور الصّاحب والأمراء. فلّما دخل شاهدوا عليه تغيّرا عظيما بسبب وفاة السلطان. ولم يعلم السبب الذي أدّى إلى تلك الفجاءة بأي وجه من الوجوه. فلما لحقوا بخدمة «منكو خان» أمر بالتفحّص عن سبب وفاة السلطان، وبألّا يحابوا الخائن في هذا الصدّد، فلم يتأكّد شيء. وفي تلك الأثناء وصل الرّسل من قبل «بايجو» بأن السلطان «عزّ الدين» - سلطان الرّوم- قد أظهر العصيان، وأن جيشه التقى «ببايجو قرجي» في صحراء ¬

(¬1) قارن أ. ع 629، 630. (¬2) نسبة إلى چغري بيك داود، أبي السلطان آلب أرسلان.

«رباط علائي» حوالي مدينة «آقسرا»، وأنّ جنده قد هزموا. فلمّا سمع «منكو خان» هذه الأخبار بادر دون إبطاء بمنح السلطان «ركن الدين» منفردا سلطنة الرّوم، كما منحه مرسوما ملكيا وعملة رأس الأسد. فلمّا وصل الصّاحب الطّغرائي إلى خدمة «منكو خان»، وعرض ما حدث بالتفصيل، استردّ «منگو» من ركن الدين المرسوم والعملة، بموجب رأي بدا للطّغرائي، ووضعهما في الخزانة، وصرف الصّاحب الطّغرائي- بسرعة وتبجيل- إلى بلاد الرّوم لإحضار السلطان «عزّ الدين»، فلما وصل إلى السلطان و «أليجاق» في إقليم «كاب» [من نواحي توقات] (¬1)، منحه السلطان «أيوبحصار» بالإضافة إلى «قيرشهر». وأرسل رسلا متلاحقين- باتفاق بينه وبين السلطان و «أليجاق» - لدعوة السلطان «عزّ الدين» الذي خفّ إلى «آقسرا»، ووجه «تاج الدّين پروانه» إلى السلطان و «أليجاق» و «قدغان» منبئا بقدومه. فأطلق السلطان ركن الدين «سيف الدين طرمطائي» ردّا عليه. وظلّ «أليجاق» - في تلك الأثناء، ولمّرات عديدة- يبدي رغبته في محاربة السلطان عزّ الدين/، غير أن الصّاحب الطّغرائي كان يحول دون ذلك بأمر «منكو» فاتح العالم. ولما استمرّ توارد الرّسل وتواترهم استقرّ الأمر على أن يكون الملك مناصفة بين الأخوين- على السّوية- فما يكون غربى «آب سيواس» يصبح في حوزة نوّاب السلطان «عزّ الدين»، وما يكون بالجهة الشرقية يجعل في قبضة تملّك السلطان «ركن الدين». ¬

(¬1) إضافة من أ. ع، 631.

ذكر توجه السلطانين لخدمة البلاط المعظم

ذكر توجّه السلطانين لخدمة البلاط المعظّم حين تمّهدت قاعدة الصّلح، اتّجه السلطانان في إثر بعض إلى خدمة [الخان] (¬1)، فلما لحق السلطان «عزّ الدين» بها، محت سيماه ولقاء ربّنا [في صلاته] السّيئات وشفعت العثرات، وأنعم عليه الخان أنواع بشتى الاصطناع، ومنح العملة والمرسوم الملكي. وبعد بضعة أيّام حين جاء السلطان «ركن الدين» و «والصّاحب الطّغرائي» و «معين الدين پروانه» إلى خدمة [الإيلخان] (1)، جدّد رعايته القديمة له (¬2). وتعانق السلطان عز الدين وركن الدين في البلاط المعظّم، وتكلّما وتحادثا سويا في تلك الحضرة بأمر الخان، فشعرت خلائق العالم بالسّعادة والسّرور لإقرار السّلم بين الأخوين، وأقرّ الخان لهما حكم البلاط وفقا لما كان قد اتفق عليه الصّاحب الطّغرائي و «أليجاق» و «پروانه» من تقسيم الملك بينهما. وأمر بأن يتوجها إلى «تبريز»، وأن يقوما بترتيب أسباب السّفر وفتح بلاد الشّام ومصر. فلما جاء السلطانان إلى «تبريز»، ولم تكن هناك أموال، اقترضا من الخزانة العامرة أربعمائة «بالش» (¬3) ذهبي، لتدبير أمرهما على النّحو الواجب، واتّجها من هناك في خدمة ... (¬4) إلى حلب. ولما كان بال الخان قد فرغ من تلك ¬

(¬1) بياض في الأصل وأ. ع، 632. (¬2) ضرب مؤلف الأصل صفحا عن الإشارة إلى فقرة وردت هنا في الأوامر العلائية (632) تتحدث عن أنّ الخلافة العباسية قد سقطت في هذه السّنة نفسها في يد مماليك الدولة المغولية القاهرة، وأن أمير المؤمنين المستعصم قد استشهد. (¬3) عملة ذهبية. (¬4) بياض في أ. ع، 633، وفي الأصل أهمل المحقّق الإشارة إلى وجود نقص في هذا الموضع.

النّاحية، وتشرّف القاضي محيي/ الدين بالمثول بين يدي [الخان] وهو يحمل معه التّحف ومفاتيح دمشق [وطلب قائدا لحامية المدينة]، ندب الخان «علاء الدين كازي» من البلاط لتلك المهمّة. ولما أذعنت ديار الشام وسلّمت بسيف الفاتح نصب الخان [كيتبوقا نوين] (¬1) ومعه خمسة آلاف فارس لحفظها وحمايتها، بينما ثنى هو عنان الفتح صوب «آذربايجان»، واسترد الأمر الملكي والعملة من «عزّ الدين»، وأعطاهما للسلطان «ركن الدين» وبالغ في استمالته وسمح لهما بالعودة، فاتّجها في سعادة وحبور إلى ملكهما الموروث، وجلسا على سرير السّرور. وفي تلك الأثناء توفّي «الصّاحب الطّغرائي» فجعل السلطان عزّ الدين الوزارة بعده باسم «فخر الدين عليّ» النائب، ومنحه الخلعة ودواة الحكم ومنصب الوزارة. وأرسل [الخان] (¬2) أمرا بإسناد وزارة السلطان «ركن الدين» باسم «پروانه»، كما ندب ملك الأمراء والصدور «تاج الدين المعتّز ابن القاضي محيي الدين الخوارزمي» لضبط أموال الخاصّ وحفظها. وكادت القلوب المضطربة تستقّر، لكن أشرار اللّئام والمفسدين من مرتكبي الآثام أدخلوا في روع «پروانه» ما حمل «أليجاق» على أن يكتب إلى خدمة [الإيلخان] (¬3) شكاوى من السلطان «عزّ الدين» لأنه قد مال إلى المصريين، وأنّه يرسل إليهم الرّسل دائما من طريق البحر (¬4)، فلو أنّ الخان سمح لتمّ استدراك ¬

(¬1) كذا في أ. ع، 633، وفي الأصل بوغا. (¬2) بياض في الأصل والأوامر العلائية، 633. (¬3) بياض في الأصل والأوامر العلائية، 635. (¬4) كذا في أ. ع 635: دريا، وفي الأصل: ديار.

الأمر قبل أن يتحقّق له التّحالف مع المصريين. فصدر الأمر في هذا الصّدد من الخان بأن يجري تأديبه وتوبيخه على النّحو الواجب، وقضي الأمر بأن ينطلق السلطان ركن الدين مع قوّاته و «پروانه» صوب «قونية» (¬1). ... ¬

(¬1) قارن أ. ع 635.

ذكر فرار السلطان عز الدين منهزما نحو «فاسليوس»

ذكر فرار السلطان عز الدين منهزما نحو «فاسليوس» حين رجع السلطان «عزّ الدين» من حضرة [الخان]، واستراح مدّة من تحمّل مشقّة الأسفار، استشار الصّاحب «فخر الدين» قائلا: لئن كان قد حدث اتصّال مع السلطان ركن الدين- وهو أخي من صلبي-[وتحوّل النزاع والخلاف في ظاهر الأمر إلى مودّة] (¬1) إلا أن الانفعال قد استبدّ بي من جرّاء احتيال «معين الدين پروانه»: فإذا عقدنا العزم على التوجّه مرّة أخرى إلى خدمة [الخان] على سبيل الاحتياط ودفع كيد الأضداد لكان ذلك أمرا ينطوى على منافع جمّة فاستصوب الصّاحب «فخر الدين» هذا الرّأي، وتمّ إعداد الهدايا والتّقدمات، ثم إنّهم تقدّموا في الطّريق حتى وصلوا بدهليز السلطنة إلى مرحلة «روزبه» فنصبوا الدّهليز هناك، وقد نهض السلطان بناء على اختيار [المنجمين] (¬2). ولما لحق السلطان «ركن الدين» و «پروانه» وجند المغل «بآقسرا» وعلم أن قدومهم إنّما هو على وجه العداء، أرسل الصاحب «فخر الدين» لاستقبالهم، والاستعلام عن الحال وتدارك القضية، واستعدّ للفرار منهزما (¬3)، ولبث ينتظر ما يحدث. فسمع أنّ الصّاحب «فخر الدين» حين لحق بهم أسندوا إليه الوزارة، وأنّ المغل مصممون على إبطال حشاشة السلطنة، وأنهم قد اقتربوا. فعزم [السلطان عزّ الدين] على التوجّه إلى «أنطالية» مع قومه وعياله. وبعد يومين حين وصل جند المغل والسلطان «ركن الدين» استولوا على ما ¬

(¬1) زيادة من أ. ع 636. (¬2) إضافة من أ. ع، أيضا. (¬3) قارن أ. ع، أيضا.

تبقّى من معدّات السلطنة وأسبابها لحساب الخان، ووضعوا يدهم على كلّ ما كان موجودا بالخزانة، حتى سلّموه إلى «توكلك بخشي» و «بهاء الدين شاهنشاه» عندما قدما من خدمة الخان لطلبها. وعسكر «أليجاق» في ولاية آقشهر بقرية «قرايوك»، بينما عسكر السلطان بقرية «ألتونتاش». / وأخذ جند المغول يغيرون على كلّ ناحية، وحشد «علي بهادر» حشدا كبيرا في «سفري حصار»، وكان يريد أن يشنّ غارات ليلية على جند المغول، فضلّ طريقه بالليل، فالتقت به وحدة استطلاعية من جند المغل، فأبلغت الجيش الكبير، ونشبت حرب ضروس، وانتهى الأمر بعلي بهادر إلى الفرار، حيث خلص إلى ناحية «الأوج». واستبّد اليأس بالسلطان «عزّ الدين» من صلاح الأمر، فاستقلّ الزّوارق التي كانت قد أعدّت سلفا، وذهب بأطفاله وعياله إلى «استنبول» عند «فاسليوس»، فبالغ ملك الرّوم في تعظيمه أشدّ المبالغة، وكان يقضيان اليوم بأكمله في الّلهو. ولحق «علي بهادر» بدوره بالسلطان في «استنبول» قادما من «الأوج» مع شرذمة من أنصاره، فأكرم فاسليوس وفادته، وألحق هو الهزيمة بضع مرات بخصوم «فاسليوس» وأعدائه، وأظهر ضروبا من الشّجاعة، ولذلك لبس الخلع القيّمة. وذات ليلة قال بعض من لم يكن يوسع أدمغتهم الفاسدة تحمّل الاستقرار والهدوء- بينما كانوا في حضرة السلطان- أثناء تبادل الأنخاب: أما وقد حرم السلطان من ملكه القديم، وقد اجتمع لحاشيته هنا من الأنصار حشد كبير بحمد الله، فما الذي يحدث إن تمّ القضاء على «فاسليوس» في أثناء التنزّة، فيعود ملك هذه البلاد على حضرة السلطان فأبلغ «كركديد» (¬1) رئيس بيت ¬

(¬1) «كركديد: خال الأشكري» (العيني: عقد الجمان، ص 321، 387).

الشّراب (¬1) في السلطنة (¬2)، بحكم «العرق دسّاس»، الأمر إلى أسماع «فاسليوس». فاحتال حتّى دعا «بهادر أغرلو» أمير الاصطبل، و «علي بهادر» إلى بيته، ثمّ قيدهما، وبعث بالموكّلين على باب السلطان ووالدته، ثم زجّ بالسلطان وأقاربه الأقربين في إحدى القلاع، وسمل عين أمير «الأخور»، وقتل «علي بهادر»، وكان/ كلّ من يعتنق الدّين المسيحيّ من أتباع السلطان يحظى بالأمان، بينما كان الباقون يعانون من النكال والعقال. فألهم الله- تعالى- «صاين خان» أن يرسل جيشا ضخما لإنقاذ السلطان «عزّ الدين»، وتصادف أن تجمّدت الأرض وظهر الجليد في [شتاء] (¬3) تلك السّنة وتجمد نهر «الدّوناب»، فتيسّر بذلك عبور الجيش كلية، وتمّ له إخراج السلطان من الحبس، وتوجّهوا لخدمة «بركة»، فلما لحق السلطان بالخدمة، بذل له «بركة» من الإكرام واللطف أنواعا شتّى، وأقطعة ولاية «سولخاد» و «سوتاق». غير أنّ أصحاب الأغراض أبلغوا والدة السلطان بأنه قد نكب في الطّريق، فاستولى عليها الجزع وألقت بنفسها من القلعة، فهلكت. ولمّا سمع السلطان بما حدث لأمّه وبوقوع ابنته واخته أسيرتين بيد «فاسليوس» أصابه الاكتئاب، غير أنه لبث ينتظر «الفرج بعد الشّدة». وسوف نسوق خاتمة القصة في موضعها. ¬

(¬1) في الأصل: شرابسالار. (¬2) «وكان على دين عيسى عليه السلام». (أ. ع، 638). (¬3) إضافة من أ. ع، 639.

ذكر تولي السلطان ركن الدين قلج أرسلان الحكم وسيرته

ذكر تولي السلطان ركن الدين قلج أرسلان الحكم وسيرته كان السلطان الشّهيد «ركن الدين» وحيد الدّنيا وشامة الزّمان في نثر الذّهب وإشاعة البطولة. كانت لديه قوس وزنها ستين منّا (¬1)، وحربة تزن تسعة أمنان، وكان يستنكف عن الخسّة والرّذالة جملة، ولأنّ أكثر البلاد قد صارت مملوكة له في أيام حكمه، فقد كان يخطّ بمنحها للناس كتبا شرعيّة ومواثيق سلطانية ومراسيم ديوانية (¬2). مجمل القول أنّه حين تمكّن على العرش السلطانى في «قونية»، وانصرف السلطان «عزّ الدين» نحو «استمبول»، جمع «علي بهادر» و «أغرلو» أمير «الأخور» جمعا كبيرا من كلّ ناحية، وجاءوا لمحاصرة «قونية». فاستطاع «پروانه» بمساندة بعض «المغل» من إلحاق الهزيمة والنّكبة بهما في «كاروانسراى ألتونبه»، وأذاق من أجابوا دعوته شربة العذاب والعقوبة، وقيّد جماعة الممتميّزين وأصحاب القلم- الذى كانوا يفصحون عن ولائهم للسلطان عزّ الدين/- كنجيب الدين المستوفي، و «قوام الدين مشرف الملك»، و «القاضي جلال الدين سفر يحصاري» قاضي العسكر، و «سيف الدين خاصّ قيبه»، و «كريم الدين عليشير» و «أستاذ الدار»، وأرسلهم- مقيّدين- إلى «أليجاق» فأبلغهم جميعا درجة الشّهادة. ولما قتلت هذه الطّائفة بغير حقّ، خوطب «أليجاق» في أحلامه بمنتهى ¬

(¬1) المنّ: وحدة الوزن تعادل ثلاثة كيلو جرامات تقريبا (فرهنك فارسى عميد). (¬2) قارن أ. ع 642.

الشدّة والعنف من عالم الغيب، حتّى أنّه صحا من الهول وشاهد آثار الأنوار- رأي العين- على مضاجع أولئك المقتولين المغفور لهم، وأخذ يهذي بذمّ «پروانه». وما إن تم حسم حكاية «علي بهادر»، حتّى شرع «شاه ملك» في العصيان، وتحصّن بقلعة «كداغره»، وبعد الحصار أنزله السلطان بالأمان والأيمان، ثم دفع به الى أيدي المغل فقتلوه شهيدا. ثم اتّجه إلى حضرة «الإيلخان»، وحصل على مرسوم ملكيّ بانتزاع «سينوب» من قبضة «طرابزونى» - وكانت «سينوب» قد انتهت اليه بطّريق السّرقة، ثم ظل السلطان يحاصرها سنتين، ولأن كلمة «لا» لم تكن تجرى على لسان السلطان ركن الدين إلا في الشهادة، فقد تيسّر فتح «سينوب» في الحال. ***

ذكر السبب فى حادث هلاك السلطان ركن الدين

ذكر السّبب فى حادث هلاك السلطان ركن الدين قبل أن تدخل حصّة السلطان عزّ الدين من ملكه في تصرّف ديوان سلطنة «ركن الدين»، أخذ «معين الدين پروانه» يستشير خواصّه في إضافة ذلك الشّطر إلى هذا النّصف،/ فقال «ولد الخطير شرف مسعود» - وكان من آحاد منشئيه- متى تحقّقت هذه الأمنية منحني سيّدي قيادة جند «نكيدة»، فاستجاب «پروانه» لملتمسه متفائلا بذلك، على أمل أن يثبت «شرف» عند عرضه [على الخان] ما اخترعوه من تهم للسلطان عزّ الدين، فراح وجاء عدّة مرات حتى نال «أليجاق» الأذن من جانب الخان للتوجّه إلى «قونية» وقيّد السلطان عزّ الدين. ولما اختار السلطان «عزّ الدين» الغربة خوفا من بأس الخان دون ذنب جناه، ولجأ ثانية إلى «لشكري»، تم إسناد قيادة جند «نكيدة» «لولد الخطير» وفاء بالوعد السّابق، فبلغت رتبته في ذلك الاجتباء من الثّرى إلى الثّريا، ومن السّمك السّماك. فلما مضت عدّة سنوات على ذلك، عجز وعاء وسعه وإناء قدرته عن تحمّل الجاه والثّروة، ولأنّ الرّتبة كانت بغير موضع، والدّرجة خارج الاستحقاق والموقع، مدّ رجله لأعلى من درجته، وأخذ يصدر عنه من الأقوال والأفعال ما يناسب أصله ونسبه، وأمه وأباه. فأعرب أعيان الأطراف عن استيائهم لإمارته، وشرع من استعداهم عليه ومن جعلهم يشكون منه يرفعون القصص ويعرضون الغصص على الدّوام. وما من أمر كان يصدر من أعتاب السلطان بإزالة ذلك العدوان، إلا وأعرض عن الانقياد له والإذعان، وواصل المضيّ في طريق التفرّد والتّمرد.

ولم يكن السلطان يقول شيئا مراعاة لخاطر «پروانه»، وذات ليلة قال السلطان في خلوة مع ندمائه- وكانوا جميعا أتباع پروانه: ينبغي تحرير «نكيدة» من شرف. [ويعهد بها إلى من يكون متحلّيا بالشّفقة والعدل والمروءة والحدب على الرعّية] (¬1)، وربما قال في وقت من الأوقات بتملّك «سينوب» على سبيل الندامة، وهو إنما يريد أن يمنح مدينة كلما أدّى خدمة للسلطنة./ لقد أمسك «پروانه» وأشياعه بأسنانهم في ملكنا القديم، وهم يحتقروننا (¬2)، ويتركوننا بغير نصيب من نصاب الملك، ولو استمر الأمر على هذا النحو لن يبقى لنا في المملكة حكم. فجدير بنا أن نذهب إلى خدمة الخان، ونعرض عليه استيلاء الظلّمة وشحّ المنال (¬3). فنقل أولئك الجاحدون هذا المعنى بالنّقير والقطمير إلى «ابن الخطير». ولما كان فتّانا غمّازا ذا كيد عظيم فقد استأذن في السفر إلى أولاده، وأجلس «پروانه» على النار (¬4)، فكانا يتّجهان سويّا إلى الصّحراء ويفكّران حتّى قرّ رأيهما في النّهاية على التآمر ضدّ السلطان بمساندة المغل. وفي اليوم التالي أعدّ «پروانه» لقادة المغل وإمرائهم أموالا جمّة، وأرسلها بصحبة «شرف»، وأرسل رسالة مضمونها أن السلطان استبدّت به الرّغبة في التحالف مع الشاميين والشروع في التمرّد، وكنت أنا أحول دون ذلك، الأمر الذي جعله يعقد العزم على القضاء علينا، ومتى فرغ من أمر قتلي سيجمع ¬

(¬1) زيادة من أ. ع، 645. (¬2) كذا في أ. ع، 645، وفي الأصل: «وهم يحتقرون الناس»، وهو تصحيف لكلمة ما: نحن، حيث أوردها: مردم: الناس. (¬3) كذا في أ. ع، أيضا، وفي الأصل: مثال: يعني أمر، وهو تصحيف بلا شك. (¬4) يعني أثاره على السلطان.

الجموع لاستئصال شأفتكم، فإن بادرتم بتدارك الأمر قبل أن تنتقل الفكرة من حّيز القوة إلى الفعل، لكانت في ذلك مصلحة عظيمة. فأعرض معظم أمراء المغل عن ذلك وأحجموا عنه، حتى حمل «ينال يارغوجى» (¬1) - وكانت بينه وبين «پروانه» صداقة- أمراء المغل على التحرّك لتفحّص الحال نحو «آقسرا». كما اتجه إليها «پروانه» بعساكره وعسكر «نكيدة» وأتباع «ولد حاجا» [الجمّال] (¬2) - وكان من سفلة ومجاهيل التّرك المرتزقة/ وانتشله پروانه من الحضيض فكان في ذلك كالزّمان محبا للأنذال مربيا للجهّال. ثم أرسلوا في طلب السلطان رسولا إلى «قونية» لإخباره بأنّ أمر الخان قد صدر بشأ إحدى المهامّ الدّقيقة، وأنه لابدّ من حضوره لسماع ذلك الحكم، فاتّجه السلطان من «قونية» إلى «آقسرا»، ويوم لحق بهم كان تاج الدين معتزّ هو الذي أقام الضّيافة، فتجرّع السلطان فيها كؤوسا ثقيلة، فلما أثّرت سورة الخمر وارتفع جلباب الحياء، فتل أمراء المغل حبال العتاب مع السلطان، وأغلظوا له في الخطاب قائلين: لأيّ سبب تقصد قتل «پروانه»، وما التّقصير الّذي فعله في خدمتك لكي يستأهل منك هذا التّفكير المستهجن؟ أجاب السلطان: لا علم عندي بما يقوله الأمراء، وما جرت كلمة على لساننا أبدا في هذا الصّدد لا في حالة الصحو ولا في حالة السّكر. ولو قدّم الأمراء استكشافا شافيا، لأصبح من المؤكد أن يخجل النّاقل. فردّ الأمراء: طالما أنّ هذه الحكاية لم تتكرر، ولم يبلغ الأمر هذا المبلغ، فإنّك لو سلّمتنا تلك الفئة الجافية الذين قاموا بالتّحريض على هذا الغدر فإنّ عقابهم سيتم وفقا لقانون ¬

(¬1) كذا في أ. ع، 646، وفي الأصل: بانياك. (¬2) أ. ع، 646.

«الياسا» (¬1)، ولكانت نجاة السلطان أمرا ميسورا، أما إن أهملت فلن نبقي أو نذر. قال السلطان: سأفكّر في هذ الأمر، وأطرحه غدا على الأمراء. وبلغت تلك الجلسة نهايتها بذلك القول. وفي يوم الأربعاء الثاني من جمادى الأولى سنة 664 فارق السلطان المدينة؛ وكانت نوبة الضيافة على السلطان في ذلك اليوم، فشغل بالصّيد مع الأمراء وتناول وجبة معهم/، وكان جند المغل قد غرقوا في السّلاح، وأحاطوا بالسلطان من بعيد. فلما دخل الخيمة دعا إليه المغول، ووضع الخوان ثم رفع، وقدّم السقاة الخمر. فشعر السلطان بالملل من الزّحام، والحرّ في الخيمة التي جلسوا فيها، فأعطى قميصه «للجامه دار» (¬2) فرأوه قد ربط حول خصره بضعة خناجر، فاستلّوها واحدا واحدا لمشاهدتها، وبدأوا في توجيه العتاب إليه، فقالوا: بالأمس اتفقنا على أن تسلّمنا أصحاب سعاية «پروانه»، لكنّك لم تفعل، فشرع في الاعتذار، ولم يقبلوا عذره، وفي أثناء الحوار دسّوا السمّ في قدحه، فلما تجرّعه لم يلبث طويلا حتى ظهر تغيّر كامل في مزاجه الكريم، ولما غلب السمّ في أعماق العروق واستولى الاضطراب على الرّوح، خرج للتبوّل، وطلب حصانا فركبه واتجه صوب المدينة، فلحقوا به وأعادوه. وبعد مدّة خرج أمراء المغل مع «پروانه»، وبقي ضياء وشرف ابنا الخطير مع عدد من المغل، وأسدلوا باب الخيمة، وخلعوا عنه عباءته وأخذوا في توجيه الرّكلات إلى مثل ذلك السلطان، ولشدّما صاح واستغاث، لكن لم يكن ثمّت ¬

(¬1) الياسا: قانون وضعه جنكيز خان، التزم به المغول التزاما كاملا، وجعلوه دستورا مقدّسا لهم. (¬2) يعني المسئول عن الثّياب السلطانية.

ذكر سلطنة غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان

أثر للرقّة والرحّمة، وفي النّهاية بعثوا بروحه إلى الجنان بوتر القوس. فلما فرغوا من القضاء عليه، توجه المغل لمعسكرهم الشتوي، وجاء الأكابر بأسرع ما يمكن إلى «قونية». ذكر سلطنة غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان حين وصل أركان الدّولة إلى «قونية» المحروسة، أجلسوا السلطان غياث الدين- وكان قد تيتّم عن أبيه وهو ابن سنتين ونصف- على عرش السلطنة/، ثمّ أقسموا على الولاء له ونصرته. وباشر كلّ من الصّاحب [فخر الدين على] و «پروانه» مصالح الدولة متعاونين فيما بينهما بالكفالة والكفاية، فنشأ السلطان وكبر في حجر تربيتهما ورعايتهما كالغصن على شاطئ الماء الزّلال. وأخذ يزيّن المنشورات والأوامر زمنا بالتوقيع بقالب خشبي، فلمّا فارق مرحلة الطّفولة إلى حدّ الصبا، ووضع القدم في دائرة فهم الأشياء وحفظ الأسماء أتوا له بأستاذ لكي يشغل بالتعليم. ***

ذكر اعتزال الصاحب فخر الدين واعتقاله بقلعة «عثمان جوق»

ذكر اعتزال الصاحب فخر الدين واعتقاله بقلعة «عثمان جوق» أرسل السلطان «عزّ الدين» من ديار الغربة رسالة تتضن صورة الحال وقلّة المال إلي الصّاحب «فخر الدين» - الذي كان من قبل وزيرا لسلطنته. فظهرت الشّفقة في باطن الصّاحب على العادة السّابقة، وتداول في الأمر مع «پروانه»، وأرسل إليه رسائل السلطان، فأخذت «پروانه» رقّة من مطالعة رسالة السلطان، واحتفظ بالرّسائل عنده بعد أن تصفّحها. وفي اليوم التّالي اتفّق للصّاحب أن التقى «بپروانه» فسأله على أي نمط ينبغي أن يكتب جواب السلطان عزّ الدين، وهل يمكن إرسال شيء إليه أو لا، وبخاصة في هذه الحالة التي أحاطت فيها العسرة بأيامه وأمسك العوز فيها بتلابيبه. أجاب «پروانه»: «إن حال السلطان شبيه بحال السلطان «طغرل»، وكان حين انزعج من جور الأمراء، وأخذ يطوف مشرّدا في أطراف البلاد بسببهم، أرسل إلى ملك الأرمن هذا «الدّوبيت» يستميحه فيه: / تكرّم اليوم يا من أنت للكرم جناح ... فلقد أصبح الموت حلالا لنا من الفقر والعوز سوف يتحسّن حالي بالنّجم غدا ... ولن أتلقى الجوهر من كفّك بتذلّل فلمّا طالع الأرمني هذا الدّوبيت، لم يدر قطّ ولو دورة واحدة حول المروءة ولم يرشح إناء سخائه، وظلّ على بخله وشحّه، فارتجل السلطان هذا الدّوبيت

من فرط الغضب: أيها القلب، لئن كنت واقعا في هوى الأرمن ... فأكون امرأة لو لم أخل ساحتك من الحزن (¬1) ويا أيها الفلك، إن لم أتحايل لأطرد ... الثور من البيدر كنت أنا في البيدر (¬2) وغدا اسم ملك الأرمن من أجل ذلك البخل سمرا يسمر به النّاس. وفي مثل هذه الأوقات تكون رعاية وليّ النعمة شرطا لازما من شروط المروءة. ولو كان قد بعث إليّ بكتاب في هذا الصدد، لكنت قد بذلت كل ما في ملكي». وحين نال الصاحب الإذن من «پروانه» أرسل إلى السلطان رسالة جوابيّة مع بضعة أثواب ومشربة ذهبية وزنها خمسمائة مثقال وطرائف أخرى. وبعد مدة بدأ الأضداد السّعاية بين «پروانه» والصّاحب، وحثّوا پروانه على حبسه وإذلاله وقيده والتّنكيل به، لكنّه كان يخشى ويحتاط من ناحية الأمير «تاج الدين حسين» / ولد الصّاحب، وكان لا نظير له في قيادة الجند والطّعن بالخنجر والافتتان بالحياة العسكرية والسخاء. فقال شرف «ولد الخطير»: أنا أكفيكم أمره فأدعوه إلى وليمة في بيتي، فإن عزم على الخروج منعته. ¬

(¬1) كذا في أ. ع، 653، ومجمع الفصحاء، لرضا قلي خان، طبع طهران، 1295 هـ، 1: 37: خالى نكنم از تو حزن زن باشم. وفي الأصل: خالى نكنم زارزن ارزن باشم، ولا معنى لها يعتدّ به. (¬2) يعني أنه إن لم يفعل يصبح عرضة لأن يدوس عليه الثور في البيدر كالغلال ونحوها.

وفي اليوم التّالي، ذهب الصّاحب و «پروانه» والأمير تاج الدين «وولد الخطير» للنّزهة في خدمة موكب السلطان، فلما نزل السلطان بعد أن قام بجولته قال «الشّرف» لتاج الدين إنّ في رأسي خمارا من شراب الأمس، ولديّ صحن أو اثنان من حساء السّماق (¬1)، وهو ما لا يمكن علاج آلام من يعاني من أثر الخمر إلّا به. فلو تجشم مولاي المشقّة وتفضّل معي لكي نتناوله سويا، ونبادر بتبديد الخمار، فلن يكون ذلك ببعيد عما عوّدتم هذا المملوك عليه من تلطّف. ولفرط ما كان عليه من سلامة قلب أجاب ولد الصّاحب دعوته، وذهب إلى بيته، ودخل معه من باب الملاطفة، ثم شرعوا في المزاح والمطايبة. وبعد رفع المائدة أزمع ولد الصّاحب الخروج، فكشف «الشّرف» نقاب الحياء، وقال: ليس مسموحا لك من جانب الأمير «پروانه» بمبارحة هذا المكان. قال ولد الصاحب: المروءة مع الإخوان والرّفاق تقتضيك ألا تفعل هذا. فلم يجد ذلك شيئا، ورضي مذعنا بالقضاء، وهدأ. فسطّر «ولد الخطير» في الحال على ورقة: «قضي الأمر»، وبعث بها إلى الديوان عند «پروانه» فورا. وقام «پروانه» على الفور من مقدّمة الصّفة حيث كان قد جلس مع الصّاحب و «أرسلان دغمش» و «طرمطاي»، وجاء بجنب الصّفة، وأرسل الرّسالة التي كان السلطان «عزّ الدين» قد بعث بها إلى الصّاحب على يد أحد الأكابر لكل من «أرسلان دغمش» و «طرمطاي» و «الصّاحب»، وقال: كيف يمكن العيش مع من يفكر في المكر بمولاه والغدر به ويناصر معارضيه./ ¬

(¬1) في الفارسية: تتماج: حساء السّماق، والسّماق شجرة تستعمل أوراقها دباغا، وبذورها تابلا. (المعجم الوسيط).

قال الصّاحب: عندما وصلت إليّ هذه الرسالة أرسلتها إليك في الحال، وذكرت ما كان من مشافهات في الوقت المناسب، فلا ذنب لي في هذه القضية، وليكن بعد ذلك ما يأمر به الله ومولاي. وجرى احتجاز الصّاحب في بيت من حجرات قصر السلطنة مدة من الزّمن، ومن ثمّ أرسل إلى بيت أمير العدل، وصرف «شمس الدين ولد صدرو» إلى أمراء المغل وقادتهم لإطلاعهم على هذه القضية، وبعثوا معه بأموال كثيرة للتّحقير من شأن «فخر الدين» الوزير وتعظيم وزره، ومن أجل ذلك منح «ولد صدور» قيادة قوة «آمد». ولمّا سمع أمراء المغل قالوا: مهما كان الجرم الذي صدر عنه كبيرا فلا يجب الاستعجال في إبطال حشاشته والقضاء عليه طالما لم تعرض القضية على حضرة [الإيلخان] (¬1)، وإنما كونوا قريبين منه، ولا ترتكبوا أي خطأ، وبالغوا في حراسته. فلما عاد «ولد صدور»، أرسل الصّاحب إلى قلعة «عثمان جوق»، وأطلق سراح ابنه بكفالة «ولد الخطير» بشرط أن يلازم «پروانه» في السفر والحضر. وسوف يرد فيما بعد ما آل إليه حال كل منهما. ... ¬

(¬1) بياض فى الأصل وأ. ع، 656.

ذكر تبديل المناصب فى ديوان سلطنة بلاد الروم

ذكر تبديل المناصب فى ديوان سلطنة بلاد الروم حين بعث بالصّاحب «فخر الدين» إلى قلعة «عثمان جوق»، أعطيت الوزارة «لمجد الدين محمد بن الحسن» المستوفي الأرزنجاني، الذي لم يكن له من ثان في أنواع الفضائل في العالم الفاني، وأسند الاستيفاء للصدر المعظّم «جلال الدين محمود المشرف»، والإشراف «لظهير الدين متوح بن/ عبد الرّحمن» - وكان من أحفاد «أبي يوسف»، والنّظارة «لزين الدين أحمد الأرزنجاني»، وكان كلّ منهم يقوم بعمله على أحسن وجه وبقدر الإمكان. فلمّا نزل الصّاحب «فخر الدين» من قلعة «عثمان جوق»، وذهب إلى خدمة [الخان] (¬1) وطرحت الحكايات للمناقشة، طلع الصّاحب من تلك الفرية نقيّ السّاحة والعرض، وأمر [الخان] بأن [يذهب] (¬2) إلى بيته، وأن يتدخل في الأمور السلطانية والأشغال الدّيوانية. غير أن الصّاحب ظلّ فترة من الوقت مقيما ببيته ملازما لداره، وشغل بضبط الأملاك والعقارات وعمارة الأوقاف، ولمّا انقضت مدة على العزل وتسلل السّأم والملال إلى نفسه من تسلّط الأراذل، اتّجه- أنفة منه وإباء- إلى ديوان «آباقا» (¬3)، فأسندت إليه الوزارة من جديد، وفوّضت إلى ابنيه قيادة ¬

(¬1) بياض فى الأصل وأ. ع 657. (¬2) إضافة من أ. ع، أيضا. (¬3) آباقا: هو آباقا خان بن هولاكو، تولى حكم «الإيلخانيين» في إيران والعراق سنة 663، وتوفي سنة 680. راجع الفصل القيّم الذي كتب عنه عند أستاذنا الدكتور فؤاد عبد المعطى الصيّاد في كتابه: الشّرق الإسلامي فى عهد الإيلخانيين: أسرة هولاكو خان. من منشورات مركز الوثائق والدراسات الإنسانية بجامعة قطر، الدّوحة 1987 م، ص 33 وما بعدها.

قوّات «لاديق» و «خوناس» و «قرا حصار دوله» وأعاد «آباقا» الأب وابنيه إلى الروم قانعين مغتبطين. فلما عاد إلى مباشرة الوزارة، أسندت «الأتابكية» (¬1) إلى الصّدر مجد الدين، وكانوا جميعا يلازمون [الأمير المعظّم برقواغا] (¬2) الذي كان قد جاء لحكم مملكة الروم. ... ¬

(¬1) لقب شرفي، فالأتابك، ومعناه الأمير الوالد، انظر ما سلف، ص 174 هامش 1. (¬2) كذا فى أ. ع، 658، وفى الأصل بياض.

ذكر بعض أوصاف الأتابك مجد الدين وخاتمة أمره

ذكر بعض أوصاف الأتابك مجد الدين وخاتمة أمره كان الصّدر المعظّم فريد العالم «مجد الدين محمد بن الحسن الأرزنجاني» نادرة الأيام في أنواع الفضائل والآداب والتبحّر في فنون الحساب. كان خطّه في غاية الجودة وعبارته في غاية اللّطف والذّوق، وكانت رواتب مبرّاته في حق الخاصّ والعام من أهل الإسلام- سيّما في شأن السّادات والأئمة- متتابعة متواترة كشعاع الشمس وقطرات السّحاب، وكان قد ألمّ إلماما كافيا بقرض الأشعار ونقدها وسبك الرّسائل عربيّها وعجميّها. وعند وفاته كان أيقظ عقلا وأسلم وعيا. كلّ من مّر على بابه في أيّام حياته أو ألقى عليه سلاما/ حظي بإنعام منه في حالة [الوصيّة] (¬1)، ودعا إليه وهو في النّزع الأخير الخدم والحشم فودّعهم جميعا بوجه بشوش ضاحك، ثم ولىّ وجهه صوب دار القرار. ومن بين رسائله رسالة قد كتبها في جواب ملك السّادة، سالك سبيل السّعادة، مالك أزمّة العارفين، حجّة الأولياء في العالمين، شرف الملة والحقّ والدين: الحسين العلوي الطباطباي الشيرازي (¬2)، أدام الله على كافة المسلمين بركته، [ونوردها] (¬3) لكي يستدل على وفور بلاغته، [وهذه هى] (¬4): أمّا الخطاب المبارك لمولانا ملك السّادات، فلك السّعادات، افتخار العترة ¬

(¬1) إضافة من أ. ع، 659. (¬2) كذا فى الأصل، وفي أ. ع 659: الإصفهاني. (¬3) زيادة من أ. ع، أيضا. (¬4) كذا في أ. ع، 660 وفي الأصل: وابان ايامك.

الطاهرة، وليّ الكرامة الظّاهرة، علم الهدى، معلّم الورى، شرف الملّة والدين، حجّة الإسلام والمسلمين، أبّد الله فضله وأفضاله، فكان يتيمة بحر السعادة، فغدا تميمة نحر الإرادة، وحظيت آثار الأنامل (¬1) الشّريفة بالتّعظيم والتّبجيل بزينة حدقة الفضل ونور حديقة القول والفعل على سبيل التيمّن والتبرّك، فوصل إلى مشامّ الرّوح من مطاويها وفحاويها نسيم الروض النّاسم، لا بل نفحات مكارم أخلاق أبي القاسم- عليه السّلام- ما كرّت المواسم. إن هو إلا زمن ولىّ في سعود تلك السّعادة العظيمة وجهه صوب الأفول، وتعرضت غصون تلك النّعمة والنّعيم لوصمة الذبول، فإذا به الآن قد طلع ونفع (¬2) بحسن التفات المولوي ويمن نظره. كان هذا البيت من الحماسة يجول بخاطري فى اليقظة والمنام: عسى الأيّام أن يرجعن ... قدما كالّذي كانوا وكانت عين البصيرة برغم ذلك لخيال الجمال المبارك ناظرة ولسان السّريرة/ له مسامرة. وكان تكرار هذا البيت وإعادته يعدّ نوعا من تسلّي الضّمير والخاطر: وعدتني الأيام منك بوصل ... آه (¬3) لو كانت (¬4) تصدق الأحلام إلّا ووصل الآن الصّدر «صلاح الدين» أنجز الله وطره كما أحسن ستره، وأبلغ بخطور الحضور المبارك إلى هذه النّاحية، فأنهى بشرى مباركة، فنشأ في ¬

(¬1) كذا في أ. ع، 660 وفي الأصل: وابان ايامك. (¬2) في الأصل: مانع، والتصحيح من أ. ع، 660. (¬3) كذا في أ. ع، أيضا، وفي الأصل: له. (¬4) في الأصل، وأ. ع: كان.

الضمير: هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ (¬1)، والمأمول أن تقرأ عمّا قريب عند نوال شرف الخدمة قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا (¬2). وما ذلك على الله بعزيز. ... ¬

(¬1) سورة يوسف: 100. (¬2) أيضا.

ذكر تشرف الملكة المعظمة سلجوقي خاتون ابنة السلطان ركن الدين بتزوج ابن الخان وعصيان ولد الخطير

ذكر تشرف الملكة المعظمة سلجوقي خاتون ابنة السلطان ركن الدين بتزوج ابن الخان وعصيان ولد الخطير حين صدر الرّأي العالي والأمر النّافذ بأن تدخل واحدة من بنات السلطان ركن الدين في حبالة تزوّج إمبراطور العالم، وأن يجاوزوا بشارة الرّاية السلجوقية بسبب ذلك الافتخار كوكب «العيّوق»، شرع السلطان غياث الدين كيخسرو وأمراء سلطنته في ترتيب جهاز الملكة ليل نهار ببال منشرح وآمال منفسحة، وأتمّوها. وفوّضوا أمر الإعداد للصّدر «كمال الدين ابن الرّاحة» حتى أعدّ لكل شيء عدّته في أيّام قلائل. ومضى الصّاحب و «پروانه» و «أمين الدين ميكائيل» نائب الحضرة سائرين على الأقدام في خدمة الهودج السلطاني، وصرفوا السلطان «غياث الدين» وبصحبته الأتابك «مجد الدين» و «جلال الدين المستوفي» و «طرمطاي بكلربكي» إلى «قيصرية». وعند/ الوداع أسرّ «معين الدين پروانه» إلى «تاج الدين كيو» - قائد جنده- و «سنان الدين ولد أرسلان دغمش» قائلا: إننى لا أتفرّس آثار الخير- بأيّ وجه من الوجوه- في حركات أولاد الخطير الزّنجاني وسكناتهم، ولا شكّ أنّه ستصدر عنهم فتنة عظيمة وبلاء وبيل، ولو لم تكن الفرصة سانحة لأداء هذه المهمة الدقيقة لكنت أمحو صدأ وجودهما من مرآة الوجود بمصقل [السّيف] اليماني المصقول، رغم أني أنا الذي انتشلتهما من الحضيض، إلّا أنّه يجب أن تنتهزا سويا الفرصة في آناء الليل وأطراف النّهار، وأن تلزما جانب الحيطة

والحذر فتعملا بكلّ وسيلة وحيلة على قتلهما، وتعدّا المسارعة في إهراق دم الأخوين أمرا واجبا. فالتزما أمام الأمير «پروانه» بإنجاز هذه المهمّة، لكن التّصوير كان في معمل القدر على خلاف تصوّرهما. ذلك أنه حين لحق موكب السلطنة «بقيصرية» توجّه «شرف الدين ولد الخطير» مع جماعة من جند الرّوم وعكسر المغل نحو «آبلستان» لحراسة الثّغور، ونزل «بيكارباشي»، وفجأة أغارت عليهم من أحد الممرّات كتبية من جند الشام وأخذوا معهم جانبا من قادة جند الرّوم مثل «روم راي» و «تركري» و «سيف الدين أبو بكر الجامدار»، و «سيف الدين قراسنقر»، ولما كان ولد الخطير وحرّاس المغل كثيرين، فقد رجعوا ونزلوا «كاروانسراي قراطاي» على أن ينزلوا من الغد بصحراء قيصرية. فجاء «تاج الدين كيو» و «سنان الدين» من هناك في الحال إلى قيصرية، وذهبا عند «ولد پروانه»، وأعاد على مسامعه ما كانا قد سمعاه من/ أبيه من حكم حين قاما بتوديعه، فأقسم الثّلاثة متّفقين على تنفيذ هذه المهمّة بحيث إذا جاء الأخوان أمام ولد پروانه- على أن يكون حضورهما بالقصر السلطاني- فعليهم حينذاك ألّا يتوانوا عن قتلهما. غير أنّ شخصا من ملازمي «ولد پروانه» أبلغ هذا السّر لضيا [ولد الخطير]، فسيّر ضيا في الحال رسولا إلى أخيه، وكشف عن القضيّة، فأمر أتباعه بأن يلبسوا السّلاح جميعا، لكي يعملوا سيوفهم دون إبطاء في «تاج الدين كيو» صباح الغد بعد المعانقة. وفي اليوم التّالي ذهب ضيا لاستقبال أخيه، وأعاد على مسامعه الحكايات،

فاشتعلت نائرة غضبهما معا. وركب «ولد پروانه» في ذلك اليوم على اعتبار أن ولدي الخطير سيذهبان إلى خدمته- كعادتهما- وعليهما غبار السفر (¬1). وتقدّم «تاج الدين كيو» و «سنان الدين» مع عدد قليل ممن كان معهم من الرّجال للاستقبال، [فلمّا التقوا] (¬2) قال «الشّرف» معاتبا «كيو»: ماذا كان يحدث من نقصان لو تقدّم ولد مولانا لاستقبالنا؟ قال «كيو»: إن كان لديه عذر فليتجاوز عنه ملك الأمراء، ويتّجه إليه حتى يشعر هو بالخجل. فتحقّق لدى «الشّرف» بهذا الجواب حديث المؤامرة. وعند ذاك تقدم «ضيا» بزعم معانقة «تاج الدين كيو» - إذ أنه لم يكن قد رآه من مدة طويلة- واستلّ السّيف خفية من غمده، وشقّ به يد «كيو» اليمنى، فامتشق «كيو» حسامه بيده اليسرى وأخذ يطعن كلّ من كان يصادفه، ولما كانت الضّربة التي وجّهها إليه «ولد الخطير» قد أثّرت فيه تأثيرا كبيرا فقد انكفأ على وجهه، ففصلوا رأسه في الحال عن جسده، وربطوها في مؤخرة سرج «ضيا»، كما استشهد هناك أيضا الأمير «سنان الدين». / وحين أصبح عصيان ولدي الخطير أمرا ظاهرا، [واشتعلت نار الغدر والخيانة، وتطاير شرر الشرّ] (¬3) نشأ الهرج في داخل المدينة وخارجها، وانطلق «الشّرف» بالأعلام وبمن كان معه من الجند إلى صحراء المشهد، وتوقّف هناك، وأرسل إلى المدينة من يأتي إليه بالسلطان. وبعد كثير من التمنّع والإباء اضطرّ الأتابك و «طرمطاي» والمستوفي إلى إركاب السلطان، ثم جاءوا به إلى ¬

(¬1) قارن أ. ع، 663. (¬2) زيادة من أ. ع، أيضا. (¬3) زيادة من أ. ع، 664.

«الشّرف». وفي اليوم التّالي انطلقوا إلى «نكيدة»، فلمّا بلغوها، أرسل «الشّرف» أخاه «ضيا» إلى بلاد الشام للإخبار بالحال وطلب النّجدة بالرّجال، وألزم «الأتابك مجد الدين» و «جلال الدين المستوفي» و «سيف الدين طرمطاي» ليصرفا إخوتهم وأبناءهم في صحبة «ضيا». وتشكّل في «نكيدة» لوجود السلطان جمع كبير وحشد هائل. وكانت الخيلاء والحماقة التي تملّكت «الشّرف» تتزايد بمرور الأيام، فأخذ يمارس التكبّر الفاحش على أكابر الدولة، ويكيد كلّ وقت بالأتابك [والمستوفي] (¬1) - فكانا حين يعلمان بالحال يرسلان الكثير من المال، ويجعلان الخزانة وقاية لنفسيهما. وفي كلّ يوم كان يظهر رسل مزيّفون من طريق الشام بأن «الفندقدار» (¬2) سيصل في اليوم الفلاني بجيش كثيف، وأخذوا يضربون البشارات بهذه الأكاذيب، وعاشوا زمنا بين هذه الحالة وتلك الحيلة. ¬

(¬1) أ. ع، 665. (¬2) يعني الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدار، من سلاطين المماليك بمصر والشام، تولى الحكم من 658 - 676.

ذكر وصول هودج الملكة وعودة الأمراء وسكون فتنة أولاد الخطير

ذكر وصول هودج الملكة وعودة الأمراء وسكون فتنة أولاد الخطير وحين لحق الصّاحب و «پروانه» والنّائب بخدمة [الخان] (¬1) وحملوا العروس بكلّ عزّ وجلال من منصة الجلوة إلى حجلة الوصال، وقوي ظهر سكان ديار الرّوم بتلك الصّلة، حظي الصّاحب و «پروانه» بمزيد من العطف واللّطف- يربو على المعهود- من جانب الحضرة الخانية، وأضاف فرضة من ديار الأرمن إلى ممالك السلطان، وتوجه الصّاحب و «پروانه» صوب المملكة وهما في غاية السعادة والانشراح. فلما بلغا حدود/ «أرزن الروم»، سمعا بخبر عصيان ولدي الخطير، فعرضا صورة الحال في الحال على حضرة [الخان]، فصدر الأمر النافذ بأن يتوجّه ولد الخان الفاتح بنفسه و «تودون بهادر» و «توقو آغا» مع جيش جرّار إلى الرّوم لدفع فتنة ولدي الخطير. كان «ولد الخطير» قد مضى في طريق الجنون كعادته القديمة، فشرع في توزيع الولايات على أناس دون ومارقين فسقة، وأزاح نقاب الحياء عن طالع الوفاء، [وترك التحفّظ والاحتشام كليّة] (¬2)، لكنّه كان يحترز من قبل أركان الدولة، ولذلك كان يتحصّن تارة في «نكيدة» وتارة في «دولو»، ويبثّ الحيرة في من كان يتّبعه من الناس مضطرّا (¬3). ¬

(¬1) بياض في الأصل وأ. ع، 666. (¬2) أ. ع 667، وعبارة الأصل مضطربة للغاية. (¬3) قارن أ. ع، 667.

وفجأة أبلغه الجواسيس بأن «پروانه» قد وصل بجند لا حصر لها في خدمة ولد الخان، واتخذ الحيطة لحفظ الجوانب وسدّ المهارب وحراسة المسارب. فلما سمع «ولد الخطير» هذا القول ارتجف واضطرب كما يرتجف ورق الصفصاف، واسودّت الدنيا أمام عينيه خوفا من جيش المغل. فجاء إلى دهليز السلطنة، ودعا إليه الأمراء وقال: إنني لا أرى مصلحة ولا رأيا في تدارك سوء أفعالي إلّا الفرار إلى بعض معاقلي، انصرفوا أنتم في خدمة موكب السلطنة إلى «پروانه». ثم ودّع الأمراء، وسلك طريق قلعة «لولوه» مع بضعة نفر من جنده فلما اقترب من القلعة أذن لأهله وودّعهم، وصعد مع أحد الغلمان إلى القلعة، فقيّده محافظ القلعة في الحال، وأبلغ الأمر للأعتاب السلطانية. أجل، حين ذهب شرف الدين إلى القلعة أركب أركان السّلطنة السلطان عند صلاة العشاء/ وانطلقوا مسرعين، فبلغوا «دولو» في منتصف الليل، فأمضوا بقية اللّيل في الميدان، وفي الصّباح أشعل لهم «پروانه» - بطلعته الغرّاء- الشمّعة المضيئة للعالم، فدبّت فيهم الحياة من السّعادة. وكان السلطان قد خلد إلى النوم، فلم يدعهم يوقظوه، وقال: إنما نتحمّل نحن كل هذه المشقّة من أجل راحة ذاته (¬1) الشريفة. ووضع هو بدوره رأسه على الوسادة. فلما ارتفع النّهار قبّل «پروانه» يد السلطان، وانطلقوا سوّيا إلى خدمة أمراء المغل، فلما التقى بهم السلطان، أنشأ «پروانه» فصولا في باب براءة السلطان من ذلك العصيان، وجعلها مقبولة في مقاعد السّمع. وبادر أمراء المغل بتسلية خاطر السلطان. ولما كشف «پروانه» عن أمر اعتقال «شرف» الخائن سرّوا بذلك سرورا بالغا، وبعثوا «بسيف الدين جالش» وكتيبة من فرسان المغل ¬

(¬1) كذا في أ. ع 668: ذات، وفي الأصل: دار.

والمسلمين إلى القلعة لاستمالة محافظها واستنزال «شرف». فأتى «جالش» «بشرف الدين ولد الخطير» إلى أمراء المغل بغلّ الذلّ، فأحذوه للتحقيق والسؤال، وقتلوا «ولد قلاوز» أمير الصّيد و «سنجر» الجامدار و «قيبة» الخادم وكان سبب الفتنة وهو الذي سلّم السلطان لولد الخطير، وتمّ التحقيق مع الأمراء الآخرين الذين كانوا قد تبعوه مضطرّين، وحددوا جرم كل واحد منهم بعد تفحّص الأحوال. وكان الصّاحب و «تداون بهادر» قد بقوا في الخدمة لدي ولد الخان في أطراف آبلستان لحراسة الممرّات. فلما رجع ولد الخان وعزم على التوجه إلى البلاط الخاني، وعاد «توقو» بدوره إلى البلاد، أتوا «بولد الخطير»، وجرّوه للتّحقيق/ فأخذ لفرط دهشته وغاية حيرته يجيب عن الأسئلة إجابات متناقضة، وفي نهاية الأمر نفّذوا فيه حكم «الياسا» (¬1)، وبعثوا بيده ورجله ورأسه وسائر أعضائه ففرّقوها في مختلف الدّيار لكي يعتبر الجاحدون وكافرو النعمة وينزجر الخدم الغدّارون. ثم إنّهم توجّهوا بعد ذلك للمشتى. وفي ذلك الشّتاء ظل أمراء الروم ملازمين للمغل من الصّباح إلى المساء بسبب هذه القضايا، وكانوا يقضون أوقاتا عسيرة من الخوف واعتراض صروف (¬2) الأيّام. فلما انتهت هذه الحكاية، وانقشع عنهم عتاب التّحقيق والطّلب، ورغب النّاس في الراحة والاستقرار، ظهرت حالات عجيبة تجعل الولدان شيبا من حجاب القدر، وتبدّل الاحتراق ¬

(¬1) نفذ فيه حكم «الياسا» يعنى أنه قتل. و «الياسا» هو القانون الذي وضعه جنكيز خان للمغول، راجع فيما سبق، ص 367 هامش 1. (¬2) كذا في أ. ع، 669: صرف، وفي الأصل: رخنه: ثغرة، ولا معنى لها.

بالعرس، والترّح بالفرح، والمأتم بالارتياح، والغمّ بالسرور. وتزلزلت المملكة وتخلخلت قواعد السلطنة، وأدّت الحركة غير الصائبة التي أتى بها «فندقدار» صاحب الشام إلى أن تصل آلاف الجرعات المسمومة الفتّاكة لمذاق الخاصّ والعامّ ويفعل الله ما يشاء. ***

ذكر خروج الفندقدار من ناحية الشام

ذكر خروج الفندقدار من ناحية الشّام حين عمد من يزينّون الدّنيا بقدرة اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها (¬1) فحملوا متاع ملك السّيارات من حانوت الحوت إلى منزل الحمل، ووضعوا صيت مقدم الربيع على لسان السّوسن والبلبل الهزّار، أخذت الأخبار تترى من ناحية «سيس» بأن جيشا كبيرا يتّجه من جانب الشّام إلى بلاد الرّوم، فتمّ تدوين الأوامر من حضرة السلطنة إلى الأطراف، لكي يتجمّع الجيش في ضواحي «قيصرية». فتحرّك جند المغول وجيش السلطان برعاية وقيادة كل من «تودون نوين» و «توقو آغا» و «معين الدين پروانه» من/ «قيصرية»، وسلكوا طريق «آبلستان». فلما بلغوا جبل «هورون» قال أصحاب الأخبار إن جيش الشام سينزل غدا عند الصّباح في صحراء «آبلستان». فاتّخذ الجيشان الرّومي والمغلي احتياطهما. وانطلقوا- في اليوم التالي- للهجوم نازلين من الجبل. فلما رأى «الفندقدار» آثار الغبار في الجوّ تحرّك على الفور، وحين وصل إلى الصحراء رأى الجيش قد اصطفّ صفوفا، وتواجه الجيشان. كانت طيور المغول رباعية الأجنحة قد انطلقت طائرة من جوف الأقواس «الشّدفية» (¬2)، فضاقت الأرض من ثلاث جهات على الشاميين. وشن «تودون» و «توقو» هجمات متواصلة، ومزّقوا الصفوف، ولم يتركوا أثرا من آثار الشجاعة والبأس إلا فعلوه. ثم انتهى الأمر بانتصار جيش الإسلام، وسقط توقو وتودون، ووضع ¬

(¬1) سورة الحديد: 17. (¬2) كذا في الأصل، ويبدو أنها نوع من الأقواس.

القائدان المغوليّان ومن معهم من الأبطال رؤوسهم على سرير الموت. وكان ما لا بدّ له أن يكون: وقُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (¬1). وولى «پروانه» الأدبار منهزما بقلب كالشّمع حين يذوب في النّار، ونزل «قيصرية» بعد يومين. وكان الصّاحب قد أركب السلطان، وأخذا يتجولان في صحراء المشهد وقد ركبتهما الأفكار والغصص. فإذا «بپروانه» يصل فجأة مع بضعة نفر كانوا قد خرجوا- ذاهلين عن أنفسهم- من تلك الورطة سالمين. وساروا جميعا من هناك مع الصّاحب والسلطان والأمير «پروانه» في الطريق إلى «توقات». وعقب انصرافهم جاء جيش الشام إلى «قيصرية»، وضربوا خيامهم في صحراء المشهد. ودخل «فندقدار الشّام» المدينة يوم الجمعة الخامس عشر من ذي القعدة سنة 685، وجلس على العرش، وجعل الخطبة والسكّة باسمه. ونظرا لأنّه كان قد تحرك بناء على العهد والاتفاق الذي كان قد أبرمه مع «پروانه» ثم رأى هاهنا خلافه، كما أنّ أحدا من أمراء الروم لم يبادر بالانضمام إليه، وأخذت دوابّ جيشه تتساقط وتنفق لانعدام العلف، فضلا عن أنه كان يخشى هجوم الجيش المغلي الفاتح؛ فقد نادى بنداء «العود أحمد» ثم ما لبث أن عاد أدراجه. فلمّا بلغ دمشق بعث به بعض غلمانه مسموما إلى العالم الآخر. ... ¬

(¬1) سورة يوسف: 41.

ذكر سبب حركة ركاب المسيطر على العالم سلطان وجه الأرض «الإيلخان الأعظم» إلى حدود بلاد الروم

ذكر سبب حركة ركاب المسيطر على العالم سلطان وجه الأرض «الإيلخان الأعظم» إلى حدود بلاد الرّوم (¬1) حين لحق السلطان «غياث الدين» والصّاحب «فخر الدين» و «معين الدين پروانه» بتوقات، أطلقوا على الفور «سيف الدين أربكي» إلى أعتاب [الإيلخان] للإخبار بالحال. فلما وصل إلى هناك وأفضى بما حدث، تحرّك الإيلخان بنفسه، وانطلق جيش جرّار قوامه أكثر من خمسين ألف فارس، قد سلّوا سيوفهم متجهين إلى بلاد الروم والشّام، [بينما اشتدّ لهيب الحميّة والحماية الإيلخانية] (¬2). فلمّا بلغوا حدود «أرزنجان» اتجهوا صوب «آبلستان» عن طريق «دفركي»، وبينما كان أهل «دفركي» جالسين التفتوا فجأة فإذا بفارس يركض هابطا بمحاذاة القلعة، تتبعه فرقة كبيرة من الجند. فتقدّم نفر من الأعيان لإفساح الطّريق للإيلخان، فقوبل إفساحهم بالقبول، وأسبغ عليهم من عطفه، ثم أمر بجماعة الفضوليين الذين كانوا قد أقدموا على اغتيال [غلام] (¬3) أولاد «تاج الدين زيرك» فنفّذ فيهم حكم «الياسا». وكان أحد المقيمين في «دفركي» قد نال من قبل ذلك جزاء سوء أدبه، حيث أنّه جاء لمشاهدة الإيلخان من شرفات القلعة وهو يحمل قوسا وسهاما، ثم صدر الأمر النّافذ بهدم ¬

(¬1) قارن أ. ع، 679. (¬2) كذا في أ. ع 679 - 680 وفي الأصل: «قويت الفتنة»، ولا محلّ لها. (¬3) إضافة من أ. ع 680.

قواعد القلعة. ثم سيق ركاب من به يسكن العالم ويهدأ نحو «آبلستان»./ وهناك أدرك السلطان «غياث الدين» والصّاحب «فخر الدين» و «معين الدين پروانه» السّعادة والشّرف بتقبيل الأرض. فلما لحقوا بأرض المعركة التي جرت مع الشاميين، ورأوا من قتلى جند المغول تلالا فوق تلال، ماج بحر غضبه ثم أمر بتنفيذ حكم «الياسا» في كل المتخلّفين. غير أنّ صاحب الدّيوان- رضي الله عنه- سكّن هذا الغضب، فأنقذ مائة إنسان وأربعة من شرك الموت. وصار القاضي «عزّ الدين الأرموي» و «فخر الدين كوچكي» و «نور الدين ولد قراجه» و «زين الدين حفيد هود» فداء لبقيّة الخلق ونالوا درجة الشهادة. ولما تعذّر توغّل المغل في ديار (¬1) الشّام تعذّرا تاما- لأن الشمس كانت قد تحّولت إلى برج الأسد (¬2)، أرسل [الإيلخان] رسلا بأن «الفندقدار» يغير كلّ مرّة على قوّات الحراسة التابعة لنا على الغفلة، ثم يفرّ إلى مخبئة. فإن كان يزمع الحرب، ولا يريد أن يضع رأسه في دائرة طاعتنا فسوف يمزّق إربا، وسوف يشهد بنفسه ما يجري عليه من أسباب الخذلان وشقاء الغريب. ثم إن ابن الإيلخان حاكم العالم توجّه إلى «قونية» لقمع «القرامانيين» و «جمري»، وكانوا قد جلسوا على العرش بها، وصدر الأمر بأن يكون الصّاحب ملازما لركابه الملكي، وأن يكون پروانه ملازما للموكب الأعلى ¬

(¬1) كذا في أ. ع 681، وفي الأصل: دريا: بحر، وهو تصحيف. (¬2) في الأصل: باشد: تكون، ولا شك أنها باسد: يعنى في الأسد، قارن أ. ع 681.

[للإيلخان نفسه]. بلغوا حدود «كوغونيه» و «كماخ» فجاء الأمر «لپروانه» باستسلام قلعة [كوغونية] (¬1)، واستنزال محافظها، وكانت ملكا له، فلمّا ذهب إلى هناك، واستدعى المحافظ، أبدى مقاومة شرسة، فرجع «پروانه» خائفا خائبا لخدمة [الإيلخان]، فتزايد بتلك المقاومة ما كان لديه من غيظ بسبب خذلان «تودون» و «توقو». / واختار على «پروانه» موكلين بحيث لم يكن بوسعه أن يتوقّف في موضع أو يتخلّف فيه دون مراقبتهم (¬2). فلما وصلوا «آلاطاغ»، كان الرّسل الذين أرسلوا إلى الشام قد عادوا من عند «الفندقداري»، وأتوا معهم بالرّسائل الّتي كان «پروانه» قد أرسلها إليه لإغرائه وإخراجه، وبعثها على يد الرسل برا وبحرا. فأبلغ هؤلاء الرّسل رسائل بليغة مسمومة لاستئصال حياة «پروانه». على أن نسوة «تودون» و «توقو» وأولادهما كانوا- قبل ذلك- يبالغون كل يوم للتأليب على «پروانه» والتّحريض على قتله. ورغم أن [الإيلخان] كان يتوقّف في سؤاله عن قتل السلطان «ركن الدين» فإن هذا الأمر كان الرّكن الأعظم عنده، وكان يسلك طريق «يمهل ولا يهمل» لمصلحة ما. فلمّا وصلت الرّسائل والكتب من جانب «الفندقدار»، لم يبق بعد مجال للإهمال والإمهال. واعترف بذنبه، فنفّذ فيه حكم «الياسا». ... ¬

(¬1) زيادة من أ. ع، 68. (¬2) قارن أ. ع، 683.

ذكر محاسن أوصاف معين الدين پروانه تغمده الله برحمته

ذكر محاسن أوصاف معين الدين پروانه تغمّده الله برحمته كان الأمير الشّهير «معين الدين سليمان بن علي الديلمي» طودا أشمّا وبحرا خضما في الرّزانة والدّراية والكفاية. وكانت خلواته مملوءة دائما بالعلماء والأتقياء والزّهاد والعبّاد. وكانت رواتب صلاته في كل البلاد من كل فجّ على كلّ يتيم وأرملة كالشّمس المشرقة وكفيض البحار التّي لا تحدّها حدود. ومع أن حادث السلطان ركن الدين ينسب إليه إلا أن ربّ العالم عالم بأن أسّ ذلك الكيد ومنشأ ذلك الشّر لم يكن سوى الطّينة القبيحة والجبلّة الرذلة للزنيمين اللّئيمين ولدي الخطير الزنجاني، ولم يكن هناك من جان جاحد إلّا هما. ويشهد على براءة ساحة «پروانه» من ذلك معشر الجنّ والأنس وفق قول الله تعالى: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا (¬1). أجل، وحين بلغ خبر استشهاده سمع جميع الأمم، كان الحنين يتجاوز في مأتمه الفلك الأعلى، وأنشأ صاحب الدّيوان الأعظم شمس الدين (¬2) - رحمة الله عليها- هذين البيتين [بالعربية]، فقال: لمّا رأيت خروج التّرك من سبأ ... مغافضا ما لهم عقل ولا دين أنشدت مكتئبا ما قيل في قدم ... مضى سليمان وانحلّ الشياطين ¬

(¬1) سورة البقرة: 102. (¬2) هو الوزير شمس الدين محمد الجويني، تولى وزارة السلطان آباقا بن هولاكو في سنة 657، وظل متربّعا على دست الوزارة الإيلخانية حتى قتل سنة 683، وعرف بلقب صاحب الدّيوان.

ذكر سيطرة القرامانيين وتسلط جمري

ذكر سيطرة القرامانيين وتسلّط جمري حين شرع «ابن الخطير» بالجهر بالعصيان، وأخذ لفرط ما به من حماقة يصدّق خيالات جنونه، واختار موكب السلطنة وأركان الدولة موافقته مضطرّين، فانصرفوا عن قيصرية إلى «نكيدة»، وأخذ ينجذب إليه كلّ من كان في طينته وجبلّته كفران النّعمة ومخالفة أسرة «قلج أرسلان» الحاكمة، بمقتضى القول: «وشبه الشيء منجذب إليه». وبالنظر إلى أن «شرف» كان يستروح هواء الشّام وكان له ولوع وشغف تامّ «بالفندقداري»، فقد اجتمع له في «نكيدة» جمع حاشد من كل فئة وطائفة (¬1). أما أولاد «قرامان» فقد كان أبوهم في ابتداء حاله من فحّامي التّركمان بنواحي الأرمن، وعرف بقمر الدين، وكان يأتي بالفحم من تلك الجبال- بصفة مستمرة- إلى «لارنده» ويكسب بذلك قوت عياله وأطفاله. وفي وقت الضّعف والاضطراب الذي حدث ببلاد الرّوم عندما توغّل «بايجو» فيها سنة 654 (¬2) انتهز قرامان الفرصة وشرع- مع أبناء جنسه- في السّرقة/ وقطع الطّرق، وانتقل من مرتبة السّير على الأقدام إلى ركوب الخيل. ثم إن السلطان «عزّ الدين» حين فارق البلاد، ودخل شطرا المملكة في تصرّف السلطان «ركن الدين» استدرج «قرامان» إلى فخّ طاعته بعد أن أغراه بالآمال والوعود، وأمّره وأعطاه منصبا وإقطاعا كبيرا (¬3). فحصل له بذلك الكثير ¬

(¬1) قارن أ. ع، 687. (¬2) أيضا، (¬3) قارن أ. ع، 688.

من المال والمتاع، فلمّا استغنى تسلّلت التّخاليط الفاسدة إلى دماغه هو وأخيه «بونسوز». وكانا في كل حين- رغم كونهما في قيد الطّاعة- يقطعان الطّريق بحكم المثل: «الحرفة لا تنسى». وكان السلطان «ركن الدين» يشتدّ به الغضب لذلك ويزمع على إنزال العقاب والزجر بهما، لكنه لم يكن يفعل شيئا إذ كانت لهما دار في ولاية الأرمن وكان يتوقى عصيانهما وتمرّدهما. ولما توفي «قرامان»، وحضر أخوه «بونسوز» - وكان أمير حرس السلطان «ركن الدين» بملازمة العبوديّة لأعتاب [الخان]، حبسه السلطان، وأرسل أولاد «قرامان» - وكانوا ما يزالون أطفالا- إلى قلعة «كاوله»، وبعد وفاة السلطان أخذوا ينقلونهم ويحوّلونهم من قلعة إلى أخرى في أنحاء البلاد. ثمّ أطلقهم «پروانه» بعد مدّة من الحبس. ولم تلبث تلك الثعابين الصّغيرة أن أصبحت بمرور الأيام حيّات هائلة، فمارسوا بأيديهم تخريب البلاد وتعذيب العباد، وكانوا يظهرون حقدهم على السلطان «ركن الدين» بمخالفة ابنه. وحين سمعوا بميل «ولد الخطير» إلى الشاميين انضمّوا إليه، فسلّم ذلك الجاهل قيادة قوة «أرمينيا» إليهم بعد أن كان قد عهد بها إلى «بدر الدين إبراهيم ولد القاضي الختّني». ولما تمّ القضاء على «شرف» بمنطقة «كدوك»، وتناقصت الفتن وهدأ التّوتّر، أرسل «پروانه» فرقة من العساكر «لأرمينيا» لتأديب أولاد قرامان،/. فعجزت تلك القوة عن قمعهم بسبب صعوبة الممّرات، بل وقع الكثيرون منهم أسرى مقبوضا عليهم. فتزايدت شوكة أولئك الخوارج. ولما اتّفق في العام التّالي «للفندقدار» أن تغلّب على جيش التّتار، ووصلت

تلك الصّيحة لسمع نائب السلطنة «أمين الدين ميكائيل» وأولاد الصّاحب الذين كانوا قد ذهبوا إلى «لارنده» لدفع الخوارج، جاءوا إلى «قونية» للاحتياط للعاصمة. ونظرا لأنّ السلطان والصّاحب كانا في العبودية ملازمين لموكب [الإيلخان]، ولم تكن أحوالهما معلومة، سار أولاد الصّاحب من قونية إلى «قراحصار» وبقي الأمير النّائب «وبهاء الدين» ملك السّاحل- وكان من التابعين لقونية- بالمدينة. فلما رأى أتراك [قلعة] (¬1) «أرمناك» وأولاد قرامان «قونية» خالية، دعوا التّركمان من الولاية إلى الغارة. وذات يوم أخذ «محمد بك» - وكان قائدا لهم وذا شأن بينهم في ثقافته وثباته- أخذ يقول لبعض جلسائه على سبيل التمنّي: أما وأنّه لم يتمخّض أمر عن «الفندقدار» فلو كان يقع بأيدينا سلطان سلجوقي، فإن أحدا لن يطاولنا أبد الزمان. ولو أننّا أرسلنا إلى ملك الرّوم رسولا، وطلبنا أحد أولاد السلطان «عزّ الدين» الذين بقوا عنده رهائن معوزين فأجاب مطلبنا لكان من المتيقّن أن يتجاوز شأننا في أوج العظمة ذروة الأفلاك. وفي تلك الأيام كان هناك شخص «جمري» (¬2) سوقيّ الطّريقة حرفوشا، كان يتنقّل دائما بين قبائل التّرك وينسب نفسه إلى السلطان عزّ الدين. فرآه في الطريق ذات يوم ذلك الشّخص الذي كان قد سمع كلام «محمد بك»، وكانت له سابق معرفة بالجمري، فأخذه وذهب به إلى «محمد بك» قائلا: ها هو ذا ابن السلطان «عزّ الدين»، ولقبه واسمه: غياث الدّين سياوش، وأنه ¬

(¬1) إضافة من أ. ع، 687. (¬2) في الأصل: جمري: «بلغة ما وراء النهر- تقال للسوقي قليل الأصل، والجلف والمتسوّل، وذي الحاجة .. إلخ» (برهان قاطع).

تعلّم الخطّ على يديّ في تلك الدّيار. وحين سمعوا هذه الشهادة من تقيّ الشقيّ، صدّقوها، وبايعوا الجمري على السلطنة، وأبدلوا بملابسه الصّوفية الخشنة ملابس مخيطة بالذّهب والنسيج، وانطلقوا إلى «قونية» مع التّركمان من ذوي الأحذية المزوّدة بأربطة السّاق الطّوال (¬1). فلما وصلوا إلى صحراء «فليوباد»، أرسلوا رسولا إلى النّائب قائلين: إن ولد السلطان «عز الدين» معنا، وشهد على صحة نسبه ثقاة، فينبغي أن يتقدم النّائب بأسرع ما يمكن لتقبيل اليد، وإن كان لديه أدنى شك فما عليه إلّا أن يرسل بواحد من كبار رجال القصر القدماء لكي يتحقّق من أمر هذا الملك ببصيرة ثاقبة، [فإن وجده صادقا في انتسابه فلا مناص لنا ولكم من الانقياد له والامتثال لأمره] (¬2)، وأما إن كان ما يقوله كذب فلن نتوقف قط في إنكاره [وإبطال زعمه] (2). وظلّ الرّسل يتقدّمون الواحد تلو الآخر لترديد هذا المعنى، ولكن قلما التفت إليهم النائب بل أمر بقتلهم وتكبيلهم. وحين رأى أولاد قرامان أن النائب ثابت على الإنكار مصرّ عليه، توجّهوا إلى المدينة بجيش كبير. فذهب «أمين الدين» ومعه من كان بالمدينة من جنود لمقابلة «الجمري» «ومحمد بك»، ولما لم يكن بوسعهم المقاومة، فقد ارتدّوا إلى المدينة منهزمين، ووصل التّركمان إلى حافّة الخندق، وأضرموا النّار في بوّابة «اسب بازار» و «چاشني كير». ¬

(¬1) في الأصل: چارق پوش: و چارق: «نوع من الأحذية الجلدية المزودّة بأربطة طويلة تلفّ على ساق الرّجل» (فرهنك جديد). (¬2) زيادة من أ. ع، 691.

وتحالف معهم جماعة من السّفلة و [الإخوان] (¬1)، وأمدّوهم بعيدان الحطب (¬2) والقشّ. فلما احترقت البّوابة اندفع التّركمان إلى داخل المدينة، ولما أبلغوا النّائب بتلك الجرأة، ركب لدفعهم حتى وصل إلى البّوابة، وحين رآهم يحرقون الباب وأن الأمر يتجاوز حدّ التدارك، عدّ الفرار لازما فتحنّك بشال العمامة (¬3) وأخذ يركض هنا وهناك، ويقول بصوت عال لخداع الأتراك/: أين النّائب؟ وأخذ يكرّر ذلك. حتى إذا وصل إلى باب قصره نزل، ودخل من البّوابة متلصّصا واختفى ببيت أحد أتباعه. وانتشر التّركمان المفسدون في المدينة كالجراد المنتشر، فحطموا أبواب الأنزال (¬4) - وكانت مخازن لتجار الدّيار والأمصار- كما حطّموا أبواب قصور الأمراء وبيوتهم بالعصىّ والبلط، وجمعوا الأمتعة وربطوها رزما وملأوا الأكياس بالنّقود، وظهرت للعيان من جديد حكاية الغزّ واستيلائهم على نيسابور (¬5). وفي اليوم التالي أتوا «بالجمري» فأدخلوه المدينة، وأجلسوه في دار الحكم ¬

(¬1) إضافة من أ. ع، 691. (¬2) كذا في أ. ع، أيضا: نى، وفي الأصل: دونى: وعاء كبير. (¬3) في الأصل: أدار شال العمامة على رأسه على شكل: تحت الحنك. وفي القاموس تحنّك: أدار العمامة من تحت حنكه. (¬4) في الأصل: كاروانسراها: جمع نزل، وهو ما يشبه الفندق في أيامنا هذه. (¬5) عبارة الأصل مضطربة للغاية، راجع أ. ع، 692. وكان الأتراك الغزّ قد اجتاحوا خراسان في عهد السلطان «سنجر السلجوقى» سنة 548 هـ، وهزموا السلطان نفسه واعتقلوه، وألحقوا الدّمار الشدّيد حينذاك بمدن خراسان العامرة. انظر ابن الأثير في حوادث السنة المذكورة: الكامل 11: 176.

على العرش. وكان النّائب قد انتهز الفرصة ووثب خارج المدينة، عازما على التوجّه إلى «توقات» - وكانت مجمع مواكب السّلطنة وأمراء الدولة، غير أنّهم أمسكوا به في الطريق قرب «خان قيماز»، وجيء به إلى «محمد بك»، فعذّبوه، ووجدوا على رباط إزاره عقدة، ففكّوها، فوجدوا بداخلها أقصوصة من ورق مختوم بالشّمع، تشتمل على بيان الكنوز ومواضع الخزائن، فأوثقوا يديه في الحال، ثمّ انطلقوا مسرعين إلى المدينة، وأخذوا- مسترشدين بتلك الورقة- يحفرون المواضع، ويحملون على الجمال والبغال أموالا دون مكابدة أيّ عناء، ثم إنهم أبلغوا النائب منزلة الشهادة مع «بهاء الدين» ملك السواحل. فلمّا فرغوا من أمر النّائب، جعلوا أخلاط المدينة وأعيانها يقسمون على مبايعة «الجمري» بالسلطنة، فخشي أهل المدينة على أرواحهم فبايعوا، فلما تمّ ذلك طلبوا من مقبرة السلاطين المظلّة والرّاية الخاصّة بالسلطان علاء الدين تبرّكا. ولهذا السبب لم يعاملوا أهل القلعة معاملة أهل المدينة سواء بسواء، [إذ قرنوا سؤال أهل القلعة بدفع الشرّ ورفع الأذى والضّرر بالإيجاب] (¬1)، فأنزلوا إليهم [المظلّة والرّاية] (1) من فوق السور. / وفي اليوم التّالي (¬2) طاف «جمري» حول المدينة بكل زينة وأبهّة، وبعد نزوله أقاموا الدّيوان، وكتبوا الأوامر إلى الأطراف، وقررّوا أنهم لا يتكلّمون من الآن فصاعدا إلا باللّغة التّركية؛ وإن هي إلا بضعة أيّام حتى سارت الأمور وفق ¬

(¬1) إضافة من أ. ع، 696. (¬2) كذا في أ. ع، أيضا، وفي الأصل: ذات يوم.

مرادهم (¬1). وتم إسناد الوزارة «لمحمد بك»، كما أسندوا مناصب الدّيوان لكلّ خسيس وضيع. وانتهى أمرهم إلى الصّلح مع أهل القلعة على أربعين ألف درهم. وبعد أداء المال فتح باب القلعة يوم الخميس العاشر من ذي الحجة سنة 676، ودخل «جمري» القلعة وجلس على عرش السّلاجقة، وحضر القضاة والأمراء والحفّاظ، وأقاموا محفلا، ثمّ ذهب «جمري» إلى المسجد الجامع حين حان وقت الصّلاة، فخطبوا خطبة باسمه، وضربوا السّكة بلقبه. وطلب «محمد بك» يد بنت السلطان «ركن الدين» لجمري، فرضيت أمّها «غزيلبا» بشرط إمهالها أربعة أشهر، لترتيب عدّة الجهاز من حليّ وثياب بما يناسب بنات السلاطين (¬2)، فأعطوها المهلة وفقا لملتمس الوالدة. ثم إنهم توجّهوا إلى «آقشهر» مشاة وركبانا، وذهبوا لمحاربة أولاد الصّاحب. ... ¬

(¬1) قارن أ. ع، 696. (¬2) قارن أ. ع 697.

ذكر محاربة جمري لأولاد الصاحب ونكبتهم في تلك المعركة

ذكر محاربة جمري لأولاد الصاحب ونكبتهم في تلك المعركة حين سمع أولاد الصّاحب بأن جمري فتح «قونية»، وأنه قتل «أمين الدين» النائب «وبهاء الدين» ملك السّاحل، وأنهم شملوا المدينة بالغارة العامّة، ولم يبقوا على صغير أو كبير، استعرضوا جنودهم ووزّعوا خمسين ألف درهم (¬1) على الأتراك والكرميانية، وجاءوا إلى مكان يقال له «چاي دكرمان». فلما سمعوا أن «جمري» و «محمد بك» وصلا إلى «آقشهر» بجند كثيرين، ارتحلوا عن «چاي دكرمان» بأقصى ما يمكن من سرعة حتى بلغوا «آقشهر» عند صلاة العشاء. وانطلقوا لمقابلة جمري في/ «قرية قوز آغاج»، وكان الخوارج قد نزلوا بقرية «ألتونتاش»، فلبسوا لأمة الحرب في الحال، ودفعوا بالمشاة أمامهم، فلما أصبح النّهر حائلا بينهم أراد محمد بك أن يعبره لمحاربة ولد الصّاحب، فأخذ أحد الأتراك بعنان حصانه، [ومنعه من العبور] (¬2)، فاصطف محمد بك مع جنده صفوفا على حافّة النّهر، ولبث ينتظر ما سوف يحدث. فحمل الأمير تاج الدين الابن الأكبر للصّاحب- لفرط ثقته بنفسه ولأنه لم يكن يعير الأتراك اهتماما- حمل على «محمد بك» ووصل إلى منتصف النّهر، فانطلق محمد بك هو الآخر بحصانه إلى النّهر حاملا معه رمحا، وطالت ¬

(¬1) وردت في الأصل هنا كلمة «ديكر»: أخرى. ولا محلّ لها، راجع أ. ع 698. (¬2) زيادة من أ. ع، 698.

المقاومة والمقارعة بينهما، وفي نهاية الأمر سقط الأمير «تاج الدين» من فوق حصانه وسط الماء، فأسرع التّركمان إليه واحتزّوا رأسه. ولم يخفّ لنجدته في تلك الساعة أحد من بين الجند الذين رغدوا بالعيش في ظلّ فضله ورأفته، اللهمّ إلا أحد الخدم، وانقلب الأتراك الكرميانية على أعقابهم- وهم على الدوام صورة بلا معنى- وتفرّق ما تبقّى من الجند. ووقعت للخوارج من تلك المعركة أموال جزيلة. وانتهى المطاف بالأمير «سعد الدين خواجه يونس» إلى «سفر يحصار»، فأمسك به أهل المدينة، وسلّموه «لجمري» و «محمد بك»، فطيّبا خاطره في أوّل الأمر، وقرّرا أن يدفع دية قدرها مائة وأربعين ألف درهم، فرضي بقرارهما، وأطلق الرسّل لطلب المال، غير أنّ هذين الغدّارين عدلا عن اتفاقهما، وقتلا «خواجه يونس» شهيدا. ثم إنهم توجّهوا لمحاصرة «قراحصار دوله» فلمّا عجزوا عن فتحها رجعوا إلى «قونية» / وأشاعوا في النّاس أن «جمري» سيتوجّه إلى «أرزن الروم» لمحاربة المغل. فنزلت العساكر بصحراء «فيلوباد»، وكان «جمري» و «محمد بك» يدخلان المدينة كل صباح، ويذهبان عند المساء إلى «فليوباد». وفي تلك الأثناء وصل الخبر بأن السلطان «غياث الدين» والصّاحب «فخر الدين» يتقدّمان في خدمة ابن الخان الأعظم بجيوش طبقت شهرتها الآفاق. فاضطرب التّرك اضطراب الزئبق، وأخفوا الخبر، وجمعوا كلّ ما كانوا قد حصلوا عليه من غاراتهم على قونية وآقشهر وغيرهما وحمّلوه على الجمال

والبغال، وأرسلوه إلى «فيلوباد» (¬1)، ثم خرجوا في إثره من المدينة. ولو كان سراة قونية قد علموا بأن ولد الخان الأعظم في طريقه إلى الوصول، لما أتيح لأي من الخوارج الخروج من المدينة. فلما وثبوا خارج المدينة، ظلّوا سائرين بخيولهم طوال الليل، وما أصبح الصّباح حتى كانوا قد بلغوا «سرخوان» - والمسافة بينها وبين «قونية» بالنسبة للرّاكب مرحلتان كبيرتان. ونزل الصّاحب في خدمة ولد الخان، بينما انطلق الجيش في أعقابهم، فعثر الجند على المدعو «چيلاق» - وكان قائدا لقوة «آقشهر»، كما عثروا على أمير حرسهم- وكانوا قد قلّدوه قيادة قوة «آبكرم»؛ فقتلوهما، وأسروا النساء والأطفال. ثم إنهم انطلقوا بعد بضعة أيام [عائدين إلى «قونية»، فلمّا تحقّق سكان «قونية» وأكابرها من ذلك خرّبوا عقود البّوابات، ثم خلعوا الأبواب من الدّاخل ونصبوا المجانيق، وعمّروا الشّرفات التي كان «بايجو نوين» قد خرّبها واستعدّوا للمحاصرة والدّفاع] (¬2). فلمّا علم «جمري» و «محمد بك» / بعودة ابن الخان والجند، قفلوا راجعين إلى «قونية» بحشد كبير، وأرسلوا رسولا بأن يفتح باب المدينة، لكي يدخل الجيش ويتسّوق. فنهض «قاضي القضاة في العالم: «سراج الملة والدين أبو البنا محمود الأرموي» - رضي الله عنه- لتحريض أهل المدينة على دفعهم ومقاومتهم، وأصدر فتوى بهذا الشأن، وصعد بنفسه على السّور، وأطلق ¬

(¬1) قارن أ. ع، 699. (¬2) نص عبارة أ. ع، 700، وعبارة الأصل مضطربة.

عليهم سهما. فلما وصل هذا الخبر إلى خدمة [الإيلخان] أعرب عن رضاه عن قاضي القضاة ومنحه مرسوما وعملة. ولما يئس الأتراك من أخذ المدينة عمدوا إلى المناطق الواقعة خارجها فأغاروا عليها، وأحرقوها، وخرّبوها، ثم انصرفوا سالكين الطريق إلى «أرمينيا». ***

ذكر دخول صاحب الديوان بلاد الروم وضبط أحوال المملكة

ذكر دخول صاحب الدّيوان (¬1) بلاد الرّوم وضبط أحوال المملكة لمّا كان اضطرام جمرات الفتن واضطراب سكرات المحن يتزايد مع تواتر الأيام (¬2) بسبب هجوم الخصوم، وأخذ كل من اتّخذ التمرد حرفة والفساد فكرة يشنّ الغارات على النّاس من الجبال والأحراش، وصار هذا الأمر معلوما لدى الحضرة الإيلخانية، نفذ الأمر الأعلى بأن يتوجّه صاحب ديوان الممالك- أعلى الله درجته- إلى بلاد الرّوم لاستمالة الرعيّة وعمارة الولاية وضبط الممالك وتنقيح حسابات أبواب المال والأملاك، وإصلاح الفاسد، وإرغام الحاسد، وتأليف الشارد ودفع المعاند. ووفقا للحكم تحرّك الصّاحب حتى بلغ شاطئ بحر المغرب من ناحية «لارنده»، وصمّم على دفع الجمري والقرامانيين. فلمّا لحقوا بتلك الحدود أسروا حشدا هائلا من أتراك «الأرمناك»، وحصل الجيش الجرّار على مواش كثيرة. ولمّا كان/ الشتاء قد بادر بالهجوم، وتعذّر عبور الممرات بسبب تراكم الثّلوج، فقد آثروا الرّجوع، وعزم «كهوركا» وصاحب الديوان على اتّخاذ معسكر شتوي. ثم توجّه السلطان «غياث الدين كيخسرو» والصّاحب نحو «قونية»، وشغلوا بالإعداد للعودة إلى مقارعة أولاد قرامان، وانطلقوا مع كتيبة من جيش المغل كانت معهم صوب أولئك المخاذيل. فلمّا وصلوا إلى صحراء «موت آوا» تقدّم خمسون من المغل وخمسون من المسلمين كطليعة لهم. ¬

(¬1) يريد به شمس الدين محمد الجويني الوزير، انظر فيما سبق، ص 391 هامش 2. (¬2) كذا في أ. ع، 701، وفي الأصل: المادة.

كان «الجمري» و «محمد بك» حين سمعا برجوع العساكر إلى المعسكر الشّتوي وعودة السلطان والصّاحب متوجّهين إلى مناطق الاصطياف، [قد خرجا من مكمنهما الذي كانا يتواريان فيه] (¬1) فبقي «محمد بك» مع أخويه وابن عمه وبضعة نفر من أقاربه- كان يثق في شجاعتهم- لتسقّط الأخبار، وأرسل «بالجمري» إلى داخل الحصون، وصعد هو مع تلك الجماعة فوق تلّ، فرأى كتيبة من طليعة المغل. فهاجمهم بالرّمح، ولأنّ المكان كان وعرّا وممرا ضيّقا صعبا (¬2)، فقد نزل المغل، وأمطروهم بالسّهام. وفي تلك الأثناء أصاب «محمد بك» سهم في مقتل، فانكفأ على وجهه، فتقدّم أخوه لكي يحمله، فتلقّى طعنة بدوره، فانطلق أخوه الآخر وابن عمه مهاجمين، فأصيبا أيضا بالسّهام، وانكفأوا بأجمعهم على وجوههم، ولاذ الباقون بالفرار. ولم يكن لدى المغل والمسلمين علم بأمر القتلى، فأسرعوا إليهم لكي يأخذوا سلاحهم وسلبهم، فلمّا أقاموا أحدهم وجدوه «محمد بك»، ثمّ وجدو أخويه وكان الرّابع ابن عمّه. فحزّوا رؤوسهم في الحال وحملوها إلى خدمة السلطان والصّاحب. وحين علم النّاس بذلك أبدى الجميع دهشتهم للسّرعة والسهولة التي انطفأت بها شعلة دولة «الجمري» بسبب مقتل محمد بك. وفي اليوم التالي غسلوا الرؤوس/ ومشّطوا الّلحى، ثم رفعوها وطافوا بها حول قلاع الأرمن- وكانت تلك القلاع قد أعلنت العصيان تأييدا لهم. وتوجّه السلطان والصّاحب ¬

(¬1) إضافة من أ. ع، 704. (¬2) قارن أ. ع، 704.

إلى شاطئ البحر، وجعلوا كلّ من وجوده علفا للسّيف دون إبطاء، وقفلوا راجعين بالأموال والغنائم. وذهب عساكر المغل من طريق «نكيدة» إلى مشتى «قازآوا»، وجاء السلطان والصّاحب إلى قونية «كعود الحليّ إلى العاطل» (¬1) وظلّ الصّاحب طيلة الوقت الذي أقامه بمشتى «قازآوا» يرسل رسائل الاستمالة إلى أطراف البلاد مثل «قسطمونية» و «سيمره»، و «سينوب» ونواحي «الأوج» مع الخلع والأموال، واستدرج سائر المتمرّدين إلى حلقة الطّاعة ودائرة العبوديّة، وألغى الرسوم المحدثة والقواعد المستهجنة، وعيّن على كل شخص ضريبة بقدر إمكانه ومكانته دون محاباة أو استثناء. فلما انتظمت المهمّات في بلاد الرّوم واستقرت أمورها وضبطت وجوه أبواب المال، وألقى الصّاحب نظرة في دفاتر الحسابات الخاصّة بالأموال المتبقّية التّي كان الصّاحب الطّغرائي قد اقترضها، والأموال المستحقّة لهيئة الدّولة من رأس المال، والرّبح الذي تمّ احتسابه على نوّاب ديوان السلطنة، وجد أموالا متراكمة لاقبل لنوّاب السلطان بأدائها بأي من وجه من الوجوه (¬2). ورعاية لغبطة [الخزانة العامرة وحفظا] (¬3) لشرف السلطنة [السّلجوقية] (3)، عمد الصّاحب إلى ضمّ وإضافة أرزنجان وتوابعها بالمبايعة الشرعيّة، وكذلك إضافة بعض متعلّقات الخاصّة الإيلخانية. وبذلك تمّ التخفيف عن كاهل أحوال هذه الأسرة في حمل أثقال تلك القروض. ¬

(¬1) كذا في الأصل بالعربية. (¬2) قارن أ. ع، 722. (¬3) أ. ع، أيضا.

ولما تيسّر الفراغ من المهمّات كلّها، أرسل السلطان «غياث الدين كيخسرو» والصّاحب «فخر الدين» لمحاربة «الجمري»، وتوجّه بنفسه إلى خدمة حضرة الإيلخان، وترك ابنه «شرف الدين خواجه هارون» في البلاط كوصيف ل «كوهركا»، فحرص على القيام بالمهامّ على النحو الواجب. ***

ذكر محاربة السلطان غياث الدين كيخسرو ابن قلج أرسلان للجمري الخارجي

ذكر محاربة السلطان غياث الدين كيخسرو ابن قلج أرسلان للجمري الخارجيّ حين توجّه صاحب الديوان إلى خدمة الإيلخان، اصطحب معه المستوفي (¬1) من أجل عرض أحوال [بلاد] الروم. بينما ذهب السلطان والصّاحب [فخر الدّولة والدّين] (¬2) من نواحي «قاز آوا» إلى «أنكورية»، وكتبا الأوامر إلى كلّ ناحية لدعوة العساكر، كان أول من تقدّم ملبّيا الدعوة «ولد عليشير كرمياني» وبضعة نفر من غلمان المرحوم «پروانه» - ممّن كانوا قد نجوا من معركة «توقو» و «تودون» وتفرّقوا. وما لبث أن تجمّع بعد بضعة أيام جند كثيرون، واتّجهوا إلى «ترخيلو» - وتقع حوالي «عمّورية»، وكان قد تيسّر للخليفة «المعتصم» فتحها، وهي التي أنشد أبو تمّام قصيدة «السّيف أصدق أنباء من الكتب» في فتحها. فلما اجتازوها وبلغوا «بيدي قاپو»، وقفوا على خبر مفاده أن «الجمري» قد نزل مع عساكره في «بيكارباشي»، وأنه يهمل الاستقبال. فانطلق السلطان والصّاحب- متوكّلين على حول الله عزّ وجل- صوب «مليفدون»، وعبرا جسر نهر «سقرية». وألقت طليعة الجيش القبض على رجلين أو ثلاثة من طليعة «الجمري»، وجيء بهم إلى «طرمطاي» - وكان أمير الأمراء (¬3)، ¬

(¬1) هو «أبو المحامد محمود ابن أمير الحاج، نائب السلطنة والحاكم، وقاضي ديوان المملكة» (أ. ع، 725). (¬2) أ. ع، أيضا. (¬3) في الأصل بكلربك.

فبعثهم إلى دهليز السلطنة إلى أن أرسلوهم من هذا العالم إلى العدم تحت العلم. وسرت شائعة في الجيش فجأة بين الصّلاتين يوم الخميس السّابع من المحرّم سنة 676 بأن عساكر الخوارج قد برزت. فلبس الجند لأمة الحرب وانطلقوا، فلما التحم الجيشان، شن الخوارج في الصّدمة الأولي هجوما ضخما./ وكان يخشي أن يقع محذور. فانحدر بغتة «عزيز الدين محمد بن سليمان الطّغرائي» و «بدر الدين إبراهيم ولد الختّني»، و «علم الدين قيصر» الخادم من فوق الجبال مهاجمين، فسوّوا جموع الأتراك بالتّراب. وفي الحال انتزع «علم الدين قيصر» مظلّة السلطان «علاء الدين» - التي كان «الجمري» قد أخذها من قونية، وأتى بها إلى حضرة السلطان. وتمّ لهم بعد ذلك أسر «ساروغلا» - وكان قائدا ضخم الجثة في جيش «الجمري» - وهو الذي قضى على أبناء الصّاحب- فأتوا به إلى السلطان والصّاحب في قلب الجيش، فاحتّزوا رأسه في الحال. ووقع «الجمري» في تلك الليلة أسيرا بيد بعض الأتراك التّابعين «لولد عليشير كرمياني»، فألقوا ببساط على رأس ذلك الأسود الحظّ، وأخفوه عن الرّفاق، ثم أرسلوا رسولا إلى السلطان والصّاحب لإنهاء الأمر. فأصدر السلطان أمرا «لجمال چوبان» بإحضاره، فلما أتوا به أخذ يهذي بألفاظ بذيئة وهذيانات مشوّشة. فحمله الجلّادون إلى غرفة الإعدام، وسلخوا جلده وهو حيّ، ثم ملأوا الجلد بالقشّ، وطافوا به حول مدن البلاد. وحين تسلّلت السّعادة البالغة إلى القلوب بسبب ذلك الفتح الجسيم، وصل

«طايبوغا» - وكان قد نصب رئيسا (¬1) على «سينوب»، وأخبر بأن «الجانيتي» عزم على مهاجمة «سينوب» بالسّفن الحربية، وأن الأتراك ال «چنية» قد تصدّوا له، وأشعلوا في روحه النّار وهو وسط الماء، فعاد خائبا خاسرا. فمنح «طايبوغا» ملكا حسنا بسب هذه البشارة، وقدم من هناك إلى صحراء «برغلو». ولقد جأر أنصار الدّولة الذين كانوا بمنطقة «لاديق» و «خوناس» / بالشكوى من «علي بك» لأنه كان يلوي رأسه عن حلقة طاعة السّلاجقة ويتولّى جانب الأجانب. فألقوا القبض عليه، وأرسلوه إلي «قراحصار دوله»، فمات هناك من الخوف والرّعب. ثم إنّ السلطان أخذ يطوف بعد ذلك في «قراحصار» و «صندقلو» و «جهود»، لكي يعمل على ضبط الولاية الثّائرة. وفجأة رجع ملك الأمراء «جلال الدين المستوفي» من لدن الحضرة الإيلخانية، ومعه أمر بإسناد نيابة الحضرة العليا للصاحب [فخر الدّولة والدّين] وإسناد نيابة السلطنة له شخصيا. وبعد فترة من الوقت توجّه «عزيز الدين الطّغرائي» إلى البلاط الإيلخاني، وأحضر أمرا بإسناد منصب أمير الأمراء إليه. ... ¬

(¬1) في الأصل «متطاول سينوب»، وواضح أن متطاول كلمة عربية الأصل، من تطاول، يعني ترفّع (المعجم الوسيط)، والمتطاول إذن، هو من تم تنصيبه رئيسا.

ذكر عبور السلطان غياث الدين مسعود بن كيكاوس من بحر الخزر إلى بلاد الروم في شهور سنة تسع وسبعين وستمائة

ذكر عبور السلطان غياث الدين مسعود بن كيكاوس من بحر الخزر إلى بلاد الرّوم في شهور سنة تسع وسبعين وستّمائة حين شدّ السلطان المغفور له «عزّ الدين كيكاوس» - أنار الله برهانه- رحاله من البلاد بسبب ما تنطوي عليه دخائل الجاحدين من كيد وجبلّتهم من خبث، أقام زمنا في «استنبول»، ثم وقع من هناك بيد «القفجاق». وأبدى- طيلة ثمانية عشر عاما- تجلّدا واصطبارا لما لقيه من حوادث الزّمان، فلقد استولت عليه في النّهاية أمراض مهلكة مردية، وأصبح ارتحاله إلى دار القرار أمرا محقّقا. وحينذاك استدعى أولاده، وأمر بأن يجتمع لديه كلّ الخدم- الذين كانوا أعوان الهجرة وأنصار الغربة- ثم التفت نحو ابنه الأكبر السلطان غياث الدين مسعود- الذي هو الآن سلطان الرّوم- وقال: ولدي الحبيب/ اعلم أنه حين سمع أبي «غياث الدين كيخسرو بن كيقباد» نداء ملك الموت، وأجاب داعي ارْجِعِي (¬1)، أجلسني أمراء الدّولة على العرش، فنشأت وترعرعت بحسن تربيتهم، وكان الملك معمورا والرعيّة مسرورة طالما استمعت إلى نصحهم، فلما خطوت بعيدا بضع خطوات، وفتحت ذراعيّ لهواي (¬2)، وأصبحت خليع العذار (¬3) بسبب ظهور [شعر] العذار (¬4)، وحطّمت ما للأمراء القدماء ¬

(¬1) إشارة إلى قول الله- تعالى-: «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية ..» (الفجر: 28). (¬2) قارن أ. ع 736. (¬3) تعبير عربي، وكذا في الأصل، و «خلع فلان عذاره: انهمك في الغيّ ولم يستح، وعذار الغلام جانب لحيته» (المعجم الوسيط). (¬4) في الأصل «غدّار»، وهو تصحيف بلاشك.

من قدر ومكانة، ورفعت من شأن الأراذل والأوغاد، وأوصلت كلّ وضيع من باعة الفقّاع واللاعبين على الحبال والحدّادين إلى مرتبة الإمارة وقيادة الجند، وجلست على بّوابة الهزل، صرت مستحّقا للذّلة والعزلة، فالحذر الحذر، وعليك بالانزجار من هذا القول، وإن كانت تخامرك فكرة الملك، فأبعد عن نفسك السّفلة الذين لم يروا على مائدة آبائهم رغيفين من الخبز، ولا تختلط بجماعة اتّخذت من الهزل حرفة، وانطلق من هذه الدّيار بكل وسيلة ممكنة واعبر البحر متّجها إلى الممالك الموروثة، وتوجّه لخدمة بلاط ملجأ العالم، واطّلع على تلك الأعتاب كالصّباح عند الإشراق، وقف هناك كالشّمع طوال الليل، حتى إذا رأوا في طبعك آثار النّجابة (¬1) فربما جعلوا لك نصيبا من ملك الأجداد. ووصيّتي الأخرى لك هي أنّ جسدي حين يخلو من الرّوح، فاحمل رفاتي إلى تلك الدّيار وادفنّي بجنب أبي وجدّي، إن تيسر لك العبور إلى الملك الموروث. والله الله، لا تعرض عن هذه الوصايا، ولا تسلك في المخالفة طريق العقوق، والله وليّ عليك، وهو حسبي. ثم إنه ودّع الحياة وأيام الرّغد، وولّى وجهه صوب دار الخلد. وحين فرغ مماليك دولته من العزاء والبكاء وواجبات التحيّة، أجلسوا (¬2) السلطان «غياث الدين مسعود» على العرش مكان أبيه، على ساحل «سلخات»، وأقسموا على الولاء له، وجدّدوا الأيمان/ والعهد والقسم. ¬

(¬1) كذا في أ. ع 738، وفي الأصل: تجانب. (¬2) قارن، أ. ع، 740.

وفجأة اختفى من بين الجمع الملك «كيومرث» - الابن الأوسط للسلطان عزّ الدين- وعبر البحر، فلما تفقدوه أشير لهم بوجوده حوالي «قسطمونية». ودفع نواب «قسطمونية» بالفرسان إلى كل ناحية حتى عثروا عليه بالقرب من «أماسية»، وكان قد سار متنكّرا يريد بلوغ «الأوج»، فردّوه، ثم حملوه إلى «قسطمونية»، وأبقوا عليه في القلعة، وكانوا يراعون معه شروط الخدمة اللائقة بأبناء الملوك (¬1). وبعد مدّة من الزمن قال السلطان «غياث الدين» لأصحابه وأعوانه: لن تفكّ لنا عقدة في هذه الديار، ولقد جرى أسر أخي «كيومرث» هناك، ويحتمل أن يعامل معاملة سيئة عكس ما تستوجبه المروءة، ولا يفيد الخجل بعد فوات المهجة. والرّأي أن نجتاز البحر بموجب وصيّة السلطان السّابق، ونحظى بشرف المثول في خدمة «الإيلخان» - الذى بسط سلطانه على وجه الأرض- ونعدّ ملازمة العبوديّة له من الضرورات، حتى نرى ما سوف تقتضيه عنايته بنا. فصوّبوا جميعا هذه الآراء، وأعدّوا لرحلة البحر عدّتها في الخفاء. وذات يوم خرج راكبا- برسم التنّزه والتفرّج- إلى ساحل البحر حيث كانت إحدى السفن قد أعدّت، فقرأ بلا إبطاء قول الله- عزّ وجل-: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ. (¬2)، وسلّم السفينة ليد القضاء والقدر، فاستوت على ساحل «سينوب». وعمتّ البهجة أهل تلك النّاحية وبدا عليهم السّرور بيمن قدومه، وتسابقوا لتقبيل اليد الشّريفة. ¬

(¬1) قارن أ. ع 740. (¬2) سورة المؤمنون: 28.

وبلغ الخبر الأمير «مظفّر الدين يولق أرسلان بن الپيورك» - وكان آباؤه وأجداده قد فتحوا تلك النّواحي- كابرا عن كابر- وتملّكوها-/ فخفّ إلى الخدمة، وأدّى شرائط الولاء، ثم أرسل الملك «ركن الدين كيومرث» من القلعة إلى خدمة السلطان. فلمّا لحق به أخوه، وقرّ سواد عينه بمختلف الأمم، لم يعدم أن يجد من بين الأخلاف العصاة والحمقى من يحرّضه على عصيان الدّولة القاهرة (¬1)، بيد أن السّلطان بكمال عقله لم يلتفت إلى ذلك أو يأبه به. وجعل الأمير مظفّر الدين (¬2) ملازما له، ثم اتجه إلى الأمير الأعظم، والقائد العسكري المعظّم «سماغار بهادر» - وكان حاكم بلاد الرّوم وحافظ ثغورها. فلمّا وصل إلى هناك، شغف الجميع- مغلا ومسلمين- بطلعته البهيّة، ونالت حركاته وسكناته إعجاب الكافّة. وبادر كلّ منهم إلى خدمته بقدر مكنته ومكانته. وسيّر أمراء المغل الأمير «مظفّر الدّين» بصحبة موكبه العالي إلى البلاط الإيلخاني الأعلى. ورغم أنّ جيوش الشتاء كانت قد هجمت، وتجمّد الماء ¬

(¬1) قارن أ. ع، 741. (¬2) تنتهي إلى هنا النّسخة الخطية التي اعتمد عليها الأستاذ «هوتسما» في طبعته للكتاب، حيث سقطت عدّة سطور من آخر تلك النسخة، فلم يكتمل النصّ وبقي ناقصا، وقد استكمل الدكتور «محمد جواد مشكور» ما نقص من سطور فأثبتها في طبعته التصويرية للكتاب معتمدا على الكتاب الأصلي نفسه، وأعني به كتاب الأوامر العلائية لابن البيبي، الذى صدر مصوّرا بطريقة «الفاكسميل» بأنقرة سنة 1956 م. وقد ترجمنا هذه السطور الباقية إلى العربية عن طبعة الدكتور محمد جواد مشكور، طهران 1350 هـ. ش- 1971 م.

الزّلال من شدّة الزّمهرير حتى صار كيد البخيل، فقد مضى في طريقه لا يلوي على شيء، وتشرّف بخدمة الجناب الأعظم- زيدت عظمته- في أقلّ مدّة، وتجلّى في شأنه من التودّد والتلطّف ما زاد عن الحدّ المتوقّع المنتظر؛ فقد منح إقليم «آمد»، وملك «خرتبرت»، و «ملطية»، و «سيواس»، بما في ذلك كلّه من قلاع وضياع، وزوّد بالوعود الجميلة. ... وفقا لحكم وزير وجه البسيطة ملك الوزراء علاء الدّنيا والدّين أبي المعالي عطا ملك بن محمد (¬1)، قد كتب هذا المملوك وابن المملوك ما كان قد حدث من التّجارب وظهر من الأمور في بلاد الرّوم، مما رأى وسمع، ثم تقدّم لعرضه. تمّ بحمد الله تعالى ¬

(¬1) يريد به علاء الدين عطا ملك الجويني (623 - 681)، الأديب والمؤرّخ الفارسي المعروف، صاحب كتاب «جهانگشاي» في تاريخ المغول والخوارزميين والإسماعيلية، وهو الذي تولّى حكم العراق- من قبل الإيلخانيين- بعد انهيار الخلافة العباسية ببغداد منذ سنة 658 إلى سنة 681. انظر: محمد السعيد جمال الدين: علاء الدين عطا ملك الجويني، حاكم العراق، ص 5 وما بعدها، و «دولة الإسماعيلية في إيران، طبع مصر 1975 م، ص 128 وما بعدها.

سلاطين سلاجقة الروم

سلاطين سلاجقة الروم 470 - 707 هـ/ 1077 - 1307 م (¬1) (470 - 1077) سليمان قتلمش (479 - 1086) (485 - 1092) قلج ارسلان الاول (500 - 1107) ملك شاه (510 - 1116) ركن الدين مسعود الاول (551 - 1156) عز الدين قلج ارسلان الثالث (588 - 1192) و (601 - 1204) غياث الدين كيخسرو الاول (592 - 1196) ركن الدين سليمان الثاني (600 - 1204) عز الدين قلج ارسلان الثالث (607 - 1210) عز الدين كيكاوس الاول (616 - 1219) علاء الدين كيقباد الاول (634 - 1237) غياث الدين كيخسرو الثاني (644 - 1246) عز الدين كيكاوس الثاني (646 - 1248) كيكاوس الثاني- ركن الدين ارسلان الرابع (647 - 1249) كيكاوس الثاني قلج ارسلان (655 - 1257) قلج ارسلان الرابع (663 - 1265) غياث الدين كيخسرو الثالث (681 - 1282) غياث الدين مسعود الثاني (فترة حكم اولى) (683 - 1284) علاء الدين كيقباد الثالث (فترة حكم اولى) (683 - 1284) مسعود الثاني (فترة حكم ثانية) (692 - 1293) كيقباد الثالث (فترة حكم ثانية) (693 - 1294) مسعود الثاني (فترة حكم ثالثة) (700 - 1301) كيقباد الثالث (فترة حكم ثالثة) (701 - 1303) مسعود الثاني (فترة حكم رابعة) (704 - 1305) كيقباد الثالث (فترة حكم رابعة) (707 - 1307) غياث الدين مسعود الثالث ¬

(¬1) - C.E.BOSWORTH:The lslamic Dynasties- Edinburgh paperbacks 1980

فهارس الكتاب أسماء الأشخاص أسماء الأماكن أسماء الشعوب فهرس الموضوعات

المترجم فى سطور

المترجم فى سطور: الدكتور/ محمد السعيد جمال الدين- أستاذ الآداب الفارسية فى كلية الآداب- جامعة عين شمس. - شارك فى عشرات المؤتمرات والندوات العلمية الدولية، وألقى العديد من المحاضرات فى مختلف أنحاء العالم، وعمل بالتدريس فى عدد من الجامعات العربية. - عضو بعدد من الجمعيات والهيئات العلمية والثقافية العربية والدولية. - نال بعض الأوسمة من إيران وباكستان. - صدر له ستة وعشرون كتابا، بين تأليف وتحقيق وترجمة.

§1/1