أحوال المحتضر

محمد عبد العزيز أحمد العلي

مقدمة

المقدمة الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. أما بعد.. فإن معرفة الاحتضار ودراسة أحوال المحتضر، الثابتة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، من أصول الإيمان عند أهل السنة والجماعة، التي بمعرفتها والإيمان بها يحصل صلاح الباطن المترتب عليه صلاح الظاهر واستقامة السلوك، وقد لحظت خلو المكتبة الإسلامية من كتاب يحقق أحوال المحتضر، فيثبت ما ثبت في النصوص الشرعية، ويترك ما لم يثبت في مصدري التلقي، فلم تفرد ـ حسب علمي ـ أحوال المحتضر، مع أهميتها العقدية والشرعية، في كتابة مستقلة محققة، وإنما وجدت منثورة في بعض الكتب التي تحدثت عن الموت واليوم الآخر، ودون تحقيق وتمحيص، يثبت ما أثبته الشارع من تلك الأحوال، ويستبعد ما يذكره بعض الوعاظ والقصاص من الأمور التي ليس لها سند من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولذا عقدت العزم على جمع مسائل هذا الأمر العظيم، وتحقيقها، إسهاماً في نشر عقيدة أهل السنة والجماعة، وزيادة في نشر العلم الشرعي، وعظة وعبرة لأولي الألباب. وقد بدأت هذا البحث بمقدمة ذكرت فيها أهمية الموضوع وأسباب اختياره إجمالاً، ثم كتبت تمهيداً عرفت فيه بألفاظ الاحتضار والموت والوفاة، وبينت فيه أن الموت حق لازم لكل مخلوق. وبعد ذلك قسّمت البحث إلى عشرة مباحث. تحدثت في المبحث الأول عن سكرات الموت وغمراته، وجعلته في ثلاثة مطالب: المطلب الأول: في تعريف السكرات والغمرات. المطلب الثاني: في الأدلة من الكتاب والسنة على سكرات الموت وأقوال بعض أهل العلم في ذلك.

المطلب الثالث: بيان أن سكرات الموت تحصل لكل المخلوقات، وأنها تختلف في درجة الإحساس بها. المبحث الثاني: تحدثت فيه عن وصف حال توفي الملائكة الكفار. المبحث الثالث: كتبت فيه عن حضور الملائكة مع ملك الموت لقبض الروح وتبشيرهم المحتضر، وفيه ثلاثة مطالب. المطلب الأول: ذكرت فيه أن مع ملك الموت ملائكة يعاونونه في قبض الروح. المطلب الثاني: بيان بشارة الملائكة المؤمن برضوان الله ورحمته، وفرحه بذلك. المطلب الثالث: بيان بشارة الملائكة الكافر بالعذاب. المبحث الرابع: تحدثت فيه عن انقطاع التوبة بحضور الموت. المبحث الخامس: بينت فيه أن العبد يطلب الرجعة إلى الدنيا عند الاحتضار. المبحث السادس: تكلمت فيه عن حضور الشيطان عند العبد لإغوائه عند الاحتضار. المبحث السابع: ذكرت فيه مشروعية تلقين المحتضر: لا إله إلا الله وقول الخير عنده. المبحث الثامن: تحدثت فيه عن وجوب إحسان الظن بالله تعالى وبخاصة عند الموت. المبحث التاسع: تحدثت فيه عن تخيير الأنبياء بين الحياة والموت. المبحث العاشر: بينت فيه أن الأعمال بالخواتيم، وفيه ثلاثة مطالب. المطلب الأول: الأدلة على أن الأعمال بالخواتيم. المطلب الثاني: حسن الخاتمة وأبرز علاماتها. المطلب الثالث: سوء الخاتمة وأبرز أسبابها. ثم ختمت هذا البحث بخاتمة ذكرت فيها خلاصته وأهم فوائده إجمالاً. أسال الله إخلاص النية وصلاح العمل

التمهيد

التمهيد 1- تعريف الاحتضار ـ الموت ـ الوفاة. 2- الموت حق لازم لكل مخلوق. تعريف الاحتضار: الحضور: نقيض المغيب والغيبة، يقال: حَضَر الرجل يَحْضُرُ حُضُوراً وحِضَارة، ويعدّى فيقال: حَضَرَه، يَحْضُرُهُ، وأحْضَرَ الشيء وأَحْضَرَه إياه، وكان ذلك بِحَضْرَةِ فلان وحِضْرَته وحُضْرَتِهِ، وحَضَرِه ومَحْضَرِه، وكلّمته بِحَضْرَةِ فُلان وبمَحْضَرٍ منه، أي بمشهد منه. وحَضْرَةُ الرجل: قُرْبه وفِناؤه، والحَضْرة: قرب الشيء، يقال: أُكْرِم فلانُ بِحَضْرة فلان وبمَحْضَرِه، ويقال: حَضَرَت الصَلاة. ورجل حَضِرٌ وحَضُرٌ: يتحيّن طعام الناس حتى يَحْضُرَه، تقول العرب: اللبن مُحْتضِرٌ ومَحْضُوْرٌ فَغَطِّه: أي كثير الآفة، يعني يحتضره الجنّ والدواب وغيرها. وقوله تعالى: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} 1 أي: أعوذ بك من حضور الشياطين في شيء من أمري2. وحضره الهمُّ واحْتضره وتَحَضّرَه إذا نزل به. وحُضِر المريض واحْتُضِرَ إذا نزل به الموت3. نخلص مما سبق إلى أن الاحتضار هو حضور الموت ونزوله بالعبد.

_ 1 سورة (المؤمنون) ، الآية 98. 2 انظر تفسير القرآن العظيم 3/247. 3 انظر لسان العرب 1/658، 659.

يستوفي مُدَد آجالهم في الدنيا، وقيل يستوفي تمام عددهم إلى يوم القيامة1. الموت حق لازم لكل مخلوق: حضور الموت ووقوعه حق لازم لكل مخلوق؛ لقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 2، وقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} 3 وقوله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} 4، وخاطب الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 5، وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} 6، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال”أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت الذي لا يموت، والإنس والجن يموتون”7. وللموت وقت محدود عند الله تعالى لا يستطيع أحد من المخلوقات مجاوزته، فإنه مدركه لا محالة، وملاقيه أين كان، قال تعالى {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} 8، وقال جل وعلا: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} 9، وقال سبحانه: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا

_ 1 انظر لسان العرب 3/960، 961. 2 سورة القصص، الآية 88. 3 سورة الرحمن، الآيتان 26 وَ 27. 4 سورة آل عمران، الآية 185. 5 سورة الزمر، الآية 30. 6 سورة الأنبياء، الآية 34. 7 رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب (7) ح 7383. 8 سورة آل عمران، الآية 145. 9 سورة النساء، الآية 77.

يستوفي مُدَد آجالهم في الدنيا، وقيل يستوفي تمام عددهم إلى يوم القيامة1.

_ 1 انظر لسان العرب 3/960، 961.

الموت حق لازم لكل مخلوق

الموت حق لازم لكل مخلوق: حضور الموت ووقوعه حق لازم لكل مخلوق؛ لقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 2، وقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} 3 وقوله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} 4، وخاطب الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 5، وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} 6، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال”أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت الذي لا يموت، والإنس والجن يموتون”7. وللموت وقت محدود عند الله تعالى لا يستطيع أحد من المخلوقات مجاوزته، فإنه مدركه لا محالة، وملاقيه أين كان، قال تعالى {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} 8، وقال جل وعلا: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} 9، وقال سبحانه: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ

_ 1 انظر لسان العرب 3/960، 961. 2 سورة القصص، الآية 88. 3 سورة الرحمن، الآيتان 26 وَ 27. 4 سورة آل عمران، الآية 185. 5 سورة الزمر، الآية 30. 6 سورة الأنبياء، الآية 34. 7 رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب (7) ح 7383. 8 سورة آل عمران، الآية 145. 9 سورة النساء، الآية 77.

يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} 1، وقال: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُم} 2، ونحو ذلك من الآيات. نعم إن كل نفس ميتة، والسعيد الفائز من زحزح عن النار وأدخل الجنة، وأنت يا عبد الله “في وقت بين الوقتين، وهو في الحقيقة عمرك، وهو وقتك الحاضر بين ما مضى وما يستقبل، فالذي مضى تصلحه بالتوبة والندم والاستغفار، وذلك شيء لا تعب عليك فيه ولا نصب، ولا معاناة عمل شاق، وإنما هو عمل قلب، وتمتنع فيما يستقبل من الذنوب، وامتناعك ترك وراحة، ليس هو عملاً بالجوارح يشق عليك معاناته، وإنما هو عزم ونية جازمة، تريح بدنك وقلبك وسرك، فما مضى تصلحه بالتوبة، وما يستقبل تصلحه بالامتناع والعزم والنية، وليس للجوارح في هذين نصب ولا تعب، ولكن الشأن في عمرك وهو وقتك الذي بين الوقتين؛ فإن أضعته أضعت سعادتك ونجاتك، وإن حفظته مع إصلاح الوقتين اللذين قبله وبعده بما ذكر نجوت وفزت بالراحة واللذة والنعيم، وحفظه أشق من إصلاح ما قبله وما بعده، فإن حفظه أن تلزم نفسك بما هو أولى بها وأنفع لها وأعظم تحصيلاً لسعادتها، وفي هذا تفاوت الناس أعظم التفاوت، فهي والله أيامك الخالية التي تجمع فيها الزاد لمعادك، إما إلى الجنة وإما إلى النار؛ فإن اتخذت إليها سبيلاً إلى ربك بلغت السعادة العظمى، والفوز الأكبر في هذه المدة اليسيرة، التي لا نسبة لها إلى الأبد، وإن آثرت الشهوات والراحات واللهو واللعب، انقضت عنك بسرعة، وأعقبتك الألم العظيم الدائم، الذي مقاساته ومعاناته أشق وأصعب وأدوم من معاناة الصبر عن محارم الله، والصبر على طاعته، ومخالفة الهوى لأجله”3

_ 1 سورة الأعراف، الآية 34. 2 سورة الجمعة، الآية 8. 3 كتاب الفوائد ص116، 117

المبحث الأول: سكرات الموت وغمراته

المبحث الأول: سكرات الموت وغمراته المطلب الأول: تعريف السكرات والغمرات أولا. تعريف السكرات: السكرات جمع سَكْرة، مأخوذة من الفعل سَكِرَ يَسْكَرُ سُكْراً وسُكُراً وسَكْراً وسَكِراً وسَكَرَاناً فهو سَكِرٌ وسَكْرانُ، والأنثى سَكِرَةٌ وسَكْرَى وسَكْرَانةٌ، والجمع سُكَارَى وسَكَارَى وسَكْرَى. والسَّكْرَانُ: خلاف الصاحي، والسُّكْرُ: نقيض الصَّحْوِ، وقولهم: ذهب بين الصحوة والسكرة إنما هو بين أن يعقل ولا يعقل. وسكرة الموت: شدّته، وسكرة الميت غشيته التي تدل الإنسان على أنه ميّت1. قال الراغب الأصفهاني ت 502?: “السكر حالة تعرض بين المرء وعقله، وأكثر ما يستعمل في الشراب المسكر، ويطلق في الغضب والعشق والألم والنعاس، والغشي الناشئ عن الألم وهو المراد هنا”2. فالمراد بالسكرات، إذن، شدائد الموت وأهواله وكربه التي تصيب المحتضر، بسبب نزع الروح. ثانيا. تعريف الغمرات الغمرات جمع غَمْرَة، وهي الشدة، وغَمْرةُ كل شيء: مُنْهَمَكه وشدّته، كغمرة الهم والموت ونحوهما، وغَمَراتُ الحرب والموت وغِمَارُها: شدائدها. وأصل الغَمْر: الماء الكثير، يقال: ماء غَمْر، أي: كثيرٌ مُغرِّق بيّن الغُمورة،

_ 1 انظر لسان العرب 2/170، 171. 2 انظر مفردات القرآن ص236، وفتح الباري شرح صحيح البخاري 11/362.

وغَمَره الماء يَغْمُرُهُ غَمْراً واغتمره: علاه وغطاه، ومنه قيل للرجل: غَمَرَه القوم يَغْمُرونه إذا علوه شرفاً، وجيش يغتمر كل شيء: يغطيه ويستغرقه1. قال الطبري ت310?: “والغمرات جمع غمرة، وغمرة كل شيء كثرته ومعظمه، وأصله الشيء الذي يغمر الأشياء، فيغطيها”2. وغمرات الموت سكراته التي تغمر المحتضر، أي تغطي عقله وتستره، فيصاب بالغمرة والإغماء3.

_ 1 انظر لسان العرب 2/1013، 1014. 2 جامع البيان في تفسير القرآن 7/182، 183. 3 انظر النهاية في غريب الحديث والأثر ص678.

المطلب الثاني: الأدلة من الكتاب والسنة على سكرات الموت

المطلب الثاني: الأدلة من الكتاب والسنة على سكرات الموت أولا: الأدلة من كتاب الله تعالى: ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، القرآن العظيم، سكرات الموت وشدائده في أكثر من آية، منها: 1- قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} 1. قال الطبري في تفسير هذه الآية: “يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ولو ترى يا محمد حين يغمر الموت بسكراته هؤلاء الظالمين ... ، فتعاينهم وقد غشيتهم سكرات الموت، ونزل بهم أمر الله، وحان فناء آجالهم ... ، والغمرات جمع غمرة، وغمرة كل شيء كثرته ومعظمه”2، ثم روى عن ابن عباس في قوله

_ 1 سورة الأنعام، الآية 93 2 جامع البيان في تفسير القرآن 7/182.

تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} . أنه قال: سكرات الموت1. يقول السعدي ت 1376?: “ولما ذم الظالمين ذكر ما أعد لهم من العقوبة حال الاحتضار، ويوم القيامة فقال: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} أي: شدائده وأهواله الفظيعة، وكربه الشنيعة، لرأيت أمراً هائلاً، وحالة لا يقدر الواصف أن يصفها، {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} إلى أولئك الظالمين المحتضرين بالضرب والعذاب ... ”2. 2- قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} 3. 3- وقوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} 4. فقوله تعالى في الآية الأولى {رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْت} يعني ينظرون إليك يا محمد صلى الله عليه وسلم تدور أعينهم خوفاً من القتل وفراراً منه كالذي يغشى عليه من الموت، أي كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت النازل به وما يعانيه من سكرات وكرب5.

_ 1 المصدر السابق ص183. 2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص227. 3 سورة الأحزاب، الآيتان 18، 19. 4 سورة محمد، الآيتان 20، 21. 5 انظر جامع البيان في تفسير القرآن 21/89.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ت728هـ: “من شدة الرعب الذي في قلوبهم يشبهون المغمى عليه وقت النزع؛ فإنه يخاف ويذهل عقله، ويشخص بصره، ولا يطرف، فكذلك هؤلاء؛ لأنهم يخافون القتل”1. 4- قوله تعالى {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} 2. والمراد بسكرة الموت شدته وغمرته وغلبته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله، ومعنى (بالحق) أي من أمر الآخرة، فتبينه الإنسان حتى تثبته وعرفه، بمعنى أنه عند الموت يتضح له الحق، ويظهر له صدق ما جاءت به الرسل من الإخبار بالبعث، والوعد والوعيد، وقيل الحق هو الموت، فيكون المعنى: وجاءت سكرة الموت بحقيقة الموت، كما قرأ أبو بكر الصديق وابن مسعود {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} ”3. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “.. {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} أي جاءت بما بعد الموت من ثواب وعقاب، وهو الحق الذي أخبرت به الرسل، ليس مراده أنها جاءت بالحق الذي هو الموت؛ فإن هذا مشهور لم ينازع فيه، ولم يقل أحد: إن الموت باطل حتى يقال جاءت بالحق”4. 5- قوله تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ. فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ. تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 5. هذا دليل على سكرات الموت6؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: مهلاً إذا بلغت النفوس عند خروجها من أجسادكم، أيها الناس، حلاقيكم، ومن حضرهم

_ 1 مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 28/456. 2 سورة ق، الآية 19. 3 انظر جامع البيان في تفسير القرآن 26/100، 101، وفتح القدير 5/75. 4 مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 4/265. 5 سورة الواقعة، الآية 83- 87. 6 انظر التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة 1/41.

منكم من أهليهم حينئذ إليهم ينظر، ونحن أقرب إليه بالعلم والقدرة والرؤية منكم، ورسلنا الذي يقبضون روحه أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون، فلولا إن كنتم غير مربوبين ومملوكين وغير مجزيين ترجعون تلك النفوس التي بلغت الحلقوم عند سكرات الموت إلى مقرها الذي كانت فيه، إن كنتم صادقين بأنكم غير مربوبين ولا مجزيين، ولن ترجعونها فبطل زعمكم1. قال ابن كثير ت774هـ في تفسير هذه الآيات: يقول تعالى {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ} أي الروح {الْحُلْقُومَ} أي الحلق، وذلك حين الاحتضار، كما قال تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ. وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ. وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ. وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} ؛ ولهذا قال ههنا {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} أي إلى المحتضر، وما يكابده من سكرات الموت {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} أي بملائكتنا {وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} أي ولكن لا ترونهم، كما قال تعالى في الآية الأخرى {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ. ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} 2، وقوله تعالى: {فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} معناه فهلا ترجعون هذه النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مكانها الأول، ومقرها من الجسد، إن كنتم غير مدينين”3. 6- وقد روى ابن كثير ت774هـ عن جماعة من السلف أن المراد بقوله تعالى {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} 4: الملائكة حين تنْزع أرواح بني آدم، فمنهم من تؤخذ روحه بعسر، فتغرق في نزعها، ومنهم من

_ 1 انظر جامع البيان في تفسير القرآن 27/120، 121، ومعالم التزيل 4/290، 291. 2 سورة الأنعام، الآيتان 61، 62. 3 تفسير القرآن العظيم 4/301. 4 سورة النازعات، الآيتان 1 وَ 2.

تؤخذ روحه بسهولة، وكأنما حلته من نشاط1. وقال ابن تيمية ت728هـ: “وأما {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} فهي الملائكة القابضة للأرواح، وهذا يتضمن الجزاء، وهو من أعظم المقسم عليه”2. وقال البغوي ت516هـ: “ ... {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} : يعني الملائكة تنْزع أرواح الكفار من أجسادهم، كما يغرق النازع في القوس، فيبلغ بها غاية المدّ، وقال ابن مسعود: ينْزعها ملك الموت من تحت كل شعرة ومن الأظافر وأصول القدمين، ويرددها في جسده بعدما ينْزعها حتى إذا كادت تخرج ردها في جسده بعدما ينْزعها، فهذا عمله بالكفار ... ، {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} هي الملائكة تنشط نفس المؤمن، أي تحل حلاً رفيقاً فتقبضها، كما ينشط العقال من يد البعير، أي يحل برفق”3، وروي في تفسيرها غير ذلك4. 7- قوله تعالى {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ. وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ. وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ. وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} 5. دلت هذه الآية على سكرة الموت؛ فقوله {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ} أي النفس {التَّرَاقِيَ} فحشرج بها عند سكرات الموت، والتراقي جمع الترقوة، وهي العظام بين ثغرة النحر والعاتق، فدل ذلك على الإشراف على الموت، {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} أي: قال من حضره هل من طبيب يرقيه ويداويه، فيشفيه برقيته أو دوائه، {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} أي أيقن الذي بلغت روحه التراقي أنه مفارق الدنيا، حيث تتابعت عليه الشدائد، فلا يخرج من كرب إلا جاءه أشد منه، واجتمع فيه

_ 1 انظر تفسير القرآن العظيم 4/468. 2 مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 13/320. 3 معالم التنزيل 4/441. 4 انظر جامع البيان في تفسير القرآن 30/18- 20، ومعالم التنزيل 4/441، 442. 5 سورة القيامة، الآية 26- 30.

الحياة والموت، والتفت ساقاه1. يقول السعدي في تفسير هذه الآيات: “يعظ تعالى عباده بذكر المحتضر حال السياق، وأنه إذا بلغت روحه التراقي، وهي العظام المكتنفة لثغرة النحر، فحينئذ يشتد الكرب، ويطلب كل وسيلة وسبب يظن أن يحصل به الشفاء والراحة؛ ولهذا قال {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} أي: من يرقيه، من الرقية؛ لأنهم انقطعت آمالهم من الأسباب العادية، فتعلقوا بالأسباب الإلهية، ولكن القضاء والقدر إذا حتم وجاء فلا مرد له، {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} للدنيا، {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} ، أي: اجتمعت الشدائد، والتفت، وعظم الأمر، وصعب الكرب، وأريد أن تخرج الروح من البدن، الذي ألفته، ولم تزل معه، فتساق إلى الله تعالى؛ ليجازيها بأعمالها ويقررها بفعلها، فهذا الزجر الذي ذكره الله يسوق القلوب إلى ما فيه نجاتها، ويزجرها عما فيه هلاكها، ولكن المعاند الذي لا تنفع فيه الآيات لا يزال مستمراً على غيه وكفره وعناده”2 ثانيا: الأدلة على سكرات الموت من السنة والأثر: ثبتت أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم تدل على أن للموت سكرات، ومن ذلك: 1- ما أخرجه البخاري بسنده عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بين يديه رَكْوَة3، أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بها وجهه ويقول: “لا إله إلا الله، إن للموت سكرات، ثم نصب

_ 1 انظر معالم التنزيل 4/424، 425 وجامع البيان في تفسير القرآن 29/121. 2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص833. 3 الركوة: إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء، والجمع رِكاء، انظر النهاية في غريب الحديث والأثر ص375.

يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى، حتى قبض ومالت يده”1. 2- وعن أنس رضي الله عنه قال: لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه فقالت فاطمة: واكرب أباه، فقال لها: “ليس على أبيك كرب بعد اليوم”، فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب رباً دعاه، يا أبتاه من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه، فلما دفن قالت فاطمة عليها السلام: يا أنس أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب2 3- ما أخرجه البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: ”مات النبي صلى الله عليه وسلم وإنه لبين حاقنتي وذاقنتي3، فلا أكره شدة الموت لأحد أبداً بعد النبي صلى الله عليه وسلم “ 4. 4- ما رواه الترمذي بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت”ما أغبط أحداً بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم “5. قال أبو حامد الغزالي ت505هـ: “اعلم أنه لو لم يكن بين يدي العبد المسكين كرب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت بمجردها لكان جديراً بأن يتنغص عليه عيشه، ويتكدر عليه سروره ويفارقه سهوه وغفلته، وحقيقاً بأن يطول فيه فكره، ويعظم له استعداده، لا سيما وهو في كل نفس بصدده ... ، واعلم أن شدة الألم في سكرات الموت لا يعرفها بالحقيقة إلا من ذاقها، ومن لم

_ 1 أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب سكرات الموت ح6510، وفي كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته ح4449. 2 رواه البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته ح4446. 3 الذاقنة: الذقن، وقيل طرف الحلقوم، وقيل ما يناله الذقن من الصدر، انظر النهاية في غريب الحديث والأثر ص328. 4 رواه البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته ح 4462. 5 رواه الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في التشديد عند الموت ح979، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/502 ح979.

يذقها فإنما يعرفها إما بالقياس إلى الآلام التي أدركها، وإما بالاستدلال بأحوال الناس في النَزع على شدة ما هم فيه. فأما القياس: الذي يشهد له فهو أن كل عضو لا روح فيه فلا يحس بالألم، فإذا كان فيه الروح فالمدرك للألم هو الروح، فمهما أصاب العضو، جرح أو حريق سرى الأثر إلى الروح، فبقدر ما يسري إلى الروح يتألم، يتفرق على اللحم والدم وسائر الأجزاء، فلا يصيب الروح إلا بعض الألم؛ فإن كان من الآلام ما يباشر نفس الروح ولا يلاقي غيره فما أعظم ذلك الألم وما أشده، والنَزع عبارة عن مؤلم نزل بنفس الروح فاستغرق جميع أجزائه، حتى لم يبق جزء من أجزاء الروح المنتشر في أعماق البدن إلا وقد حل به الألم ... ، فألم النَزع يهجم على نفس الروح ويستغرق جميع أجزائه؛ فإنه المنْزوع المجذوب من كل عرق من العروق، وعصب من الأعصاب، وجزء من الأجزاء، ومفصل من المفاصل، ومن أصل كل شعرة وبشرة من العرق إلى القدم، ... فلا تسل عن بدن يجذب منه كل عرق من عروقه، ولو كان المجذوب عرقاً واحداً لكان ألمه عظيماً، فكيف والمجذوب نفس الروح المتألم، لا من عرق واحد، بل من جميع العروق، ثم يموت كل عضو من أعضائه تدريجياً، فتبرد أولاً قدماه، ثم ساقاه، ثم فخذاه، ولكل عضو سكرة بعد سكرة، وكربة بعد كربة، حتى يبلغ بها إلى الحلقوم، فعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها”1. أخرج ابن أبي الدنيا عن شداد ابن أوس ـ رضي الله عنه ـ قال: “الموت أفظع هول في الدنيا والآخرة على المؤمنين، والموت أشد من نشر بالمناشير، وقرض بالمقاريض، وغلي في القدور، ولو أن الميت نُشر2 فأخبر أهل الدنيا بألم

_ 1 كتاب الموت: ص65- 67 ونقله ابن الجوزي في: الثبات عند الممات ص61- 63. (2) النشر: البعث والإحياء، انظر لسان العرب 3/635.

الموت، ما انتفعوا بعيش، ولا لذوا بنوم”1. وأخرج ابن سعد ت 230هـ عن عوانة بن الحكم قال: كان عمرو بن العاص يقول: عجباً لمن نزل به الموت وعقله معه كيف لا يصفه، فلما نزل به قال له ابنه عبد الله: يا أبتِ إنك كنت تقول: عجباً لمن نزل به الموت وعقله معه كيف لا يصفه؟ فصف لنا الموت قال”يا بنيّ الموت أجل من أن يوصف، ولكن سأصف لك منه شيئاً، أجدني كأن على عنقي جبال رضوى، وأجدني كأن في جوفي الشوك، وأجدني كأن نفسي تخرج من ثقب إبرة”2.

_ (1) انظر كتاب الموت ص69. (2) طبقات ابن سعد 4/260، وانظر سير أعلام النبلاء 3/75، وفتح الباري شرح صحيح البخاري 8/346.

المطلب الثالث: سكرات الموت تحصل لكل المخلوقات

المطلب الثالث: سكرات الموت تحصل لكل المخلوقات كل المخلوقات تجد سكرات الموت ويشهد لهذا عموم قوله تعالى {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} 1، وقوله صلى الله عليه وسلم “إن للموت سكرات”2، لكن تختلف المخلوقات في درجة إحساسها بالسكرات3. فالعبد المؤمن تخرج روحه بسهولة ويسر، ودليل ذلك ما ورد في حديث البراء ابن عازب أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال عن وفاة المؤمن: “ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة [وفي رواية: (3) سورة آل عمران، الآية 185.

_ (4) سبق تخريجه في ص: 82. (5) انظر التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة 1/50، 51.

المطمئنة] اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء1، فيأخذها ... ”2. أما الكافر فإن روحه تخرج بشدة وصعوبة يتعذب بها، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديثه عن وفاة الكافر [وفي رواية الفاجر] : “ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب قال: فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود3 الكثير الشعب من الصوف المبلول، فتقطع معها العروق والعصب”4. هذا بالجملة وإلا فإنه قد تشتد السكرات على بعض الصالحين؛ لتكفير ذنوبهم، ولرفع درجاتهم، كما حصل للرسول صلى الله عليه وسلم حيث عانى من شدة سكرات الموت، كما في صحيح البخاري في الحديث السابق ذكره5. قال ابن حجر: “وفي الحديث " لا إله إلا الله إن للموت سكرات ": أن شدة الموت لا تدل على نقص في المرتبة، بل هي للمؤمن إما زيادة في حسناته، وإما تكفير لسيئاته”6. وقد ترجم ابن ماجه ت275? في سننه بعنوان: “باب ما جاء في المؤمن

_ (1) السقاء هو ظرف الماء من الجلد، ويجمع على أسقية، انظر النهاية في غريب الحديث والأثر ص436. (2) الحديث رواه أحمد 4/2876 وَ 295 وَ296 وأبو داود، كتاب السنة، باب في المسألة في القبر وعذاب القبر ح 4753. (3) السفود: حديدة ذات شعب معقفة، يشوى بها اللحم، انظر لسان العرب 2/154. (4) سبق تخريجه. (5) عند الإحالة ص: 82. (6) فتح الباري شرح صحيح الباري 11/363.

يؤجر في النَزْع”، وساق تحته قوله صلى الله عليه وسلم: “المؤمن يموت بعرق الجبين” 1، كما قد جاء في حديث آخر قوله صلى الله عليه وسلم: “الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم مس القرصة” 2. وهذا يدل على أن الأصل تخفيف نزع روح المؤمن، إلا أنها قد تشدّد على من أراد الله سبحانه وتعالى من المؤمنين؛ تكفيراً لسيئاتهم، أو رفعاً لدرجاتهم؛ قال القرطبي في معرض حديثه عن سكرات الموت: قال القرطبي: (قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فإذا كان هذا الأمر قد أصاب الأنبياء والمرسلين والأولياء فما لنا عن ذكره مشغولين؟ وعن الاستعداد له متخلفين؟ قالوا وما جرى على الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين من شدائد الموت وسكراته فله فائدتان: أحدهما: أن يعرف الخلق مقدار ألم الموت وأنه باطن، وقد يطلع الإنسان على بعض الموتى فلا يرى عليه حركة ولا قلقاً، ويرى سهولة خروج روحه، فيغلب على ظنه سهولة أمر الموت ولا يعرف ما الميت فيه، فلما ذكر الأنبياء الصادقون في خبرهم شدة ألمه مع كرامتهم على الله تعالى، وتهوينه على بعضهم قطع الخلق بشدة الموت الذي يعانيه ويقاسيه الميت مطلقاً لإخبار الصادقين عنه، ما خلا الشهيد قتيل الكفار.... الثانية: ربما خطر لبعض الناس أن هؤلاء أحباب الله وأنبياؤه ورسله، فكيف يقاسون هذه الشدائد العظيمة؟ وهو سبحانه قادر أن يخفف عنهم أجمعين. فالجواب: أن “أشد الناس بلاءً في الدنيا الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل” 3

_ (1) رواه ابن ماجه في كتاب الجنائز، باب ما جاء في المؤمن يؤجر في النزع ح1452 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 1/245ح 1188. (2) رواه ابن ماجه، كتاب الجهاد، باب فضل الشهادة في سبيل الله ح 2808 وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ح960 وصحيح سنن ابن ماجه 2/130ح 2260. (3) طرف من حديث رواه الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء ح 2398 ورواه ابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء ح4023 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 2/371 ح3249.

كما قال نبينا عليه السلام ... فأحب الله أن يبتليهم تكميلاً لفضائلهم لديه، ورفعة لدرجاتهم عنده، وليس ذلك في حقهم نقصاً ولا عذاباً، بل هو.. كمال رفعة، مع رضاهم بجميل ما يجري الله عليهم، فأراد الحق سبحانه أن يختم لهم بهذه الشدائد، مع إمكان التخفيف والتهوين عليهم، ليرفع منازلهم، ويعظم أجورهم قبل موتهم، كما ابتلى إبراهيم بالنار، وموسى بالخوف والأسفار وعيسى بالصحارى والقفار، ونبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بالفقر في الدنيا ومقاتلة الكفار، كل ذلك لرفعة في أحوالهم وكمال في درجاتهم. ولا يفهم من هذا أن الله شدد عليهم أكثر مما شدد على العصاة المخلطين؛ فإن ذلك عقوبة لهم، ومؤاخذة على إجرامهم، فلا نسبة بينه وبين هذا) 1. فشدة السكرات تخفف من الذنوب، وكل ما يصيب الإنسان من مرض أو شدة أو هم أو غم حتى الشوكة تصيبه فإنها كفارة لذنوبه، ثم إن صبر واحتسب كان له مع التكفير أجر ذلك الصبر الذي قابل به هذه المصيبة التي لحقت به، ولا فرق في ذلك بين ما يكون عند الموت، وما يكون قبله، فالمصائب كفارات لذنوب المؤمن2، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه: “ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلاحط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها” 3، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “من يرد الله به خيراً يصب منه” 4 وقوله صلى الله عليه وسلم: “ما يصيب المؤمن من

_ (1) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة 1/48- 50. (2) انظر فتاوى الشيخ محمد صالح العثيمين 2/989. (3) رواه البخاري، كتاب المرضى والطب، باب أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأول فالأول ح5648. ورواه مسلم، كتناب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن ونحو ذلك، حتى الشوكة يشاكها ح2571. (4) رواه البخاري، كتاب المرضى والطب، باب ما جاء في كفارة المرض وقول الله تعالى {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} ح5645.

وصب1 ولا نصب2 ولا سقم ولا حزن حتى الهمّ يهمّه إلا كفر به من سيئاته” 3، وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: “ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه” 4.

_ (1) الوصب: دوام المرض ولزومه، وقد يطلق الوصب على التعب وفتور البدن، انظر النهاية في غريب الحديث والأثر ص974. (2) النصب: التعب، انظر النهاية في غريب الحديث والأثر ص918، وفتح الباري شرح صحيح البخاري 10/106. (3) رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن ونحو ذلك، حتى الشوكة يشاكها ح2573. (4) رواه البخاري، كتاب المرضى والطب، باب ما جاء في كفارة المرض وقول الله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} ح5642.

المبحث الثاني: وصف حال توفي الملائكة الكفار

المبحث الثاني: وصف حال توفي الملائكة الكفار أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عن حال توفي الملائكة الكفارَ، وذلك بأن الملائكة يضربون وجوه الكفار وأدبارهم، ويبشرونهم بعذاب الحريق، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ. ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} 1. قال ابن كثير: “يقول تعالى ولو عاينت يا محمد حال توفي الملائكة أرواح الكفار لرأيت أمراً عظيماً هائلاً فظيعاً منكراً؛ إذ يضربون وجوههم وأدبارهم، ويقولون: لهم: ذوقوا عذاب الحريق”2. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ. فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} 3، أي كيف حال الكفار إذ جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم وتعاصت الأرواح في أجسادهم، واستخرجتها الملائكة وهم باسطوا أيديهم يضربون وجوههم وأدبارهم، يقولون لهم أخرجوا أنفسكم4. والخبر الوارد في سورة الأنفال نزل في وصف وفاة الكفار يوم بدر إلا أنه وصف عام لوفاة الكفار في كل وقت، قال ابن كثير في تفسيره للآية السابقة:

_ 1 سورة الأنفال، الآيتان 50 وَ 51. 2 تفسير القرآن العظيم 2/305. 3 سورة محمد، الآيتان 27 وَ 28. 4 انظر جامع البيان في تفسير القرآن 7/182 وتفسير القرآن العظيم 4/182.

“وهذا السياق وإن كان سببه وقعة بدر، ولكنه عام في حق كل كافر؛ ولهذا لم يخصصه الله تعالى بأهل بدر، بل قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُم} وفي سورة القتال [محمد] مثلها، وتقدم في سورة الأنعام قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُم} 1، أي باسطوا أيديهم بالضرب فيهم بأمر ربهم؛ إذ استصعبت أنفسهم وامتنعت من الخروج من الأجساد أن تخرج قهراً، وذلك إذا بشروهم بالعذاب والغضب من الله، كما في حديث البراء أن ملك الموت إذا جاء الكافر عند احتضاره في تلك الصورة المنكرة يقول: أخرجي أيتها النفس الخبيثة إلى سموم وحميم وظل من يحموم، فتفرق في بدنه، فيستخرجونها من جسده كما يخرج السفود من الصوف المبلول، فتخرج معها العروق والعصب؛ ولهذا أخبر تعالى أن الملائكة تقول لهم ذوقوا عذاب الحريق”2. ويشهد له قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} 3، ففي هذه الآية يخبر سبحانه وتعالى أن الملائكة إذا توفت المشركين تفزعهم عند الموت وقبض أرواحهم ويقولون لهم: أين الذين كنتم تشركون بهم في الدنيا وتدعونهم وتعبدونهم من دون الله ادعوهم يخلصونكم مما أنتم فيه الآن من الفزع والموت الواقع بكم، قالوا: ذهبوا عنا فلا نرجو نفعهم ولا ضرهم، وأقروا واعترفوا على أنفسهم بالكفر والضلال4.

_ 1 سورة الأنعام، الآية 93. 2 المصدر السابق 2/305. 3 سورة الأعراف، الآية 37. 4 انظر جامع البيان في تفسير القرآن 8/127، وتفسير القرآن العظيم 2/23.

وكذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} 1. فالله سبحانه وتعالى يخبر في هذه الآية أن المشركين الظالمين لأنفسهم عند احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم لقبض أرواحهم الخبيثة يظهرون السمع والطاعة قائلين {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} فقال الله مكذباً لهم {بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} أي بئس المقيل والمقام من دار هوان لمن كان متكبراً عن آيات الله واتباع رسله، وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم، وينال أجسادهم في قبورها من حرها وسمومها؛ فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في أجسادهم وخلدت في نار جهنم2. فقوله تعالى {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ} أي الاستسلام والخضوع، والمعنى أنهم أظهروا الطاعة والانقياد، وتركوا ما كانوا عليه من الشقاق، فالمشركون في الدنيا يشاقون الرسل ويخالفونهم ويعادونهم؛ فإذا عاينوا الحقيقة ألقوا السلم وخضعوا وانقادوا، وذلك عندما يعاينون الموت أو يوم القيامة، ولكن لا ينفعهم ذلك؛ لأن الانقياد عند معاينة الموت لا ينفع3. وقد توعد الله تعالى في كتابه العزيز من تركوا الهجرة مع قدرتهم عليها حتى ماتوا بأن الملائكة الذين يقبضون أرواحهم يوبخونهم توبيخاً عظيماً، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً. إِلَّا

_ 1 سورة النحل، الآيتان 28 وَ 29. 2 انظر تفسير القرآن العظيم 2/548. 3 انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 3/259، 260.

الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} 1. قال الطبري في تفسير هذه الآية: “إن الذين تقبض أرواحهم الملائكة ظالمي أنفسهم، يعني مكسبي أنفسهم غضب الله وسخطه ... ، قالت الملائكة لهم {فِيمَ كُنْتُمْ} في أي شيء كنتم من دينكم، {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} يعني قال الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم: كنا مستضعفين في الأرض، يستضعفنا أهل الشرك بالله، في أرضنا وبلادنا ... معذرة ضعيفة وحجة واهية، {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} يقول: فتخرجوا من أرضكم ودوركم، وتفارقوا من يمنعكم بها من الإيمان بالله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم..، وذُكر أن هاتين الآيتين والتي بعدهما نزلت في أقوام من أهل مكة كانوا قد أسلموا وآمنوا بالله وبرسوله، وتخلفوا عن الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر، وعُرض بعضهم على الفتنة فافتتن، وشهد مع المشركين حرب المسلمين، فأبى الله قبول معذرتهم، التي اعتذروا بها، التي بينها في قوله، خبراً عنهم: {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} ... ”2. وقال السعدي: “قوله {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} ... فيه ذكر بيان السبب الموجب، فقد يترتب عليه مقتضاه، مع اجتماع شروطه، وانتفاء موانعه، وقد يمنع من ذلك مانع، وفي الآية دليل على أن الهجرة من أكبر الواجبات، وتركها من المحرمات، بل من أكبر الكبائر”3.

_ 1 سورة النساء، الآيتان 97، 98. 2 جامع البيان في تفسير القرآن 5/147، 148، وانظر معالم التنْزيل 1/469. 3 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص159، 160.

المبحت الثالث: حضور الملائكة مع ملك الموت وتبشيرهم المحتضر

المبحت الثالث: حضور الملائكة مع ملك الموت وتبشيرهم المحتضر المطلب الأول: مع ملك الموت ملائكة يعاونونه في قبض الروح بأمر الله تعالى ... المبحث الثالث: حضور الملائكة مع ملك الموت وتبشيرهم المحتضر المطلب الأول: مع ملك الموت ملائكة يعاونونه في قبض الروح بأمر الله تعالى. إذا حان أجل العبد وأراد الله تعالى قبض روحه أرسل إليه ملك الموت ومعه ملائكة يعاونونه على قبض روح ذلك العبد، قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} 1، فقوله {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي احتضر وحان أجله، {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} أي ملائكة موكلون بذلك، روى ابن كثير في تفسيره عن ابن عباس وغير واحد قولهم: إن لملك الموت أعواناً من الملائكة يخرجون الروح من الجسد فيقبضها ملك الموت إذا انتهت إلى الحلقوم2. يقول الطبري: “يقول تعالى ذكره: إن ربكم يحفظكم ... إلى أن يحضركم الموت، وينْزل بكم أمر الله وإذا جاء ذلك أحدكم توفاه أملاكنا الموكلون بقبض الأرواح ورسلنا المرسلون به وهم لا يفرطون في ذلك، فيضيعونه؛ فإن قال قائل: أو ليس الذي يقبض الأرواح ملك الموت فكيف قيل {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} والرسل جملة، وهو واحد، أو ليس قد قال {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} 3، قيل جائز أن يكون الله تعالى أعان ملك الموت بأعوان من عنده،

_ 1 سورة الأنعام، الآية 61. 2 انظر تفسير القرآن العظيم 2/131. 3 سورة السجدة، الآية 11.

فيتولون ذلك بأمر ملك الموت، فيكون التوفي مضافاً، وإن كان ذلك من فعل أعوان ملك الموت إلى ملك الموت؛ إذ كان فعلهم ما فعلوا من ذلك بأمره، كما يضاف قتل من قتل أعوان السلطان، وجلد من جلدوه بأمر السلطان إلى السلطان، وإن لم يكن السلطان باشر ذلك بنفسه، ولا وليه بيده”1. فالمتأمل في نصوص القرآن الكريم يدرك أن الله سبحانه وتعالى أسند التوفي للملائكة كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} 2، وقوله: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ} 3، وقوله {توفته رسلنا} 4، وغيرها من الآيات، وأسنده في آية أخرى لملك الموت، قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} ، وأسنده سبحانه في آية أخرى إليه جل وعلا، قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} 5، ولا معارضة بين الآيات المذكورة، فإسناد التوفي إليه سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يموت أحد إلا بمشيئته وإذنه كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} 6، وإسناده لملك الموت؛ لأنه هو المأمور بقبض الأرواح، وإسناده للملائكة؛ لأن لملك الموت أعواناًُ من الملائكة ينْزعون الروح من الجسد إلى الحلقوم؛ فيأخذها ملك الموت7.

_ 1 جامع البيان في تفسير القرآن 7/139. 2 سورة النحل، الآية 28. 3 سورة النحل، الآية 32. 4 سورة الأنعام، الآية 61. 5 سورة الزمر، الآية 42. 6 سورة آل عمران، الآية 145. 7 انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 3/267، ودفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ص236.

المطلب الثاني: بشارة الملائكة المؤمن برضوان الله وفرحه بذلك

المطلب الثاني: بشارة الملائكة المؤمن برضوان الله وفرحه بذلك. يشهد لحضور الملائكة وتبشيرهم قوله صلى الله عليه وسلم “إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوهم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط1 الجنة حتى يجلسوا منه مدّ البصر، ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة [وفي رواية: المطمئنة] اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، وإن العبد الكافر [وفي رواية: الفاجر] إذا كان في انقطاع من الآخرة وإقبال من الدنيا نزل إليه من السماء ملائكة غلاظ شداد، سود الوجوه، معهم المسوح2 من النار، فيجلسون منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب ... ”3. فالملائكة تبشّر المؤمن بمغفرة الله ورضوانه، وتبشر الكافر والفاجر بسخط الله وغضبه، وقد جاء صريحاً في كتاب الله تعالى أن الملائكة تتنْزل على المؤمنين بعدم الخوف والحزن، والبشرى بالجنة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ. نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} 4، أي إن الذين أخلصوا العمل لله، وعملوا بطاعة الله تعالى

_ 1 الحنوط: هو ما يُخلط من الطيب لأكفان الموتى وأجسامهم خاصة، انظر النهاية في غريب الحديث والأثر ص 237. 2 المسوح جمع مِسْح وهو الكساء من الشعر، انظر لسان العرب 3/481. 3 سبق تخريجه في ص: 85. 4 سورة فصّلت، الآيات 30- 32.

على ما شرع الله لهم تتنّزل عليهم الملائكة عند الموت والاحتضار قائلين لهم {أَلَّا تَخَافُوا} مما تقدمون عليه من عمل الآخرة {وَلا تَحْزَنُوا} على ما خلفتموه من أمر الدنيا من ولد وأهل ومال أو دين؛ فإنا نخلفكم فيه {وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} فيبشرونهم بذهاب الشر وحصول الخير، ذكر هذا ابن كثير ثم روى عن زيد بن أسلم قوله بأن البشرى تكون عند الموت وفي القبر وحين البعث، ثم علّق ابن كثير على رأي زيد بقوله: “وهذا القول يجمع الأقوال كلها، وهو حسن جداً، وهو الواقع”1. وقوله تعالى {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} “أي تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار نحن كنا أولياءكم: أي قرناءكم في الحياة الدنيا نسددكم ونوفقكم ونحفظكم بأمر الله، وكذلك نكون معكم في الآخرة نؤنس منكم الوحشة في القبور، وعند النفخة في الصور، ونؤمنكم يوم البعث والنشور، ونجاوز بكم الصراط المستقيم، ونوصلكم إلى جنات النعيم”2. وذكر الطبري في تفسيره أن تنَزل الملائكة عليهم، في الآية، معناه أن الملائكة تتهبط عليهم عند نزول الموت بهم قائلة لهم: لا تخافوا ما تقدمون عليه من بعد مماتكم، ولا تحزنوا على ما تخلفونه وراءكم3. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “ وقد ذكروا أن هذا التنَزل عند الموت”4. وقال الله تعالى سبحانه وتعالى في بشارة المؤمنين: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ

_ 1 تفسير القرآن العظيم 4/100- 101. 2 المصدر السابق ص101. 3 انظر جامع البيان في تفسير القرآن 24/74. 4 مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 4/268.

لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 1. فالله جل وعلا يخبر في هذه الآيات عن أوليائه بأنه لا خوف عليهم فيما يستقبلونه أمامهم من الأهوال والمخاوف؛ ولا هم يحزنون على ما أسلفوا؛ لأنهم لم يسلفوا إلا الأعمال الصالحة؛ لذلك كانت لهم البشارة، في الدنيا بالثناء الحسن والمودة في قلوب المؤمنين، والرؤيا الصالحة، ولطف الله بهم وتيسيرهم لأحسن الأعمال والأخلاق، وصرفهم عن مساوئها، ولهم البشارة في الآخرة، وأولها البشارة عند قبض أرواحهم، وفي القبر، ثم دخول جنات النعيم، والنجاة من العذاب الأليم2. قال الطبري: “إن الله تعالى ذكره أخبر أن لأوليائه المتقين البشرى في الحياة الدنيا، ومن البشارة في الحياة الدنيا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، ومنها بشرى الملائكة إياه عند خروج نفسه برحمة الله ... ، ومنها بشرى الله إياه وعده في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الثواب الجزيل ... ، وكل هذه المعاني من بشرى الله إياه في الحياة الدنيا بشره بها، ولم يخصص الله من ذلك معنى دون معنى، فذلك مما عمه جل ثناؤه أن لهم البشرى في الحياة الدنيا، وأما في الآخرة فالجنة، وأما قوله: {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّه} ؛ فإن معناه أن الله لا خلف لوعده، ولا تغيير لقوله عما قال، ولكنه يمضي لخلقه مواعيده، وينجزها لهم”3. وقال ابن تيمية: “وقد فَسّر النبي صلى الله عليه وسلم البشرى في الدنيا بنوعين: أحدهما: ثناء المثنين عليه. الثاني: الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح، أو ترى له، فقيل: يا رسول الله

_ 1 سورة يونس، الآيات 62- 64. 2 انظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص 324، وتفسير القرآن العظيم 2/405. 3 جامع البيان في تفسير القرآن 11/96.

الرجل يعمل العمل لنفسه فيحمده الناس عليه؟ قال: (تلك عاجل بشرى المؤمن”1، وقال البراء بن عازب: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، فقال”هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له”2..”3. وأخبر الله سبحانه وتعالى عن حال المؤمنين عند الاحتضار أنهم طيبون، أي مخلصون من الشرك والدنس، وكل سوء، وأن الملائكة تسلم عليهم، وتبشرهم بالجنة، حيث قال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 4. قال الشنقيطي ت1393هـ: “ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المتقين الذين كانوا يمتثلون أوامر ربهم، ويجتنبون نواهيه، تتوفاهم الملائكة: أي يقبضون أرواحهم في حال كونهم طيبين: أي طاهرين من الشرك والمعاصي ـ على أصح التفسيرات ـ ويبشرونهم بالجنة، ويسلّمون عليهم ... ، والبشارة عند الموت وعند الجنة من باب واحد؛ لأنها بشارة بالخير بعد الانتقال إلى الآخرة، ويفهم من صفات هؤلاء الذين تتوفاهم الملائكة طيبين، ويقولون لهم سلام عليكم أدخلوا الجنة أن الذين لم يتصفوا بالتقوى لم تتوفهم الملائكة على تلك الحال الكريمة، ولم تسلّم عليهم، ولم تبشرهم”5. وقال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ

_ 1 رواه مسلم، كتاب البر والصلة، باب إذا أثني على الصالح فهي بُشرى ولا تضره ح2642. 2 رواه الإمام أحمد في مسنده 6/445 وَ 452، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/392 ح1786. 3 مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 1/8 وانظر 14/200. 4 سورة النحل، الآية 32. 5 أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 3/266.

وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} 1. ففي هذه الآية يخبر الله سبحانه وتعالى أنه يثبت المؤمنين بالقول الثابت في الحياة الدنيا عند ورود الشبهات والشهوات، بالهداية إلى اليقين وتقديم ما يحبه الله على هوى النفس ومرادها، وفي الآخرة عند الموت بالثبات على التوحيد، وفي القبر عند سؤال الملكين للجواب الصحيح، ويضل الله الظالمين عن الصواب في الدنيا والآخرة. قال البغوي ت516هـ: “قوله تعالى {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} : كلمة التوحيد، وهي قول: لا إله إلا الله، {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يعني قبل الموت {وفي الآخرة} يعني في القبر، هذا قول أكثر المفسرين، وقيل: في الحياة الدنيا عند السؤال في القبر، وفي الآخرة عند البعث، والأول أصح”2. وروى النسائي ت303هـ بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ”إذا حُضِر المؤمن أتته ملائكه الرحمة بحريرة بيضاء، فيقولون: اخرجي راضية مرضياً عنك، إلى روح الله وريحان، ورب غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك حتى إنه ليناوله بعضهم بعضاً، حتى يأتوا به باب السماء، فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض!، فيأتون به أرواح المؤمنين، فلهم أشدُّ فرحاً به من أحدكم بغائبه يقدم عليه، فيسألونه: ماذا فعل فلان؟ ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دعوه فإنه كان في غم الدنيا، فإذا قال: أما أتاكم؟ قالوا: ذُهب به إلى أمة الهاوية. وإن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح، فيقولون: اخرجي ساخطة مسخوطاً عليك إلى عذاب الله ـ عز وجل ـ؛ فتخرج كأنتن ريح جيفة، حتى يأتون

_ 1 سورة إبراهيم، الآية 27. 2 معالم التنزيل 3/33.

به باب الأرض، فيقولون: ما أنتن هذه الريح! حتى يأتون به أرواح الكفار” 1. وفي سنن ابن ماجه ت 275هـ عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: “الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل صالحاً قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان، فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة، كانت في الجسد الطيّب، ادخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل. وإذا كان الرجل السوء قالوا: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغساق، وآخر من شكله أزواج، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فلا يفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان، فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، فإنها لا تفتح لك أبواب السماء فيرسل بها من السماء، ثم تصير إلى القبر” 2. والمؤمن إذا بشر حين الاحتضار برحمة الله ورضوانه سرّ بذلك وفرح فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، أما الكافر فإنه إذا بُشّر بغضب الله وسخطه تألم وحزن، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ”من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت عائشة ـ أو بعض أزواجه ـ إنا لنكره الموت، قال: ليس ذلك، ولكن المؤمن

_ 1 الحديث رواه النسائي، كتاب الجنائز، باب ما يُلقى به المؤمن من الكرامة عند خروج نفسه ح 1832 وابن حبان 733، والحاكم 1/352، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ح1309، وصحيح سنن النسائي 2/9 ح1832. 2 رواه ابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له ح4262 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 2/420 ح3437.

إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حُضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه” 1. فالعبد إذا أحب لقاء الله سعى إلى ذلك بالإخلاص له بالعبادة، والمتابعة لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحب الله لقاءه، وبُشر برحمة الله والجنة حين احتضاره، فيفرح ويحب لقاء الله ويحب الله لقاءه، ففي هذا الحديث صفة حال الطائفتين، المؤمنة والكافرة، في أنفسهم عند ربهم، فمن أحب لقاء الله فهو الذي أحب الله لقاءه، وكذا الكراهة، ولهذا ذكر بعض أهل العلم أن المحتضر إذا ظهرت عليه علامات السرور كان ذلك دليلاً على أنه بشر بالخير، وإذا ظهرت عليه علامات الحزن والضيق كان دليلاً على أنه بشر بالعذاب2. وقد أخذ بعض العلماء من هذا الحديث “أن محبة لقاء الله لا تدخل في النهي عن تمني الموت؛ لأنها ممكنة مع عدم تمني الموت كأن تكون المحبة حاصلة لا يفترق حاله فيها بحصول الموت ولا بتأخيره، وأن النهي عن تمني الموت محمول على حالة الحياة المستمرة، وأما عند الاحتضار والمعاينة فلا تدخل تحت النهي، بل هي مستحبة”3. وقد جاء في رواية أن عائشة رضي الله عنها قالت ـ في حديث (من أحب لقاء الله ... ) : “قد قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بالذي تذهب إليه، ولكن إذا طمح البصر، وحشرج الصدر، واقشعر الجلد، فعند ذلك من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه”4.

_ 1 رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ح6507. 2 انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري 11/358. 3 المصدر السابق ص358- 359. 4 رواه النسائي، كتاب الجنائز، باب فيمن أحب لقاء الله ح1833. وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي 2/10 ح1833.

وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن المؤمن ينْزل به الموت، ويعاين ما يعاين، فودّ لو خرجت ـ يعني نفسه ـ والله يحب لقاءه. فإذا كان عدواً لله نزل به الموت وعاين ما عاين؛ فإنه لا يحب أن تخرج روحه أبداً، والله يبغض لقاءه ... ” 1. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول ”إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم؛ فإن كانت صالحة قالت: قدِّموني، وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها، أين يذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمع الإنسان لصعق” 2. وفي ذلك زيادة في بشرى المؤمن وبؤس الكافر كما ذكره ابن المنير ونقله عنه ابن حجر3.

_ 1 رواه البزار في مسنده ص92، وقال عنه السيوطي (سنده صحيح) انظر الفوز العظيم في لقاء الكريم للسيوطي ص44، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 6/262 ح2628. 2 رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب قول الميت وهو على الجنازة: قدموني، ح 1316. 3 انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري 3/185.

المطلب الثالث: بشارة الملائكة الكافر بالعذاب

المطلب الثالث: بشارة الملائكة الكافر بالعذاب جاء صريحاً في كتاب الله تعالى أن الملائكة تبشر الكافر بالعذاب، قال تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} 1.

_ 1 سورة الأنعام، الآية 93.

أي أن الملائكة يبسطون أيدهم بالضرب والعذاب للملائكة حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم؛ ولهذا يقولون لهم {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} ؛ وذلك أن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال والأغلال والسلاسل والجحيم والحميم وغضب الرحمن الرحيم فتتفرق روحه في جسده وتعصى وتأبى الخروج فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين لهم {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} أي اليوم تهانون غاية الإهانة بسبب تكذيبكم على الله واستكباركم على اتباع آياته والانقياد لرسله1. يقول الطبري في تفسير هذه الآية: “وهذا خبر من الله جل ثناؤه، عما تقول رسل الله التي تقبض أرواح هؤلاء الكفار لها، يخبر عنها أنها تقول لأجسامها ولأصحابها أخرجوا أنفسكم إلى سخط الله ولعنته؛ فإنكم اليوم تثابون على كفركم بالله، وقيلكم عليه الباطل وزعمكم أن الله أوحى إليكم ولم يوح إليكم شيئاً، وإنذاركم أن يكون الله أنزل على بشر شيئاً، واستكباركم عن الخضوع لأمر الله وأمر رسوله والانقياد لطاعته، عذاب الهون وهو عذاب جهنم الذي يهينهم فيذلهم حتى يعرفوا صغار أنفسهم وذلتها”2. ويقول ابن القيم: “فقول الملائكة: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} المراد به عذاب البرزخ، الذي أوله يوم القبض والموت”3. وأخبر سبحانه وتعالى عن حالهم حين الاحتضار، في سورة أخرى، بقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ. ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} 4 فالله جل وعلا يخاطب

_ 1 انظر تفسير القرآن العظيم 2/149. 2 جامع البيان في تفسير القرآن 7/183. 3 مفتاح دار السعادة 1/72. 4 سورة الأنفال، الآيتان 50 وَ 51.

نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم قائلاً له: “ولو تعاين يا محمد حين يتوفى الملائكة أرواح الكفار فتنْزعها من أجسادهم، تضرب الوجوه منهم والأستاه، ويقولون لهم ذوقوا عذاب النار التي تحرقكم يوم ورودكم جهنم..، ذوقوا عذاب الله الذي يحرقكم، هذا العذاب لكم بما قدمت أيديكم، أي بما كسبت أيديكم من الآثام والأوزار، واجترحتم من معاصي الله أيام حياتكم، فذوقوا اليوم العذاب، وفي معادكم عذاب الحريق”1. يقول ابن القيم: “فهذه الإذاقة هي في البرزخ وأولها حين الوفاة؛ فإنه معطوف على قوله {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} وهو من القول المحذوف مقولة لدلالة الكلام عليه كنظائره، وكلاهما واقع وقت الوفاة”2. والأدلة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على بشارة الملائكة الكفار بالعذاب، وحزنهم بذلك كثيرة، سبق ذكر كثير منها في المبحث السابق3.

_ 1 جامع البيان في تفسير القرآن 10/16، 17. 2 مفتاح دار السعادة 1/72. 3 وتركت ذكرها هنا خشية التكرار، لأن كثيراً من الأحاديث فيه بشارة المؤمن، والكافر، فذكرتها في مكان واحد؛ بعداً عن تجزئتها.

المبحث الرابع: انقطاع التوبة بحضور الموت

المبحث الرابع: انقطاع التوبة بحضور الموت أخبرنا الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز أن الذين يعملون السيئات ثم يتوبون فإنه تعالى يقبل توبتهم، حيث قال سبحانه {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} 1 وغيرها من الآيات الكثيرة، ويقول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه أبو هريرة رضي الله عنه”لو أخطأتم حتى تبلغ خطاياكم السماء، ثم تبتم لتاب عليكم”2، وعن أبي عبيدة بن عبد الله، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “التائب من الذنب كمن لا ذنب له” 3، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون” 4، وغيرها من الأحاديث الشريفة، فالنصوص الشرعية التي تحث على التوبة كثيرة جداً، إلا أنها غير مقبولة عند الله تعالى إلا حين تتوفر شروطها التي ذكرها العلماء استقراءً من نصوص كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن تلك الشروط: 1- أن تكون التوبة خالصة لوجه الله تعالى، فلا يراد بها الدنيا أو مدح الناس وثناؤهم.

_ 1 سورة النساء، الآية 17. 2 رواه ابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة ح4248، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 2/417 ح3426، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة ح 903، و1951 3 رواه ابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة ح4250، وقال عنه الألباني: (حديث حسن) انظر صحيح سنن ابن ماجه 2/418 ح3427. 4 رواه ابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة ح4251، وقال عنه الألباني: (حديث حسن) في صحيح سنن ابن ماجه 2/418 ح3428

2- الإقلاع عن المعصية. 3- الندم على فعلها. 4- العزم على عدم العودة إليها. 5- إرجاع الحقوق إلى أصحابها، إن كانت المعصية حقوقاً للآخرين. 6- أن تكون قبل طلوع الشمس من مغربها، وقبل حضور الموت1. والذي يعنينا من هذه الشروط في هذا المبحث هو أن التوبة لا بد أن تكون قبل حضور الموت2 لقوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} 3. يقول الطبري: “ما التوبة على الله لأحد من خلقه إلا للذين يعملون السوء من المؤمنين بجهالة، ثم يتوبون من قريب، يقول: ما الله براجع لأحد من خلقه إلى ما يحبه من العفو عنه، والصفح عن ذنوبه التي سلفت منه إلا للذين يأتون ما يأتونه من ذنوبهم جهالة منهم وهم بربهم مؤمنون ثم يراجعون طاعة الله ويتوبون منه إلى ما أمرهم الله به من الندم عليه والاستغفار وترك العودة إلى مثله قبل نزول الموت بهم، وذلك هو القريب الذي ذكره الله تعالى ذكره، فقال {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} ... ، تأويله يتوبون قبل مماتهم في الحال التي يفهمون فيها أمر الله تبارك وتعالى، ونهيه، وقبل أن يغلبوا على أنفسهم وعقولهم، وقبل حال اشتغالهم بكرب الحشرجة وغم الغرغرة، فلا يعرفوا أمر الله ونهيه، ولا يعقلوا التوبة؛ لأن التوبة لا تكون توبة إلا ممن ندم على ما سلف وعزم فيه على ترك المعاودة، وهو

_ 1 انظر التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة 1/85. 2 انظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري 11/487. 3 سورة النساء، الآية 17 وَ 18.

يعقل الندم، ويختار ترك المعاودة، وأما إذا كان بكرب الموت مشغولاً، وبغم الحشرجة مغموراً فلا أخاله إلا عن الندم على ذنوبه مغلوباً؛ ولذلك قال من قال: إن التوبة مقبولة ما لم يغرغر العبد بنفسه؛ فإن كان المرء في تلك الحال يعقل عقل الصحيح، ويفهم فهم العاقل الأديب فأحدث إنابة من ذنوبه، ورجعة من شروده عن ربه إلى طاعته كان إن شاء الله ممن دخل في وعد الله الذي وعد التائبين إليه من إجرامهم من قريب”1. فهذه الآية تدل على قبول الله تعالى للتوبة قبل حضور الموت، أما إذا حضر موته وغرغرت روحه فليس توبته معتبرة حينئذ ولا مقبولة، قال ابن كثير في تفسيره للآيتين السابقتين: “يقول سبحانه وتعالى إنما يقبل الله التوبة ممن عمل السوء بجهالة ثم يتوب ولو بعد معاينة الملك يقبض روحه قبل الغرغرة..، فقد دلت الأحاديث على أن من تاب إلى الله عز وجل وهو يرجو الحياة فإن توبته مقبولة..، وأما متى وقع الإياس من الحياة، وعاين الملك، وخرجت الروح من الحلق، وضاق بها الصدر، وبلغت الحلقوم، وغرغرت النفس صاعدة من الغلاصم2، فلا توبة مقبولة حينئذ ولات حين مناص”3. وهذا مثل قوله تعالى عن فرعون: { ... حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} 4. ففرعون كفر بالله تعالى وكذّب رسوله عليه الصلاة والسلام، وأساء إلى نفسه أيام حياته وفي صحته بتماديه في طغيانه ومعصية ربه، فلما حل به سخط

_ 1 جامع البيان في تفسير القرآن 4/202، 205 وانظر ص206. 2 الغلاصم: جمع غلصمة وهي رأس الحلقوم، انظر لسان العرب 2/1005. 3 تفسير القرآن العظيم 1/439، 440. 4 سورة يونس، الآيتان 90 و91.

الله ونزل عليه عقابه، فزع إليه مستجيراً به من عذابه الواقع به، وناداه وقد علته أمواج البحر، وغشيته كرب الموت قائلاً: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} له المنقادين بالذلة والعبودية، فقال سبحانه وتعالى معرفاً فرعون قبح صنيعه في حياته: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} آلآن تقر بالعبودية وتستسلم له بالذلة وتخلص له الألوهية، وقد عصيته قبل نزول نقمته بك فأسخطته على نفسك، وكنت من الصادين عن سبيله، فهلا وأنت في مهل وباب التوبة لك منفتح أقررت بما أنت به الآن مقر1. قال السعدي: “حتى إذا أدرك فرعون الغرق وجزم بهلاكه {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} وهو الله الحق، الذي لا إله إلا هو {وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي: المنقادين لدين الله، ولما جاء به موسى، قال الله تعالى، مبيناً أن هذا الإيمان في هذه الحالة غير نافع له {آلْآنَ} تؤمن، وتقر برسول الله {وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} أي: بارزت بالمعاصي والكفر والتكذيب {وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} فلا ينفعك الإيمان كما جرت عادة الله أن الكفار إذا وصلوا إلى هذه الحالة الاضطرارية أنه لا ينفعهم إيمانهم؛ لأن إيمانهم صار إيماناً مشاهداً كإيمان من ورد القيامة، والذي ينفع إنما هو الإيمان بالغيب”2. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “بل هذه التوبة لا تمنع إلا إذا عاين أمر الآخرة، كما قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ الآية ... وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب، وأما من تاب عند معاينة الموت فهذا كفرعون الذي قال: أنا الله فلما أدركه الغرق قال {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} قال الله: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ

_ 1 انظر جامع البيان في تفسير القرآن 11/113. 2 تيسير الكريم الرحمن في تفيسر كلام المنان ص328، 329.

قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} وهذا استفهام إنكار بين به أن هذه التوبة ليست هي التوبة المقبولة المأمور بها ... ومثله قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ. فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} 1 الآية، بين أن التوبة بعد رؤية البأس لا تنفع، وأن هذه سنة الله التي قد خلت في عباده كفرعون وغيره”2. وقبول التوبة قبل حضور الموت؛ لأن الرجاء باق ويصح الندم والعزم على ترك الفعل، قال القرطبي: “قال علماؤنا رحمهم الله وإنما صحت منه التوبة في هذا الوقت؛ لأن الرجاء باق ويصح الندم والعزم على ترك الفعل، وقيل: المعنى يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار، والمبادرة في الصحة أفضل وألحق لأمله في العمل الصالح والبعد كل البعد عن الموت، وأما ما كان قبل الموت فهو قريب”3. وقد أخبر الله تعالى عن الأمم المكذبة بالرسل في قديم الدهر بأنهم لما رأوا وقوع عذاب الله بهم وحّدوا الله عز وجل وكفروا بالطاغوت فلم يقبل الله منهم توبتهم، قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} 4، فهذا حكم الله في جميع من تاب عند معاينة العذاب أنه لا يقبل، وهذه سنة الله وعادته أن المكذبين حين ينْزل بهم بأس الله وعقابه إذا آمنوا كان إيمانهم غير صحيح ولا مقبولاً؛ لأنه إيمان ضرورة قد اضطروا إليه، وإيمان

_ 1 سورة غافر، الآيات 83- 85. 2 مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 18/190، 191. 3 التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة 1/85. 4 سورة غافر، الآيتان 84 وَ 85.

مشاهدة، وإنما الإيمان المقبول المنجي هو الإيمان الاختياري، الذي يكون إيماناً بالغيب، وذلك قبل وجود قرائن العذاب1. يقول الطبري: “لم يك ينفعهم تصديقهم في الدنيا بتوحيد الله عند معاينة عقابه قد نزل، وعذابه قد حل؛ لأنهم صدقوا حين لا ينفع التصديق مصدقا؛ إذ كان قد مضى حكم الله في السابق من علمه أن من تاب بعد نزول العذاب من الله على تكذيبه لم تنفعه توبته”2. ويشهد لهذا الشرط المهم من شروط قبول التوبة ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال”إن الله عز وجل ليقبل توبة العبد ما لم يغرغر”3، أي فإذا غرغر وبلغت الروح الحنجرة، وعاين الملك فلا توبة حينئذ4. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} 5، قال بعض العلماء بأن المراد: إذا أخروا التوبة إلى حضور الموت فتابوا حينئذ، فلن تقبل توبتهم، فيكون مثل قوله تعالى في الآية السابقة: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} ، وتقرر في الأصول حمل المطلق على المقيد، ولا سيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا6. وروى الطبري ت310? بسنده عن الحسن البصري ت110? قوله في

_ 1 انظر تفسير القرآن العظيم 4/91، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص690 2 جامع البيان في تفسير القرآن 24/58. 3 رواه ابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، ح4253، وقال الألباني عنه (حسن) انظر صحيح سنن ابن ماجه 2/418ح 3430. 4 انظر تفسير القرآن العظيم 4/91. 5 سورة آل عمران، الآية 90. 6 انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 1/343.

هذه الآية هم اليهود والنصارى لن تقبل توبتهم عند الموت1. وقال ابن تيمية: “قال الأكثرون ... لن تقبل توبتهم حين يحضرهم الموت ... ، قلت: وذلك لأن التائب راجع عن الكفر، ومن لم يتب فإنه مستمر يزداد كفراً بعد كفر، فقوله {ثُمَّ ازْدَادُوا} بمنْزلة قول القائل: ثم أصروا على الكفر، واستمروا على الكفر، وداموا على الكفر، فهم كفروا بعد إسلامهم، ثم زاد كفرهم ما نقص، فهؤلاء لا تقبل توبتهم، وهي التوبة عند حضور الموت؛ لأن من تاب قبل حضور الموت فقد تاب من قريب، ورجع عن كفره، فلم يزدد بل نقص، بخلاف المصر إلى حين المعاينة، فما بقي له زمان يقع لنقص كفره فضلاً عن هدمه”2. أما ما ثبت “أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم ـ وعنده أبو جهل ـ فقال: أي عم، قل: لا إله إلا الله كلمةًَ أحاجُّ لك بها عند الله”3 الحديث، فقد قال ابن حجر بأنه صلى الله عليه وسلم لقن عمه الشهادة قبل أن يدخل في الغرغرة، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم (أحاج لك بها عند الله) كأنه عليه الصلاة والسلام فهم من امتناع أبي طالب من الشهادة في تلك الحالة أنه ظن أن ذلك لا ينفعه؛ لوقوعه عند الموت؛ أو لكونه لم يتمكن من سائر الأعمال الصالحة كالصلاة وغيرها، فلذلك ذكر له المحاججة، وأما لفظ (الشهادة) فيحتمل أنه يكون ظن أن ذلك لا ينفعه إذ لم يحضر حينئذ أحد من المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم فطيب قلبه بأن يشهد له بها فينفعه، وهذا يدل على “أن التوبة مقبولة ولو في شدة مرض الموت حتى يصل إلى المعاينة فلا يقبل”4، كما يدل هذا الحديث على أن الكافر إذا شهد شهادة الحق

_ 1 انظر جامع البيان في تفسير القرآن 3/243. 2 مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 16/29. 3 رواه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب ح3884. 4 فتح الباري شرح صحيح البخاري 7/195، 196 وانظر ما ذكره ابن بطال في شرح صحيح البخاري 3/344.

قبل المعاينة وتحقق الموت نجا من العذاب؛ لأن الإسلام يجب ما قبله1. ونقل ابن حجر عن الكرماني قوله بأن عرض الرسول صلى الله عليه وسلم الشهادة على عمه كان عند حضور علامات الوفاة، “وإلا فلو كان انتهى إلى المعاينة لم ينفعه الإيمان لو آمن، ويدل على الأول ما وقع من المراجعة بينه وبينهم”، ثم قال ابن حجر: “ويحتمل أن يكون انتهى إلى تلك الحالة، لكن رجا النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أقر بالتوحيد، ولو في تلك الحالة أن ذلك ينفعه بخصوصه، وتسوغ شفاعته صلى الله عليه وسلم لمكانه منه، ولهذا قال”أجادل لك بها وأشفع لك) ... ، ويؤيد الخصوصية أنه بعد أن امتنع من الإقرار بالتوحيد، وقال (هو على ملة عبد المطلب) ومات على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الشفاعة له، بل شفع له حتى خفف عنه العذاب بالنسبة لغيره، وكان ذلك من الخصائص في حقه”2، يشير في هذا إلى ما ثبت أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: “ما أغنيت عن عمّك؛ فإنه كان يحوطك ويغضب لك” قال صلى الله عليه وسلم “هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار” 3. وقال ابن بطال ت449?: “فإن قال قائل: فأي محاجة يحتاج إليها من وافى ربه بما يدخله به الجنة؟ فالجوا ب: أنه يحتمل وجوهاً من التأويل: أحدها: أن يكون ظن عليه السلام أن عمه اعتقد أن من آمن في مثل حاله لا ينفعه إيمانه؛ إذ لم يقارنه عمل سواه من صلاة وصيام وزكاة وحج وشرائط الإسلام كلها، فأعلمه عليه السلام أن من قال: لا إله إلا الله عند موته أنه يدخل في جملة المؤمنين، وإن تعرى من عمل سواها. ويحتمل وجهاً آخر: وهو أن يكون أبو طالب قد عاين أمر الآخرة، وأيقن

_ 1 انظر المصدر السابق ص196. 2 المصدر السابق 8/506، 507. 3 رواه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب ح3883.

بالموت، وصار في حالة من لا ينتفع بالإيمان لو آمن، وهو الوقت الذي قال فيه: هو على ملة عبد المطلب، عند خروج نفسه، فرجا له عليه السلام إن قال: لا إله إلا الله، وأيقن بنبوته أن يشفع له بذلك، ويحاج له عند الله في أن يتجاوز عنه، ويتقبل منه إيمانه في تلك الحال، ويكون ذلك خاصاً لأبي طالب وحده؛ لمكانه من الحماية والمدافعة عن النبي عليه السلام ... ويحتمل وجهاً آخر: وهو أن أبا طالب كان ممن عاين براهين النبي عليه السلام وصدق معجزاته، ولم يشك في صحة نبوته، وإن كان ممن حملته الأنفة وحمية الجاهلية على تكذيب النبي ... ، فاستحق أبو طالب ونظراؤه على ذلك من عظيم الوزر وكبير الإثم أن باؤوا بإثمهم على تكذيب النبي عليه السلام، فرجا له عليه السلام المحاجة بكلمة الإخلاص عند الله، حتى يسقط عنه إثم العناد والتكذيب لما قد تبين حقيقته وإثم من اقتدى به في ذلك، وإن كان الإسلام يهدم ما قبله لكن آنسه بقوله: “أحاج لك بها عند الله” لئلا يتردد في الإيمان، ولا يتوقف عليه؛ لتماديه على خلاف ما تبين حقيقته، وتورطه في أنه كان مضلاًَ لغيره. وقيل: إن قوله”أحاج لك بها عند الله" كقوله”أشهد لك بها عند الله"، لأن الشهادة المرجحة له في طلب حقه؛ ولذلك ذكر البخاري هذا الحديث في هذا الباب بلفظ (الشهادة”1 لأنه أقرب للتأويل، وذكر قوله”أحاج لك بها عند الله) في قصة أبي طالب في كتاب مبعث النبي عليه السلام، لاحتمالها التأويل”2. ونص بعض أهل العلم على أن الخبر الذي فيه حضور أبي طالب الوفاة مطابق لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} ، وبالتالي فإن الأوضح أن يقال بأن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم مع أبي طالب، واستدل من قال بهذا القول بأمرين:

_ 1 أي في باب إذا قال المشرك عند الموت: لا إله إلا الله، من كتاب الجنائز. 2 شرح صحيح البخاري 3/344- 346.

الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال”كلمة أحاج لك بها عند الله"، ولم يجزم بنفعها له، ولم يقل: تخرجك من النار. الثاني: أنه سبحانه أذن للنبي صلى الله عليه وسلم بالشفاعة لعمه مع كفره، وهذا لا يستقيم إلا له، والشفاعة له ليخفف عنه العذاب1. هذه أقوال بعض أهل العلم في قصة أبي طالب، ولعل الأقرب أن تكون خاصة به، وعلى كل الأحوال فإن مما لا خلاف فيه أن الذين يعملون السيئات من أهل الإصرار على المعاصي حتى إذا حضر أحدهم الموت، وحشرج بنفسه، وعاين الملائكة قد أقبلوا عليه لقبض روحه، وقد غلب على نفسه، وحيل بينه وبين فهمه بشغله بكرب حشرجته وغرغرته قال: {إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} فليس لهذا عند الله تبارك وتعالى توبة؛ لأنه قال ما قال في غير حال توبة2. فإن قيل: هل تصح توبة من حكم عليه بالقتل، أو حضر في مكان يحترق أو كان في طائرة حدث فيها خلل وبدأت تهوي إلى الأرض، ونحو هذه الحالات. فإنه يقال: نعم تصح توبة هؤلاء؛ لأنهم ربما ينجون من الموت، فمن هوت به الطائرة، أو كان في بيت يحترق، فربما ينجو، وكذلك من حكم عليه بالقتل فربما يرفع القتل عنه3.

_ 1 انظر القول المفيد على كتاب التوحيد 1/354. 2 انظر جامع البيان في تفسير القرآن 4/205، 206. 3 انظر فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين 2/990.

المبحث الخامس: سؤال الرجعة إلى الدنيا عند الاحتضار

المبحث الخامس: سؤال الرجعة إلى الدنيا عند الاحتضار الكافرون والمفرّطون في أمر الله تعالى يسألون الله عز وجل حال الاحتضار الرجعة إلى الحياة الدنيا؛ ليصلحوا ما كان أفسدوه في مدة حياتهم، قال تعالى عنهم: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} 1. فالكافرون يسألون الرجعة عند الاحتضار؛ ليسلموا، والعصاة ليتوبوا ويعملوا صالحاً، فلا يجابون إلى ذلك، كما قال تعالى {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} و {كَلَّا} حرف ردع وزجر، أي لا نجيبه إلى ما طلب ولا نقبل منه، وقوله {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} أي لابد أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم، ولو رُدّ لما عمل صالحاً ولكن يكذب في مقالته. يقول الطبري في تفسيره للآية السابقة: “يقول تعالى ذكره حتى إذا جاء أحد هؤلاء المشركين الموت، وعاين نزول أمر الله به، قال لعظيم ما يعاين، مما يقدم عليه من عذاب الله تندماً على ما فات، وتلهفاً على ما فرط فيه قبل ذلك من طاعة الله ومسألته للإقالة: {رَبِّ ارْجِعُونِ} إلى الدنيا فرّدوني إليها، {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً} ، يقول: كي أعمل صالحاً {فِيمَا تَرَكْتُ} قبل اليوم، من العمل، فضيّعته، وفرطت فيه”2. ويقول السعدي: “يخبر تعالى عن حال من حضره الموت من المفرطين الظالمين أنه يندم في تلك الحال، إذا رأى مآله، وشاهد قبح أعماله، فيطلب

_ 1 سورة (المؤمنون) ، الآيتان 99 وَ 100. 2 جامع البيان في تفسير القرآن 18/40.

الرجعة إلى الدنيا، لا للتمتع بلذاتها واقتطاف شهواتها، وإنما ذلك ليقول: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} من العمل، وفرطت في جنب الله، {كَلَّا} أي: لا رجعة له ولا إمهال، قد قضى الله أنهم إليها لا يرجعون {إِنَّهَا} أي: مقالته التي تمنى فيها الرجوع إلى الدنيا {كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} أي مجرد قول اللسان لا يفيد صاحبه إلا الحسرة والندم، وهو أيضاً غير صادق في ذلك؛ فإنه لو رُدّ لعاد لما نُهِي عنه”1. ويدل على سؤال الرجعة وتمنيها حين الاحتضار قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ. وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 2. فكل مفرّط يندم عند الاحتضار، ويتحسر على ما فرّط في وقت الإمكان، ويسأل الرجعة إلى الدنيا، ولو لمدة يسيرة، ليستعتب ويستدرك ما فاته وما فرّط فيه، ويتصدق ويكون من الصالحين، لكن هيهات فهذا السؤال والتمني قد فات وقته ولا يمكن تداركه؛ ولهذا قال تعالى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي لا يؤخر أحداً بعد حلول أجله، وهو سبحانه أعلم وأخبر بمن يكون صادقاً في قوله وسؤاله ممن لو رُدّ لعاد إلى شر مما كان عليه3 قال أبو جعفر الطبري في تفسير هذه الآية: “يقول تعالى ذكره {وَأَنْفِقُوا} أيها المؤمنون بالله ورسوله، من الأموال التي رزقناكم {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ} إذا نزل به الموت: يا رب هلا أخرتني، فتمهل لي في الأجل {لَى أَجَلٍ قَرِيبٍ

_ 1 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص508. 2 سورة (المنافقون) ، الآيات 9- 11. 3 انظر تفسير القرآن العظيم 4/373 وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص802.

فَأَصَّدَّقَ} يقول فأزكي مالي، {وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} يقول بطاعتك وأؤدي فرائضك، وقيل: عني بقوله {وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} وأحج بيتك الحرام”1. وفي موضع آخر من كتاب الله تعالى يخبر جل وعلا عن حال الذين ظلموا أنفسهم عند معاينة العذاب وحلول الأجل أنهم يسألون الرجعة وتأخير الأجل؛ نادمين على ما فعلوا، قال تعالى مخبراً عنهم: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} 2؛ وهذا كله أمل في التخلص من العذاب الأليم وإلا فهم كاذبون في وعودهم؛ ولهذا يوبخون بأن يقال لهم {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} 3، فهم يوبخون بتذكيرهم بكذبهم حين أقسموا أنهم لن يزولوا عن الدنيا إلى الآخرة، وهم يرون ويعلمون ما أحل بالأمم المكذبة قبلهم وما نزل بهم من العقوبات ولكنهم لم يعتبروا ولم يتعظوا، بل أعرضوا واستمروا على باطلهم وظلمهم حتى وصلوا إلى اليوم الذي لا ينفع فيه اعتذار ولا تقبل فيه توبة4. قال الشنقيطي ت1393هـ: “قوله تعالى {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وما تضمنته الآية الكريمة من أن الكافر والمفرّط في عمل الخير إذا حضر أحدهما الموت طلبا الرجعة إلى الحياة؛ ليعملا العمل الصالح الذي يدخلهما الجنة، ويتداركا به ما سلف منهما من الكفر والتفريط، وأنهما لا يجابان إلى ذلك، كما دل عليه حرف الزجر والردع

_ 1 جامع البيان في تفسير القرآن 28/76. 2 سورة إبراهيم، الآية 44. 3 سورة إبراهيم، الآيتان 44 وَ 45. 4 انظر تفسير القرآن العظيم 2/522- 523، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص381- 382.

الذي هو (كلا) ، جاء موضحاً في مواضع أخر كقوله تعالى {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} الآية، وقوله تعالى: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} إلى غير ذلك من الآيات، وكما أنهم يطلبون الرجعة عند حضور الموت، ليصلحوا أعمالهم؛ فإنهم يطلبون ذلك يوم القيامة، ومعلوم أنهم لا يجابون إلى ذلك. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً} الظاهر أن لعل فيه للتعليل أي ارجعون لأجل أن أعمل صالحاً، وقيل: هي للترجي والتوقع؛ لأنه غير جازم بأنه إذا رُدّ للدنيا عمل صالحاً، والأول أظهر، والعمل الصالح يشمل جميع الأعمال من الشهادتين والحج، الذي كان قد فرّط فيه، والصلوات والزكاة، ونحو ذلك، والعلم عند الله تعالى، وقوله {كلّا} كلمة زجر، وهي دالة على أن الرجعة التي طلبها لا يعطاها كما هو واضح”1.

_ 1 أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 5/821، 822.

المبحث السادس: حضور الشيطان حين الاحتضار

المبحث السادس: حضور الشيطان حين الاحتضار روى مسلم في صحيحه بسنده عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ”إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان فإذا فرغ فليلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه تكون البركة” 1. فقوله صلى الله عليه وسلم في أول هذا الحديث ”إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه" فيه تحذير للعباد من الشيطان، وتنبيه على ملازمته للإنسان في تصرفاته وجميع أحواله؛ ليتأهبوا ويحترزوا منه، ولا يغتروا بما يزينه لهم2. وقد استدل بعض العلماء بهذا الحديث على حضور الشيطان عند المحتضر؛ لإغوائه وافتتانه، كما استدلوا أيضاً بما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال ”كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال” 3. قال ابن دقيق العيد ت 702هـ: “فتنة المحيا ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات، وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة عند الموت، وفتنة الممات يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت، أضيفت إليه لقربها منه، ويكون المراد بفتنة المحيا على هذا ما قبل ذلك، ويجوز

_ 1 رواه مسلم، كتاب الأشربة، باب استحباب لعق الأصابع والقصعة وأكل اللقمة الساقطة ح2033. 2 انظر صحيح مسلم بشرح النووي 13/205- 206. 3 رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب التعوذ من عذاب القبر ح1377.

أن يراد بها فتنة القبر”1. كما قد استدل شيخ الإسلام ابن تيمية بحديث الاستعاذة من فتنة المحيا والممات على حضور الشيطان عند المحتضر لإغوائه، وأنه قد يعرض الأديان على بعض العباد، حيث قال رحمه الله: “أما عرض الأديان على العبد وقت الموت فليس هو أمراً عاماً لكل أحد، ولا هو أيضاً منتفياً عن كل أحد، بل من الناس من تعرض عليه الأديان قبل موته، ومنهم من لا تعرض عليه، وقد وقع ذلك لأقوام، وهذا كله من فتنة المحيا والممات التي أمرنا أن نستعيذ منها في صلاتنا، منها ما في الحديث الصحيح "أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ في صلاتنا من أربع من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال” 2، ولكن وقت الموت أحرص ما يكون الشيطان على إغواء بني آدم؛ لأنه وقت الحاجة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ”الأعمال بخواتيمها” 3 وقال صلى الله عليه وسلم “إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها” 4 ... ، ولهذا يقال: إن من لم يحج يخاف عليه من ذلك، لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ”من ملك زاداً أو راحلة تبلغه إلى بيت الله الحرام ولم يحج، فليمت إن شاء يهودياً، وإن شاء

_ 1 نقلاً عن فتح الباري شرح صحيح البخاري 2/319. 2 سبق تخريجه في ص: 119. 3 رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب الأعمال بالخواتيم، وما يخاف منها، ح6493. 4 رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قوله تعالى {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} ح7454.

نصرانياً” 1 ... ”2. وقال في موضع آخر: “وأما عرض الأديان وقت الموت فيبتلى به بعض الناس دون بعض ... ” 3. وذكر ابن حجر أن الأكثر والأغلب في سوء الخاتمة أنه لا يقع إلا لمن في طويته فساد أو ارتياب، ويكثر وقوعه للمصرّ على الكبائر والمجترئ على العظائم، إذ يهجم عليه الموت بغته فيصطلمه4 الشيطان عند تلك الصدمة، فيكون ذلك سبباً لسوء خاتمته5. ويدل على حضور الشيطان عند المحتضر قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} 6، فالمعنى: أعوذ بك أن يحضرني الشيطان في أمرٍ من أموري كائناً ما كان، سواء كان ذلك وقت تلاوة القرآن، أو عند حضور الموت، أو غير ذلك من جميع الشؤون في جميع الأوقات7. وتحدث أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن مفلح المقدسي عن حضور الشيطان عند المحتضر تحت عنوان (الفصل الثاني والعشرون في اجتهاد الشيطان على المؤمن عند الموت) ، واستشهد بما رواه النسائي وأبو داود بسنديهما عن أبي اليسر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ”اللهم إني أعوذ بك من التردّي،

_ 1 رواه الترمذي في سننه، كتاب الحج، باب ما جاء في التغليظ في ترك الحج ح812، وقال عنه الألباني: (ضعيف) ، انظر ضعيف سنن الترمذي ص88. 2 مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 4/255، 256. 3 المصدر السابق 14/202. 4 الاصطلام: الاستئصال والهلاك والقطع، انظر لسان العرب 2/469. 5 انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري 11/489، 490. 6 سورة (المؤمنون) ، الآيتان 97 وَ 98. 7 انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 5/819.

والهدم، والغرق، والحريق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبراً، وأعوذ بك أن أموت لديغاً” 1. فقوله صلى الله عليه وسلم “وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت"، قال الخطابي ت388هـ في شرحه: “هو أن يستولي عليه عند مفارقة الدنيا، فيضله، ويحول بينه وبين التوبة أو يعوقه عن إصلاح شأنه والخروج من مظلمة تكون قبله، أو يؤيسه من رحمة الله، أو يكره له الموت ويؤسفه على حياة الدنيا، فلا يرضى بما قضاه الله عليه من الفناء والنقلة إلى الدار الآخرة، فيختم له، ويلقى الله وهو ساخط عليه”2. ويقول ابن الجوزي ت597هـ: “وقد يتعرض إبليس للمريض فيؤذيه في دينه ودنياه، وقد يستولي على الإنسان فيضله في اعتقاده، وربما حال بينه وبين التوبة ... وربما جاء الاعتراض على المقدر؛ فينبغي للمؤمن أن يعلم أن تلك الساعة هي مصدرية للحرب، وحين يحمى الوطيس فينبغي أن يتجلد، ويستعين بالله على العدو”3. وقد رُوي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل أنه قال: حضرت وفاة أبي أحمد، وبيدي الخرقة لأشد لحييه، فكان يغرق ثم يفيق، ويقول بيده: لا بعد، لا بعد، فعل هذا مراراً فقلت له يا أبت أي شيء ما يبدو منك؟ فقال: إن الشيطان قائم بحذائي عاض على أنامله يقول: يا أحمد فتني، وأنا أقول: لا بعد، لا بعد،

_ 1 رواه النسائي، كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من التردي والهدم ح5546، ورواه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب في الاستعاذة ح1552، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي 3/483 ح5546 وَ 5547 وَ 5548. 2 معالم السنن، شرح على سنن أبي داود 2/194. 3 الثبات عند الممات ص41، 42.

حتى أموت1. وقال القرطبي: “سمعت شيخنا الإمام أبا العباس أحمد بن عمر القرطبي بثغر الإسكندرية يقول: حضرت أخا شيخنا أبي جعفر أحمد بن محمد بن محمد القرطبي بقرطبة وقد احتُضر، فقيل له: قل: لا إله إلا الله، فكان يقول: لا، لا، فلما أفاق ذكرنا له ذلك فقال: أتاني شيطانان، عن يميني وعن شمالي، يقول أحدهما: مت يهودياً فإنه خير الأديان، والآخر يقول: مت نصرانياً فإنه خير الأديان، فكنت أقول لهما: لا، لا2. وقد روي أن الشيطان لا يكون في حال أشد على ابن آدم منه في حال الموت، وهو يقول لأعوانه دونكم هذا فإن فاتكم اليوم لم تلحقوه”3

_ 1 انظر سير أعلام النباء 11/341. 2 التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة 1/68. 3 انظر معالم السنن حاشية على سنن أبي داود 2/194، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية 4/250.

المبحث السابع: مشروعية تلقين المحتضر لاإله إلا الله وقول الخير عنده

المبحث السابع: مشروعية تلقين المحتضر: لا إله إلا الله، وقول الخير عنده يشرع تلقين المحتضر لا إله إلا الله، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لقنوا موتاكم لا إله إلا الله” 1. قال النووي: “معناه من حضره الموت، والمراد: ذكروه لا إله إلا الله؛ لتكون آخر كلامه ... ، والأمر بهذا التلقين أمر ندب، وأجمع العلماء على هذا التلقين”2. وقال القرطبي: “أي قولوا ذلك، وذكروهم به عند الموت، وسماهم موتى؛ لأن الموت قد حضرهم”3. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “تلقين الميت سنة مأمور بها”4. وروى معاذ بن جبل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة”5، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لقنوا موتاكم لا إله إلا الله؛ فإنه من كان آخر كلامه لا إله إلا الله عند الموت دخل الجنة يوماً من الدهر، وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه” 6، وقال صلى الله عليه وسلم “خير العمل أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله” 7.

_ 1 رواه مسلم، كتاب الجنائز، باب تلقين الموتى لا إله إلا الله ح916. 2 صحيح مسلم بشرح النووي 6/219. 3 التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة 1/61. 4 مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 24/297. 5 رواه أبو داود في سننه، كتاب الجنائز، باب في التلقين ح3116، وحسنه الألباني في إرواء الغليل 3/149 ح687. 6 رواه ابن حبان في صحيحه 719، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 2/916ح 1652. 7 رواه أحمد في مسنده 4/190، وأبو نعيم في الحلية 6/111، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/451ح 1836.

وقد ذكر النووي كراهة العلماء للإكثار على المحتضر بالتلقين والموالاة، لئلا يضجر بضيق حاله وشدة كربه؛ فيكره ذلك أو يتكلم بما لا يليق؛ ولهذا قالوا إذا نطق بالشهادة مرة لا يكرر عليه إلا أن يتكلم بعده بكلام آخر، فيعاد التعريض به؛ ليكون آخر كلامه1. وقال الترمذي ت279هـ: “وقد كان يستحب أن يلقن المريض عند موته قول: لا إله إلا الله، وقال بعض أهل العلم: إذا قال ذلك مرة فما لم يتكلّم بعد ذلك فلا ينبغي أن يلقن، ولا يكثر عليه هذا، وروى عن ابن المبارك أنه لما حضرته الوفاة جعل رجل يلقنه لا إله إلا الله، وأكثر عليه، فقال عبد الله: إذا قلت مرة فأنا على ذلك ما لم أتكلم بكلام، وإنما معنى قول عبد الله إنما أراد ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم “من كان آخر قوله: لا إله إلا الله دخل الجنة) ... ” 2. وقال القرطبي: “قال علماؤنا: تلقين الموتى هذه الكلمة سنة مأثورة عمل بها المسلمون؛ وذلك ليكون آخر كلامهم لا إله إلا الله فيختم له بالسعادة، وليدخل في عموم قوله عليه السلام "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" ... ، ولينبه المحتضر على ما يدفع به الشيطان؛ فإنه يتعرض للمحتضر ليفسد عليه عقيدته، فإذا تلقنها المحتضر وقالها مرة واحدة فلا تعاد عليه لئلا يضجر، وقد كره أهل العلم الإكثار من التلقين، والإلحاح عليه إذا هو تلقنها أو فهم ذلك عنه”3؛ لأنه قد يتبرم من الإلحاح والإعادة، فيثقلها الشيطان عليه، فيكون سبباً لسوء الخاتمة4.

_ 1 انظر صحيح مسلم بشرح النووي 6/219، وشرح السنة 5/296. 2 سنن الترمذي 3/307، 308، وانظر صحيح سنن الترمذي 1/502. 3 التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة 1/62. 4 انظر المصدر السابق، الصفحة نفسها. وانظر ما قاله أبو حامد الغزالي ت505هـ، في كتاب الموت ص78.

وقد ذكر بعض أهل العلم أن المراد بتلقين المحتضر الشهادة: ذكرها عنده وتسميعها إياه، دون أمره بقولها1، والحق أن ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم “لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" يدل على أن المراد أمره بأن يقولها، لا مجرد ذكر الشهادة عنده وتسميعها إياه، كما يشهد لذلك ما رواه أنس رضي الله عنه ”أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من الأنصار فقال: يا خال، "قل: لا إله إلا الله"، فقال: أخال أم عم؟ فقال: بل خال، فقال: فخير لي أن أقول: لا إله إلا الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم” 2. قال القرطبي: “لا بد من تلقين الميت، وتذكيره الشهادة، وإن كان على غاية من التيقظ”3، وقال ابن عثيمين ت 1421هـ: “أهل العلم قالوا: يسن تلقين المحتضر لا إله إلا الله، لكن بدون قول قل؛ لأنه ربما مع الضجر يقول: لا؛ لضيق صدره مع نزول الموت، أو يكره هذه الكلمة أو معناها، وفي هذا الحديث [أي في قصة تلقين الرسول صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب] قال”قل، والجواب: أن أبا طالب كان كافراً فإذا قيل له: قل، وأبى فهو باق على كفره، لم يضره التلقين بهذا؛ فإما أن يبقى على كفره ولا ضرر عليه بهذا التلقين، وإما أن يهديه الله، بخلاف المسلم، فهو على خطر؛ لأنه ربما يضره التلقين على هذا الوجه”4. وقد يرد إشكال عدم ذكر مشروعية تلقين المحتضر شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجواب على ذلك ما ذكره ابن حجر بقوله: “والمراد بقول لا إله إلا الله في هذا الحديث وغيره كلمتا الشهادة، فلا يرد إشكال ترك ذكر الرسالة”، ثم نقل قول ابن المنير: “قول لا إله إلا الله لقب

_ 1 أشار إليه السندي ت911هـ في حاشيته على سنن النسائي 3/5، والسهارنفوري ت1346هـ في بذل المجهود في حل أبي داود 14/79، 80، وغيرهم. 2 رواه الإمام أحمد 3/152، 154، 268 بإسناد صحيح على شرط مسلم. 3 التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة 1/64. 4 القول المفيد على كتاب التوحيد 1/355.

جرى على النطق بالشهادتين شرعاً”1. وقد روى ابن ماجة بسنده عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ما من نفس تموت وهي تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، يرجع ذلك إلى قلب مؤمن إلا غفر الله لها” 2. ويشهد له ما رواه الإمام أحمد بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، صادقاً من قلبه دخل الجنة” 3. وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد، غير شاك فيهما إلا دخل الجنة” 4. فدلت هذه النصوص على أن تلقين المحتضر: لا إله إلا الله، ونطقه بها متضمن لإيمانه بأن محمداً رسول الله. قال ابن القيم: “لشهادة أن لا إله إلا الله عند الموت تأثير عظيم في تكفير السيئات وإحباطها؛ لأنها شهادة من عبد موقن بها، عارف بمضمونها، قد ماتت منه الشهوات، ولانت نفسه المتمردة، وانقادت بعد إبائها واستعصائها، وأقلبت بعد إعراضها، وذلت بعد عزّها، وخرج منها حرصها على الدنيا وفضولها،

_ 1 فتح الباري شرح صحيح البخاري 3/110 وانظر 7/196. 2 رواه ابن ماجه في سننه، كتاب الأدب، باب فضل لا إله إلا الله ح3796 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 2/318 ح3063، وسلسلة الأحاديث الصحيحة 5/347 ح2278. 3 رواه الإمام أحمد في مسنده 5/229 وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 5/348 تحت حديث رقم 2278. 4 رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً ح27.

واستخذت بين يدي ربها وفاطرها ومولاها الحق أذل ما كانت له وأرجى ما كانت لعفوه ومغفرته ورحمته، وتجرد منها التوحيد بانقطاع أسباب الشرك وتحقق بطلانه، فزالت منها تلك المنازعات التي كانت مشغولة بها، واجتمع همها على من أيقنت بالقدوم عليه والمصير إليه، فوجه العبد وجهه بكليته إليه، وأقبل بقلبه وروحه وهمه عليه فاستسلم وحده ظاهراً وباطناً، واستوى سره وعلانيته فقال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه، وقد تخلص قلبه من التعلق بغيره والالتفات إلى ما سواه، قد خرجت الدنيا كلها من قلبه وشارف القدوم على ربه وخمدت نيران شهوته وامتلأ قلبه من الآخرة فصارت نصب عينيه وصارت الدنيا وراء ظهره فكانت تلك الشهادة الخالصة خاتمة عمله فطهرته من ذنوبه وأدخلته على ربه؛ لأنه لقي ربه بشهادة صادقة خالصة، وافق ظاهرها باطنها وسرها علانيتها، فلو حصلت له الشهادة على هذا الوجه في أيام الصحة لاستوحش من الدنيا وأهلها وفرّ إلى الله من الناس، وأنس به دون ما سواه لكنه شهد بها بقلب مشحون بالشهوات وحب الحياة وأسبابها ونفس مملوءة بطلب الحظوظ والالتفات إلى غير الله، فلو تجردت كتجردها عند الموت لكان لها نبأ آخر وعيش آخر سوى عيشها البهيمي”1. فإن قيل: هل يُعرض الإسلام على الصبي والكافر؟ فيقال: عنون البخاري ت256هـ بهذا العنوان (هل يُعرض على الصبي الإسلام) للباب التاسع والسبعين من كتاب الجنائز، كما عنون بـ (كيف يعرض الإسلام على الصبي) للباب الثامن والسبعين بعد المائة من كتاب الجهاد، ثم أورد فيهما ما رواه بسنده عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن صياد2، وقد قارب الحلم ”أتشهد أني

_ 1 الفوائد ص55، 56. 2 هو صافي بن صياد، كان أبوه يهودياً، واشتهر عن صافي التكهن وهو صغير؛ فجاءه الرسول صلى الله عليه وسلم ليختبره: انظر تجريد أسماء الصحابة 1/319 وفتح الباري 3/220.

سول الله” 1. وأورد في كتاب الجنائز ما رواه بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: “كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: "أسلم"، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلَمَ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار”2، وفي رواية “الحمد الله الذي أنقذه بي من النار” 3. قال ابن حجر: “وفي الحديث جواز استخدام المشرك، وعيادته إذا مرض، وفيه حسن العهد، واستخدام الصغير، وعرض الإسلام على الصبي، ولولا صحّته منه ما عرضه عليه، وفي قوله (أنقذه بي من النار) دلالة على أنه صح إسلامه”4. كما دل الحديث على جواز حضور المسلم وفاة الكافر؛ ليعرض الإسلام عليه، رجاء أن يسلم5. وعلى من يحضر المحتضر ألا يقول إلا خيراً، فعن أم سلمة رضي الله عنها، قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيراً؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون..” 6 الحديث.

_ 1 رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب: إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام ح1354، وكتاب الجهاد، باب كيف يعرض الإسلام على الصبي ح3055. 2 رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام ح1356. 3 في سنن أبي داود، كتاب الجنائز، باب في عيادة الذمي، ح3095. 4 فتح الباري شرح صحيح البخاري 3/221 وانظر 6/172، وانظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 18/191. 5 انظر أحكام الجنائز ص12. 6 رواه مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند المريض والميت ح919.

قال النووي في شرحه هذا الحديث: “فيه الندب إلى قول الخير حينئذ من الدعاء والاستغفار له، وطلب اللّطف به، والتخفيف عنه، ونحوه، وفيه حضور الملائكة حينئذ وتأمينهم”1. وعنها رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة، وقد شق بصره، فأغمضه، ثم قال ”إن الروح إذا قبض تبعه البصر” فضج ناس من أهله، فقال ”لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون”، ثم قال ”اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونور له فيه” 2، قال النووي في هذا الحديث: “دليل على استحباب إغماض الميت، وأجمع المسلمون على ذلك، قالوا والحكمة فيه ألا يقبح بمنظره لو ترك إغماضه ... وفيه استحباب الدعاء للميت عند موته ولأهله وذريته بأمور الآخرة والدنيا”3. وقال القرطبي: “قال علماؤنا: قوله عليه السلام ”إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيراً" أمر ندب وتعليم بما يقال عند المريض أو الميت، وإخبار بتأمين الملائكة على دعاء من هناك؛ ولهذا استحب العلماء أن يحضر الميت الصالحون، وأهل الخير حالة موته ليذكروه، ويدعوا له ولمن يخلفه ويقولوا خيراً فيجتمع دعاؤهم وتأمين الملائكة فينتفع بذلك الميت ومن يصاب به ومن يخلفه”4.

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي 6/222. 2 رواه مسلم، كتاب الجنائز، باب في إغماض الميت والدعاء له إذا حُضر ح920. 3 صحيح مسلم بشرح النووي 6/223. 4 التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة 1/65، 66.

المبحث الثامن: وجوب إحسان الظن بالله تعالى وبخاصة عند الموت

المبحث الثامن: وجوب إحسان الظن بالله تعالى وبخاصة عند الموت يجب على المسلم أن يحسن ظنه بربه سبحانه وتعالى في جميع أحواله، ويتأكد ذلك عند الموت. روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: “لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله” 1. قال أبو سليمان الخطابي: “إنما يحسن بالله الظن من حسن عمله، فكأنه قال: أحسنوا أعمالكم يحسن ظنكم بالله، فإن من ساء عمله ساء ظنه، وقد يكون أيضاً حسن الظن بالله من ناحية الرجاء، وتأميل العفو، والله جواد كريم”2. وقال النووي: “قال العلماء: هذا تحذير من القنوط، وحث على الرجاء عند الخاتمة..، قال العلماء معنى حسن الظن بالله تعالى: أن يظن أنه يرحمه، ويعفو عنه، قالوا: وفي حالة الصحة يكون خائفاً راجياً، ويكونان سواء، وقيل يكون الخوف أرجح؛ فإذا دنت أمارات الموت غلب الرجاء، أو محضه؛ لأن مقصود الخوف: الانكفاف عن المعاصي والقبائح، والحرص على الإكثار من الطاعات والأعمال، وقد تعذر ذلك أو معظمه في هذه الحال، فاستحب إحسان الظن، المتضمن للافتقار إلى الله تعالى، والإذعان له، ويؤيده الحديث المذكور بعده “يبعث كل عبد على ما مات عليه” 3؛ ولهذا عقبه مسلم للحديث الأول، قال

_ 1 رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت ح2877. 2 معالم السنن، شرح على سنن أبي داود 3/484، شرح حديث 3113. 3 رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت ح2878.

العلماء: معناه يبعث على الحالة التي مات عليها، ومثله الحديث الآخر بعده”1 يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم “إذا أراد الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم” 2. وروى البغوي في باب حسن الظن بالله تعالى، من كتاب الجنائز عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال ”كيف تجدك؟ " فقال: والله يا رسول الله، إني لأرجو الله، وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه الله ما يرجو، وآمنه مما يخاف” 3. وروى البغوي عن ابن عباس أنه قال: “إذا رأيتم الرجل بالموت فبشروه؛ ليلقى ربه وهو حسن الظن به، وإذا كان حياً، فخوّفوه بربه عز وجل”4. وقال القرطبي: “حسن الظن بالله تعالى ينبغي أن يكون أغلب على العبد عند الموت منه في حال الصحة، وهو أن الله تعالى يرحمه، ويتجاوز عنه، ويغفر له، وينبغي لجلسائه أن يذكروه بذلك حتى يدخل في قوله تعالى ”أنا عند ظن عبدي بي” 5 ... ”6، وفي حديث آخر ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال “إن الله تعالى

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي 16/210. 2 رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت ح2879. 3 شرح السنة 5/274. ورواه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له ح4261 وقال عنه الألباني (حسن) في صحيح سنن الترمذي 1/503 ح983، وفي صحيح سنن ابن ماجه 2/420 ح3436. 4 شرح السنة 5/275. 5 الحديث القدسي رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {ويحذركم الله نفسه} ح7405. 6 التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة 1/58، 59.

يقول: أنا عند ظن عبدي بي، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر” 1 وعن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم “يقول الله سبحانه وتعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني” 2 الحديث. قال ابن حجر: “وهو كما قال أهل التحقيق مقيد بالمحتضر، ويؤيد ذلك حديث ”لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله..” 3، ولكن ظاهر الحديث لا يدل على تقييده بالمحتضر، بل في جميع أحوال العبد. ويقول ابن الجوزي: “وأما حسن الظن فهو مستحب في هذا الوقت [أي عند الاحتضار] ، وقد وردت الأخبار بفضل حسن الظن بالله تعالى”4 فينبغي على المريض، مع إحسان ظنه بالله تعالى أن يكون بين الخوف والرجاء، يخاف عقاب الله على ذنوبه، ويرجو رحمة ربه5، وقد جاء في الحديث "إن المؤمن تخرج نفسه من بين جنبيه وهو يحمد الله تعالى”6، ولعلّ ذلك لحسن ظنه بربه سبحانه وتعالى. ومما ينبغي أن يعلم أنه لا بد من حسن العمل مع إحسان الظن، فلا معنى لحسن الظن مع سوء العمل، إذ قد يمنعه سوء عمله من إحسان الظن بربه، وأسوأ من ذلك سوء الظن بالله مع سوء العمل فإن قوماً أساءوا الظن بالله فقال

_ 1 رواه الطبراني في الأوسط ح8115، وأبو نعيم في الحلية 9/306 وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/224 ح1663. 2 سبق تخريجه في ص: 132. 3 فتح الباري شرح صحيح البخاري 13/385، 386. 4 الثبات عند الممات ص71. 5 انظر أحكام الجنائز ص7. 6 رواه أحمد في مسنده 1/273، 274، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/173 ح1632.

لهم سبحانه وتعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1. يقول ابن القيم: ولا ريب أن حسن الظن إنما يكون مع الإحسان؛ فإن المحسن حسن الظن بربه أن يجازيه على إحسانه، ولا يخلف وعده، ويقبل توبته، وأما المسيء المصر على الكبائر والظلم والمخالفات؛ فإن وحشة المعاصي والظلم والحرام تمنعه من حسن الظن بربه ... ولا يجامع وحشة الإساءة إحسان الظن أبداً؛ فإن المسيء مستوحش بقدر إساءته، وأحسن الناس ظناً بربه أطوعهم له ... ، وقد قال الله في حق من شك في تعلق سمعه ببعض الجزئيات، وهو السر من القول: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فهؤلاء لما ظنوا أن الله سبحانه لا يعلم كثيراً مما يعملون كان هذا إساءة لظنهم بربهم فأرداهم ذلك الظن ... ، فتأمل هذا الموضع وتأمل شدة الحاجة إليه، وكيف يجتمع في قلب العبد تيقنه بأنه ملاقي الله وأن الله يسمع ويرى مكانه ويعلم سره وعلانيته ولا يخفى عليه خافية من أمره وأنه موقوف بين يديه ومسؤول عن كل ما عمل وهو مقيم على مساخطه مضيع لأوامره مبطل لحقوقه، وهو مع هذا يحسن الظن به، وهل هذا إلا من خدع النفوس وغرور الأماني”2. ويشهد لهذا ما رواه أبو أمامة بن سهل قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير يوماً على عائشة، فقالت: لو رأيتما نبي الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم في مرض مرضه، وكان له عندي ستة دنانير أو سبعة، فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أفرّقها، فشغلني وجع النبي صلى الله عليه وسلم حتى عافاه الله، ثم سألني عنها فقال ”ما فعلت الستة ـ قال: أو السبعة؟ ” قلت: لا والله، لقد كان شغلني وجعك، قالت: فدعا بها، ثم صفها في

_ 1 سورة فصلت / الآية 23. 2 الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص14.

كفه فقال: "ما ظن نبي الله لو لقي الله عز وجل، وهذه عنده.." يعني ستة دنانير أو سبعة ـ أنفقيها” 1. يقول ابن القيم تعليقاً على هذا الحديث: “فيالله ما ظن أصحاب الكبائر والظلمة بالله، إذا لقوه ومظالم العباد عندهم؛ فإن كان ينفعهم قولهم: حسناً ظنوننا بك لم يعذب ظالم ولا فاسق، فليصنع العبد ما شاء وليرتكب كل ما نهاه الله عنه وليحسن ظنه بالله فإن النار لا تمسه، فسبحان الله ما يبلغ الغرور بالعبد، وقد قال إبراهيم لقومه {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 2، أي ما ظنكم أن يفعل بكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره، ومن تأمل هذا الموضع حق التأمل علم أن حسن الظن بالله هو حسن العمل نفسه؛ فإن العبد إنما يحمله على حسن العمل حسن ظنه بربه أن يجازيه على أعماله، ويثيبه عليها، ويتقبلها منه فالذي حمله على العمل حسن الظن، فكلما حَسُنَ ظنه حسُنَ عمله، وإلا فحسن الظن مع اتباع الهوى عجز ... ، وبالجملة فحسن الظن إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة، وإما مع انعقاد أسباب الهلاك فلا يتأتى إحسان الظن”3. فإن قال قائل: بأن إحسان الظن يتأتى مع سوء العمل، وذلك راجع إلى سعة مغفرة الله ورحمته التي سبقت غضبه. فالجواب عليه بأن يقال: “الأمر هكذا والله فوق ذلك وأجل وأكرم وأجود وأرحم، ولكن إنما يضع ذلك في محله اللائق به؛ فإنه سبحانه موصوف بالحكمة والعزة والانتقام، وشدة البطش، وعقوبة من يستحق العقوبة، فلو كان معول حسن الظن على مجرد صفاته وأسمائه لاشترك في ذلك البر والفاجر،

_ 1 رواه أحمد في مسنده 6/104 وَ 6/182، والبغوي في شرح السنة 6/156، 157 وذكره الألباني في سلسة الأحاديث الصحيحة 3/12 ح1014. 2 سورة الصافات، الآيتان 86 وَ 87. 3 الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص14، 15.

والمؤمن والكافر، ووليه وعدوه فما ينفع المجرم أسماؤه وصفاته وقد باء بسخطه وغضبه، وتعرض للعنته، وأوقع في محارمه، وانتهك حرماته، بل حسن الظن ينفع من تاب وندم وأقلع، وبدل السيئة بالحسنة، واستقبل بقية عمره بالخير والطاعة ثم أحسن الظن، فهذا حُسْنُ ظن، والأول غرور”1. وقال الخطابي: “إنما يحسن بالله ظن من حسن عمله، فكأنه قال: أحسنوا أعمالكم يحسن بالله ظنكم؛ فإن من ساء عمله ساء ظنه، وقد يكون حسن الظن أيضاً من ناحية الرجاء، وتأميل العفو، والله جواد كريم”2.

_ 1 المصدر السابق ص15. 2 معالم السنن بحاشية سنن أبي داود 3/484.

المبحث التااسع: تخيير الأنبياء عند الموت

المبحث التااسع: تخيير الأنبياء عند الموت ... المبحث التاسع: تخيير الأنبياء عند الموت روى البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: “سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ”ما من نبي يمرض إلا خيّر بين الدنيا والآخرة" وكان في شكواه الذي قبض فيه أخذته بُحّة شديدة فسمعته يقول: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} 1، فعلمت أنه خُيّر”2. وعنها رضي الله عنها قالت: “كنت أسمع أنه لا يموت نبي حتى يخيّر بين الدنيا والآخرة، فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه، وأخذته بُحّة، يقول: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} الآية، فظننت أنه خيّر” 3. وفي رواية عنها قالت: “لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم المرض الذي مات فيه جعل يقول ”في الرفيق الأعلى” 4. وفي رواية أخرى قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول ”إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يُحيّا، أو يُخيّر فلما اشتكى وحضره القبض ـ ورأسه على فخذ عائشة ـ غشي عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت، ثم قال”اللهم في الرفيق الأعلى" فقلت: إذاً لا يختارنا، فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدّثنا وهو صحيح”5.

_ 1 سورة النساء، الآية 69. 2 رواه البخاري، كتاب التفسير، باب (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين) ح4586. 3 رواه البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته ح4435. 4 رواه البخاري، الموضع السابق ح4436. 5 رواه البخاري، الموضع السابق ح: 4437 وانظر: ح: 4438 وَ 4440 وَ 4449 وَ 44451 وانظر مجموع هذه الروايات وغيرها في جامع الأصول 11/381- 389.

فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم "ما من نبي يمرض إلا خُيّر بين الدنيا والآخرة": أي خيره الله تعالى بين الإقامة في الدنيا والموت؛ “لتكون وفادته على الله وفادة محب مخلص مبادر، ولتقاصُر المؤمن عن يقين النبي صلى الله عليه وسلم تولى الله الخيرة في لقائه؛ لأنه وليه، ألا ترى إلى خبر “ما ترددت في شيء ترددي في قبض روح عبدي المؤمن” 1، ففي ضمن ذلك اختيار الله للمؤمن لقاءه؛ لأنه وليه، يختار له فيما لا يصل إليه إدراكه ... ”2. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: “إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله” قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله عن عبد خيّر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيّر، وكان أبو بكر أعلمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوّة الإسلام ومودته، لا يبقيّن في المسجد باب إلا سدّ إلا باب أبي بكر” 3. قال ابن حجر: “فهم عائشة من قوله صلى الله عليه وسلم "في الرفيق الأعلى" أنه خيّر، نظير فهم أبيها رضي الله عنه من قوله صلى الله عليه وسلم "إن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده" أن العبد المراد هو النبي صلى الله عليه وسلم حتى بكى”4. وقال بدر الدين العيني ت855هـ: “قول (خُيّر) على صيغة المجهول: أي خيّر بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة صلى الله عليه وسلم “5.

_ 1 رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع ح6502. 2 فيض القدير شرح الجامع الصغير 5/501. 3 رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "سدّو الأبواب إلا باب أبي بكر" ح3654. 4 فتح الباري شرح صحيح البخاري 7/13. 5 عمدة القارئ شرح صحيح البخاري 18/178.

هذه الأحاديث الصحيحة تدل على أنه ما من نبي يمرض إلا خُيّر بين البقاء في الحياة الدنيا والموت. وقد ثبت أن ملك الموت عليه السلام جاء إلى موسى عليه السلام فخيره بين الموت والحياة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “جاء ملك الموت إلى موسى، فقال له أجب ربك، قال: فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها، قال: فرجع الملك إلى الله عز وجل، فقال: إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت، وقد فقأ عيني، قال: فردّ إليه عينه، قال: ارجع إلى عبدي فقل له: الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما وارت يدك من شعرةٍ فإنك تعيش بها سنة، قال: ثم مه؟ قال: ثم تموت، قال: فالآن من قريب، قال: ربّ أدنني من الأرض المقدسة رمية بحجر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر” 1. هذا الحديث ثابت، وقد أنكره بعض المبتدعة قائلين: إن كان موسى عليه السلام عرفه فقد استخف به، وإن كان لم يعرفه فلماذا لم تقتص له من فقء عينه؟ قال بعض أهل العلم: إن الله لم يبعث ملك الموت لموسى، وهو يريد قبض روحه حينئذٍ، وإنّما بعثه إليه اختباراً، فلطمه موسى عليه السلام لأنه رأى آدمياً داخل داره بغير إذنه، ولم يعلم أنه ملك الموت، فقد جاء في رواية ”كان ملك الموت يأتي الناس عياناً فأتى موسى فلطمه ... ” 2، وقد جاءت الملائكة إلى إبراهيم وإلى لوط في صورة البشر فلم يعرفاهم ابتداء، وقد أباح الشارع فقء

_ 1 رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب وفاة موسى وذكره بعد ح3407 ورواه مسلم، في كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى عليه الصلاة والسلام ح2372. 2 رواه الإمام أحمد 2/315 وقال: سنده صحيح على شرط مسلم، انظر صحيح الجامع الصغير 1/217 في الحاشية، وكذا قال الحاكم قبله في المستدرك 2/578.

عين الناظر في دار المسلم بغير إذنه، كما جاء في الحديث ”من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم حل لهم أن يفقؤوا عينه” 1، وعلى فرض أنه عرفه فلا دليل على مشروعية القصاص بين الملائكة والبشر، ولا دليل على أن ملك الموت طلب القصاص من موسى فلم يقتص له، ثم رد الله عين ملك الموت ليعلم موسى أنه جاءه من عند الله فلهذا استسلم حينئذ2. ونقل النووي أنه لا يمتنع أن يأذن الله لموسى في هذه اللطمة امتحاناً للملطوم3. وقال ابن حجر: “وقال غيره [أي غير النووي] : إنما لطمه؛ لأنه جاء لقبض روحه من قبل أن يخيره، لما ثبت أنه لم يقبض نبي حتى يخير، فلهذا لما خيره في المرة الثانية أذعن، قيل: وهذا أولى الأقوال بالصواب، وفيه نظر؛ لأنه يعود أصل السؤال، فيقال: لم أقدم ملك الموت على قبض نبي الله وأخل بالشرط؟ فيعود الجواب أن ذلك وقع امتحاناً، وزعم بعضهم أن معنى قوله (فقأ عينه) أي أبطل حجته، وهو مردود بقوله في نفس الحديث (فرد الله عينه) ، وبقوله (لطمه وصكّه) وغير ذلك من قرائن السياق ... ، ورد الله إلى ملك الموت عينه البشرية؛ ليرجع إلى موسى على كمال الصورة، فيكون ذلك أقوى في اعتباره”4. وكذا ذكر المناوي ت1031هـ أن موسى عليه السلام لطم موسى عليه الصلاة والسلام لما جاءه؛ لكونه لم يخير قبل ذلك5.

_ 1 رواه مسلم، في كتاب الآداب، باب تحريم النظر في بيت غيره ح2158. 2 انظر شرح السنة 5/266، 267، وفتح الباري 6/442 وسنن النسائي بشرح السيوطي 4/118، 119 وصحيح مسلم بشرح النووي 15/129، والبداية والنهاية 1/296. 3 انظر صحيح مسلم بشرح النووي 15/129. 4 فتح الباري شرح صحيح البخاري 6/442، 443. 5 انظر فيض القدير شرح الجامع الصغير 5/501.

المبحث العاشر: الأعمال بالخواتيم

المبحث العاشر: الأعمال بالخواتيم المطلب الأول: الأدلة على أن الأعمال بالخواتيم ذكر البخاري في كتاب القدر من صحيحه (باب العمل بالخواتيم) وساق بسنده حديثين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحدهما: “عن سهل بن سعد أن رجلاً من أعظم المسلمين غناء عن المسلمين في غزوة غزاها مع النبي صلى الله عليه وسلم فنظر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا، فاتبعه رجل من القوم، وهو على تلك الحال من أشدّ الناس على المشركين، حتى جرح فاستعجل الموت، فجعل ذبابة سيفه بين ثدييه حتى خرج من بين كتفيه، فأقبل الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسرعاً فقال: أشهد أنك رسول الله، فقال: وما ذاك؟ قال: قلت لفلان من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إليه، وكان من أعظمنا غناء عن المسلمين، فعرفت أنه لا يموت على ذلك، فلما جرح استعجل الموت فقتل نفسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: إن العبد ليعمل عمل أهل النار، وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم” 1. وفي موضع آخر ذكر البخاري (باب الأعمال بالخواتيم وما يخاف منها) ، وذكر فيه الحديث السابق عن سهل بن سعد الساعدي وفيه قوله صلى الله عليه وسلم “إن العبد ليعمل ـ فيما يرى الناس ـ عمل أهل الجنة، وإنه لمن أهل النار، ويعمل ـ فيما يرى الناس ـ عمل أهل النار، وهو من أهل الجنة، وإنما الأعمال بخواتيمها” 2. قال ابن بطال: “في تغييب الله عن عباده خواتيم أعمالهم حكمة بالغة وتدبير لطيف؛ وذلك أنه لو علم أحد خاتمة عمله لدخل الإعجاب والكسل من

_ 1 رواه البخاري، كتاب القدر، باب العمل بالخواتيم ح6607. 2 رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب الأعمال بالخواتيم وما يخاف منها ح6493.

علم أنه يختم له بالإيمان، ومن علم أنه يختم له بالكفر يزداد غياً وطغياناً وكفراً، فاستأثر الله تعالى بعلم ذلك؛ ليكون العباد بين خوف ورجاء، فلا يعجب المطيع لله بعمل، ولا ييأس العاصي من رحمته، ليقع الكل تحت الذل والخضوع والافتقار إليه”1. وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ”إن أحدكم ـ أو الرجل ـ ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غيرُ باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها” 2. يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع؛ لقرب أجله ووفاته، فيسبق عليه الكتاب الأول، الذي كتب أنه من أهل النار، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وقد دل الحديث السابق ذكره، وهو”إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار" على أن عمله بعمل أهل الجنة هو فيما يبدو للناس وليس حسناً، وكذلك الرجل الثاني الذي يعمل بعمل أهل النار، فيمن الله عليه بالتوبة والرجوع إلى الله عند قرب أجله فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها، ومن أحسن العمل في قلبه وظاهره؛ فإن الله تعالى لا يضيع أجره3، قال تعالى: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} 4.

_ 1 شرح صحيح البخاري 10/203. 2 رواه البخاري، كتاب القدر، باب (1) في القدر ح6594. 3 انظر فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين 1/71. 4 سورة الكهف، الآية 30.

وقال ابن دقيق العيد: “وأما الحديث”إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار"؛ فإنه لم يكن عمله صحيحاً في نفسه، وإنما كان رياءً وسمعة..، وقوله صلى الله عليه وسلم “فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ... إلى قوله: فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها" المراد: أن هذا قد يقع في نادر من الناس، لا أنه غالب فيهم، وذلك من لطف الله سبحانه وسعة رحمته؛ فإن انقلاب الناس من الشر إلى الخير كثير، وأما انقلابهم من الخير إلى الشر ففي غاية الندور، ولله الحمد والمنة على ذلك”1. فقوله صلى الله عليه وسلم “وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ... إلخ" ظاهر الحديث يدل على أن هذا العامل كان عمله صحيحاً، وأنه قرب من الجنة بسبب عمله، حتى بقي له على دخولها ذراع، وإنما منعه من ذلك سابق القدر الذي يظهر عند الخاتمة؛ فإذاً الأعمال بالسوابق لكن لما كانت السابقة مستورة عنا والخاتمة ظاهرة جاء في الحديث "إنما الأعمال بالخواتيم" يعني عندنا، بالنسبة إلى اطلاعنا في معنى الأشخاص وفي بعض الأحوال”2. وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ”لا تعجبوا بعمل أحد حتى تنظروا بما يختم له؛ فإن العامل يعمل زماناً من دهره، أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة، ثم يتحول فيعمل عملاً سيئاً، وإن العبد ليعمل زماناً من دهره بعمل سيء لو مات عليه دخل النار، ثم يتحول فيعمل عملاً صالحاً، وإذا أراد الله بعبد خيراً استعمله قبل موته فوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه” 3. وفي رواية أخرى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ”إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله" فقيل:

_ 1 شرح الأربعين النووية ص22، 23. 2 انظر المصدر السابق ص22. 3 رواه أحمد في مسنده 3/120 و123 و230 و257، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/323 ح 1334 ثم قال: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.

كيف يستعمله يا رسول الله؟! قال: " يوفقه لعمل صالح قبل الموت” 1. وروى الإمام أحمد بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إذا أراد الله بعبد خيراً عَسَلَه، فقيل: وما عسله؟ قال: يفتح له عملاً صالحاً بين يدي موته حتى يرضى عنه من حوله”، وفي رواية قال: “يفتح له عملاً صالحاً قبل موته ثم يقبضه عليه” 2. نخلص مما مضى إلى أن الشقاوة والسعادة قد سبق بهما الكتاب الأول، وأنهما مقدرتان بحسب خواتم الأعمال، وكلٌ ميسر لما خلق له، ومن مات على شيء حكم له به من خير أو شر، مع الجزم بأن أصحاب الكبائر غير الكفر تحت المشيئة.

_ 1 رواه الترمذي، كتاب القدر، باب ما جاء أن الله كتب كتاباً لأهل الجنة وأهل النار ح2142، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأورده الألباني في صحيح سنن الترمذي2/445 ح2142 وقال: صحيح. 2 رواه أحمد في مسنده 5/224 وَ 4/200 وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير1/117 ح307 وسلسلة الأحاديث الصحيحة 3/107- 108 ح1114.

المطلب الثاني: حسن الخاتمة وأبرز علاماتها

المطلب الثاني: حسن الخاتمة وأبرز علاماتها حسن الخاتمة هو أن يموت العبد على حال ترضي الله سبحانه وتعالى، وقد دل كتاب الله تعالى على أهمية حسن الخاتمة، في آيات، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1، وقوله جل وعلا: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} 2، فلا بد من الالتزام بالعبادة والتقوى حتى الموت؛ فإن ذلك من أعظم أسباب حسن الخاتمة. ولا شك أن من أعظم أسباب حسن الخاتمة الحرص على سلامة العقيدة

_ 1 سورة آل عمران، الآية 102. 2 سورة الحجر، الآية 99.

مما قد يشوبها من البدع والضلالات وسؤال الله تعالى أن يحسن الخاتمة، ويميت على الإيمان والتقوى مع إخلاص النية في جميع الأعمال لله تعالى وإصلاح الأعمال وجعلها تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والمبادرة إلى التوبة النصوح من كل مخالفة. ولحسن الخاتمة علامات دلت عليها نصوص الكتاب والسنة، وذكرها بعض أهل العلم، ومن ذلك: 1- أن يكون آخر كلامه من الدنيا (لا إله إلا الله) ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم “من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة” 1. 2- الموت برشح الجبين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم “المؤمن يموت بعرق الجبين”2 3- الاستشهاد في ساحة القتال من أجل إعلاء كلمة الله، لقوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} 3. وقوله صلى الله عليه وسلم “للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويُحلَّى حلية الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه” 4.

_ 1 سبق تخريجه. 2 رواه الترمذي في سننه، كتاب الجنائز، باب ما جاء أن المؤمن يموت بعرق الجبين، وقال: هذا حديث حسن، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/502 ح982. 3 سورة آل عمران، الآيات 169- 171. 4 رواه الترمذي في سننه، كتاب فضائل الجهاد، باب في ثواب الشهيد، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/240 ح1663، وسلسلة الأحاديث الصحيحة ح3213.

4- الموت في الغزو في سبيل الله لقوله صلى الله عليه وسلم “ما تعدون الشهيد فيكم؟ ” قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل الله فهو شهيد، قال ”إن شهداء أمتي إذاً لقليل"، قالوا: فمن هم يا رسول الله، قال ”من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد، والغريق شهيد” 1. 5- الموت بداء البطن، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق " ... ومن مات في البطن فهو شهيد” 2. 6- الموت بالطاعون، لقوله صلى الله عليه وسلم “الطاعون شهادة لكل مسلم” 3. 7 - 8- الموت بالغرق، وكذلك بالهدم لقوله صلى الله عليه وسلم “الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله” 4. 9 – 10- 11- الموت بالحرق، وبذات الجنب، وهي الدمل الكبيرة التي تظهر في باطن الجنب وتنفجر إلى داخل، كما في النهاية ص 168، وموت المرأة في نفاسها بسبب ولدها، لما رواه جابر بن عتيك مرفوعاً: “الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، والحرق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجُمع5 شهيدة” 6.

_ 1 رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب بيان الشهداء ح1915. 2 سبق تخريجه في الفقرة السابقة. 3 رواه البخاري، كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون ح5732، ورواه مسلم، كتاب الإمارة، باب بيان الشهداء ح1916. 4 رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب بيان الشهداء ح1914. 5 أي تموت وفي بطنها ولد، انظر النهاية في غريب الحديث والأثر ص164. 6 رواه الإمام مالك في الموطأ 1/234، وابن ماجه في سننه، كتاب الجهاد، باب ما يرجى فيه الشهادة ح2803 وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير ح3739.

12- الموت بداء السلّ، لقوله صلى الله عليه وسلم “القتل في سبيل الله شهادة، والنفساء شهادة، والحرق شهادة، والغرق شهادة، والسلّ شهادة، والبطن شهادة” 1. 13 - 14 – 15- 16- الموت في سبيل الدفاع عن الدين والنفس والأهل، والمال المراد غصبه، لقوله صلى الله عليه وسلم “من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد” 2. 17- الموت رباطاً في سبيل الله تعالى؛ لحديث "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتّان” 3. 18- الموت على عمل صالح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم “من قال: لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله خُتم له بها، ودخل الجنة، ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله ختم له بها، دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله، ختم له بها، دخل الجنة” 4. 19- من قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله الإمام الجائر؛ لحديث ”سيّد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله” 5.

_ 1 ذكره السيوطي في الجامع الصغير، وقال عنه الألباني (حسن) ونسبه للدارمي والطيالسي، انظر صحيح الجامع الصغير 2/817 ح4439. 2 رواه الترمذي في سننه، كتاب الديات، باب ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/113 ح1421. 3 رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرباط في سبيل الله ح1913. 4 رواه الإمام أحمد في مسنده 5/391 وصححه الألباني في أحكام الجنائز ص58. 5 رواه الحاكم في مستدركه 3/195، والهيثمي في مجمع الزوائد 9/368، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/717، 718 وقال: (اطمأن القلب لثبوت الحديث) .

20- وعدّ بعض أهل العلم من علامات حسن الخاتمة: الموت ليلة الجمعة أو نهارها، لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ما من مسلم يموت يوم الجمعة، أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر” 1. 21- الثناء بالخير على الميت في جمع من المسلمين الصادقين ذوي الصلاح والعلم، لقوله صلى الله عليه وسلم “أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة” قلنا: وثلاثة، قال: “وثلاثة”، قلنا: واثنان، قال: “واثنان” ثم لم نسأله في الواحد2. 22- أن يموت محرماً بحج، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً كان واقفاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفه فأوقصته راحلته وهو محرم فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه ولا وجهه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً” 3.

_ 1 رواه الترمذي في سننه، كتاب الجنائز، باب ما جاء فيمن مات يوم الجمعة ح1074، وقال عنه الألباني (حديث حسن) وذكره في صحيح سنن الترمذي 1/545 ح1074. 2 رواه البخاري، كتاب الشهادات، باب تعديل كم يجوز ح2643. 3 رواه مسلم، كتاب الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات ح1206.

المطلب الثالث: سوؤ الخاتمة وأبرز أسبابها

المطلب الثالث: سوؤ الخاتمة وأبرز أسبابها ... المطلب الثالث: سوء الخاتمة وأبرز أسبابها تبين مما سبق أن بعض الناس يعملون بعمل أهل الجنة، فيسبق عليهم الكتاب فيختم لهم بخاتمة سيئة، وقد يظهر على بعض المحتضرين علامات تدل على سوء خاتمتهم، مثل الامتناع عن النطق بلا إله إلا الله، أو التحدث بالمحرمات، وترديد السيئات، وإظهار التعلق بالمنكرات، ونحو ذلك، وقد ذكر بعض أهل العلم أسباباً للخاتمة السيئة، منها:

1- الانحراف في العقيدة: فإنه مظنة سوء الخاتمة، أما فساد العقيدة فقد أخبر الله تعالى عن هلاك من يكفر بآيات الله ولقائه، وإن عملوا الصالحات، قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاًالَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً. ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً} 1، وهذه الآيات كما يقول ابن كثير: “عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية، يحسب أنه مصيب فيها، وأن عمله مقبول، وهو مخطئ، وعمله مردود”2، وهذا مثل قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} 3، وقوله: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} 4، وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئا} 5، وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} 6 أي أن عملهم يبطل ويحبط، فيصير كالهباء والسراب والرماد، ومع ذلك فهم يعتقدون أن عملهم حسن مقبول عند الله7. 2- ضعف الإيمان: المتضمن لحب الدنيا والركون إليها، وطول الأمل، فإن من يضعف إيمانه يضعف حب الله تعالى في قلبه، ويقوى فيه حب الدنيا

_ 1 سورة الكهف، الآيات 103- 106. 2 تفسير القرآن العظيم 3/104، 105. 3 سورة الغاشية، الآيتان 2- 4. 4 سورة الفرقان، الآية 23. 5 سورة النور، الآية 39. 6 سورة إبراهيم، الآية 18. 7 انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 4/191.

ويستولي عليه، فإذا حضر الموت فقد يزداد حب الله ضعفاً في قلبه لما يرى أنه يفارق الدنيا، محبوبته التي يفارقها، بل قد ينقلب ذلك الحب الضعيف بغضا، فيختم له بخاتمة سوء، ولهذا يقول ابن كثير: “والمقصود أن الذنوب والمعاصي والشهوات تخذل صاحبها عند الموت مع خذلان الشيطان له، فيجتمع عليه الخذلان مع ضعف الإيمان، فيقع في سوء الخاتمة قال الله تعالى: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} 1، بل قد وقع سوء الخاتمة لخلق لم يفعلوا فاحشة اللواط، وقد كانوا متلبسين بذنوب أهون منها، وسوء الخاتمة أعاذنا الله منها لا يقع فيها من صلح ظاهره وباطنه مع الله وصدق في أقواله وأعماله؛ فإن هذا لم يسمع به”2. 3- الإصرار على المعاصي، كالتهاون بأركان الإسلام وواجباته، والاستمرار على فعل المحرمات كشرب الخمر، وعقوق الوالدين، وأذى المسلمين، قال السيوطي: “قال بعض العلماء: الأسباب المفضية لسوء الخاتمة، والعياذ بالله، أربعة: التهاون بالصلاة، وشرب الخمر، وعقوق الوالدين، وأذى المسلمين”3. ومن المعلوم أن من يُصّر على المعاصي يألف الطاعات يألفها، وما يألفه الإنسان في حياته يعود ذكره عند موته، فإن ألف الطاعات في عمره كان أكثر ما يحضره عند الموت ذكر الطاعات، وأن ألف المعاصي والمحرمات كانت أكثر ما يحضره عند تلك الساعة الحرجة، ومن ثم فقد تغلب عليه شهوة من الشهوات والمخالفات عند نزول الموت به، فيختم له بخاتمة سيئة، قال ابن القيم: “ولهذا ـ والله أعلم ـ كثيراً ما يعرض للعبد عند موته لهجه بما يحبه، وكثرة

_ 1 سورة الفرقان، الآية 29. 2 البداية والنهاية 9/170. 3 شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور ص27.

ذكره له، وربما خرجت روحه، وهو يلهج به”1. وقال ابن كثير: “وإنما يقع سوء الخاتمة لمن فسد باطنه عقداً، وظاهره عملاً، ولمن له جرأة على الكبائر، وإقدام على الجرائم، فربما غلب ذلك عليه حتى ينْزل به الموت قبل التوبة”2، فيجب على كل مسلم أن ينَزه نفسه عن المعاصي وأن يبتعد عن الكبائر وأن يحذر من التسويف بالتوبة، بل يسارع إليها، فالتوبة تجب ما قبلها. 4- العدول عن الاستقامة؛ فإن من كان مستقيماً على شرع الله تعالى ثم تحول عنه، وحصل منه مخالفات ووقوع في المحرمات فإنه معرض لسوء الخاتمة والعياذ بالله، كبلعام بن باعورا، الذي آتاه الله آياته فانسلخ بإخلاده إلى الدنيا واتبع هواه وكان من الغاوين، وكبرصيصا العابد الذي قال له الشيطان اكفر فلما كفر، قال: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} فإن الشيطان أغراه على الكفر، فلما كفر تبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب ولم ينفعه ذلك3، كما قال تعالى {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} 4.

_ 1 طريق الهجرتين وباب السعادتين ص308، وانظر كتاب الكبائر للذهبي ص91. 2 البداية والنهاية 9/170. 3 انظر يقظة أولي الاعتبار مما ورد في ذكر النار وأصحاب النار ص212 وانظر تفسير القرآن العظيم 4/341 وللاستزادة ينظر مختصر منهاج القاصدين ص338، 340 والتذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة 1/72، 73. 4 سورة الحشر، الآية 17.

الخاتمة

الخاتمة الحمد لله الذي أعان على إتمام هذا البحث، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم. وبعد: فقد تبيّن لنا من المباحث السابقة مسائل مهمة، منها: أولاً: أنَّ للموت سكراتٍ وكرباً وشدائد عظيمة، تصيب المحتضر؛ بسبب نزع روحه، وأن هذه السكرات حاصلة لكل مخلوق، كما دلت عليه النصوص الشرعية، من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إلا أنها تشتدّ على الكافر، وتُيسّر على المؤمن، وقد تشتّد على المؤمن تكفيراً لسيئاته، أو رفعاً لدرجاته. ثانياً: أن لملك الموت أعواناً من الملائكة تعينه على قبض روح المحتضر، فتبشر المؤمن برضوان الله ورحمته حين الاحتضار، فيفرح بذلك، كما أن الملائكة تضرب وجوه الكفار وأدبارهم حين نزع أرواحهم وتبشرهم بعذاب الحريق. ثالثاً: أن التوبة تنقطع إذا حضر الموت، وحينئذ يتمنى المحتضر الرجعة إلى الدنيا؛ إن كان كافراً ليؤمن ويتبع؛ وإن كان صالحاً ليزداد من الأعمال الصالحة. رابعاً: أن الشيطان يحضر عند العبد في شأنه كله؛ لإغوائه وإضلاله، ومن ذلك حضوره عند الاحتضار، في ذلك الوقت الذي هو أحوج ما يكون إلى السلامة من وساوسه وشروره، فعلى المؤمن أن يتحصن منه بالإيمان والعمل الصالح في وقت الإمهال وقبل حضور الموت. خامساً: مشروعية تلقين المحتضر: لا إله إلا الله؛ ليكون آخر كلامه من الدنيا نطقه بشهادة التوحيد، وفي ذلك أعظم الأسباب لدخول الجنة. سادساً: وجوب إحسان الظن بالله تعالى في جميع الأحوال، ويتأكد ذلك عند

حضور الموت، وإنما يحسن بالله الظن من حسن عمله. سابعاً: ثبت في الحديث الصحيح أنه ما من نبي يمرض إلا خيّر بين الدنيا والآخرة. ثامناً: أن الأعمال بالخواتيم، فعلى المسلم أن يتعرف على أسباب حسن الخاتمة؛ ليعمل بها وينهجها، ويتعرف على أسباب سوء الخاتمة ليحذرها ويتجنبها.

مصادر ومراجع

مصادر ومراجع ... المصادر والمراجع أحكام الجنائز، محمد ناصر الدين الألباني، دار المعارف، الرياض 1412?. إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 1399هـ. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، المطابع الأهلية، الرياض، 1403هـ. الاستعداد للموت وسؤال القبر، زين الدين بن علي المعبري، مكتبة التراث الإسلامي، القاهرة. البداية والنهاية، أبو الفداء إسماعيل بن كثير، مطبعة كروستان، مصر، الطبعة الأولى 1348هـ. بذل المجهود في حل أبي داود، خليل أحمد السهانفوري، دار اللواء، الرياض. تجريد أسماء الصحابة، شمس الدين أبو عبد الله الذهبي، دار المعرفة، بيروت. التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، محمد بن أبي بكر القرطبي، دار البخاري، المدينة النبوية، الطبعة الأولى 1417هـ. تفسير القرآن العظيم، أبو الفدا إسماعيل بن كثير، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الطبعة الخامسة 1416هـ. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الرابعة 1417هـ. الثبات عند الممات، أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1406هـ. جامع البيان في تفسير القرآن، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، دار الفكر، بيروت، 1398هـ.

جامع العلوم والحكم، ابن رجب الحنبلي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة السابعة 1419هـ. الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، بيروت. حاشية السندي على سنن النسائي، أبو الحسن السندي، دار الدعوى، إستانبول، 1401هـ. حسن الظن بالله، ابن أبي الدنيا، مكتبة القرآن، القاهرة. دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، محمد الأمين الشنقيطي، المطابع الأهلية، الرياض 1403هـ. الزهد، أحمد بن حنبل الشيباني، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1403هـ. الزهد، عبد الله بن المبارك، دار الكتب العلمية، بيروت. سلسلة الأحاديث الصحيحة، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، 1415هـ. سنن أبي داود، أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، دار الدعوة، إستانبول، 1401هـ. سنن ابن ماجه، أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه، دار الدعوة، إستانبول، 1401هـ. سنن الترمذي (الجامع الصحيح) ، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، دار الدعوة، إستانبول، 1401هـ. سنن النسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، دار الدعوة، إستانبول، 1401هـ. سير أعلام النبلاء، شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، مؤسسة الرسالة،

بيروت، الطبعة الثالثة 1405هـ. شرح الأربعين حديثاً النووية، ابن دقيق العيد، مؤسسة الطباعة، جدة، 1403هـ. شرح السنة، الحسين بن مسعود البغوي، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1390هـ. شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور، جلال الدين السيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية 1408هـ. شرح صحيح البخاري، أبو الحسن علي بن خلف ابن بطال، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى 1420هـ. صحيح ابن حبان، تحقيق محمد حمزة، دار الكتب العلمية. صحيح البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، دار الدعوة، إستانبول، 1401هـ. صحيح الجامع الصغير وزيادته، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية 1406هـ. صحيح سنن ابن ماجه، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1407هـ. صحيح سنن الترمذي، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى 1420هـ. صحيح سنن النسائي، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى، 1420هـ. صحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن حجاج القشيري، دار الدعوة، إستانبول، 1401هـ. صحيح مسلم بشرح النووي، أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، نشر وتوزيع إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض.

ضعيف سنن الترمذي، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى 1420هـ. الطبقات الكبرى، محمد بن سعد، دار صادر، بيروت. طريق الهجرتين وباب السعادتين، ابن قيم الجوزية، دار الكتاب العربي، بيروت. العاقبة، أبو محمد عبد الحق الإشبيلي، مكتبة العجيري، الكويت، الطبعة الثانية 1410هـ. عمدة القارئ شرح صحيح البخاري، بدر الدين العيني، دار الفكر، بيروت، 1399هـ. فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، دار المعرفة، بيروت. الفوائد، ابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية 1393هـ. الفوز العظيم في لقاء الكريم، جلال الدين السيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1414هـ. فيض القدير شرح الجامع الصغير، عبد الرؤوف المناوي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية 1391هـ. القول المفيد على كتاب التوحيد، محمد بن صالح العثيمين، دار العاصمة، الطبعة الأولى 1415هـ. كتاب الكبائر، الإمام الذهبي، المكتبة الثقافية، بيروت. كتاب الموت، سكرات الموت وشدته، أبو حامد الغزالي، مكتبة القرآن، القاهرة. لسان العرب، ابن منظور، دار لسان العرب، بيروت. مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، جمع وترتيب ابن قاسم، توزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض.

مختصر منهاج القاصدين، أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي، مؤسسة علوم القرآن، بيروت، 1398هـ. المستدرك على الصحيحين، أبو عبد الله النيسابوري الحاكم، مكتبة النصر الحديثة، الرياض. المسند، أحمد بن حنبل الشيباني، المكتب الإسلامي، بيروت 1978م. مشكاة المصابيح، محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي، تحقيق الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1399هـ. مصائب الإنسان من مكائد الشيطان، أبو إسحق إبراهيم بن محمد بن مفلح المقدسي، نشر علي رحمي ـ دار مرجان ـ مصر. معالم التنْزيل، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية 1407هـ. معالم السنن، شرح على سنن أبي داود، أبو سليمان الخطابي، دار الدعوة، إستانبول، 1401هـ. مفتاح دار السعادة، ابن قيّم الجوزية، مؤسسة الأندلس، مصر، الطبعة الأولى 1414هـ المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، دار الكتب العلمية، بيروت. الموطأ، مالك بن أنس، دار الدعوة، إستانبول، 1401هـ. النهاية في غريب الحديث والأثر، مجد الدين ابن الأثير، دار ابن الجوزي، الدمام، الطبعة الأولى 1421هـ. وصايا العلماء عند الموت، أبو سليمان الربعي، دار ابن كثير، دمشق، الطبعة الثالثة، 1409هـ. يقظة أولي الاعتبار مما ورد في ذكر النار وأصحاب النار، صديق حسن خان، دار الأنصار، القاهرة، الطبعة الأولى، 1398هـ.

§1/1